دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم الحديث الشريف > مكتبة علوم الحديث الشريف > علوم الحديث الشريف > مقدمة ابن الصلاح

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 21 جمادى الأولى 1431هـ/4-05-2010م, 06:16 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي النوع السابع والعشرون والثامن والعشرون: آداب المحدث وآداب طالب الحديث


النّوع السّابع والعشرون
معرفة آداب المحدّث
وقد مضى طرفٌ منها اقتضته الأنواع الّتي قبله.
علم الحديث علمٌ شريفٌ، يناسب مكارم الأخلاق ومحاسن الشّيم، وينافر مساوي الأخلاق، ومشاين الشّيم، وهو من علوم الآخرة لا من علوم الدّنيا. فمن أراد التّصدّي لإسماع الحديث، أو لإفادة شيءٍ من علومه، فليقدّم تصحيح النّيّة وإخلاصها، وليطهّر قلبه من الأغراض الدّنيويّة وأدناسها، وليحذر بليّة حبّ الرّياسة، ورعوناتها.
وقد اختلف في السّنّ الّذي إذا بلغه استحبّ له التّصدّي لإسماع الحديث، والانتصاب لروايته، والّذي نقوله: إنّه متى احتيج إلى ما عنده استحبّ له التّصدّي لروايته، ونشره، في أيّ سنٍّ كان، وروّينا عن القاضي الفاضل أبي محمّد بن خلّادٍ رحمه اللّه أنّه قال: " الّذي يصحّ عندي من طريق الأثر والنّظر، في الحدّ الّذي إذا بلغه النّاقل حسن به أن يحدّث هو: أن يستوفي الخمسين ; لأنّها انتهاء الكهولة وفيها مجتمع الأشدّ، قال سحيم بن وثيلٍ:
أخو خمسين مجتمعٌ أشدّي... ونجّذني مداورة الشّئون.
قال: " وليس بمنكرٍ أن يحدّث عند استيفاء الأربعين ; لأنّها حدّ الاستواء ومنتهى الكمال، نبّئ رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وسلّم - وهو ابن أربعين، وفي الأربعين تتناهى عزيمة الإنسان وقوّته، ويتوفّر عقله، ويجود رأيه".
وأنكر القاضي عياضٌ ذلك على ابن خلّادٍ، وقال: كم من السّلف المتقدّمين ومن بعدهم من المحدّثين من لم ينته إلى هذا السّنّ، ومات قبله، وقد نشر من الحديث، والعلم ما لا يحصى هذا عمر بن عبد العزيز توفّي ولم يكمل الأربعين.
و سعيد بن جبيرٍ لم يبلغ الخمسين. وكذلك إبراهيم النّخعيّ.
وهذا مالك بن أنسٍ جلس للنّاس ابن نيّفٍ وعشرين، وقيل: ابن سبع عشرة، والنّاس متوافرون، وشيوخه أحياءٌ، وكذلك محمّد بن إدريس الشّافعيّ: قد أخذ عنه العلم في سنّ الحداثة، وانتصب لذلك "، واللّه أعلم.
قلت: ما ذكره ابن خلّادٍ غير مستنكرٍ، وهو محمولٌ على أنّه قاله: فيمن يتصدّى للتّحديث ابتداءً من نفسه من غير براعةٍ في العلم تعجّلت له قبل السّنّ الّذي ذكره، فهذا إنّما ينبغي له ذلك بعد استيفاء السّنّ المذكور، فإنّه مظنّة الاحتياج إلى ما عنده، وأمّا الّذين ذكرهم عياضٌ ممّن حدّث قبل ذلك فالظّاهر أنّ ذلك لبراعةٍ منهم في العلم تقدّمت، ظهر لهم معها الاحتياج إليهم، فحدّثوا قبل ذلك، أو لأنّهم سئلوا ذلك إمّا بصريح السّؤال، وإمّا بقرينة الحال.
وأمّا السّنّ الّذي إذا بلغه المحدّث انبغى له الإمساك عن التّحديث فهو السّنّ الّذي يخشى عليه فيه من الهرم والخرف، ويخاف عليه فيه أن يخلط، ويروي ما ليس من حديثه، والنّاس في بلوغ هذه السّنّ يتفاوتون بحسب اختلاف أحوالهم، وهكذا إذا عمي، وخاف أن يدخل عليه ما ليس من حديثه، فليمسك عن الرّواية.
