مقدِّمةُ المؤلِّفِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وبه أستعينُ
الحمدُ للهِ الذي أنعمَ علينا بنعمةِ الإيمانِ والإسلامِ، وجعلَنا من خيرِ أمَّةٍ أُخرجتْ للناسِ، ومَنَّ علينا بحفظِ كتابهِ الكريمِ وأَمرَنا بتجويدِه بإعطاءِ كلِّ حرفٍ بعدَ إخراجِه من مَخرجِه ما يستحقُّه من الصفاتِ، وما يَترتبُ على ذلك كالترقيقِ والتفخيمِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأنَّ سيِّدَنا محمَّداً عبدُه ورسولُه الذي أَنزلَ اللهُ عليه تعريفاً بحقِّه وتشريفاً لقدرِه {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، والصلاةُ والسلامُ الأتمَّانِ الأكملانِ على سيِّدِنا محمَّدٍ أفصحِ العربِ، المُنَزَّلِ عليه أشرفُ الكتبِ لِمَا فيه من الأسرارِ والهُدى والعلومِ النافعةِ والصراطِ المستقيمِ، وعلى آلِ سيِّدِنا محمَّدٍ وأصحابِ سيِّدنا محمَّدٍ الذين بَرَعُوا في الفصاحةِ والبلاغةِ فهَمَسُوا الهاءَ، وجَهَروا بالميمِ، وبعدُ.
فيقولُ العبدُ الفقيرُ إلى رحمةِ ربِّهِ الغنيِّ/ عبدُ الرَّازقِ بنُ عليِّ بنِ إبراهيمَ موسى الشافعيُّ المُقرئُ: إنَّ تلاوةَ القرآنِ, كما أُنزلَ, من أعظمِ الطاعاتِ وأعلاها، ولا يكونُ ذلك إلا بمراعاةِ قواعدِ التجويدِ، من تفخيمٍ وترقيقٍ، وإظهارٍ وتشديدٍ، وقد أَلَّفَ في فَنِّ التجويدِ عددٌ كبيرٌ من العلماءِ، وكان من أرفعِ ما ألَّفوه، وأنفعِ ما تَدَاوَلَه الطلاَّبُ والقرَّاءُ، المنظومةُ المسمَّاةُ بـ (المقدِّمةُ: فيما على قارئِ القرآنِ أن يَعلمَه) لشيخِ الإسلامِ والمسلمين، وأستاذِ القرَّاءِ والمحدِّثين، أبي الخَيْرِ "محمَّدٍ بنِ محمَّدٍ بنِ محمَّدٍ الجزريِّ" الشافعيِّ رضيَ اللهُ عنه وأرضاه، وجعلَ الجنَّةَ مَنْزِلَه ومأواه، وعليها شروحٌ كثيرةٌ كشرحِ شيخِ الإسلامِ زكريَّا الأنصاريِّ، والقَسْطلانيِّ وغيرِهما، ولقد طلبَ مِنِّي بعضُ الطلَبةِ أمثالي أن أضعَ لهم شرحاً يناسبُ حالَهم وحالي، فأجبتُهم إلى ذلك، ولا أقولُ إنَّ هذا الشرحَ أفضلُ من غيرِه، بل كَمُلَ بها لأني جَمعتُ فوائدَها ولخَّصْتُ فرائدَها تأسِّيًا بهم ورغبةً في مآثرِهم، وضَمَمْتُ إليها ما يسَّرَ اللهُ تعالى به ما هو زائدٌ عليها بواسطتِها وعميمِ بركتِها، فجمعتُ في هذا الشرحِ فوائدَ وتنبيهاتٍ من عددٍ من المخطوطاتِ في شروحِ الجزريَّةِ، كشرحِ العلامةِ الشيخِ عمرَ بنِ إبراهيمَ المسعديِّ التي أَتمَّ تبييضَها سنةَ 999هـ، وكذلك تنبيهاتٍ وفوائدَ من "تنبيهِ الغافلين وإرشادِ الجاهلين"، للنوريِّ الصفاقسيِّ راجياً دعوةَ أخٍ محِبٍّ وصديقٍ مخلِصٍ بأن يوفِّقَني اللهُ في الأفعالِ والأقوالِ في جميعِ الأحوالِ، وسمَّيتُه "الفوائدُ التجويديَّةُ في شرحِ المقدِّمةِ الجزريَّةِ"، ورتَّبتُه على مقدِّمتين وستَّةَ عشرَ باباً وخاتَمةٍ.
المقدِّمةُ الأولى: للشارحِ وبيانِ سببِ التأليفِ ومنهجِ الشرحِ.
المقدِّمةُ الثانيةُ: للناظمِ وشرحتُ ما تضمَّنتْه مما يجبُ على القارئِ عملُه قبلَ قراءةِ القرآنِ
أمَّا الأبوابُ فهي على حسْبِ نظْمِ المقدِّمةِ:
1. بابُ مخارجِ الحروفِ وما يتعلَّقُ بها.
2. بابُ صفاتِ الحروفِ وما يتعلَّقُ بها.
3. بابُ التجويدِ وما يتعلَّقُ به.
4. بابُ الترقيقِ.
5. بابُ استعمالِ الحروفِ.
6. بابُ الراءاتِ.
7. بابُ اللاماتِ.
8. بابُ المتماثِلَيْن والمتجانِسَيْن والمُتَقارِبَيْن.
9. بابُ الضادِ والظاءِ وما يتعلَّقُ بهما.
10.بابُ التحذيراتِ.
11. بابُ النونِ الساكنةِ والتنوينِ وما يتعلَّقُ بهما.
12. بابُ المدودِ.
13. بابُ الوَقْفِ والابتداءِ.
14. باب المقطوعِ والموصولِ.
15. بابُ التاءاتِ.
16. بابُ همزةِ الوصلِ.
* الخاتِمَةُ
وأسألُ اللهَ جلَّتْ قُدرتُه أن يُثيبَني على هذا العملِ بقدْرِ ما فيه من حُسنِ نيَّةٍ ونُبلِ قصْدٍ، واللهُ لا يُضِيعُ أجْرَ العاملين المخلِصين.
هذا وإني أشكرُ اللهَ عزَّ وجلَّ، أن يسَّرَ وأعانَ على إتمامِ هذا الشرحِ في المدينةِ المنوَّرةِ المبارَكةِ لأنالَ بكتابتي له شرفَ المكانِ وشرفَ الزمانِ بحُسنِ الجِوارِ، ثم أشكرُ جميعَ الإخوةِ الأفاضلِ الذين شاركوا في مساعدتي أثناءَ الشرحِ لهذا الكتابِ فلهم مِنِّي حُسنُ الدعاءِ وعاطِرُ الثناءِ.
وإن كان لي أن أخُصَّ أحداً بالشكرِ، فإني أخُصُّ فضيلةَ المرحومِ الشيخِ عبدِ الفتاحِ المَرْصَفِيِّ - صاحبِ كتابِ (هدايةُ القارئِ) فقد انتفعتُ به كثيراً، وفضيلةَ الدكتورِ حازم سعيد حيدر الذي قرأَ هذه المُسودَّةَ وأَبدى بعضَ الملحوظاتِ الطيِّبةِ التي انتفعتُ بها، وكذلك فضيلةَ الشيخِ محمَّدِ تميم الزعْبِيِّ وفضيلةَ الشيخِ محمَّدٍ أبو روَّاشٍ - مديرِ مراقبةِ النصِّ القرآنيِّ بالمَجْمَعِ، وفضيلةَ الشيخِ رشادٍ السيسي، وفضيلةَ الشيخِ سيِّد فَرْغَل.
وأسألُ اللهَ عزَّ وجلَّ أن يجعلَ هذا العملَ خالصاً لوجهِه الكريمِ من غيرِ رياءٍ ولا سُمعةٍ، وأن يجعلَه لَبِنَةً مِعطاءةً في صرحِ المكتبةِ القرآنيَّةِ.
والحمدُ للهِ الذي بنعمتِه تَتمُّ الصالحاتُ.
المـؤلِّـفُ
عبدُ الرازِقِ بنُ علِيّ إبراهيم موسى
جمهوريَّةُ مصرَ العربيَّةُ
قويسنا شرانيس
منوفيَّة
هاتف: 002048372517
تَرجمةٌ مختصَرةٌ عن الناظمِ "ابنِ الجزريِّ"
اسمُه وكُنيتُه:
هو محمَّدٌ بنُ محمَّدٍ بنِ محمَّدٍ بنِ علِيِّ بنِ يوسفَ الجَزْرِيُّ، وكُنيتُه أبو الخيرِ شمسُ الدين الدمشقيُّ الشيرازيُّ الجَزْرِيُّ الشافعيُّ الشهيرُ بابنِ الجَزْرِيِّ نِسبةً إلى جزيرةِ ابنِ عمرَ ببلادِ المَشْرِقِ، وهي مدينةٌ في تركيا على نهرِ دِجلَةَ، أسَّسَها الحسنُ بنُ عمرَ بنِ الخطابِ الثعلبيُّ حوالَيْ عامَ 961م، وكانت ميناءَ أرمينيَّةَ.
وِلادتُه:
وُلدَ بدمشقَ ليلةَ السبتِ الموافقِ 25 رمضانَ سنةَ 751هـ، 30 نوفمبرَ 1350م.
نشأتُه:
نشأَ بدمشقَ، وفيها حفِظَ القرآنَ الكريمَ وهو ابنُ أربعَ عشرَةَ سنةً ثم اتَّجهتْ نفسُه الكبيرةُ إلى علومِ القراءاتِ فتلقَّاها عن جهابذةِ عصرِه وأساطينَ وقتِه، فتلقَّاها عن علماءِ الشامِ ومصرَ والحجازِ إفراداً وجمْعاً بمضمنِ كتُبٍ كثيرةٍ، كالشاطبيَّةِ والتيسيرِ والكافي وغيرِها من أمَّهاتِ الكتبِ وأصولِ المراجعِ.
رحلاتُه:
رحلَ إلى بلادٍ كثيرةٍ لتَعَلُّمِ القراءاتِ وتعليمِها كمصرَ والبصرةِ، وبلادِ ما وراءَ النهرِ، وسمرقندَ، وخراسانَ، وأصبهانَ، وشيرازَ، وجاورَ بالمدينةِ المنوَّرةِ مُدَّةً غيرَ وجيزةٍ فألَّفَ فيها كتابَه "النشرُ في القراءاتِ العَشْرِ" وقيلَ إنَّ ابنَ الجزريِّ ألَّفَ كتابَه هذا في مدينةِ بورصةَ في تركيا عام 799هـ واستغرقَ في تأليفِه عشرةَ أشهُرٍ وقد أرَّخَ تأليفَه في نهايةِ الكتابِ وهو الصوابُ، ضمَّنَه جميعَ مُصنَّفاتِ السابقين، وذكرَ فيه ما اشتملَ عليه كلُّ كتابٍ سابقٍ من الأوجُهِ مع تمييزِ القويِّ منها والضعيفِ، والغثِّ من السَّمينِ.
وعادَ إلى القاهرةِ لدراسةِ البلاغةِ، وأصولِ الفقهِ، ثم ذهبَ إلى الإسكندريةِ ليحضُرَ على تلاميذِ ابنِ عبدِ السلامِ، كما تتلمذَ على عبدِ اللهِ بنِ آي دوغنديِّ المعروفِ بابنِ الجنديِّ المُتَوَفَّى 769هـ.
أعمالُه ومناصبُه:
جلسَ تحتَ قُبَّةِ النَّسْرِ بالجامعِ الأُمويِّ للتعليمِ والإقراءِ سنين عديدةً، وفي عامِ 774هـ أجازَ له أبو الفداءِ إسماعيلُ بنُ كثيرٍ الإفتاءَ كما أجازَ له الإفتاءَ كلٌّ من ضياءِ الدين وشيخِ الإسلامِ البُلْقينيِّ عامَ 778هـ.
وبعدَ أنْ دَرسَ القراءاتِ مدَّةً من الزمنِ وَلِيَ قضاءَ دمشقَ عامَ 793 هـ، وابْتَنى في دمشقَ مدرسةً سمَّاها "دارَ القرآنِ".
شيوخُه:
تلقَّى الحافظُ ابنُ الجزريِّ القراءاتِ عن أئمَّةٍ أعلامٍ في الشامِ ومصرَ والحجازِ فمِمَّنْ تلقَّى عنهم من علماءِ دمشقَ أبو محمَّدٍ ابنُ السلارِ والشيخُ الطحَّانُ واللبَّانُ والشيخُ أحمدُ بنُ رجبٍ والقاضي أبو يوسفَ أحمدُ بنُ الحسينِ الحنفيُّ، ومن مصرَ الشيخُ ابنُ الجنديِّ وابنُ الصائغِ وأبو محمَّدٍ البَغداديُّ وعبدُ الوهَّابِ القرويُّ.
تلامذتُه:
أخذَ عنه القراءاتِ طوائفُ لا يُحصَوْن كثرةً وعدداً، منهم من قرأَ بمضَمَّنِ كتابٍ واحدٍ، ومنهم من قرأَ بمُضَمَّنِ أكثرَ من كتابٍ، فمِمَّن كَمَّلَ عليه القراءاتِ العشْرَ بالشامِ ومصرَ، ابنُه أبو بكرٍ أحمدُ الذي شرَحَ طيِّبةَ النشْرِ، والشيخُ محمودُ بنُ الحسينِ الشيرازي والشيخُ نجيبُ الدينِ البيهقيُّ، ومن اليمنِ الشيخُ عثمانُ بنُ عمرَ بنِ أبي بكرِ بنِ عليٍّ الناشريُّ الزَّبيديُّ العدنانيُّ من علماءِ زَبيدِ اليمنِ، وقد ألَّفَ إيضاحَ الدرَّةِ المضيئةِ، وقرأَه على ابنِ الجزريِّ بمدينةِ زَبيدَ سنةَ 828هـ، وكان مخطـوطاً في المكتبةِ الظاهريَّةِ بدمشـقَ برقمِ 354 حتى وفَّقَني اللهُ وحقَّقتُه وطبعتُه في مطابعِ الرشيـدِ بالمدينـةِ المنـوَّرةِ عامَ 1411هـ.
وفاتُه:
تُوفِّيَ رحمَه اللهُ تعالى سنةَ 833هـ بمدينةِ شيرازَ بعد أن بلغَ الذُّروةَ في علومِ التجويدِ وعلومِ القراءاتِ حتى صارَ فيها الإمامَ الذي لا يُدركُ شأْوُه، ولا يُشَقُّ غُبارُه ودُفِنَ بدارِ القرآنِ التي أَنشأها بشيرازَ، كان رضيَ اللهُ عنه صالحاً ديِّناً ورِعاً زاهداً في الحياةِ ومُتعِها وزخارفِها وكان لا يدعُ قيامَ الليلِ في حَضَرٍ ولا سَفَرٍ ولا يَتركُ صومَ الاثنينِ والخميسِ وثلاثةِ أيَّامٍ من كلِّ شهرٍ.
مؤلفاتُه:
له مؤلَّفاتٌ نافعةٌ ممتِعةٌ ما بين منثورٍ ومنظومٍ تدلُّ على قُوَّةِ وسِعَةِ اطِّلاعِه ورسوخِ قدمِه في مختلِف الفنونِ، وهذه المؤلَّفاتُ منها المطبوعُ، ومنها ما يزالُ مخطوطاً، تركنا ذِكرَها للاختصارِ ولكثرةِ المترجِمين له وشهرتِها رحِمَه اللهُ رحمةً واسعةً ورحِمَنا معُه بمنِّهِ وكرمِه وأفاضَ علينا من بركاتِه، آمينَ.
كلمةٌ موجزَةٌ عن العلاَّمَةِ "عمرَ بنِ إبراهيمَ المسعديِّ"
بما أننا تعرَّضْنا لبعضِ شروحِ الجزريَّةِ المخطوطةِ والتي رأيْنا فيها فوائدَ نادرةً ومفيدةً فلنذكرْ شيئاً عن العلاَّمةِ الشيخِ عمرَ بنِ إبراهيمَ المسعديِّ، صاحبِ الفوائدِ المسعديِّةِ في شرحِ المقدِّمةِ الجزريَّةِ حيث اعتمدتُ عليها في هذا الشرحِ، فنقولُ:
هو عمرُ بنُ إبراهيمَ بنِ علِيِّ بنِ أحمدَ بنِ عليٍّ المسعديُّ، الحَمَوِيُّ الأصلِ الدمشقيُّ المولدِ، المعروفُ بابنِ كاسيوخةَ، كان والدُه شديدَ الاعتناءِ به، حتى أشغلَه واجتهدَ على تعليمِه، ودخلَ القاهرةَ غيرَ مرَّةٍ، وأَحضرَه عندَ الجُلَّةِ من المشايخِ، منهم الشمسُ الرمليُّ , والنورُ بنُ غانمٍ المقدِسيُّ، وإبراهيمُ العلقميُّ، والشهابُ الحانويُّ، والنورُ الزياديُّ، والشهابُ ابنُ القاسمِ، والشهابُ أحمدُ بنُ أحمدَ بنِ عبدِ الحقِّ، والشيخُ صدرُ الدينِ الحنفيُّ، والزينُ عبدُ الرحمنِ بنِ الخطيبِ الشِّربينيُّ، وسَمِعَ منهم وأَجازُوه.
وأخذَ بدمشقَ عن الشمسِ الداووديِّ ولازَمَه مُدَّةً، وحضَرَ مع أبيه دروسَ الشهابِ العثياوي ولازَمَه البرهانُ بنُ كَيْسانَ في القراءاتِ حتى صارَ أمثلَ جماعتِه، ثم تصدَّرَ للإقراءِ، وكان حَسَنَ التلاوةِ مُتقِناً مجوِّداً خالياً من التكلُّفِ والتعسُّفِ، مع أنه لم يكنْ حَسَنَ الصوتِ وكان قليلَ الحظِّ من الدنيا، ومعيشتُه أكثرَ ما كانت من كسْبِ أبيه، قال النجمُ الغَزِّيُّ: قرأتُ أنَّ مولدَه في أواخرِ رجبٍ سنةَ أربعٍ وسبعينَ وتسعمائةٍ، وتُوُفِّيَ في يومِ الأحدِ عشرينَ جُمَادى الأولى سنةَ سبعَ عشرةَ وألفٍ بعِلَّةِ الاستسقاءِ ودُفِنَ عندَ أبيه بمقبرةِ البابِ الصغيرِ.
وفي علومِ الْقُرْآنِ ص 53 للدكتورِ عزَّةَ حسن ذِكرُ كتابِه
" الفوائدُ المسعديَّةُ شرحُ المقدِّمةِ الجزريَّةِ".
*****
مقدِّمةُ ابنِ الجزريِّ وشرْحِي عليها
فيما يجبُ على قارئِ الْقُرْآنِ أن يعلمَه
قال ناظمُها رحِمَه اللهُ تعالى:
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أي أَفتتحُ وأبتدئُ بالبَسملةِ. ثم بالحَمْدلةِ وابْتدأَ رحِمَه اللهُ تعالى بالبَسْملةِ ثم بالحَمدلةِ، اقتداءً بالكتابِ العزيزِ، وعملاً بخبرِ (كلُّ أمرٍ ذي بالٍ " أي حالٍ يُهتمُّ به " لا يُبدأُ فيه بـ "بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ" فهو أقطعُ، وفي روايةٍ بالحمدِ للهِ، وغيرُه فلا تعارُضَ بينَ الروايتين، لأنَّ الابتداءَ حقيقيٌّ وإضافيٌّ، فبالبَسملَةِ حصَلَ الحقيقيُّ , وبالحمدلةِ حَصَلَ الإضافيُّ , أيْ بالإضافةِ إلى غيرِهما، وقدَّم البسملةَ، عمَلاً بالكتابِ والإجماعِ.
و"اللهِ" عَلَمٌ للذاتِ الواجبِ الوجودِ المستَحِقِّ لجميعِ المحامدِ و "الرحمنِ الرحيمِ" وصفان بُنِيَا من الرحمةِ للمبالغةِ، وقَدَّمَ "الرحمنِ" لأنه أبلغُ، لأنَّ الزيادةَ في المبنى تدلُّ على زيادةِ المعنى كما في "قَتَلَ وقَتَّلَ"، ومن ثَمَّ أَطلقَ جماعةٌ "الرحمنِ" على مُفيضِ جلائلِ النِّعَمِ و "الرحيمِ" على مُفيضِ دقائقِها.
قال الناظمُ:
1. يقولُ راجي عفوِ ربٍّ سامعِ = محمَّدُ بنُ الجزريِّ الشافعِي
هذا من مقدِّمةِ الناظمِ، (يقولُ راجي عفوِ ربٍّ سامعِ)، أي مؤَمِّلٌ صفْحَ مالِكٍ، أي يقولُ محمَّدٌ الذي طَمَعَ في صفْحِ سيِّدِه، ومالكِه السامعِ لرجائه ليُجيبَه لِمَا رجاهُ تَفَضُّلاً منه وامتناناً، وقولُه: الجَزْرِيُّ، نِسبةً إلى جزيرةِ ابنِ عمرَ من أهلِ برقعيدَ وهي مناطقُ إقليمِ زاخو - تركيا الآنَ - شمالَ نهرِ دجلةَ، (والشافعيُّ) نسبةً إلى الشافعيِّ، إمامِ الأئمَّةِ، وسلطانِ الأمَّةِ، محمَّدٍ ابنِ إدريسَ بنِ العبَّاسِ بنِ شافعِ بنِ السائبِ بنِ عُبيدِ بنِ عبدِ يزيدَ بنِ هاشمِ بنِ عبدِ المطَّلبِ بنِ عبدِ منافٍ جَدِّ النبيِّ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
2. الحمدُ للهِ وصلَّى اللهُ = على نبيِّه ومُصطَفاهُ
(الحمدُ للهِ)، مَقولُ القَوْلِ، و "أل" فيه للاستغراقِ أو للجنسِ أو للعهدِ وعلى كلٍّ منها يفيدُ اختصاصَ الحمدِ باللهِ، والحمدُ هو الثناءُ باللسانِ على الجميلِ الاختياريِّ على جهةِ التبجيلِ والتعظيمِ سواءً كان في مقابلةِ نعمةٍ أو لا، والمدحُ مثلُه لكنْ كونُه منعِماً بحذفِ لفظةِ الاختياريِّ تقولُ:
حَمِدْتُ زيداً على عِلمِه وكرمِه، ولا تقولُ: حَمِدْتُه على حُسنِه بل مدحتُه، والشكرُ فِعلٌ يُنبِئُ عن تعظيمِ المنعِم بسببِ إنعامِه على الشاكرِ أو غيرِه قولاً وعملاً، فهو أعمُّ منهما.
والمدحُ أعمُّ من الحمدِ مطلقاً وعَطَفَ على الحمدِ للهِ قولَه (وصلى اللهُ) وهي جملةٌ لفظُها لفظُ الخبرِ، ومعناها الإنشاءُ، والصلاةُ من اللهِ رحمةٌ ومن الملائكةِ استغفارٌ، ومن الآدميين تضرُّعٌ ودعاءٌ، والصلاةُ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ واجبةٌ في العُمرِ مرَّةً واحدةً، بدليلِ مطلَقِ الأمرِ في قولِه تعالى: {يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب: آية 56)، وكان يَنبغي للناظمِ أن يذكرَ السلامَ، لأنَّ إفرادَ الصلاةِ عنه مكروهٌ كعكسِه لاقترانِها في قولِه تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}، وتُستحبُّ فيما عَداها ويَتأكَّدُ الاستحبابُ عندَ سماعِ ذِكرِها والأحاديثُ في فضلِها كثيرةٌ، منها قولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (مَنْ صَلَّى علَيَّ صَلاَةً وَاحِدَةً صلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْراً)، وقولُه على (نبيِّه)، النبيُّ: إنسانٌ أُوحيَ إليه بشرعٍ مقرِّرٌ لشرعِ رسولٍ سبَقَه. وقولُه "ومُصطفاهُ" مأخوذٌ من الصفْوَةِ، وهيَ الخُلوصُ، أي مُختارُه، فاللهُ اصطفى سيِّدَنا مُحمَّداً صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وفضَّلَه على سائرِ الخلقِ، فقد روى الشيخان: (أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ فَخْرَ)، وفي صحيحِ مُسلِمٍ: (إنَّ اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشاً مِنْ كِنَانَةَ وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، فَأَنَا خِيَارٌ مِنْ خِيَارٍ مِنْ خِيَارٍ).
ثم كمَّلَ الناظمُ فقالَ:
3. محمَّدٍ وآلِه وصحبِهِ = ومُقرئِ القرآنِ مع مُحِبِّهِ
أي: النبيُّ الذي صلَّى عليه الناظمُ في البيتِ السابقِ هو محمَّدٌ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ المطَّلبِ ثم صلَّى الناظمُ رحِمَه اللهُ تعالى على (الآلِ) بقولِه: (وآلِه)، وهم مؤمنو بني هاشمٍ، وبني المطَّلبِ على الأصحِّ عندَ الشافعيِّ، وقيلَ: أهلُ بيتِه، وقيلَ: أهلُه الأدْنَوْن وعشيرتُه الأقربون، ولا يُضافُ إلاَّ لمن له شرَفٌ من العقلاءِ الذكورِ، فلا يُقالُ: آلُ الشيطانِ ولا آلُ مكَّةَ ولا آلُ فاطمةَ، كذا قيلَ. وأمَّا آلُ فرعونَ، فإنما قيلَ لشرفِه عندَ قومِه ولَمَّا كان بينَ الآلِ والصحْبِ عمومٌ وخصوصٌ من وجهٍ عطَفَ الصحْبَ على الآلِ الشاملِ لبعضِهم لتَشملَ الصلاةُ باقيهم، والصحْبُ اسمُ جِمْعٍ لصاحبٍ بمعنى الصحابيِّ، وهو من اجتمعَ بالنبيِّ مُسلماً وماتَ على ذلك من غيرِ تَخَلُّلِ رِدَّةٍ، وقيلَ غيرُ ذلكَ، كقولِهم الصحابيُّ من لَقِيَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مؤمناً ولو لحظةً وقولُه "ومُقرئِ الْقُرْآنِ" أي وعلى مُقرئِ القرآنِ العاملِ به من التابعين وغيرِهم، ولَمَّا بقيَ من التابعين بقيَّةٌ لم تَشملْهم الصلاةُ، وهم من لم يكنْ مُقرئاً للقرآنِ قال: مع مُحبِّه أي مُحِبِّ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والْقُرْآنِ , تابعيًّا كان أو غيرَه، وجَمَعَ بينَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وبين مُحبِّهِ في حُكمٍ واحدٍ وهو الصلاةُ، لأنَّ المرءَ مع من أحبَّ , ويَشهدُ له ما رُويَ أن رجلاً قالَ: يا رسولَ اللهِ، متى الساعةُ؟ قالَ: مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ قالَ: يا رسولَ اللهِ ما أَعددتُ لها كثيرَ صيامٍ ولا صلاةٍ، ولكنِّي أُحبُّ اللهَ ورسوله، قالَ: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ، واللهُ الموفِّقُ للصوابِ.
4. وبعدُ إنَّ هذه مقدِّمهْ = فيما على قارئِه أن يعلمَه
كلمةُ (بعدُ) يُؤتَى بها للانتقالِ من أسلوبٍ لآخرَ، ويُؤْتَى بها في الخُطَبِ والمُكاتَباتِ اقتداءً بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقيلَ: إنَّ أوَّلَ من ابتدأَ بها هو داوودُ عليه السلامُ، وقيلَ: غيرُه، وهي ظرفٌ مَبنيٌّ هنا على الضمِّ لقَطعِه عن الإضافةِ لفظاً ونيَّةِ المضافِ إليه وعاملُه أقولُ مقدَّراً، ومعنى البيتِ أيْ وبعدَ البسملةِ والحمدلةِ والصلاةِ والسلامِ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فهذه مقدِّمةٌ فيما يجبُ ويتحتَّمُ على قارئِ القرآنِ أن يعلمَه، وذلك مما يُعتبرُ في تصحيحِ قراءتِه، فالإشارةُ بهذه إلى محسوسٍ في الخارجِ، فتكونُ الخُطبةُ متأخِّرةً عن تَمامِ نظمِ المقدِّمةِ، أو إلى معقولٍ في الذِّهنِ فتكونُ مقدَّمةً على نظمِ المقدِّمةِ، والمقدِّمةُ بكسرِ الدالِ أفصحُ من فتحِها، ثم قالَ:
5. إذ واجبٌ عليهم مُحَتَّمٌ = قبلَ الشروعِ أوَّلاً أن يَعلموا
6. مخارجَ الحروفِ والصفاتِ = ليَلفظُوا بأفصحِ اللغاتِ
"إذ" تعليلٌ للوجوبِ المفهومِ من على، وأرادَ بالواجبِ ما يأثمُ تاركُه بدليلِ ما يأتي في قولِه "والأخذُ بالتجويدِ حتْمٌ لازِمٌ" أيْ: يجبُ على قُرَّاءِ كتابِ اللهِ قبلَ الشروعِ في قراءتِه أن يَعلموا مخارجَ الحروفِ والمشهورَ من صفاتِها. والوُجوبُ صناعةٌ على من كانت قراءتُه بالتجويدِ طبعاً، وشرْعاً على من لم تكنْ قراءتُه كذلك، بأن أوهَمَتْ خللاً في المعنى أو اقتضتْ تغييرَ الإعرابِ، والمخارجُ جمْعُ مَخْرَجٍ , اسمٌ للموضعِ الذي يَنشأُ منه الحرفُ، وهو عبارةٌ عن الحيِّزِ المُوَلِّدِ للحرفِ، وسيأتي تعريفُ المخرجِ لغةً واصطلاحاً، وقولُه "مخارجُ الحروفِ والصفاتِ... الخ" أيْ: يجبُ على كلِّ القرَّاءِ قبلَ الشروعِ في القرآنِ أن يتعلموا مخارجَ الحروفِ وصفاتِها ليُحسنوا التلفُّظَ بأفصحِ اللغاتِ، وهي لغةُ العربِ التي نزلَ بها القرآنُ، ولغةُ نبيِّنا محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولغةُ أهلِ الجنَّةِ في الجنَّةِ.
ثم كمَّلَ فقالَ:
7. مُحَرِّري التجويدِ والمواقفِ = وما الذي رُسمَ في المصاحفِ
8. من كلِّ مقطوعٍ وموصولٍ بها = وتاءِ أُنثى لم تكنْ تُكتبْ بها
"مُحَرِّرِي" مأخوذٌ من التحريرِ، وهو منصوبٌ على الحالِ من ضميرِ يَعلموا، أيْ: واجبٌ عليهم أن يَعلموا ما ذُكِرَ حالةَ كونِهم محقِّقي التجويدِ للقرآنِ، والتجويدُ لغةً: التحسينُ، تقولُ: جوَّدتُ الشيءَ إذا حسَّنتَه، واصطلاحاً: تلاوةُ القرآنِ بإعطاءِ كلِّ حرفٍ حقَّه من مخرجِه متَّصفاً بصفاتِه الذاتيَّةِ له، وما تَستحقُّه تلكَ الصفاتُ من الترقيقِ وغيرِها من الصفاتِ العارضةِ الناشئةِ عن الصفاتِ اللازمةِ، - وسيأتي ذِكرٌ لتعريفِ التجويدِ في بابِ التجويدِ - وموضوعُه: الكلماتُ القرآنيةُ من حيثُ التلفُّظِ بها، و (المواقفُ)، أيْ: محَلُّ الوقفِ والابتداءِ، (وما الذي رُسِمَ) أي: كُتبَ في المصاحفِ العثمانيَّةِ.
وفائدتُه: صَوْنُ كلامِ اللهِ عن اللحنِ والخطأِ في التلاوةِ.
وثمرتُه: السعادةُ الأبديَّةُ والدرجةُ العليَّةُ وطريقةُ الأخذِ من أفواهِ المشايخِ العارفين بطُرُقِ الأداءِ. والمصاحفِ التي أمرَ عثمانُ رضيَ اللهُ عنه بكتابتِها وهي ستَّةٌ، ولمَّا تمَّتْ وللهِ الحمدُ جعلَ مصحفاً في المدينةِ المشرَّفةِ، وأرسلَ مصحفاً إلى مكةَ المشرَّفةِ، ومصحفاً إلى الشامِ، ومصحفاً إلى البصرةِ، ومصحفاً إلى الكوفةِ، وأمرَ رضيَ اللهُ عنه أهلَ كلِّ مِصرٍ أن يَتركوا ما سِوى مصحفِهم وأن يَقتديَ كلٌّ بمصحفِه الذي أُرسلَ إليه , واختارَ لنفسِه مصحفاً غيرَ الخمسةِ المذكورةِ وأمسكَه عندَه وهو المسمَّى بالمصحفِ الإمامِ. وبناءً عليه يكونُ مجموعُ عددِ المصاحفِ التي أمرَ بكتابتِها عثمانُ رضيَ اللهُ عنه ستَّةً، اهـ. من شرحِ الجَزْرِيَّةِ لعلاءِ الدينِ الطرابلسيِّ.
وقولُه (منْ كلِّ مقطوعٍ...إلخ) أيْ: من كلِّ مقطوعٍ وموصولٍ في هذه المصاحفِ، ومن كُلِّ تاءِ تأنيثٍ لم تكنْ تُكتبْ بهاءٍ مربوطةٍ بل بتاءٍ مجرورةٍ،