دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم القرآن الكريم > مكتبة التفسير وعلوم القرآن الكريم > جامع علوم القرآن > الإكسير في علم التفسير

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 23 محرم 1432هـ/29-12-2010م, 09:12 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي النوع الرابع: في شجاعة العربية


النوع الرابع: في شجاعة العربية
وهي مستعارة لها، إذ حقيقة الشجاعة قوة في نفس الحيوان يظهر آثارها على بدنه وجوارحه من إقدام وشدة طعن بشجاعة العربية وقوتها؛ لكثرة تصرفاتها المختلفة، وهذا النوع أعم هذا العلم فائدة، وهو أصناف:
[الإكسير في علم التفسير: 175]
الصنف الأول: في الالتفات، وهو الرجوع عن أسلوب من أساليب الكلام إلى غيره، ومن فوائده: تطرية سمع السامع وإيقاظه للإصغاء، فإن اختلاف الأساليب أجدر بذلك من الأسلوب الواحد.
وهو ثلاثة أضرب:
الأول: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب وعكسه. ومن أمثلته قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (1) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (3)} هذا أسلوب غيبة ثم التفت عنه بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} إلى أسلوب خطاب، إلى قوله: {أَنْعَمْتَ} ثم التفت إلى الغيبة بقوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ولم يقل: الذين غضبت، كما قال: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} لأن ذكر النعمة موضوع التقرب إلى الرب بذكر نعمه، فكان إسناده إليه بتاء المخاطب أبلغ في ذلك، بخلاف ذكر الغضب.
ونظيره قول إبراهيم عليه السلام: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} فأضاف هذه النعم إلى ربه تعالى، ثم قال: {وَإِذَا مَرِضْتُ} فأضافه إلى نفسه لفظًا، تأدبا، إذ الأدب يقتضي أنك لا تضيف إلى المنعم عليك حال ذكر نعمه إلا النعم، لا المكروهات، فلا تقول الملك في سياق ذلك "أنت الذي أعطيتني، ورفعت قدري، وحبستني أو ضربتني، لأن الأول يقتضي شكره، والثاني يقتضي ذمه، والشكاية والتضجر منه" وهما متناقضان وقد استعمل الله تعالى هذا الأدب مع خلقه في حديث ((إني حرّمت الظلم على نفسي، يا عبادي... لو أن أوّلكم وآخركم، وإنسكم وجِنّكم جاءوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي))، ولا ذكر ضد ذلك، قال: ((جاءوا على أفجر قلب رجل واحد))، ولم يقل "منكم" كل ذلك من محاسن الآداب والتلطف.
[الإكسير في علم التفسير: 176]
وأما فائدة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} مع ما قبله من خطاب الغيبة، فمن وجهين:
أحدهما. أنهم لما وصفوا الله تعالى بخصائص الربوبية، وصفات الألهية بأسلوب الغيبة؛ ليكون أدل على صدقهم وإخلاصهم في ذلك، مما إذا خاطبوه به؛ إذ المخاطِب بالمدح قد يراقَب فيداجي، ويخالف لسانه قلبه، بخلاف المادح في الغيبة حيث عدلوا حال الإخبار والسؤال إلى الخطاب؛ لأنه أدل على الخضوع، والضراعة، وشدة الرغبة، ومسيس الحاجة، كما تقول لملك أنعم عليك "أنا شاكر للملك المعظم الجواد، مالك الرعايا والملوك، بك أيها الملك المتصف بهذه الصفات، أستعين على أمري، وإليك ألجأ من جميع محاذيري".
الثاني: أن أسلوب الخطاب أخص من أسلوب الغيبة، والعبادة أخص من الحمد والثناء، إذ الإنسان يحمد نظيره ولا يعبده، فاستعمل الأسلوب الأخص في ذكر الفعل الأخص.
ومنها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} إلى قوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} ولم يقل: {فآمنوا بالله ربي} لفائدتين:
إحداهما: دفع التهمة عن نفسه بالعصبة لها.
الثانية: تنبيههم على استحقاقه الاتباع لما اتصف به من الصفات المذكورة من النبوة والأمية التي هي أكبر دليل على صدقه. وأنه لا يستحق الاتباع لذاته، بل لهذه الخصائص التي بمن قامت وجب اتباعه، نحو ما أشرنا إليه في قول القائل "مثلي لا يفعل كذا وكذا" في الفرع الثاني من فروع الإرداف من باب الكناية.
ومنها قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} الآية وفائدة ذلك العدول عن خطابهم إلى حكاية حالهم لغيرهم،
[الإكسير في علم التفسير: 177]
لتعجبهم من فعلهم وكفرهم؛ إذ لو استمر على خطابهم لفاتت تلك الفائدة، إذ الإنسان يحب نفسه، لا ينكر عليها ولا يستعظم منها العظائم، بل من غيره، ودليله في الحديث ((ما بال أحدكم يرى القذاة في عين أخيه، ولا يرى الجذع في عين نفسه)).
وفي الشعر:
أرى كل إنسان يرى عيب غيره = ويعمى عن العيب الذي هو فيه
وذكر بن الأثير من ذلك قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ *وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} معناه: وتقطعتم عطفا على الأول، لكن التفت إلى أسلوب الغيبة كأنه ينعى عليهم كفرهم، وافتراقهم إلى قوم آخرين، وتقبحه عندهم؛ مبالغة في تبكيتهم، ثم توعدهم بالرجوع إليه، وهذا وإن كان محتملاً، إلا أن ظاهر الكلام وسياقه خلافه، وهو أنه تعالى خاطب المؤمنين بأن الأمة واحدة، وأنه الرب المستحق بأن يبقى ويعبد، ثم أخبر المؤمنين عن الكافرين بأنهم تقطعوا أمرهم بينهم وأنهم فرقوا دينهم وكانوا شيعًا. وعدلوا بالعبادة والتقوى عن مستحقها، ووضعوها في غير حقها، وفعلوا من التقوى خلاف ما يقتضيه اتحاد الأمة، والله أعلم.
الضرب الثاني: المعدل عن الفعل المستقبل إلى فعل الأمر؛ تهاونا بصاحبه، أو تعظيما لشأنه.
[الإكسير في علم التفسير: 178]
مثال الأول: قول هود لقومه: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ} ولم يقل "و أشهدكم" قطعا، بعطف المستقبل على مثله المشعر باستواء الشاهدين في الصدق، وعدولا إلى الاستهزاء بهم وتهكمهم، إذ شهادتهم لا تأثير لها، ولا اعتبار بها، كما تقول لعذول "اشهد أني أحبك".
ومثال ثاني: أن يستنيب الحاكم عاصيا عن معصيته، فيقول العاصي: "إني أشهد هؤلاء الناس، واشهد أيها الحاكم، أني لا أعود إلى مثل ما فعلت" فإن ذلك يفيد تفخيم حال الحاكم وزيادة تعظيمه على غيره ممن أشهده، وقريب من هذا قوله تعالى: {فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ} {لا يستنكف المسيح أن يكون عبدًا لله ولا الملائكة المقربون} في دلالة الكلام على أن الثاني أفخم من الأول.
الضرب الثالث: في الالتفاتات من خطاب التثنية إلى خطاب الجمع، ثم إلى خطاب الواحد. فمنه قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ}. فعدل عن المثنى وهو "تبوَّءا لقومكما" إلى الجمع بقوله: "واجعلوا"؛ وذلك لأن موسى وهارون هما اللذان يقرران قواعد النبوة: ويحكمان مباني الشريعة فخصهما بذلك، ثم خاطب الجميع باتخاذ البيوت قبلة للعبادة؛ إذ الجميع مأمورون بها عمومًا، ثم قال لموسى وحده: "وبشر المؤمنين"؛ لأنه الرسول الحقيقي الذي إليه البشارة والإنذار والإيراد والإصدار. وهارون وزير في الحقيقة كما صرح به النص.
وقال تعالى: {إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} لكون كل منهما منعوتًا في الرسالة لكن أحدهما للتبليغ، والآخر رِدْءٌ، ومصدق، ومساعد له.
[الإكسير في علم التفسير: 179]
ومنه قوله تعالى حاكيا عن حبيب النجار: {وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فعدل عن خطاب الواحد إلى الجمع؛ لأنه أبرز لهم كلامه في معرض المناصحة لهم، كأنه قال: إني أحب لكم ما أحب لنفسي، فاتبعوني، وكما أعبد الذي فطرني، فاعبدوا أنتم الذي فطركم، وإليه ترجعون، وتضمن كلامه أيضا تذكيرهم النعمة في إنشائهم وخلقهم، واستدعاء شكرها بالعبادة، وتحذيرهم نقمة الكفر عند الرجوع إلى عالم الغيب والشهادة، والله أعلم.
الصنف الثاني في الالتفات عن الماضي إلى المضارع، وعكسه.
أما الأول: فموضعه ما إذا كان بعض أحوال القضية الخبرية مشتملا على نوع تميز وخصوصية؛ لاستغراب أو أهمية، فيعدل فيها إلى المضارع المستعمل للحال؛ إيهامًا للسامع حضورها حال الإخبار ومشاهدتها؛ ليكون أبلغ في تحققها له، فمن ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً} فعدل عن لفظ "فأصبحت" إلى لفظ "فتصبح". لما ذكرنا من قصد المبالغة في تحقيق اخضرار الأرض لأهميته؛ إذ هو المقصود بالإنزال، وهو سبب، فوزانه من الكلام "أنعم عليّ فلان عام كذا، فأروح وأغدو شاكرا له" ورفع "فتصبح". وإن وقع في جواب الاستفهام لآن ما في خبره وهو الري ليس سببًا للإصباح وإنما ينصب ما في جواب الاستفهام، إذا كان ما في خبره سببا له.
ومنه قوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} فقال: "تثير" مضارعًا، وما قبله وما بعده ماضيًا،
[الإكسير في علم التفسير: 180]
مبالغة في تحقيق إثارة الرياح السحاب للسامعين، وتقرير تصوره في أذهانهم.
فإن قلت: أهم الأفعال المذكورة إحياء الأرض، وقد ذكره بلفظ الماضي، وما قررتموه يقتضي أولوية ذكره بلفظ المضارع، إذ هو أهم، وإثارة السحاب سبب بعيد على مرتبتين.
قلت: لا نسلم أهمية إحياء الأرض، بل إثارة السحاب أهم؛ وذلك لأن الله تعالى ذكر هذا الكلام في معرض آيات قدرته؛ ليدل على اقتداره على البعث والنشور بالقياس على إحياء الأرض بعد موتها، بالمقدمات المذكورة، وأهمها وأدلها على القدرة أعجبها، وأبعدها عن القدرة والتصور البشريين، وإثارة السحاب أعجبها، فكانت أولى بالتحقيق بالتخصيص بالفعل المضارع. وإنما قلنا إن إثارة السحاب أعجب؛ لأن سببها أخفى من حيث إنا نعلم بالفعل أن نزول الماء سبب اخضرار الأرض، وإثارة السحاب وسوقه سبب نزول الماء، أما إثارة السحاب، فلو خلينا وظاهر العقل، لم نعلم أن الرياح سببها؛ لعدم إحساسنا مادة السحاب وجهته، ولطافة الريح عن إدراك الحس، وإنما نبهنا على سبب ذلك بهذا النص وأشباهه، لأن ما قرره الفلاسفة والطبيعيون في ذلك، فإنه إنما أفاد وهما أو ظنا، لا علما، والله أعلم.
ومنه قول تأبط شرًا:
بأنّي قد لقيتُ الغول تهوى = بسهْب كالصحيفة صَحْصحان
فأضربُها بلا دَهَش فخرّت = صريعًا لليدين وللجران
لم يقل: فضربها، بل قال: فأضربها؛ تقريرا في أذهان قومه الذين أخبرهم حاله
[الإكسير في علم التفسير: 181]
معها، وشجاعته، وعدم خوفه عند لقائها. حتى كأنهم يشاهدون ذلك ولو قال: فضربتها، لزال ذلك المعنى.
وكذلك حكاية سلمة بن الأكوع عن نفسه مع صاحب الجمل الذي كان عيْنًا للمشركين حيث قال: "فأضربه فيذرّ رأسه".
وأما الثاني: فموضعه ما إذا كان مدلول الفعل من الأمور الهائلة المهدد المتوعد بها، فيعدل فيه إلى لفظ الماضي تقريرًا وتحقيقًا، لوقوعه في المستقبل، بإيهام وقوعه في الماضي والفراغ منه، كقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ}، أي: فيفزع. {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا} و{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوه}، أي: يبرزون، ويأتي. {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ}، أي: نحشرهم، فعبر عن هذه الأشياء بالماضي، تنبيهًا على تحقق وقوعها، كشيء مضى وفرغ منه، مبالغة في التهديد والوعيد.
وقد يفعل ذلك فيما يقصد تسهيله على النفس وتحريضها عليه، كقوله عليه السلام في حديث المضريين المجتابي الثمار يعرض للناس بأن يتصدقوا عليهم، ((تصدّق رجل مِن صاع بُرّه، ومن صاع تمره)).
وفي بعض آثار السترة في الصلاة: صلى رجل في إزار ورداء وسراويل، فقال: تصدق وصلى، بلفظ الماضي تسهيلا عليهم.
ومن لواحق ذلك؛ العدول عن المستقبل إلى اسم المفعول؛ لتضمنه معنى الماضي، نحو: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} تقريرا للجميع فيه وثبوته.
[الإكسير في علم التفسير: 182]
فإن قلت الماضي أدل على هذا المقصود من اسم المفعول، فلم عدل عنه إلى ما دلالته أضعف؟
قلت: لتحصيل المناسبة بين مجموع ومشهود في استواء بنائهما، طلبًا للتعديل في العبارة، ولولا هذا المعارض؛ لكان الإتيان بلفظ "جمع الناس" فيه أولى في حكم هذه الصياغة، والله أعلم بالصواب.
الصنف الثالث في عكس الظاهر، وهو إرادة خلاف ظاهر الكلام، كقول عليّ رضي الله عنه في صفة مجلس النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تُنْثى فلتاته" إذ ظاهره أنه كانت له فلتات، لكنها لا تنثى، أي لا تذاع، وليس المراد ذلك بل المراد: أنه لم يكن له فلتات فتذاع.
وكذا قول الشاعر في وصف بريّة يصفها بالصعوبة
و لا ترى بها الضبّ ينجحرْ
ظاهره أن بها ضبّا، لكنه لا ينجحر، أي: لا يدخل سربه، والمراد: أن ليس بها ضب ينجحر، ومثل هذا يعرف بالقرائن المحققة للكلام، كقرينة وصف علي رضي الله عنه لمجلس النبي صلى الله عليه وسلم بالنزاهة من العيوب، ووصف الشاعر البرية بكونها مقطعة لا حيوان فيها، فإنهما تنافيان إثبات الفلتات، والضب، فتعين الحمل على عكس الظاهر:
وحقيقة هذا أنه تأويل لدليل، وأنه من قبيل "السالبة البسيطية" التي أحد محتملها: انتفاء محمولها؛ لانتفاء موضوعها، نحو: "زيد ليس بكاتب" إذ سلبت الكتابة عنه يحتمل أنه لأميّته مع وجود ذاته، ويحتمل أنه لعدمه أصلا، إذ يصدق على المعدوم أنه ليس بكاتب، ولا متصف بشيء، لانتفاء ما تقوم به الصفات، لا يقال هذا
[الإكسير في علم التفسير: 183]
وصف له بانتفاء الصفات عنه، لأنّا نقول: هذا وصف سلبي لا يفقر إلى محل، إذ هو عبارة عن نفي محض.
الصنف الرابع: في الحمل على المعنى، لما بينا من قبل من أنه المقصود الأهم بالذات، ولهذا لما حملت العرب الكلام على المعنى طردت ذلك، ولم تكد تراجع اللفظ؛ لحصول المقصود به بدونه، كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّه} الآية، إلى أن قال: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ} فحمله على المعنى، كأنه قال مثل قومك في كفرهم كمثل الذي حاج إبراهيم في كفره، أو كالذي مرَّ على قرية في تردده واستبعاده إحياء الله الموتى، ولو تابع اللفظ لقال: ألم تر إلى الذي مر على قرية، أو "وإلى الذي مرّ".
ومن ذلك تأنيث المذكر، كقول الشاعر:
اتهجر بيتا بالحجاز تلفعت = به الخوف والأعداء من كل جانب
ذهب بالخوف إلى معنى المخافة.
وقول الآخر:
يا أيها الراكب المُزجي مطيّتَه = سائل بني أسد ما هذه الصوت
ذهب إلى معنى الاستغاثة أو الضوضاء أو الجلبة.
[الإكسير في علم التفسير: 184]
وقال جرير:
لما أتى خبر الزبير تواضعت = سور المدينة والجبال الخشّع
أراد بالسور: وقاية المدينة أو جدرانها.
وقال ابن أبي ربيعة:
فكان مجنّي دون من كنت أتقي = ثلاث شخوص كاعبان ومعصر
ثلاث شخوص كاعبان ومعصر: أي ثلاث أنفس.
وقول الآخر:
طول الليالي أسرعت نقضي
أي: أسرعت الليالي، ولعل هذا من قبيل تأنيث فعل المذكر المضاف إلى مؤنث، وهو كثير في كلامهم، نحو: ذهبت بعض أصابعه، وقرأ شاذا: (لا تَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا) بالتاء المثناة فوق، لأن تفعل للإيمان، وهو مضاف إلى ضمير النفس المؤنثة، وأعني بتأنيث الفعل: إلحاق علامة التأنيث به، وإلا فمعلوم أن الفعل لا يؤنث حقيقة.
[الإكسير في علم التفسير: 185]
ومنه تذكير المؤنث، نحو قوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ} أي وعظ.
{فلمّا رأى الشمس بازغة قال هذا} أي الشخص أو الطالع أو المرئي: {ربّي}.
{فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ}، أي بيان ودليل وترجمان.
{إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ} ذكّر خبر المؤنث، إرادة لمعنى اللفظ، أو الرفق، أو المطر؛ لأنه مذكور في سياق الكلام، {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} أي بلدًا.
ومنه حمل الواحد على الجمع: كقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما من إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدّى حقها إلا جاءت يوم القيامة أوفر ما كانت وأسمنه)) الحديث.
وقول أبي سفيان لرسول الله "ألا أزوجك أم حبيبة أحسن فتاة في العرب وأجمله" كأنه أراد في العالم، أو عالم العرب.
ومثله قول ذي الرُّمة:
وميّة أحسن الثقلين وجها = وسالفة وأحسنه فذالا
وقوله تعالى: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} نظرا إلى معنى الرسالة التي يحملانها وهو متحد.
وحيث قال: {إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} فهو نظر إلى شخصيهما.
[الإكسير في علم التفسير: 186]
وقول الآخر:
ترى جيف القتلى فأما عظامها = فحسرى وأما جلدها فصليب
أي: جلودها، كأنه أراد الجنس.
وقول الآخر:
نحن بما عندنا وأنت بما = عندك راض والرأي مختلف
أي: نحن راضون، وأنت راض.
وقول الآخر:
وقلنا أسلموا إنّا أخوكم = فقد برئت من الإحن الصدور
ويجوز أن يكون هذا جمع أخ مضافا، كما قالوا: أب وأبون وأبين في قول الشاعر:
فلما تسمّعن أصواتنا = بكين وفدّيينا بالأبينا
يعني الآباء.
ومنه حمل الجماعة على الواحد، كقولهم: "شابت مفارقه" وإنما هو مفرق واحد، كأنهم سموا كل جزء منه مفرقا، إطلاقا لاسم الكل على الجزء مجازا.
وبالجملة: فهم تارة يعتبرون اللفظ وتارة المعنى، فيقولون ثلاثة أشخص، نظرا
[الإكسير في علم التفسير: 187]
إلى لفظ الشخص وإن عنوا نساء، أو ثلاث أنفس؛ نظرا إلى لفظ النفس وإن عنوا رجالا.
واعلم أن (من) لفظها مفرد ومعناها الجمع فيضطرون إلى كل منهما تارة، كقوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} هذا كله نظرا إلى إفراد اللفظ {ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} نظرا إلى معنى الجمع، وكذلك {لن يدخل الجنة إلا من كان} أفرد ضميرها؛ نظرا إلى اللفظ {هُودًا أَوْ نَصَارَى} جمع الخبر؛ نظرا إلى المعنى.
وكذلك "كلا وكلتا" لفظهما لفظ المفرد ومعناهما التنبيه، وينظر إلى كل تارة، كقوله تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} هذا على إفراد اللفظ.. {وفجّرنا خلالهما نهرا} على المعنى. وجمع بينهما الشاعر في بيت وهو:
كلاهما حين جدّ الجري بينهما = قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي
وقال الأعشى:
كلا أبويكم كان فرعا دعامة = ولكنهم زادوا وأصبحت ناقصا
(وكل) مثل (كلا) لفظا، ومعناها الجمع، قال تعالى: {وكلٌّ أتوْهُ
[الإكسير في علم التفسير: 188]
داخرين} على الجمع، {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} على إفراد اللفظ، والله أعلم.
الصنف الخامس: في التقديم والتأخير، وهو: جعل اللفظ في رتبة قبل رتبته الأصلية، أو بعدها؛ لعارض اختصاص، أو أهمية، أو ضرورة، قال سيبويه: "والظاهر أنهم يقدمون الشيء الذي شأنه أهم، وهم به أعنى، وإن كانا جميعًا مهمّين" مثل أن يرد الإخبار عن قتل شخص خارجي، لا من حيث هو شخص معين، فيقولون: "قتل الخارجيّ زيد" وإذا صدر عن بعض الفضلاء قبيحة، قدموا اسمه، فقالوا: "فلان فعل كذا".
ولو كان الأهم عندهم الفعل قدموه فقالوا: "فعل كذا وكذا فلان"، ولعل هذا هو المقتضى لقوله تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} وفي يس: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} إذ الأهم في الأولى الإخبار بمجيء الرجل ناصحا لموسى، والأهم في الثانية: الإخبار بمجيئه من أقصى المدينة؛ مبالغة في الإخبار باجتهاده في الدعاء إلى الله تعالى، ونصيحة قومه وعتوهم عليه وعصيانهم له، وتقديم الأهم حيث كان أوقع في النفس.
وهاهنا أبحاث:
البحث الأول في صور التقديم والتأخير: فمنها: تقديم المفعول: نحو: اللهَ أحمد، وزيدًا ضربت، و{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قدم ضمير المعبود للاختصاص،
[الإكسير في علم التفسير: 189]
وكذلك {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} قدم المفعول، وهو "مما رزقناهم" لئلا يتوهم بتقدير تأخيره جواز الإنفاق مما ليس بمملوك لهم.
لا يقال: أي حاجة إلى هذا الاحتراز مع اتفاق العقل، وقواعد الشرع، على المنع من التصرف في غير الملك؟
لأنا نقول: الكلام ينبغي أن يكون مفيدا بليغا لذاته، لا بالنظر إلى دليل خارج، فنحن استفدنا هذا المعنى من هذا اللفظ، والأدلة الخارجة عنه مؤكدات له.
ونعني بالاختصاص: اختصاص المفعول بالفعل المتعقب له، وتقريره: أنك لو قدمت الفعل في "زيدًا ضربت" مثلا، فقلت: "ضربت" لبقي السامع مترددا في عين المفعول، لا يعلمها حتى تفرغ من التلفظ بالفعل، ثم تصرح به، ولكنت مخيرا قبل تمام التلفظ بالفعل في إيقاعه على من شئت.
وإذا قدمت المفعول، علم السامع عينه بمجرد ذكره قبل ذكر الفعل، وامتنع اختيارك في الإيقاع إلاّ عليه، لتعين الفعل له بتقديمه، وهذا هو المراد بالاختصاص.
فإن قلت: هذا تدقيق لا طائل تحته من وجهين:
أحدهما: أن الفعل متصل بالمفعول عادة، وزمن التلفظ بهما يسير جدا لا يتسع لتردد السامع، وإن اتسع له، فإنه يزول سريعا بذكر المفعول على الفور.
الثاني: أن الزمن المذكور لا يتسع لتحير المتكلم في الإيقاع على من شاء، ولأن اللفظ ترجمان المعنى النفساني، ومحال أن يتصور المتكلم في نفسه معنى "ضربت زيدا" ثم يعدل في اللفظ إلى "ضربت عمرا أو غيره.
قلت: الجواب عن الأول: إن حصول التردد للسامع في المفعول بتقدير تقديم الفعل مما لا يراعَ فيه؛ إذ هو مدرك حسّا، ولا شك في أن عدم هذا التردد أولى من وجوده، وإن قلّ زمنه، وإلاّ لاختلّت بلاغة الكلام كما سبق قوله. وإن اتسع له فإنه يزول على الفور بذكر المفعول ضعيف؛ إذ قد يعترض بين الفعل والمفعول كلام كثير، فيطول زمن التردد، أو يعرض للمتكلم ما يمنعه عن ذكره من عطاس، أو سعال، أو
[الإكسير في علم التفسير: 190]
شكاة، أو سبات، أو مرض، أو غير ذلك يمنعه من ذكره فيدوم التردد، وتختل لدوامه بلاغة الكلام المطلوب.
والجواب عن الثاني: أن عدم اتساع الزمن لتخيير المتكلم ممنوع؛ لجواز الاعتراض أو سرعة الخاطر المقتضي للاعتراض، وكون اللفظ ترجمان المعنى النفسي مسلم، لكن لم قلت إن العدول عن ذلك المعنى المتصور في النفس إلى غيره محال، وظاهر أنه ليس كذلك؛ لجواز أن يقوم بنفسه معنى يريد الإخبار به على فقه، فيخطر له أن عليه فيه ضررا فيعدل إلى غيره مما لا يرى أن عليه فيه ضررا. مثاله: لو دخل رجل دار قوم، فأخذ درّة، ثم خرج، فسألوه، ما أخذت من دارنا؟ فعزم على أن يصدق، ويقول: أخذت درة، فخطر له قبل تمام لفظة "أخذت" أنه إن أعرف بأخذ الدرة، ربما توجه عليه القطع، فعدل إلى الاعتراف مما لا قطع فيه، فقال: أخذت بيضة، أو خبلا، أو إبرة، أو درهمين، أو ثمن دينار، ونحو ذلك. ومن نظر إلى اصطلاح العرب بعين التحقيق، علم أن لهم فهما أبلغ من هذا التدقيق، ولهذا قال بعض العلماء: يشترط لصحة الاستثناء أن تَنْوِيَه قبل تكميل المستثنى منه، وكذلك سائر التوابع كالشرط الملحق، والعطف المعتبر ونحوه، يشترط نيته قبل تكميل متبرعه.
ولقائل أن يقول: كما أن تقديم المفعول يفيد اختصاصه، والمنع من العدول عنه بتأخيره، كذلك الفعل، فإنه يجوز أن يعدل عن "ضربت زيدا" إلى "ضربت عمرا"، كذلك يجوز أن يعدل عن "زيدا ضربت" إلى "زيدا أكرمت". وهذا يحتاج إلى جواب واضح في هذا المكان، لأنه قاعدة كلية في الباب، وقد يستشكله بعض ذوي الألباب والله أعلم.
ومنها: تقديم خبر المبتدأ عليه، نحو: "قائم زيد" إذا كان الأهم الإخبار بقيامه، فلو قيل: "زيد قائم" لحصل التردد للسامع ما لم يسمع لفظ قائم فيما يخبر به عن زيد، هل هو جالس أو قاعد أو غير ذلك، وكان المتكلم بالخيار فيما يخبر به من ذلك، ويعدل إليه كما تقدم في "ضربت زيدا" ومن هذا قوله تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللَّهِ} ففي تقديم الخبر: وهو مانعتهم إخبار بأمرين مهميْن:
[الإكسير في علم التفسير: 191]
أحدهما: كمال قدرة الله تعالى على خلقه، بحيث لا عاصم من أمره إلاّ من رحم؛ لأن هؤلاء اعتقدوا حصانة حصونهم، ووثقوا بمنعها إياهم، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا فلم يعتصموا.
الثاني: جهلهم، وقلة عقولهم؛ حيث لم يحتاطوا لأنفسهم، ويتحصنوا بطاعة الله ورسوله، التي هي أمنع الحصون، ولو قدم المبتدأ، لما أفاد الكلام هذا المعنى، أو أفاده إفادة ضعيفة.
ومنها تقديم الحال والاستثناء، نحو: جاء راكبا زيد، وراكبا جاء زيد، وما جاءني إلاّ زيدًا أحد، وهو كضرب من الاختصاص، إذ لو أخر، يحصل التردد والاختيار المذكوران بين جاء زيد راكبا، أو ماشيا، أو ضاحكا، وغيره من الأحوال، وما جاءني أحد إلاّ زيد، أو عمرو، أو بشر، وقياس ما ذكرنا: أن تقديم الحال على الفعل، وما قام مقامه حيث يجوز، أبلغ أنواع التقديم في باب الحال.
ومنها تقديم الجار والمجرور، وله صورتان:
إحداهما: أن يكون في كلام مثبت، وفائدته اختصاص لمجرور دون غيره بإسناد ما بعده من معنى الكلام إليه، كقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} دل على اختصاص ضرر الكفر بمن كفر، لا بغيره، ولو قال: "فكفره عليه"؛ لاحتمل قبل ذكر الجار والمجرور التردد المذكور. وكقوله تعالى: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أفاد اختصاصه بالملك والحمد مبادهة، بخلاف الملك والحمد له، وأفاد أنه قادر على كل مقدور، بخلافه "وهو قدير على كل شيء" إذ يحتمل قبل ذكر لفظ العموم أنه قدير على بعض الأشياء فقط. وكقوله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} إذ يحتمل التردد المذكور قبل ذكر المجرور.
[الإكسير في علم التفسير: 192]
الصورة الثانية: أن يكون في كلام منفي، فيجوز تأخيره، نحو: "لا ريب فيه" وتقديمه نحو: {لا فِيهَا غَوْلٌ}.
قال ابن الأثير: والفرق بينهما: أن تأخيره يفيد نفيا مطلقا من غير تفضيل كما اقتضى نفي الريب والشك عن الكتاب في صورته، وتقديمه يفيد: تفضيل الشيء عنه على غيره، كتفضيل خمر الآخرة على خمر الدنيا في صورتها، ومثله قولنا: "لا عيب في الدار، ولا فيها عيب" فالأول يقتضي نفي العيب عنها، وخلوصها منه، والثاني يقتضي تفضيلها على غيرها من الدور، وأن ليس فيها ما في غيرها من العيوب، هذا حاصل كلامه.
وعندي في هذا الفرق نظر: فإن اللفظ لا يدل عليه مطابقة، ولا تضمنا، ولا التزاما، وإنما بنى هو ذلك على مقدمة نقلية سمعها، وهي: أن خمر الآخرة ليس فيها من إفساد العقل ما في خمر الدنيا، فيجعلها فرقا هاهنا من غير ربط عقلي.
والذي عندي في هذا: أن الجملة المتضمنة للجار والمجرور مشتملة على مستقر واستقرار، فحيث تأخر الجار والمجرور أفاد نفي المستقر المظروف كقوله تعالى: {لا ريب فيه} فإن الريب هو المستقر في الكتاب على زعم الكفار، فأولاه حرف النفي فنفاه، وحيث تقدم أفاد: نفي الاستقرار، كقوله: {لا فيها غول} فإن "فيها" متعلقا بمعنى الاستقرار، كما عرف في النفي، فأولاه حرف السلب فنفاه، فالأول سلب القار، والثاني سلب الاستقرار.
فإن قلت: القارّ والاستقرار متلازمان فسلب أحدهما يستلزم سلب الآخر.
قلت: نعم، لكن والكلام في جهة السلب بالقصد لا بالعرض، فتأمل هذا. والخلاف في مثل هذه العبارات راجع إلى اختلاف يرجع إلى المتخاطبين في عبارة أو
[الإكسير في علم التفسير: 193]
قصد، فكأن الكفار حين جاءهم القرآن، قالوا: إنه ليعترينا ريب فيه، فقال: "لا ريب فيه" سلبا مطابقا لإيجابهم في تقديم الريب وكأن الناس لما سمعوا {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ}، قالوا: إن الله تعالى يعدنا في الآخرة بخمر، أفترى فيها غول، كخمر الدنيا؟ فأجابهم طبق كلامهم في تأخير القول، فقال: {لا فيها غول}.
ويجوز أن توجه الفرق على ما ذكره، حيث قالوا: ينبغي تطابق السؤال والجواب، "ولا ريب فيه"، تقديره: لا من ريب فيه، جوابا، كقول قائل: "هل من ريب فيه؟" فحذفت من، وركبت لا مع المجرور، فنفى الجواب مطابقا للسؤال في تقديم الريب، وهذا أحسن من الأول.
ووجه التطابق في "لا فيها غول" ما سبق، فهذا الذي قبّح الله به في هذا الفرق، وللناظر فيه الخيار بحسب قوته ومادته، والله أعلم.
ومنها التقديم والتأخير في النفي.
وضابطه أن المنفي ما ولي حرف النفي.
فإذا قلت: "ما ضربت زيدا" كنت نافيا للفعل الذي هو ضربك إياه.
وإذا قلت: "ما أنا ضربته" كنت نافيا لفاعليتك الضرب.
فإن قلت: الصورتان دلّتا على نفي الضرب عنه، فما الفرق؟
قلت: الفرق من وجهين:
أحدهما: أن الأولى تضمنت نفي ضرب خاص عنه، وهو ضربك إياه، ولم يدل على وقوع ضرب غيرك ولا عدمه، إذ نفي الأخص لا يدل على نفي الأعم ولا ثبوته.
والثانية: نفت كونك ضربته، ودلت على أن غيرك ضربه من جهة دليل الخطاب.
الثاني: أن الصورة الأولى دلت على نفي ضربك له بغير واسطة، والثانية دلت على نفيه بواسطة نفي فاعليتك.
[الإكسير في علم التفسير: 194]
والكلام في المستقبل كالماضي نحو: "ما أضرب زيدا، أو ما أنا أضرب زيدا، وما أنا ضارب زيدا" وأما إذا كان الكلام عاما، فإن تقدم حرف النفي أداة العموم سمي: سلب العموم، وإن تأخر عنها، سمي: عموم السلب. مثال الأول "ما كل كذا فعلته" فقد سلبت عموم فعلك لكذا، وهذا لا يناقضه إثبات الخاص نحو: "بل فعلت بعضه".
ومثال الثاني: كل كذا ما فعلته" فقد عممت سلب فعلك له، فيناقضه إثبات الخاص، نحو: بل فعلت بعضه، وهو تناقض، كقولك "كل العلم لم أعلم منه شيئا" أو لم أعلمه، بل علمت بعضه، وقول أبي النجم:
قد أصبحت أم الخيار تدّعي = عليّ ذنبا كلّه لم أصنع
يوضح ذلك بأنك إن نصبت (كلّه) اقتضى سلب عموم صنيع الذنب، أي: فعلت بعضه، لا كله؛ لوقوع كلّ مفعولا، وعدم الابتداء في التقدير، وإن رفعته، اقتضى عموم سلب صنيع الذنب، أي: أني لم أصنع منه شيئا، لوقوع (كل) مبتدأ؛ إذ شأن حرف السلب، سلب ما بعده عما قبله، أو سلب ما قبله عما بعده.
ومنها: إنما، والكلام فيها في أمرين.
أحدهما: أنها تقتضي الحصر عند الأكثرين، وخالف قوم:
احتج الأولون بفهم ابن عباس في انحصار الربا في النسيئة من قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الربا في النسيئة)) وبأن المفهوم لغة من "إنما في الدار زيد" أن ليس فيها سواه وبأن إنّ للإثبات ولا للنفي، فاقتضيا مجتمعين ما اقتضيا منفردين، وليس مقتضى ذلك نفي المذكور، وإثبات ما عداه إجماعا، فتعين عكسه، وهو المراد بالحصر.
وأجيب عن الأول: بأن ابن عباس فهم الحصر من استصحاب النفي الأصلي، لا من "إنما" ولو لم يكن إلا احتمال ذلك، لقدح في الدعوى.
[الإكسير في علم التفسير: 195]
وعن الثاني: أن ذلك لقرينة، والكلام مع تجردها عنها.
وعن الثالث: بأنا لا نسلم أن "ما" الكافة لإن، هي النافية؛ إذ أقسام "ما" كثيرة، فتخصيص النافية منها بهذا المكان تحكم. ثم إن "ما" هذه هي الكافة، لأخوات إن وهي: "كأن وليت ولعل ولكن" في قولنا: "كأنما زيد أسد" "ولكنما عمرو قائم" ولو جُعلت فيهن نافية، لفسد المعنى، سلمناه، لكن لا نسلم اقتضاءهما مركبين ما اقتضياه مفردين، بدليل "لولا"، فإن تركيبها أزال مقتضى مفرديها، فعلى هذا هي: لإثبات المذكور إثباتا مؤكدا فقط.
الثاني: معنى الحصر فيها على القول به: إنها إن وليتها جملة اسمية اقتضت انحصار المبتدأ في الخبر، نحو: "إنما زيد قائم" فزيد منحصر في كيفية القيام، وليس على كيفية سواه.
وإن وليت جملة فعلية، اقتضت انحصار الفعل في الفاعل، نحو: "إنما قام زيد" فالقيام منحصر في زيد، أي: لم يقم غيره، ومن أمثلتها: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} فالمؤمنون منحصرون في الأخوة، بمعنى: أنه لا عداوة بينهم في وضع الشرع أصلا.
{قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} اقتضى انحصار ذاته في الإلهية والوحدانية بمعنى: أنه لم يجب وجوده إلا لأنه إله واحد، لا للحوق تعدد ولا لغير الإلهية، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ} اقتضى حصره صلى الله عليه وسلم في البشرية، بمعنى: أنه ليس ملكا، ولا جنا، ولا شيئا من غير نوع البشر.
وإنما العزة للكاثر
[الإكسير في علم التفسير: 196]
اقتضى حصر العزة في الكاثر بالرجال والأهل، أي: لا عزة لمن لا رهط له، أو لمن قل رهطه، وعلى هذا فقس، فإنه مطرد.
فإن قلت: لم يطّرد في نحو: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية، ونحو: ((إنما الأعمال بالنيّات)) و((إنما الربا في النسيئة)) لثبوته في التفاضل.
قلت: أما الآية، فالمراد بها: إنما المؤمنون الكاملون بالإيمان، فيستقيم الحصر إذن.
وأما الثانية: فليس عدم الاطراد فيها راجعا إلى اقتضاء "إنما" الحصر، لا عدمه، بل إلى تخصيص عموم الواقع بعدها بتخصيص ما.
واعلم أن خبر الجملة الاسمية الواقعة بعد "إنما" إذا كان جارا ومجرورا متعلقا بالخبر الحقيقي محذوفا، فيختلف في الحكم؛ للاختلاف في تقديره، كهذه الصورة، إذ بعضهم يجعل تقدير "إنما الأعمال" صحيحة بالنيات، وبعضهم كاملة بالنيات، فيكون الخلاف على القول بالحصر في جهته لا في حقيقته، فتنبه لهذا.
ومنها التقديم والتأخير في الاستفهام.
وحكمه ما سبق في النفي: وهو أن الواقع بعد حرف الاستفهام إن كان الفعل فهو المستفهم عنه، المشكوك في وجوده نحو: "أؤكب الأمير"؟ فالمركوب هو المشكوك فيه، وإن كان الاسم فالسؤال عنه والشك في تعيين الفاعل وكذا الكلام في المستقبل واسم الفاعل نحو: "أتفعل هذا؟" و"أأنت تفعل هذا؟" و"أضارب أنت زيدا؟" و"أأنت ضارب زيدا؟".
ثم إن للاستفهام معاني:
أحدهما: الاستعلام، وهو الأصل كما سبق.
الثاني: التأسيس، نحو: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} لأنه تعالى لم يكن مستفهما، ولا منكرا عليه، ولكنه رآه خائفا، فآنسه وحقق عنده أنّ ما في يده عصا؛ ليتحقق حصول المعجز عند قلبها حية، وبهذا المعنى قد سمي استفهام التقرير.
[الإكسير في علم التفسير: 197]
الثالث: الإنكار، وله أنواع خاصة.
أحدها: استضعاف الفاعل، كقولك لرجل همّ بمبارزة من هو أشد منه، وأنت تستضعفه عن ذلك "أأنت تقتل الأسد؟" ومنه قوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} أي أنت تضعف عن مغالبة مشيئة الله، فلا تقدر على ذلك.
الثاني: استبعاد الفعل؛ لاستضعاف الفاعل، أو غيره، نحو: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ}.
وقول امرئ القيس:
أيقتلني والمشرفّي مضاجعي = ومسنونة زرق كأنياب أغوال؟
أي هذا بعيد.
الثالث: نحو "أنا أسعى إلى زيد؟" احتقارا له.
الرابع: التعظيم، نحو: "أزيد العامّيّ يقتل الأمير؟" أو "يشتم القاضي؟" و"أعقرب تقتل أفعى؟" و"أثعلب يفترس أسدا؟" و"أجهني يشتم هاشميا؟" وهذه الصور ونحوها تضمنت الاحتقار من طرف الفاعل، والتعظيم من جهة المفعول، والتي قبلها بالعكس.
الخامس: التشريف، كقولك لرجل وقور: "أمثلك يفسد؟" أي أنت أشرف من هذا.
[الإكسير في علم التفسير: 198]
السادس: تجهيل الفاعل والطعن على رأيه، كقوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} أي: إني إذا الضعيف الرأي. {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونَنِي أَعْبُدُ} {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنْ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا}؟ أي: إنكم أيها الكافرون سفهاء في أمركم إياي، وفي حسبانكم هذا، بدليل قوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا} وجّه الإنكار إليهم على طعنهم الفاسد.
السابع: التكذيب على جهة الاحتجاج، نحو: {أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ}؟ بدليل قوله تعالى: {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} وإلاّ فأنتم كاذبون، ونحوه: {أَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} وتمام تقدير الحجة، فإن ادّعيتم أن الله أذن لكم، وهو لم يكذبكم بإنكار الإذن، وإن اعترفتم أنكم تفترون على الله، فذلك أعظم الخطأ.
الثامن: الإشارة إلى اضطراب الرأيين، والتردد بين الأمرين، نحو: أتميميّا مرّة؟ وقيسيّا أخرى؟ أي: أتكون كالشاة العابرة بين الغنمين؟.
التاسع: الإشارة إلى اجتماع الغبن من جهتين، نحو "أحشفا وسوء كيلة؟" "أغدّة كغدّة البعير؟" و"موت في بيت سلولية"، وكقول الحريري حكاية عن القاضي "أأغرم في يوم مغرمين؟" و"من أين ومن أين؟".
[الإكسير في علم التفسير: 199]
العاشر: الإشارة إلى تقبيح الفعل في غير مظنته تحميقا لفاعله، كقول الراجز:
أطربا وأنت قنسريّ
و الدهر بالإنسان دواريّ
أفنى القرون وهو قعسريّ
وقول الشاعر:
كم قلت للنفس الملومة أقصري = شيب وعيث كيف يجتمعان؟
ولنقتصر من أنواعه على هذا، فإن فيها كثرة.
البحث الثاني: في أقسام التقديم والتأخير، وهي بحسب الاستقراء عشرة:
الأول: تقديم الكل على جزئياته نحو: "خلق الله الإنسان وبعث منه الأنبياء".
الثاني: تقديم الدليل على المدلول، كقولهم: "البعرة تدل على البعير" إذ المدلول تابع للدليل، من حيث الاستدلال، وإن كان متبوعا له من حيث الوجود.
الثالث: تقديم المتبوعات كالموصوف، والمبدل منه، والمؤكد، والمعطوف عليه، على توابعها لعدم استقلالها بدونها.
الرابع: تقديم الناقص، كالموصول، على تمامه، إذ التتمة فرع الأصل.
الخامس: تقديم الفاعل على المفعولات؛ لأنها آثار، وهو مؤثر، ولقائل أن يقول الأثر دليل المؤثر، وقد قدمتم في القسم الثاني أنه ينبغي تقديم الدليل، وهذا تناقض؟ ويمكن الجواب: بأن تقديم الدليل من حيث الاستدلال، لا من حيث الوجود والتحقيق، ومع اختلاف جهة التقديمين فلا تناقض.
السادس: تقديم الظاهر على ضميره، نحو: "ضرب زيد غلامه" إذ الضمير تابع له؛ لعدم استقلاله بدونه.
[الإكسير في علم التفسير: 200]
السابع: تقديم ما له صدر الكلام، كأدوات الاستفهام والنفي والنهي، والحروف والأفعال الدالة على أحوال النسبة بين أجزاء الكلام، كإنّ، وكأنّ وأخواتهما، وعسى ونعم وبابها؛ لأن معانيها هي المقصود المهم من جملها التي دخلت عليها.
الثامن: تقديم الأعرف، كالمبتدأ أو الموصوف، على الخبر والصفة، لتعجيل الفائدة.
التاسع: تقديم ما تقديمه أليق بسياق الكلام وانتظام مباديه وفواصله، كتقديم المفعول في نحو: {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ} لأجل الفاصلة، وفي نحو: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ} للاختصاص مبالغة في الوعيد، ونحو: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى}.
العاشر: تقديم ما الحاجة إلى ذكره أتم، والعلم به أهم، نحو: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} إذ مقصوده التوبيخ، وتقديم الشركاء أبلغ في حصوله، والله أعلم.
البحث الثالث: التقديم والتأخير، إما لفائدة معتبرة من الفوائد المتقدمة، أو لا.
فإن كان لتلك الفائدة، فإمّا أن تبقى معه طلاوة الكلام وبلاغته، أو لا. فإن بقيت، فهو الجيد، وإن لم تبق، فهو المتوسط.
وإن كان لا للفائدة المذكورة، فإن كان لضرورة نظم ونحوه، فهو رديء، وإلا، فهو عيب لاغ.
فمن الرديء قول الفرزدق:
[الإكسير في علم التفسير: 201]
وما مثله في الناس إلاّ مملّكا = أبو أمه حيّ أبوه يقاربه
نظمه الأصلي، وما مثله في الناس حي يقاربه إلاّ مملكا أبو أمه أبوه، وحاصل معناه: وما مثله في الناس إلاّ خاله.
وقوله:
وليست خراسان التي كان خالد = بها أسد إذ كان سيفا أميرها
يمدح خالدا، ويهجو أسدا بسوء سياسته، كما تقول: فما هي بالأرض التي كنت أعرف.
وقوله:
إلى ملك ما أمه من محارب = أبوه ولا كانت كليب تصاهره
أي: إلى ملك أبوه ما أمه، أي: أم أبيه محارب.
ومنه قول ذي الرمّة:
فأصبحت بعد خطّ بهجتها = كأن قفرا رسومها قلما
أي: فأصبحت بعد بهجتها قفرا كأن قلما خط رسومها.
ومنه قول بعضهم، ذكره ابن الأنباري في غريب الحديث وابن أسد في الألغاز:
[الإكسير في علم التفسير: 202]
لها مقلتا حوراء طلّ خميلة = من الوحش ما تنفك ترعى عرارها
أي لها مقلتا حوراء من الوحش ما تنفكّ ترعى خميلة طل عرارها.
ومنه قول الآخر:
ملوك يبتنون توارثوها = سرادقها المقاود والقبابا
أي: "يبتنون المقاود، والقباب توارثوها سرادقها" كذا ذكره ابن الأثير تقديره، فهذا أو أمثاله، إن كان عن ضرورة، فهو رديء، وإن كان عن تعمد -وهو ظاهر حال الفرزدق فيما قيل؛ لإكثاره منه جدا -فهو رديء الرديء، والله أعلم.
الصنف السادس: الاعتراض، وهو وقوع الكلام الأجنبي بين جزأي الجملة المرتبط أحدهما بالآخر، وهو افتعال من عرض له يعرض، إذا وقف في طريقه، فكأن اللفظ الأجنبي يقف في طريق الجزء الثاني من جزأي الجملة فيمنعه من الاتصال بالجزء الأول لفظا.
والنظر فيه باعتبارين:
أحدهما: الجواز وعدمه، وهذا إلى صناعة النحو؛ فإن أهلها بيّنوا أنواعه، كالاعتراض بين القسم وجوابه، وبين الصفة والموصوف، والمعطوف عليه والمعطوف.
والثاني: كونه جيدا ورديئا.
فالجيد: ما دخل الكلام لفائدة معنوية، ولم يخلّ بطلاوته اللفظية، وفائدته: ضرب من التوكيد. ومن أمثلته قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ
[الإكسير في علم التفسير: 203]
مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ}. فقوله: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه، وفائدته: تأكيد الإخبار بعلمه تعالى، وأنه لا يخفى عليه من أمرهم شيء، وأن تدارؤهم لم ينفعهم، ونظم الكلام: {فادّارَأتم فيها فقُلنا اضرِبوه}.
ومنها قوله تعالى: {ووصّينا الإنسانَ بِوالِدَيْه} إلى قوله: {أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} اعتراض، وفائدته: تأكيد حق الوالدين بذكر تعبهما وما عانياه في تربيته. ونظمه الأصلي: {ووصينا الإنسان بوالديه أن اشكر} ولا شك أن السنة وردت بتأكيد حق الأم على حق الأب؛ لزيادة مشقتها في حمله ووضعه وتربيته، وفي الآية دليل على ذلك: من جهة أنه ذكرهما بلفظ الوالدين، المشتق من الولادة التي هي حقيقة في الأم عرفا، بل وضعا، مجاز في الأب، فالأب فيها تابع للأم، دخيل عليها فيها، فدل على تأكد حقها عليه في البر كتأكد المتبوع على التابع.
ومنها قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ}. فهذان اعتراضان، أحدهما داخل على الآخر:
الأول: وإنه لقسم، اعترض بين القسم وجوابه.
الثاني: لو تعلمون، اعترض بين الموصوف: وهو قسم، وصفته: وهي عظيم، ونظم الكلام الأصلي: فلا أقسم بمواقع النجوم إنه لقرآن كريم، وإنه لقسم عظيم لو تعلمون.
وفائدته: تأكيد تعظيم المقسم به في نفوس السامعين، وتجهيل الكفار منهم.
ومنه ما روى ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من سمع المنادي فلم يمنعه من
[الإكسير في علم التفسير: 204]
اتباعه عذر)) -قالوا: وما العذر؟ قال: ((خوف أو مرض- لم تقبل منه الصلاة التي صلى)).
ومنه في الشعر قول امرئ القيس:
ألا هل أتاها والحوادث جمة = بأن امرأ القيس بن تملك بيقرا
فقوله: "والحوادث جمة" اعتراض بين الفعل والفاعل. وفائدته: تأكيد ما هو فيه من المشقة والمساءة؛ لأجل الفرقة، أي: لا تستغربي ما أنا فيه من ذلك، فإن الخطوب كثيرة مطردة، والمطرد لا يستغرب.
وقوله أيضا على لسانها:
أجدّك لو شيء أتانا رسوله = سواك ولكن لم نجد لك مدفعا
إذن لرددناه، ونظمه سواك لرددناه.
والثاني: اعتراض بين لو وجوابها. وفائدته: تأكيد الإخبار بعظم قدره ومحله عندها، وأنه ممن يلتزم طاعته، إذ أمره بخلاف غيره، كما قالت الأخرى لخليلها حيث حكى عنها:
فقالت -على اسم الله- أمرك طاعة = وإن كنت قد كلفت ما لم أعوّد
[الإكسير في علم التفسير: 205]
ومنه قول النابغة:
لعمري -وما عمري عليّ بهيّن- = لقد نطقت بطلا عليّ الأقارع
وقول متمم بن نويرة:
لعمري و ما عمري بتأبين هالك = ولا جزع مما أصاب فأوجعا
لقد كفّن المنهال تحت ردائه = فتى غير مبطان العشيات أروعا
وكلاهما اعتراض بين القسم وجوابه، يفيد تأكيد المقسم به.
ومنه قول كثير:
لو أن الباخلين –و أنت منهم- = رأوك تعلموا منك المطال
وقول الآخر:
إن الثمانين -وبلغتها- = قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
والاعتراض في هذين بين اسم إن وخبرها.
وقول المتنبي:
[الإكسير في علم التفسير: 206]
ويحتقر الدنيا احتقار مجرّب = يرى كل ما فيها –وحاشاك- فانيا
وهذا اعتراض بين مفعولي رأيت، وهو من أحسن الاعتراضات.
والرديء: ما أخلّ بطلاوة الكلام ورونقه لغير فائدة.
كقول الشاعر:
فقد والشكّ بيّن لي عناء = بوشك فراقهم صرد يصيح
ونظمه: فقد بيّن لي صرد يصيح بوشك فراقهم، والشك عناء، فقد فصل بين قد والفعل بغير القسم، وهو رديء، وبين الفعل وهو: بيّن وفاعله وهو: صرد، بخبر المبتدأ الذي هو "عناء" وفصل "يصيح" المقدمة عليه "بوشك" وبين المبتدأ، وهو "الشك" وخبره وهو "عناء" بالفعل، وهو "بين"، وكل ذلك غير جيد، لهذا قبح البيت وزال رونقه.
ونحو قول الآخر:
نظرت شخصي مطلع الشمس ظله = إلى الغرب حتى ظله الشمس قد غفل
تقديره "نظرت مطلع الشمس وشخصي ظله إلى الغرب" ففصل بالمبتدأ وهو "شخصي" بين الفعل ومفعوله، وبين المبتدأ وخبره بالمفعول المذكور وهو "مطلع الشمس".
والناظم في هذا أعذر من الناثر؛ لما سبق في اجتناب وحشي الألفاظ.
[الإكسير في علم التفسير: 207]
وبين القسمين قسم متوسط: وهو ما لا فائدة له في الكلام، لكن لا يخل بطلاوته وحسنه، كقول النابغة:
يقول رجال يجهلون خليقتي = لعل زيادا لا أبا لك غافل
وقول زهير بن أبي سلمة:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش = ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
فلا أبا لك اعتراض في الأول بين اسم لعل وخبرها.
وفي الثاني بين الشرط وجوابه.
وذكر ابن الأثير من هذا القسم قول بعضهم:
صدودكم والديار دانية = أهدى لرأسي ومفرقي شيبا
وقال ابن هانئ المغربي:
فلا مهجة في الأرض منك منيعة = ولو قطرت في ريق أرقط أرقم
وقال في الأول: ذكر المفرق بعد الرأس لا فائدة له البتة.
وكذا أرقط مع أرقم في الثاني؛ إذ لا فضل للرقطة على غيرها من الألوان، وهذا الذي ذكره ظاهر في عدم الفائدة غير قاطع؛ إذ يحتمل في الأول: عطف الخاص على العام نحو: {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} إذ
[الإكسير في علم التفسير: 208]
غالب ما ينسب إليه الشيب: المفرق، ولأن دلالة الرأس على جميع أجزائه دلالة عموم، وهي ظنية، فأحب أن ينص على ذكر الجزء المهم، وهو المفرق.
وفي الثاني: يمكن منع أنه لا فضل للرقطة على غيرها من الألوان، بأن الحوايين: وهم أهل الصناعة نصوا على أن تفاوت ألوان الحيات وأخلاقها، يدل على تفاوتها في الخبث والشر، واختلافها، ولهذا يضرب المثل بالحيات "الغبر" التي على لون الأرض، ويشهد لذلك ما ذكره الأطباء: من أن اسوداد الشعر يحدث عن احتراق شديد من حرارة قوته، والأحمر عن حرارة أقل، والأصفر من حرارة دون ما قبلها، والشيب من ضعف الحرارة الغريزية، وإذا كان اختلاف هذه الكيفيات الباطنة يؤثر في اختلاف الأعراض الظاهرة: من سواد وبياض ونحوهما، فليكن اختلاف الأعراض الظاهرة دليلا على اختلاف الكيفيات الباطنة، بطريق دلالة الأثر على المؤثر، وحينئذ لا ينقد مثل ذلك في الحيات، وأن ابن هانئ علم أن للرقطة دلالة على زيادة الخبث، ويؤكد ذلك أمور:
منها أنهم منعوا صرف أفعى، وليس صفة، لكن توهموا فيه معنى الخبث استدلالا على خبثه بصفاته، إما لونه أو سرعة حركته.
ومنها: أنهم أكثروا من ذكر الأسود في أمثالهم وغيرها، ففي الحديث: ((أعوذ بك من شر أسد وأسود، وجن وعفريت)) وفي الشعر:
تساقوا على حرد دماء الأساود
وفيه:
فكنت كالمولج في جحر يدا = فأخطأ الأفعى ولاقى الأسودا
وهو دليل على أنهم استدلوا بسواده على غلبة شره كدلالة سواد الآدمي أو شعره علة حرارة باطنه، والله أعلم.
[الإكسير في علم التفسير: 209]

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الرابع, النوع

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:54 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir