دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > الفقه > متون الفقه > زاد المستقنع > كتاب الحدود

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 11 ربيع الثاني 1432هـ/16-03-2011م, 04:33 PM
الصورة الرمزية ساجدة فاروق
ساجدة فاروق ساجدة فاروق غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 6,511
افتراضي تابع الشرح الممتع على زاد المستقنع / للشيخ ابن عثيمين رحمه الله


أَوْ سَبَّ اللهَ أَوْ رَسُولَهُ فَقَدْ كَفَرَ، ......................
قوله: «أَوْ سَبَّ اللهَ» أي: وصفه بالعيب، وأعظم السب أن يلعن الله ـ والعياذ بالله ـ أو يعترض على أحكامه الكونية، أو الشرعية بالعيب، ولو على سبيل اللمز والتعريض، حتى لو كان تعريضاً فإنه يكفر؛ لأن هذا امتهان لمقام الربوبية، وهو أمر عظيم، فمن سب الله، سواء بالقول أم بالإشارة، وسواء كان جادّاً أم هازلاً، بل سَبُّ الله هازلاً أعظم وأكبر، فإنه يكون كافراً لقول الله تعالى: {{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ *}{لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}} [التوبة: 65، 66] ، ولأن سب الله ـ عزّ وجل ـ تنقُّص له فيكون خسراناً، فكل من تنقَّص الله بقوله، أو فعله، أو قلبه فهو كافر؛ لأن الإيمان إيمان بالله عزّ وجل، وبما له من الصفات الكاملة، والربوبية التامة، فإذا سب الله فإنه يكون كافراً، حتى وإن قال: إنما قلت ذلك هازلاً لا جادّاً، نقول: هذا أقبح أن تجعل الله تعالى محل الهزء، والهزل، والسخرية.
قوله: «أَوْ رَسُولَهُ» كذلك إذا سب الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فإنه كافر.
وقوله: «رسوله» ينبغي أن نجعلها من باب المفرد المضاف؛ حتى يشمل جميع الرسل، فمن سب أي رسول من الرسل فإنه كافر؛ لأن هذا ليس تنقُّصاً للرسول بشخصه، بل هو تنقُّص لرسالته، وهي الوحي، ويتضمن تنقصاً للذي أرسله؛ فسب الرسول سب لمن أرسله؛ لأنه لا شك أنه من النقص أن يُرسَل بشر إلى الخلق يستبيح دماءهم، وأموالهم، وذراريهم، وهو محل النقص، فهذا يعتبر سفهاً، ولهذا قال الله ـ عزّ وجل ـ: {{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}} [الأنعام: 124] ، فهو سبحانه وتعالى ما جعل الرسالة إلا فيمن هو أهل لها، وجدير بها؛ لما علم ـ سبحانه وتعالى ـ في سابق علمه أنه أهل لتحمل ما كلف به، وليس كل أحد يكون أهلاً للرسالة، ولهذا قال السفّاريني رحمه الله ـ أقوله مستشهداً لا مستدلاً ـ:
ولا تنـال رتـبة النـبوة *** بالكسب والتهذيب والفتوة
لكنها فضل من المولى الأجل *** لمن يشاء من خلقه إلى الأجل

فالحاصل أن سب الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ سب لمن أرسله، ومنافٍ لحقه الذي هو أوجب الحقوق البشرية، وحقه التعظيم، والإجلال، والتوقير، حتى إن الله ـ عزّ وجل ـ جعل من أسباب الرسالة، ومن حكمة الرسالة أن نؤمن بالله ورسوله، ونعزره ونوقره: {{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا *} {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ}} [الفتح: 8، 9] ، فهذا ركن وأساس وحكمة من حكم إرسال الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ، ولا شك أن سبَّ النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ مع كونه تنقصاً له ولمن أرسله، فهو أيضاً تنقص لشريعته؛ ولهذا إذا سب أحد من الناس رجلاً فإن سبه ينعكس على منهاجه الذي انتهجه، ويكون نفس المنهاج الذي انتهجه عند الناس منقوصاً؛ لأنه سب من قام بهذا المنهج، فسب الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ إذاً تضمن ثلاثة أمور، كل واحد منها كفر: سب الله، وسب الرسول، وسب شريعته.
قوله: «فقد كَفَرَ» هذه الجملة جواب الشرط في قوله: «فمن أشرك بالله» والمراد كفر كفراً مخرجاً عن الملة، ولا نقول: إنه كفر كفراً دون كفر؛ لأن هذا الباب باب حكم المرتد، يعني الكافر كفراً مطلقاً.
ثم انتقل المؤلف لنوع آخر من أسباب الردة، وهو الجحد، ويدخل في الاعتقاد؛ لأن الجحد إن كان بالقلب فهو في الاعتقاد، وإن كان باللسان فهو من القول، فقال المؤلف:

وَمَنْ جَحَدَ تَحْرِيمَ الزِّنَا، أَوْ شَيْئاً مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الظاهِرَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا بِجَهْلٍ عُرِّفَ ذلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ لاَ يَجْهَلُهُ كَفَرَ.
قوله: «وَمَنْ جَحَدَ تَحْرِيمَ الزِّنَا، أَوْ شَيْئاً مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الظاهِرَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا بِجَهْلٍ عُرِّفَ ذلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ لاَ يَجْهَلُهُ كَفَرَ» إن جحد تحريم الزنا، بأن قال: الزنا حلال والعياذ بالله، فينظر إن كان جاهلاً لم يكفر، وإن كان عالماً كفر، لكن أي ميزان ندرك به أنه عالم، أو غير عالم؟ إذا كان ناشئاً بين المسلمين فإن هذا يقتضي أن يكون عالماً فيكفر، وإن كان حديث عهد بإسلام، أو ناشئاً ببادية بعيدة؛ لأن البادية والأعراب بعيدون عن معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم فإن هذا لا يكفر إذا أنكر تحريمه وادعى أنه جاهل، لكن إذا عُلِّم فأصر فهذا يكفر.
وقوله: «أَوْ شَيئاً مِنَ المُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ المُجْمَعِ عَلَيْهَا» مثل تحريم الربا، فقال: الربا حلال، يعني ما جحد تحريم نوع معين مما يجري فيه الخلاف بين العلماء، فمثلاً تفاحة بتفاحتين ربا عند الشافعي، وليست ربا عند الإمام أحمد، فلو قال: أصحاب الإمام أحمد: إن تفاحة بتفاحتين حلال لا يكفرون، لكن مراد المؤلف إذا أنكر تحريم الربا جملة، فهذا كافر بلا شك؛ لأن تحريم الربا نص في القرآن: {{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}} [البقرة: 275] فيكون جحد تحريمه تكذيباً لله ـ عزّ وجل ـ فيكون كافراً.
وتحريم الربا من حيث الجملة مجمع عليه إجماعاً قطعياً، فكل المسلمين يجمعون على أن الربا محرم، وأيضاً الخمر مجمع عليه إجماعاً قطعيّاً بين المسلمين، فإذا قال قائل: إن الخمر ليس بحرام فهو كافر، لكن بشرط أن يكون ناشئاً بين المسلمين، وعارفاً لأحكام الإسلام، أما لو فرض أنه أسلم حديثاً ولا يعلم، وهو في حال كفره يشرب الخمر، فوجدناه يشرب الخمر بعد إسلامه، فسألناه كيف تشرب الخمر؟! قال: الخمر حلال، فإن هذا لا يكفر؛ لأنه جاهل، وجاحد التحريم إذا كان جاهلاً به فإنه لا يكفر، ولهذا قيده المؤلف بقوله: «وإن كان مثله لا يجهله».
وقوله: «المحرمات الظاهرة» احترازاً من المحرمات الخفية التي لا يطلع على تحريمها إلا العلماء، فإن هذه لا يكفر منكر تحريمها؛ لأن الناس عامتهم يجهلونها.
قال العلماء أيضاً: «أو أنكر تحليل المحللات الظاهرة المجمع عليها فإنه يكون كافراً، مثل حل الخبز، أو بيض الدجاج.
قال صاحب الإقناع[(230)]: قال الشيخ ـ أي: شيخ الإسلام ابن تيمية ـ فصاحب الإقناع إذا قال: الشيخ، فهو شيخ الإسلام ابن تيمية، كما ذكر ذلك في أول كتابه، لكن إذا رأيت الشيخ في الإنصاف أو الفروع أو التنقيح فالمراد به الموفق[(231)]، فقال ـ رحمه الله ـ: باب حكم المرتد، وهو الذي يكفر بعد إسلامه، ولو مميزاً طوعاً، ولو هازلاً.
فقوله: «طوعاً» احترازاً مما إذا أكره، فإذا أكره على الكفر فكَفَر، فإن فعله لداعي الإكراه ـ أي: دفعاً للإكراه ـ فلا يكفر لقوله تعالى: {{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }} [النحل:106] ، وأما إذا فعله لا لداعي الإكراه، لكنه لما أكره كفر، وليس في قلبه تلك الساعة أنه يريد بذلك مدافعة الإكراه، فقد اختلف العلماء هل يكفر أو لا؟ والصحيح أنه لا يكفر؛ وذلك لأنه غير مريد لذلك، ولا مختار له، وعموم الآية يشمل هذا.
أما إذا فعله مطمئناً بذلك، وقال في نفسه: لما أكرهت على الكفر كفرت، فلا شك أنه يكفر؛ لأن قلبه حينئذٍ غير مطمئن بالإيمان.
فصار المكره له ثلاث حالات:
إما أن يفعل ذلك لدفع الإكراه، فهذا لا يكفر قولاً واحداً.
أو يفعل ذلك مطمئناً بما أكره عليه، فهذا يكفر قولاً واحداً.
أو يفعله غير مطمئن، لكن لأنه مكره وهو لا يريد ذلك، فهذا فيه خلاف، والصحيح أنه لا يكفر.
وكذلك نقول في مسألة الإكراه على الطلاق وشبهه، وجامع ذلك أنه لا اختيار له، ولا إرادة له، وهو يحب أن تنطبق عليه السماء، ولا يكفر.
وقوله: «ولو هازلاً» يعني ولو مازحاً، بل قد يكون الهازل أعظم من الجاد؛ لأنه جمع بين الكفر والهزء بالله عزّ وجل، فمن سخر بالدين، وقال: أنا ما قصدت إلا المزح والضحك، قلنا: إنك كفرت، وإذا كنت صادقاً فتب إلى الله عزّ وجل، واغتسل وعد إلى الإسلام، والتوبة تَجُبُّ ما قبلها.
قال صاحب الإقناع: «أو جحد الملائكة» لو جحد الملائكة فهو كافر، أو جحد الجن، فهو ـ أيضاً ـ كافر؛ لأنه مكذب للقرآن، فأما من جحد دخول الجني في الإنس فهو ضال، وليس بكافر فهو ضال؛ لأنه قال قولاً ينكره الواقع، وينكره الثابت بالأخبار عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ، وعن غيره، وفي حديث الصبي الذي جاءت به أمه إلى النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهو يُصرَع، فقال الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ للجن الذي فيه: «اخرج عدو الله، فإني رسول الله» ، فخرج الجني من هذا الصبي، فلما رجع ـ عليه الصلاة والسلام ـ من غزوته، وكان قد قال لأمه: أخبريني عن شأنه، وجد أمه قد أعدت للنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ شاة، وسمناً، وأقِطاً، وأخبرته أن ولدها شُفي، ولم يعد إليه ذلك الجني، والحديث صحيح[(232)]، والأخبار كثيرة عن أئمة المسلمين وعلمائهم في ذلك فلا تنكر، وكان شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ يؤتى إليه بالمصروع، فيضربه، ويخاطب الجني، ويعاهده، فيخرج ولا يعود، وحكى عنه تلميذه ابن القيم أنه ـ رحمه الله ـ جيء إليه برجل مصروع، فأُلقي بين يديه، فكلم الجنية التي صرعته، وقال لها: اخرجي، قالت: إني أحبه، قال: هو لا يحبك، قالت: إني أريد أن أحج به، قال: هو لا يحب أن يحج معك، ثم جعل يعظها، وأبت أن تخرج، فجعل يضرب الرجل على رقبته حتى كَلَّت يد شيخ الإسلام فخرجت، لكنها قالت: أخرج كرامة للشيخ، قال: لا، اخرجي طاعة لله ورسوله، فخرجت، فلما أفاق الرجل قال: ما الذي جاء بي إلى حضرة الشيخ، فقيل له: ما أحسست بهذا الضرب؟ قال: لا والله ما أحسست به!!
انظر كيف يقع الضرب من الصارع، ولا يحس المصروع!! وهذه المسألة لا ينكرها أحد أبداً؛ لأن الشيء المعلوم بالحس إنكاره يكون مكابرة، وضلالاً، وقد أنكر بعض الناس هذا الأمر خاصة من المعاصرين.
قال الشيخ: «أو كان مبغضاً لرسوله، أو لما جاء به، اتفاقاً، وقال: أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم، ويدعوهم، ويسألهم إجماعاً.اهـ».
فالذي يجعل وسائط يتوكل عليهم من دون الله، أو مع الله، أو يدعوهم، أو يستغيث بهم، فهذا كافر بإجماع المسلمين، وسبحان الله أن يكون هذا بإجماع المسلمين ويوجد في الأمة الإسلامية الآن عامة كثيرة يدعون القبور، ومن يزعمونهم أولياء، ويستغيثون بهم، ويتوكلون عليهم أيضاً!!
قال صاحب الإقناع: «أو سجد لصنم، أو شمس، أو قمر، أو أتى بقول، أو فعل صريح في الاستهزاء بالدين»، فلو أتى بفعل، أو قول غير صريح فإننا لا نكفره؛ لأن الأصل بقاء الإسلام، ولا نخرجه من الإسلام إلا بدليل بيِّن، فالذي يحتمل التأويل لا يكفر به، لكن إذا كان صريحاً في الاستهزاء، سواء كان بالفعل، بأن كان يحكي الصلاة بركوعها، وسجودها، وقيامها، وقعودها، متهكماً فهذا يكفر.
قال: «أو وُجِدَ منه امتهان القرآن، أو طلب تناقضه، أو ادَّعى أنه مختلف، أو مختلَق، أو مقدور على مثله، أو إسقاط لحرمته» الذي يعلم منه امتهان القرآن، كما لو ألقاه في الزبالة، أو الكنيف، أو وطئ عليه ـ نسأل الله العافية ـ فهذا كفر؛ أو طلب تناقضه، أو ادعى أن فيه تناقضاً، أو اختلافَه، أو اختلاقَه ـ أي: أنه كذب ـ فكل هذا كفر؛ لأن القرآن كلام الله رب العالمين، فأي عيب تسلطه على هذا الكلام العظيم، فإنك مسلطه على من تكلم به، فيكون أيُّ عيب، أو امتهان، أو طلب تناقض، أو فساد، أو ما أشبه ذلك، مما يكون قدحاً في القرآن، فإنه يكون قدحاً في الله تعالى، وبهذا نعلم عظمة هذا القرآن العظيم الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله، ووالله لولا كثرة المصاحف عندنا لكان الإنسان يطلبه بآلاف الدنانير، كما يوجد الآن في بعض البلاد الإسلامية، فإن بعض الناس يتقاتلون على نسخة من المصحف مقاتلة، وبعضهم يأخذ المصحف وينسخه بيده، وحُقَّ أن يُفعل به ذلك، فإن هذا القرآن كلام الله رب العالمين، فلا كلام أعظم منه، ولا أشد منه حرمة في وجوب العمل به وتنفيذ أحكامه، والتصديق بأخباره.
قال: «أو إسقاط لحرمته، أو أنكر الإسلام، أو الشهادتين، أو أحدهما كفر، لا من حكى كفراً سمعه، ولا يعتقده» فلو قال: قال فلان: كذا وكذا، فهذا لا يعتقده، فإن كان يعتقده لكن حكاه تستراً، مثل ما قيل: إن عبد الله بن أُبي كان يحكي الإفك لا ينسبه إلى نفسه، لكنه يعتقده، أي يحب أن يصدر منه، ولو أن أحداً جاء بكلمة كفرية، وليكن أمام شباب يشككهم في الدين الإسلامي، وقال: قال فلان ابن فلان ونسبه إلى غيره، لكن هو يعتقده، فهذا كافر بلا شك في الباطن، أما ظاهراً فلا نكفره؛ لأنه نسبه إلى غيره، وهذا يوجد ـ والعياذ بالله ـ من بعض الزنادقة الذين يتسمَّوْن بالإسلام، يأتون بأشياء تشكك، لكن لا يقولون: نقول، بل يقولون: لو قيل، أو قال فلان، أو أشكل عليَّ كذا.
قال: «أو نطق بكلمة الكفر، ولم يعلم معناها، ولا من جرى على لسانه سبقاً من غير قصدٍ، لشدَّة فرح، أو دهش، أو غير ذلك» ودليل ذلك، الرجل الذي ضاعت ناقته، وبحث عنها، ولم يجدها، فنام تحت شجرة، فلما استيقظ إذا بخطام ناقته متعلقاً بالشجرة، ففرح فرحاً شديداً عظيماً، فأمسك بخطام الناقة وقال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك[(233)].
فإذاً كما قال شيخ الإسلام: من قال كلمة الكفر لا يعتقد معناها، ولكن قالها لشدة الفرح، أو الذهول، أو ما أشبه ذلك، أو سبق لسان، كما يقع في بعض الأحيان، فإن هذا لا يضر، والحمد لله.
قال: «كقول من أراد أن يقول: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، ومن أطلق الشارع كفره فهو كفر دون كفر، لا يخرج به عن الإسلام، كدعواه لغير أبيه، وكمن أتى عرافاً فصدقه بما يقول، فهو تشديد وكفر، لا يخرج به عن الإسلام» هذا ليس على إطلاقه، بل فيه تفصيل؛ لأن هذا لا شك أنه عمل كفر، لكن ليس بكفر مخرج من الملة، اللهم إلا أن يقترن به ما يقتضي الكفر، كتصديق الكاهن بعلم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، وما أشبه ذلك، فهذا يكون كفراً لا من هذه الناحية، لكن من ناحية أخرى.
قال: «وإن أتى بقول يخرجه عن الإسلام، مثل أن يقول: هو يهودي، أو نصراني، أو مجوسي، أو بريءٌ من الإسلام، أو القرآن، أو النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ، أو يعبد الصليب، ونحو ذلك على ما ذكروه في الأيمان» فمن قال شيئاً من ذلك فهو كافر مرتد، نأخذه بقوله هذا، فإن قال: ما أردت، فإن وجدت قرينة تدل على صدقه تركناه، وإن لم يوجد فإننا نقتله، إلا أن يتوب.
قال: «أو قذف النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو أمَّه» وكذلك زوجاته على القول الراجح «أو اعتقد قِدَمَ العالَمِ».
هذه المسألة فيها نزاع طويل، وهل العالَم قديم بالذات، أو قديم بالنوع، أو قديم بالجنس؟ فيه خلاف، وأحسن ما نقول في هذا الخلاف: إنه لغو من القول، وأن الذي أدخله على الأمة الإسلامية هم الفلاسفة، ومن ظاهرهم من المتفلسفة من علماء المسلمين، وإلا فالرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأصحابه ما بحثوا في هذا، ولا تكلموا فيه، ونحن في غنى عن ذلك، فهذا لا يزيد الإنسان إلا خوضاً في الباطل، وربما يصل به إلى الشك والحيرة، كما وجد ذلك في كثير من العلماء الذين دخلوا في الفلسفة، وتورطوا فيها، فصاروا كالواقع في جُبٍّ، إن تحرك نزل وإن سكن نزل.
قال: «أو حدوث الصانع» فإذا قال: إن الله حادث بعد أن لم يكن ـ تعالى الله ـ فإنه يكفر؛ لأن الله يقول: {{هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ}} [الحديد: 3] ويقول: {{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}} [الحديد: 4] فهو خالق، وما سواه مخلوق.
قال: «أو سخر بوعد الله، أو بوعيده، أو لم يكفِّر من دان بغير الإسلام، كالنصارى، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم».
هذه مسألة خطيرة، إذا لم يكفِّر من دان بغير الإسلام فهو كافر، فهناك أناس جهال سفهاء، يقولون: إنه لا يجوز أن نكفر اليهود والنصارى، فكيف لا تكفرهم، وهم الذين يصفون ربك بكل عيب؟!
وكيف لا تكفر من قال: إن ربك ثالث ثلاثة؟!
ولماذا لا تكفر من يقول: إن ربك له أبناء؟!
ولماذا لا تكفر من يقول: إن يدي ربك مغلولة؟!
ولماذا لا تكفر من يقول: إن الله فقير؟!
إذا قالوا هذا، قلنا: أنتم كفار، ولا شك في كفر من شك في كفركم، ولا أحد يشك في أن اليهود والنصارى والمجوس والوثنيين كلهم كفار، ولو قالوا: آمنا بالله، نقول: كذبتم، أنتم كافرون بالله العظيم وبرسله، والواجب علينا أن نصيح بهم صيحة، تملأ آذانهم بأنهم كفار، وأن نتبرأ منهم براءة الذئب من دم يوسف، أما أن نداهنهم، ونصانعهم، ونقول لهم: أنتم إخواننا في الدين، أنتم على دين سماوي، ونحن على دين سماوي، وما الخلاف بيننا وبينكم إلا كالخلاف بين الإمام أحمد والشافعي ـ نسأل الله العافية ـ فهذا عين الكفر، وقد حُدِّثتُ أن بعض القائمين على اتحادات في بلاد الغرب يقولون مثل هذا القول، وأنا أشهدكم أننا منهم بريئون ما داموا يقولون بهذا القول، بل إن دين الإسلام منهم بريء، وأنهم يجب عليهم أن يتوبوا إلى الله ـ عزّ وجل ـ ويرجعوا إلى دينهم، ويقولوا قولاً يفخرون به، وهو: أننا نكفر كل من كفره الله عزّ وجل، والأمر ليس إلينا ولا إليهم، الأمر إلى الله، فمن كفَّره الله فهو كافر، ومن لم يكفره الله فليس بكافر، فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ يقول: إن الذي لا يكفِّر من دان بغير الإسلام فهو كافر، وصدق رحمه الله؛ لأنه إذا لم يكفره فإن قوله يستلزم أن يقبل الله دينه، وهذا يستلزم تكذيب قول الله ـ عزّ وجل ـ: {{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ *}} [آل عمران] ، وقوله تعالى: {{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ}} [آل عمران: 19] فقط، لا غير.
قال: «أو قال قولاً يتوصل به إلى تضليل الأمة، أو تكفير الصحابة فهو كافر»، و«قال الشيخ (شيخ الإسلام): من اعتقد أن الكنائس بيوت الله، وأن الله يُعبد فيها، وأن ما يفعل اليهود والنصارى عبادة لله، وطاعة له، ولرسوله، أو أنه يحب ذلك ويرضاه، أو أعانهم على فتحها، وإقامة دينهم، وأن ذلك قربة، أو طاعة فهو كافر» وكثير من الناس مبتلى بهذا اليوم، يعتقدون أن الكنائس بيوت الله، وأنها محل عبادته وطاعته، وأن هؤلاء الذين يزعمون أنهم يتقربون إلى الله بها هم متقربون إليه، وهذا كفر.
فالمسألة خطيرة؛ لأن دين الإسلام واحد، فالدين الذي ارتضاه الله لعباده هو الدين الذي جاء به محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ فما عدا ذلك فليس بدين، وإن اتخذه أصحابه ديناً، لكنه دين يعبد به الشيطان، أما الرحمن فكلا والله.
وقال في موضع آخر: «من اعتقد أن زيارة أهل الذمة كنائسَهم قربة إلى الله فهو مرتد، وإن جهل أن ذلك محرم عُرّف ذلك، فإن أصر صار مرتداً، وقال: قول القائل: «ما ثَمَّ إلا الله» إن أراد ما يقوله أهل الاتحاد، من أن ما ثَمَّ موجود إلا الله، ويقولون: إن وجود الخالق هو وجود المخلوق، والخالق هو المخلوق، والمخلوق هو الخالق، والعبد هو الرب، والرب هو العبد، ونحو ذلك من المعاني، وكذلك الذين يقولون: إن الله تعالى بذاته في كل مكان، ويجعلونه مختلطاً بالمخلوقات، يستتاب، فإن تاب وإلا قتل».
وقال: «من اعتقد أن لأحد طريقاً إلى الله من غير متابعة محمد صلّى الله عليه وسلّم، أو لا يجب عليه اتباعه، وأن له، أو لغيره خروجاً عن اتباعه، وأَخْذِ ما بُعث به، أو قال: أنا محتاج إلى محمد في علم الظاهر، دون علم الباطن، أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة، أو قال: إن من الأولياء من يسعه الخروج من شريعته، كما وسع الخَضِرَ الخروجُ عن شريعة موسى، أو إن هُدى غير النبي صلّى الله عليه وسلّم أكمل من هديه فهو كافر» كل هذا قد قيل به، وشيخ الإسلام يرى أنه كافر، فمن زعم ذلك كان كافراً مرتداً، بل إن من زعم أن هناك هدياً مساوياً لهدي النبي صلّى الله عليه وسلّم فهو كافر.
قال: «من ظن أن قوله تعالى: {{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}} بمعنى قَدَّر، فإن الله ما قدَّر شيئاً إلا وقع، وجعل عُبَّادَ الأصنام ما عبدوا إلا الله، فإن هذا من أعظم الناس كفراً بالكتب كلها» أي: قال: قضى ربك قضاء كونياً ألا نعبد إلا الله فلازم ذلك أن كل شيء نعبده فهو الله؛ لأن الله قضاه قضاء كونياً، والقضاء الكوني لا يتخلف، فمعنى ذلك أن كل ما عبدناه فهو مقضيٌّ، ونحن لا نعبد إلا الله، فيقول شيخ الإسلام: هذا أعظم ما يكون من الكفر، وهو صحيح، ونحن نقول: {{وَقَضَى رَبُّكَ}} يعني قضاءً شرعيّاً ألا نعبد إلا الله، والقضاء الشرعي قد يتخلف.
قال: «من استحل الحشيشة كفر بلا نزاع» الحشيشة شيء يؤكل ويسكر، فمن يقول: هو حلال يكفر بلا نزاع، مثل من استحل الخمر.
وقال: «لا يجوز أن يلعن التوراة، ومن أطلق لعنها يستتاب فإن تاب وإلا قتل» لأن التوراة كتاب منزل من عند الله، يجب علينا أن نؤمن به، لكن لا يجب علينا أن نؤمن أن ما في أيدي اليهود الآن هو التوراة التي أنزلت على موسى، لأن الله تعالى قال: {{قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا}} [الأنعام: 91] .
وأخبر الله تعالى عن أهل الكتاب أنهم {{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ}} [المائدة: 13] فلا نثق بما في أيديهم من الكتب، ويدل لذلك ـ أيضاً ـ دلالة حسية أن هذه الكتب متناقضة، فالأناجيل والتلاميد التي في أيدي اليهود كلها متناقضة، ولو كانت من عند الله، فهل تتناقض؟! لا تتناقض، فكونها تتناقض تناقضاً جوهرياً يدل على أنها محرفة، مبدلة، لكننا نؤمن بأن الله أنزل على عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ كتاباً هو الإنجيل، وعلى موسى كتاباً هو التوراة، فيجب علينا أن نؤمن بها، ونقول: كل ما كان فيها من أخبار فهو صدق، وكل ما كان فيها من أحكام فهو عدل وحق، لكن طرأ عليها التحريف، والتغيير، فنحن لا نثق بما في أيدي اليهود والنصارى منها اليوم.
قال: «وإن كان ممن يعرف أنها منزَّلة من عند الله، وأنه يجب الإيمان بها، فهذا يقتل بشتمه لها، ولا تقبل توبته في أظهر قولي العلماء، وأما من لعن دين اليهود الذي هم عليه في هذا الزمان، فلا بأس عليه في ذلك، وكذلك إن سب التوراة التي عندهم بما يبيِّن أن قصده ذِكرُ تحريفها، مثل أن يقال: نُسَخُ هذه التوراة مبدلة، لا يجوز العمل بما فيها، ومن عمل اليوم بشرائعها المبدلة والمنسوخة فهو كافر، فهذا الكلام ونحوه حق لا شيء على قائله».

* * *
فصل
قال: و«قال الشيخ: ومن سب الصحابة، أو أحداً منهم، واقترن بسبه دعوى أن علياً إله، أو نبي، وأن جبريل غلط، فلا شك في كفر هذا، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره».
وماذا عن سبّ الصحابة رضي الله عنهم على سبيل العموم؟
الجواب: أن من سبهم على سبيل العموم يكفر أيضاً؛ لأن سب الصحابة رضي الله عنهم قدحٌ في الشريعة الإسلامية، إذ إن الشريعة الإسلامية ما جاءت إلا من طريقهم، وسب الصحابة ـ أيضاً ـ سب للرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ؛ لأن رجلاً يكون أصحابه محل التنقص، والعيب، والسب لا خير فيه؛ لأن الإنسان على دين خليله، وكيف يمكن لرجل مؤمن أن يقول: إن محمداً ـ عليه الصلاة والسلام ـ صحابته من أخس عباد الله، وأظلم عباد الله، وأنهم طواغيت، وما أشبه ذلك؟!
وسب الصحابة يتضمن بالإضافة إلى ذلك سب الله ـ عزّ وجل ـ حيث اختار لنبيه ـ عليه الصلاة والسلام وهو أفضل الخلق عنده ـ مثل هؤلاء الرجال، ولأن الله أثنى عليهم فقال: {{لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}} [الحديد: 10] . ولذلك فسب الصحابة يتضمن أربعة محاذير:
سبهم، وسب النبي عليه الصلاة والسلام، وسب الشريعة الإسلامية، وسب الله عزّ وجل.
قال: «وكذلك من زعم أن القرآن نقص منه شيءٌ أو كُتم، أو أن له تأويلات باطنة تسقط الأعمال المشروعة ونحو ذلك» وهذا قول القرامطة، والباطنية، ومنهم الناسخية، ولا خلاف في كفر هؤلاء كلهم.
قال الشيخ: ومن قذف عائشة ـ رضي الله عنها ـ بما برأها الله منه كفر بلا خلاف، ومن سب غيرها من أزواجه صلّى الله عليه وسلّم ففيه قولان:
أحدهما: أنه كَسَبِّ واحدٍ من الصحابة، والثاني وهو الصحيح: أنه كقذف عائشة رضي الله عنها»، وعلى هذا فإن من سب واحدة من أمهات المؤمنين يكون كافراً؛ لأن سبها قدحٌ في النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا سيما فيما يعود على دنس الفراش، وفساد الأخلاق، فإن هذا من أكبر الجرائم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعلى هذا فنقول: من سب عائشة ـ رضي الله عنها ـ أو غيرها من زوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم فإنه يكفر على القول الراجح.
وأما سب الصحابة جميعاً فظاهر كلام الشيخ أنه لا يكفر، إلا إذا اقترن به دعوى أن علياً إله، أو نبي، أو أن جبريل غلط، ولكن هذا فيما يظهر غير مراد؛ لأن دعوى أن علياً إله، أو نبي، أو أن جبريل غلط فأوصل الرسالة إلى محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ بدلاً عن علي، فهذا بمجرده يكون كافراً، سواء سب الصحابة، أو لم يسبهم.
قال: «وأما من سبَّهم سبّاً لا يقدح في عدالتهم، ولا دينهم، مثل مَنْ وصف بعضهم ببخل، أو جبن، أو قلة علم، أو عدم زهد، ونحوه، فهذا يستحق التأديب، والتعزير، ولا يكفرُ، وأما من لعن وقبَّح مطلقاً فهذا محل خلاف، أعني هل يكفر، أو يفسق؟ توقف أحمد في كفره وقتله، وقال: يعاقب، ويجلد ويحبس حتى يموت، أو يرجع عن ذلك، وهذا المشهور من مذهب مالك، وقيل: يكفر إن استحله، والمذهب يعزر كما تقدم أول باب التعزير».
قوله: «إن استحله» المعروف أن الذين يسبون الصحابة يستحلون ذلك، بل يرون أن سبهم دينٌ، وأنه يجب أن يسبهم إلا نفراً قليلاً، وعلى هذا فيكون هؤلاء كفاراً؛ لأنهم يستحلون سب أصحاب الرسول صلّى الله عليه وسلّم، بل يرونه ديناً، وعبادة، يتقربون به إلى الله، نسأل الله العافية.
قال: «وفي الفتاوى المصرية يستحق العقوبة البليغة باتفاق المسلمين، وتنازعوا هل يعاقب بالقتل، أو ما دون القتل؟ فقال: أما من جاوز ذلك، كمن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا نفراً قليلاً، لا يبلغون بضعة عشر، وأنهم فسقوا، فلا ريب ـ أيضاً ـ في كفر قائل ذلك، بل من شك في كفره فهو كافر ـ انتهى ملخصاً من الصارم المسلول ـ ومن أنكر أن يكون أبو بكر صَاحِبَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقد كفر؛ لقوله تعالى: {{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ}} [التوبة: 40] ، وإن جحد وجوب العبادات الخمس، أو شيئاً منها، ومنها الطهارة، أو حِلَّ الخبز، واللَّحم، والماء، أو أحل الزنا، ونحوه، أو ترك الصلاة، أو شيئاً من المحرمات الظاهرة المجمع على تحريمها، كلحم الخنزير، والخمر، وأشباه ذلك، أو شك فيه، ومثله لا يجهله كَفَر، وإن استحل قتل المعصومين، وأخذ أموالهم بغير شبهة، ولا تأويل كَفَر.
وإن كان بتأويل كالخوارج لم يحكم بكفرهم مع استحلالهم دماء المسلمين، وأموالهم متقربين بذلك إلى الله تعالى، وتقدم في المحاربين،... ومن ترك شيئاً من العبادات الخمس تهاوناً، فإن عزم على ألا يفعله أبداً استتيب عارفٌ وجوباً كالمرتد، وإن كان جاهلاً عُرِّفَ، فإن أصرّ قُتل حدّاً، ولم يَكْفُر إلا بالصلاة إذا دعي إليها وامتنع، أو شرط، أو ركن مجمع عليه فيقتل كفراً وتقدم في كتاب الصلاة».
الأركان الخمسة في الإسلام منها ما تركه كفر بالإجماع، مثل شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإذا لم يشهد فإنه كافر بإجماع المسلمين، وأما بقية الأركان ففيها خلاف، فعن أحمد رواية أنه يكفر بترك ركن منها، سواء كان الصلاة، أو الزكاة، أو الصوم، أو الحج تهاوناً؛ لأنها كلها أركان، والشيء لا يتم بدون أركانه، ولكن الصحيح أنه لا يكفر إلا بترك الصلاة فقط ولو تهاوناً، وكسلاً.
واشتراط المؤلف أن يدعوه الإمام، أو أن يدعى إليها، هذا هو ما جرى عليه الفقهاء المتأخرون رحمهم الله، ولكن ليس في كتاب الله والسنة ما يدل على ذلك، بل هو كغيره يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافراً، ولا يشترط أن يدعوه الإمام، فإن فرض أنه مات قبل الاستتابة، فإنه فيما بينه وبين الله كافر مخلد في النار، أمَّا نحن فلا نحكم بكفره حتى يستتاب، ويصر على تركه للصلاة.
قال: «ومن شُفع عنده في رجل فقال: لو جاء النبي صلّى الله عليه وسلّم يشفع فيه ما قبلت منه، إن تاب بعد القدرة عليه قتل لا قبلها» لأن قوله: «لو أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم ما قبلت» صريح في أنه سيعصي النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكن إذا علمنا أنه قال ذلك من باب المبالغة، يعني أن أغلى ما عندي، وأوجب من يجب عليَّ قبول شفاعته من الناس هو الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وعلى ذلك لو جاء ما قبلت شفاعته، فإنه إذا قالها من باب المبالغة فإنه لا يحكم بأنه يجب أن يستتاب، فهناك فرق بين من يقصد معناها، ويقول: لو جاء الرسول ما قبلت، وبين من يريد المبالغة؛ ولكن لو جاء الرسول فعلاً لكان يقبل، فهذا لا يظهر أنه يستتاب؛ لأنه لم يُرِدْ رَدَّ قول النبي صلّى الله عليه وسلّم، بل أراد تعظيم الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ.
قال: «ومن ارتد عن الإسلام من الرجال والنساء، وهو بالغ عاقل مختار دعي إليه ثلاثة أيام، وضيق عليه، وحبس، فإن تاب، وإلا قتل بالسيف؛ إلا رسول الكفار، إذا كان مرتداً بدليل رسولي مسيلمة، ولا يقتله إلا الإمام، أو نائبه حراً كان المرتد، أو عبداً، ولا يجوز أخذ فداء عنه، وإن قتله غيره بلا إذنه أساء وعُزِّر، ولم يضمن، سواءٌ قتله قبل الاستتابة أو بعدها، إلا إن يلحق بدار حرب فلكُلٍّ قتلُهُ وأخذُ ما معه من مال».
إذاً المرتد مباح الدم لقول النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث؛ الثَّيِّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» [(234)]، ولكن ليس كل أحد يتمكن من قتله، بل قَتْلُهُ إلى الإمام، وبهذا نعرف أن الأمور الموكولة إلى ولاة الأمور لا يجوز التعدي فيها؛ لأنه يحصل بذلك فتنة وشر.
فلو أن أحداً رأى منكراً في السوق، وأراد أن يغيره بيده، فنقول: لا شك أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقول: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده» [(235)]، لكن إذا كان هذا مما يغيره ولاة الأمور، فإنه لا يجوز أن نفتات على ولي الأمر، ونعتدي على حقه، فنفعل نحن بأنفسنا؛ لأن هذا يترتب عليه مفاسد كثيرة أكبر من مصلحة تغييره، ويمكن أن يغير من طريق آخر، وهذه المسائل دقيقة ومهمة، فإن بعض الإخوة الغيورين على دين الله ـ عزّ وجل ـ قد يتجرؤون في مثل هذه الأمور، فيحصل من المفاسد أكثر مما يحصل من المصالح، فالأمور المنوطة بالمسؤولين ليس لنا أن نفتات عليهم، أما غير المنوطة بهم فنغير بأيدينا، وألسنتنا، وقلوبنا، فالمرتد كما قال المؤلف مباح الدم، ومع ذلك لو أن أحداً من الناس قتله فإن المؤلف يقول: يعزر القاتل مع أنه قتل شخصاً حلال الدم، لكن يعزر لافتياته على الإمام، إلا إذا لحق المرتد بدار الحرب، وهم الذين بيننا وبينهم حرب، فإنه حينئذٍ يجوز لكل واحد أن يقتله؛ لأنه صار في حكم هؤلاء المحاربين.
قال: «والطفل الذي لا يعقل، والمجنون، ومن زال عقله بنوم، أو إغماء، أو شرب دواء مباح لا تصح ردته، ولا إسلامه؛ لأنه لا حكم لكلامه، فإن ارتد وهو مجنون فقَتَلَهُ قاتل فعليه القود، وإن ارتد في صحته ثم جُنَّ لم يقتل في حال جنونه، فإذا أفاق استتيب ثلاثاً فإن تاب وإلا قتل»؛ لأنه قتل معصوماً عمداً وعدواناً.
وقوله: «أو شرب دواء مباح» أفادنا أنه إذا زال عقله بشيء محرم، كما لو شرب مسكراً متعمداً فإنه يؤاخذ بأقواله، فحكمه حكم الذي معه عقله، فإذا طلق وقع الطلاق، وإذا أقر بمال ثبت عليه ما أقر به، وإذا ارتد ثبت عليه حكم المرتد وقتل، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، والصحيح خلاف ذلك، وهو أن من شرب مسكراً مع التحريم فإنه لا يعزَّر بأكثر مما جاءت به الشريعة، وهو أن يجلد أربعين جلدة، أو ثمانين جلدة، أو أكثر حسب ما يكون به ردع الناس عن هذا الشراب المحرم، وأما أن نؤاخذه بأقواله، وأفعاله، وهو لا يعقل فلا يمكن.
واختلف العلماء في فعله، هل يؤاخذ به؟
والصواب أن فعله كفعل المخطئ، لا كفعل المتعمد، فلو قتل إنساناً لم يقتص منه؛ لأنه لا عقل له، ولكن تؤخذ منه الدية، إلا إذا علمنا أنه تناول المسكر لتنفيذ فعله فإنه يؤاخذ به، يعني لو فرضنا أن هذا الرجل يريد أن يقتل شخصاً، فقال: إن قتلته وأنا عاقل قتلوني به، ولكن أشرب مسكراً وأقتله، وأنا سكران، ففي هذه الحال نقول: إنه يقتل؛ لأنه سَكِرَ من أجل الوصول إلى العمل المحرم، والعبرة في الأمور بمقاصدها، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» [(236)].


[223] أخرجه الترمذي في الإيمان باب ما جاء سباب المسلم فسوق (2635)، والبيهقي في السنن الكبرى (15632).
[224] أخرجه البخاري في الإيمان/ باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر (48)، ومسلم في الإيمان/ باب بيان قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» (64) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[225] أخرجه مسلم في الإيمان باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة (82) عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ.
[226] أي: الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/400).
[227] أخرجه البخاري في الجمعة باب الدعاء في الصلاة من آخر الليل (1145)، ومسلم في صلاة المسافرين باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه (758) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[228] أخرجه البخاري في الصلاة باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» (438)، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة (523)، واللفظ للبخاري.
[229] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء باب قوله تعالى: {{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا} ...} (3340)، ومسلم في الإيمان باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها (194) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[230] هو العلاّمة شرف الدين أبو النجا الحجاوي المتوفى عام 960هـ رحمه الله تعالى، وقد قرئ هذا الفصل من كتاب الإقناع، من باب حكم المرتد (4/297 ـ 301) ط. مكتبة الرياض الحديثة.
[231] هو العلاّمة موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المتوفى عام 620هـ رحمه الله تعالى.
[232] أخرجه الإمام أحمد (4/172)، والحاكم في المستدرك (2/617، 618) وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي عن يعلى بن مرة عن أبيه رضي الله عنه.
[233] أخرجه البخاري في الدعوات باب التوبة... (6308)، ومسلم في التوبة باب في الحض على التوبة والفرح بها (2747) عن أنس ـ رضي الله عنه ـ.
[234] سبق تخريجه ص(41).
[235] أخرجه مسلم في الإيمان باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان... (49) عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ.
[236] رواه البخاري في بدء الوحي باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (1)، ومسلم في الإمارة/ باب قوله: «إنما الأعمال بالنيات» (1907) عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ.

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
باب, حكم

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 10:19 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir