دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > الرسالة التدمرية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 4 ذو الحجة 1429هـ/2-12-2008م, 03:16 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي القاعدة الرابعة: النصوص لا تدل على معان فاسدة

وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِالْقَاعِدَةِ الرَّابِعَةِ - وَهِيَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَتَوَهَّمُ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ، أَوْ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا، أَوْ أَكْثَرِهَا، أَوْ كُلِّهَا، أَنَّهَا تُمَاثِلُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يَنْفِيَ ذَلِكَ الَّذِي فَهِمَهُ فَيَقَعُ فِي أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ المَحَاذِيرِ:
أَحَدُهَا: كَوْنُه مَثَّلَ مَا فَهِمَهُ مِنَ النُّصُوصِ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَظَنَّ أَنَّ مَدْلُولَ النُّصُوصِ هُوَ التَّمْثِيلُ.
الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا جَعَلَ ذَلِكَ هُوَ مَفْهُومَهَا وَعَطَّلَهُ بَقِيَتِ النُّصُوصُ مُعَطَّلَةً عَمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ اللاَّئِقَةِ بِاللَّهِ، فَيَبْقَى مَعَ جِنَايَتِهِ عَلَى النُّصُوصِ، وَظَنِّهِ السَّيِّئِ الَّذِي ظَنَّهُ بِاللَّهِ وَرَسُولِه - حَيْثُ ظَنَّ أَنَّ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِهِمَا هُوَ التَّمْثِيلُ الْبَاطِلُ - قَدْ عَطَّلَ مَا أَوْدَعَ اللَّهُ وَرَسُولُه فِي كَلاَمِهِمَا مِنْ إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ لِلَّهِ، وَالْمَعَانِي الْإِلَهِيَّةِ اللاَّئِقَةِ بِجَلاَلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَنْفِي تِلْكَ الصِّفَاتِ عَنِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَيَكُونُ مُعَطِّلًا لِمَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ تَعَالَى.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ يَصِفُ الرَّبَّ بِنَقِيضِ تِلْكَ الصِّفَاتِ مِنْ صِفَاتِ الْمَوَاتِ وَالْجَمَادَاتِ، أَوْ صِفَاتِ الْمَعْدُومَاتِ فَيَكُونُ قَدْ عَطَّلَ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا الرَّبُّ تَعَالَى، وَمَثَّلَهُ بِالْمَنْقُوصَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ، وَعَطَّلَ النُّصُوصَ عَمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنَ الصِّفَاتِ، وَجَعَلَ مَدْلُولَهَا هُوَ التَّمْثِيلَ بِالْمَخْلُوقَاتِ، فَيَجْمَعُ فِي اللَّهِ وَفِي كَلاَمِ اللَّهِ بَيْنَ التَّعْطِيلِ وَالتَّمْثِيلِ، فَيَكُونُ مُلْحِدًا فِي أَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ.
مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ النُّصُوصَ كُلَّهَا دَلَّتْ عَلَى وَصْفِ الْإِلَهِ بِالْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ، وَاسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ، فَأَمَّا عُلُوُّهُ وَمُبَايَنَتُهُ لِلْمَخْلُوقَاتِ فَيُعْلَمُ بِالْعَقْلِ الْمُوَافِقِ لِلسَّمْعِ، وَأَمَّا الِاسْتِوَاءُ عَلَى الْعَرْشِ فَطَرِيقُ الْعِلْمِ بِهِ هُوَ السَّمْعُ، وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَصْفٌ لَهُ بِأَنَّهُ لاَ دَاخِلَ الْعالَمِ وَلاَ خَارِجَه، وَلاَ مُبَايِنَه وَلاَ مُدَاخِلَه.
فَيَظُنُّ الْمُتَوَهِّمُ أَنَّهُ إِذَا وُصِفَ بِالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ كَانَ اسْتِوَاؤُهُ كَاسْتِوَاءِ الْإِنْسَانِ عَلَى ظُهُورِ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ، كَقَوْلِهِ: ( وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ) فَيَتَخَيَّلُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ كَحَاجَةِ الْمُسْتَوِي عَلَى الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ، فَلَو انْخَرَقَتِ السَّفِينَةُ لَسَقَطَ الْمُسْتَوِي عَلَيْهَا، وَلَوْ عَثَرَتِ الدَّابَّةُ لَخَرَّ الْمُسْتَوِي عَلَيْهَا. فَقِيَاسُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ عُدِمَ الْعَرْشُ لَسَقَطَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ثُمَّ يُرِيدُ - بِزَعْمِهِ - أَنْ يَنْفِيَ هَذَا فَيَقُولُ: لَيْسَ اسْتِوَاؤُهُ بِقُعُودٍ وَلاَ اسْتِقْرَارٍ.
وَلاَ يُعْلَمُ أَنَّ مُسَمَّى " الْقُعُودِ " وَ "الِاسْتِقْرَارِ " يُقَالُ فِيهِ مَا يُقَالُ فِي مُسَمَّى "الِاسْتِوَاءِ"، فَإِنْ كَانَتِ الْحَاجَةُ دَاخِلَةً فِي ذَلِكَ فَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الِاسْتِوَاءِ وَالْقُعُودِ وَالِاسْتِقْرَارِ، وَلَيْسَ هُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى مُسْتَوِيًا وَلاَ مُسْتَقِرًّا وَلاَ قَاعِدًا، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي مُسَمَّى ذَلِكَ إِلاَّ مَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى "الِاسْتِوَاءِ" فَإِثْبَاتُ أَحَدِهِمَا وَنَفْيُ الْآخَرِ تَحَكُّمٌ.
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ بَيْنَ مُسَمَّى "الِاسْتِوَاءِ" وَ (الِاسْتِقْرَارِ" وَ "الْعُقُودِ" فُرُوقًا مَعْرُوفَةً، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا أَنْ يُعْلَمَ خَطَأُ مَنْ يَنْفِي الشَّيْءَ مَعَ إِثْبَاتِ نَظِيرِهِ.
وَكَانَ هَذَا الْخَطَأُ مِنْ خَطَئِهِ فِي مَفْهُومِ اسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ، حَيْثُ ظَنَّ أَنَّهُ مِثْلُ اسْتِوَاءِ الْإِنْسَانِ عَلَى ظُهُورِ الْأَنْعَامِ وَالْفُلْكِ.
وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الِاسْتِوَاءَ إِلَى نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ، كَمَا أَضَافَ إِلَيْهَا سَائِرَ أَفْعَالِهِ وَصِفَاتِه، فَذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَ ثُمَّ اسْتَوَى، كَمَا ذَكَرَ أَنَّهُ قَدَّرَ فَهَدَى، وَأَنَّهُ بَنَى السَّمَاءَ بِأَيْدٍ، وَكَمَا ذَكَرَ أَنَّهُ مَعَ مُوسَى وَهَارُونَ يَسْمَعُ وَيَرَى، وَأَمْثَالَ ذَلِكَ. فَلَمْ يَذْكُرِ اسْتِوَاءً مُطْلَقًا يَصْلُحُ لِلْمَخْلُوقِ، وَلاَ عَامًّا يَتَنَاوَلُ الْمَخْلُوقَ، كَمَا لَمْ يَذْكُرْ مِثْلَ ذَلِكَ فِي سَائِرِ صِفَاتِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ اسْتِوَاءً أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ.
فَلَوْ قُدِّرَ - عَلَى وَجْه الْفَرْضِ الْمُمْتَنِعِ - أَنَّهُ هُوَ مِثْلُ خَلْقِهِ - تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ - لَكَانَ اسْتِوَاؤُهُ مِثْلَ اسْتِوَاءِ خَلْقِهِ. أَمَّا إِذَا كَانَ هُوَ لَيْسَ مُمَاثِلًا لِخَلْقِهِ، بَلْ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ الْغَنِيُّ عَنِ الخَلْقِ، وَأَنَّهُ الْخَالِقُ لِلْعَرْشِ وَلِغَيْرِهِ، وَأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْغَنِيُّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَهُوَ لَمْ يَذْكُرْ إِلاَّ اسْتِوَاءً يَخُصُّهُ، لَمْ يَذْكُرِ اسْتِوَاءً يَتَنَاوَلُ غَيْرَه وَلاَ يَصْلُحُ لَهُ، كَمَا لَمْ يَذْكُرْ فِي عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَرُؤْيَتِهِ وَسَمْعِهِ وَخَلْقِهِ إِلاَّ مَا يَخْتَصُّ بِهِ - فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَوْ سَقَطَ الْعَرْشُ لَخَرَّ مِنْ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
هَلْ هَذَا إِلاَّ جَهْلٌ مَحْضٌ وَضَلاَلٌ مِمَّنْ فَهِمَ ذَلِكَ، أَوْ تَوَهَّمَهُ، أَوْ ظَنَّه ظَاهِرَ اللَّفْظِ وَمَدْلُولَه، أَوْ جَوَّزَ ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ الْغَنِيِّ عَنِ الخَلْقِ. بَلْ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ جَاهِلًا فَهِمَ مِثْلَ هَذَا، أَوْ تَوَهَّمَه لَبُيِّنَ لَهُ أَنَّ هَذَا لاَ يَجُوزُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَدُلَّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ أَصْلًا، كَمَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى نَظَائِرِهِ فِي سَائِرِ مَا وَصَفَ بِهِ الرَّبُّ نَفْسَهُ.
فَلَمَّا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ ) فَهَلْ يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ بِنَاءَهُ مِثْلُ بِنَاءِ الْآدَمِيِّ الْمُحْتَاجِ، الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى زُبُلٍ وَمَجَارِفَ وَأَعْوَانٍ وَضَرْبِ لَبِنٍ وَجَبْلِ طِينٍ.
ثُمَّ قَدْ عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْعَالَمَ بَعْضَه فَوْقَ بَعْضٍ، وَلَمْ يَجْعَلْ عَالِيَهُ مُفْتَقِرًا إِلَى سَافِلِهِ، فَالْهَوَاءُ فَوْقَ الْأَرْضِ، وَلَيْسَ مُفْتَقِرًا إِلَى أَنْ تَحْمِلَهُ الْأَرْضُ، وَالسَّحَابُ أَيْضًا فَوْقَ الْأَرْضِ، وَلَيْسَ مُفْتَقِرًا إِلَى أَنْ تَحْمِلَهُ، وَالسَّمَاوَاتُ فَوْقَ الْأَرْضِ، وَلَيْسَتْ مُفْتَقِرَةً إِلَى حَمْلِ الْأَرْضِ لَهَا فَالْعَلِيُّ الْأَعْلَى رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُه إِذَا كَانَ فَوْقَ جَمِيعِ خَلْقِهِ كَيْفَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إِلَى خَلْقِهِ، أَوْ عَرْشِهِ؟‍‍1 أَوْ كَيْفَ يَسْتَلْزِمُ عُلُوُّهُ عَلَى خَلْقِهِ هَذَا الِافْتِقَارَ وَهُوَ لَيْسَ بِمُسْتَلْزَمٍ فِي الْمَخْلُوقَاتِ؟ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ مَا ثَبَتَ لِمَخْلُوقٍ مِنَ الغِنَى عَنْ غَيْرِهِ فَالْخَالِقُ سُبْحَانَهُ أَحَقُّ بِهِ وَأَوْلَى.
وَكَذَلِكَ قَوْلُه: ( أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ) مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ مُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ فِي دَاخِلِ السَّمَاوَاتِ، فَهُوَ جَاهِلٌ ضَالٌّ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كُنَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ فِي السَّمَاءِ، يَقْتَضِي ذَلِكَ، فَإِنَّ حَرْفَ " فِي" مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ، فَهُوَ بِحَسَبِ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ.
وَلِهَذَا يُفَرَّقُ بَيْنَ كَوْنِ الشَّيْءِ فِي الْمَكَانِ، وَكَوْنِ الْجِسْمِ فِي الْحَيِّزِ، وَكَوْنِ الْعَرَضِ فِي الْجِسْمِ، وَكَوْنِ الْوَجْهِ فِي الْمِرْآةِ، وَكَوْنِ الْكَلاَمِ فِي الْوَرَقِ، فَإِنَّ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ خَاصِّيَّةً يَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ حَرْفُ "فِي" مُسْتَعْمَلًا فِي ذَلِكَ كُلِّه.
فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: الْعَرْشُ فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الْأَرْضِ؟ لَقِيلَ: فِي السَّمَاءِ. وَلَوْ قِيلَ: الْجَنَّةُ فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الْأَرْضِ؟ لَقِيلَ: الْجَنَّةُ فِي السَّمَاءِ. وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْعَرْشُ دَاخِلَ السَّمَاوَاتِ، بَلْ وَلاَ الْجَنَّةُ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ الْجَنَّةَ فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهَا أَعْلَى الْجَنَّةِ، وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَسَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ).
فَهَذِهِ الْجَنَّةُ، سَقْفُهَا الَّذِي هُوَ الْعَرْشُ فَوْقَ الْأَفْلاَكِ، مَعَ أَنَّ الْجَنَّةَ فِي السَّمَاءِ، وَالسَّمَاءُ يُرَادُ بِهِ الْعُلُوُّ، سَوَاءً كَانَ فَوْقَ الْأَفْلاَكِ أَوْ تَحْتَهَا، قَالَ تَعَالَى: ( فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ) وَقَالَ تَعَالَى: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا).
وَلَمَّا كَانَ قَدِ اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِ الْمُخَاطَبِينَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى، وَأَنَّهُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، كَانَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ: ( مَنْ فِي السَّمَاءِ): أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ، أَنَّهُ فِي الْعُلُوِّ وَأَنَّهُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ.
وَكَذَلِكَ الْجَارِيَةُ لَمَّا قَالَ لَهَا: (أَيْنَ اللَّهُ؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ)، إِنَّمَا أَرَادَتِ الْعُلُوَّ مَعَ عَدَمِ تَخْصِيصِهِ بِالْأَجْسَامِ الْمَخْلُوقَةِ وَحُلُولِهِ فِيهَا.
وَإِذَا قِيلَ: "الْعُلُوُّ"، فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ مَا فَوْقَ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا، فَمَا فَوْقَهَا كُلِّهَا هُوَ فِي السَّمَاءِ، وَلاَ يَقْتَضِي هَذَا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ ظَرْفٌ وُجُودِيٌّ يُحِيطُ بِهِ، إِذْ لَيْسَ فَوْقَ الْعَالَمِ شَيْءٌ مَوْجُودٌ إِلاَّ اللَّهَ، كَمَا لَوْ قِيلَ: إِنَّ الْعَرْشَ فِي السَّمَاءِ، فَإِنَّهُ لاَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْعَرْشُ فِي شَيْءٍ آخَرَ مَوْجُودٍ مَخْلُوقٍ.
وَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ "السَّمَاءَ" الْمُرَادُ بِهَا الْأَفْلاَكُ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ: (وَلاَصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ)، وَكَمَا قَالَ: ( فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ)، وَكَمَا قَالَ: ( فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ)، وَيُقَالُ: فُلاَنٌ فِي الْجَبَلِ، وَفِي السَّطْحِ. وَإِنْ كَانَ عَلَى أَعْلَى شَيْءٍ فِيهِ.