وقال ابن خلّادٍ: أعجب إليّ أن يمسك في الثمانين، لأنّه حدّ الهرم، فإن كان عقله ثابتًا، ورأيه مجتمعًا، يعرف حديثه، ويقوم به، وتحرّى أن يحدّث احتسابًا رجوت له خيرًا.
ووجه ما قاله أنّ من بلغ الثمانين ضعف حاله في الغالب، وخيف عليه الاختلال، والإخلال، أو أن لا يفطن له إلّا بعد أن يخلّط، كما اتّفق لغير واحدٍ من الثّقات، منهم عبد الرّزّاق، وسعيد بن أبي عروبة.
وقد حدّث خلقٌ بعد مجاوزة هذا السّنّ، فساعدهم التّوفيق، وصحبتهم السّلامة، منهم: أنس بن مالكٍ، و سهل بن سعدٍ، و عبد اللّه بن أبي أوفى من الصّحابة، ومالكٌ، واللّيث، وابن عيينة، و عليّ بن الجعد، في عددٍ جمٍّ من المتقدّمين، والمتأخّرين. وفيهم غير واحدٍ حدّثوا بعد استيفاء مائة سنةٍ، منهم: الحسن بن عرفة، و أبو القاسم البغويّ، و أبو إسحاق الهجيميّ، و القاضي أبو الطّيّب الطّبريّ رضي اللّه عنهم أجمعين، واللّه أعلم.
ثمّ إنّه لا ينبغي للمحدّث أن يحدّث بحضرة من هو أولى منه بذلك.
[و] كان إبراهيم، و الشّعبيّ إذا اجتمعا لم يتكلّم إبراهيم بشيءٍ، وزاد بعضهم فكره الرّواية ببلدٍ فيه من المحدّثين من هو أولى منه، لسنّه، أو لغير ذلك.
روّينا... عن يحيى بن معينٍ، قال: " إذا حدّثت في بلدٍ فيه مثل أبي مسهرٍ فيجب للحيتي أن تحلق".... وعنه أيضًا: " إنّ الّذي يحدّث بالبلدة - وفيها من هو أولى بالتّحديث منه - فهو أحمق".
وينبغي للمحدّث - إذا التمس منه ما يعلمه عند غيره، في بلده، أو غيره، بإسنادٍ أعلى من إسناده، أو أرجح من وجهٍ آخر - أن يعلم الطّالب به، ويرشده إليه، فإنّ الدّين النّصيحة.
ولا يمتنع من تحديث أحدٍ لكونه غير صحيح النّيّة فيه، فإنّه يرجى له حصول النّيّة من بعد.
روّينا عن معمرٍ، قال: كان يقال: " إنّ الرّجل ليطلب العلم لغير اللّه، فيأبى عليه العلم حتّى يكون للّه عزّ وجلّ".
وليكن حريصًا على نشره مبتغيًا جزيل أجره، وقد كان في السّلف رضي اللّه عنهم من يتألّف النّاس على حديثه، منهم عروة بن الزّبير رضي اللّه عنهما، (واللّه أعلم).
وليقتد بمالكٍ رضي اللّه عنه فيما أخبرناه أبو القاسم الفراويّ بنيسابور، قال: أنا أبو المعالي الفارسيّ، أنا أبو بكرٍ البيهقيّ الحافظ، قال: أنا أبو عبد اللّه الحافظ، قال: أخبرني إسماعيل بن محمّد بن الفضل بن محمّدٍ الشّعرانيّ، حدّثنا جدّي، قال: حدّثنا إسماعيل بن أبي أويسٍ، قال:"... كان مالك بن أنسٍ إذا أراد أن يحدّث توضّأ، وجلس على صدر فراشه، وسرّح لحيته، وتمكّن في جلوسه بوقارٍ وهيبةٍ، وحدّث". فقيل له في ذلك، فقال: " أحبّ أن أعظّم حديث رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وسلّم - ولا أحدّث إلّا على طهارةٍ متمكّنًا"....
وكان يكره أن يحدّث في الطّريق، أو هو قائمٌ، أو يستعجل، وقال:"... أحبّ أن أتفهّم ما أحدّث به عن رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وسلّم... -".
وروي أيضًا عنه أنّه كان يغتسل لذلك، ويتبخّر ويتطيّب، فإن رفع أحدٌ صوته في مجلسه زبره وقال: قال اللّه تعالى: (يا أيّها الّذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النّبيّ) فمن رفع صوته عند حديث رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وسلّم - فكأنّما رفع صوته فوق صوت رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وسلّم -.
وروّينا - أو بلغنا - عن محمّد بن أحمد بن عبد اللّه الفقيه أنّه قال: " القارئ لحديث رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وسلّم - إذا قام لأحدٍ فإنّه يكتب عليه خطيئةٌ".
ويستحبّ له مع أهل مجلسه ما ورد... عن حبيب بن أبي ثابتٍ أنّه قال: " إنّ من السّنّة إذا حدّث الرّجل القوم أن يقبل عليهم جميعًا"...، واللّه أعلم.
ولا يسرد الحديث سردًا يمنع السّامع من إدراك بعضه، وليفتتح مجلسه، وليختتمه بذكرٍ، ودعاءٍ يليق بالحال، ومن أبلغ ما يفتتحه به أن يقول: " الحمد للّه ربّ العالمين، أكمل الحمد على كلّ حالٍ، والصّلاة والسّلام الأتمّان، على سيّد المرسلين، كلّما ذكره الذّاكرون، وكلّما غفل عن ذكره الغافلون، اللّهمّ صلّ عليه، وعلى آله وسائر النّبيّين، وآل كلٍّ، وسائر الصّالحين، نهاية ما ينبغي أن يسأله السّائلون".
ويستحبّ للمحدّث العارف عقد مجلسٍ لإملاء الحديث، فإنّه من أعلى مراتب الرّاوين، والسّماع فيه من أحسن وجوه التّحمّل، وأقواها، وليتّخذ مستمليًا يبلّغ عنه إذا كثر الجمع، فذلك دأب أكابر المحدّثين المتصدّين لمثل ذلك.
وممّن روي عنه ذلك: مالكٌ، و شعبة، ووكيعٌ، و أبو عاصمٍ، و يزيد بن هارون، في عددٍ كثيرٍ من الأعلام السّالفين.
وليكن مستمليه محصّلًا متيقّظًا، كيلا يقع في مثل ما روّينا أنّ يزيد بن هارون سئل عن حديثٍ، فقال: " حدّثنا به عدّةٌ "، فصاح به مستمليه: " يا أبا خالدٍ، عدّة ابن من؟ "، فقال له: " عدّة ابن فقدتك".
وليستمل على موضعٍ مرتفعٍ من كرسيٍّ، أو نحوه، فإن لم يجد استملى قائمًا، وعليه أن يتّبع لفظ المحدّث، فيؤدّيه على وجهه من غير خلافٍ، والفائدة في استملاء المستملي توصّل من يسمع لفظ المملي على بعدٍ منه إلى تفهّمه، وتحقّقه بإبلاغ المستملي.
وأمّا من لم يسمع إلّا لفظ المستملي، فليس يستفيد بذلك جواز روايته لذلك عن المملي مطلقًا، من غير بيان الحال فيه، وفي هذا كلامٌ قد تقدّم في النّوع الرّابع والعشرين.
ويستحبّ افتتاح المجلس بقراءة قارئٍ لشيءٍ من القرآن العظيم، فإذا فرغ استنصت المستملي أهل المجلس إن كان فيه لغطٌ، ثمّ يبسمل، ويحمد اللّه تبارك وتعالى، ويصلّي على رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وسلّم -، ويتحرّى الأبلغ في ذلك، ثمّ يقبل على المحدّث، ويقول: من ذكرت أو ما ذكرت رحمك اللّه، أو غفر اللّه لك، أو نحو ذلك، (واللّه أعلم).
وكلّما انتهى إلى ذكر النّبيّ - صلّى اللّه عليه وسلّم - صلّى عليه، وذكر الخطيب أنّه يرفع صوته بذلك، وإذا انتهى إلى ذكر الصّحابيّ قال: " رضي اللّه عنه".
ويحسن بالمحدّث الثّناء على شيخه في حالة الرّواية عنه بما هو أهلٌ له، فقد فعل ذلك غير واحدٍ من السّلف، والعلماء، كما روي عن عطاء بن أبي رباحٍ أنّه كان إذا حدّث عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما، قال: " حدّثني البحر "، وعن وكيعٍ أنّه قال: " حدّثنا سفيان أمير المؤمنين في الحديث".
وأهمّ من ذلك الدّعاء له عند ذكره، فلا يغفلنّ عنه.
ولا بأس بذكر من يروي عنه بما يعرف به من لقبٍ، كغندرٍ لقب محمّد بن جعفرٍ صاحب شعبة، و لوينٍ لقب محمّد بن سليمان المصّيصيّ، أو نسبةٍ إلى أمٍّ عرف بها، كيعلى ابن منية الصّحابيّ وهو ابن أميّة، ومنية أمّه، وقيل: جدّته أمّ أبيه، أو وصفٍ بصفة نقصٍ في جسده عرف بها، كسليمان الأعمش، وعاصمٍ الأحول، إلّا ما يكرهه من ذلك، كما في إسماعيل بن إبراهيم المعروف بابن عليّة، وهي أمّه،
وقيل: أمّ أمّه، روّينا عن يحيى بن معينٍ أنّه كان يقول: " حدّثنا إسماعيل ابن عليّة "، فنهاه أحمد بن حنبلٍ، وقال: " قل: إسماعيل بن إبراهيم، فإنّه بلغني أنّه كان يكره أن ينسب إلى أمّه "، فقال: " قد قبلنا منك يا معلّم الخير".
وقد استحبّ للمملي أن يجمع في إملائه بين الرّواية عن جماعةٍ من شيوخه، مقدّمًا للأعلى إسنادًا، أو الأولى من وجهٍ آخر، ويملي عن كلّ شيخٍ منهم حديثًا واحدًا ويختار ما علا سنده وقصر متنه، فإنّه أحسن، وأليق، وينتقي ما يمليه ويتحرّى المستفاد منه، وينبّه على ما فيه من فائدةٍ، وعلوٍّ، وفضيلةٍ، ويتجنّب ما لا تحتمله عقول الحاضرين، وما يخشى فيه من دخول الوهم عليهم في فهمه.
وكان من عادة غير واحدٍ من المذكورين ختم الإملاء بشيءٍ من الحكايات، والنّوادر، والإنشادات بأسانيدها، وذلك حسنٌ، (واللّه أعلم).
وإذا قصّر المحدّث عن تخريج ما يمليه، فاستعان ببعض حفّاظ وقته، فخرّج له فلا بأس بذلك.
قال الخطيب: " كان جماعةٌ من شيوخنا يفعلون ذلك".
وإذا نجز الإملاء فلا غنى عن مقابلته، وإتقانه وإصلاح ما فسد منه بزيغ القلم، وطغيانه.
هذه عيونٌ من آداب المحدّث، اجتزأنا بها معرضين عن التّطويل بما ليس من مهمّاتها، أو هو ظاهرٌ ليس من مستبهماتها، واللّه الموفّق، والمعين، وهو أعلم.
النّوع الثّامن والعشرون
معرفة آداب طالب الحديث
وقد اندرج طرفٌ منه في ضمن ما تقدّم.
فأوّل ما عليه تحقيق الإخلاص، والحذر من أن يتّخذه وصلةً إلى شيءٍ من الأغراض الدّنيويّة.
روّينا... عن حمّاد بن سلمة رضي اللّه عنه أنّه قال: " من طلب الحديث لغير اللّه مكر به"....
وروّينا... عن سفيان الثّوريّ رضي اللّه عنه قال: " ما أعلم عملًا هو أفضل من طلب الحديث لمن أراد اللّه به...". وروّينا نحوه عن ابن المبارك رضي اللّه عنه.
ومن أقرب الوجوه في إصلاح النّيّة فيه ما روّينا... عن أبي عمرٍو إسماعيل بن نجيدٍ أنّه سأل أبا جعفرٍ أحمد بن حمدان، وكانا عبدين صالحين، فقال له: " بأيّ نيّةٍ أكتب الحديث؟ " فقال: " ألستم تروون أنّ عند ذكر الصّالحين تنزل الرّحمة؟ " قال: " نعم "، قال: " فرسول اللّه - صلّى اللّه عليه وسلّم - رأس الصّالحين"....
وليسأل اللّه تبارك وتعالى التّيسير، والتّأييد، والتّوفيق، والتّسديد، وليأخذ نفسه بالأخلاق الزّكيّة، والآداب المرضيّة، فقد روّينا... عن أبي عاصمٍ النّبيل، قال: " من طلب هذا الحديث فقد طلب أعلى أمور الدّين، فيجب أن يكون خير النّاس"....
وفي السّنّ الّذي يستحبّ فيه الابتداء بسماع الحديث، وبكتبته اختلافٌ، سبق بيانه في أوّل النّوع الرّابع والعشرين.
وإذا أخذ فيه فليشمّر عن ساق جهده، واجتهاده، ويبدأ بالسّماع من أسند شيوخ مصره، ومن الأولى فالأولى من حيث العلم، أو الشّهرة، أو الشّرف، أو غير ذلك.
وإذا فرغ من سماع العوالي والمهمّات الّتي ببلده فليرحل إلى غيره.
روّينا... عن يحيى بن معينٍ أنّه قال: " أربعةٌ لا تؤنس منهم رشدًا: حارس الدّرب، ومنادي القاضي، وابن المحدّث، ورجلٌ يكتب في بلده ولا يرحل في طلب الحديث"....
وروّينا... عن أحمد بن حنبلٍ رضي اللّه عنه أنّه قيل له: " أيرحل الرّجل في طلب العلوّ؟ " فقال: " بلى، واللّه شديدًا، لقد كان علقمة، والأسود يبلغهما الحديث عن عمر رضي اللّه عنه، فلا يقنعهما حتّى يخرجا إلى عمر رضي اللّه عنه فيسمعانه منه"...، واللّه أعلم.
وعن إبراهيم بن أدهم رضي اللّه عنه أنّه قال: " إنّ اللّه تعالى يدفع البلاء عن هذه الأمّة برحلة أصحاب الحديث"....
ولا يحملنّه الحرص، والشّره على التّساهل في السّماع، والتّحمّل، والإخلال بما يشترط عليه في ذلك، على ما تقدّم شرحه.
وليستعمل ما يسمعه من الأحاديث الواردة بالصّلاة والتّسبيح وغيرهما من الأعمال الصّالحة، فذلك زكاة الحديث، على ما روّينا... عن العبد الصّالح بشر بن الحارث الحافي رضي اللّه عنه، وروّينا عنه أيضًا أنّه قال: " يا أصحاب الحديث، أدّوا زكاة هذا الحديث، اعملوا من كلّ مائتي حديثٍ بخمسة أحاديث"....
وروّينا... عن عمرو بن قيسٍ الملائي ّ رضي اللّه عنه، قال: " إذا بلغك شيءٌ من الخير فاعمل به ولو مرّةً تكن من أهله"....
وروّينا عن وكيعٍ، قال: " إذا أردت أن تحفظ الحديث فاعمل به"....
وليعظّم شيخه، ومن يسمع منه، فذلك من إجلال الحديث، والعلم، ولا يثقل عليه، ولا يطوّل بحيث يضجره، فإنّه يخشى على فاعل ذلك أن يحرم الانتفاع، وقد روّينا... عن الزّهريّ أنّه قال: " إذا طال المجلس كان للشّيطان فيه نصيبٌ"...، (واللّه أعلم).
ومن ظفر من الطّلبة بسماع شيخٍ فكتمه غيره، لينفرد به عنهم، كان جديرًا بأن لا ينتفع به، وذلك من اللّؤم الّذي يقع فيه جهلة الطّلبة الوضعاء، ومن أوّل فائدة طلب الحديث الإفادة، روّينا... عن مالكٍ رضي اللّه عنه أنّه قال: " من بركة الحديث إفادة بعضهم بعضًا"....
وروّينا... عن إسحاق بن إبراهيم راهويه أنّه قال لبعض من سمع منه في جماعةٍ: " انسخ من كتابهم ما قد قرأت، فقال: إنّهم لا يمكّنونني، قال: إذًا واللّه لا يفلحون، قد رأينا أقوامًا منعوا هذا السّماع، فواللّه ما أفلحوا، ولا أنجحوا"....
قلت: وقد رأينا نحن أقوامًا منعوا السّماع فما أفلحوا، ولا أنجحوا، ونسأل اللّه العافية، واللّه أعلم.
ولا يكن ممّن يمنعه الحياء، أو الكبر عن كثيرٍ من الطّلب. وقد روّينا... عن مجاهدٍ رضي اللّه عنه أنّه قال: " لا يتعلّم مستحٍ ولا مستكبرٌ"...، وروّينا... عن عمر بن الخطّاب، وابنه رضي اللّه عنهما أنّهما قالا: " من رقّ وجهه رقّ علمه"....
ولا يأنف من أن يكتب عمّن دونه ما يستفيده منه. روّينا... عن وكيع بن الجرّاح رضي اللّه عنه أنّه قال: " لا ينبل الرّجل من أصحاب الحديث حتّى يكتب عمّن هو فوقه وعمّن هو مثله، وعمّن هو دونه"...، وليس بموفّقٍ من ضيّع شيئًا من وقته في الاستكثار من الشّيوخ، لمجرّد اسم الكثرة وصيتها.
وليس من ذلك... قول أبي حاتمٍ الرّازيّ: " إذا كتبت فقمّش، وإذا حدّثت ففتّش".... وليكتب، وليسمع ما يقع إليه من كتابٍ أو جزءٍ على التّمام، ولا ينتخب. فقد... قال ابن المبارك رضي اللّه عنه: " ما انتخبت على عالمٍ قطّ إلّا ندمت".... وروّينا عنه أنّه قال: " لا ينتخب على عالمٍ إلّا بذنبٍ "، وروّينا - أو بلغنا -... عن يحيى بن معينٍ أنّه قال: " سيندم المنتخب في الحديث حين لا تنفعه النّدامة"....
فإن ضاقت به الحال عن الاستيعاب، وأحوج إلى الانتقاء، والانتخاب، تولّى ذلك بنفسه إن كان أهلًا مميّزًا، عارفًا بما يصلح للانتقاء، والاختيار، وإن كان قاصرًا عن ذلك استعان ببعض الحفّاظ لينتخب له. وقد كان جماعةٌ من الحفّاظ متصدّين للانتقاء على الشّيوخ، والطّلبة تسمع وتكتب بانتخابهم، منهم إبراهيم بن أرمة الأصبهانيّ، وأبو عبد اللّه الحسين بن محمّدٍ المعروف بعبيدٍ العجل، و أبو الحسن الدّارقطنيّ، و أبو بكرٍ الجعابيّ، في آخرين.
وكانت العادة جاريةً برسم الحافظ علامةً في أصل الشّيخ على ما ينتخبه، فكان النّعيميّ أبو الحسن يعلّم بصادٍ ممدودةٍ، وأبو محمّدٍ الخلّال بطاءٍ ممدودةٍ، و أبو الفضل الفلكيّ بصورة همزتين، وكلّهم يعلّم بحبرٍ في الحاشية اليمنى من الورقة، وعلّم الدّارقطنيّ في الحاشية اليسرى بخطٍّ عريضٍ بالحمرة، وكان أبو القاسم اللّالكائيّ الحافظ يعلّم بخطٍّ صغيرٍ بالحمرة على أوّل إسناد الحديث، ولا حجر في ذلك ولكلٍّ الخيار.
ثمّ لا ينبغي لطالب الحديث أن يقتصر على سماع الحديث، وكتبه دون معرفته، وفهمه، فيكون قد أتعب نفسه من غير أن يظفر بطائلٍ، وبغير أن يحصل في عداد أهل الحديث، بل لم يزد على أن صار من المتشبّهين المنقوصين، المتحلّين بما هم منه عاطلون.
قلت: أنشدني أبو المظفّر بن الحافظ أبي سعدٍ السّمعانيّ رحمه اللّه - لفظًا - بمدينة مرو، قال: أنشدنا والدي - لفظًا، أو قراءةً عليه - قال: أنشدنا محمّد بن ناصرٍ السّلاميّ من لفظه، قال: أنشدنا الأديب الفاضل فارس بن الحسين لنفسه:
يا طالب العلم الّذي = ذهبت بمدّته الرّوايه
كن في الرّواية ذا العنا = ية بالرّواية والدّرايه
وارو القليل وراعه = فالعلم ليس له نهايه
وليقدّم العناية بالصّحيحين، ثمّ بسنن أبي داود، وسنن النّسائيّ، وكتاب التّرمذيّ، ضبطًا لمشكلها، وفهمًا لخفيّ معانيها، ولا يخدعنّ عن كتاب السّنن الكبير للبيهقيّ، فإنّا لا نعلم مثله في بابه.
ثمّ بسائر ما تمسّ حاجة صاحب الحديث إليه من كتب المساند كمسند أحمد، ومن كتب الجوامع المصنّفة في الأحكام المشتملة على المسانيد وغيرها، وموطّأ مالكٍ هو المقدّم منها.
ومن كتب علل الحديث، ومن أجودها كتاب العلل عن أحمد بن حنبلٍ، وكتاب العلل عن الدّارقطنيّ.
ومن كتب معرفة الرّجال وتواريخ المحدّثين، ومن أفضلها (تاريخ البخاريّ الكبير) و (كتاب الجرح والتّعديل) لابن أبي حاتمٍ.
ومن كتب الضّبط لمشكل الأسماء، ومن أكملها " كتاب الإكمال " لأبي ناصر بن ماكولا.
وليكن كلّما مرّ به اسمٌ مشكلٌ، أو كلمةٌ من حديثٍ مشكلةٌ، بحث عنها، وأودعها قلبه، فإنّه يجتمع له بذلك علمٌ كثيرٌ في يسرٍ.
وليكن تحفّظه للحديث على التّدريج قليلًا قليلًا مع الأيّام واللّيالي، فذلك أحرى بأن يمتّع بمحفوظه.
وممّن ورد ذلك عنه من حفّاظ الحديث المتقدّمين: شعبة، و ابن عليّة، ومعمرٌ.
وروّينا عن معمرٍ قال:... سمعت الزّهريّ يقول: " من طلب العلم جملةً فاته جملةً، وإنّما يدرك العلم حديثًا، وحديثين"....
وليكن الإتقان من شأنه، فقد... قال عبد الرّحمن بن مهديٍّ: " الحفظ الإتقان"....
ثمّ إنّ المذاكرة بما يتحفّظه من أقوى أسباب الإمتاع به، روّينا... عن علقمة النّخعيّ قال: " تذاكروا الحديث، فإنّ حياته ذكره"....... وعن إبراهيم النّخعيّ قال: " من سرّه أن يحفظ الحديث، فليحدّث به، ولو أن يحدّث به من لا يشتهيه"....
وليشتغل بالتّخريج، والتّأليف، والتّصنيف إذا استعدّ لذلك، وتأهّل له، فإنّه - كما قال الخطيب الحافظ - يثبّت الحفظ، ويذكّي القلب، ويشحذ الطّبع، ويجيد البيان، ويكشف الملتبس، ويكسب جميل الذّكر، ويخلّده إلى آخر الدّهر، وقلّ ما يمهر في علم الحديث، ويقف على غوامضه، ويستبين الخفيّ من فوائده إلّا من فعل ذلك.
وحدّث الصّوريّ الحافظ محمّد بن عليٍّ قال: " رأيت أبا محمّدٍ عبد الغنيّ بن سعيدٍ الحافظ في المنام، فقال لي: يا أبا عبد اللّه، خرّج، وصنّف قبل أن يحال بينك وبينه، هذا أنا تراني قد حيل بيني وبين ذلك"....
وللعلماء بالحديث في تصنيفه طريقتان:
إحداهما: التّصنيف على الأبواب، وهو تخريجه على أحكام الفقه، وغيرها، وتنويعه أنواعًا وجمع ما ورد في كلّ حكمٍ، وكلّ نوعٍ في بابٍ فبابٍ.
والثّانية: تصنيفه على المسانيد، وجمع حديث كلّ صحابيٍّ وحده، وإن اختلفت أنواعه، ولمن اختار ذلك أن يرتّبهم على حروف المعجم في أسمائهم، وله أن يرتّبهم على القبائل، فيبدأ ببني هاشمٍ، ثمّ بالأقرب، فالأقرب نسبًا من رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وسلّم -، وله أن يرتّب على سوابق الصّحابة، فيبدأ بالعشرة، ثمّ بأهل بدرٍ، ثمّ بأهل الحديبية، ثمّ بمن أسلم، وهاجر بين الحديبية، وفتح مكّة، ويختم بأصاغر الصّحابة كأبي الطّفيل، ونظرائه، ثمّ بالنّساء، وهذا أحسن، والأوّل أسهل، وفي ذلك من وجوه التّرتيب غير ذلك.
ثمّ إنّ من أعلى المراتب في تصنيفه تصنيفه معلّلًا، بأن يجمع في كلّ حديثٍ طرفه، واختلاف الرّواة فيه، كما فعل يعقوب بن شيبة في مسنده.
وممّا يعتنون به في التّأليف جمع الشّيوخ، أي: جمع حديث شيوخٍ مخصوصين كلّ واحدٍ منهم على انفراده.... قال عثمان بن سعيدٍ الدّارميّ: " يقال: من لم يجمع حديث هؤلاء الخمسة فهو مفلسٌ في الحديث: سفيان، و شعبة، ومالكٌ، و حمّاد بن زيدٍ، و ابن عيينة، وهم أصول الدّين"....
وأصحاب الحديث يجمعون حديث خلقٍ كثيرٍ غير الّذين ذكرهم الدّارميّ، منهم: أيّوب السّختيانيّ، و الزّهريّ، و الأوزاعيّ.
ويجمعون أيضًا التّراجم، وهي أسانيد يخصّون ما جاء بها بالجمع، والتّأليف، مثل ترجمة مالكٍ عن نافعٍ، عن ابن عمر، وترجمة سهيل بن أبي صالحٍ، عن أبيه، عن أبي هريرة، وترجمة هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي اللّه عنها، في أشباهٍ لذلك كثيرةٍ.
ويجمعون أيضًا أبوابًا من أبواب الكتب المصنّفة الجامعة للأحكام، فيفردونها بالتّأليف، فتصير كتبًا مفردةً نحو باب رؤية اللّه عزّ وجلّ، وباب رفع اليدين، وباب القراءة خلف الإمام، وغير ذلك.
ويفردون أحاديث، فيجمعون طرقها في كتبٍ مفردةٍ نحو طرق حديث قبض العلم، وحديث الغسل يوم الجمعة، وغير ذلك. وكثيرٌ من أنواع كتابنا هذا قد أفردوا أحاديثه بالجمع والتّصنيف.
وعليه في كلّ ذلك تصحيح القصد، والحذر من قصد المكاثرة ونحوه.
بلغنا عن حمزة بن محمّدٍ الكنانيّ: أنّه خرّج حديثًا واحدًا من نحو مائتي طريقٍ، فأعجبه ذلك، فرأى يحيى بن معينٍ في منامه، فذكر له ذلك، فقال له: أخشى أن يدخل هذا تحت: (ألهاكم التّكاثر).
ثمّ ليحذر أن يخرج إلى النّاس ما يصنّفه إلّا بعد تهذيبه، وتحريره، وإعادة النّظر فيه، وتكريره.
وليتّق أن يجمع ما لم يتأهّل بعد لاجتناء ثمرته، واقتناص فائدة جمعه، كيلا يكون حكمه ما روّيناه... عن عليّ بن المدينيّ، قال: إذا رأيت الحدث أوّل ما يكتب الحديث، يجمع حديث الغسل، وحديث: " من كذب " فاكتب على قفاه " لا يفلح"....
ثمّ إنّ هذا الكتاب مدخلٌ إلى هذا الشّأن، مفصحٌ عن أصوله وفروعه، شارحٌ لمصطلحات أهله ومقاصدهم ومهمّاتهم الّتي ينقص المحدّث بالجهل بها نقصًا فاحشًا، فهو إن شاء اللّه جديرٌ بأن تقدّم العناية به، ونسأل اللّه سبحانه فضله العظيم، وهو أعلم.

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
السابع, النوع

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 07:36 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir