دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم القرآن الكريم > مكتبة التفسير وعلوم القرآن الكريم > جامع علوم القرآن > الإكسير في علم التفسير

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 23 محرم 1432هـ/29-12-2010م, 09:35 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي النوع الثامن عشر: في الحروف العاطفة والجارة، النوع التاسع عشر: في التكرير


النوع الثامن عشر: في الحروف العاطفة والجارة.
وليس نظرنا فيها من حيث ينظر النحاة من اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في الإعراب، وإيجاز الاسم بالحرف، بل من حيث ينظر أهل المعاني.
أما حروف العطف، فكقوله تعالى: {قتل الإنسان ما أكفره * من أي شيء خلقه * من نطفة خلقه فقدره * ثم السبيل يسره * ثم أماته فأقبره * ثم إذا شاء أنشره}، عطف التقدير وهو: جعله على ما تقتضيه الحكمة من الامتداد والعرض والكيف والكم على الخلق، الذي هو الإنشاء بالفاء التعقيبية؛ لأنه عقبه لا يتأخر عنه.
وعطف (يسره السبيل) على التقدير، بثم أيضًا للتراخي بينهما، وعطف الإقبار على الإماتة بالفاء، لأنه عقبها من غير تراخ، كتراخي غيره، وعطف الانتشار على الإقبار بثم للتراخي بينها، وهو ما بين الموت والبعث، وهذا هو الأصل في العطف: أن يكون في كل موضع بالأداة اللائقة بها، فإن وجد مخالفًا، وجب تأويله حتى يوافق.
قال ابن الأثير: وقد يشتبه ما يعطف بالواو بما يعطف بالفاء، فيوقع في الخطأ، وذلك أن فعل المطاوعة لا يعطف عليه إلا بالفاء، نحو: كسرته فانكسر. وقد تشتبه بعض الأفعال بفعل المطاوعة، وليس به، فيجب عطفه بالواو، كقوله تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه}، فمعنى أغفلنا قلبه: صادفناه
[الإكسير في علم التفسير: 266]
غافلاً، نحو: (أبخلت الرجل وأجبنته) إذا صادفته بخيلاً أو جبانًا، لا أنا خلقنا فيه الغفلة، إذ لو كان المعنى ذلك، لقيل: أغفلنا قلبه عن ذكرنا فاتبع هواه، وهذا ضعيف:
أما أولاً: فلأن هذا التأويل إنما أنشأه المعتزلة؛ لئلا يلزمهم الإيمان بالقدر، وذكره الزمخشري، وقال: (قد قطع الله توهم المجبرة بقوله: (واتبع هواه).
قال بعض أهل السنة: ونحن نقول: قد قطع الله وهم المعتزلة بقوله: (أغفلنا قلبه). (وأضله الله على علم) و(طبع الله على قلوبهم)
وأمثال ذلك.
وأما ثانيًا: فلأن هذا ليس من أفعال المطاوعة، حتى يشبه (بكسرته فانكسر)، وإنما معنى الكلام: لا تطع من جمعنا له، واجتمع له الإغفال، واتباع هواه، أي: لا تطع الكافرين الذين هذه صفتهم.
وأيضًا، فإنه ليس المقصود بيان أن اتباع الهوى من مسببات الأفعال، بل يقال إن الضلال بفعل من الله: وهو الإغفال، وفعل من العبد: وهو اتباع الهوى، وهذا ما يقوله أهل السنة.
وأما حرف الجر، فنحو قوله تعالى: {وإنا أو إياكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين} فعلى للاستعلاء، وفي للظرفية، فشبه المهدي بالمستعلي، لاستعلائه حالا ومآلاً، والضال بالمغمور المغموس في ظلمة، أو المظروف في الجبة، ولهذا قال بنو يعقوب له: {إنك لفي ضلالك القديم}. وكذلك حيث أضيف الهدى إلى
[الإكسير في علم التفسير: 267]
أربابه في القرآن منكرًا، كان بعلى، نحو: {أولئك على هدىً من ربهم}.
ونحو قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم} أضاف الصدقة إلى هؤلاء باللام، وإلى الأربعة بعدهم بفي، حيث قال: {وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل}، تنبيهًا على أن هؤلاء أثبت وأرسخ في استحقاق الصدقة، لدلالة (في) على الثبوت الوعائي، والاستقرار الظرفي، وتكرير (في) في قوله: (وفي سبيل الله) تنبيه على رجحانه وقوته، فينبغي تحري مثل هذه النكت، بحيث لا يجعل بعض هذه الحروف ونحوها في غير موضعه.
وأما ضبط الحروف، فهو إما بسيط: وهو ما كان على حرف واحد، كباء الجر، وكافه، ولامه.
أو مركب: وهو إما ثنائي، نحو: من، وقد، وهل، أو ثلاثي: كعلى وإلى. أو رباعي: كحتى وإلا. أو خماسي: كلكن، مشددة، وجميعها سمي حرفًا.
ومعاني أكثرها ظاهر، والمشكل منها ينبه النحاة عليه. إلا أنا نذكر منها نكتة مهمة، وهي: أن (بل) معناها الإضراب عن الأول، وإثبات الثاني، ثم قد يكون الإضراب عن النسبة الخبرية أصلاً بحيث تصير ملغاة نحو: (قام زيد بل عمرو) و(أنت طالق طلقة بل طلقتين) فيكون المضرب عنه لاغيًا، مرجوحًا عنه، خاليًا من النسبة الخبرية أصلاً، فيقتضي ذلك الإخبار بقيام عمرو. وإيقاع طلقتين فقط.
وقد يكون الإضراب لا عن أصل النسبة، بل عن الاقتصار عليها إلى ما هو أبلغ منها.
كقوله تعالى: {بل هم في شك منها بل هم منها عمون}، فإنه لم يرد أن
[الإكسير في علم التفسير: 268]
عماهم ما أدرك في الآخرة، ولا أنهم لم يشكوا، بل أراد منهم أنهم ما اقتصروا على التهافت في الآخرة، ولا على الشك فيها، بل لم يقنعوا إلا بأعلى مراتب الكفر بها:
وهو الإعراض والعمى عنها بالكلية، فهم لا يتصورونها ولا يعتقدونها موجودة ولا تدركها أفهامهم بنوع إدراك أصلاً، كما أن الأعمى لا يدرك المبصرات بنوع من الرؤية أصلاً، ولكنه أخبر عن أطوار ضلالهم مترقيًا من أدناها إلى أعلاها. وإنما ذكرت هذه النكتة، لأن بعض الناس يستشكل وجه هذا الإضراب، فذكرت ما عندي في توجيهه، والله أعلم.

النوع التاسع عشر: في التكرير:
وهو ذكر الشيء مرتين فصاعدًا
وفائدة المفيد منه: تأكيد الأمر وتشييده وتفخيمه وتعظيمه، أو عكس ذلك.
وهو قسمان:
تكرار اللفظ والمعنى جميعًا.
وتكرار المعنى دون اللفظ.
وكل منهما مفيد وغير مفيد.
القسم الأول: تكرار اللفظ والمعنى جميعًا.
وفي المفيد منه فرعان:
الفرع الأول: أن يراد بالمكرر معنى واحد لغرضين مختلفين، فمنه قوله تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين}، كرر لفظة (إياك) والمراد بالأول: إضافة العبادة إليه، والثانية: إضافة الإعانة.
[الإكسير في علم التفسير: 269]
فإن قلت: لم عدل من نعبدك إلى (إياك نعبد). وعن الضمير المتصل مع القدرة عليه إلى المنفصل؟.
قلت: لفائدة الاختصاص كما سبق في بابه.
فإن قلت: لم أكرر إياك، وأحد اللفظين يفيد المعنى نحو: قام زيد وعمرو؟
قلت: لوجهين:
أحدهما: أن المعنى بالتكرار آكد وأدل على ضراعتهم وصدقهم في السؤال، وإخلاصهم كقول القائل: (أيها الملك بك أستجير وبك أنتصر) فإنه أبلغ فيما ذكرناه من حذف الباء في الثاني، فكذلك (إياك نعبد، ونستعين) مع الصيغة الثانية الواردة.
الثاني: أن القرآن في غاية البلاغة، والكلام البليغ يراعى فيه أحوال المعنى والعبارة جميعًا، وقد روعي المعنى هاهنا، كما ذكرنا.