  #2  
قديم 6 ذو الحجة 1429هـ/4-12-2008م, 09:55 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي تقريب التدمرية للشيخ: محمد بن صالح العثيمين


القاعدةُ الرَّبعةُ
في تَوَهُّمِ بعضِ النَّاسِ في نصوصِ الصِّفاتِ والمحاذيرِ المترتِّبَةِ على ذلكَ
اعلَمْ أنَّ كثيراً منَ النَّاسِ يَتَوهَّمُ في بعضِ الصِّفَاتِ الّتِي دَلَّتْ عليْهَا النُّصُوصُ، أوْ كثيرٌ منْهَا، أوْ أكثرُهَا، أو كلُّها، أنَّها تُماثِلُ صفاتِ المخلوقينَ، ثمَّ يُريدُ أنْ يَنفِيَ ذلكَ الوَهْمَ الّذِي تَوَهَّمَهُ فيَقعَ في أربعةِ مَحاذيرَ:
الأوَّلُ: أنَّهُ فَهِمَ منَ النُّصوصِ صفاتٍ تُماثِلُ صفاتِ المخلوقينَ، وظنَّ أنَّ ذلكَ هُوَ مدلُولُ النَّصِّ، وهذَا فَهْمٌ خَاطِئٌ، فإنَّ الصِّفَةَ الّتي دلَّتْ عليهَا النُّصوصُ تُناسِبُ مَوصوفَهَا وتَلِيقُ بِهِ.
وتَمثيلُ الخالقُ بالمخلوقِ كفْرٌ، وضَلالٌ، لأنَّهُ تكذيبٌ لقولِهِ تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)([1]) ولاَ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ ظاهرُ النُّصُوصِ الكفْرَ والضلالُ لقولِهِ تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)([2]). وقولِهِ: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا)([3]).
الثَّاني: أنَّهُ جَنَى على النُّصوصِ حيثُ نَفَى مَا تَدُلُّ عليْهِ منً المَعَاني الإِلَهِيَّةِ، ثمَّ أَثْبَتَ لهَا معانيَ منْ عندِهِ، لا يَدُلُّ عليْهَا ظاهِرُ اللَّفْظِ، فكانَ جانياً على النُّصوصِ منْ وَجْهَيْنِ.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ نَفَى ما دَلَّتْ عليْهِ النُّصُوصُ مِنَ الصِّفَاتِ بغيرِ علْمٍ فيكونُ بذلكَ قائلاً على اللهِ ما لاَ يَعْلَمْ، وهذَا محرَّمٌ بالنَّصِّ، والإِجماعِ قالَ اللهُ تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)([4]).

الرَّابِعُ: أنَّهُ إِذَا نَفَى عنِ اللهِ عزَّ وجلَّ ما تَقتضِيهِ النُّصُوصُ منْ صفاتِ الكمالِ لزِمَ أنْ يكونَ اللهُ – سبحانَهُ – متَّصِفاً بنقيضِهَا مِنْ صفاتِ النَّقْصِ، وذلكَ لأنَّهُ مَا مِنْ موجودٍ إلاّ وَهُوَ متَّصِفٌ بصفةٍ، ولا يُمْكِنُ وجودُ ذاتٍ مجرَّدةٍ عنِ الصِّفاتِ، فإذَا انْتَفَتْ صفةُ الكمالِ عنْهَا، لزِمَ اتِّصَافُهَا بصفاتِ النَّقْصِ.
وحينئذٍ يكونُ منْ نَفَى عنِ اللهِ تعالى ما تَقتضِيهِ النُّصُوصُ منْ صفاتِ الكمالِ، مُتَعَدِّياً في حقِّ اللهِ تعالى، حيثُ جَمَعَ بينَ نَفْيِ صفاتِ الكمالِ عنْهُ، وتمثيلِهِ بالمنقوصاتِ والمعدوماتِ، بلْ قدْ يَرتَقي بهِ الغُلُوُّ في النَّفْيِ إلى تمثيلِهِ بالممتنِعاتِ المستحيلاتِ.
ويكونُ أيْضاً جَانياً على النُّصُوصِ حيثُ عطَّلَهَا عما دَلَّتْ عليهِ منْ صفاتِ الكمالِ للهِ تعالى، وأَثْبَتتَ لهَا معانيَ منْ عندِهِ لاَ يَدُلُّ عليْهَا ظاهرُهَا فيَجمَعُ بيْنَ النَّفْيِ، والتَّمثيلِ في صفاتِ اللهِ، وبيْنَ التَّحْرِيفِ، والتَّعْطِيلِ في نصوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ، ويكونُ مُلْحِداً في أسماءِ اللهِ وآياتِهِ وقدْ قالَ اللهُ تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)([5]). وقالَ: (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)([6]).
مثالُ ذلكَ: أنَّ اللهَ تعالى أَخبرَ عنْ نفسِهِ أنَّهُ استوى على العَرْشِ فَيَتَوَهَّمُ واهمٌ أنَّهُ كاسْتِوَاءِ الإِنسانِ على ظهورِ الفُلْكِ والأنعامِ، وأنَّهُ محتاجٌ إلى العرشِ كحاجةِ الإنسانِ للأنعامِ والفُلْكِ، فلوْ عَثُرَتِ الدَّابَّةُ لَخَرَّ المُسْتوِي عليْهَا، ولوِ انْخَرَقَت السَّفينةُ لغَرِقَ المُستوِي عليْهَا، فقياسُ هذَا أَنَّهُ لوْ عُدِمَ العَرْشُ لسَقَطَ الرَّبُّ على قياسِهِ الفاسِدِ، فيَنْفِي بذلكَ حقيقةَ الاستواءِ، ومَنْشَأُ هذَا الوهْمِ الّذِي تَوهَّمَهُ في استواءِ اللهِ على عرشِهِ ظَنُّهُ أنَّهُ مثلُ استواءِ الإِنسانِ على ظُهُورِ الأنعامِ والفُلْكِ، وهذا ظنٌّ فاسِدٌ، لأنَّ اللهَ تعالى أَضافَ الاستواءَ إلى نفسِهِ الكريمةِ، لم يَذكرِ اسْتواءً مطلَقاً يَصْلُحُ للمخلوقِ، ولا عامًّا يَتناولُ المخلوقَ، فتعيَّنَ أنْ يكونَ استواءً خاصًّا يَلِيقُ بهِ كسائرِ صفاتِهِ وأفعالِهِ لا يُماثِلُ استواءَ المخلوقينَ، كما أنَّ اللهَ نفسَهُ لاَ يُماثِلُ المخلوقينَ.
ألاَ ترى إلى قولِهِ تعالى: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ)([7]) هلْ يَتَوَهَّمُ أحدٌ أنَّ بناءَهُ إيَّاهَا كبناءِ المخلوقِ سقْفَ البيتِ بحيثُ يَحتاجُ إلى زَنْبيَلٍ، ومَجارفَ وضَرْبِ لَبِنٍ، وجَبْلِ طينٍ ونحوِ ذلكَ، فإذَا كانَ لا يَحتاجُ إلى ذلكَ في هذَا الفعلِ منْ أَفعالِهِ، لَزِمَ أنْ لا يكونَ مُحتاجاً إلى العرْشِ في استوائِهِ عليْهِ بلْ هوَ سبحانَهُ الغَنيُّ عنِ العَرْشِ وغيرِه.
فتَجِدُ هذَا الذِي نَفَى حقيقةَ الاستواءِ الذي هوَ ظاهِرُ النُّصوصِ وَقَعَ في تلكَ المحاذِيرِ الأرْبَعَةِ:
1- فقدْ مَثَّلَ مَا فَهِمَهُ منِ اسْتِواءِ اللهِ على عَرْشِهِ باستواءِ المخلوقِين.
2- وعَطَّلَ النُّصُوصَ عما دَلَّتْ عليهِ منْ صِفَةِ الاسْتواءِ اللاَّئِقِ باللهِ، ثمَّ حرَّفَهَا إلى معانٍ لا تَدُلُّ عليْهَا.
3- وكانَ نفيُهُ لذلكَ وتعطيلُهُ بلاَ عِلْمٍ، بلْ عنْ جَهْلٍ، وظنٍّ فاسدٍ.
4- ولَزِمَ منْ نفيِهِ لصفةِ الكمالِ الَّتي تَضمَّنَهَا الاستواءُ ثُبوتُ صفةِ نقْصٍ بفواتِ هذَا الكمالِ.
مثالٌ آخَرُ: قولُهُ تعالى: (ءَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ)([8]). فيَتَوَهَّمُ واهِمٌ أنَّ اللهَ تعالى داخِلَ السَّماءِ، وأنَّ السَّماءَ تُحيطُ بهِ كمَا لوْ قلْنَا فلانٌ في الحُجْرَةِ فإنَّ الحجرةَ مُحيطةٌ بهِ، فَيَنفِي بِناءً على هذَا الوهْمِ كَوْنَ اللهِ تعالى في السَّماءِ ويقولُ: إنَّ الذِي في السَّماءِ مُلْكُهُ وسلطانُهُ ونحوُ ذلكَ.
ومَنْشَأُ هَذَا الوَهْمِ ظَنُّهُ أنَّ (في) التي للظَّرفيَّةِ تكونُ بمعنًى واحدٍ في جميعِ مواردِهَا، وهذَا ظنٌّ فاسدٌ، فإنَّ (في) يَختلفُ معناهَا بحسْبِ متعلِّقِهَا فإنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ كونِ الشَّيْءِ في المكانِ، وكَوْنِ العَرَضِ في الجِسْمِ، وكَوْنِ الوجهِ في المرآةِ، وكَوْنِ الكلامِ في الوَرَقِ المكتوبِ فيهِ، فلوْ قيلَ: هل العَرشُ في السَّماءِ أوْ في الأرضِ؟ لقيلَ في السَّماءِ معَ أنَّ العَرْشَ أكبرُ منَ السَّماءِ كثيراً.
وعلى هذَا فيُخَرَّجُ قولُهُ: (ءَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ)([9]) على أَحَدِ وَجْهَيْنِ:
إما أنْ تكونَ السَّماءُ بمعنى العُلُوِّ، فإنَّ السَّماءَ يُرادُ بهِ العُلُوُّ كَما في قولِهِ تعالى: (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً)([10]). والمطَرُ يَنْزِلُ منَ السَّحابِ المسخَّرِ بينَ السَّمَاءِ والأَرْضِ لاَ منَ السَّماءِ نفسِهَا، فيكونُ معنى كونِهِ تعالى في السَّماءِ أنَّهُ في العُلُوِّ المطلَقِ فوقَ جميعِ المخلوقاتِ، وليسَ هناكَ ظرفٌ وُجوديٌّ يُحيطُ بهِ إذْ ليسَ فوقَ العالمِ شيْءٌ سوى اللهِ تعالى.
وإمَّا أنْ تكونَ (في) بمعنى (على) كمَا جاءتْ بمعناهَا في مثلِ قولِهِ تعالى: (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ)([11]). أيْ على الأرضِ وقولِهِ عنْ فِرعونَ: (وَلاَصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ)([12]). أيْ على جذوعِ النَّخْلِ وعلى هذَا فيكونُ معنى قولِهِ تعالى: (ءَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ)([13]). أيْ على السَّماءِ أيْ فوقَهُ واللهُ تعالى فوقَ السَّمواتِ وفَوْقَ كُلِّ شيْءٍ.
فتَجِدُ هذَا الذي نَفَى أنْ يكونَ اللهُ في السَّماءِ حقيقةً وَقَعَ في المحاذيرِ الأربعةِ:
1- فقدْ مَثَّلَ مَا فَهِمَهُ منْ كَوْنِ اللهِ تعالى في السَّمَاءِ بكَوْنِ المَخْلُوقِ في الحُجْرَةِ ونحوِ ذلكَ.
2- وعَطَّلَ النُّصوصَ عما دَلَّتْ عليْهِ من عُلُوِّ اللهِ تعالى في السَّمَاءِ، ثمَّ حرَّفَهَا إلى معانٍ لاَ تَدُلُّ عليْهَا.
3- وكانَ نَفْيُهُ وتعطيلُهُ بِلاَ عِلْمٍ، بلْ عنْ جَهْلٍ، وظنٍّ فاسدٍ.
4- ولَزِمَ منْ نفيِهِ لصفةِ الكمالِ الّتي تَضَمَّنَهَا كونُهُ في السَّمَاءِ ثُبُوتُ صفةِ النَّقْصِ، لأنَّ نفيَهُ لصفةِ العُلُوِّ يَستلزِمُ أَحدَ أمْريْنِ ولاَ بُدَّ:
فإمَّا أنْ يكونَ اللهُ تعالى في كلِّ مكانٍ بذاتِهِ والقولُ بهذَا في غايةِ الضَّلالِ والكُفْرِ، لأنَّهُ يَستلزِمُ إما تَعَدُّدَ الخالقِ، وإما تَبَعُّضَهُ، ويَستلزِمُ كذلكَ أنْ يكونَ في محلاَّتِ القَذَرِ والأَذى الّتي يَتَنَزَّهُ عنْهَا كلُّ ذِي مُروءةٍ، فضْلاً عنِ الخالقِ.
وإمَّا أنْ يكونَ اللهُ تعالى لا داخِلَ العالَمِ، ولاَ خارجَهُ، ولاَ فَوْقَ، ولاَ تحتَ ولاَ متَّصِلاً، ولاَ منْفَصِلاً، ولا مُبَايِناً، ولاَ مُحَايِثاً ونحوُ ذلكَ مِنَ العباراتِ الْمُتضمِّنَةِ للتَّعْطيلِ المحْضِ، وحقيقةُ هذَا نفيُ وجودِ الخالقِ جلَّ وعلاَ.
([1]) سورة الشورى، الآية: 11.

([2]) سورة النساء، الآية: 26.

([3]) سورة النساء، الآية: 176.

([4]) سورة الأعراف، الآية: 33.

([5]) سورة الأعراف، الآية: 180.

([6]) سورة فصلت، الآية:40.

([7]) سورة الذاريات، الآية: 47.

([8]) سورة الملك، الآية: 16.

([9]) سورة الملك، الآية: 16.

([10]) سورة النمل، الآية: 60.

([11]) سورة آل عمران، الآية: 137.

([12]) سورة طه، الآية: 71.

([13]) سورة الملك، الآية: 16.



  #3  
قديم 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م, 02:42 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التحفة المهدية للشيخ: فالح بن مهدي الدوسري

القاعــدةُ الرابعــةُ

قولُه:
وهذا يَتبيَّنُ بالقاعدةِ الرابعةِ وهي أن كثيراً من الناسِ يَتوَهَّمُ في بعضِ الصفاتِ أو كثيرٍ منها؛ أو أكثرِها أو كلِّها، أنها تُماثِلُ صفاتِ المخلوقين، ثم يُريدُ أن يَنفيَ ذلك الذي فهِمَه، فيَقعُ في (أربعةِ أنواعٍ) من الْمَحاذيرِ:

أوَّلاً: كونُه مَثَّلَ ما فهِمَه من النصوصِ بصفاتِ المخلوقين، وظَنَّ أن مدلولَ النصوصِ هو التمثيلُ.
ثانياً: أنه إذا جَعلَ ذلك هو مفهومَها وعطَّلَه بَقِيَت النصوصُ مُعَطَّلةً عما دلَّتْ عليه من إثباتِ الصفاتِ اللائقةِ باللهِ فيَبقى مع جِنايتِه على النصوصِ، وظَنِّه السيئِ الذي ظَنَّهُ باللهِ ورسولِه؛ حيث ظَنَّ أن الذي يُفهَمُ من كلامِهما هو التمثيلُ الباطلُ – قد عَطَّلَ ما أَوْدَعَ اللهُ ورسولُه في كلامِهما من إثابتِ الصفاتِللهِوالمعاني الإلهيَّةِ اللائقةِ بجلالِ اللهِ تعالى.
ثالثاً: أنه يَنفيَ تلك الصفاتِ عن اللهِ عزَّ وجلَّ بغيرِ علْمٍ؛ فيكونُ مُعَطِّلاً لما يَستحقُّه الربُّ.
رابعاً: أنه يَصِفُ الربَّ بنقيضِ تلك الصفاتِ، من صفاتِ الأمواتِ والجماداتِ، أو صفاتِ المعدوماتِ، فيكونُ قد عطَّلَ به صفاتِ الكمالِ التي يَستحقُّها الربُّ ومثَّلَه بالمنقوصاتِ والمعدوماتِ، وعطَّلَ النصوصَ عما دلَّتْ عليه من الصفاتِ وجَعَلَ مدلولَها هو التمثيلَ بالمخلوقاتِ, فيَجمَعُ في كلامِ اللهِ بينَ التعطيلِ والتمثيلِ؛ فيكونُ ملْحِداً في أسماءِ اللهِ وآياتِه.

الشرْحُ:
الإشارةُ في قولِه:( وهذا يَتبيَّنُ ) راجعةٌ إلى قولِه: (بل صفةُ الموصوفِ تُناسِبُه, ولكن ليس المنسوبُ كالمنسوبِ ولا المنسوبُ إليه كالمنسوبِ إليه).
فمضمونُ ما ذُكِرَ في القاعدةِ الثالثةِ يَتبيَّنُ ويَتَّضِحُ بما ذُكِرَ في القاعدةِ الرابعةِ وهي أن بعضَ الناسِ لم يَفْهَموا من أسماءِ اللهِ وصفاتِه إلا ما هو اللائقُ بالمخلوقِ، ثم شَرَعوا في نفيِ تلك المفهوماتِ، فقد جَمَعوا بين التعطيلِ والتمثيلِ، مثَّلُوا أوَّلاً وعطَّلُوا آخِراً.

وهذا تشبيهٌ وتمثيلٌ منهم للمفهومِ من أسمائِه وصفاتِه؛ بالمفهومِ من أسماءِ خلقِه وصفاتِهم, وتعطيلٌ لما استحقَّه هو سبحانَه من الأسماءِ والصفاتِ اللائقةِ به.
وقد جَمَعوا بينَ هذه المحاذيرِ الأربعةِ؛ التمثيلِ والتعطيلِ وكونِ ذلك صادِراً بغيرِ علْمٍ ولا دليلٍ، وكونِه يَلزَمُ من سلْبِهِم هذه الصفاتِ عن اللهِ وصفُهم له بنقائضِها، وجَنَوْا على النصوصِ، وظنُّوا ظنًّا سيئاً، حيث ظَنُّوا أن ظاهِرَ كلامِ اللهِ ورسولِه يَقتضي مماثَلةَ اللهِ لخلْقِه، وحرَّفُوا النصوصَ عن مواضِعِها, وعطَّلُوها عما دلَّتْ عليه من حقائقِ أسماءِ اللهِ وصفاتِه اللائقةِ به.

وهذا منطبِقٌ على الجَهْميَّةِ والمعتزلِةِ والأشاعرةِ، ومن دَخلَ في هذه الطوائفِ, وسارَ في فلكِها.
ولهذا عبَّرَ المؤلِّفُ بقولِه: (بعضِ الصفاتِ أو كثيرٍ منها أو أكثرِها أو كلِّها).
وحقيقةُ الأمرِ أن كلَّ مُعَطِّلٍ ممثِّلٌ وكلَّ ممثِّلٍ مُعَطِّلٌ، أما المُعَطِّلُ فتعطيلُه هو جحْدُه الصفاتِ، وأما تمثيلُه فهو من جهةِ أنه اعتقدَ أن إثباتَ الصفاتِللهِيَستلزِمُ التشبيهَ فأَخذَ يَنْفِي الصفاتِ فِراراً من ذلك، فمَثَّلَ أوَّلاً وعَطَّلَ ثانياً.
وأما الممثِّلُ فتمثيلُه هو تشبيهُه صفةَ الخالقِ بصفةِ المخلوقِ، وأما تعطيلُه فمن وجوهٍ ثلاثٍ:

أوَّلاً: أنه عطَّلَ نفْسَ النصِّ الذي أَثبَتَ الصفةَ حيث صرَفَه عن مُقتَضَى ما يَدلُّ عليه؛ فإن النصَّ دالٌّ على إثباتِ صفةٍ تَليقُ باللهِ لا على مشابَهَةِ اللهِ لخلْقِه.

ثانياً: أنه إذا مثَّلَ اللهَ بخلْقِه فقد عطَّلَه عن كمالِ الواجبِ؛ حيث شبَّهَ الربَّ الكاملَ من جميعِ الوجوهِ بالمخلوقِ الناقصِ.

ثالثاً: أنه إذا شبَّهَ اللهَ بخلْقِه فقد عطَّلَ كلَّ نصٍّ يَدُلُّ على نفيِ مشابَهَةِ اللهِ لخلقِه. مثلَ قولِه تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}.

قولُه:
(مثالُ ذلك) أن النصوصَ كلَّها دلَّتْ على وصْفِ الإلهِ بالعلُوِّ والفوقيَّةِ على المخلوقاتِ، واستوائِه على العرشِ.

الشرْحُ:
الإشارةُ في قولِه: (مثالُ ذلك ) راجعةٌ إلى تَوهُّمِ بعضِ الناسِ في بعضِ الصفاتِ أو كلِّها أنها تُماثِلُ صفاتِ المخلوقين , ثم يُريدُ هذا البعضُ من طوائفِ الابتداعِ أن يَنفيَ ذلك الذي فهِمَه فيَقع ُ في المحاذيرِ الأربعةِ.
والذي يَدلُّ على العلوِّ من الكتابِ قولُه تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} وقولُه: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } وقولُه تعالى: {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً } وقولُه تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرجُ إِلَيْهِ} وقولُه: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} في ستَّةِ مواضعَ. وقولُه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وأمثالُ ذلك.

والذي يَدلُّ عليه من السنَّةِ قصَّةُ مِعراجِ الرسولِ إلى ربِّه، ونزولُ الملائكةِ من عندِ اللهِ وصعودِها إليه, وقولُه في الملائكةِ الذين يَتَعَاقبُون في الليلِ والنهارِ, فيَعْرُجُ الذين بَاتوا فيكم إلى ربِّهم فيَسألُهم وهو أَعلَمُ بهم, وفي حديثِ الخوارجِ: (أَلاَ تَأْمَنُونَنِى وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ). وفي حديثِ الرَّقْيَةِ: (رَبَّنَا اللهَ الَّذِي في السَّمَاءِ تَقَدَّسَ اسْمُكَ). وفي حديثِ الأوعالِ: (وَالْعَرْشُ فَوْقَ ذَلِكَ، وَاللهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ). وفي حديثِ قبْضِ الروحِ: (حَتَّى يَعْرُجَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا اللهُ).

وفي الصحيحِ عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ أن رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما خَطَبَ خُطبةً عظيمةً يومَ عرفاتٍ في أعظَمِ جمْعٍ حضَرَه رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعلَ يقولُ: (اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ) فيقولون: نعم! فيَرفعُ أُصبُعَه إلى السماءِ ويَنْكُبُها إليهم ويقولُ: (اللَّهُمَّ اشْهَدْ) غيرَ مرَّةٍ.

وأمثالُه كثيرةٌ، وعلى ذلك اتَّفقَ سَلَفُ الأمَّةِ وأئمَّتُها وكلامُهم مشهورٌ في ذلك.

قولُه:
فأما علوُّه ومبايِنتُه للمخلوقاتِ فيُعلمُ بالعقلِ الموافِقِ للسمْعِ, وأما الاستواءُ على العرشِ فطريقُ العلْمِ به هو السمْعُ. وليس في الكتابِ والسنَّةِ وصفٌ له بأنه لا داخلَ العالَمِ ولا خارجَه، ولا مُبايِنَه ولا مُداخِلَه.

الشرْحُ:
هذه جملةٌ مُعْتَرِضَةٌ بينَ المثالِ المذكورِ وبينَ قولِه فيما يأتى فيَظنُّ المتوهِّمُ أنه إذا وُصِفَ بالاستواءِ على العرشِ كان استواؤُه كاستواءِ الإنسانِ. بيَّنَ بها المؤلِّفُ الفرْقَ بينَ طريقِ العلْمِ بالعلوِّ وطريقِ العلْمِ بالاستواءِ وأن وصْفَ الجَهْميَّةِللهِبِسلْبِ النقيضَيْن مخالِفٌ لما جاءَ في الكتابِ والسنَّةِ من وصْفِه سبحانَه بالعُلوِّ على خلقِه واستوائِه على عرشِه, بل قولُهم مخالِفٌ أيضاً للعقولِ السليمةِ والفِطَرِ المستقيمةِ، فإنه يَمتنِعُ أن يكونَ في الوجودِ موجودٌ لا داخلَ العالَمِ ولا خارجَه, كما سَبَقَ بيانُ ذلك في القاعدةِ الأُولى.

والمقصودُ أن علوَّ اللهِ سبحانَه فوقَ جميعِ مخلوقاتِه يُعلمُ بطريقِ العقْلِ الموافِقِ لصريحِ نصوصِ الكتابِ والسنَّةِ. فهو معلومٌ بالنصِّ، كما هو معلومٌ بالفطرةِ الضروريَّةِ التي يَشتركُ فيها جميعُ بني آدمَ. وكلُّ من كان باللهِ أَعرَفَ وله أَعبَدَ ودعاؤُه له أكثرَ, وقلبُه له أذْكَرَ كان عِلمُه الضروريُّ بذلك أقوى وأكمَلَ، فالفطرةُ مكمَّلَةٌ بالشريعةِ المُنَزَّلَةِ، فإن الفطرةَ تَعلَمُ الأمرَ مُجْمَلاً، والشريعةُ تُفصِّلُه وتُبَيِّنُه وتَشهدُ بما لا تَستقِلُّ الفطرةُ به.

وأما نفْسُ استوائِه على العرْشِ بعد أن خَلقَ السمواتِ والأرضَ في ستَّةِ أيَّامٍ فقد عُلِمَ بالسمْعِ الذي جاءَ به الرسُلُ كما أَخبرَ اللهُ به في القرآنِ والتوراةِ.
وهنا يَحسُنُ ذكْرُ الحكايةِ المشهورةِ عن الشيخِ العارفِ أبي جعفرٍ الهَمْدَانِيِّ، لأبي المعالي الْجُوَيْنِيِّ لَمَّا أَخذَ يقولُ على المِنبرِ: (كان اللهُ ولا عَرْشَ) فقالَ: يا أستاذُ, دَعْنَا من ذكْرِ العرْشِ, يعني: لأن ذلك إنما جاءَ في السمْعِ أخْبِرْنَا عن هذه الضرورةِ التي نَجِدُهَا في قلوبِنا؟ فإنه ما قالَ عارفٌ قطُّ (يا اللهُ) إلا وَجَدَ من قلبِه ضرورةً تَطلبُ العُلوَّ لا تَلتفتُ يَمنةً ولا يَسرةً، فكيف نَدفعُ هذه الضرورةَ عن قلوبِنا؟ قالَ: فلَطَمَ أبو المعالي على رأسِه وقالَ: حيَّرَنيَ الهَمْدَانِيُّ! حيَّرَنى الهَمْدَانِيُّ! ونَزَلَ!.

قولُه:
فيَظنُّ المتوهِّمُ أنه إذا وُصفَ بالاستواءِ على العرشِ: كان استواؤُه كاستواءِ الإنسانِ على ظُهورِ الفُلْكِ والأنعامِ، كقولِه: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} فيَتخيَّلُ له أنه إذا كان مستَوِياً على العرْشِ كان محتاجاً إليه، كحاجةِ المستوي على الفُلْكِ والأنعامِ، فلو غَرِقَت السفينةُ لسَقَطَ المسْتَوِي عليها, ولو عَثَرَت الدابَّةُ لخرَّ المستَوِي عليها.

فقياسُ هذا أنه لو عُدِمَ العرْشُ لسَقطَ الربُّ سبحانَه وتعالى. ثم يُريدُ بزعمِه أن يَنفيَ هذا فيقولَ: ليس استواؤُه بقعودٍ ولا استقرارٍ، ولا يَعلَمُ أن مُسمَّى القعودِ والاستقرارِ يُقالُ فيه ما يُقالُ في مُسمَّى الاستواءِ؛ فإن كانت الحاجةُ داخلةً في ذلك فلا فرْقَ بينَ الاستواءِ والقعودِ والاستقرارِ وليس الحاجةُ داخلةً في ذلك, فلا فرْقَ بينَ الاستواءِ والقعودِ والاستقرارِ, وليس هو بهذا المعنى مستوياً ولا مستقِرًّا ولا قاعداً، وإن لم يَدخُلْ في مُسمَّى ذلك إلا ما يَدخلُ في مُسمَّى الاستواءِ فإثباتُ أحدِهما ونفيُ الآخَرِ تَحَكُّمٌ.

الشرْحُ:
يعني أن الجَهْميَّةَ ونحوَهم من النُّفاةِ لم يَفهموا من استواءِ اللهِ على عرشِه إلا كما يُثبَتُ للمستوي على ظهْرِ الفُلْكِ والدابَّةِ من الحاجةِ والافتقارِ وسائرِ اللوازمِ الباطلةِ التي يُؤدِّي إليها قياسُ الخالقِ للكونِ بأسرِه، على المخلوقِ الضعيفِ العاجزِ في كلِّ شؤونِه. وبِناءً على هذا الفهمِ الفاسدِ قالوا: ليس استواءُ اللهِ الواردُ في النصوصِ بقعودٍ ولا استقرارٍ ولا عُلُوٍّ ولا صعودٍ, وإنما هو استيلاءٌ بمعنى المُلْكِ والغَلَبَةِ. ولا يَعلمون أنه يُقالُ في مدلولِ الاستيلاءِ الذي هو معنى الاستواءِ عندَهم مثلَ ما يُقالُ في مدلولِ الاستواءِ الحقيقيِّ الذي هو الارتفاعُ والصعودُ والاستقرارُ.

فيُقالُ في مدلولِه عندَهم مثلَ ما يُقالُ في مدلولِه الحقيقيِّ. من حيث لزومُ المحذورِ وعدَمُ لزومِه. فإن كانت الحاجةُ داخلةً في الاستيلاءِ فهي أيضاً لازِمةٌ في القعودِ والاستقرارِ وليس اللهُ سبحانَه بهذا المعنى مستَوْلِياً ولا قاعداً ولا مستَقِرًّا ولا مرتَفِعاً فإن الحاجةَ غيرُ لازمةٍ بالنسبةِ إلى الحيِّ القيُّومِ الغنيِّ بذاتِه عما سواه، بل هو ممتنِعٌ غايةَ الامتناعِ؛ لأن الحاجةَ تُنافي كمالَ الغِنَى. فهم يقولون: إذا قلتُم إن معنى استواءِ اللهِ على عرشِه علُوُّه عليه لزِمَ من ذلك أن يكونَ اللهُ محتاجاً إلى العرْشِ.

فيُقالُ لهم: وإذا قلتُم إن معنى استوائِه على العرشِ مُلكُه وغلَبَتُه. لزِمَ من ذلك أن يكونَ اللهُ مغالَباً على عرشِه وأنه كان خارجاً عن مُلْكِه, ثم استولى عليه. وإن قالوا استيلاؤُه على عرشِه هو على ما يَليقُ به ولا يَلزمُ منه محذورٌ. قيلَ لهم: وصُعودُه وارتفاعُه على عرشِه هو على ما يَليقُ به، ولا يَلزَمُ منه محذورٌ وحينئذٍ فإثباتُكم للاستيلاءِ ونفيُكم للعُلوِّ والارتفاعِ تَعسُّفٌ ومغالطَةٌ. واعلمْ أنه لم يَثبُت استعمالُ لفظِ استوى في اللغةِ بمعنى استولى. وإنما عُمْدَةُ الذي قالوا ذلك البيتُ المشهورُ:

ثم استوى بِشْرٌ على العراقِ من غيرِ سيفٍ أو دمٍ مِهْراقِ

ولم يَثبُتْ بنقلٍ صحيحٍ أنه شعرٌ عربيٌّ. وكان غيرُ واحدٍ من أئمَّةِ اللغةِ قد أَنْكَرُوه وقالوا: إنه بيتٌ مصنوعٌ لا يُعرفُ في اللغةِ. وقد عَلِمَ أنه لو احتَجَّ بحديثِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَحتاجَ إلى إثباتِ صحَّتِه فكيف ببيتٍ من الشعْرِ لا يُعرفُ إسنادُه؟ وقد طَعَنَ فيه أئمَّةُ اللغةِ. وذُكِرَ عن الخليلِ كما عندَ أبي المُظَفَّرِ في كتابِه (الإفصاحِ) قالَ: سُئِل الخليلُ هل وجَدْتَ في اللغةِ استوى بمعنى استولى؟ فقالَ: هذا ما لا تَعرفُه العربُ ولا هو جائزٌ في لغتِها – وهو إمامٌ في اللغةِ على ما عُرِفَ من حالِه – فحينئذٍ حَمْلُه على ما لا يُعرفُ حمْلٌ باطلٌ، وأيضاً فأهلُ اللغةِ قالوا: لا يكونُ استوى بمعنى استولى إلا فيما كان مُنازَعاً مغالَباً, فإذا غَلَبَ أحدُهما صاحبَه قيلَ استولى, واللهُ لم يُنازِعْه أحدٌ في العرْش. قالَ الإمامُ محيي السنَّةِ الحسينُ بنُ مسعودٍ البَغَوِيُّ قدَّسَ اللهُ رُوحَه في تفسيرِه – وهو شَجًى في حلوقِ الجَهْميَّةِ والمُعَطِّلةِ – في سورةِ (الأعرافِ) في قولِه تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} قالَ الكلبيُّ ومقاتِلٌ: (استَقَرَّ). وقالَ أبو عُبيدةَ: (صَعِدَ). قالَ: وأَوَّلَت المعتزلِةُ الاستواءَ بالاستيلاءِ قالَ: وأما أهلُ السنَّةِ فيقولون: (الاستواءُ على العرشِ صفةٌللهِ بلا كيفٍ) ولو ساغَ ادِّعاءُ المجازِ لكلِّ مدَّعٍ ما ثَبَتَ شيءٌ من العباداتِ وجَلَّ اللهُ أن يُخاطَبَ إلا بما تَفهمُه العربُ من معهودِ مُخاطَباتِهم مما يَصحُّ معناه عندَ السامعين. والاستواءُ معلومٌ في اللغةِ مفهومٌ وهو العُلوُّ والارتفاعُ على الشيءِ والاستقرارُ والتمكينُ فيه. قالَ أبو عبيدةَ في قولِه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قالَ: علا. قالَ: وتقولُ العربُ: استويْتُ فوقَ الدابَّةِ، واستويْتُ فوقَ البيتِ، وقالَ غيرُه: استوى أي استَقَرَّ. واحتَجَّ بقولِه تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى} أي انتهى شبابُه واستقَرَّ فلم يكنْ في شبابِه مزيدٌ. قالَ ابنُ عبدِ البَرِّ: استواءُ الاستقرارِ في العُلوِّ؛ وبهذا خاطبَنا اللهُ تعالى في كتابِه فقالَ: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} وقالَ تعالى: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} وقالَ تعالى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} وقالَ الشاعرُ:

فأَوْرَدْتُهم ماءً بفيفاءَ قَفْرةٍ وقد حلَّقَ النَّجْمُ اليمانيُّ فاسْتَوى

وهذا لا يَجوزُ أن يَتأوَّلَ فيه أحدٌ استوى؛ لأن النَّجْمَ لا يَستولي. وقد ذكَرَ النَّضْرُ بنُ شُمَيْلٍ – وكان ثقةً مأموناً جليلاً في علْمِ الصناعةِ واللغةِ – قالَ: حدَّثَنا الخليلُ وحسْبُك بالخليلِ! قالَ: أتَيْتُ أبا ربيعةَ الأعرابيَّ – وكان من أَعلمِ ما رأيتُ – فإذا هو على سطْحٍ فسلَّمْنا فرَدَّ علينا السلامُ وقالَ: اسْتَوُوا فبقِينا مُتَحيِّرِين ولم نَدْرِ ما قالَ. فقالَ لنا أعرابيٌّ إلى جانبِه: إنه أمَرَكُم أن تَرْتَفعوا. فقالَ الخليلُ هو من قولِ اللهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} فصَعِدْنا إليه. وقالَ عبدُ اللهِ بنُ المبارَكِ وغيرُه من أهلِ العلْمِ إن: معنى: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} استَقَرَّ. وتقولُ العربُ: (استويتُ على ظهْرِ الفرَسِ) بمعنى علَوْتُ عليه، واستوَيْتُ على سقْفِ البيتِ, بمعنى علَوْتُ عليه. وقالَ الثعلبيُّ ومقاتِلٌ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} يعني استقرَّ، قالَ: وقالَ أبو عبيدةَ: صَعِدَ. وهذه العباراتُ وإن اختَلَفَتْ فمقصودُهم واحدٌ , وهو إثباتُ عُلوِّ اللهِ على العرشِ.

قولُه:
وقد عُلِمَ أن بينَ مُسمَّى الاستواءِ والاستقرارِ والقعودِ فروقاً معروفةً.
ولكنَّ المقصودَ هنا أن يُعلمَ خطأُ من يَنفي الشيءَ مع إثباتِ نظيرِه.

الشرْحُ:
هذه الألفاظُ متقارِبةُ المعنى، فبعضُها يُفسَّرُ ببعضٍ فتقولُ مفسِّراً للاستواءِ: هو الاستقرارُ. وتقولُ: قعَدَ على الشيءِ واستَقَرَّ معناه استوى عليه. وإذا عرَفْتَ أن كلاّ منها يفسَّرُ بالآخَرِ فاعلَمْ أن بعضَها قد يُؤدِّي زيادةَ معنًى لا يؤدِّيه الآخَرُ، فمثلاً قعَدَ على الشيءِ يَدلُّ على الاستواءِ عليه، وزيادةِ معنًى وهو أن هذا الاستواءَ قُعودٌ وليس استواءً مع قيامٍ. واستقرَّ على الشيءِ تَدلُّ على أنه استوى عليه، وزيادةِ معنًى وهو الثبوتُ والتمكُّنُ عليه. والاستواءُ أعمُّ من أن يكونَ قُعوداً وأعمُّ من أن يكونَ معه ثبوتٌ أو تَمَكُّنٌ، أو ليس معه ذلك، ولكنَّ مقصودَ المؤلِّفِ أن إثباتَ الجَهْميِّ للاستيلاءِ ونفْيَه للارتفاعِ تفريقٌ بينَ متُماثِلَيْن، فإن الاستواءَ بمعنى الاستقرارِ، مثلَ الاستواءِ بمعنى الاستيلاءِ من حيث لزومُ المحذورِ وعدمُ لزومِه. وقد عُلِمَ أن ظاهِرَ الاستواءِ وحقيقتَه هو العُلوُّ والارتفاعُ كما نَصَّ عليه جميعُ أهلِ اللغةِ وأهلِ التفسيرِ المقَبولِ، كما هو معلومٌ بين الصحابةِ والتابعين وتابعِيهم فيكونُ التفسيرُ المحدَثُ بعدَه باطلاً قطْعاً. قالَ يزيدُ بنُ هارونَ الواسطيُّ: إن من قالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} خلافُ ما تَقرَّرَ في نفوسِ العامَّةِ فهو جَهْميٌّ.

قولُه:
وكأن هذا الخطأَ من خطئِه في مفهومِ استوائِه على العرشِ، حيث ظَنَّ أنه مثلَ استواءِ الإنسانِ على ظهورِ الأنعامِ والفُلْكِ. وليس في هذا اللفظِ ما يَدلُّ على ذلك؛ لأنه أضافَ الاستواءَ إلى نفسِه الكريمةِ كما أضاف إليه سائرَ أفعالِه وصفاتِه. فذَكَرَ أنه خَلقَ ثم استوى، كما ذكَرَ أنه قدَّرَ فهدَى، وأنه بَنَى السماءَ بأيْدٍ، وكما ذكَرَ أنه مع موسى وهارونَ يَسْمَعُ ويَرى وأمثالَ ذلك. فلم يَذكُر استواءً مُطلَقاً يَصلُحُ للمخلوقِ، ولا عامًّا يَتناولُ المخلوقَ, كما لم يَذكرْ مثلَ ذلك في سائرِ صفاتِه، وإنما ذَكرَ استواءً أَضافَه إلى نفسِه الكريمةِ.

الشرْحُ:
يقولُ الشيخُ: إن أصلَ خطأِ الجَهْميِّ في نفيِه لشيءٍ مع إثباتِ نظيرِه إنما جاءَه من جهةِ فهمِه الخاطئِ بأنه يَلزَمُ من كونِ اللهِ مستوياً على عرشِه أن يكونَ مثلَ استواءِ المخلوقِ، فإنه بِناءً على هذا الظنِّ الفاسدِ نَفَى أن يكونَ استواءُ اللهِ استقراراً وعُلُوًّا، وجَعلَه مُلْكاً وغَلَبةً, وليس في نصوصِ الاستواءِ ما يَدلُّ على المماثَلةِ.

فإنه سبحانَه أضافَه إلى نفسِه كما أضافَ إليها تقديرَه وبِناءَه ورؤيتَه وسمْعَه وعلْمَه ونحوَ ذلك من سائرِ صفاتِه. وحينئذٍ فهذا توهُّمٌ فاسدٌ وظَنٌّ خاطئٌ؛ فإن اللهَ هو الخالقُ للعرشِ. والمخلوقُ مفتقِرٌ إلى الخالقِ، وهو الغنيُّ عن العرشِ. وكلُّ ما سواه فقيرٌ إليه. كيف وإنه كان موجوداً قبلَ العرْشِ فإذا كان موجوداً قائمًا بنفسِه قبلَ العرْشِ, لا يكونُ إلا مُسْتَغْنِياً عنه. وإذا كان اللهُ فوقَ العرْشِ لم يَجبُ أن يكونَ محتاجاً إليه, وللهِ تعالى استواءٌ على عرشِه حقيقةً، وللعبدِ استواءٌ على الفُلْكِ حقيقةً، وليس استواءُ الخالقِ كاستواءِ المخلوقين. فإنَّ اللهَ لا يَفتقِرُ إلى شيءٍ ولا يَحتاجُ إلى شيءٍ، بل هو الغنيُّ عن كلِّ شيءٍ. واللهُ تعالى يَحمِلُ العرشَ وحمَلَتَه بقدرتِه، ويُمْسِكُ السمواتِ والأرضَ أن تَزولا، فهو مستوٍ على عرشِه استواءً يَليقُ بجلالِه ويَختَصُّ به. وكما أنه سبحانَه موصوفٌ بأنه بكلِّ شيءٍ عليمٌ، وعلى كلِّ شيءٍ قديرٌ ونحوَ ذلك. ولا يَجوزُ أن يُثبَتَ لعلْمِه وقدرتِه خصائصُ الأعراضِ التي لعِلْمِ المخلوقين وقدرتِهم؛ فكذلك هو سبحانَه فوقَ العرْشِ. ولا يُثبَتُ لفوقيَّتِه خصائصُ فوقيَّةِ المخلوقِ على المخلوقِ وملزوماتِها، فاقترانُ الاستواءِ بحرفِ (على), وعطْفُ فِعلِه (بثم) على خلْقِ السمواتِ والأرضِ، وكونُه بعدَ أيَّامِ التخليقِ وكونُه سابقاً في الخلْقِ على السمواتِ والأرضِ، وذكْرُ تدبيرِ أمورِ الخليقةِ معه الدالُّ على كمالِ المُلْكِ، كلُّ ذلك دالٌّ على أن استواءَه سبحانَه لا يُماثِلُ استواءَ المخلوقِ، (وإذا أُضيفَ إلى المخلوقِ) لم يَصِحَّ أن يُدخلَ فيه وصْفُ الخالقِ سبحانَه, ولم يكنْ وصفُ المخلوقِ كوصْفِ الخالقِ, وإذا أُضيفَ إلى الخالقِ لم يَصِحَّ أن يَدْخُلَ فيه وصْفُ المخلوقين، ولم يكنْ وصفُه كوصفِهم, وإذا كان الوصفُ مُطلَقاً فهو عامٌّ فيهما، مُتَناوِلٌ لهما لاتِّفاقِهما في المعنى الكُلِّيِّ المشترَكِ.

قولُه:
فلو قُدِّرَ على وجهِ الفرْضِ الممتنِعِ أنه هو مثلَ خلْقِه – تعالى عن ذلك – لكان استواؤُه مثلَ استواءِ خلْقِه، أما إذا كان هو ليسَ مُمَاثِلاً لخلْقِه، بل قد عُلمَ أنه الغنيُّ عن الخلْقِ، وأنه الخالقُ للعرشِ ولغيرِه، وأن كلَّ ما سواه مفتقِرٌ إليه، وهو الغنيُّ عن كلِّ ما سواه، وهو لم يَذْكُرْ إلا استواءً يَخُصُّه، لم يَذكُر استواءً يَتناولُ غيرَه ولا يَصلُحُ له، كما لم يذْكُرْ في علْمِه وقُدرتِه ورؤيتِه وسمعِه وخلْقِه إلا ما يَخْتَصُّ به، فكيف يَجوزُ أن يُتَوَهَّمَ أنه إذا كان مستَوِياً على العرْشِ كان محتاجاً إليه، وأنه لو سَقَطَ العرشُ لَخَرَّ مَن عليه؟ سبحانَه وتعالى عما يقولُ الظالمون والجاحدون عُلُوًّا كبيراً. هل هذا إلا جهلٌ مَحْضٌ وضلالٌ مِمَّن فَهِم ذلك وتَوهَّمَه، أو ظنَّه ظاهِرَ اللفظِ ومدلولَه، أو جوَّزَ ذلك على ربِّ العالَمين الغنيِّ عن الخلْقِ؟! بل لو قُدِّرَ أن جاهلاً فَهِمَ مثلَ هذا أو توهَّمَه لبُيِّنَ له أن هذا لا يَجوزُ، وأنه لم يَدُلَّ اللفظُ عليه أصلاً، كما لم يَدلَّ على نظائرِه في سائرِ ما وَصفَ به الربُّ نفسَه.

الشرْحُ:
يَقولُ المؤلِّفُ: إن استواءَ اللهِ سبحانَه لا يُمكِنُ أن يكونَ مثلَ استواءِ المخلوقِ إلا لو كانت ذاتُه مثلَ ذواتِ المخلوقين. فلو قُدِّرَ على سبيلِ الفرْضِ الممتنِعِ أن الذاتَ مثلُ الذواتِ لاَمكنَ أن يكونَ الاستواءُ مثلَ الاستواءِ، ومن المعلومِ بالضرورةِ أن ذاتَه سبحانَه لا تُماثِلُ الذواتِ. وقد عُلِمَ بالضرورةِ أنه الخالقُ للعرشِ ولغيرِه، وأنه الغنيُّ عمَّا سِواه، وكلُّ شيءٍ فهو مفتقِرٌ إليه، وهو سبحانَه أضافَ استواءَه إلى نفسِه فهو على ما يَليقُ به، وهكذا القولُ في سائرِ ما وَصفَ به الربُّ نفسَه؛ فإن إضافتَه إليه تَقتضي عدمَ صلاحيَّتِه لغيرِه أو تناوُلَه لسواه. ومَن ظنَّ أن قولَ الأئمَّةِ إن اللهَ مُسْتوٍ على عرشِه حقيقةً يَقتضي أن يكونَ استواؤُه مثلَ استواءِ العبدِ على الفُلْكِ والأنعامِ لَزِمَه أن يكونَ قولُهم:إن اللهَ له علْمٌ حقيقةً، وسمْعٌ حقيقةً، وبصرٌ حقيقةً، وكلامٌ حقيقةً يَقتضي أن يكونَ علْمُه وسمْعُه وبصَرُه وكلامُه مثلَ المخلوقين وسَمْعِهم وبصرِهم وكلامِهم. وهذا ما لم يقولوه أصلاً. وإذا كان كذلك فكيف يُتَوَهَّمُ في حقِّه سبحانَه ما هو من خصائصِ المخلوقين؟! وكيف يُظَنُّ أنه يَلزَمُ من استوائِه على العرشِ حاجتُه إليه؟! ما هذا إلا ضلالٌ بيِّنٌ وجهْلٌ واضحٌ ممن فَهِمَه أو ظَنَّه ظاهِرَ نصوصِ الاستواءِ ومدلولَها. فبُعداً لهؤلاءِ المكابِرين للمعقولاتِ والمتجَنِّينَ على النصوصِ من زعماءِ الابتداعِ ورؤساءِ الضلالِ. ولو قُدِّرَ أن أحداً ممن لا يَفهمُ معانيَ النصوصِ, ولا يَعلمُ مدلولاتِها توَهَّمَ أن ظاهِرَها يَقتضي مماثَلةَ اللهِ لخلْقِه لَبُيِّنَ لهذا الجاهلِ أن هذا ليس هو مرادَ اللهِ بكلامِه، ولا هو مُقْتَضَى العقلِ والفِطْرَةِ, ولم يَدلَّ عليه النصُّ البتَّةَ، وإنما صَرَّحت النصوصُ بنفيِ مماثلتِه لخلْقِه سبحانَه وتعالى.


قولُه:
فلمَّا قالَ تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} فهل يُتَوَهَّمُ أن بناءَه مثلُ بناءِ الآدميِّ المُحتاجِ، الذي يَحتاجُ إلى زِنْبِيلٍ ومَجارِفَ وضَرْبِ لَبِنٍ وأعوانٍ؟

الشرْحُ:
يعني أن الخالقَ سبحانَه أَخبرَ عن نفسِه بأنه بنَى السماءَ بقوَّةٍ، والمخلوقُ يُوصَفُ بالبناءِ، ولكن من يقولُ للشيءِ كنْ فيكونُ، ومن يقولُ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} مَن هذا شأنُه لا يُمكِنُ أن يُتَوَهَّمَ في حقِّه ما هو من خصائصِ المخلوقِ. ومن المعلومِ أن السمواتِ والأرضَ من أَكبرِ مخلوقاتِه كما قالَ تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ}. وكما قالَ: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ} والربُّ سبحانَه موصوفٌ ببناءِ السماءِ، والمخلوقُ موصوفٌ بالبناءِ، ولكنَّ المخلوقَ مُحتاجٌ إلى آلاتِ البناءِ وأدواتِه ومُحتاجٌ إلى مُساعِدِين، أما الربُّ – تَبارَكَ وتعالى – فغيرُ مُحتاجٍ إلى شيءٍ من ذلك فلا شَريكَ له ولا ظهيرَ، ولا يُعْجِزُه شيءٌ سبحانَه وتعالى. وكما أنه لا يَلزَمُ من بنائِه لسمواتِه أن يكونَ مثلَ بِناءِ المخلوقِ، فكذلك هو مُستوٍ على عرشِه. ولا يَلزمُ في حقِّه ما يَلزمُ في حقِّ المخلوقِ من الحاجةِ واللوازمِ الباطلةِ.

قولُه:
ثم قد عُلِمَ أن اللهَ خلَقَ العالَمَ بعضَه فوقَ بعضٍ، ولم يَجعلْ عالِيَه مفتقِراً إلى سافلِه، فالهواءُ فوقَ الأرضِ, وليس مفتقِراً إلى أن تَحْمِلَه، والسمواتُ فوقَ الأرضِ وليست مفتقِرَةً إلى حمْلِ الأرضِ لها، فالعليُّ الأعلى ربُّ كلِّ شيءٍ ومَليكُه إذا كان فوقَ جميعِ خلقِه، كيف يَجبُ أن يكونَ محتاجاً إلى خلقِه أو عرشِه؟ وكيف يَستلزِمُ عُلوُّهُ على خلْقِه هذا الافتقارَ, وهو ليس بِمستلزَمٍ في المخلوقاتِ؟ وقد عُلمَ أن ما ثبَتَ لمخلوقٍ من الغِنى عن غيرِه فالخالقُ سبحانَه أحقُّ وأَوْلى.

الشرْحُ:
يعني أن اللهَ سبحانَه فوقَ العرْشِ وليس مُحتاجاً إليه؛ فإن اللهَ قد خَلَقَ العالَمَ بعضَه فوقَ بعضٍ ولم يَجعلْ عالِيَه مُحتاجاً إلى سافلِه، فالهواءُ فوقَ الأرضِ وليس مُحتاجاً إليها، وكذلك السَّحابُ فوقَها وليس مُحتاجاً إليها، وكذلك السمواتُ فوقَ السحابِ والهواءِ والأرضِ وليست مُحتاجةً إلى ذلك، والعرْشُ فوقَ السمواتِ والأرضِ ليس مُحتاجاً إلى ذلك، فكيف يكون العليُّ الأعلى خالقُ كلِّ شيءٍ مُحتاجاً إلى مخلوقاتِه لكونِه فوقَها عالياً عليها. ونحنُ نَعلمُ أن اللهَ خالقُ كلِّ شيءٍ وأنه لا حولَ ولا قوَّةَ إلا به، وأن القوَّةَ التي في العرشِ وفي حمَلَةِ العرشِ هو خالقُها؛ بل نقولُ: إنه خالقُ أفعالِ الملائكةِ الحاملين. فإذا كان هو الخالقَ لهذا كلِّه ولا حَوْلَ ولا قوَّةَ إلا به؛ امتَنَعَ أن يكونَ مُحتاجاً إلى غيرِه، فهو سبحانَه فوقَ سمواتِه على عرشِه بائنٌ من خلقِه، ليس في مخلوقاتِه شيءٌ من ذاتِه, ولا في ذاتِه شيءٌ من مخلوقاتِه، وهو أجَلُّ وأعظمُ وأغْنَى وأعلى من أن يَفتَقِرَ إلى شيءٍ بحمْلٍ أو غيرِ حمْلٍ، بل هو الأحدُ الصمَدُ الذي لم يَلِدْ ولم يُولَدْ ولم يَكنْ له كُفوُاً أحدٌ، الذي كلُّ ما سواه مفتقِرٌ إليه، وهو مستَغْنٍ عن كلِّ ما سِواه.



قولُه:
وكذلك قولُه: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} من تَوهَّمَ أن مُقتَضَى هذه الآيةِ أن يكونَ اللهُ في داخلِ السمواتِ فهو جاهلٌ ضالٌّ بالاتِّفاقِ، وإن كنَّا إذا قُلنا: إن الشمسَ والقمرَ في السماءِ يَقتضي ذلك، فإن حرفَ (في) متعلِّقٌ بما قبلَه وبما بعدَه، فهو بحسبِ المضافِ إليه. ولهذا يُفرَّقُ بينَ كوْنِ الشيءِ في المكانِ، وكونِ الجسمِ في الحيِّزِ، وكونِ العَرَضِ في الجسمِ، وكونِ الوجهِ في المرآةِ، وكونِ الكلامِ في الورقِ، فإن لكلِّ نوعٍ من هذه الأنواعِ خاصِّيَّةً يَتميَّزُ بها عن غيرِه، وإن كان حرفُ (في) مستعمَلاً في كلِّ ذلك. فلو قالَ قائلٌ: العرشُ في السماءِ أو في الأرضِ؟ لقيلَ: في السماءِ، ولو قيلَ: الجنَّةُ في السماءِ أمْ في الأرضِ؟ لقيلَ الجنَّةُ في السماءِ؛ ولا يَلزَمُ من ذلك أن يكونَ العرشُ داخلَ السمواتِ، بل ولا الجنَّةُ. فقد ثبَتَ في الصحيحِ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قالَ: (إِذَا سَأَلْتُمُ اللهَ الْجَنَّةَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ، وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَسَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ) فهذه الجنَّةُ سقفُها الذي هو العرشُ فوقَ الأفلاكِ. مع أن كونَ الجنَّةِ في السماءِ يُرادُ به العُلوُّ، سواءٌ كان فوقَ الأفلاكِ أو تحتَها. قالَ تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} وقالَ تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً}.

الشرْحُ:
بعدَ أن فرَغَ المؤلِّفُ من دَحْضِ شُبَهِ نُفاةِ استواءِ اللهِ على عرشِه؛ وبيانِ فسادِ تَوهُّمِهم، شرَعَ في بيانِ فسادِ توَهُّمِ نُفاةِ عُلُوِّ اللهِ على مخلوقاتِه. فذكَرَ أن قولَه – جَلَّ وعلا: - {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} لا يَدلُّ على معنًى فاسدٍ، وأن مَن توهَّمَ من كونِ اللهِ في السماءِ أنه في جوفِ السماءِ وأن السمواتِ تَحصُرُه وتَحويه فهو جاهلٌ ضالٌّ باتِّفاقِ المسلِمين، فلم يقُلْه أحدٌ من سَلَفِ الأمَّةِ وأئمَّتِها، بل هم متَّفقونَ على أن اللهَ فوقَ سماواتِه على عرشِه بائِنٌ من خلْقِه، ليس في مخلوقاتِه شيءٌ من ذاتِه، ولا في ذاتِه شيءٌ من مخلوقاتِه. قالَ مالكُ بنُ أنسٍ: (إن اللهَ فوقَ السماءِ وعلْمُه في كلِّ مكانٍ) إلى أن قالَ: (من اعتقدَ أن اللهَ في جوفِ السماءِ محصورٌ محاطٌ به وأنه مفتقِرٌ إلى العرْشِ أو غيرِه من المخلوقاتِ وأن استواءَه على عرشِه كاستواءِ المخلوقِ على كُرْسِيِّهِ فهو ضالٌّ مبتدِعٌ جاهلٌ) فمن لم يَعتقدْ ما جاءَ به الكتابُ والسنَّةُ، واتَّفقَ عليه سَلَفُ الأمَّةِ وأئمَّتُها، من أن اللهَ فوقَ سماواتِه على عرشِه بائِنٌ من خلقِه فقد أَخطأَ، وكذَّبَ اللهَ ورسولَه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واتَّبَعَ غيرَ سبيلِ المؤمنين، بل يكونُ في الحقيقةِ مُعَطِّلاً لربِّه، نافِياً له، فلا يكونُ له في الحقيقةِ إلهٌ يَعبُدُه، ولا ربٌّ يسألُه ويقصِدُه، وهذا قولُ الجَهْميَّةِ ونحوِهم من أتْبَاعِ فرعونَ المُعَطِّلِ.

فليس مُقتَضَى الآيةِ الكريمةِ أن الربَّ سبحانَه وتعالى داخِلُ الأجرامِ السماويَّةِ. وإن كان قولُك: الشمسُ في السماءِ أو القمرُ في السماءِ يَقتضِي الظرفيَّةَ فإن حرفَ (في) يَختلِفُ معناه بحسبِ ما قبلَه وما بعدَه. فقد يَقتضي ظرفيَّةَ ما بعدَه لما قبلَه وقد لا يَقتضي ذلك؛ ومن أجْلِ هذا يُفرَّقُ بينَ كوْنِ الشيءِ في المكانِ، وكونِ الجسمِ في الحيِّزِ، وكونِ العرَضِ في الجسمِ، وكونِ الوجهِ في المرآةِ، وكونِ الكلامِ في الورقِ، فالأوَّلُ يَقتضي ظرفيَّةَ المكانِ للشيءِ، وإن كان ذلك الشيءُ لا يَشْغَلُ عمومَ المكانِ، بينما قولُك: (الجسمُ في الحيِّزِ) يَقتضي ظرفيَّةَ الحيِّزِ للجسمِ مع شَغْلِ الجسمِ لكلِّ ذلك الْمِقدارِ من المكانِ، وكوْنُ العرَضِ في الجسمِ يَقْتَضي الاتِّصالَ والظرفيَّةَ، بينما قولُك الوجهُ في المرآةِ، وكذلك قولُك الكلامُ في الورَقِ لا يَقتضي الظرفيَّةَ، وإنما الذي في الورقِ الْمِدادُ بشكلِه الْمُعَيَّنِ، كما أن الذي يُشاهَدُ في المرآةِ هو الصورةُ، وإذاً فلكُلِّ نوعٍ من هذه الأنواعِ خاصِّيَّةٌ يتَمَيَّزُ بها عن غيرِه.

ثم ضرَبَ المؤلِّفُ مَثلاً بأنه لا يَلزَمُ من كوْنِ اللهِ في السماءِ أن يكونَ مَظروفًا لها. فذكَرَ أن النصوصَ قد صرَّحَتْ بأن العرشَ هو سقْفُ جميعِ المخلوقاتِ؛ كما دلَّت النصوصَ على أن الجنَّةَ ليست داخلَ الأجرامِ السماويَّةِ، وإذا لم تَلزَم الظرفيَّةُ من كونِ المخلوقِ في السماءِ فكيف يَلزَمُ ذلك في العليِّ الأعلى؟ وقولُ المؤلِّفِ: (مع أن كونَ الجنَّةِ في السماءِ، يُرادُ به العُلوُّ سواءٌ كانت فوقَ الأفلاكِ أو تحتَها) يشيرُ إلى أن القولَ بأن الجنَّةَ في داخلِ الأجرامِ السماويَّةِ لا يَترتَّبُ عليه محذورٌ، والحديثُ الذي استشهدَ به المؤلِّفُ وأمثالُه من النصوصِ يَدلُّ على أنها فوقَ الأفلاكِ. وقد روَى هذا الحديثَ البخاريُّ ومسلِمٌ ولفظُه عن أبي هريرةَ – رَضِيَ اللهُ عنه – قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَصَامَ رَمَضَانَ فَإِنَّ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا) قالوا: يا رسولَ اللهِ, نُنَبِّئُ الناسَ بذلكَ؟ قالَ: (إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَإِذَا سَأَلْتُم اللهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ وَسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ مِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ). وأَخرجَ التِّرمذِيُّ والحاكمُ والبيهقيُّ عن عُبادةَ بنِ الصامتِ – رَضِيَ اللهُ عنه – أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: (إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالْفِرْدَوْسُ أَعْلاَهَا دَرَجَةً، وَمِنْ فَوْقِهَا الْعَرْشُ، وَمِنْهَا تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ الْأَرْبَعَةُ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ).

وقولُ المؤلِّفِ: (وإن كنا إذا قلنا إن الشمسَ والقمرَ في السماءِ يَقتضي ذلك) ظاهِرُه أنه يَرى أن كلاّ من الشمسِ والقمرِ داخلُ الأجرامِ السماويَّةِ واللهُ أعلمُ.
قالَ شيخُنا مُحَمَّدٌ الأمينُ الشِّنْقِيطيُّ في كتابِة (أضواءِ البيانِ) ما نصُّه: (واعلَمْ أن لفظَ الآيةِ صريحٌ في أن نفْسَ القمرِ في السبْعِ الطِّباقِ؛ لأن لفْظةَ جَعَلَ في الآيةِ هي التي بمعنى صيَّرَ, وهي تَنْصِبُ المبتدأَ والخبرَ، والمعبَّرُ عنه بالمبتدأِ هو المعبَّرُ عنه بالخبرِ بعينِه لا شيئاً آخَرَ. فقولُك: جعَلْتُ الطينَ خَزَفاً والحديدَ خاتَماً لا يَخْفَى فيه أن الطينَ هو الخزَفُ بعينِه، والحديدَ هو الخاتَمُ. وكذلك قولُه تعالى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} فالنورُ المجعولُ فيهن هو القمرُ بعينِه. فلا يُفهمُ من الآيةِ بحسبِ الوضعِ اللُّغَوِيِّ احتمالُ خروجِ نفسِ القمرِ عن السبْعِ الطِّباقِ وكونُ المجعولِ فيها مُطلَقَ نورِه؛ لأنه لو أُريدَ ذلك لقيلَ: وجَعلَ نورَ القمرِ فيهن. أما قولُه: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} فهو صريحٌ في أن النورَ المجعولَ فيهن هو عينُ القمرِ، ولا يَجوزُ صرْفُ القرآنِ عن معناه المتبادِرِ بلا دليلٍ يَجبُ الرجوعُ إليه. ويوضِّحُ ذلك أنه تعالى صرَّحَ في سورةِ (الفُرقانِ) بأن القمرَ في خصوصِ السماءِ ذاتِ البروجِ بقولِه تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً} وصرَّحَ في سورةِ (الحِجْرِ) بأن ذاتَ البروجِ المنصوصَ على أن القمرَ فيها هي بعينِها المحفوظةُ من كلِّ شيطانٍ رجيمٍ بقولِه: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ}. انتهى.

والأفلاكُ جمْعُ فَلَكٍ، وهو الشيءُ المستديرُ؛ فإن لفظَ الفَلكِ يَدلُّ على الاستدارةِ, ومنه قولُهم: تفَلَّكَ ثَدْيُ الجاريةِ إذا استدَارَ. والأفلاكُ مستديرةٌ بالكتابِ والسنَّةِ والإجماعِ. ومنه قولُه تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} قالَ ابنُ عبَّاسٍ: في فَلْكَةٍ كَفَلْكَةِ المِغْزَلِ. وأهلُ الهيئَةِ والحسابِ متَّفقون على ذلك، وأما العرشُ فإنه مقَبَّبٌ لما رُوِيَ في السنَنِ لأبي داودَ, عن جُبيرِ بنِ مُطْعِمٍ – رَضِيَ اللهُ عنه – قالَ: جاءَ أعرابيٌّ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: يا رسولَ اللهِ نُهِكَتِ الْأَنْفُسُ وَجَاعَ الْعِيَالُ وَهَلَكَتِ الأموالُ فاسْتَسْقِ لنا ربَّكَ, فإنا نَسْتَشْفِعُ باللهِ عليك وبك على اللهِ، فقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (سُبْحَانَ اللهِ، سُبْحَانَ اللهِ) فما زالَ يُسَبِّحُ حتى عُرِفَ ذلك في وجوهِ أصحابِه، ثم قالَ: (وَيْحَكَ أَتَدْرِي مَا اللهُ؟ إِنَّ شَأْنَ اللهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ إِنَّهُ لاَ يُسْتَشْفَعُ بِاللهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ, شَأْنُ اللهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكِ. ويحك أَتَدْرِي مَا اللهُ؟ إِنَّ عَرْشَهَ عَلَى سَمَوَاتِهِ لَهَكَذَا وَقَالَ بأَصَابعِه مثلَ القُبَّةِ عليه، وَإِنَّهُ لَيَئِطُّ بِهِ أَطِيطَ الرَّحْلِ بِالرَّاكبِ) وأمثالُه من النصوصِ الدالَّةِ على ذلك، والشاهدُ من آيَتَي (الحجِّ) و (الفُرقانِ) وُرودُ السماءِ مراداً بها مُطلَقُ العُلوِّ.

قولُه:
ولمَّا كان قد استَقرَّ في نفوسِ المخاطَبين أن اللهَ هو العليُّ الأعلى، وأنه فوقَ كلِّ شيءٍ كان المفهومُ من قولِه: إنه في السماءِ: أنه في العُلوِّ، وأنه فوقَ كلِّ شيءٍ. وكذلك الجاريةُ لما قالَ لها: أينَ اللهُ؟ قالت: في السماءِ، إنما أرادت العُلوَّ، مع عدَمِ تخصيصِه بالأجسامِ المخلوقةِ وحلولِه فيها، وإذا قيلَ: العُلوُّ فإنه يَتناولُ ما فوقَ المخلوقاتِ كلِّها، فما فوقَها كلِّها هو في السماءِ، ولا يَقتضي هذا أن يكونَ هناك ظرْفٌ وجوديٌّ يُحيطُ به؛ إذ ليس فوقَ العالَمِ شيءٌ موجودٌ إلا اللهُ. كما لو قيلَ: العرشُ في السماءِ، فإنه لا يَقتضي أن يكونَ العرشُ في شيءٍ آخَرَ موجودٍ مخلوقٍ، وإن قُدِّرَ أن السماءَ المرادَ بها الأفلاكُ، كان المرادُ أنه عليها، كما قالَ: {وَلاَصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} وكما قالَ: {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} وكما قال: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} ويُقالُ: فلانٌ في الجَبَلِ، وفي السطْحِ وإن كان على أعلى شيءٍ فيه.

الشرْحُ:
لما بيَّنَ المؤلِّفُ أن الآيةَ الكريمةَ لا تَقتضي ظرفيَّةَ السماءِ للخالِقِ سبحانَه، وأن حرْفَ (في) يَختلِفُ معناه بحسبِ ما أُضيفَ إليه ذكَرَ بعدَ ذلك أن ذَوِي العقولِ السليمةِ والفِطَرِ المستقيمةِ يَفهمون بِمُقْتضَى فطرتِهم، أن معنى كونِ اللهِ سبحانَه في السماءِ أنه عالٍ على مخلوقاتِه. وهكذا قصْدُ الجاريةِ من قولِها: (في السماءِ) إنما أرادت عُلوَّه سبحانَه فوقَ جميعِ المخلوقاتِ، ولم تَتوهَّمْ أبدًا أو تَظُنَّ أن السماءَ تَحْصُرُه وتُحيطُ به؛ وهكذا سائرُ سَلَفِ الأمَّةِ وأئمَّتِها، لم يَتوهَّموا هذا المعنى الباطلَ بل لا يَظنُّ هذا أو يَتوهَّمُه إلا من انتَكَسَتْ فِطرتُه وعَمِيَتْ بصيرتُه. وإذا أُطلِقَ العُلوُّ فالمرادُ به العُلوُّ على جميعِ المخلوقاتِ، وليس معنى ذلك أن هناك ظرفاً موجوداً فوقَ العرْشِ يكونُ اللهُ داخلاً فيه، بل ليس فوقَ العرْشِ إلا اللهُ سبحانَه. فليس معنى كونِه في السماءِ أنه داخلٌ في شيءٍ يُحيطُ به فضلاً عن أن يَحتاجَ له. وضرَبَ المؤلِّفُ لذلك مَثلاً بأن العرشَ يُوصَفُ بأنه في السماءِ دونَ أن يَقتضيَ ذلك أن يكونَ داخلاً في ظرفٍ وجوديٍّ يُحيطُ به؛ إذ قد عُلمَ أنه سقْفُ جميعِ المخلوقاتِ. ثم ذكَرَ أن السماءَ إذا فُسِّرَتْ بالأجرامِ السماويَّةِ فالمرادُ بكَوْنِ اللهِ فيها أنه عليها، وهو أسلوبٌ معروفٌ في اللغةِ، وقد وَرَدَ به القرآنُ الكريمُ، كما في الآياتِ التي استَشهَدَ بها المؤلِّفُ. وقد حَكَى البيهقيُّ عن أبي بكرٍ الصِّبْغِيِّ قالَ: العربُ تَضَعُ (في) موضِعَ (على) كقولِه: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} وقولُه: {وَلاَصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} فكذلك قولُه: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} أي على العرشِ فوقَ السماءِ كما صَحَّت الأخبارُ بذلك. وقالَ مِثلَ ذلك غيرُ واحدٍ. وقولُه للجاريةِ: (أَيْنَ اللهُ؟) هذا حديثٌ صحيحٌ رُوِيَ من طُرُقٍ مُتَواتِرةٍ عن معاويةَ بنِ الحكمِ السُّلَمِيِّ قالَ: (كانت لي غَنمٌ بينَ أُحُدٍ والجونيَّةِ فيها جاريةٌ لي فأَطلقْتُها ذاتَ يومٍ, فإذا الذئبُ قد ذَهبَ بشاةٍ منها فأَسِفْتُ فصَكَكْتُها، فأَتَيْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذَكرْتُ ذلك له, فعَظَّمَ ذلك عليَّ فقلتُ: يا رسولَ اللهِ أفلا أُعْتِقُها؟ قالَ: ادْعُهَا. فدعَوْتُها، فقالَ لها: أَيْنَ اللهُ؟ قالت: في السماءِ. قالَ: مَن أنَا؟ قالتْ: أنتَ رسولُ اللهِ. قالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ) أَخرجَه مسلِمٌ في صحيحِه ورواه أبو داودَ والنَّسائيُّ.


  #4  
قديم 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م, 02:43 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التوضيحات الأثرية للشيخ: فخر الدين بن الزبير المحسِّي


القاعدةُ الرابعةُ

المحاذِيرُ التي يَقَعُ فيها مَن يَتَوَهَّمُ التمثيلَ ثم يَنْفِي الصِّفَاتِ
قولُه: ( وهذا يَتَبَيَّنُ بالقاعدةِ الرابعةِ: وهي: أنَّ كثيرًا من الناسِ يَتَوَهَّمُ في بعضِ الصِّفَاتِ - أو كثيرًا منها أو أَكْثَرَها أو كُلَّها - أنها تُمَاثِلُ صِفاتِ المخلوقينَ، ثم يُريدُ أن يَنْفِيَ ذلك الذي فَهِمَه، فيَقَعُ في أربعةِ أنواعٍ من المحاذِيرِ .

أحَدُها: كونُه مَثَّلَ ما فَهِمَه من النصوصِ بصفاتِ المخلوقينَ، وظَنَّ أنَّ مدلولَ النصوصِ هي التمثيلُ .

الثاني: أنه إذا جَعَلَ ذلك هو مفهومَها وعَطَّلَه: بَقِيَت النصوصُ مُعَطَّلَةً عَمَّا دَلَّتْ عليه من إثباتِ الصِّفَاتِ اللائقةِ باللهِ، فيَبْقَي مع جِنايتِه على النصوصِ وظَنِّه السيِّئِ الذي ظَنَّه باللهِ ورسولِه، حيث ظَنَّ أنَّ الذي يُفْهَمُ من كلامِهما هو التمثيلُ الباطِلُ، قد عَطَّلَ ما أَوْدَعَ اللهُ ورسولُه في كلامِهما من إثباتِ الصِّفَاتِ للهِ، والمعاني الإِلَهِيَّةِ اللائقةِ بِجَلالِ اللهِ تعالى .

الثالثُ: أنه يَنْفِي تلك الصِّفَاتِ عن اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بغيرِ عِلْمٍ، فيكونُ مُعَطِّلاَ لِمَا يَسْتَحِقُّه الربُّ .

الرابعُ: أنه يَصِفُ الربَّ بنقيضِ تلك الصِّفَاتِ من صِفاتِ الأمواتِ والْجَماداتِ, أو صِفاتِ المعدوماتِ، فيكونُ قد عَطَّلَ به صِفاتِ الكَمالِ التي يَستَحِقُّها الربُّ، ومَثَّلَه بالمنقوصاتِ والمعدوماتِ، وعَطَّلَ النصوصَ عَمَّا دَلَّتْ عليه من الصِّفَاتِ، وجَعَلَ مدلولَها هو التمثيلَ بالمخلوقاتِ، فيَجْمَعُ في اللهِ وفي كلامِ اللهِ بينَ التعطيلِ والتمثيلِ، فيكونُ مُلْحِدًا في أسماءِ اللهِ وآياتِه ) .

التوضيحُ
خُلاصَةُ هذه الفِقْرَةِ: بعدَ أن تَكَلَّمَ شيخُ الإسلامِ عن الظاهِرِ نَاسَبَ أن يَتَكَلَّمَ عَمَّا يَتَرَتَّبُ على القولِ بأنَّ الظاهِرَ التمثيلُ، فإنَّ أصْلَ شُبْهَةِ المُعَطِّلَةِ أنَّ الإثباتَ يَسْتَلْزِمُ التشبيهَ ثم يَنْفُونَ الصِّفَاتِ بِناءً على هذا الوَهْمِ، فيَقَعُونَ في أربعةِ مَحاذِيرَ:-
أَوَّلاً: الْمَحاذيرُ الْمُتعلِّقَةُ بالنُّصوصِ:
مَثَّلَ ما فَهِمَه من النصوصِ بصِفاتِ المخلوقينَ فجَعَلَ ظاهِرَ النصوصِ هو التمثيلَ.
عَطَّلَ النصوصَ عَمَّا دَلَّتْ عليه من إثباتِ الصِّفَاتِ اللائقةِ باللهِ تعالى.

ثانيًا: الْمَحاذيرُ الْمُتَعَلِّقَةُ باللهِ تعالى:
نَفَى صفاتِ اللهِ تعالى بغيرِ عِلْمٍ فيكونُ مُعَطِّلاً لِمَا يَسْتَحِقُّه اللهُ تعالى .
وَصَفَ اللهَ تعالى بنقيضِ تلك الصِّفَاتِ من صفاتِ الأمواتِ والْجَماداتِ أو المعدوماتِ .
فيكونُ قد جَمَعَ بينَ تَمْثِيليْنِ وتَعْطِيلَيْنِ:
فالتمثيلان: حيث اعْتَقَدَ تشبيهَه بالمخلوقاتِ أَوَّلاً، ثم فَرَّ منه فشَبَّهَهُ بالْجَماداتِ أو الْمَعدوماتِ .
والتعطيلان: حيث عَطَّلَ الآياتِ الدالَّةَ على الصِّفَةِ والنافِيَةَ للمُمَاثَلَةِ، ثم عَطَّلَ اللهَ عن صِفاتِه .
فجَمَعَ بينَ الإلحادِ في أسماءِ اللهِ، بتعطيلِه عن الكَمالِ وتَشْبيهِهِ بالمنقوصاتِ.
والإلحادِ في آياتِه، بِجَعْلِها دالَّةً على التمثيلِ ثم تَعْطِيلِها عَمَّا دَلَّتْ عليه من الصِّفَاتِ .

توضيحُ المحاذيرِ الأربعةِ بِمِثَالَيْنِ
(الاستواءُ والْعُلُوُّ)

قولُه: ( مِثالُ ذلك: أنَّ النصوصَ كلَّها دَلَّتْ على وَصْفِ الإلهِ بالعُلُوِّ والفوقيَّةِ على المخلوقاتِ، واستوائِه على العَرْشِ، فأمَّا عُلُوُّه ومُبَايَنَتُه للمخلوقاتِ: فيُعْلَمُ بالعَقْلِ الموافِقِ للسمْعِ، وأمَّا الاستواءُ على العَرْشِ، فطَريقُ العلْمِ به هو السمْعُ، وليس في الكتابِ والسُّنَّةِ وَصْفٌ له بأنه لا دَاخِلَ العالَمِ ولا خارِجَه، ولا مُبايِنَهُ ولا مُدَاخِلَه ) .

التوضيحُ

الفرْقُ بينَ العُلُوِّ والاستواءِ:
العُلُوُّ صِفَةٌ ذاتيَّةٌ مُلازِمَةٌ للهِ تعالى، والاستواءُ صِفَةٌ فِعْلِيَّةٌ اختياريَّةٌ فَعَلَها بعدَ أن لم يَكُنْ فاعِلاً لها.
العُلُوُّ ثابِتٌ بالنقْلِ والعَقْلِ والفِطْرَةِ، والاستواءُ ثابتٌ بالنقْلِ فقط.
العُلُوُّ على جميعِ المخلوقاتِ, والاستواءُ لا يُضافُ إلا إلى العَرْشِ.
وهاتان الصِّفَتان هما الفَيْصَلُ بينَ أهْلِ السُّنَّةِ وأَهْلِ البِدْعَةِ، فقد نفاهما جميعُ الفِرَقِ الكلاميَّةِ من الفَلاسِفَةِ والبَاطِنِيَّةِ، والمُعْتَزِلةِ والجَهْمِيَّةِ، والأَشَاعِرَةِ والْمَاتُرِيدَيَّةِ، وآمَنَ بها أهْلُ السُّنَّةِ النبويَّةِ .
ووَصْفُ المُبْتَدِعَةِ له بأنه لا دَاخِلَ العالَمِ ولا خَارِجَهُ ولا مُبَايِنَه ولا مدَاخِلَه ليس له أَصْلٌ نَقْلِيٌّ ولا عَقْلِيٌّ .
قولُه: ( فأَمَّا عُلُوُّه ومُبَايِنُه ) هذه جُملةٌ اعتراضيَّةٌ لبيانِ الفَرْقِ بينَ العُلُوِّ والاستواءِ ومن أَجْلِها ذَكَرْتُ هذا الْمَبْحَثَ .

الْمِثالُ الأوَّلُ: ( الاستواءُ )
قولُه: ( فيَظُنُّ الْمُتَوَهِّمُ أنه إذا وُصِفَ بالاستواءِ على العَرْشِ كان استواؤُه كاستواءِ الإنسانِ على ظُهورِ الفُلْكِ والأنعامِ، كقولِه: { وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ } فيَتَخَيَّلُ له أنه إذا كان مُسْتَوِيًا على العَرْشِ كان مُحتاجًا إليه كحاجَةِ الْمُسْتَوِي على الفُلْكِ والأنعامِ . فلو غَرِقَت السفينةُ لسَقَطَ الْمُسْتَوِي عليها، ولو عَثُرَت الدابَّةُ لَخَرَّ الْمُسْتَوِي عليها، فقِياسُ هذا: أنه لو عُدِمَ العَرْشُ لسَقَطَ الربُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . ثم يُريدُ – بزَعْمِه - أن يَنْفِيَ هذا، فيقولَ: ليس استواؤُه بقُعُودٍ ولا استقرارٍ )



التوضيحُ

بَدَأَ شيخُ الإسلامِ بذِكْرِ شُبْهَةِ نُفَاةِ الاستواءِ، ونُبَيِّنُها في ثلاثِ نِقاطٍ كما يَلِي:
إذا وُصِفَ اللهُ بالاستواءِ كان كاستواءِ الإنسانِ على ظُهورِ الفُلْكِ والأنعامِ, كما في قولِه تعالى: { وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ } .
ويَلْزَمُ منه الاحتياجُ إلى العَرْشِ كاحتياجِ الْمُسْتَوِي على الفُلْكِ والأنعامِ، فلو انْحَرَفَت السفينةُ وعَثُرَت الدابَّةُ سَقَطَ الْمُسْتَوِي عليها .
فبِناءً عليه يَنْفِي ذلك فيقولُ ليس استواؤُه بقُعودٍ ولا استقرارٍ؛ لِئَلَّا يَلْزَمَ منه الاحتياجُ .

الجوابُ من طَرِيقينِ
الطريقُ الأوَّلُ: على فَرْضِ التسليمِ:
قولُه: ( ولا يُعْلَمُ أنَّ مُسَمَّى القُعودِ والاستقرارِ يُقالُ فيه ما يُقالُ في مُسَمَّى الاستواءِ، فإنْ كانت الحاجَةُ داخِلَةً في ذلك فلا فَرْقَ بينَ الاستواءِ والقُعودِ والاستقرارِ، وليس هو بهذا مُسْتَوِيًا ولا مُسْتَقِرًّا ولا قاعدًا، وإن لم يَدْخُلْ في مُسَمَّى ذلك إلا ما يَدْخُلُ في مُسَمَّى الاستواءِ، فإثباتُ أحدِهما ونَفْيُ الآخَرِ تَحَكُّمٌ، وقد عُلِمَ أنَّ بينَ مُسَمَّى الاستواءِ والاستقرارِ والقعودِ فُروقًا معروفةً، ولكنَّ المقصودَ هنا: أن يُعْلَمَ خطأُ مَن يَنْفِي الشيءَ مع إثباتِ نَظِيرِه ) .

التوضيحُ

هذا الطريقُ الأوَّلُ: مُرَكَّبٌ من فِقْرَتَيْنِ:-
إن كان يُفْهَمُ من الاستقرارِ والقُعودِ الحاجةُ فإنه لا فَرْقَ في هذا بينَ الاستواءِ والقُعودِ والاستقرارِ؛ لأنَّ مُسَمَّى الاستواءِ يُقالُ فيه ما يُقالُ في مُسَمَّى القُعودِ والاستقرارِ، وليس هو بهذا الْمَعنى مُسْتَوِيًا ولا مُسْتَقِرًّا ولا قاعدًا.
وإن لم يَدْخُلْ في مُسَمَّى القُعودِ والاستقرارِ إلا ما يَدْخُلُ في مُسَمَّى الاستواءِ ( وهو الحاجَةُ والافتقارُ عندَهم) فإثباتُ أحدِهما ونَفْيُ الآخَرِ تَحَكُّمٌ، فيَجِبُ نَفْيُ الجميعِ أو إثباتُ الجميعِ، ثم أَشارَ شيخُ الإسلامِ إلى أنَّ بينَ الاستواءِ والاستقرارِ والقُعودِ فُروقًا مع أنها مُتقارِبَةٌ ويُفَسِّرُ بعضُها بعضًا، ومن هذه الفُروقِ أنَّ الاستواءَ أَعَمُّ، والاستقرارَ يَتَضَمَّنُ الاستواءَ وزيادةَ معنًى, وهو التَّمَكُّنُ والثُّبوتُ، والقُعودَ يَتَضَمَّنُ الاستواءَ وزيادةَ معنًى, وهو كونُه قاعِدًا, وليس قائمًا مَثَلاً.

الطريقُ الثاني: على فَرْضِ الْمَنْعِ
قولُه: ( وكان هذا الْخَطَأُ من خَطَئِهِ في مفهومِ استوائِه على الْعَرْشِ، حيث ظَنَّ أنه مِثْلَ استواءِ الإنسانِ على ظُهورِ الأنعامِ والفُلْكِ ) .



التوضيحُ

هنا طريقٌ مَنَعَ أَصْلَ شُبْهَتِهِم, وهي ظَنُّهُم أنَّ مفهومَ استواءِ اللهِ على العَرْشِ مثلَ استواءِ الإنسانِ على ظُهورِ الأنعامِ والفُلْكِ، وهذا الظَّنُّ باطِلٌ لوجوهٍ عديدةٍ، ذَكَرَ بعضَها وقَسَّمَها إلى خمسةِ وُجوهٍ كما يَلِي:

- الوجهُ الأوَّلُ -
قولُه: ( وليس في هذا اللفظِ ما يَدُلُّ على ذلك؛ لأنه أضافَ الاستواءَ إلى نفسِه الكريمةِ كما أضافَ إليه سائرَ أفعالِه وصِفاتِه، فذَكَرَ أنه: خَلَقَ ثم اسْتَوَى، كما ذَكَرَ أنه: { قَدَّرَ فَهَدَى } وأنه بَنَى السماءَ بِأَيْدٍ، وكما ذَكَرَ أنه مع مُوسَى وهارونَ يَسْمَعُ ويَرَى، وأمثالُ ذلك، فلم يَذْكُر استواءً مُطْلَقًا يَصْلُحُ للمخلوقِ, ولا عامًّا يَتناوَلُ المخلوقَ . كما لم يَذْكُرْ مِثْلَ ذلك في سائرِ صِفاتِه، وإنما ذَكَرَ استواءً أَضَافَهُ إلى نفسِه الكريمةِ ).

التوضيحُ

ليس في لفظِ الاستواءِ ما يَدُلُّ على المُمَاثَلَةِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى أَضافَ الاستواءَ إلى نفسِه كما أضافَ سائرَ أفعالِه وصِفاتِه إليه فقالَ تعالى {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } فكما أنه ذَكَرَ خَلْقًا خاصًّا به, فكذلك ذَكَرَ استواءً خاصًّا به، وهكذا ذَكَرَ أنه قَدَّرَ فَهَدَى،كما قالَ: { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} وأنه مع موسى يَسْمَعُ ويَرَى, كما قالَ تعالى: { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } وأنه بَنَى السماءَ بِأَيْدٍ, كما قالَ تعالى: { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} أي: بقوَّةٍ، فالأَيْدُ في هذه الآيةِ ليس جَمْعًا لليَدِ بل هي مَصْدَرُ آدَ أَيْدًا ( بمعنى قُوَّةٍ ) كقولِه تعالى:{ دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ} على وَزْنِ ( فَعْل)، بينَما الْأَيْدِي فَعَلى وَزْنِ ( أَفْعِل ) .

- الوجهُ الثاني -
قولُه: ( فلو قُدِّرَ – على وَجْهِ الفَرْضِ المُمْتَنِعِ – أنه هو مِثلَ خَلْقِه – تعالى اللهُ عن ذلك - لكان استواؤُه مِثلَ استواءِ خَلْقِه، أمَّا إذا كان هو ليس مُمَاثِلاً لخَلْقِه ) .

التوضيحُ

2- أنَّ اللهَ تعالى ليس مِثْلَ خَلْقِه، ولو قُدِّرَ على الفَرْضِ المُمْتَنِعِ أنه مِثْلُ خَلْقِه لكان استواؤُه مثلَ استوائِهم، ولكنه تعالى لا يُماثِلُ خَلْقَه, فكذلك استواؤُه لا يُمَاثِلُ استواءَهم، وفي هذا الوجهِ تطبيقٌ للقاعدةِ السلَفِيَّةِ السابقةِ، وهي أنَّ القولَ في الصِّفَاتِ كالقولِ في الذاتِ، وفي قولِه: ( أمَّا إذا كان هو ليس مُمَاثِلاً لِخَلْقِه) الظاهِرُ أنَّ في العِبارةِ نَقْصًا, وتقديرُه: " فلا " أي فليس استواؤُه مثلَ استوائِهم . واللهُ أَعْلَمُ .



- الوجهُ الثالثُ -
قولُه: ( بل قد عُلِمَ أنه الْغَنِيُّ عن الْخَلْقِ، وأنه الخالِقُ للعَرْشِ ولغيرِه، وأنَّ كلَّ ما سِوَاه مُفْتَقِرٌ إليه، وهو الغنيُّ عن كلِّ ما سِوَاهُ ) .

التوضيحُ

أنه قد عُلِمَ بالشرْعِ والعَقْلِ والفِطرةِ أنَّ اللهَ تعالى هو الغنيُّ عن جميعِ خَلْقِه، وجميعَ خَلْقِه مُفْتَقِرُون إليه, كما قالَ تعالى: {فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}، وقالَ: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} .
فكيف يُقالُ بعدَ ذلك:إنه إن اسْتَوَى على الْعَرْشِ كان مُفْتَقِرًا إليه.

- الوجهُ الرابعُ -
قولُه: ( وهو لم يَذْكُرْ إلا استواءً يَخُصُّه، لم يَذْكُر استواءً يَتَنَاوَلُ غيرَه، ولا يَصْلُحُ له، كما لم يَذْكُرْ في عِلْمِه وقُدْرَتِه ورؤيتِه وسَمْعِه وخَلْقِه إلا ما يَخْتَصُّ به، فكيف يَجُوزُ أن يُتَوَهَّمَ أنه إذا كان مُسْتَوِيًا على العَرْشِ كان مُحتاجًا إليه، وأنه لو سَقَطَ العَرْشُ لَخَرَّ مِن عليه, سبحانَه وتعالى عَمَّا يقولُ الظالمون عُلُوًّا كبيرًا، هل هذا إلا جَهْلٌ مَحْضٌ وضَلالٌ مِمَّنْ فَهِمَ ذلك وَتَوَهَّمَهُ، أو ظَنَّهُ ظاهِرَ اللفظِ ومدلولَه، أو جَوَّزَ ذلك على رَبِّ العالمينَ الغنيِّ عن الْخَلْقِ؟! بل لو قُدِّرَ أنَّ جاهلاً فَهِمَ هذا وتَوَهَّمَه لَبُيِّنَ له أنَّ هذا لا يَجُوزُ، وأنه لم يَدُلَّ اللفظُ عليه أَصْلاً، كما لم يَدُلَّ على نظائرِه في سائرِ ما وَصَفَ به الربُّ نفسَه .
فلمَّا قالَ تعالى: { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} فهل يُتَوَهَّمُ أنَّ بِناءَه مِثلُ بِناءِ الآدَمِيِّ الْمُخْتَلِجِ الذي يَحْتَاجُ إلى زُبُلٍ ومَجارِفَ وضَرْبِ لَبِنٍ وأعوانٍ )

التوضيحُ

هذا الوجهُ شبيهٌ بالوجهِ الأوَّلِ, وخُلاصتُه أنَّ اللهَ تعالى لم يَذْكُر استواءً عامًّا وإنما ذَكَرَ استواءً يَخُصُّه، كما أنه في بَقِيَّةِ الصِّفَاتِ ذَكَرَ صفاتٍ تَخُصُّه كالعلْمِ والقُدْرَةِ والرؤيةِ والسمْعِ والخلْقِ، فكما أنَّ هذه الصِّفَاتِ لا يُتَوَهَّمُ فيها النقْصُ, فالواجِبُ كذلك أن لا يُتَوَهَّمَ النقْصُ في استوائِه تعالى، وما هذا التوَهُّمُ, وهو احتياجُه إلى العَرْشِ, إلا جَهْلٌ عظيمٌ لا يَجُوزُ في حقِّ ربِّ العالَمِينَ، فكما أننا لم نَقُلْ إنه في بنائِه للسماواتِ لم يَحْتَجْ إلى ما يَحتاجُ إليه الآدَمِيُّ من زِنْبِيلٍ -أي: وِعاءٍ- وأدواتٍ كالْمَجارِفِ أو مَوادَّ كاللَّبِنِ والأعوادِ، فكذلك في استوائِه لم يَحْتَجْ إلى عرشِه، وهذا تطبيقٌ للأصْلِ الأوَّلِ, وهو القولُ في بعضِ الصِّفَاتِ كالقولِ في بعضٍ .

- الوجْهُ الخامِسُ -
قولُه: ( ثم قد عُلِمَ أنَّ اللهَ خَلَقَ العالَمَ بَعْضَه فوقَ بعضٍ، ولم يَجْعَلْ عالِيَه مُفْتَقِرًا إلى سافِلِه، فالهواءُ فوقَ الأرضِ، وليس مُفْتَقِرًا إلى حَمْلِ الأرضِ له، والسَّحَابُ فوقَ الأرضِ، وليس مُفْتَقِرًا إلى أن تَحْمِلَه، والسماواتُ فوقَ الأرضِ، وليست مُفْتَقِرَةً إلى حَمْلِ الأرضِ لها، فالعَلِيُّ الأَعْلَى ربُّ كلِّ شيءٍ ومَلِيكُه، إذا كان فوقَ جميعِ خَلْقِه، كيف يَجِبُ أن يكونَ مُحتاجًا إلى خَلْقِه أو عَرْشِه؟ أو كيف يَسْتَلْزِمُ عُلُوُّه على خَلْقِه هذا الافتقارَ، وهو ليس بِمُستَلْزَمٍ في المخلوقاتِ؟
وقد عُلِمَ أنَّ ما ثَبَتَ لمخلوقٍ من الغِنَى عن غيرِه, فالخالِقُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَحَقُّ به وَأَوْلَى)

التوضيحُ

أنه قد عُلِمَ أنَّ اللهَ خَلَقَ بعضَ المخلوقاتِ فوقَ بعضٍ, فالسماءُ فوقَ الأرضِ، وهكذا الهواءُ والسَّحابُ فإنها فوقَ الأرْضِ, ومع ذلك فليست هذه المخلوقاتُ مُفْتَقِرَةً إلى الأرضِ أن تَحْمِلَها، فإذا كان ذلك جائزًا بينَ المخلوقاتِ فكيف يكونُ اللهُ تعالى مُحتاجًا إلى خَلْقِه أو عَرْشِه، وكيف يَسْتَلْزِمُ استواؤُه الافتقارَ مع أنه ليس بِمُستلزَمٍ في المخلوقاتِ، و كما سَبَقَ في قِياسِ الأَوْلى يُقالُ إذا ثَبَتَ غِنَى بعضِ المخلوقاتِ عن بعضٍ، فالخالِقُ أَحَقُّ بهذا الْغِنَى وَأَوْلَى به لكونِه خالقًا لها.
تطبيقُ المحاذِيرِ الأربعةِ على الْمِثالِ الأوَّلِ " الاستواءُ ":-
اعْتَقَدُوا دَلاَلَةَ نصوصِ الاستواءِ على التمثيلِ .
عَطَّلُوا النصوصَ عن دَلالتِها على صِفَةِ الاستواءِ .
عَطَّلُوا اللهَ تعالى عن هذه الصِّفَةِ .
أَثْبَتوا له النقْصَ بسَلْبِهم كَمَالَه الذي اتَّصَفَ به, وهو الاستواءُ على العَرْشِ-أي: العُلُوُّ والارتفاعُ- وهو من الكَمالِ .

الْمِثالُ الثاني: (( الْعُلُوُّ ))
قولُه: ( وكذلك قولُه: { أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ}. مَن تَوَهَّمَ أنَّ مُقْتَضَى هذه الآيةِ: أن يكونَ اللهُ في داخِلِ السماواتِ فهو جاهِلٌ ضالٌّ بالاتِّفاقِ ) .

التوضيحُ

شُبْهَةُ نُفَاةِ العُلُوِّ:
في قولِه تعالى: { أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ } تَوَهَّمُوا أنَّ الآيةَ تَدُلُّ على أنَّ اللهَ تعالى دَاخِلَ السماواتِ، وهذا القولُ باطِلٌ، ولا يَصْدُرُ إلا من جاهِلٍ ضَالٍّ بالاتِّفاقِ، ويَتَبَيَّنُ بُطلانُه من خِلالِ الأوجُهِ الثلاثةِ التاليةِ.

- الوجهُ الأوَّلُ -
قولُه: ( وإن كنا إذا قلنا: إنَّ الشمسَ والقمرَ في السماءِ يَقْتَضي ذلك، فإنَّ حرفَ " في " متعلِّقٌ بما قَبْلَه وبما بَعْدَه، فهو بِحَسَبِ المضافِ إليه، ولهذا يُفَرَّقُ بينَ كونِ الشيءِ في المكانِ، وكونِ الجسمِ في الْحَيِّزِ، وكونِ العَرَضِ في الْجِسْمِ، وكونِ الوجهِ في الْمِرْآةِ، وكونِ الكلامِ في الورَقِ، فإنَّ لكلِّ نوعٍ من هذه الأنواعِ خاصِّيَّةً يَتَمَيَّزُ بها عن غيرِه، وإن كان حرفُ " في " مُسْتَعْمَلاً في كلِّ ذلك، فلو قالَ قائلٌ: العَرْشُ في السماءِ أمْ في الأرضِ؟ لقِيلَ له: في السماءِ، ولو قِيلَ: الجَنَّةُ في السماءِ أمْ في الأرضِ؟ لقِيلَ: الجَنَّةُ في السماءِ، ولا يَلْزَمُ من ذلك أن يكونَ العرْشُ داخِلَ السماواتِ، بل ولا الجَنَّةُ، فقد ثَبَتَ في الصحيحِ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قالَ: " إِذَا سَأَلْتُمُ اللهَ الجَنَّةَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ، وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَسَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ " فهذه الجَنَّةُ سَقْفُها الذي هو العرْشُ فوقَ الأفلاكِ، مع أنَّ الجَنَّةَ في السماءِ )

التوضيحُ

هذا الوجهُ يَتَعَلَّقُ بالكلامِ حولَ الحرْفِ " في " فإنه يَدُلُّ على المعنى بِحَسَبِ ما قَبْلَه وما بعدَه, أي: سياقِ الكلامِ، فإذا قِيلَ: إنَّ الشمسَ والقمرَ في السماءِ قد يُفْهَمُ منه أنهما داخِلَ السماءِ، ولكن هذا ليس مُطَّرِدًا, بل المعنى مُتَعَلِّقٌ بما يُضافُ إليه، وذَكَرَ هنا خمسةَ تراكيبَ اخْتَلَفَتْ فيها معاني " في", توضيحُها كما يَلِي:
إذا قِيلَ: الشيءُ في المكانِ: فيَدُلُّ على أنه موجودٌ فيه، ولا يَقْتَضِي استيعابَ الشيءِ للمكانِ كلِّه.
وإذا قِيلَ: الجسمُ في الْحَيِّزِ: والْحَيِّزُ هو الفراغُ الذي يَمْلأَُه الجسمُ، فهذا يَقْتَضِي استيعابَ الجسْمِ للحَيِّزِ كُلِّه.
وإذا قِيلَ: الكلامُ في الوَرَقِ، فالمعنى وجودُه الْخَطِّيُّ والرَّسْمِيُّ, لا عينُ الكلامِ.
وإذا قِيلَ: الوجهُ في الْمِرْآةِ، فالمقصودُ صورتُه, وليست ذاتَه.
وإذا قِيلَ: العَرَضُ في الْجِسْمِ، فالمعنى أنه قائمٌ به كالألوانِ وغيرِها من الصِّفَاتِ, فإنها لا تَقُومُ بنفسِها، وهكذا إذا قِيلَ: العَرْشُ في السماءِ والجَنَّةُ في السماءِ لم يَلْزَمُ أنهما داخلان في السماءِ، إلا أنَّ الجَنَّةَ قد وَرَدَ فيها النصُّ, كما في قولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِذَا سَأَلْتُمُ اللهَ الْجَنَّةَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهَا أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَسَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ ) فهي في السماءِ, وسَقْفُهَا الذي هو العَرْشُ فوقَ الأفلاكِ, أي: فوقَ السماواتِ، فالْخُلاصَةُ أنَّ لفْظَ " في " يَتَغَيَّرُ معناه بتَغَيُّرِ السياقِ.

- الوجهُ الثاني -
قولُه: ( والسماءُ يُرادُ به العُلُوُّ، سواءٌ كان فوقَ الأفلاكِ أو تَحْتَها، قالَ تعالى { فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ } وقالَ تعالى { وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا }.

ولَمَّا كان قد اسْتَقَرَّ في نفوسِ المخاطَبِينَ: أنَّ اللهَ هو العلِيُّ الأعلى، وأنه فوقَ كلِّ شيءٍ كان المفهومُ من قولِه " إنه في السماءِ " أنه في العُلُوِّ، وأنه فوقَ كلِّ شيءٍ، وكذلك الجارِيةُ لَمَّا قالَ لها النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيْنَ اللهُ؟ قَالَتْ: في السماءِ " . إِنَّمَا أَرَادَت العُلُوَّ، مع عَدَمِ تخصيصِه بالأجسامِ المخلوقةِ وحُلولِه فيها، وإذا قِيلَ: " الْعُلُوُّ " فإنه يَتَنَاوَلُ ما فوقَ المخلوقاتِ كلِّها، فما فوقَها كلِّها: هو في السماءِ، ولا يَقتَضِي هذا أن يكونَ هناك ظَرْفٌ وُجوديٌّ يُحيطُ به، إذ ليس فوقَ العالَمِ شيءٌ موجودٌ إلا اللهُ، كما لو قِيلَ: إنَّ العَرْشَ في السماءِ، فإنه لا يَقْتَضِي أن يكونَ العرْشُ في شيءٍ آخَرَ موجودٍ مخلوقٍ ) .

التوضيحُ

هذا الوجْهُ مُتَعَلِّقٌ بالكلامِ حولَ لَفْظِ ( السماءِ )؛ فإنَّ لَفْظَ السماءِ يُرَادُ به العُلُوُّ مُطْلَقًا, سواءٌ كان فوقَ الأفلاكِ أو تَحْتَها، وشواهدُه كثيرةٌ منها:
قولُه تعالى: { فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ } أي: سَقْفِ بَيْتِه على المشهورِ من أقوالِ المفسِّرينَ .
قولُه تعالى: { وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } أي: من الْعُلُوِّ .
قولُ الجارِيَةِ لَمَّا سَأَلَها رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيْنَ اللهُ؟ قالَتْ: في السماءِ؟" فإنها إنما أَرَادَت الْعُلُوَّ مع عَدَمِ تخصيصِه بالأجسامِ المخلوقةِ، فإنه قد اسْتَقَرَّ في الْفِطَرِ عُلُوُّ اللهِ تعالى, وأنه فوقَ كلِّ شيءٍ، لذا قِيلَ " في السماءِ " أي: في الْعُلُوِّ فوقَ كلِّ شيءٍ .
وهذا لا يَقْتَضِي أن يكونَ هناك ظَرْفٌ موجودٌ يُحيطُ به؛ لأنه ليس فوقَ العالَمِ شيءٌ موجودٌ إلا اللهُ تعالى، وهذا كما إذا قِيلَ: الْعَرْشُ في السماءِ لم يَقْتَضِ أن يكونَ داخلاً في مَخلوقٍ آخَرَ، وإلا لَزِمَ ألَّا يكونَ مخلوقٌ إلا داخلاً في مخلوقٍ, وهذا باطِلٌ .

- الوجهُ الثالثُ -
قولُه: ( وإن قُدِّرَ أنَّ السماءَ المرادُ بها الأفلاكُ كان الْمُرادُ: أنه عليها, كما قالَ: { وَلأَُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} وكما قالَ: { فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ } وكما قالَ: { فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ } ويُقالُ: فلانٌ في الْجَبَلِ، وفي السَّطْحِ، وإن كان على أَعْلَى شيءٍ فيه ) .

التوضيحُ

إذا قُدِّرَ أن السماءَ يُرادُ بها الأفلاكُ المعهودةُ كان المرادُ أنه عليها؛ لأنَّ " في " تَأْتِي بمعنى " على ", وهذا الوجهُ تابِعٌ للوجْهِ الأوَّلِ، فإنَّ شيخَ الإسلامِ بعدَ أن بَيَّنَ اختلافَ المفهومِ من لَفْظِ " في " بِحَسْبِ السياقِ، أَرادَ أن يُدَلِّلَ هنا أنها تَأْتي بمعنى " على " فيكونُ المقصودُ من الآيةِ على السماءِ، وشواهِدُ مَجيءِ " في " بمعنى " على" كثيرةٌ في القرآنِ وغيرِه, منها:
قولُه تعالى: { وَلأَُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } أي: على جُذوعِ النخْلِ, وليس المقصودُ داخلَها .
وقولُه تعالى: { قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ } أي: عليها .
وقولُه تعالى: { فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ } .
وفي اللغةِ يُقالُ: فُلانٌ في الْجَبَلِ وفي السطْحِ، وإن كان على أعلى شيءٍ فيه .

فالْخُلاصَةُ في هذه الآيةِ { فِي السَّمَاءِ}: أنَّ لها ثلاثةَ معانٍ, وهي:
أنَّ معناها " داخلَ السماءِ" وهذا قولُ الغالِطينَ من المُبْتَدِعَةِ.
معناها" في الْعُلُوِّ" فتكونُ السماءُ بمعنى الْعُلُوِّ مُطْلَقًا.
معناها " على السماءِ " فتكونُ" في " بمعنى " على " ,كما هو مشهورٌ في اللغةِ.
والْمَعْنَيانِ الأخيرانِ قالَ بهما أهْلُ السُّنَّةِ والجماعةِ.


خُلاصَةُ القاعدةِ الرابعةِ
مَن يَنْفِ الصِّفَاتِ بِحُجَّةِ التمثيلِ يَقَعْ في أربعةِ مَحاذيرَ:-
تمثيلُ ما فَهِمَه من صِفاتِ اللهِ بصفاتِ الْمَخْلُوقينَ .
تعطيلُ النصوصِ عَمَّا دَلَّتْ عليه من الصِّفَاتِ.
تعطيلُ اللهِ تعالى عن صفاتِ الكَمالِ.
تمثيلُ اللهِ بالمنقوصاتِ من الْجَماداتِ أو الأمواتِ أو الْمَعْدوماتِ . فيَقَعُ في تَمثيلينِ وتَعْطِيلينِ .

من الأمثِلَةِ المضروبةِ على القاعدةِ الاستواءُ والْعُلُوُّ:

أَوَّلاً: الاستواءُ: مَن يَنْفِهِ بِحُجَّةِ أنَّ إثباتَه يَسْتَلْزِمُ الافتقارَ يُرَدَّ عليه بما يَلِي:
أنَّ الاستواءَ مُضافٌ إلى اللهِ تعالى مُخْتَصٌّ به, فلا يَلْزَمُ مُمَاثَلَتُه لاستواءِ خَلْقِه.
أنَّ اللهَ تعالى ليس مِثْلَ خَلْقِه, فكذلك استواؤُه ليس مِثْلَ استوائِهم.
ثَبَتَ بالضرورةِ غِنَى رَبِّ الْعَالَمِينَ عن العَالَمِينَ فلا يَلْزَمُ من استوائِه افتقارُه إلى العَرْشِ.
جميعُ الصِّفَاتِ لا يُتَوَهَّمُ فيها النقْصُ, فكذلك الاستواءُ.
ثَبَتَ أنَّ بعضَ المخلوقاتِ بعضَها فوقَ بعضٍ، ومع ذلك فليس الأعلى مُفْتَقِرًا إلى الأدنى كالسماءِ والأرضِ، والخالِقُ الأعلى أَوْلَى بِعَدَمِ الافتقارِ.

ثانيًا: العُلُوُّ: مَن تَوَهَّمَ أنَّ معنى قولِه: { أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ } أي: داخلَ السماءِ، ثم نَفَى العُلُوَّ يُجابُ عنه بما يَلِي:
أنَّ ((في)) يَخْتَلِفُ معناها بِحَسَبِ السياقِ.
أنَّ السماءَ يُرادُ بها العُلُوُّ فيكونُ المعنى في الْعُلُوِّ.
أنَّ ((في)) تأتي بمعنى ((على)), فيكونُ المعنى على السماءِ.

الْمُنَاقَشَةُ
اذكُر المحاذِيرَ الأربعةَ التي يَقَعُ فيها مَن يَتَوَهَّمُ التمثيلَ, ثم يَنْفِي الصِّفَاتِ؟
كيف تُجِيبُ على مَن يَنْفِي الاستواءَ بِحُجَّةِ أنَّ إثباتَه يَسْتَلْزِمُ الافتقارَ؟
كيف تُجيبُ على مَن فَسَّرَ قولَه تعالى: { أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ } أي: داخلَ السماءِ؟
ما الْفَرْقُ بينَ العُلُوِّ وَالاستواءِ؟
ما الفَرْقُ بينَ لفظِ الاستواءِ والاستقرارِ والقُعودِ؟

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الرابعة, القاعدة

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:19 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir