(2) عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((مَنِ اسْتَعَاذَ بِاللهِ فَأَعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلَ بِاللهِ فَأَعْطُوهُ، وَمَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ، وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُوهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تُرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ)) رواهُ أبو داودَ والنَّسائِيُّ بسَنَدٍ صحيحٍ.
ظاهرُ الحديثِ النهيُ عنْ رَدِّ السائلِ إذا سألَ باللهِ؛ لكنَّ هذا العُمومَ يَحتاجُ إلى تَفصيلٍ بِحَسَبِ ما وَرَدَ في الكتابِ والسُّنَّةِ، فيَجِبُ إذا سَأَلَ السائلُ ما لهُ فيهِ حَقٌّ كبيتِ المالِ أنْ يُجَابَ فيُعْطَى منهُ على قَدْرِ حاجتِهِ وما يَسْتَحِقُّهُ.
وكذلكَ: إذا سَأَلَ الْمُحتاجُ مَنْ في مالِهِ فَضْلٌ فيَجِبُ أنْ يُعْطِيَهُ على حَسَبِ حالِهِ ومَسألتِهِ، خُصوصًا إذا سألَ مَنْ لا فَضْلَ عِندَهُ، فيُسْتَحَبُّ أنْ يُعْطِيَهُ على قَدْرِ حالِ المَسْئُولِ ما لا يَضُرُّهُ ولا يَضُرُّ عائلتَهُ، وإنْ كانَ مُضْطَرًّا وَجَبَ أنْ يُعْطِيَهُ ما يَدْفَعُ ضَرُورتَهُ.
ومَقامُ الإِنفاقِ منْ أَشْرَفِ مَقاماتِ الدِّين، وتَفاوُتُ الناسِ فيهِ بِحَسَبِ ما جُبِلُوا عليهِ من الكَرَمِ والْجُودِ وضِدِّهما من البُّخْلِ والشُّحِّ.
فالأَوَّلُ: مَحمودٌ في الكتابِ والسُّنَّةِ.
والثاني: مَذمومٌ فيهما.
وقدْ حَثَّ اللهُ تعالى عِبادَهُ على الإنفاقِ لعِظَمِ نَفْعِهِ وتَعَدِّيهِ وكَثرةِ ثَوابِهِ:
- قالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[البقرة:267،268].
- وقالَ تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}[الحديد:7].
وذلكَ الإنفاقُ في خِصالِ الْبِرِّ الْمَذكورةِ في قولِهِ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ}[البقرة:177] فذَكَرَهُ بعدَ ذِكْرِ أُصولِ الإيمانِ، وقبلَ ذِكْرِ الصلاةِ، ذلكَ -واللهُ أَعلمُ- لِتَعَدِّي نَفْعِهِ.
وذَكَرَهُ تعالى في الأعمالِ التي أَمَرَ بها عِبادَهُ وتَعَبَّدَهم بها وَوَعَدَهُمْ عليها الأَجْرَ العظيمَ، قالَ تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ والصَّائِمِينَ والصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِـظَاتِ وَالذَّاكِـرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}[الأحزاب:35].
وكانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحُثُّ أصحابَهُ على الصَّدَقَةِ حتَّى النساءَ؛ نُصْحًا للأُمَّةِ وحَثًّا لهم على ما يَنْفَعُهم عاجِلاً وآجِلاً.
وقدْ أَثْنَى اللهُ سُبحانَهُ على الأَنصارِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم بالإيثارِ، فقالَ تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر:9].
والإيثارُ منْ أَفْضَلِ خِصالِ المؤمنِ ، كما تُفِيدُهُ هذهِ الآيَةُ الكريمةُ، وقدْ قالَ تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا}[الإنسان:8،9].
والآياتُ والأحاديثُ في فَضْلِ الصَّدَقَةِ كثيرةٌ جِدًّا، ومَنْ كانَ سَعْيُهُ للدَّارِ الآخِرَةِ رَغِبَ في هذا ورَغَّبَ، وباللهِ التوفيقُ.
قولُهُ: (وَمَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ) هذا منْ حُقوقِ المسلمينَ بعضِهم على بعضٍ؛ إجابةُ دَعوةِ المسلمِ. وتلكَ منْ أسبابِ الأُلْفَةِ والْمَحَبَّةِ بينَ المسلمينَ.
قولُهُ: (وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ) نَدَبَهُم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الْمُكافأةِ على المعروفِ؛ فإنَّ الْمُكافأةَ على المعروفِ من الْمُرُوءةِ التي يُحِبُّها اللهُ تعالى ورسولُهُ، كما دَلَّ عليهِ هذا الحديثُ.
ولا يُهْمِلُ الْمُكافأةَ على الْمَعروفِ إلاَّ اللَّئيمُ من الناسِ، وبعضُ اللِّئامِ يُكَافِئُ على الإحسانِ بالإساءةِ، كما يَقَعُ ذلكَ كثيرًا منْ بعضِهم، نَسألُ اللهَ العَفْوَ والعافيَةَ في الدنيا والآخِرَةِ. بخِلافِ حالِ أهلِ التَّقْوَى والإيمانِ، فإنَّهُم يَدْفَعُونَ بالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ طاعةً للهِ ومَحَبَّةً لِمَا يُحِبُّهُ لهم ويَرضاهُ، كما قالَ تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ}[المؤمنون:96-98]، وقالَ تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[فُصِّلَتْ:34،35]، وهم الذينَ سَبَقَتْ لهم من اللهِ تعالى السَّعَادَةُ.
قولُهُ: (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُوهُ فَادْعُوا لَهُ) أَرْشَدَهُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أنَّ الدعاءَ في حقِّ مَنْ لمْ يَجِد الْمُكافأةَ مُكافأةٌ للمَعروفِ. فيَدعُو لهُ بحَسَبِ مَعروفِهِ.
قولُهُ: (حَتَّى تُرَوْا -بِضَمِّ التَّاءِ: تَظُنُّوا- أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ) ويُحْتَمَلُ أنَّها مَفتوحةٌ بمعنى: تَعْلَمُوا، ويُؤَيِّدُهُ ما في (سُنَنِ أبي دَاوُدَ) في حديثِ ابنِ عمرَ: ((حَتَّى تَعْلَمُوا)) فَتَعَيَّنَ الثاني للتصريحِ بهِ.
وفيهِ ((مَنْ سَأَلَكُمْ بِاللهِ فَأَجِيبُوهُ)) أيْ: إلى ما سَأَلَ. فيكونُ بمعنى: أَعْطُوهُ.
وعندَ أبي دَاوُدَ في روايَةِ أبي نَهِيكٍ عن ابنِ عَبَّاسٍ: ((مَنْ سَأَلَكُمْ بِوَجْهِ اللهِ فَأَعْطُوهُ)) وفي روايَةِ عُبيدِ اللهِ القَوَارِيرِيِّ لهذا الحديثِ: ((وَمَنْ سَأَلَكُمْ بِاللهِ)) كما في حديثِ ابنِ عُمرَ.