وأما العبارة فمن أحوالها المراعاة بعديلها، ولا شك أن (إياك نعبد وإياك نستعين) أعدل مما لو حذفت إياك الثانية، لأن هذا الكلام جملتان، كل واحدة منهما مركبة من فعل وفاعل ومفعول وهو إياك، فلو حذفت من الثانية لنقصت عن الأولى جزءا وزال الاعتدال والتناسب، والله أعلم.
ومنه قوله تعالى: {ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق}. فالمراد بتحقيق الحق أولاً تصديق وعده لهم بإحدى الطائفتين، ولهذا قال (بكلماته) أي تصديقًا لما سبق من كلماته التي وعد بها.
وتحقيق الحق ثانيًا إظهار الدين واستعلائه باستئصال الكفار، وكسر شوكتهم.
ومنه قوله تعالى في قصة نوح عليه السلام: {إني لكم رسول أمين فاتقوا الله
[الإكسير في علم التفسير: 270]
وأطيعون}
ثم قال: {إن أجري إلا على رب العالمين. فاتقوا الله وأطيعون}. فكرر أمرهم بالتقوى والطاعة؛ تأكيدًا، وعلقه بشيئين، أحدهما: كونه أمينًا لا يتهم فيجب امتثال ما يأمر به، والثاني: كونه لا يسألهم عليه أجرًا فيتهم فيهم لأجله، فيجب أيضًا عليهم ذلك.
ومنه قوله تعالى: {كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد} إلى قوله: {إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب} فكرر الإخبار بتكذيبهم؛ لاختلاف أسلوب الكلام؛ لأنه ذكر تكذيبهم أولاً بجملة خبرية، وثانيًا بجملة استثنائية، وأيضًا فإنه أجمل تكذيبهم أولاً، فأجمل أن كل فريق منهم كذب كل الرسل، أو رسولهم الخاص ونبيه.
ثانيًا: أن كلاً منهم كذب جميع الرسل، لأن ما جاءت به الرسل واحد، فمن كذب واحدًا منهم كذب الرسل أجمعين.
ومنه قوله تعالى: {قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصًا له الدين} وقوله: {قل الله أعبد مخلصًا له ديني}. فالأول أمر له بالإخبار، بأنه مأمور بإخلاص العبادة، والثاني أمر له بالإخبار بإخلاص العبادة، وتخصيص الله تعالى بها، ولهذا قدم الفعل: وهو (أعبد) لأنه المأمور به، وأخره ثانيًا، وقدم الله تعالى؛ لأنه المخصوص بالعبادة.
ومنه قوله تعالى: {قل يا أيها الكافرون * لا أعبد} يعني في المستقبل {ما
[الإكسير في علم التفسير: 271]
تعبدون} من آلهتكم {ولا أنتم عابدون} في المستقبل {ما أعبد} ويكون هذا إخبارًا لهم بدوامهم على الكفر مثل: {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا}.
فإن قلت: فقد أخبر بهذا من أسلم بعد ذلك، فما صح الإخبار، فلا يكون هذا إخبارًا كما ذكرت.
قلت: هذه الدعوى تحتاج إلى نقل، ونحن نمنعه، والأصل عدمه، ولئن ثبت، كان ذلك تخصيصًا، وتبين أن المراد بالإخبار من لم يسلم كقوله: (ولن تفعلوا) فإن السؤال وارد فيها أيضًا، ثم قال: (ولا أنا عابد) في الحال (ما عبدتم)، (ولا أنتم عابدون) في الحال (ما أعبد) حالاً واستقبالاً، ويكون هذا إخبارًا له باستمراره على عبادة الله تعالى، فحاصل هذا: قل لهم: أي لا أوافقكم ولا توافقونني لا حالا ولا استقبالاً وهو قريب من معنى قوله: {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم}.
وقال ابن الأثير: (ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد) معناه: لم نعهد منكم في الماضي عبادة ما أنا عابده الآن، ولا متى في الماضي عبادة ما أنتم عابدون الآن، فكيف أعبد في الإسلام شيئًا لم أعبده في الجاهلية، وهذا قريب يحتمل، لأن دلالة اللفظ قاصرة عنه لوجهين:
أحدهما: أنه قال: (ولا أنا عابد ولا أنتم عابدون)، ولم يقل: ما كنت عابدًا ولا كنتم عابدين، فلا يفيد المضي صيغة أو قرينة ولا واحد منهما.
الثاني: أن اسم الفاعل، وهو عابد وعابدون أظهر في الدلالة على الحال منه على المضي خصوصًا وهو منون.
[الإكسير في علم التفسير: 272]
ومن هذا الفرع تكرير قوله تعالى: {إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم} في سورة الشعراء مرارًا؛ إذ اللفظ ومعناه فيهن متحد، والمقصود متعدد: إهلاك كل واحد من تلك القرون، آية للكفار غير الآية الحاصلة بإهلاك الفريق الآخر.
الفرع الثاني: وهو أن يراد بالمكرر معنى واحد لغرض واحد. فمنه قوله تعالى: {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم}. {أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابًا وعظامًا أنكم مخرجون}.
وهذا يحسن عند طول الفصل بين المكررين؛ تطرية لسمع السامع مع التأكيد، وهو في السنة واقع كثيرًا.
ومنه: {وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين}
قال ابن الأثير: فتكرير (من قبله) يدل على بعد عهدهم بالمطر وتطاوله فاشتد لذلك بأسهم، فكان استبشارهم بالمطر على قدر اغتمامهم لانقطاعه.
قلت: هذا الذي ذكره لا شك أنه مستفاد من الكلام، لا من تكرير لفظ القبلية فإنه لا يفيده البتة، بل هو من قرينة الاستبشار والإبلاس، لأن الناس إنما يستبشرون غالبًا بقدوم ما طالت غيبته، ولا يبلسون وييأسون إلا من مثل ذلك.
فيقال: استبشر زيد بقدوم أخيه من مكة، ونحوها، ولا يقولون: استبشر بقدومه من المسجد أو السوق، وييأس منه إذا طالت غيبته، لا إذا قصرت، ولهذا إذا مرت على المفقود لغيبة ليس ظاهرها الهلاك، تسعون سنة، قسم ميراثه ونكحت امرأته، للإياس منه، ولا يجوز قبل ذلك.
[الإكسير في علم التفسير: 273]
والذي عندي في تكرار لفظة القبلية، أن فائدته تحقيق إبلاسهم وإياسهم من المطر في تلك المدة، وذلك الزمان، أعني: الذي هو قبل نزول الغيث، والله أعلم.
ومنه قول مؤمن من آل فرعون: {يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع}... {ويا قوم ما لي أدعوكم} فكرر ندائهم ومعناه واحد لغرض واحد؛ وهو تنبيههم عن سنة الغفلة، والحرص على نجاتهم بهدايتهم، وإنما أضافهم إلى نفسه إشارة إلى أنكم مني وأنا منكم، فلست بمتهم فيكم، بل لا أريد لكم إلا خيرًا، وإلا ما أريد لنفسي.
ومنه تكرار قوله تعالى: {فذوقوا عذابي ونذر * ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} في مواضع من سورة القمر.
وفائدته: الإعذار إلى الكفار بتنبيههم وتحذيرهم عند فناء كل قرن من القرون الماضية، وأن القرآن نزل ميسرًا للذكر، فلا عذر لمن بلغه فلم يدكر، إذ لا يهلك على الله إلا هالك.
ومنه تكرير: {فبأي آلاء ربكما تكذبان}: في سورة الرحمن، والخطاب به للثقلين، ولا يقدح في هذا كون الخطاب المذكور سابقًا على ذكر الثقلين في قوله تعالى: {والحب ذو العصف والريحان * فبأي آلاء ربكما تكذبان} لأنه لما ذكرهما بعده، صارا كالمتقدمين عليه... وأيضًا فإن أحدهما قد قدم ظاهرًا وهو الإنسان والأنام، فناب منابهما، كما يسمى الكل باسم الجزء.
وفائدته: إعلامهم بتأكيد استحقاقه لعبادتهم بتذكره إياهم نعمه عليهم عند كل فرد من أفرادها، كما يقول الرجل لعبده (ألم أكسك؟ ألم أزوجك؟ ألم أرحك من التعب؟ فبأي نعمي تكذب؟ ألم أفتدك من الجناية الفلانية؟ ألم أعطك الضيعة
[الإكسير في علم التفسير: 274]
الفلانية؟) ويعدد نعمه عليه، ثم يقول: فبأي آلاء تكذب؟ ومعنى هذا الكلام وقوته أنك لا تستطيع تكذيب شيء من ذلك؛ لوضوحه وظهوره، كما يركب أحد المتناظرين دليلاً من مقدمتين قطعيتين، ثم يقول لخصمه، أي المقدمتين تمنع؟ أي: لا يمكنك منع واحدة منهما.
ثم اعلم أن صدر هذه السورة اشتمل على ذكر النعم الدنيوية، كخلق الإنسان، وتعلمه البيان، وخلق الشمس والقمر بحسبان، والنجم: وهو ما لا ساق له من النبات، والشجر: وهو ما له ساق، والنعمة فيهما ظاهرة، ورفع السماء ووضع الميزان؛ للتناصف، وأمن المظالم، ووضع الأرض فيها الفاكهة، والنخل، والحب ذو العصف: يعني الورق والتين؛ تنبيهًا على أن فيه منفعة لكم ولدوابكم، والريحان: وهو المعروف، أو كل نبت طيب الريح، وخلق الإنسان والجان، ووجه النعمة فيه عليهما استمتاع بعضهم ببعض، كما ذكر في الأنعام. وخلق المشرقين والمغربين؛ مجالاً للشمس والقمر والنجوم، ليتقوم بهن نظام العالم، ومرج البحرين: العذب والملح، لينتفع من كل منهما بما جعل له من استخراج الجواهر، وشرب الماء، وأكل الحيتان، ونحو ذلك. وإجراء المراكب في البحور؛ لقيام معايش الخلق، مع ما تضمن بذكرهم بهذه النعمة، من التنبيه على عظيم قدرته التي يستحق بها منهم العبادة والتوحيد، فخلق الإنسان والجان العظيمين من عنصرين مشاهدين هما: الطين والنار، على وجه لا يتأتى لغيره تعالى، ونحو ذلك.
ومن هاهنا إلى آخر السورة اشتمل على ذكر أحكام الآخرة من: الموت والبعث، والنار والجنة، كأنه قال: قد ذكرتكم بآلائي عليكم، ونعمائي التي أسديتها إليكم، ثم إني بعد ذلك متوفيكم وباعثكم، فمن كان قابل آلائي بالكفر، أدخلته النار، وهذا حاصل المراد بقوله: {كل من عليها فان} إلى قوله: {يطوفون بينها وبين حميم آن * فبأي آلاء ربكما تكذبان}
[الإكسير في علم التفسير: 275]
فإن قلت: ما وجه النعمة عليهم في موتهم وبعثهم وإحضارهم أهوال الموقف وعدم استطاعتهم النفوذ من أقطار السموات والأرض، وإرسال شواظ من نار ونحاس، وأخذ المجرمين بالنواصي والأقدام، ونحو ذلك مما ذكر، حتى يقررهم بها عقيب ذلك؟
قلت: ليست النعمة في نفس وقوع هذه الأشياء، بل في إخباره تعالى إياهم بوقوعها، ليأخذوا حذرهم منها بالطاعة، ولا خفاء أن تحذير الإنسان مما يضره من أجل النعم عليه؛ لأن النعمة إما: إيصال نفع أو دفع ضرر، والثاني أبلغ من الأول، لأن الإنسان يصبر على عدم النفع ولا يصبر على وجود الضرر، كما يصبر على أكل العسل، ولا يصبر تجريع سم أو رصاص مذاب، أو جلد مائة سوط، والله أعلم.
ومن كان قابلها بالتوحيد والعبادة، أدخلته الجنة، وهذا حاصل قوله: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} إلى آخر السورة، وكل فرد من أفراد الجملة يتضمن نعمتين: وقوعه إذا وقع، والترغيب فيه قبل وقوعه.
فإن قلت: الخطاب والتذكير للثقلين وهو عام فيهم: مؤمنًا وكافرًا، والكافر في الآخرة يصير إلى العذاب الدائم، ويتبين أن ما كان فيه في الدنيا مما يخال نعمة، كان استدراجًا، وسببًا من أسباب النقمة، وحينئذ لا نعمة عليه في دنيا ولا أخرى؛ إذ النعمة هي: النفع السالم العاقبة من شوائب الأكدار.
قلت: الجواب من وجهين:
أحدهما: لا نسلم أن من شرط النعمة سلامة العاقبة، لأن اشتقاقها يؤول إلى النعومة التي هي ضد الخشونة، وهذا المعنى موجود بدون الشرط المذكور.
والثاني: لو لم يكن للعامة إلا إظهار الآيات والمعجزات على أيدي الأنبياء وتحذيرهم من شرور الآخرة، وترغيبهم في سرورها، لكان ذلك كافيًا في استحقاقه
[الإكسير في علم التفسير: 276]
العبادة منهم، وتوبيخهم على تركها، فإن ذلك نصيحة، والناصح منعم يجب شكره، وإن لم يقبل المنصوح له، والله أعلم.
وإنما أطلت الكلام في هذه السورة، لأني رأيت كثيرًا من الناس يستشكل كثيرًا منها.
ومنه: تكرير قوله تعالى: {ويل يومئذ للمكذبين} في سورة المرسلات.
وفائدته: تحقيق وقوع الويل بهم، وتأكده، تحذيرًا من التكذيب وتنفيرًا منه أو زجرًا.
ومن هذا القبيل تكرير الفعل تحقيرًا لشأن المفعول أو تعظيمًا له:
مثال الأول: {من أي شيء خلقه * من نطفة خلقه}.
{مم خلق * خلق من ماءٍ دافقٍ} إشارة إلى حقارة ما خلق منه الإنسان.
ومثال الثاني: ألا تنظرون إلى فلان من قتل؟ قتل السلطان. أو بمن تزوج؟ تزوج ابنة الملك.
وقد يأتي لتعظيم الفاعل نحو: {اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق} والله أعلم.
وأما غير المفيد من هذا القسم وهو ما لا يفيد تأكيدًا ولا تحقيقًا، كقول أبي الطيب:
[الإكسير في علم التفسير: 277]
ولم أرَ مثل جيراني ومثلي = لمثلي عند مثلهم مقام
فكرر لفظ (مثل) أربع مرات، وحاصله: أن مقام مثلي بين مثلهم عجيب وكقوله:
فقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا = قلاقل عيس كلهن قلاقل
فأنكر الصاحب بن عباد هذا عليه، لما فيه من التكرار الخالي عن الفائدة، واعتذر له الواحدي في شرحه لشعره، بأن عادة الشعراء جرت بمثله كقول الثعالبي:
وإذا البلابل أطربت بهديلها = فانف البلابل باحتساء بلابل
وليس اعتذارًا جيدًا، والحق مع ابن عباد. والفرق بين البيتين:
أن البلابل في شعر الثعالبي متغايرة المعنى، فالأولى: جمع بُلبل، وهو الطائر المعروف، المفتون. والثانية جمع بَلبَة بفتح الباءين أو بلبال، وهو وسواس الصدر وهم القلب والثالثة جمع بُلبُلة وهي: مخرج الماء من الإبريق عبر رأسه فكأنه قال: إذا صحت البلابل فانف عنك وسواس الصدر بشرب الخمر.
بخلاف القلاقل في شعر أبي الطيب (فإن معناها واحد، ثم فيها من العيب ما تقدم في قوله: (اللقالق والنقانق).
[الإكسير في علم التفسير: 278]
القسم الثاني: وهو تكرير المعنى دون اللفظ
وفي المفيد منه أيضًا فرعان:
الفرع الأول: أن يدل على معنيين مختلفين كالجنس والعدد نحو قوله تعالى: {وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد}.
وفائدته: تأكيد النهي عن اتخاذ العدد المخصوص من الجنس المخصوص، هذا من حيث عموم الفائدة.
أما تقرير معنى الآية فمن وجهين:
أحدهما: أنه تعالى في هذا المقام يتكلم في التوحيد، والنهي عن ضده، فالمقصود الأهم نهيهم عن القول بتعدد الآلهة، فنهاهم عن التثنية؛ تنبيهًا بها على ما فوقها بطريق الأولى، كما في الضرب مع التأفيف. واللفظ الموضوع للعدد المثنى إنما هو: اثنان، فجاء في النهي عن المعنى المطلوب تركه باللفظ الموضوع له، ليكون أبين وأدل وآكد.
فأما قوله: (إلهين) فليس موضوعًا لهذا العدد، بل هو اسم ألحقت به علامة التثنية، كرجلين وقوسين، فدلالته على العدد عرضية لا أصلية، ولهذا لا يدل ما بعده من المعدودات على مقدار عدده إلا بذكره، كثلاثة رجال، وأربعة أعبد، ونحو ذلك، فلو قلت: رجال وأعبد، لم يعلم هل هم ثلاثة أو أربعة أو أكثر.
الثاني: كأنه نبه بهذا عن أنه لم ينههم على اتحاد مطلق الآلهة، وأنه يأمرهم بتأله نفسه، وإنما ينهاهم عن مطلق التعدد.
وكذا القول في: (إنما هو إله واحد) ليس مقصوده إخبارهم بإلهيته، لأنهم يقولون بها مع غيرها، وإنما أمرهم بالتوحيد الذي لم يلزم من قولهم بإلهين وعدمه، والله أعلم.
[الإكسير في علم التفسير: 279]
أو كالعام والخاص، كقوله تعالى: {وملائكته ورسله وجبريل وميكال}
و{فاكهة ونخل ورمان}.
{ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف}. فالأمر بالمعروف نوع خاص من الخير.
وفائدة هذا التنبيه على تأكيد بيان المعطوف الخاص وأفضليته، لاختصاصه بفضيلة أو ترتب مصلحة ونحو ذلك.
الفرع الثاني: أن يدل على غرض واحد نحو: (أطعني ولا تعصني) فالمعنى متكرر، لأنه أمره بالطاعة ونهاه عن المعصية، والغرض بهما واحد، وهو عدم التمرد عليه، والخلاف له.
ومن هذا قوله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارًا}
فالمراد بذكر تعدي الحدود تأكيد الوعيد على المعصية؛ لأنه منها.
ومنه: {فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر القوم الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين}. فمعنى {وما كانوا مؤمنين} معنى {كذبوا بآياتنا}.
وفائدة تكراره تأكيد الإخبار عن تكذيبهم وكفرهم إثباتًا ونفيًا، كما تقول في التثريب على شخص: إنه كذبني وما صدقني، وعصاني وما أطاعني وأهانني وما أكرمني.
[الإكسير في علم التفسير: 280]
ومثله: {وأضل فرعون قومه وما هدى}
وفائدة هذا واضحة جدًا، لكن مع النظر، وبيانه: أن إثبات التكذيب والإضلال يكفي في صدقه ووقوعه مرة واحدة.
ولا يدل على تكرار الوقوع ودوامه، لأنه من باب المطلق، وهذا شأنه.
وأما نفي ذلك، فلا يصدق إلا بانتفاء جميع أفراد ماهيته، فالله تعالى أثبت تكذيبهم الذي استحقوا به الإهلاك، ولم يدل إثبات تكذيبهم على دوامه واستمراره، أردفه بما يدل عليه من نفي الإيمان المستلزم له.
وكذلك لما ثبت إضلال فرعون، وأنه كان ضليلاً في كل أمر، مضلاً في كل حال.
وأما غير المفيد من هذا القسم: فقول ابن هانئ:
سارت به صيغ القصائد شردًا = فكأنما كانت صبًا وقبولا
والصبا هي القبول.
قلت: ولا شك أن هذا غير مفيد ولكنه جائز كقوله تعالى: {أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة} والصلاة من الله: الرحمة.
ذكره الأكثرون منهم: العزيزي، وذكر السخاوي: أن المراد بها في هذه الآية: الثناء الجميل.
[الإكسير في علم التفسير: 281]
وكقوله عليه السلام: ((الملائكة تصلي على أحدكم مادام في مصلاه، ما لم يحدث، اللهم ارحمه))، وفي اللفظ: ((اللهم صل عليه، اللهم ارحمه)).
وكقول عنترة:
حييت من طللٍ تقادم عهده = أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
وأقوى وأقفر بمعنى واحد عند أهل اللغة.
وقول الآخر:
ألا حبذا هند وأر ض بها هند = وهند أتى من دونها النأي والبعد
ومعناهما واحد.
ومن هذا الباب قول الصابي في جواب كتاب: (وصل كتابك بعد تأخير وإبطاء، وانتظار له واستبطاء).
ولم يخالف في جواز مثل هذا إلا أبو العباس المبرد فيما حكاه الخطيب التبريزي عنه في شرح السبع الطوال، والله أعلم.
[الإكسير في علم التفسير: 282]

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الثامن, النوع

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:10 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir