دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم القرآن الكريم > مكتبة التفسير وعلوم القرآن الكريم > جامع علوم القرآن > الإكسير في علم التفسير

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 23 محرم 1432هـ/29-12-2010م, 09:15 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي النوع الخامس: في الإيجاز


النوع الخامس: في الإيجاز
وهو التعبير عن المعنى الكامل بأقل ما يمكن من الحروف.
وقيل: دلالة اللفظ على المعنى من أقرب طرقه.
وهما مستويان:
وهو مصدر أوجز إيجازا، إذا قصر، ومنه قولهم: عظني وأوجز: أي اقتصر.
واعتناء العرب بهذا النوع شديد، بدليل وضعهم ألفاظا استغنوا بواحدها عن ألفاظ كثيرة، بل غير متناهية، كأدوات الاستفهام، والشرط، ونحوهما؛ لأن قولك: "أين زيد؟" يغني عن قولك: "أفي الدار هو أم في المسجد؟" واستقراء جميع الأماكن كلها، "وكم مالك؟" أغنى عن: "أعشرة أم عشرون أم مائة أم ألف" ونحوها من الأعداد غير المتناهية.
وقولك: "من يقم أقم معه" أغنى عن: "إن يقم زيد أو عمرو أو بكر أو فلان أو فلان أقم معه"، و"ما بالدار أحد" أغنى عن: "ما بها زيد ولا عمرو ولا هند ولا دعْد" ونحو ذلك.
ثم ذهبت جماعتنا إلى أن الإيجاز حسن في الأشعار والمكاتبات ومحاورات الخواص، دون الخطب والتقليدات السلطانية، وكتب الفتوح التي تقرأ في ملأ من العوامّ، مراعاة لأفهامهم؛ إذ التطويل أبلغ في حقهم، وأجدر ألا يخفى عليهم من المكتوب شيء وضعف ابن الأثير ذلك: بأن هذا يوجب مراعاة العامة في استعمال كلامهم الركيك، ولفظ لفظهم المبتذل؛ لأنهم آنس به، وآلف له، ولم يقل به أحد، بل على المؤلف سلوك النهج القويم، والطريق المستقيم؛ ليخرج من عهدة
[الإكسير في علم التفسير: 210]
الملازمة، وليس عليه أن يفهم العامة كلامه، كما قال القائل:
عليّ نحت المعاني من معادنها = وما علي بأن لا تفهم البقر
وأحسن ابن الأثير في هذا الاختيار.
ثم الإيجاز، إما على الحذف، أو بدونه:
الأول: الإيجاز على الحذف على ضروب:
الضرب الأول: الاكتفاء بذكر السبب وعكسه:
فالأول؛ كقوله تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنْ الشَّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ} أي: ما شاهدت قصة موسى ولكنّا أوحيناه إليك وحيا يدل على صدقك؛ لمطابقة ما أخبرت به عنه، ما جرى له، فاكتفى عن ذكر الإيحاء بذكر سببه: وهو إنشاء القرون والأمم وتطاول العهد عليهم، لأن ذلك هو سبب الرسالة والوحي.
والثاني: هو الاكتفاء بالمسبب عن السبب، كقوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ} أي: فضرب فانفجرت، فاكتفى بذكر الانفجار الذي هو المسبب عن الضرب الذي هو السبب. ومنه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أي فأفطر فعليه عدّة من أيام أخر، فصيام العدة مسبب عن الإفطار، ومنه: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} أي: إذا أردتم القيام، فالقيام مسبب عن الإرادة.
[الإكسير في علم التفسير: 211]
ومنه: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} أي: إذا أردت القراءة، فالقراءة مسبب عن الإرادة.
وقول من حمله على ظاهره من تعقيب القراءة بالاستعاذة ضعيف؛ إذ المعقول من أمره بالاستعاذة من الشيطان؛ الاعتصام من كيده، وأن يعرض له في قراءته فيخلطها عليه، كما يغلب عليه في صلاته ليقطعها، وكما خلط عليه في سورة النجم، حتى قرأ فيها: "تلك الغرانيق العُلى، إنّ شفاعتهم لترتجى" فإذا أخرها إلى أن يفضي إلى القراءة فأتت تلك الفائدة.
ومنه قوله تعالى: {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا} أي: لا تكن تابعا ضعيفا في دينك، بحيث يؤثر فيك من يصدّك عنها، فاللين في الدين سبب تأثير قول الصاد الذي هو في سبب الانصداد. وهذه أعجب صور هذا الضرب؛ لأنها تضمنت الاكتفاء بالمسبب عن ذكر السبب البعيد بمرتبتين، فتأمله، والله أعلم.
الضرب الثاني: الإضمار
وهو في اللغة: الإخفاء والستر، تشبيها بالسر في الضمير. قال الأعشى حكاية عن ابنته:
أيا أبتا لا ترم عندنا = فإنّا بخير إذا لم ترم
نراك إذا أضمرتك البلا = دُ نجفى وتقطع منّا الرحم
[الإكسير في علم التفسير: 212]
والضمير عند النحاة: ما وضع للدلالة على متكلم أو مخاطب أو غائب، نحو: أنا، وأنت، وهو، سمّي بذلك لخفائه؛ إذ يتوقف معرفة صاحبه على ظاهر نيته.
والمراد الإضمار هنا: حذف جملة من الكلام على شريطة التفسير، أي: بشرط المشيئة والإرادة، نحو: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ}، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى}، {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ}. وأمثال ذلك كثيرة، وتقديره: لو شاء الله أن يفعل ذلك لفعل. ومنه قول البحتري:
لو شئت لم تفسد سماحة حاتم = كرما ولم تهدم مآثر خالد
أي: لو شئت أن لا تفسد هذه، ولا تهدم هذه لفعلت. واطرد حذف هذا المفعول بين أهل هذا الشأن، حتى صاروا يعدون إظهاره عيًا وركاكة في المنطق، إلا في مكان مهم، نحو: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ}.
وقول الشاعر:
ولو شئت أن أبكي دما لبكيته = عليه، ولكن ساحة الصبر أوسع
[الإكسير في علم التفسير: 213]
كأن الله تعالى أراد رد قول الكفار: "اتخذ الله ولدا" بما يطابقه في اللفظ؛ ليكون أبلغ في الرد.
والشاعر أراد التصريح ببكائه الدم على تقدير إرادته له؛ مبالغة في حكاية وجده وحزنه، وفي مثل هذا: الإظهار خير من الإضمار، بل هو واجب؛ لأنه لو حذف لم يكن في الكلام دليل على خصوصيته.
ومنه حذف المعلول، كقوله تعالى: {وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ}. وفي قصة مريم: {كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} أي: فعلنا ما فعلناه من إحياء العزير، وإحياء حماره، وخلق عيسى من غير أب؛ لنجعلهما آية للناس، فالعلة مذكورة، والمعلول مضمر.
ومنه حذف أحد القسمين اللذين يقتضيهما الكلام، كقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُفْلِحِينَ}. ولم يذكر القسم الآخر الذي تقتضيه أما، إذا وضعها لتفضيل كلام مجمل.
وأقل أقسامها قسمان، ولا ينفك عنهما في جميع القرآن إلا في هذا الموضع، وموضع آخر سيأتي ذكره؛ وتقدير قسمها الثاني في هذا المكان: «وأما مَن لم يتب ولم يؤمن ولم يعملْ صالحًا، فلا يكون من المفلحين». ولكنه لما استفيد من القسم الأول بدليل الخطاب أضمر.
والموضع الثاني: في آل عمران، وهو قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} إلى قوله: {إِلاَّ اللَّهُ}، فهذا أحد القسمين، والقسم الثاني ما بعده وتقديره: "وأما الراسخون في العلم فيقولون آمنَّا به" لكن لما كان
[الإكسير في علم التفسير: 214]
القسم الأول يدل على هذا القسم من حيث أن (أما) تقتضي قسمين، وحيث إن ذكر أحدهما تعين تقدير الثاني على نهجه كما ذكرناه، حذفت (أما) من صدره لدلالتها في صدر القسم الأول عليها هاهنا، ثم حذفت الفاء من جوابها تبعًا لها.
ومنه قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} أي: ومن أنفق بعده، فحذف هذا القسم؛ لدلالة قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا}.
ومنه حذف خبر المبتدأ، كقوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} أي: أهذا اخترام من جعل صدره ضيقا حرجا، فقسا قلبه؟، أو أهذا المشروح الصدر كمن أقسى الله قلبه فحدث ذلك؟ بدليل قوله: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ}.
وقد يظهر الخبر، وهو الأصل، نحو: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، والله أعلم.
الضرب الثالث: حذف المفعول به
إما لعدم تعلق غرض المتكلم به، بل مجرد نسبة الفعل إلى الفاعل، كقوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ} أي مواشيهم، لكن لم يذكرها؛ لأنها ليست مقصودة في الإخبار، بل المقصود تبيين الفعل الذي صادفهم موسى عليه، وكذلك قوله: {تذودان} أي: مواشيهما، {قالتا لا نسقي} أي مواشينا.
[الإكسير في علم التفسير: 215]
ومن قرأ "يُصدر" بضم الياء، فالمواشي فيه مفعول محذوف.
وإما لقصد إثبات الفعل للمخبر عنه مطلقًا من غير تخصيص بمفعول دون مفعول، كقولك: "فلان يضع ويرفع، ويضر وينفع، وينقض ويبرم، ويبني ويهدم" أي له جنس هذه المصادر في الناس لا يختص ببعضها زيد دون عمرو. ومنه قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} أي: لا يقع ضحك ولا بكاء ولا إماتة ولا إحياء إلا وهو فاعله.
فإن قلت: فلم ذكر المفعولين في قوله: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى}.
قلت: لأن المراد جنس الزوجين فكأنه قال: "خلق كلّ ذكر وكلّ أنثى" فكان ذكره هنا أبلغ؛ لكونه دلّ على عموم ثبوت الخلق له بالتصريح، ولأنه في سياق تعظيم نفسه، وإظهار قدرته، وهي في خلق الذكر والأنثى من نطفة، فإعادتهما بعد الفناء أبلغ.
ومنه قول البحراني:
وارفع وضع واعتزم وانفع وضر وصل = واقطع وقم وانتقم واصفح وخذ وهب
أي: إنك قادر على فعل أجناس هذه المصادر مطلقًا، وإما لغير ذلك من الأغراض، ولو سمّي هذا الضرب بالإضمار الالتزامي، والذي قبله باللفظي -أي: هذا يُستدل على حذف فيه بالالتزام، وذاك بما في سياقه من الألفاظ- وجعل الإضمار منقسما إلى هذين القسمين، لكان جيدا.
[الإكسير في علم التفسير: 216]
الضرب الرابع: حذف الفعل وجوابه
إما حدث الفعل، وهو إما قول أو غيره.
فالقول نحو قوله تعالى: {فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم}؟، أي: فيقال لهم: أكفرتم.
{ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق}، أي: ويقولون لهم ذوقوا عذاب الحريق.
{ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم}، أي: ويقال لهم: هل تجزون.
{ووصينا الإنسان بوالديه}، إلى {وإن جاهداك}، أي وقلنا له: إن جاهداك على أن تشرك، أي: فلا تقطعهما.
وغير القول: نوعان:
أحدهما: حذفه لا إلى بدل: نحو {لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى قال يا هارون ما منعك}، أي: فلما رجع ورأى عكوفهم على عبادة العجل، قال: يا هارون
الثاني: حذفه إلى بدل، وهو لمصدر، ويسمى إقامة المصدر مقام الفعل،
[الإكسير في علم التفسير: 217]
نحو: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب}، أي: فاضربوا الرقاب ضربًا، كما قال: {فاضربوا فوق الأعناق}.
وأما حذف جواب الفعل، فنحو قوله تعالى: {فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم}، أي: فذهبا إليهم، فكذبوهما، فاستحقوا التدمير، فدمرناهم تدميرًا.
ولحذفه هنا توجيهان:
أحدهما: أن طرفي القصة: وهما الذهاب والتدمير دلا على واسطتها، وهي: الكفر والتكذيب.
الثاني: أن ذكر التكذيب لم يكن مقصودًا هنا، وإنما المقصود: الطرفان المذكوران، وبيانه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما شكا قومه بقوله: {إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورًا}، ذكر الله تعالى له إهلاك القرون الخالية لتكذيبهم رسلهم، تسلية له وتأسيًا بهم، وطبيبًا لقلبه بالوعد بإهلاك من كذبه كما أهلك من كذب قبله، ولهذا سرد الأمم هاهنا باختصار، مقتصرًا على ذكر الإهلاك من غير إطالة بحكايات تكذيبهم، فقال: {وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم}، الآية، {وعادًا وثمود وأصحاب الرس وقرونًا بين ذلك كثيرًا}.
وكقوله تعالى: {أرسله معنا غدًا يرتع ويلعب} إلى قوله: {فلما ذهبوا به}، أي: فأرسله معهم، فلما ذهبوا به.
[الإكسير في علم التفسير: 218]
وقوله: {أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون يوسف}، أي: فأرسلوه، فلما جاءه، قال: {يوسف أيها الصديق أفتنا}.
وكذا قوله للرسول: {ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم قال ما خطبكن}، أي: فرجع الرسول إلى الملك برسالة يوسف، فاستحضر النسوة، فقال لهن: ما خطبكن؟، ونظائره كثيرة.

الضرب الخامس: حذف المضاف والمضاف إليه، وإقامة كل منهما مقام الآخر
مثال الأول: {ولكن البر من اتقى}، أي: بر من اتقى، ويجوز أن يكون تقديره: ولكن ذا البر من اتقى والأول أولى لأنه المطابق لصدر الآية إذ تقديرها: إذن ليس البر التولية، ولكن البر التقوى؛ ولأن حذف المضاف اتساع، والخبر أولى به من المبتدأ، إذ حذف الأعجاز أولى من حذف الصدور في الكلام.
{واسأل القرية}، أي: أهل القرية.
{حتى إذا فتحت يأجوج}، أي: طريق يأجوج.
وقد تحذف متعددًا: نجو {فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها}، أي: من تراب أثر حافر فرس الرسول.
مثال الثاني، قوله تعالى: {لله الأمر من قبل ومن بعد}، أي: من قبل الغلبة ومن بعدها، أو من قبل كل شيء وبعده.
[الإكسير في علم التفسير: 219]
الضرب السادس: حذف الصفة والموصوف، وإقامة كل منهما مقام الآخر
أما حذف الصفة، فإنما يحسن إذا ساوق الكلام ما يدل عليها من تعظيم أو تفخيم، ونحوه، فيجوز: (كان زيد والله رجلاً)، و(اعتبرت عمرًا فوجدته إنسانا)، أي: رجلاً فاضلاً، وإنسانًا كاملاً، لدلالة الحال على تعظيمك له، ولزوم تحصيل الحاصل من تقدير عدم إرادة الصفة، ولهذا لو قلت: رأيت رجلاً، أو كان زيد رجلاً، ولم يقترن به شيء من ذلك، لم يفد.
ومن كلام العرب: سير عليه ليل، أي: طويل.
وفي الحديث: ((لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد))، أي: لا صلاة كاملة أو تامة، ونظائره كثيرة.
وأما حذف الموصوف، فكقوله تعالى: {حملناه على ذات ألواح ودسر}، أي: على سفينة ذات ألواح.
و(حملت زيدًا على كوماء، وقلدته ماضيًا) أي: ناقة كوماء، وسيفًا ماضيًا.
وشرط حذفه أيضًا: دلالة الكلام عليه، حتى لو قلت: (مررت بطويل)، ولا قرينة، لم يجز، إذ لا يعلم، هل المراد: رمح، أو ثوب، أو إنسان، وأكثر ما يقع هذا الضرب في الشعر، كقول امرئ القيس:
تصدُ وتبدي عن أسيلٍ وتتقي = بناظرة من وحش وجرة مطفل
[الإكسير في علم التفسير: 220]
أي: خد أسيل، وتتقى بعين ناظرة.
أما النثر، فالقياس يمنعه فيه، فإن وقع فيه فنادر، أو في موضع خاص لائق، وذلك لأن الصفة إما: للتخصيص والتبيين، أو للمدح والذم، وهما من مقامات الإطناب، لا الإيجاز، وكلما استبهم الموصوف، كان حذفه أقبح.
أما الصفات الجملية: التي تقع جملاً، فلا يجوز حذف موصوفها أصلاً، نحو: (مررت بغلام وجهه حسن)، و(لقيت رجلاً قام أبوه)، لا تقول: مررت بوجهه حسن، ولقيت قام أبوه، والله أعلم.
الضرب السابع: في حذف الشرط وجوابه
أما حذف الشرط، فكقولهم: (الناس مجزيون بأعمالهم، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر)، أي: إن عملوا خيرًا، فجزاؤهم خير، أو لقوا خيرًا، وفي لفظتي: خير أو شر، في هذا، ونظائره أربعة أوجه:
رفعهما ونصبهما كما ذكرنا.
ورفع الأولى ونصب الثانية.
وعكسه، فيقدر رافعًا للمرفوع، وناصبًا للمنصوب، ومنه: {إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون}، فالفاء جواب شرط مقدر، أي: إن لم تقدروا على عبادتي بأرضي، فهاجروا منها، فاعبدون في غيرها، فحذف الشرط، وعوض منه تقديم المفعول، وهو: إياي مع إفادته الاختصاص بالإخلاص له تعالى.
[الإكسير في علم التفسير: 221]
ومنه {فهذا يوم البعث}، أي: إن أنكرتم البعث، فهذا يوم البعث، وقد سبق هذا مثالاً في الإرداف.
ومنه قول الشاعر:
.............................. = فقد جئنا خراسانا
أي: إن كانت خراسان أقصى مطلوبكم، فقد جئتموها، دل على ذلك صدر البيت، وذكر ابن الأثير من أمثلة هذا: {فمن كان منكم مريضًا أو على به أذىً من رأسه ففدية}، أي: فحلق، فعليه فدية، وهو من حيث المعنى جواب شرط، إذ تقديره: إن حلق، فعليه فدية.
أما من جهة الصيغة، وما قدره هو، فهو من باب الاكتفاء بالمسبب عن السبب، نحو: {فعدة من أيام أخر}، ونظائره كما سبق.
وأما حذف جوابه، فكقوله تعالى: {قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم بهو شهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم}، أي: ألستم ظالمين، أو ضالين، بدليل قوله: {إن الله لا يهدي القوم الظالمين}.
وقد يحذفان جميعًا، في نحو ما إذا قال لك غلامك: (لا أضرب زيدًا وهو عالم)، فتقول: (وإن)، ووقع مثله في الحديث والشعر، والله أعلم.
[الإكسير في علم التفسير: 222]
الضرب الثامن: حذف القسم وجوابه
أما حذف القسم، فكقولك (لأفعلن كذا)، أي: والله أو لعمري، ونحوه من المقسم به، ومثاله: {فلنسألن الذين أرسل إليهم}، {لنسفعا بالناصية}.
وأما حذف جوابه، ويقدر بما يدل سياق الكلام عليه، فكقوله تعالى {ص * والقرآن ذي الذكر}، أي: لست بكذاب ولا فاجر، ولا ما جئت به مختلق، {بل الذين كفروا في عزة وشقاق} بدليل قوله بعد ذلك: {وقال الكافرون هذا ساحر كذاب}، {إن هذا إلا اختلاق}، وقول من جعل جوابه: (بل)، أو قوله: {إن هذا لحق تخاصم أهل النار}، ضعيف جدًا، وكقوله تعالى: {ق والقرآن المجيد}، (لتبعثن) بدليل حكاية إنكارهم البعث في سياق الكلام بقوله: {أئذا متنا وكنا ترابًا ذلك رجع بعيد}، ونحو {والفجر وليال عشر}، أي: ليعذبن الكفار، بدليل تعقيبه بقوله: {ألم تر كيف فعل ربك بعاد} إلى قوله: {فصب عليهم ربك سوط عذاب}، ونظائر هذا كثيرة.
[الإكسير في علم التفسير: 223]
الضرب التاسع: في حذف (لو) وجوابها
أما حذفها، فكقوله تعالى: {إذن لذهب كل إلهٍ بما خلق}، أي: لو كان معه إله، لذهب كل إله بما خلق، ودل على المحذوف قوله تعالى: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله}.
وأما حذف جوابها، فكقول لوط: {لو أن لي بكم قوةً أو آوي إلى ركنٍ شديد}، أي: لدفعتكم عن ضيفي، أو عما أنتم عليه مطلقًا.
وكقوله تعالى: {ولو أن قرآنًا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى}، أي: لكان هذا القرآن، واستدل ابن قتيبة على هذا بقول امرئ القيس:
أجدك لو شيء أتانا رسوله = سواك، ولكن لم نجد لك مدفعا
وقال معناه: لرددناه، أو لم تجبه، وجعله نظيرًا لهذه الآية في حذف جواب لو، وهو وهم، لأن جوابه في البيت بعده، وهو إذن لرددناه إلى آخره، فلعله لم يقف على هذا، فاعتبر البيت الأول بنفسه وظنه كلامًا، والله أعلم.
وكقوله تعالى: {لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوهم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون}، أي: لرجعوا عن كفرهم وآمنوا.
وكقوله تعالى: {ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت}، أي: لرأيت ما يسرك فيهم.
[الإكسير في علم التفسير: 224]
ومثله: (لو رأيت عليًا بين الصفين)، أي: لرأيت عجبًا من شجاعته، وهذا الحذف أبلغ، لذهاب الفكر في المحذوف كل مذهب، وهو كمن يطلب صيدًا لا يدري أين جهته، فهو يتبع كل الجهات، والله أعلم.

الضرب العاشر: في حذف جواب (إذا) و(لما) و(أما)
فالأول: كقوله تعالى: {وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون}، أي: أعرضوا، ودل على ذلك تعقيبه بقوله: {وما تأتيهم من آيةٍ من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين}.
والثاني: كقوله تعالى: {فلما أسلما وتله للجبين}، أي: كشفنا عنهما البلاء، وحصلا لكشفه على فرح واستبشار عظيم، بدليل: {إنا كذلك نجزي المحسنين}، أي: جازيناهما بذلك، لإحسانهما، وقيل: جوابها: (ناديناه)، والواو زائدة.
والثالث: كقوله تعالى: {فأما الذين اسودت وجوهم أكفرتم}، أي: فيقال لهم: أكفرتم، والله أعلم.

الضرب الحادي عشر: حذف (لا)، وهي مرادة
كقوله تعالى: {تالله تفتأ تذكر يوسف}، أي: لا تفتأ، أي: لا تزال، وسوغ حذفها زوال اللبس فيه، إذ لو أريد الإثبات، لقال: لتفتأن، فلما لم يؤكد دل على إرادة النفي، فقدر حرفه.
[الإكسير في علم التفسير: 225]
ومنه قول امرئ القيس:
فقلت: يمين الله أبرح قاعدًا = ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
أي: لا أبرح.

الضرب الثاني عشر: الاستئناف
وهو ابتداء كلام على جهة الجواب لسؤال مقدر، وهو نوعان:
النوع الأول: بإعادة الاسم نحو: (أكرمت زيدًا... زيد حقيق بالإكرام).
أو بإعادة الصفة نحو: (أكرمت زيدًا... صديقي القديم أهل لذلك)
وهذا أحسن من الأول؛ لاشتماله على الصفة المشيرة إلى بيان سببية الإكرام، كما قال الأصوليين في إقران الحكم بالوصف المناسب، فكأن قائلاً قال: (لما أكرمته)؟، فأجبته بذلك.
ومن أمثلته قوله تعالى: {لا ريب فيه هدىً للمتقين}، كأن قائلاً قال: لم اختص المتقون بذلك؟، فأجاب عن هذا السؤال بقوله: {الذين يؤمنون بالغيب}، إلى آخر الصفات المشيرة إلى سببية اختصاصهم، كأنه قال: أهل هذه الصفات أحقاء بهذا التخصيص، وإن جعلت هذه النعوت تابعة للمتقين، وقدرت السؤال المذكور بعدها، كان الاستئناف: بـ {أولئك على هدى}، فيكون مثالاً لإعادة الاسم.
[الإكسير في علم التفسير: 226]
النوع الثاني: ما ليس بإعادة اسم ولا صفة، كقوله تعالى إخبارا عن حبيب رجل يس: {وما لي لا أعبد الذي فطرني} إلى قوله: {فاسمعون}، كان قائلاً قال: فما كان جزاء هذا الرجل مع جوده بنفسه في طاعة ربه؟، فقال: {قيل ادخل الجنة}، ثم كأن السائل سأل، فقال: مجرد دخول الجنة لا يلقى مثل هذا، إذ من يعمل دون عمله يدخلها؟، فبما اختص عن غيره؟، فقال: {قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي}، أي: رأى من الإكرام ما تمنى معه أن يعلم قومه بحاله فيفعلون كفعله ليحصل لهم ما حصل له.
ومنه قوله تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام أنه قال: {يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون}، كأنه قال: {اعملوا إني عامل، قالوا له: وما يكون إذا كنت عاملاً؟، قال لهم: سوف تعلمون ما يكون، وقد جاء في القرآن: {فسوف تعلمون}، بالفاء، وهو وصل ظاهر، والأولى وصل خفي باستئناف ظاهر، وهو أبلغ الوصلين، لتضمنه من جهتين.
قال ابن الأثير: وأما الوصل في هذه الآية ونظائرها، تارة بالفاء، وتارة بالاستئناف تفننًا في البلاغة على عادة العرب في تفننها.
قلت: ويمكن أن يقال: إن شعيبًا عليه السلام، لما كثرت مراجعة قومه له على ما حكي عنه في سورة هود، ناسب اختصاص قصته الاستئناف الذي هو أبلغ من الإنذار والوعيد، لكن يرد على هذا أن قريشًا كانت أشد مجادلة لمحمد صلى الله عليه وسلم من سائر الأمم لأنبيائها، ولما قال لهم هذا الكلام، قاله بالفاء، ويمكن الجواب عنه بوجوه:
[الإكسير في علم التفسير: 227]
أحدها: أن محمدًا صلى الله عليه وسلم، كانت مدة إنذاره لقومه قصيرة، فعقب عملهم على مكانتهم بوعيدهم بالفاء، إشارة إلى قرب نزول الوعيد بهم، وشعيب صلى الله عليه وسلم طالت مدته في قومه، فاستأنف لهم ذكر الوعيد، كأنه قال: سننزل بكم الوعيد، وإن طالت بكم المدة في مخالفتي وجدالي.
الثاني: أن شعيبًا عليه السلام قال ذلك من عنده؛ لأن الله تعالى قال عنه: {يا قوم اعملوا على مكانتكم}، والنبي صلى الله عليه وسلم أمره الله أن يقول لهم ذلك؛ لأنه قال: (قل يا قوم اعملوا)، وتخصيصات الله تعالى لا تستلزم التعليل، فلعله عليه السلام لو قال ذلك من عنده، كما قاله شعيب كذلك، لقال كما قال.
الثالث: لعل قوم شعيب سألوه السؤال المتقدم، فأجابهم بهذا الجواب، والفاء لا يحسن فيه، ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يقل ذلك جوابًا لقومه عن سؤال، بل هو كلام مبتدأ مرتبط بعضه ببعض، ولا يحسن بدون الفاء، والشاهد قواعد العربية.

الضرب الثالث عشر: في حذف الواو وإثباتها
في نحو: {وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم}، وفي الشعراء: {إلا لها منذرون}.
وذكر ابن الأثير لهذا قاعدة، حاصلها: أن كل اسم نكرة جاء خبرها جملة بعد إلا، جاز إثبات الواو فيه وحذفها، نحو: ما رأيت رجلاً إلا وعليه ثياب، وإلا عليه ثياب، وكذا في التنزيه، نحو: لا رجل، أو ما من رجل إلا هو، أو وهو قائم.
فإن كان الفعل القائم على النكرة ناقصًا كظننت، وكان وأخواتها، وكذا إن وأخواتها، لزم حذف الواو، نحو: ما أظن درهمًا إلا هو كافيك، لأن مثل ذلك يتعلق بشيئين فلا يعترض فيه بالواو، لئلا يشبه المتعلق بشيء واحد.
[الإكسير في علم التفسير: 228]
إلا أصبح، وأمسى، ورأيت، فإن إثبات الواو فيها سهل، لأنهن توام في حال نحو: ما أمسى، أو أصبح أحد إلا وهو قائم.
وإلا ليس، نحو: ليس أحد إلا وهو قائم، لأن الكلام يتوهم تمامه بها، وباسم نكرة، نحو: ليس أحد، وكذلك كان التامة.
وكأن الضابط في هذا: أن ما كان متعلقًا بشيئين لا يجوز اعتراض الواو بينهما، وهذا الذي ذكره حسن، وأنا أتكلم في وجه اختصاص آية الحجر بالواو، وسقوطها في الشعراء، فأقول، لما كان الكتاب المعلوم لإهلاك القرية متقدمًا سابقًا على وجودها، إذ المراد به: إما الأجل المعلوم، أو تعلق علم الله تعالى بإهلاكهم، وكلاهما متقدم، والرسول المنذر لها وجوده مقارن لا سابق، ناسب ذلك اقتران الواو بالآية الأولى: تنبيهًا على سبق الكتاب بإهلاكهم، وسقوطها من الثانية، تنبيهًا على مقارنة الرسول لهم.
فإن قلت: فلم لم يستو الإتيان جميعًا في التنبيه على سبق الكتاب، أو على مقارنة الرسول؟.
قلت: لأن معنى كل واحدة منهما مناسب لما قبلها، فاختصت به تحصيلاً للمناسبة: أما آية الحجر؛ فلأنها بعد قوله تعالى: {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون}، كأنه قال: (لننتقمن منهم ولنهلكنهم، لكن لهم أجل معلوم سابق في علمنا، فإذا استوفوه أتاهم عذابنا، لأن ما ثبت في علمنا لا يتقدم ولا يتأخر).
وأما آية الشعراء؛ فلأنها جاءت تعدد ذكر قصص الأمم وإهلاكهم، فكأنه أكد تصريح هذه الآية مضمون القصص، فقال: إنا لم نظلم هؤلاء الذين أهلنكاهم، لأنا لم نهلكهم إلا بعد الإعذار والإنذار، وكذلك دأبنا في جميع القرى، لا نهلك قرية، ولا أهلكناها إلا بعد إنذارها وكفرها واستكبارها.
[الإكسير في علم التفسير: 229]
الضرب الرابع عشر: في حذف ما يخل حذفه بالكلام
وهو: إسقاط بعض حروف اللفظ، فلا يحسن استعماله إلا ضرورة، إذ الضرورة قد أجازت من ذلك ما يخل بالمعنى، كقول لبيد:
درس المنا بمتالع فأبان
أي: المنازل، فأبانين.
وقول علقمة:
كأن إبريقهم ظبي على شرف = مفدم بسبا الكتان ملثوم
وقول أبي داؤد:
يذرين جندل حائر لجنوبها = فكأنما تذكى سنابكها الحبا
أي: الحباحب: وهو قدح النار من حوافر الخيل، ونظائره كثيرة مذكورة في ضرائر الأشعار.
[الإكسير في علم التفسير: 230]
الثاني: -وهو الإيجاز بدون الحذف- على ضربيين:
الضرب الأول: استواء اللفظ والمعنى
ويسمى التقدير كقوله تعالى: {قتل الإنسان ما أكفره * من أي شيء خلقه * من نطفة خلقه فقدره * ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره * ثم إذا شاء أنشره}، فدعا عليه بقتله، وعجب من كفره، وذكر بدء خلقه، وتقديره، وتيسيره، وإنشاره وما بعد ذلك من أحكامه، بلفظ لو حذف منه حرف، لاختل له المعنى، ومن ذلك قول الشاعر:
وما لامرئ حاولته عنك مهرب = ولو حملته في السماء المطالع
بلى هارب ما يهتدي لمكانه = ظلام ولا ضوء من الصبح ساطع
وكذلك قول الآخر:
ما أقرب الأشياء حين يسوقها = قدر وأبعدها إذا لم تقدر!
فسل اللبيب تكن لبيبًا مثله = من يسع في علم بلب يمهر
وتدبر الأمر الذي تعنى به= لا خير في عمل بغير تدبر
فلقد يجد المرء وهو مقصر = ويخيب سعي المرء غير مقصر
ذهب الرجال المقتدى بفعالهم = والمنكرون لكل أمر منكر
وبقيت في خلف يزين بعضهم = بعضًا ليدفع معور عن معور
ونظائره كثيرة.

الضرب الثاني: الإيجاز بالقصر
وهو زيادة المعنى على اللفظ، وحقيقته: وقوع الجملة على محتويات كثيرة، بالنوع، أو الشخص، وهو نوعان:
[الإكسير في علم التفسير: 231]
النوع الأول: ما ليس على لفظ (أفعل) نحو قوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة}، {أولئك لهم الأمن}، {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}، {إن الله يأمر بالعدل والإحسان}، الآية، ولما سمعها الوليد بن المغيرة، قال: (إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول بشر)، ومنه: {فاصدع بما تؤمر}، {فغشيهم من اليم ما غشيهم}، {من كفر فعليه كفره}.
وقوله عليه السلام: ((الدين النصيحة))، ونظيره من كلامه كثير في كتاب الشهاب وغيره.
وقول علي رضي الله عنه: (تحققوا تلحقوا)، وقول العرب: القتل أنفى للقتل.
وسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقول لآخر: كفاك الله ما أهمك، قال: ((هذه البلاغة)).
وفي دعاء بعض الأعراب: (اللهم هب لي حقك، وأرض عني خلقك)، وهذا الكلام وأمثاله، لو فصلت معاني محتملاته، لكان أضعاف لفظه.
النوع الثاني: ما كان بلفظ أفعل التفضيل بين شيئين لا يشتركان في الصفة
[الإكسير في علم التفسير: 232]
المفضل فيها، كقوله: {فسيعلمون من هو شر مكانًا}، {والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابًا وخير مردًا}، أي: ثواب الكفار ومردهم.
وقوله: {قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون}، أي: جهنم خير أم الجنة.
{أذلك خير نزلاً أم شجرة الزقوم}، ونحو هذا.
ولتوجيهه طريقان:
أحدهما: أنه على جهة التهكم لهم، والاستهزاء بهم، كما يقول الملك لخارجي ظفر به فعاقبه: أهذا العقاب خير أم خلعة سنية، ومركب وطيء؟، تنديمًا له على المعصية.
الثاني: أنه كقول العرب: (العسل أحلى من الخل) و(الصيف أحر من الشتاء)، أي: حر الصيف في بابه أبلغ من برد الشتاء في بابه، فيكون التفضيل بين مرتبتين، كل واحدة منهما بالتقدير، كما لو فرض حر الصيف في أنهى درجاته، وبرد الشتاء دون نهايته بدرجة، فلو فرض الحر كذلك، كان كاملاً أحر منه ناقصًا، بالدرجة المذكورة.
وربما توهم بعض من لا تمييز له، مثل هذه التفضيلات خلفًا من القول، وإنما الخلف في فهمه الحاكم عليه بوهمه.
[الإكسير في علم التفسير: 233]

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الخامس, النوع

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:15 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir