دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم القرآن الكريم > مكتبة التفسير وعلوم القرآن الكريم > جامع علوم القرآن > الإكسير في علم التفسير

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 23 محرم 1432هـ/29-12-2010م, 09:05 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي النوع الثاني: الكناية والتعريض، النوع الثالث: التشبيه


النوع الثاني: الكناية والتعريض
وفيه أبحاث:
الأول: في اشتقاقهما، أما كناية فهي من كنيت الشيء أكنيه، إذا ستره بغيره، ومنه كنية الشخص، كأبي محمد، وأبي زيد؛ لأنك سترت اسمه الأصلي بهذا اللفظ الذي سميته كنية، وقال بعضهم أصلها "كنانة" بنونين؛ لأنها من "الكن" وهو الستر.
وأما التعريض، فيجوز اشتقاقه من أصلين: أحدهما: عرض الحائط أو نحوه، بحيث لا يرى شخصه، والثاني: من قولك، عرضت الشيء أو نفسي على فلان، كأن من تعرض بشيء لغيره، قد عرضه عليه؛ ليقبله أو يفهمه.
والتعريض نوع من الكناية؛ لأن من اشتقاقه معنى الستر.
الثاني: في تعريفهما، وهو مأخوذ من معنى اشتقاقهما.
[الإكسير في علم التفسير: 155]
فالكناية: إخفاء المعنى المقصود تحت لفظ لم يوضع له، لمشابهة بين المعنيين، لخوف، أو حياء، أو مبالغة، أو غير ذلك.
فالخوف كقولك لشخص تريد قذفه، وتخاف من وجوب الحد: "أنا ما زنيت ولا أمي زانية"، أو: "يا حلال ابن الحلال"، ونحوه مما ذكره الفقهاء.
والحياء كقوله تعالى: {أو لامستم النساء} أراد الجماع فكنى عنه باللمس؛ إذ الجماع لمس خاص، فأخفى الخاص تحت لفظ العام حياء، كذا ورد في بعض الآثار.
أو تعليمًا للحياء كقوله: {وقالوا لجلودهم لما شهدتم علينا} قيل: أراد فروجهم.
والمبالغة كقول متمم:
لا يضمر الفحشاء تحت ثيابه = حلو شمائله عفيف المئزر
كنى عن عفته عن الزنا والفساد بعفة المئزر؛ لأن من أراد ذلك الأمر، حل مئزره، وهذا وجه المشابهة بينهما.
وقال ابن الأثير: "الكناية أن نذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له، كالكناية عن الجماع باللمس"
وقال غيره: الكناية هي الكلمة التي أريد بها غير معناها، مع إرادة معناها.
[الإكسير في علم التفسير: 156]
نحو: "فلان كثير رماد القدر". فالغرض الأصلي منه، وصفه بما يلازم ذلك من الكرم، مع أن كثرة الرماد مرادة بالغرض. وهذا المثال صحيح، لكن نفس التعريف فيه نظر من وجهين:
أحدهما: أن الكناية ليست هي الكلمة، بل استعمال الكلمة في إرادة غير معناها.
والثاني: أن لفظه مستهجن مستثقل؛ لتكرار معناها فيه مرتين، مع إمكان الاحتراز منه.
وأما التعريض: فقال: ابن الأثير هو أن تذكر شيئًا يدل على شيء لم تذكره. وهو عين ما ذكر في الكناية، ألا أنه غير اللفظ، وغرضه الفرق والتمييز بينهما، وأرى ذلك مما يدق، ولهذا وقع النزاع في قول امرئ القيس:
فصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا = ورضتُ فدلت صعبةً أي إذلال
فقال ابن سنان: هو كناية عن الجماع، يعني المصير إلى الحسنى.
وقال ابن الأثير: هو تعريض به، ولا شك أن ما ذكر في تعريف الكناية والتعريض جميعًا صادق عليه، إما أن يكونا مترادفين، أو بينهما فرق دقيق.
الثالث: أركان الكناية:
الكاني: وهو المتكلم والمكنى به: وهو المعنى المذكور لفظه، كاللمس.
[الإكسير في علم التفسير: 157]
والمكنى عنه: وهو المعنى المدرج المستور تحت اللفظ المذكور، كالجماع في الآية.
والكناية: وهي الربط بين هذين الركنين، باستعمال أحدهما، وإخفاء الآخر تحته.
وأركان التعريض كذلك: المعرض، والمعرض به، كالتزويج في قول الخاطب للمعتدة لا تفوتيني نفسك.
وما به التعريض: وهو هذا اللفظ، ونفس التعريض، وهو استعمال هذا اللفظ، لإرادة ذلك المعنى.
الرابع: الفرق بين الاستعارة والمجاز ما سبق، وبينها وبين الكناية: أن الغرض بالاستعارة المبالغة في التشبيه، وبالكناية ستر المعنى المقصود لأحد الأغراض المتقدمة.
وبين الكناية والمجاز على تعريفنا الأول لها:
هو أن المراد بها ستر المعنى المقصود بها.
والمراد بالمجاز إظهاره، إذ مقصود قولنا "زيد أسد" إظهار معنى الشجاعة، فعلى هذا، هما ضدان:
وعلى التعريف الثالث للكناية، وهو "للبحراني" الفرق بينهما: أن المعنى الأصلي في الكناية مراد أيضًا؛ لكثرة رماد القدر في المثال، بخلاف المجاز، حقيقة الأسدية في قولنا: زيد أسد غير مرادة.
الخامس: الكناية قسمان: حسن وقبيح. والحسن على أضرب:
الأول: التمثيل: وهو التشبيه على جهة الكناية، وهو الإشارة إلى معنىً بلفظ وضع لغيره، نحو "فلان نقي الثوب" أي: منزه عن العيوب، وموقعه في النفس أشد؛ لإرادة المعقول في صورة المحسوس.
[الإكسير في علم التفسير: 158]
ومنه قوله تعالى: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك} فمثل البخل بغل اليد إلى العنق وكنى به عنه؛ لعدم تمكن البخيل من بسط اليد بالعطاء كالمغلول، ولقبح صورة الغل ونفرة النفوس منه، وكونه مؤلما للمغلول مبالغة في تنفيره عنه، وتنبيه على أن في البخل ضررًا وألمًا، كما للغل.
ومنه قوله تعالى: {أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه} مثل غيبة المسلمين بأكل لحم الآدمي ميتًا، وكنى به عنه؛ إذ الغيبة تمزيق العرض، كما أن أكل اللحم تمزيقه من الجلد، وذلك قبيح في بداهة العقول، ثم ترقى في مبالغة التمثيل درجة أخرى؛ بأن جعل اللحم لحم الأخ؛ لأنه أشد كراهة؛ إذ الإنسان يراعي في حق أخيه ما لا يراعي في حق غيره، ويكره له ما لا يكره لغيره، ثم ترقى فيه درجة أخرى؛ بأن جعل اللحم ميتًا؛ لا المغتاب لا يعلم بالغيبة، كما أن الميت لا يحس ظاهرًا بأكل لحمه، ثم وصل بذلك لفظ الكراهة مبالغة في التنفير.
ومنه قول ابن الدمينة:
أبيني أفي يُمنى يديك جعلتِني = فأفرح، أم صيرتِيني في شِمالِك؟
فكنى عن الإكرام بجعله في يمناها، وعن الإهانة بجعله في شمالها، لأن اليمين أشرف من الشمال حسا وشرعا، ولذلك كنى الله تعالى عن أهل الجنة: {بأصحاب اليمين} وعن أهل النار {بأصحاب الشمال} في موضعين من سورة الواقعة: أولها وأخرها.
[الإكسير في علم التفسير: 159]
ومنه قول العرب: "إياكم وعقيلة المِلْح". وقوله عليه السلام: ((إياكم وخضراء الدمن)) كناية عن المرأة الحسناء في منبت السوء، وتمثيلاً لها وبها، والله أعلم.
الضرب الثاني: الإرداف: وهو اسم اخترعه قدامة بن جعفر: وهو الإشارة إلى المعنى بذكر مرادفه، أي: مساويه، كما سيأتي.
وغيره جعله من قبيل التمثيل. والفرق بينهما يعرف من تعريفهما. وفروعه خمسة:
الفرع الأول: فعل المبادهة، أي: الصادر عن البديهة من غير تثبت. ومثاله قوله تعالى: {وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين}.
وقوله تعالى: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه}.
فالإشارة بقوله "لما جاءهم"، و"جاءه" إلى ضعف عقولهم، وسفه أحلامهم، حيث بادعوا الحق بالتكذيب والرد، ولم يفكروا ويترووا فيه تروي العقلاء المراجيح فيما يرد عليهم من الحوادث، فقد أشار إلى ذمهم بذكر ما يفيده ويرادفه.
الفرع الثاني: الكناية عن الشيء بمثله، كقول من أراد نفي قبيح عن نفسه "مثلي لا يفعل هذا". قال الشاعر:
يا عاذلي دعني من عذلكا = مثلي لا يقبل من مثلكا
[الإكسير في علم التفسير: 160]
أي: لا أقبل منك، وكقولهم: "مثلك إذا سئل أعطى" وهو كثير، وهو أسند للكلام، وأرفع لقدر صاحبه. قال ابن الأثير: لكونه يجعل نفسه من جماعة هذه أوصافهم، إشارة إلى تمكنه فيما وصف به نفسه، إذا تفرد به لم ترس فيه قدمه، كما يقال لمن يمدح: "أنت من القوم الكرام" أي لك فيه سابقة ولست دخيلاً فيه.
وعندي فيه نظر؛ لأن تفرد الإنسان بصفات المدح أسند لحاله، وأرفع من شأنه، كما يقال: "فلان جالس من الكرم على رأس سنان". وليس هذا من قبيل قولهم: "أنت من القوم الكرام"، وقولهم للعربي "العرب لا تخفر الذمم". وإنما وجهه عندي أن قول القائل "مثلي لا يفعل كذا" إشارة إلى أن نفي ذلك عني ليس لذاتي، ولا لكوني إنسانًا، بل لصفات جميلة كريمة مكملة قامت بي، فهي تقتضي نفي ذلك أو إثباته إن كان مثبتًا لشيء لنفسه، وأن كل ما قامت به هذه الصفات فهو مثلي في ذلك، وهو يكني بنفي شيء عنه، أو إثباته له، عن إثبات صفات الكمال والجمال والكرم لنفسه، ولهذا نرى العقلاء يستحيون من هذا الكلام؛ لكونه كناية عن تزكية أنفسهم بإثبات صفات الكمال لها، ولو كان كما قاله ابن الأثير، لما استحيوا من ذلك، إذ ليس فيه إلا إلحاق أنفسهم بمن يساويهم، وذلك لا يستحيا منه، إن المبادرة إلى الفهم الصحيح من هذا الكلام ما ذكرته، فأما قوله تعالى: {ليس كمثله شيء} فقيل: الكاف زائدة، وإلا لزم إثبات مثله، ونفي مثل ذلك المثل وهو محال وقيل هي على أصلها في التشبيه ومثل بمعنى ذات، أي: كذاته شيء على عادة العرب فيه. وقيل المثلية هنا راجعة إلى الصورة الذهنية؛ إذ لكل معلوم صورة وقع ومنزلة في الأذهان، فتقدير الكلام، ليس كصورة منزلة الله تعالى في النفوس والأذهان شيء. ذكر هذا الوجه لنا شيخنا المري وقال: هو تقرير صوفي.
[الإكسير في علم التفسير: 161]
الفرع الثالث: منه ما يقع في جواب الشرط المقدر كقولك لمن ادعى موت زيد: "أنت أخبرت بموت زيد، فهذا زيد"! أي: إن كنت أخبرت بموت زيد، فقد كذبت، فأتيت بما يرادف التكذيب في المعنى. وهو دعوى حضور زيد مع دعوى المخبر بموته، وهو من ألطف الكنايات.
ومنه قوله تعالى: {وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث} أي: إن كنتم أنكرتم البعث. فقد كذبتم؛ إذ هذا يوم البعث حاضر.
الفرع الرابع: صيغة الاستثناء الموهمة لحقيقة، وليست كذلك، نحو "ليس لفلان ظل إلا الشمس" أي: ليس له ظل أصلاً، فصيغة الاستثناء مؤكدة لنفي الظل، ومرادفة له.
ومنه قوله تعالى: {ليس لهم طعام إلا من ضريع} أي: لا طعام لهم أصلاً، ولهذا عقبه بحكمه، وهو قوله تعالى: {لا يسمن ولا يغني من جوع}.
والضريع: يابس الشبرق: وهو نبت له شوك.
ومنه قول النابغة:
ولا عَيبَ فيهم غير أن سيوفَهُمْ = بهن فُلولٌ من قِراع الكتائبِ
وقول الآخر:
وتفردوا بالمكرمات فلم يكن = لسواهم منها سوى الحرمان
أي: لا عيب فيهم، ولا شيء لغيرهم منها أصلاً، ونظائره كثيرة.
[الإكسير في علم التفسير: 162]
وتقرير هذا الفرع على الظهور والجلاء يحتاج إلى تقدير وقوع ما بعد حرف الاستثناء جوابًا لشرط مقدر على طريق التجاهل، تقديره: إن كانت الشمس ظلاً، فما لفلان ظل إلا الشمس، وإن كان فل السيف عيبًا، فلا عيب لهؤلاء إلا فلول سيوفهم، وإن كان الحرمان مكرمة، فما لغير هؤلاء سواه.
الفرع الخامس: ولم يسمه ابن الأثير بشيء، وأنا أسميه بدلالة الملزوم على اللازم. فمنه قوله تعالى: {قال الملا الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحًا مرسل من ربه قالوا إن بما أرسل به مؤمنون}.
والجواب الأصلي: نعم، نعلم أنه مرسل، فعدلوا إلى ملزوم ثبوت الرسالة وهو إيمانهم به.
ومنه قوله تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم}؟ تقديره أذنبت أو أخطأت، لم أذنت؟ فعدل عنه إلى مرادفه في المعنى وملزومه: وهو ذكر العفو، لأنه ملزوم الذنب.
ومنه قوله تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا} أي: كذبتم في دعواكم، فعدل عن صريح التكذيب إلى مرادفه وملزومه، وهو دعوى عدم إيمانهم رفقا بالمخاطبين في الخطاب، واستقباحا لذكر الكذب، وهو من جميل الآداب.
ومنه قوله تعالى: {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار} أي: فاتركوا العناد، وآمنوا. فاحذروا سخطي، أي: فأطيعوني، فعدل إلى مرادف الطاعة؛ وهو
[الإكسير في علم التفسير: 163]
حذر السخط. ومنه قول بعضهم:
وَدِدْت وما تغني الودادةُ أنني = بما في ضمير الحاجِبِيِة عالمُ
فإن كان خيرا سرني وعلمتُه = وإن كان شرًا لم تلمْني اللوائم
أي: وإن كان شرا هجرتها، فلم يصرح به بل ذكر دليله ومرادفه عدم توجه اللوم.
ومنه قول الأعرابية في حديث أم زرع تصف زوجها بالكرم: "له إبل قليلات المسارح، كثيرات المبارك، إذا سمعن صوت المزهر أيقَن أنهن هوالك". فذكرت ما يرادف الكرم، والله أعلم.
الضرب الثالث: المجاورة، وهي: العدول عن الشيء إلى ذكر مجاوره، كقول عنترة:
بزجاجةٍ صفراءَ ذات أسرة = فُرنت بأزهرَ في الشمالِ مفدم
أراد بالصفراء: الخمرة، وصرح بذكر الزجاجة لمجاورتها لها. وفيه نظر؛ إذ الخمرة حمراء لا صفراء، والزجاجة إلى الصفرة –لاسيما إذا اشتملت على الخمرة- أقرب وأنسب، والمثال الصحيح قوله:
فشككتُ بالرمح الأصم ثيابه = ليس الكريمُ على القَنا بمحرم
[الإكسير في علم التفسير: 164]
أراد بثيابه: نفسه، وقيل: قلبه، وعلى نحوه فسر بعضهم قوله تعالى: {وثيابك فطهر} أي فطهر قلبك، أو نفسك، أو بدنك، فعدل إلى ذكر الثياب المجاورة لذلك.
الضرب الرابع: ما ليس بشيء من الأضرب المتقدمة، بهذا ترجمه ابن الأثير وأنا أترجمه بالكناية عن الشيء ببعض ما ينسب إليه من عادة أو طبع.
كقوله تعالى: {أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين} كنى عن النساء بملازمتهن التحلي، وهو من عادتهن، وبالعي وعدم الإبانة في الخصام، وهو من طبعهن وجبلتهن، لضعف قوتهن العقلية.
ومن ذلك قول أبي النواس:
تقول التي من بيتها خف مركبي = عزيز علينا أن نراك تسير
كنى بذلك عن امرأته، إذ العادة أن مركب الشخص إذا سافر إنما يخف من بيته امرأته، وذكر ابن الأثير من هذا الضرب قول نصيب:
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله = ولو سكتوا أثنتُ عليك الحقائب
وليس منه، بل من قبيل الإرداف، إذ معناه: لو سكتوا عن الثناء عليك، كذبتهم حقائبهم التي ملئوها من إنعامك وجوائزك.
وسماه تكذيبًا مجازًا؛ لدلالته على كذبهم، فعدل عن لفظ التكذيب إلى ملزومه وهو ثناء الحقائب فاعرفه.
[الإكسير في علم التفسير: 165]
والقبيح منها: ما أخفي لفظه، وظهر معناه؛ لدلالة عقل أو عرف، كقول المتنبي.
إني على شغفي بما في خُمرها = لأعف عما في سَراويلاتها
فالتصريح بهذا خير من الكناية عنه؛ إذ كل أحد يعلم أن الإشارة بما في سراويل المرأة إلى ذلك منها. وأين هذا من قول الشريف الراضي:
أحن إلى ما تضمر الخُمر والحلى = وأصدف عما في ضمان المآزر
فإنه، أي: بالمعنى يعنيه في ألطف وأحسن وأبين ما يكون من الكنايات.
وأما التعريض الذي رخص الله تعالى فيه في خطبة العلماء، وفسره العلماء بأنه قول الرجل لها: "إني في مثلك لراغب ولا تفوتيني، أو تسبقيني بنفسك وإنك لجميلة وإن بي حاجة إلى النساء"، وتجيبه: "ما نرغب عنك، وإن قضي شيء كان". ويروى أن امرأة عرض لها رجل بذلك، وهي -سافرة- في حيازة زوجها، فقالت: "سبقك غيرك".
ومنها قول نوح عليه السلام له: {ما نراك إلا بشرًا مثلنا} فإنه تعريض بكونهم أولى بالرسالة منه، بدليل قولهم بعد: {وما نرى لكم علينا من فضل} أي: فلو أن لدعواك الرسالة أصلاً، لأرسل الله إلينا دونك والذي يتحقق فهمه من هذه الآية: دعواهم نفي رسالته، أما دعوى أولويتهم بالرسالة ففيه تردد.
ومنها قول إبراهيم عليه وسلم لقومه: {بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون} وهو تعريض لهم بتجهيلهم، وتسفيه أحلامهم من وجهين:
[الإكسير في علم التفسير: 166]
أحدهما: أن آلهتكم إن سألتموهم عن ذلك لا ينطقون، وعبادة ما لا ينطق جهل وسفه.
الثاني: أن كبير آلهتهم غضب من عبادتكم ما دونه، فكسرها، تعريضًا بأن الله تعالى أولى بالغضب من عبادتكم ما دونه، وهذا تعريض قياسي.
ومنها قوله عليه السلام - وهو محتضن أحدَ ابني ابنته: ((والله إنكم لتُجَبَنُون وتُبَخلون وتُجهلون، وإنكم لمن ريحان الله، وإن آخر وطأة وطئها الله بَوِج)).
يعرض صلى الله عليه وسلم بذلك بقرب وفاته، ومفارقته بنيه الذين هم من ريحان الله وأهله".
وبيانه: أن الوطأة: الشدة، ومنه: ((اللهم اشدد وطأتك على مضر)). ووج وادٍ بالطائف، والإشارة به إلى غزاة حنين، وهو واد قبل "وج" وآخر وقعة أوقعها الله بالمشركين على يدي رسوله صلى الله عليه وسلم به، وما بعدها من الغزوات، فهي مجرد خروج وتوجه، لا قتال فيه، وكانت غزاة حنين في شوال سنة ثمان، ووفاته عليه الصلاة والسلام في ربيع الأول سنة إحدى عشرة، وبينهما سنتان ونصف، فتقدير الكلام: إنكم لمن ريحان الله، وإني مفارقكم عن قريب، لأن المقصود بإخراجي إلى الدنيا، تمهيد الدين والشريعة، وقد مهدت، وآخر ما كان من مهماتها وطأة الله على المشركين بوج، وقد انقضت، فأنا إذن مفارقكم، وهذا من غرائب التعريض.
ومنها ما كتبه عمرو بن مسعدة إلى المأمون في حق أصحابه، أما بعد. فقد
[الإكسير في علم التفسير: 167]
استشفع فلان إلى أمير المؤمنين، ليتطول بإلحاقه بنظراته، فأعلمته أن أمير المؤمنين لم يجعلني في مراتب المستشفعين، وفي ابتدائه بذلك تعدي طاعته "فوقع المأمون: قد عرفنا تصريحك له، وتعريضك لنفسك، وقد أجبناك إليهما.
ومنها قول الشاعر:
بني عمنا لا تذكروا الشعر بعدما = دفنتم بصحراء الُغمير القوافيا
تعريض لهم: بأنا غلبناكم بذلك المكان، فلا وجه لافتخاركم علينا في الشعر بعدها؛ فإنه لا ينفعكم، فصار كالميت المدفون. ونظائر هذا كثيرة.

النوع الثالث: التشبيه
وفيه أبحاث:
الأول: في تعريفه: وهو إلحاق أدنى الشيئين بأعلاهما في صفة اشتركا في أصلها، واختلفا في كيفيتها قوة وضعفًا، ومثاله واضح، ويتضح بما سيأتي.
الثاني: أركانه أربعة: المشبه به كالأسد في قولنا: "زيد كالأسد" ثم أدخلت كاف التشبيه على إن وفتحت، فقيل: "كأن زيدًا الأسد" وصارت كأن أصلاً في التشبيه -وقد سبق في الاستعارة أن قولهم: "زيد أسد" من قبيل التشبيه-
وأما تشبيههم بمثل نحو: "زيد مثل الأسد" فهو مبالغة فيه مجازًا؛ إذ المماثلة هي الاتفاق في الذات والصفات، والمشابهة: اتفاق في بعض الكيفيات.
الثالث: الصفة التي بها النسبة.
إما إضافية، كقولك: "حجة الشمس" أي: في الوضوح، "وألفاظ كالماء" أي: في
[الإكسير في علم التفسير: 168]
السلاسة، "وأخلاق كالنسيم" أي: في الرقة والسهولة؛ لأن هذه قد تكون كذلك بالنسبة إلى شخص دون شخص.
أو حقيقية، ثم هي: إما نفسانية، كالجود والحلم في قولهم: هو كحاتم جودًا، وكقيس حلمًا.
أو جسمانية، ثم هي إما غير محسوسة: كالبلادة والشجاعة والطول في قولهم هو كالحمار بلادة، وكعمر شجاعة، وكالنخلة طولاً، أو محسوسة بحس البصر: كتشبيه الخد بالورد، أو بحس السمع: كتشبيه الصوت المنكر بصوت الحمار، أو بحس الشم: كتشبيه الأراييح الطيبة بريح المسك، أو بحس الذوق: كتشبيه الطعوم اللذيذة بطعم السكر، أو بحاسة اللمس: كتشبيه الجسم الناعم بالخز لينًا، والخشن بالمِسح خشونة.
الرابع: للتشبيه فائدتان:
إحداهما: الإيجاز: إذ قولنا "زيد أسد" أو "كالأسد" أوجز من قولنا "زيد شجاع، شديد الشجاعة.
والثانية: المبالغة، إذ مراتب الصفات تتفاوت، فحملها على موصوفاتها بدون التشبيه، لا تفيد ما تفيد معه.
مثاله: قولنا "زيد شجاع، شديد الشجاعة" لا يفيده فائدة قولنا: "زيد أسد"؛ لاختلاف مراتب الشجاعة، إذ قد يكون شديد الشجاعة، ولا يبلغ رتبة الأسد فيها.
ثم الغرض بالتشبيه قد يكون إلحاق الناقص بالكامل كما تقدم، وهو الأصل، ومن ظن أن قوله تعالى في صفة الحور العين {كأنهن بيض مكنون} يشبه الكامل بالناقص؛ إذ الحور أشد بياضًا وحسنًا من البيض فقد وهم؛ إذ هذا تشبيه غير المعهود لنا بالمعهود، والخفي عنا بالظاهر لنا، فالبيض من حيث المعهود به والظهور لنا أكمل من الحور؛ إذ إدراكنا لهن بالوهم والتخيل، وإدراكنا للبيض بالحس
[الإكسير في علم التفسير: 169]
والمشاهدة، وهو أقوى، ومن هذه الجهة وقع التشبيه، لا من حيث التفاوت الحقيقي، وقد يكون إلحاق الكامل بالناقص على جهة التخييل والتمويه، يجعل الناقص أصلاً مبالغة وصفه بالصفة المشبهة بينهما ويسمى التشبيه المعكوس، وغلبة الفروع على الأصول، فمنه قول ذي الرُمة:
ورملٍ كأوراك العذارى قطعتُه = إذا ألبِسته المظلماتًُ الحنادسُ
وقول الآخر:
وبدا الصباح كأن غرته = وجهُ الخليفة حين يُمتدح
والعادة تشبيه لردف بكثيب الرمل، والوجه بالبدر، فعكس ذلك بتصيير الأصل فرعًا، والفرع أصلاً، مبالغة.
ونحو قول بعضهم:
في طلعة البدرِ شيء من محاسنها = وللقضيب نصيبٌ من تَثنيها
وقد يكون الجمع بين شيئين في مطلق الصورة، كتشبيه الصبح بغرة الفرس الأدهم في ظهور بياض قيل في سواد كثير، ومثل هذا يجوز عكسه.
كقول بعضهم في صفة الفرس:
[الإكسير في علم التفسير: 170]
وجهه صبح ولكن = سائر الجسم ظلام
الخامس: أقسام التشبيه كأقسام المستعار:
إما تشبيه محسوس بمحسوس، كتشبيه الخد بالورد، والوجه بالقمر، وقول الشاعر:
يوم كأن سماءه = حُجبت بأجنحة الفواخت
أو معقول بمعقول، كتشبيه، بعض المعاني ببعض، كالعشق والشباب بالسحر أو الجنون ومن هذا القبيل قوله:
كأن ابيضاض البدر من تحت غيمه = نجاء من البأساء بعد وقوع
وجعله البحراني مثالاً لتشبيه المحسوس بالمعقول، وهو وهم؛ لأن الابيضاض لا يحس، وإنما يحس المبيض، وهو البدر.
وكذا تشبيه تثني القد بتثني الغصن، أو اهتزازه، أو اعتداله باهتزاز الريح أو اعتدالها، ونحوه، كل ذلك من تشبيه المعقول بالمعقول، إذ المحسوس المتثنيان، لا التثنيان، فتنبه لهذا فإنه مزلة قدم.
أو تشبيه معقول بمحسوس: كتشبيه العلم بالمطر في قول لقمان لابنه: "إن الله تعالى يحيي القلوب بالعلم، كما يحيي الأرض بوابل المطر" وكتشبيه الذهن الجيد، والسمع، بالنار، وحد السيف، وذكر البحراني من أمثلة هذا القسم قول علي لمروان "أما إن له إمرة كلعقة الكلب أنفه" وهو وهم؛ إذ اللعقة: حركة اللسان، وليست محسوسة، إنما المحسوس اللسان اللاعق، والأنف الملعوق، فهذا إذن من أمثلة القسم الثاني: وهو المعقول بالمعقول.
[الإكسير في علم التفسير: 171]
أو محسوس بمعقول، كتشبيه الخمر بالروح، والسيف بالمنية. وأهدى بعضهم لصاحب له سكينًا، وكتب إليه "قد بعثت إليك سكينًا، أقطع من البين".
وقال ابن الأثير: التشبيه معنى بمعنى: كزيد أسد.
أو معنى بصورة كقوله تعالى: {أعمالهم كسراب بقيعة}.
أو صورة بصورة نحو: {وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام}، شبه صورة الفُلك بصورة الجبل.
وأخل بالقسم الرابع، وهو تشبيه الصورة بالمعنى، وهو ما تقتضيه القسمة، وهو ممكن، كما لو شبه السراب بالعمل الباطل، على قوله.
والقسمة التي ذكرها راجعة إلى ما ذكرناه لا تخرج عنه، ثم قال: وكل واحد من هذه الأقسام الثلاثة، قد يكون:
تشبيه مفرد مفرد.
ومركب بمركب.
ومفرد بمركب.
وفاته قسم رابع: وهو عكس الثالث، وهو المركب بالمفرد، كتشبيه "الزبد على التمرة بالفارس" فالأقسام على قوله تسعة: مضروب ثلاثة في ثلاثة، وعلى مقتضى القسمة: ستة عشر: مضروب أربعة في أربعة، ثم ذكر الأمثلة:
مثال المفرد بالمفرد، قول البحتري:
[الإكسير في علم التفسير: 172]
تبسمٌ وقطوبٌ في ندى ووغى = كالغيث والبرق تحت العارض البرد
شبه التبسم بالبرق، والقطوب بالغيث.
وقول الآخر:
وكأنما فوق الأكف بوارق = وكأنما فوق المتون إضاء
شبه السيوف بالبوارق، والدرع بغدران الماء لبريقها.
مثال المركب بالمركب: قوله تعالى: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا} فشبه مركب حال المنافقين من اعتصامهم بكلمة الإيمان في الدنيا واستضرارهم بالنفاق في الأخرى، بمركب حال موقد النار في انتفاعه بها حال إيقاده واستضراره بذهاب نورها حين طفئت.
وقوله تعالى: {إنما مثل الحياة الدنيا كماءٍ أنزلناه من السماء} الآية، شبه مركب حال الدنيا في سرعة تقلبها وزوالها بعد غرور أهلها بزخرفها، بمركب نبات الأرض في ذلك.
ومنه قول الشاعر، وهو من أحسن ما في هذا القسم:
فتى عيش في معروفة بعد موته = كما كان بعد السيل مجراه مرتعا
وقول آخر:
بكيت عليه حين لم يبلغ المنى = ولم يرو من ماء الحياة المكدر
كأن دم النجلاء تحت بروده = لطمة مسك في إهاب غضنفر
[الإكسير في علم التفسير: 173]
وقول المتنبي:
كأن الجفون على مُقلتي = ثيابٌ شققن على ثاكل
وقول ابن المعتز:
والصبح يتلو المشتري فكأنه = عريانُ يمشي في الدجى بسراج
وقول الآخر في صفة الساقي والشرب:
فكأنه وكأنهم وكأنها = قمر يدور على النجوم بشمسه
وهذا البيت وأمثاله من حيث الإفراد، تشبيه مفرد بمفرد، وحاصله: تشبيه الساقي بالقمر، والشرب بالنجوم، والخمرة بالشمس.
ومن حيث التركيب: تشبيه مركب بمركب، ونحوه قول الآخر:
دعوت الغلام ببطيخة = وسكينة قد أجيدت صقالا
فقطع بالبدر شمس الضحى = وأهدى إلى كل بدر هلالا
وعلى هذا يتوجه أن يقال: هذا تشبيه إضافي -أي بالنظر- إلى المجموع، يكون تشبيه مركب بمركب.، وبالنظر إلى المفردات يكون تشبيه مفرد بمفرد.
مثال المفرد بالمركب قول بعضهم:
كأن السها إنسان عين غريقة = من الدمع يبدو كلما ذَرفت ذرْفا
[الإكسير في علم التفسير: 174]
وقول الآخر:
أتتك أبا حسن وردة = تلذ النفوس بأنفاسها
كعذراء أبصرها مبصر = فردت يديها على رأسها
ولا تشبيه أحسن من تشبيه الجُنبذ بهذا.
وقريب منه قول بعضهم:
والنخل مثل عرائس = شعورها قد نشرت
وعكس هذا القسم كعكس صور أمثلته، وحقيقته تشبيه مركب بمركب فتأمله.
ثم التشبيه ينقسم إلى جيد، وهو ما تقارب المشبهان فيه جدًا.
ورديء وهو ما تباعد فيه، كقول بعضهم في صفة السهام:
كساها رطيب الريف فاعتدلتْ لها = قِدحٌ كأعناق الظباء الفوارقِ
وقول الآخر:
ملا حاجبيك الشعر حتى كأنه = ظباء جرتْ منها سنيحٌ وبارحُ
فإن تشبيه شعر الحاجبين بالظباء، والقداح بأعناقها من أردأ التشبيهات وأبعدها.
ووسط؛ وهو ما بين ذلك، والله أعلم). [الإكسير في علم التفسير: 175]

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الثاني, النوع

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 06:22 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir