دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم الحديث الشريف > متون علوم الحديث الشريف > الأربعون النووية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 1 ذو القعدة 1429هـ/30-10-2008م, 02:12 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي ح15: حديث أبي هريرة: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت...) خ م

15- عن أبي هُريرةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ، أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ)). رواه البخاريُّ ومسلِمٌ.


  #2  
قديم 1 ذو القعدة 1429هـ/30-10-2008م, 02:12 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي شرح الأربعين النووية لفضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين

الحديث الخامس عشر
عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرَاً أَو لِيَصْمُتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، ومَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ)(1) رواه البخاري ومسلم.

الشرح
"مَنْ كَانَ يُؤمِنُ" هذه جملة شرطية، جوابها: "فَليَقُلْ خَيْرَاً أَو لِيَصْمُتْ" ، والمقصود بهذه الصيغة الحث والإغراء على قول الخير أوالسكوت كأنه قال: إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فقل الخير أو اسكت.
والإيمان بالله واليوم الآخر سبق ذكرهما.
"فَلَيَقُلْ خَيرَاً" اللام للأمر، والخير نوعان:
خير في المقال نفسه، وخير في المراد به.
أما الخير في المقال: فأن يذكر الله عزّ وجل ويسبّح ويحمد ويقرأ القرآن ويعلم العلم ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فهذا خير بنفسه.
وأما الخير لغيره: فأن يقول قولاً ليس خيراً في نفسه ولكن من أجل إدخال السرور على جلسائه، فإن هذا خير لما يترتب عليه من الأنس وإزالة الوحشة وحصول الإلفة، لأنك لو جلست مع قوم ولم تجد شيئاً يكون خيراً بذاته وبقيت صامتاً من حين دخلت إلى أن قمت صار في هذا وحشة وعدم إلفة، لكن تحدث ولو بكلام ليس خيراً في نفسه ولكن من أجل إدخال السرور على جلسائك، فإن هذا خير لغيره.
" أو لِيَصْمُتْ" أي يسكت.
"وَمَنْ كَانَ يُؤمِنُ باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ" أي جاره في البيت، والظاهر أنه يشمل حتى جاره في المتجر كجارك في الدكان مثلاً، لكن هو في الأول أظهر أي الجار في البيت، وكلما قرب الجار منك كان حقه أعظم.
وأطلق النبي صلى الله عليه وسلم الإكرام فقال: "فليُكْرِم جَارَهُ" ولم يقل مثلاً بإعطاء الدراهم أو الصدقة أو اللباس أو ما أشبه هذا، وكل شيء يأتي مطلقاً في الشريعة فإنه يرجع فيه إلى العرف، وفي المنظومة الفقهية:
وكلُّ ما أتى ولم يحدد بالشرع كالحرز فبالعرف أحدد
فالإكرام إذاً ليس معيناً بل ما عدّه الناس إكراماً، ويختلف من جار إلى آخر، فجارك الفقير ربما يكون إكرامه برغيف خبز، وجارك الغني لايكفي هذا في إكرامه، وجارك الوضيع ربما يكتفي بأدنى شيء في إكرامه، وجارك الشريف يحتاج إلى أكثر
والجار: هل هو الملاصق، أو المشارك في السوق، أو المقابل أو ماذا؟
هذا أيضاً يرجع فيه إلى العرف، لكن قد ورد أن الجار أربعون داراً من كل جانب(2) ،وهذا في الوقت الحاضر صعب جداً.
في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أربعون داراً مساحتهم قليلة، لكن في عهدنا أربعون داراً قرية، فإذا قلنا إن الجار أربعون داراً والبيوت قصور صار فيها صعوبة، ولهذا نقول: إن صح الحديث فهو مُنَزَّل على الحال في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن لم يصح رجعنا إلى العرف.
" وَمَنْ كَانَ يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فَليُكرِمْ ضَيْفَهُ" الضيف هو النازل بك، كرجل مسافر نزل بك، فهذا ضيف يجب إكرامه بما يعد إكراماً.
قال بعض أهل العلم - رحمهم الله -: إنما تجب الضيافة إذا كان في القرى أي المدن الصغيرة، وأما في الأمصار والمدن الكبيرة فلايجب، لأن هذه فيها مطاعم وفنادق يذهب إليها ولكن القرى الصغيرة يحتاج الإنسان إلى مكان يؤويه.
ولكن ظاهر الحديث أنه عام: "فَليُكْرِمْ ضَيْفَهُ" .
من فوائد هذا الحديث:
1. وجوب السكوت إلا في الخير، لقوله: "مَنْ كَانَ يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فَليَقُلْ خَيرَاً أو لِيَصمُتْ" هذا ظاهر الحديث، ولكن ظاهر أحوال الناس أن ذلك ليس بواجب، وأن المقال ثلاثة أقسام: خير، وشر، ولغو.
فالخير: هو المطلوب. والشر: محرم، أي أن يقول الإنسان قولاً شراً سواء كان القول شراً في نفسه أو شراً فيما يترتب عليه. واللغو: ما ليس فيه خير ولاشرّ فلا يحرم أن يقول الإنسان اللغو، ولكن الأفضل أن يسكت عنه.
ويقال: إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب، وكم كلمة ألقت في قلب صاحبها البلاء، والكلمة بيدك ما لم تخرج من لسانك، فإن خرجت من لسانك لم تملكها.
وإذا دار الأمر بين أن أسكت أو أتكلم فالمختار السكوت،لأن ذلك أسلم.
2. الحث على حفظ اللسان لقوله: "مَنْ كَانَ يُؤمِنُ باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيرَاً أَوْ لِيَصْمُتْ"(3) ولما حدث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه قال له: أَلا أُخْبِرُكَ بِمِلاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟
قَالَ: بَلَى يَارَسُولَ اللهِ
فَأَخذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ وَقَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا
قَالَ: يَارَسُولَ اللهِ،وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ ؟ - الجملة استفهامية -
قَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَامُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّار عَلَى وُجُوهِهِم، أَو قَالَ: "عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلسِنَتِهِمْ"(4)
فاحرص على أن لاتتكلم إلا حيث كان الكلام خيراً، فإن ذلك أقوى لإيمانك وأحفظ للسانك وأهيب عند إخوانك.
3. وجوب إكرام الجار لقوله: "مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ واليَومِ الآخِرِ فَليُكرِمْ جَارَهُ" وهذا الإكرام مطلق يرجع فيه إلى العرف، فتارة يكون إكرام الجار بأن تذهب إليه وتسلم عليه وتجلس عنده. وتارة تكون بأن تدعوه إلى البيت وتكرمه. وتارةبأن تهدي إليه الهدايا، فالمسألة راجعة إلى العرف.
4. أن دين الإسلام دين الألفة والتقارب والتعارف بخلاف غيره، فإنك ترى أهل الملة الواحدة لايكاد يعرف بعضهم بعضاً، متفرقون، حتى الجار لايدري ماذا يحدث لجاره.
5. وجوب إكرام الضيف بما يعد إكراماً، وذلك بأن تتلقاه ببشر وسرور، وتقول: ادخل حياك الله وما أشبه ذلك من العبارات.
وظاهر الحديث أنه لافرق بين الواحد والمائة، لأن كلمة (ضيف) مفرد مضاف فيعم، فإذا نزل بك الضيف فأكرمه بقدر ما تستطيع.
لكن إذا كان بيتك ضيقاً ولامكان لهذا الضيف فيه ولست ذا غنى كبير بحيث تعد بيتاً للضيوف، فهل يكفي أن تقول: يا فلان بيتي ضيق والعائلة ربما إذا دخلت أقلقوك، ولكن خذ مثلاً مائة ريال أو مائتين - حسب الحال - تبيت بها في الفندق فهل يكفي هذا أو لايكفي ؟
الجواب: للضرورة يكفي، وإلا فلا شك أنك إذا أدخلته البيت ورحبت به وانطلق وجهك معه أنه أبلغ في الإكرام،ولكن إذا دعت الضرورة إلى مثل ما ذكرت فلابأس، فهذا نوع من الإكرام، والله أعلم.

__________________________________________________________
(1) سبق تخريجه صفحة (158)
(2) - أخرجه البخاري في الأدب المفرد – (1/51)، حديث (109)، والبيهقي في سننه الكبرى – (ج6/ ص176)، حديث (12391)
(3) سبق تخريجه صفحة (158)
(4) - أخرجه الترمذي – كتاب: الإيمان، باب: ما جاء في حرمة الصلاة، (2616)، وابن ماجه – كتاب: الفتن، باب: كف اللسان، (3973)، والإمام أحمد في مسنده – (ج5/ص231)، مسند الأنصار عن معاذ بن جبل، (22366)، والنسائي في السنن الكبرى – (ج6/ص429)، كتاب: السير، باب: قوله تعالى: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) وقوله: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة عين)، (11394)


  #3  
قديم 6 ذو القعدة 1429هـ/4-11-2008م, 09:40 PM
نورة آل رشيد نورة آل رشيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,563
افتراضي شرح فضيلة الشيخ : محمد حياة السندي

تَرْجَمَةُ الصَّحابِيِّ راوِي الحَدِيثِ:
تَقَدَّمَتْ في الحَدِيثِ التَّاسِعِ.
الشَّرْحُ:
(1) عَنْ أَبي هُريرةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ))الذي يُحِبُّ أنْ لاَ يَسْتَعْمِلَ العبْدُ لِسَانَهُ إلاَّ في خَيْرٍ.
(( واليَوْمِ الآخِرِ))الذي يُبْتَلَى فيهِ الإنسانُ بِمَا تَكَلَّمَ بغيرِ الخيرِ.
(( فَلْيَقُلْ خَيْرًا)) لهُ، أَوْ لأَِحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللهِ تَعَالَى، في ضرُورَةِ المَعَاشِ والدِّينِ.
(( أو لِيَصْمُتْ))فإنَّ الصَّمْتَ عَمَّا سِوَى الخَيرِ خَيْرٌ، وهُوَ أَحَبُّ إلى اللهِ تَعَالَى وَأَعْوَنُ على الخيرِ، وَأَحْفَظُ مِنَ الضَّيْرِ، وأَسْهَلُ الْحَسَنَاتِ، وَالتَّكَلُّمُ بِمَا عَدَا الخيرَ وَبَالٌ، وَأَضَرُّ أَعْدَاءِ الإنسَانِ لِسَانُهُ، إن اسْتَعْمَلَهُ في الخَيرِ عُصِمَ مِنْ شَرِّهِ وَانْتَفَعَ بِهِ، وَإِلاَّ كَانَ وَبَالاً عَلَيْهِ، ولاَ يَتَأَتَّى هَذَا إلاَّ لِمَنْ يُرَاقِبُ مَوْلاَهُ العَلِيمَ على ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ ما يَصْدُرُ مِنْهُ يَعْلَمُهُ الرَّبُّ، وَيُكْتَبُ وَيُحَاسَبُ عليهِ يومَ الحِسَابِ والعِتَابِ والعِقَابِ.

(2) ((وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ))إِكْرَامًا لا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ حَدِّ الشَّرْعِ؛ فإنَّ الإِيمَانَ بِهِمَا يَقْتَضِي إِكْرَامَهُ، فالجارُ المُسْلِمُ القريبُ لَهُ حَقُّ الجِوَارِ والقَرَابَةِ والإِسْلامِ. والبعيدُ لهُ حَقُّ الجِوَارِ والإسْلاَمِ، والجارُ الذِّمِّيُّ لَهُ حَقُّ الجِوَارِ فَقَطْ.
وَإِعْطَاءُ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ مَطْلُوبٌ شَرْعًا، مَرْضِيٌّ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وفي هذَا إشَارَةٌ إلى أنَّهُ يَنْبَغِي للإِنسَانِ أَنْ يُكْرِمَ جِيرَانَهُ مِنَ الملائِكَةِ، والأمَاكِنِ، فلا يُؤْذِيهِمْ بالمَعَاصِي والمَلاَهِي، فَإِنَّهُم يَتَأَذَّوْنَ بِذَلِكَ.

(3) ((وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ))بالترحِيبِ والتَّسْهِيلِ والطَّعَامِ والشَّرَابِ والمَسْكَنِ ونحوِ ذلِكَ، وَإِكْرَامُهُ يومَ نُزُولِهِ آكَدُ مِمَّا بَعْدَهُ وهُوَ مِنْ أَخلاَقِ الأَنبياءِ عليهِم السَّلاَمُ والصَّالِحِينَ وآدابِ الإسْلامِ، وفي ذلكَ جَزَاءٌ جَزِيلٌ يومَ القيامةِ وإنْ حَلَّ بالإنْسَانِ ضَيْفٌ نَزَلَهُ فَلْيُكْرِمْهُ بالطَّاعةِ، ولاَ يُؤْذِيهِ بالمَعْصِيَةِ.


  #4  
قديم 6 ذو القعدة 1429هـ/4-11-2008م, 09:42 PM
نورة آل رشيد نورة آل رشيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,563
افتراضي المنن الربانية لفضيلة الشيخ : سعد بن سعيد الحجري

موضوعُ الحديثِ:

علاماتُ الإيمانِ أوْ حقوقُ النفسِ وحقوقُ الخَلْقِ.
المُفْرَدَاتُ:
(مَنْ كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ) (مَنْ) شَرْطِيَّةٌ، والإيمانُ هوَ التصديقُ، ويُرَادُ بهِ: اعتقادُ القلبِ وقولُ اللسانِ وعملُ الجوارحِ، يَزِيدُ بالطاعةِ ويَنْقُصُ بالمعصيَةِ.
والإيمانُ باللَّهِ، أي: بِوُجُودِهِ وبِرُبُوبِيَّتِهِ وأُلُوهِيَّتِهِ وأسْمَائِهِ وصِفَاتِهِ، والمرادُ الإيمانُ الكاملُ، فهوَ لا يَكْمُلُ إلاَّ بهذهِ الخِصَالِ.
ومِنْ فوائدِهِ:
- رِفْعَةُ الدرجةِ.
- والأمنُ في الدُّنيا والآخرةِ.
- وأهْلُهُ همْ خيرُ البَرِيَّةِ، وهم الذينَ لا خوفٌ عليهم ولا هُمْ يَحْزَنونَ، ونصرُ اللَّهِ وحِفْظُهُ لهم ووِلايَتُهُ لهم، ودخولُ الجَنَّةِ، والحياةُ الطَّيِّبَةُ.
(واليومِ الآخِرِ) هوَ يومُ القيامةِ، وسُمِّيَ يوماً؛ لأنَّهُ يومٌ واحدٌ مِقْدَارُهُ خمسونَ ألفَ سنةٍ، وسُمِّيَ آخِرَ؛ لأنَّهُ لا يومَ بعْدَهُ، وخُصَّ الإيمانُ باللَّهِ لوُجُوبِ مُرَاقَبَتِهِ، وليكونَ مُحْسِناً، وخُصَّ اليومُ الآخرُ للاستعدادِ لهُ، ولأنَّ الأركانَ الأُخْرَى تدخلُ فيهما.
(فَلْيَقُلْ خيراً أوْ لِيَصْمُت) اللامُ لامُ الأمرِ، والقولُ:هوَ الكلامُ، وهوَ ثلاثةُ أنواعٍ: خيرٌ، وشَرٌّ، ولَغْوٌ.
والخيرُ: كلمةٌ جامعةٌ للطاعاتِ أوْ ما يُرَغَّبُ فيهِ وَيُخْتَارُ.
(أَوْ لِيَصْمُتْ) أيْ: يَسْكُتْ عن الكلامِ لِيَسْلَمَ من العُهْدَةِ، والكلمةُ يَمْلِكُها العبدُ حتَّى يَتَكَلَّمَ بها ثمَّ تَمْلِكُهُ.
والأمرُ للوجوبِ، والكلامُ بالطاعةِ خيرٌ من السكوتِ، والسكوتُ خيرٌ من المعصيَةِ.
والقولُ خطيرٌ؛ إذْ قدْ يدخلُ بهِ الإنسانُ الجَنَّةَ أو النارَ.
وبالكلمةِ الطَّيِّبَةِ يَنَالُ الإنسانُ الإيمانَ ورضوانَ اللَّهِ والنجاةَ واستقامةَ الجوارحِ ونحوَ ذلكَ.
(2) (فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ)الإكرامُ: هوَ أداءُ حقٍّ لهُ منْ سلامٍ ومنعِ أَذًى وغَضِّ بصَرٍ وعيادةِ مريضٍ وتشييعِ جنازةٍ ونَصْرِهِ....
والجارُ: هوَ المجاورُ في المنزلِ،وهوَ ثلاثةُ أقسامٍ:
أَوَّلاً: جارٌ قريبٌ مجاورٌ مسلمٌ، ولهُ ثلاثةُ حقوقٍ.
ثانياً: جارٌ مسلمٌ مجاورٌ، لهُ حَقَّانِ.
ثالثاً: جارٌ مجاورٌ، لهُ حقٌّ واحدٌ.
وقدْ أَوْصَى اللَّهُ تعالى بالجارِ، فقالَ تعالَى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36] وقالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ)).
وقالَ: ((وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ مَنْ لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ)).
(3) (فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ) أيْ: إحسانُ ضِيَافَتِهِ، والضيافةُ ثلاثةُ أَيَّامٍ، وما كانَ بعدَ ذلكَ صدقةٌ.
وآدابُ ضِيَافَتِهِم:
- التَّحِيَّةُ بأحسنَ منها.
- الإتيانُ بالذَّبِيحَةِ في خُفْيَةٍ
- أنْ تكونَ أحسنَ الموجودِ.
- أنْ يُبَاشِرَ عليهم بنَفْسِهِ.
- أنْ يَعْرِضَ عليهِ الأكلَ بِلُطْفٍ
- أنْ يسألَ عنْ أَمْرِهِمْ.
- أنْ يَأْتِيَ بالأكلِ إليهم.
وقدْ أَخَذْتُ هذهِ الآدابَ منْ ضيافةِ إبراهيمَ عليهِ السلامُ للملائكةِ منْ قولِهِ تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} الآياتِ [الذَّارِيَات: 24].
الفوائدُ:
1- وُجُوبُ الإيمانِ باللَّهِ تعالى.
2- وُجُوبُ الإيمانِ باليومِ الآخرِ.
3- الاستعدادُ لليومِ الآخرِ.
4- حفظُ اللسانِ.
5- الحثُّ على قولِ الخيرِ.
6- أنَّ قولَ الخيرِ أفضلُ من الصمتِ.
7- أنَّ أخطرَ الأعضاءِ اللسانُ.
8- أنَّ السلامةَ في الصمتِ.
9- وُجُوبُ أداءِ حقِّ الجارِ.
10- ضمانُ الإسلامِ لحقوقِ الآخَرِينَ.

11- وُجُوبُ إكرامِ الضيفِ.
12- ضمانُ الإسلامِ لحقوقِ المُقِيمِينَ والمُسافرينَ.
13- الإيمانُ يزيدُ وينقصُ.
14- الترغيبُ في الخيرِ، والتحذيرُ من الشرِّ.
15- الإحسانُ للآخرينَ إحسانٌ للنفسِ.
16- حُسْنُ التعاملِ معَ الآخرينَ؛ إذ الدِّينُ المُعاملةُ.
17- حقُّ اللَّهِ مُقَدَّمٌ على حقِّ النفسِ.
18- حقُّ النفسِ مُقَدَّمٌ على حَقِّ الآخرينَ.
19- حقُّ القريبِ مُقَدَّمٌ على حقِّ الآخرينَ.
20- حقُّ الجارِ مُقَدَّمٌ على غيْرِهِ.
21- حثُّ الإسلامِ على الكَرَمِ.


  #5  
قديم 6 ذو القعدة 1429هـ/4-11-2008م, 09:44 PM
نورة آل رشيد نورة آل رشيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,563
افتراضي شرح فضيلة الشيخ : ناظم سلطان المسباح

مَنْزِلَةُ الحديثِ:
قالَ الحافظُ: (وهذا مِنْ جَوَامعِ الْكَلِمِ، اشتملَ الحديثُ على أُمُورٍ ثلاثةٍ تَجْمَعُ مَكَارِمَ الأخلاقِ الفِعْلِيَّةَ والقَوليَّةَ.
فالحديثُ يَدْعو إلى حُسْنِ مُعاشَرَةِ الآخَرِينَ، وحُسْنُ الْمُعاشَرةِ تُؤَدِّي إلى نَشْرِ الْمَحَبَّةِ بينَ النَّاسِ، والْمَحَبَّةُ تُؤَدِّي إلى التَّآلُفِ والتَّرابُطِ).
مَسْكُ زِمامِ اللِّسَانِ:

(1) قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)).
قالَ الشَّافعيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: (معنى الحديثِ: إذا أرادَ أنْ يَتَكَلَّمَ فلْيُفَكِّرْ، فإنْ ظَهَرَ أنَّهُ لا ضَرَرَ عليهِ تَكَلَّمَ، وإنْ ظَهَرَ أنَّ فيهِ ضَرَرًا أوْ شَكَّ فيهِ أَمْسَكَ).
وقالَ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ: (ومعنى الحديثِ: أنَّ المرءَ إذا أرادَ أنْ يَتكلَّمَ فلْيُفَكِّرْ قبلَ كلامِهِ، فإنْ عَلِمَ أنَّهُ لا يَترتَّبُ عليهِ مَفسدةٌ، ولا يَجُرُّ إلى مُحَرَّمٍ ولا مَكروهٍ فَلْيَتَكَلَّمْ، وإن كانَ مُباحًا فالسَّلامةُ في السُّكوتِ؛ لِئَلاَّ يَجُرَّ الْمُباحُ إلى الْمُحرَّمِ والمكروهِ).

وكذلكَ للنَّوَوِيِّ رَحِمَهُ اللهُ في شرحِ (صحيحِ مسلمٍ)كلامٌ بهذا المعنى. والخُلاصةُ كما قالَ ابنُ رَجَبٍ:(أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بالكلامِ بالخيرِ، والسُّكوتِ عمَّا ليسَ بخيرٍ).
والصَّمتُ عندَ أهلِ اللغةِ: يُقالُ صَمُتَ -بضمِّ الميمِ- صَمْتًا وصُموتًا وصِماتًا؛ أيْ: سَكَتَ.

قالَ الْجَوْهَرِيُّ: (ويُقَالَ: أَصْمَتَ بمعنى صَمُتَ، والتَّصْمِيتُ السُّكونُ، والتَّصْمِيتُ أيضًا التَّسْكِيتُ).
المقصودُ بنفيِ الإيمانِ في الحديثِ:

قالَ الطُّوفيُّ: (ظاهرُ الحديثِ انتفاءُ الإيمانِ عمَّنْ قالَ ذلكَ، وليسَ مُرادًا، بلْ أُرِيدَ بهِ المبالَغةُ، كما يقولُ القائلُ: إنْ كنْتَ ابْنِي فَأَطِعْنِي، تَهَيُّجًا لهُ على الطَّاعةِ؛ لأنَّهُ بانتفاءِ طَاعَتِهِ لا يَنتفِي أنَّهُ ابْنُهُ).
قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)) فلْيَفْعَلْ كذا وكذا، يَدُلُّ على أنَّ هذهِ الآدابَ مِنْ شُعَبِ الإيمانِ.
وأعمالُ الإيمانِ:

منها: ما يَتعلَّقُ بحقوقِ اللهِ عزَّ وجلَّ، كفِعلِ الواجباتِ وتَرْكِ المحظوراتِ.
ومنها: ما يَتَعَلَّقُ بحقوقِ العِبادِ، كَكَفِّ الأذى وإكرامِ الضَّيفِ وصِلَةِ الرَّحِمِ.
ومفهومُ التَّخْيِيرِ في قولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالَ فيهِ الحافظُ رَحِمَهُ اللهُ: (سْتُشْكِـلَ التَّخْيِيرُ الَّذي في قولِهِ:(فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)؛ لأنَّ الْمُباحَ إذا كانَ في أحدِ الشِّقَّيْنِ لَزِمَ أنْ يكونَ مَأمورًا بهِ، فيكونَ واجبًا أوْ مَنْهِيًّا، فيكونَ حرامًا.
والجوابُ عنْ ذلكَ أنَّ صِيغةَ الفعلِ في قولِهِ: (فَلْيَقـُلْ).

وفي قولـِهِ: (لِيَصْمُتْ)لِمُطْلَقِ الإذْنِ الَّذي هوَ أَعَمُّ مِن الْمُباحِ وغيرِهِ.
نَعَمْ، يَلْزَمُ مِنْ ذلكَ أنْ يكونَ المباحُ حَسَنًا لدخولِهِ في الخيرِ).

إكرامُ الجارِ:
(2) قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ)).

فالحديثُ يَدُلُّ على إكرامِ الجارِ، والنَّهيِ عنْ إيذائِهِ، وهنا لا بُدَّ مِنْ بَيانِ الأُمُورِ الآتيَةِ:
1- الوِصَايَةُ بالجارِ: قالَ تعالى: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ}.
فَاللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَرَنَ بيْنَ حَقِّهِ على العِبادِ، وحُقوقِ العِبادِ على العبدِ، الَّتي منها حَقُّ الجارِ، وهذا فيهِ بيانُ أهمِّيَّتِهِ وعِظَمُ حقِّ الجارِ.
وَعَنْ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ)).

ومعنى سَيُوَرِّثُهُ أيْ: يَجْعَلُ لهُ مُشارَكةً في المالِ بفَرْضِ سَهْمٍ يُعْطَاهُ معَ الأقاربِ.
2- غِلَظُ حُرمةِ أَذَى الجارِ: يَحْرُمُ على المسلمِ أنْ يُؤْذِيَ أحدًا دُونَ حقٍّ، ولكنَّ أَذَى الجارِ أشدُّ حُرمةً.
عن الْمِقدادِ بنِ الأسودِ رَضِي اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لأََنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ، وَلأََنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِنْ عَشَرَةِ أَبْيَاتٍ أَيْسَرُ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ بَيْتِ جَارِهِ)).
فالزِّنَا مِن الْفَوَاحِشِ الَّتي حَرَّمَها رَبُّنَا تَبَارَكَ وتعالى، ووَضَعَ التَّشريعاتِ الرَّادِعَةَ لِمُرْتَكِبِيها، ولكنَّ الزِّنَا بحَليلةِ الجارِ أشدُّ حُرمةً وفُحْشًا وجُرْمًا، وكذلكَ السَّرقةُ.

وعنْ أبي شُرَيحٍ، أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:((وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ))
قِيلَ: مَنْ يَا رَسولَ اللهِ؟
قالَ: ((الَّذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ)).
وَالْبَوَائِقُ: جَمْعُ بَائِقَةٍ، وهيَ الدَّاهيَةُ، والشَّيءُ الْمُهْلِكُ، والأَمْرُ الشَّديدُ الَّذي يُوافِي بَغْتَةً.

قالَ ابنُ بَطَّالٍ: (في الحديثِ تأكيدُ حقِّ الجارِ؛ لِقَسَمِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذلكَ، وتَكْرِيرِهِ اليَمينَ ثلاثَ مَرَّاتٍ. وفيهِ نفيُ الإيمانِ عمَّنْ يُؤْذِي جارَهُ بالقولِ أو الفعلِ، ومُرادُهُ الإِيمانُ الكاملُ، ولا شَكَّ أنَّ العاصيَ غيرُ كاملِ الإيمانِ).
3- مفهومُ الإحسانِ إلى الجارِ:هوَ أنْ يقومَ بإيصالِ ضُرُوبِ الإحسانِ إلى جارِهِ، بِحَسَبِ الطَّاقةِ: كالهديَّةِ، والسَّلامِ، وطَلاَقةِ الوجهِ عندَ اللقاءِ، وتفقُّدِ حالِهِ، ومُعَاوَنَتِهِ فيما يَحتاجُ إليهِ، إلى غيرِ ذلكَ، وكفِّ أسبابِ الأذى عنهُ على اختلافِ أنواعِهِ؛ حِسِّيَّةً كانتْ أوْ مَعْنَوِيَّةً، وأَوْلَى النَّاسِ بالإِحسانِ الأقربُ فالأقربُ.
عنْ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالَتْ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ لي جَارَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِما أُهْدِي؟ قالَ: ((إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا)).
ولذلكَ بَوَّبَ البخاريُّ رَحِمَهُ اللهُ في صحيحِهِ قالَ: (بابُ حقِّ الْجِوَارِ في قُرْبِ الأبْوَابِ) وهذا مِنْ عُمْقِ فَهْمِهِ للنُّصوصِ.

4- مَرَاتِبُ الْجِيرَانِ: التَّقسيمُ الآتي يُفيدُ مِنْ حيثُ تَرتيبُ إيصالِ الإحسانِ إلى الْجِيرانِ:
- الجارُ المسلمُ ذُو الرَّحِمِ: فهذا لهُ حقُّ الجوارِ والإسلامِ والقَرابةِ.
- الجارُ المسلمُ: فهذا لهُ حقُّ الْجِوارِ والإسلامِ.
- الجارُ غيرُ المسلِمِ: وهذا لهُ حقُّ الجوارِ، وذلكَ لعُمومِ النُّصوصِ، كما حَمَلَ ابنُ عمرَ الجارَ على عُمومِهِ، بحيثُ يَشْمَلُ المسلمَ وغيرَهُ؛ ولذلكَ لمَّا ذَبَحَ شاةً أَمَرَ أنْ يُهْدِيَ منها لجارِهِ اليَهُودِيِّ، وكما هوَ واضحٌ في قِصَّةِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معَ جارِهِ اليَهُودِيِّ.

إكرامُ الضَّيفِ:
(3) قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ))يَدُلُّ على أنَّ إكرامَ الضَّيفِ مِنْ خِصالِ الإيمانِ، ومِن العِباداتِ الَّتي يَتَقَرَّبُ بها العبدُ إلى رَبِّهِ عزَّ وجلَّ.
وهنا لا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الأمورِ الآتيَةِ:
1- حُكْمُ إكرامِ الضَّيفِ ومُدَّةُ الضِّيافةِ: ذَهَبَ بعضُ العُلماءِ إلى القولِ بوُجوبِ الضِّيافةِ، منهم أحمدُ واللَّيْثُ وابنُ حَزْمٍ والشَّوْكَانيُّ وغيرُهُم.
قالَ ابنُ حَزْمٍ في (المُحَلَّى): (لضِّيَافَةُ فَرْضٌ على الْبَدَوِيِّ والحَضَرِيِّ، والفقيهِ والجاهلِ: يَوْمٌ ولَيْلَةٌ مَبَرَّةٌ وَإِتْحَافٌ، ثُمَّ ثلاثةُ أيَّامٍ ضيافةً ولا مَزِيدَ، فإنْ زادَ فليسَ قِرَاهُ لازِمًا، وإنْ تَمَادَى على قِرَاهُ فحَسَنٌ، فإنْ مَنَعَ الضِّيافَةَ الواجبةَ فَلَهُ أَخْذُهَا مُغالَبَةً، وكيفَ أَمْكَنَهُ ويُقْضَى لَهُ بذلكَ).
وقالَ الشَّوكانِيُّ: (الحقُّ وُجوبُ الضِّيافَةِ، وقولُهُ: ((فَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ صَدَقَةٌ))، فإنَّهُ صريحٌ أنَّ ما قَبلَ ذلكَ غيرُ صَدَقةٍ، بلْ وَاجِبٌ شَرْعًا.

كما أنَّ في الحديثِ تَحْدِيدَ مُدَّةِ الضِّيافَةِ الواجبةِ، وهيَ ثلاثةُ أيَّامٍ فَقَطْ، ولا يَحِلُّ للضَّيفِ أنْ يُحْرِجَ أَخَاهُ بعدَ هذهِ الْمُدَّةِ إلاَّ إذا عَلِمَ طِيبَ نَفْسِ أَخيهِ لَهُ).
2- مِنْ آدابِ الضِّيافَةِ:إعدادُ الطَّعامِ لهُ، والتَّكلُّفُ وخاصَّةً في اليومِ الأوَّلِ، ولكنْ دُونَ إِسْرَافٍ وتَبذيرٍ؛ لأنَّا نُهِينَا عنْ ذلكَ. والَّذي يَشْهَدُ لِمَا قُلْنَا الآتي:

قالَ البخاريُّ في (صحيحِهِ): (بابُ صُنْعِ الطَّعامِ والتَّكلُّفِ للضَّيفِ) وذَكَرَ في البابِ حديثَ أبي جُحَيْفَةَ في قِصَّةِ سَلْمَانَ وأبي الدَّرداءِ.
ومَوْضِعُ الاستدلالِ فيهِ: (فجاءَ أبو الدَّرْدَاءِ فصَنَعَ لهُ طعامًا).

وكذلكَ: في قِصَّةِ الأنصارِيِّ أبي الهَيْثَمِ بنِ التَّيِّهانِ الَّتي يَرْوِيهَا مسلمٌ في(صحيحِهِ) عنْ أبي هُريرةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ قالَ: خرجَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذاتَ يومٍ أوْ ليلةٍ، فإذا هوَ بأبي بكرٍ وعمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما.
قالَ: ((مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السـَّاعَةَ؟))
قالاَ: الْجُوعُ يا رسولَ اللهِ.
قالَ: ((وَأَنَا وَالـَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأََخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا، قُومُوا)). فقامُوا مَعَهُ، فأتى رَجُلاً مِن الأنصارِ، فإذا هوَ ليسَ في بيتِهِ.
فلَمَّا رَأَتْهُ المرأةُ قالَتْ: مَرْحَبًا وأَهْلاً، فقالَ لها رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَيْنَ فُلاَنٌ))؟
قالَتْ: ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لنا مِن الماءِ.
إذْ جاءَ الأنصاريُّ، فنَظَرَ إلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصَاحِبَيْهِ، ثمَّ قالَ: الحمدُ للهِ، ما أَحَدٌ اليومَ أَكْرَمَ أَضيافًا مِنِّي.
قالَ: فانْطَلَقَ فجاءهُم بعِذْقٍ فيهِ بُسْرٌ ورُطَبٌ.
فقالَ: كُلُوا هذا، وأَخَذَ الْمُدْيَةَ، فقالَ لهُ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِيـَّاكَ وَالْحَلُوبَ)).
فذَبَحَ لَهُمْ فأَكَلُوا مِن الشَّاةِ، ومِنْ ذلكَ العِذْقِ، وشَرِبُوا.
فلمَّا أنْ شَبِعُوا وَرَوُوا، قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي بكرٍ وعمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ)).
فَإِقْرَارُ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأنصاريَّ على هذا دليلٌ على مَشروعيَّتِهِ.
وكذلكَ: في قِصَّةِ إبراهيمَ عليهِ السَّلامُ عندَما جاءَتْهُ الملائكةُ على صُورةِ شُبَّانٍ قامَ بضِيافَتِهِم على أَكْمَلِ وَجْهٍ، فصَنَعَ لهم عِجْلاً مَشْوِيًّا على الرَّضْفِ، وهيَ الحجارةُ الْمُحَمَّاةُ، قالَ اللهُ تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} وقالَ تعالى: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ}.

قالَ الحافظُ ابنُ كثيرٍ: (وهذهِ الآيَةُ انْتَظَمَتْ آدابَ الضِّيَافةِ؛ فإنَّهُ جاءَ بطَعامِهِ مِنْ حيثُ لا يَشْعُرُونَ بِسُرْعَةٍ، ولمْ يَمْتَنَّ عليهم أَوَّلاً فقالَ: نَأتيكـُمْ بِطَعامٍ؟
بلْ جاءَ بهِ بسُرعةٍ وخَفاءٍ، وأتى بأَفضلَ ما وَجَدَ مِنْ مَالِهِ، وهوَ عِجْلٌ فَتِيٌّ سَمينٌ مَشْوِيٌّ، فقَرَّبَهُ إليهِمْ، ولمْ يَضَعْهُ.

وقالَ: اقْتَرِبُوا، بلْ وَضَعَهُ بينَ أَيْدِيهِمْ، ولمْ يَأْمُرْهُم أمْرًا يَشُقُّ على سامعِهِ بصيغةِ الْجَزْمِ، بلْ قالَ: أَلاَ تَأْكُلُونَ؟
على سبيلِ العَرْضِ والتَّلطُّفِ.
كما يقولُ القائلُ اليومَ: إنْ رأيْتَ أنْ تَتَفَضَّلَ وتُحْسِنَ وتَتَصَدَّقَ فَافْعَلْ.
كما قامَ الخليلُ عليهِ السَّلامُ وزَوْجُهُ بخِدْمَتِهِم بنَفْسَيْهِما؛ لذلكَ عندَما بَوَّبَ البخاريُّ في صحيحِهِ قالَ: بابُ إكرامِ الضَّيفِ وخِدْمَتِهِ إيَّاهُ بنفسِهِ.
وقولُهُ تعالى: {ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} إلى آخرِهِ).
فوائدُ مِن الحديثِ:
1- الإسلامُ يَدْعو إلى كلِّ ما يُشيعُ الْمَحَبَّةَ والأُلْفَةَ بينَ أفرادِ المجتمَعِ الإِسلاميِّ.

2- الحديثُ يَدُلُّ على خُطورةِ الكَلِمَةِ؛ لأنَّ العبدَ قدْ يَتكلَّمُ بالكلمةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لا يُلْقِي لها بَالاً يَهْوِي بسببِهَا في النَّارِ سَبعينَ خَريفًا.
3- في الحديثِ الحثُّ على التَّخلُّقِ بِمَكارمِ الأخلاقِ، والبُعدِ عنْ سَيِّئِها.
4- كما فيهِ الحثُّ على حُسْنِ مُعاشَرَةِ الآخرينَ.


  #6  
قديم 6 ذو القعدة 1429هـ/4-11-2008م, 09:53 PM
نورة آل رشيد نورة آل رشيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,563
افتراضي جامع العلوم والحكم للحافظ : عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي

(1) هَذَا الحَدِيثُ خَرَّجَاهُ مِن طُرُقٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهَا: ((فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ)).

وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهَا: ((فَلْيُحْسِنْ قِرَى ضَيْفِهِ)).
وَفِي بَعْضِهَا: ((فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)) بَدَلَ ذِكْرِ الجَارِ.
- خرجاهُ أيضًا بِمَعْناهُ مِن حَدِيثِ أَبِي شُرَيحٍ الخُزَاعِيِّ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
- قَدْ رُوِيَ هَذَا الحَدِيثُ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ وابنِ مَسْعُودٍ، وعَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو، وأَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ، وابنِ عَبَّاسٍ، وغَيْرِهِم مِنَ الصَّحَابَةِ.

فقَوْلُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ)) فَلْيَفْعَلْ كَذَا وكَذَا، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الخِصَالَ مِنْ خِصَالِ الإِيمَانِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الأَعْمَالَ تَدْخُلُ فِي الإِيمَانِ، وَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإِيمَانَ بالصَّبْرِ والسَّمَاحَةِ، قَالَ الحَسَنُ: المُرَادُ: (الصَّبْرُ عَنِ المَعَاصِي، والسَّمَاحَةُ بالطَّاعَةِ).
وأَعْمَالُ الإِيمَانِ:
- تَارَةً تَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ اللهِ، كَأَدَاءِ الوَاجِبَاتِ وتَرْكِ المُحَرَّمَاتِ، ومِنْ ذلك قَوْلُ الخَيْرِ، والصَّمْتُ عَنْ غَيْرِه.

- وتَارَةً تَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ عِبَادِه، كإِكْرَامِ الضَّيْفِ، وإِكْرَامِ الجَارِ، والكَفِّ عن أَذَاهُ.
فهَذِهِ ثَلاَثَةُ أَشْيَاءَ يُؤْمَرُ بِهَا المُؤْمِنُ:
أَحَدُهَا: قَوْلُ الخَيْرِ والصَّمْتُ عَمَّا سِوَاهُ، وقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِن حَدِيثِ أَسْوَدَ بنِ أَصْرَمَ المُحَارِبِيِّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَوْصِنِي.
قَالَ: ((هَلْ تَمْلِكُ لِسَانَكَ؟)).
قُلْتُ: مَا أَمْلِكُ إِذَا لَمْ أَمْلِكْ لِسَانِي؟
قَالَ: ((فَهَلْ تَمْلِكُ يَدَكَ؟)).
قُلْتُ: فَمَا أَمْلِكُ إِذَا لَمْ أَمْلِكْ يَدِي؟

قَالَ: ((فَلاَ تَقُلْ بِلِسَانِكِ إِلاَّ مَعْرُوفًا، وَلاَ تَبْسُطْ يَدَكَ إِلاَّ إِلَى خَيْرٍ)).
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ اسْتِقَامَةَ اللِّسَانِ مِن خِصَالِ الإِيمَانِ،كَمَا فِي (المُسْنَدِ) عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((لاَ يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلاَ يَسْتَقَيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ)).

- وخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِن حَدِيثِ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((لاَ يَبْلُغُ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الإِيمَانِ حَتَّى يَخْزُنَ مِنْ لِسَانِهِ))وخرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِن حَدِيثِ مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:((إِنَّكَ لَنْ تَزَالَ سالِمًا مَا سَكَتَّ، فَإِذَا تَكَلَّمْتَ، كُتِبَ لَكَ أوْ عَلَيْكَ)).
- وفي (مُسْنَدِ) الإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ العَاصِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((مَنْ صَمَتَ نَجَا))
- وفي (الصَّحِيحَيْنِ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا، يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ)).
- وخرَّجَ الإمَامُ أَحْمَدُ، والتِّرْمِذِيُّ مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ لاَ يَرَى بِهَا بِأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ)).
- وفي (صَحِيحِ البُخَارِيِّ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوانِ اللهِ لاَ يُلْقِي لَهَا بَالاً يَرْفَعُهُ اللهُ بِهَا دَرَجاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لاَ يُلْقِي لَهَا بَالاً يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ)).
- وخَرَّجَ الإمَامُ أَحْمَدُ مِن حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بنِ سُحَيْمٍ، عَن أُمِّه، قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَدْنُو مِنَ الجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَها إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَتَكَلَّمَ بِالكَلِمَةِ، فَيَتَبَاعَدَ مِنْهَا أَبْعَدَ مِنْ صَنْعاءَ)).
- وخرَّجَ الإمَامُ أَحْمَدُ، والتِّرْمِذِيُّ، والنَّسَائِيُّ مِن حَدِيثِ بِلاَلِ بنِ الحَارِثِ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((إِنَّ أَحَدَكُم لَيَتَكلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوانِ اللهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبلُغَ مَا بَلَغَتْ فَيَكْتُبُ اللهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ، وَإِنَّ أَحَدَكُم لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبلُغَ مَا بَلَغَتْ فَيَكْتُبُ اللهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ)).
- وقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا سَبَقَ حَدِيثَ أُمِّ حَبِيبَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((كَلاَمُ ابنِ آدَمَ عَلَيْهِ لاَ لَهُ، إِلاَّ الأَمْرَ بِالمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ، وَذِكْرَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ)).
- فقولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)) أَمْرٌ بِقَوْلِ الخَيْرِ، وبالصَّمْتِ عَمَّا عَدَاهُ، وهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّه لَيْسَ هناك كَلاَمٌ يَسْتَوِي قولُه والصَّمْتُ عَنْهُ، بل إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَيْرًا، فيَكُونَ مَأْمُورًا بقَوْلِهِ، وإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ خَيْرٍ، فيَكُونَ مَأْمُورًا بالصَّمْتِ عنه، وحَدِيثُ مُعَاذٍ وأُمِّ حَبِيبَةَ يَدُلاَّنِ عَلَى هَذَا.
- وخرَّجَ ابنُ أَبِي الدُّنْيَا حَدِيثَ مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ، ولَفْظُه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: ((يَا مُعَاذُ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ وَهَلْ تَقُولُ شَيْئًا إِلاَّ وَهُوَ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ)).
- وقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق: 17-18] وَقَدْ أَجْمَعَ السَّلَفُ الصَّالِحُ عَلَى أَنَّ الذي عن يَمِينِهِ يَكتُبُ الحَسَنَاتِ، والذي عن شِمَالِهِ يَكْتُبُ السَّيِّئَاتِ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا مِن حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ بإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.
- وفِي (الصَّحِيحِ) عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا كَانَ أَحُدُكُم يُصَلِّي، فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ وَالمَلَكُ عَنْ يَمِينِهِ)).
- ورُوِيَ مِن حَدِيثِ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا: ((إِنَّ عَنْ يَمِينِهِ كَاتِبَ الحَسنَاتِ)).
واخْتَلَفُوا: هل يَكْتُبُ كُلَّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ، أو لاَ يَكْتُبُ إلاَّ مَا فيه ثَوَابٌ أو عِقَابٌ؟
عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ.
وقَالَ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَلْحَةَ، عن ابنِ عَبَّاسٍ: (يَكْتُبُ كُلَّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ مِن خَيْرٍ أو شَرٍّ حَتَّى إِنَّه ليَكْتُبُ قَوْلَه: أَكَلْتُ وشَرِبْتُ وذَهَبْتُ وجِئْتُ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الخَمِيسِ عُرِضَ قَوْلُه وعَمَلُه فأُقِرَّ مَا كَانَ فيه مِن خَيْرٍ أو شَرٍّ، وأُلْقِيَ سَائِرُهُ، فذلك قولُه تَعَالَى: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ ويُثْبِتُ وعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ}[الرعد: 39]).
وعَنْ يَحْيَى بنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: (رَكِبَ رَجُلٌ الحِمَارَ، فعَثَرَ بِهِ، فَقَالَ: تَعِسَ الحِمَارُ، فَقَالَ صَاحِبُ اليَمِينِ: مَا هِيَ حَسَنَةٌ أَكْتُبُهَا، وقَالَ صَاحِبُ الشِّمَالِ: مَا هِيَ سَيِّئَةٌ فأَكْتُبَهَا، فأَوْحَى اللهُ إِلَى صَاحِبِ الشِّمَالِ: مَا تَرَكَ صَاحِبُ اليَمِينِ مِن شَيْءٍ، فاكْتُبْهُ، فأَثْبَتَ فِي السَّيِّئَاتِ تَعِسَ الحِمَارُ).
وظَاهِرُ هَذَا أَنَّ مَا لَيْسَ بِحَسَنَةٍ، فهو سَيِّئَةٌ، وإِنْ كَانَ لاَ يُعَاقَبُ عَلَيْهَا؛ فَإِنَّ بَعْضَ السَّيِّئَاتِ قَدْ لاَ يُعَاقَبُ عَلَيْهَا، وَقَدْ تَقَعُ مُكَفَّرَةً باجْتِنَابِ الكَبَائِرِ، ولَكِنَّ زَمَانَهَا قَدْ خَسِرَهُ صَاحِبُهَا حَيْثُ ذَهَبَ بَاطِلاً، فيَحْصُلُ لَهُ بذَلِكَ حَسْرَةٌ في القِيَامَةِ وأَسَفٌ عَلَيْهِ، وهو نَوْعُ عُقُوبَةٍ.
وخرَّجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وأَبُو دَاوُدَ، والنَّسَائِيُّ مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لاَ يَذْكُرُونَ اللهَ فِيهِ، إِلاَّ قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ، وَكَانَ لَهُمْ حَسْرَةً)).
وخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ ولَفْظُه: ((مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللهَ فِيهِ، وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِم، إِلاَّ كَانَ عَلَيْهِم تِرَةً، فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُم، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ)).
وفي رِوَايَةٍ لأَِبِي دَاوُدَ والنَّسَائِيِّ: ((مَنْ قَعَدَ مَقْعَدًا لَمْ يَذْكُرِ اللهَ فِيهِ كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ اللهِ تِرَةٌ، وَمَنْ اضْطَجَعَ مُضْطَجَعًا لَمْ يَذْكُرِ اللهَ فِيهِ، كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ اللهِ تِرَةٌ)) زَادَ النَّسَائِيُّ: ((وَمَنْ قَامَ مَقَامًا لَمْ يَذْكُرِ اللهَ فِيهِ، كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ اللهِ تِرَةٌ)).
وخَرَّجَ أيضًا مِن حَدِيث ِ أَبِي سَعِيدٍ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((ما مِنْ قَوْمٍ يَجْلِسونَ مَجْلِسًا لاَ يَذْكُرُونَ اللهَ فِيهِ، إِلاَّ كَانَتْ عَلَيْهِم حَسْرَةٌ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَإِنْ دَخَلُوا الْجَنَّةَ)).
وقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا، فَتَفَرَّقُوا قَبْلَ أَنْ يَذْكُرُوا اللهَ، إلاَّ تَفَرَّقُوا عن أَنْتَنَ مِن رِيحِ الجِيفَةِ، وكَانَ مَجْلِسُهم يَشْهَدُ عَلَيْهِم بغَفْلَتِهِم، ومَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا، فَذَكَرُوا اللهَ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقُوا، إلاَّ تَفَرَّقُوا عَنْ أَطْيَبَ مِن رِيحِ المِسْكِ، وكَانَ مَجْلِسُهُم يَشْهَدُ لَهُم بذِكْرِهِم.
وقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: (يُعْرَضُ عَلَى ابنِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ سَاعَاتُ عُمُرِه، فَكُلُّ سَاعَةٍ لَمْ يَذْكُرِ اللهَ فِيهَا تَتَقَطَّعُ نَفْسُه عَلَيْهَا حَسَرَاتٍ).
وخَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: ((مَا مِنْ سَاعَةٍ تَمُرُّ بِابنِ آدَمَ لَمْ يَذْكُرِ اللهَ فِيهَا بِخَيْرٍ، إِلاَّ حَسِرَ عِنْدَها يَوْمَ القِيَامَةِ)).
فمِن هنا يُعْلَمُ أَنَّ مَا لَيْسَ بِخَيْرٍ مِنَ الكَلاَمِ، فالسُّكُوتُ عنه أَفْضَلُ مِن التَّكَلُّمِ بِهِ، اللهُمَّ إلاَّ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الحَاجَةُ مِمَّا لاَ بُدَّ منه.
وقَدْ رُوِيَ عنِ ابنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: (إِيَّاكُم وفُضُولَ الكَلاَمِ، حَسْبُ امْرِئٍ مَا بَلَغَ حَاجَتَهُ).
وعَن النَّخَعِيِّ، قَالَ: (يَهلِكُ النَّاسُ في فُضُولِ المَالِ والكَلاَمِ).
وأيضًا فإِنَّ الإِكْثَارَ مِن الكَلاَمِ الذي لاَ حَاجَةَ إِلَيْهِ يُوجِبُ قَسَاوَةَ القَلْبِ كَمَا فِي (التِّرْمِذِيِّ) مِن حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: ((لاَ تُكْثِرُوا الكَلاَمَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللهِ؛ فَإِنَّ كَثْرَةَ الكَلاَمِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللهِ يُقَسِّي القَلْبَ، وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ عَنِ اللهِ القَلْبُ القَاسِي)).
وقَالَ عُمَرُ: (مَنْ كَثُرَ كَلاَمُه كَثُرَ سَقَطُهُ، ومَنْ كَثُرَ سَقَطُه كَثُرَتْ ذُنوبُه، ومَن كَثُرَت ذُنوبُه كَانَت النَّارُ أَوْلَى بِهِ) وخَرَّجَهُ العُقَيْلِيُّ مِن حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا بإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.
وقَالَ مُحَمَّدُ بنُ عَجْلاَنَ: (إِنَّمَا الكَلاَمُ أَرْبَعَةٌ: أَنْ تَذْكُرَ اللهَ، وتَقْرَأَ القُرْآنَ، وتَسْأَلَ عن عِلْمٍ فتُخْبَرَ بِهِ، أو تَكَلَّمَ فيما يَعْنِيكَ مِن أَمْرِ دُنْيَاكَ).
وقَالَ رَجُلٌ لسَلْمَانَ: (أَوْصِنِي، قَالَ: لاَ تَكَلَّمْ.
قَالَ: مَا يَسْتَطِيعُ مَن عَاشَ فِي النَّاسِ أَنْ لاَ يَتَكَلَّمَ.
قَالَ: فَإِنْ تَكَلَّمْتَ، فتَكَلَّمْ بِحَقٍّ أو اسْكُتْ).

وكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَأْخُذُ بلِسَانِهِ ويَقُولُ: (هَذَا أَوْرَدَنِيَ المَوَارِدَ).
وقَال َ ابنُ مَسْعُودٍ: (واللهِ الذي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هو، مَا عَلَى الأَرْضِ أَحَقُّ بطُولِ سِجْنٍ مِنَ اللِّسانِ).

وقَالَ وَهْبُ بنُ مُنَبِّهٍ: (أَجَمَعَتِ الحُكَمَاءُ عَلَى أَنَّ رَأْسَ الحِكَمِ الصَّمْتُ).
وقَالَ شَمِيطُ بنُ عَجْلاَنَ: (يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ مَا سَكَتَّ، فَأَنْتَ سَالِمٌ، فَإِذَا تَكَلَّمْتَ، فَخُذْ حِذْرَكَ، إمَّا لَكَ وإمَّا عَلَيْكَ) وهَذَا بَابٌ يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُه.
والمَقْصُودُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بالكَلاَمِ بالخَيْرِ، والسُّكُوتِ عمَّا ليسَ بِخَيْرٍ، وخَرَّجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ مِن حَدِيثِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ أَنَّ رَجُلاً، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، عَلِّمْنِي عَمَلاً يُدْخِلُنِي الْجَنَّة، فَذَكَرَ الحَدِيثَ.
وفيه قَالَ: ((فَأَطْعِمِ الْجَائِعَ، وَاسْقِ الظَّمْآنَ، وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَإِنْ لَمْ تُطِقْ ذَلِكَ، فَكُفَّ لِسانَكَ إِلاَّ مِنْ خَيْرٍ)).
فَلَيْسَ الكَلاَمُ مَأْمُورًا بِهِ عَلَى الإِطْلاَقِ، وَلاَ السُّكُوتُ كَذَلِكَ، بَلْ لاَ بُدَّ مِنَ الكَلاَمِ بالْخَيْرِ والسُّكُوتِ عَنِ الشَّرِّ، وكَانَ السَّلَفُ كَثِيرًا يَمْدَحُونَ الصَّمْتَ عَنِ الشَّرِّ، وَعَمَّا لاَ يَعْنِي لِشِدَّتِه عَلَى النَّفْسِ، ولذَلِكَ يَقَعُ فِيهِ النَّاسُ كَثِيرًا، فكَانُوا يُعَالِجُونَ أَنْفُسَهُم، ويُجَاهِدُونَهَا عَلَى السُّكُوتِ عَمَّا لاَ يَعْنِيهِم.

قَالَ الفُضَيْلُ بنُ عِيَاضٍ: (ماحَجٌّ وَلاَ رِبَاطٌ وَلاَ جِهَادٌ أَشَدَّ مِنْ حَبْسِ اللِّسَانِ، وَلَوْ أَصْبَحْتَ يَهُمُّكَ لِسَانُكَ، أَصْبَحْتَ فِي غَمٍّ شَدِيدٍ، وقَالَ: سِجْنُ اللِّسَانِ سِجْنُ المُؤْمِنِ، ولو أَصْبَحْتَ يَهُمُّك لسَانُكَ، أَصْبَحْتَ فِي غَمٍّ شَدِيدٍ).
وسُئِلَ ابنُ المُبَارَكِ عَنْ قَوْلِ لُقْمَانَ لاِبْنِهِ: (إِنْ كَانَ الكَلاَمُ مِن فِضَّةٍ، فَإِنَّ الصَّمْتَ مِن ذَهَبٍ).

فَقَالَ: مَعْنَاهُ: (لو كَانَ الكَلاَمُ بطَاعَةِ اللهِ مِن فِضَّةٍ، فَإِنَّ الصَّمْتَ عن مَعْصِيَةِ اللهِ مِن ذَهَبٍ).
وهَذَا يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الكَفَّ عن المَعَاصِي أَفْضَلُ مِن عَمَلِ الطَّاعَاتِ، وَقَدْ سَبَقَ القَوْلُ فِي هَذَا مُسْتَوْفًى.
وتَذَاكَرُوا عِنْدَ الأَحْنَفِ بنِ قَيْسٍ، أيُّما أَفْضَلُ الصَّمْتُ أَوِ النُّطْقُ؟
فَقَالَ قَوْمٌ: (الصَّمْتُ أَفْضَلُ).

فَقَالَ الأَحْنَفُ: (النُّطْقُ أَفْضَلُ؛ لأَِنَّ فَضْلَ الصَّمْتِ لاَ يَعْدُو صَاحِبَه، والمَنْطِقَ الحَسَنَ يَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ سَمِعَه).
وقَالَ رَجُلٌ مِن العُلَمَاءِ عِنْدَ عُمَرَ بنِ عَبْدِ العَزِيزِ رَحِمَهُ اللهُ: (الصَّامِتُ عَلَى عِلْمٍ كالمُتَكِلِّمِ عَلَى عَلْمٍ).
فَقَالَ عُمَرُ: (إِنِّي لأََرْجُو أَنْ يَكُونَ المُتَكَلِّمُ عَلَى عِلْمٍ أَفْضَلَهُمَا يَوْمَ القِيَامَةِ حَالاً؛ وذَلِكَ أَنَّ مَنْفَعَتَهُ للنَّاسِ، وهَذَا صَمْتُه لنَفْسِهِ).
فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، وكَيْفَ بفِتْنَةِ المَنْطِقِ؟
فبَكَى عُمَرُ عِنْدَ ذَلِكَ بُكَاءً شَدِيدًا.
ولَقَدْ خَطَبَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ يَوْمًا فَرَقَّ النَّاسُ، وبَكَوْا، فقَطَعَ خُطْبَتَهُ، فَقِيلَ لُه: (لَو أَتْمَمْتَ كَلاَمَكَ رَجَوْنَا أَنْ يَنْفَعَ اللهُ بِهِ.
فَقَالَ عُمَرُ: (إِنَّ القَوْلَ فِتْنَةٌ والفِعْلَ أَوْلَى بالمُؤْمِنِ مِن القَوْلِ).
وكُنْتُ مِن مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ قَدْ رَأَيْتُ فِي المَنَامِ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ عُمَرَ بنَ عَبْدِ العَزِيزِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وسَمِعْتُه يَتَكَلَّمُ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ، وأَظُنُّ أَنَّي فَاوَضْتُه فِيهَا، وفَهِمْتُ مِن كَلاَمِه أَنَّ التَّكَلُّمَ بالْخَيْرِ أَفْضَلُ مِن السُّكُوتِ، وأَظُنُّ أَنَّه وَقَعَ في أَثْنَاءِ الكَلاَمِ ذِكْرُ سُلَيْمَانَ بنِ عَبْدِ المَلِكِ، وأَنَّ عُمَرَ قَالَ ذَلِكَ لَهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سُلَيْمَانَ بنِ عَبْدِ المَلِكِ أنَّه قَالَ: (الصَّمْتُ مَنَامُ العَقْلِ، والمَنْطِقُ يَقَظَتُهُ، وَلاَ يَتِمُّ حَالٌ إلاَّ بِحَالٍ) يَعْنِي: لاَ بُدَّ مِن الصَّمْتِ والكَلاَمِ.
ومَا أَحْسَنَ مَا قَالَ عُبَيْدُ اللهِ بنُ أَبِي جَعْفَرٍ فَقِيهُ أَهْلِ مِصْرَ فِي وَقْتِهِ، وكَانَ أَحَدَ الحُكَمَاءِ: (إِذَا كَانَ المَرْءُ يُحَدِّثُ فِي مَجْلِسٍ، فأَعْجَبَهُ الحَدِيثُ فلْيَسْكُتْ، وإِذَا كَانَ سَاكِتًا، فَأَعْجَبَهُ السُّكُوتُ، فلْيُحَدِّثْ، وهَذَا حَسَنٌ فَإِنَّ مَن كَانَ كَذَلِكَ، كَانَ سُكُوتُه وحَدِيثُه لمُخَالَفَةِ هَوَاهُ وإِعْجَابِهِ بنَفْسِهِ، ومَن كَانَ كَذَلِكَ، كَانَ جَدِيرًا بتَوْفِيقِ اللهِ إِيَّاهُ وتَسْدِيدِهِ فِي نُطْقِهِ وسُكُوتِهِ؛ لأَِنَّ كَلاَمَه وسُكُوتَه يَكُونُ للهِ عزَّ وجَلَّ).
وفِيمَرَاسِيلِالحَسَنِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّه عَزَّ وجَلَّ، قَالَ: ((عَلاَمَةُ الطُّهْرِ أَنْ يَكُونَ قَلْبُ العَبْدِ عِنْدِي مُعَلَّقًا، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَنْسَنِي عَلَى حَالٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ مَنَنْتُ عَلَيْهِ بِالاشْتِغَالِ بِي كَيْ لاَ يَنْسَانِي، فَإِذَا نَسِيَنِي، حَرَّكْتُ قَلْبَهُ، فَإِنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ لِي، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ لِي، فَذَلِكَ الَّذِي تَأْتِيهِ المَعُونَةُ مِنْ عِنْدِي)) خَرَّجَهُ إِبْرَاهِيمُ بنُ الجُنَيْدِ.
وبكُلِّ حَالٍ، فالْتِزَامُ الصَّمْتِ مُطْلَقًا، واعْتِقَادُه قُرْبَةً إِمَّا مُطْلَقًا، أو في بَعْضِ العِبَادَاتِ، كالحَجِّ والاعْتِكَافِ والصِّيَامِ مَنْهِيٌّ عنه.
ورُوِيَ مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَنَّه نَهَى عَن صِيَامِ الصَّمْتِ)).
وخَرَّجَ الإِسْمَاعِيلِيُّ مِن حَدِيثِ عَلِيٍّ، قَالَ: ((نَهَانَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّمْتِ فِي العُكُوفِ)).
وفِي (سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ) مِن حَدِيثِ عَلِيٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لاَ صُمَاتَ يَوْمٍ إِلَى اللَّيلِ)).

وقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لاِمْرَأَةٍ حَجَّتْ مُصْمَتَةً: (إِنَّ هَذَا لاَ يَحِلُّ، هَذَا مِن عَمَلِ الجَاهِلِيَّةِ).
ورُوِيَ عن عَلِيِّ بنِ الحُسَيْنِ زَيْنِ العَابِدِينَ أَنَّه قَالَ: (صَوْمُ الصَّمْتِ حَرَامٌ).
(2) الثَّانِي: مِمَّا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هَذَا الحَدِيثِ المُؤْمِنِينَ: إِكْرَامُ الجَارِ، وفي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: ((النَّهْيُ عَنْ أَذَى الْجَارِ)) فَأَمَّا أَذَى الجَارِ، فمُحَرَّمٌ؛ فَإِنَّ الأَذَى بغَيْرِ حَقٍّ مُحَرَّمٌ لكُلِّ أَحَدٍ، ولَكِنْ فِي حَقِّ الجَارِ هو أَشَدُّ تَحْرِيمًا.
وفي (الصَّحِيحَيْنِ) عنِ ابنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّه سُئِلَ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟
قَالَ: ((أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ))
قِيلَ: ثُمَّ أَيُّ؟
قَالَ: ((أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ))
قِيلَ: ثُمَّ أَيُّ؟
قَالَ: ((أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ)).
وفِي (مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ) عن المِقْدَادِ بنِ الأسْودِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا تَقُولُونَ فِي الزِّنَا؟))
قَالُوا: حَرَامٌ حَرَّمَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، فَهُوَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((لأََنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ))
قَالَ: ((فَمَا تَقُولُونَ فِي السَّرِقَةِ؟))
قَالُوا: حَرَّمَهَا اللهُ وَرَسُولُهُ، فَهِيَ حَرَامٌ.
قَالَ: ((لأََنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِنْ عَشْرَةِ أَبْياتٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ جَارِهِ)).
وفي (صَحِيحِ البُخَارِيِّ) عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ))
قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: ((مَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ)) وخَرَّجَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ وغَيْرُه مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وفِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ)، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهَ بَوَائِقَهُ)).
وخَرَّجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ، والحَاكِمُ مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ فُلاَنَةَ تُصَلِّيَ اللَّيْلَ، وَتَصُومُ النَّهَارَ وَفِي لِسَانِهَا شَيْءٌ تُؤْذِي جِيرَانَهَا سَلِيطَةً.
قَالَ: ((لاَ خَيْرَ فِيهَا، هِيَ فِي النَّارِ))
وقِيلَ لَهُ: إِنَّ فُلاَنَةَ تُصَلِّي المَكْتُوبَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَتَصَدَّقُ بِالأَثْوَارِ، وَلَيْسَ لَهَا شَيْءٌ غَيْرُهُ، وَلاَ تُؤْذِي أَحَدًا.
قَالَ: ((هِيَ فِي الْجَنَّةِ)).
ولَفْظُ الإِمَامِ أَحْمَدَ: ((ولاَ تُؤْذِي بِلِسَانِهَا جِيرَانَهَا)).
وخَرَّجَ الحَاكِمُ مِن حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو جَارَهُ، فَقَالَ لَهُ: ((اطْرَحْ مَتَاعَكَ فِي الطَّرِيقِ))
قَالَ: فَجَعَل النَّاسُ يَمُرُّونَ بِهِ فَيَلْعَنُونَهُ، فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يا رَسُولَ اللهِ، مَا لَقِيتُ مِن النَّاسِ؟
قَالَ: وَمَا لَقِيتَ مِنْهُم؟
قَالَ: يَلْعَنُونَنِي.
قَالَ: ((فَقَدْ لَعَنَكَ اللهُ قَبْلَ النَّاسِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنِّي لاَ أَعُودُ)). وخَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِمَعْنَاهُ مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ: ((فَقَدْ لَعَنَكَ اللهُ قَبْلَ النَّاسِ)).

وخَرَّجَ الخَرَائِطِيُّ مِن حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: دَخَلَتْ شَاةٌ لِجَارٍ لَنَا، فَأَخَذَتْ قُرْصَةً لَنَا، فَقُمْتُ إِلَيْهَا فَاجْتَذَبْتُهَا مِنْ بَيْنِ لَحْيَيْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّه لاَ قَلِيلَ مِنْ أَذَى الْجَارِ)).

وأَمَّا إِكْرَامُ الْجَارِ والإِحْسَانُ إِلَيْهِ، فمَأْمُورٌ بِهِ، وَقَدْ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشرِكُوا بِهِ شَيْئًا وبالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي القُرْبَى والْيَتَامَى والْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي القُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ والصَّاحِبِ بالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا}[النسَاء: 36]، فجَمَعَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ بَيْنَ ذِكْرِ حَقِّهِ عَلَى العَبْدِ وحُقُوقِ العِبَادِ عَلَى العَبْدِ أيضًا.
وجَعَلَ العِبَادَ الذِينَ أَمَرَ بالإِحْسَانِ إِلَيْهِم خَمْسَةَ أَنْوَاعٍ:
أَحَدُهَا: مَن بَيْنَه وبَيْنَ الإِنْسَانِ قَرَابَةٌ، وخَصَّ مِنْهُمُ الوَالِدَيْنِ بالذِّكْرِ؛ لاِمْتِيَازِهِمَا عَنْ سَائِرِ الأَقَارِبِ بِمَا لاَ يُشْرِكُونَهُمَا فِيهِ، فَإِنَّهُمَا كَانَا السَّبَبَ فِي وُجُودِ الوَلَدِ، وَلَهُمَا حَقُّ التَّرْبِيَةِ والتَّأْدِيبِ وغَيْرِ ذَلِكَ.

الثَّانِي: مَنْ هو ضَعِيفٌ مُحْتَاجٌ إِلَى الإِحْسَانِ، وهو نَوْعَانِ:
- مَن هو مُحْتَاجٌ لضَعْفِ بَدَنِهِ، وهو اليَتِيمُ .
- ومَن هو مُحْتَاجٌ لِقِلَّةِ مَالِهِ، وهو الْمِسْكِينُ.
والثَّالِثُ: مَنْ لَهُ حَقُّ القُرْبِ والمُخَالَطَةِ، وجَعَلَهُم ثَلاَثَةَ أَنْوَاعٍ: جَارٌ ذُو قُرْبَى، وجَارٌ جُنُبٌ، وصَاحِبٌ بالجَنْبِ.
وقَدْ اخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ فِي تَأْوِيلِ ذَلِك:
فمِنْهُم: مَن قَالَ: الْجَارُ ذُو القُرْبَى: الجَارُ الذي لَهُ قَرَابَةٌ، والجَارُ الجُنُبُ: الأَجْنَبِيّ.
ومِنْهُم: مَن أَدْخَلَ المَرْأَةَ في الجَارِ ذِي القُرْبَى
ومِنْهُم: مَن أَدْخَلَهَا فِي الجَارِ الجُنُب.
ومنهم : مَن أَدْخَلَ الرَّفِيقَ فِي السَّفَرِ فِي الجَارِ الجُنُبِ، وقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ كَانَ يَقُولُ في دُعَائِهِ: ((أَعُوذُ بِكَ مِنْ جَارِ السَّوْءِ فِي دَارِ الإِقَامَةِ؛ فَإِنَّ جَارَ البَادِيَةِ يَتَحَوَّلُ)).
ومِنْهُم : مَن قَالَ: الْجَارُ ذُو القُرْبَى: الْجَارُ المُسْلِمُ، والْجَارُ الْجُنُبُ: الكَافِرُ، وفِي (مُسْنَدِ البَزَّارِ)، مِن حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: ((الْجِيرَانُ ثَلاَثَةٌ: جَارٌ لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَدْنَى الْجِيرَانِ حَقًّا، وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ، وَجَارٌ لَهُ ثَلاَثَةُ حُقُوقٍ وَهُوَ أَفْضَلُ الْجِيرَانِ حَقًّا، فَأَمَّا الَّذِي لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ، فَجَارٌ مُشْرِكٌ، لاَ رَحِمَ لَهُ، لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ، وَأَمَّا الَّذِي لَهُ حقَّانِ، فجَارٌ مُسْلِمٌ، لَهُ حقُّ الإِسْلاَمِ وَحَقُّ الْجِوَارِ، وَأمَّا الَّذِي لَهُ ثَلاَثَةُ حُقُوقٍ، فَجَارٌ مُسْلِمٌ ذُو رَحِمٍ، لَهُ حَقُّ الإِسْلاَمِ، وَحَقُّ الْجِوَارِ، وَحَقُّ الرَّحِمِ)).
وقَدْ رُوِيَ هَذَا الحَدِيثُ مِن وُجُوهٍ أُخَرَ مُتَّصِلَةٍ ومُرْسَلَةٍ، وَلاَ تَخْلُو كُلُّها مِنْ مَقَالٍ.
وقِيلَ: الجَارُ ذُو القُرْبَى: هو القَرِيبُ الجِوَارِ المُلاَصِقُ، والجَارُ الجُنُبُ: البَعِيدُ الجِوَارِ.
وفي ((صَحِيحِ البُخَارِيِّ)) عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لِي جَارَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: ((إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا)).
وقَالَ طَائِفَةٌ مِن السَّلَفِ: (حَدُّ الجِوَارِ أَرْبَعُونَ دَارًا.

وقِيلَ: مُسْتَدَارُ أَرْبَعِينَ دَارًا مِن كُلِّ جَانِبٍ).

وفِي مَرَاسِيل ِالزُّهْرِيِّ:(أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو جَارًا لَهُ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ أَنْ يُنَادِيَ: ((أَلاَ إِنَّ أَرْبَعِينَ دَارًا جَارٌ)).
قَالَ الزُّهْرِيُّ: (أَرْبَعُونَ هَكَذَا، وأَرْبَعُونَ هَكَذَا، وأَرْبَعُونَ هَكَذَا، وأَرْبَعُونَ هَكَذَا، يَعْنِي: بَيْنَ يَدَيْهِ ومِن خَلْفِهِ، وعَنْ يَمِينِهِ، وعَنْ شِمَالِهِ).

وسُئِلَ الإِمَامُ أَحْمَدُ عَمَّن يَطْبُخُ قِدْرًا وهو في دَارِ السَّبِيلِ، ومَعَهُ في الدَّارِ نَحْوُ ثَلاَثِينَ أو أَرْبَعِينَ نَفْسًا: يَعْنِي أَنَّهُم سُكَّانٌ مَعَهُ فِي الدَّارِ، فَقَالَ: يَبْدَأُ بنَفْسِهِ، وبِمَن يَعُولُ، فَإِنْ فَضَلَ فَضْلٌ، أَعْطَى الأَقْرَبَ إِلَيْهِ، وكَيْفَ يُمْكِنُه أَنْ يُعْطِيَهُم كُلَّهُم؟

قِيلَ لَهُ: لَعَلَّ الذِي هو جَارُه يَتَهَاونُ بذَلِكَ القِدْرِ لَيْسَ لَهُ عِنْدَه مَوْقِعٌ؟ فَرَأَى أَنَّه لاَ يَبْعَثُ إِلَيْهِ.
وأَمَّا الصَّاحِبُ بالجَنْبِ: فَفَسَّرَه طَائِفَةٌ بالزَّوْجَةِ
وفَسَّرَهُ طَائِفَةٌ مِنْهُم ابنُ عَبَّاسٍ بالرَّفِيقِ فِي السَّفَرِ، وَلَمْ يُرِيدُوا إِخْرَاجَ الصَّاحِبِ المُلاَزِمِ في الحَضَرِ إِنَّمَا أَرَادُوا أَنَّ صُحْبَةَ السَّفَرِ تَكْفِي، فالصُّحْبَةُ الدَّائِمَةُ في الحَضَرِ أَوْلَى، ولهذا قَالَ سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ: (هو الرَّفِيقُ الصَّالِحُ).
وقَالَ زَيْدُ بنُ أَسْلَمَ: (هو جَلِيسُكَ في الحَضَرِ، ورَفِيقُكَ فِي السَّفَرِ، وقَالَ ابنُ زَيْدٍ: هو الرَّجُلُ يَعْتَرِيكَ ويُلِمُّ بِكَ لتَنْفَعَهُ).
وفِي (المُسْنَدِ) وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ العَاصِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ اللهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ)).

الرَّابِعُ: مَن هو وَارِدٌ عَلَى الإِنْسَانِ، غَيْرُ مُقِيمٍ عِنْدَه، وهو ابْنُ السَّبِيلِ: يَعْنِي المُسَافِرَ إِذَا وَرَدَ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ، وفَسَّرَهُ بَعْضُهم بالضَّيفِ، يَعْنِي بِهِ: ابنَ السَّبِيلِ إِذَا نَزَلَ ضَيْفًا عَلَى أَحَدٍ.

والخَامِسُ: مِلْكُ اليَمِينِ، وَقَدْ وَصَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِم كَثِيرًا وأَمَرَ بالإحْسَانِ إِلَيْهِم، ورُوِيَ أَنَّ آخِرَ مَا وَصَّى بِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ: ((الصَّلاَةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)) وأَدْخَلَ بَعْضُ السَّلَفِ فِي هَذِهِ الآيَةِ: مَا يَمْلِكُهُ الإِنْسَانُ مِن الحَيَوَانَاتِ والبَهَائِمِ.
ولْنَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي إِكْرَامِ الجَارِ، وفِي (الصَّحِيحَيْنِ) عَن عَائِشَةَ وابنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ)).
فَمِنْ أَنْوَاعِ الإِحْسَانِ إِلَى الجَارِ مُوَاسَاتُه عِنْدَ حَاجَتِهِ، وفِي (المُسْنَدِ) عَنْ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((لاَ يَشْبَعُ الْمُؤْمِنُ دُونَ جَارِهِ)) وخَرَّجَ الحَاكِمُ مِن حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((لَيْسَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَشْبَعُ وَجارُهُ جَائِعٌ)). وفي رِوَايَةٍ أُخْرَى، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَا آمَنَ مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ وَجَارُهُ طَاوِيًا)).
وفي (المُسْنَدِ) عن عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((أَوَّلُ خَصْمَيْنِ يَوْمَ القِيَامَةِ جَارَانِ)).
وفي كِتَابِ (الأَدَبِ)للبُخَارِيِّ عَنِ ابنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((كَمْ مِنْ جَارٍ مُتَعَلِّقٍ بِجَارِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، هَذَا أَغْلَقَ بَابَهُ دُونِي فَمَنَعَ مَعْرُوفَهُ)).

وخَرَّجَ الخَرَائِطِيُّ وغَيْرُه بإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ مِن حَدِيثِ عَطَاءٍ الخُرَاسَانِيِّ، عَن عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ أَغْلَقَ بابَهُ دُونَ جَارِه مَخَافةً عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُؤْمِنٍ، وَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ مَنْ لَمْ يَأْمنْ جَارُهُ بَوائِقَهُ.

أَتَدْرِي مَا حَقُّ الجَارِ؟
إِذَا اسْتَعَانَكَ أَعَنْتَهُ، وَإِذَا اسْتَقْرَضَكَ أَقْرَضْتَهُ، وَإِذَا افْتَقَرَ، عُدْتَ عَلَيْهِ، وَإِذَا مَرِضَ عُدْتَهُ، وِإِذَا أَصَابَهُ خَيْرٌ هَنَّأْتَهُ، وَإِذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ عَزَّيْتَهُ، وَإِذَا مَاتَ اتَّبَعْتَ جَنَازَتَهُ، وَلاَ تَسْتَطِلْ عَلَيْهِ بِالبِنَاءِ، فَتَحْجُبَ عَنْهُ الرِّيحَ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَلاَ تُؤْذِهِ بقُتَارِ رِيحِ قِدْرِكَ إِلاَّ أَنْ تَغْرِفَ لَهُ مِنْهَا، وَإِنْ اشْتَرَيْتَ فَاكِهَةً، فَأَهْدِ لَهُ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ، فَأَدْخِلْهَا سِرًّا، وَلاَ يَخْرُجُ بِهَا وَلَدُكَ لِيَغيظَ بِهَا وَلَدَهُ)) ورَفْعُ هَذَا الكَلاَمِ مُنْكَرٌ، ولَعَلَّه مِن تَفْسِيرِ عَطَاءٍ الخُرَاسَانِيِّ.
وَقَدْ رُوِيَ أيضًا عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ الحَسَنِ، عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: ((أَدْنَى حَقِّ الْجِوَارِ أَنْ لاَ تُؤْذِيَ جَارَكَ بِقُتَارِ قِدْرِكَ إِلاَّ أَنْ تَقْدَحَ لَهُ مِنْها)).

وفي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: ((أَوْصَانِي خَلِيلِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا طَبَخْتَ مَرَقًا، فَأَكْثِرْ مَاءَهُ، ثُمَّ انْظُرْ إِلَى أَهْلِ بَيْتِ جِيرَانِكَ، فَأَصِبْهُم مِنْهَا بِمَعْرُوفٍ)).

وفي رِوَايَةٍ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((يَا أَبَا ذَرٍّ إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً، فَأَكْثِرْ مَاءَهَا، وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ)).
وفِي (المُسْنَدِ) والتِّرْمِذِيِّ عن عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ العَاصِ أَنَّه ذَبَحَ شَاةً، فقَالَ: هَلْ أَهْدَيْتُم مِنْهَا لِجَارِنَا اليَهُودِيِّ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ؟

ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:((مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ)).
وفي (الصَّحِيحَيْنِ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((لاَ يَمْنَعَنَّ أَحَدُكُم جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ)) ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: (مَا لِي أَرَاكُم عَنْهَا مُعْرِضِينَ، واللهِ لأََرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُم).
ومَذْهَبُ الإِمَامِ أَحْمَدَ أنَّ الجَارَ يَلْزَمُه أَنْ يُمَكِّنَ جَارَهُ مِن وَضْعِ خَشَبِهِ عَلَى جِدَارِهِ إِذَا احْتَاجَ الجَارُ إِلَى ذَلِكَ ولَمْ يَضُرَّ بِجِدَارِهِ، لِهَذَا الحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وظَاهِرُ كَلاَمِه أنَّه يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُواسِيَه مِن فَضْلِ مَا عِنْدَه بِمَا لاَ يَضُرُّ بِهِ إِذَا عَلِمَ حَاجَتَهُ.


قَالَ المَرُّوذِيُّ: (قُلْتُ لأَِبِي عَبْدِ اللهِ: إِنِّي أَسْمَعُ السَّائِلَ فِي الطَّرِيقِ يَقُولُ: إِنِّي جَائِعٌ.
فَقَالَ: قَد يَصْدُقُ وَقَدْ يَكْذِبُ.
قُلْتُ: فإِذَا كَانَ لِي جَارٌ أَعْلَمُ أنَّه يَجُوعُ؟
قَالَ: تُوَاسِيهِ.
قُلْتُ: إِذَا كَانَ قُوتِي رَغِيفَيْنِ؟
قَالَ: تُطْعِمُهُ شَيْئًا.
ثُمَّ قَالَ: الذي جَاءَ فِي الحَدِيثِ إنَّما هو الجَارُ).
وقَالَ المَرُّوذِيُّ: (قُلْتُ لأَِبِي عَبْدِ اللهِ؟ الأَغْنِيَاءُ يَجِبُ عَلَيْهِمُ المُوَاسَاةُ؟



قَالَ: إِذَا كَانَ قَوْمٌ يَضَعُونَ شَيْئًا عَلَى شَيْءٍ كَيْفَ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِم.
قُلْتُ: إِذَا كَانَ للرَّجُلِ قَمِيصَانِ، أو قُلْتُ: جُبَّتانِ، يَجِبُ عَلَيْهِ المُوَاسَاةُ؟
قَالَ: إِذَا كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَكُونَ فَضْلاً).

وهَذَا نَصٌّ مِنْهُ فِي وُجُوبِ المُوَاسَاةِ مِن الفَاضِلِ، وَلَمْ يَخُصَّهُ بالجَارِ، ونَصُّه الأَوَّلُ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُ بالجَارِ.
وقَالَ في رِوَايَةِ ابنِ هَانِئٍ في السُّؤَّالِ يَكْذِبُونَ أَحَبُّ إِلَيْنَا لو صَدَقُوا مَا وَسِعَنا إلاَّ مُوَاسَاتُهُم، وهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ مُوَاسَاةِ الجَائِعِ مِنَ الجِيرَانِ، وغَيْرِهِم.
وفي (الصَّحِيحِ) عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((أَطْعِمُوا الجَائِعَ، وَعُودُوا المَريضَ، وَفُكُّوا العَانِيَ)).

وفي (المُسْنَدِ) و(صَحِيحِ الحَاكِمِ) عَن ابنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((أَيُّمَا أَهْلُ عَرَصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِم امْرُؤٌ جَائِعٌ، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ)).

ومَذْهَبُ أَحْمَدَ ومَالِكٍ أَنَّه يُمْنَعُ الجَارُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي خَاصِّ مِلْكِهِ بِمَا يَضُرُّ بِجَارِهِ، فيَجِبُ عندَهُما كَفُّ الأَذَى عَنِ الجَارِ بِمَنْعِ إِحْدَاثِ الانْتِفَاعِ المُضِرِّ بِهِ، ولو كَانَ المُنْتَفِعُ إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِخَاصِّ مِلْكِهِ، وَيَجِبُ عِنْدَ أَحْمَدَ أَنْ يَبْذُلَ لِجَارِهِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَلاَ ضَرَرَ عَلَيْهِ في بَذْلِهِ، وأَعْلَى مِنْ هَذَيْنِ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى أَذَى جَارِهِ، وَلاَ يُقَابِلَه بالأَذَى.

قَالَ الحَسَنُ: (لَيْسَ حُسْنُ الجِوَارِ كَفَّ الأَذَى، وَلَكِنَّ حُسْنَ الجِوَارِ احْتِمَالُ الأَذَى) ويُرْوَى مِن حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ يَرْفَعُه: ((إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الرَّجُلَ يَكُونُ لَهُ الْجَارُ يُؤْذِيهِ جِوَارُهُ، فَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُ حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا مَوْتٌ أَوْ ظَعْنٌ))خَرَّجَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ. وفي مَرَاسِيلِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الحُبُلِيِّ، أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو إِلَيْهِ جَارَه، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كُفَّ أَذَاكَ عَنْهُ، وَاصْبِرْ لأَِذَاهُ، فَكَفَى بِالْمَوْتِ مُفَرِّقًا)) خرَّجَه ابنُ أَبِي الدُّنْيَا.
(3)الثَّالِثُ: مِمَّا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المُؤْمِنِينَ: إِكْرَامُ الضَّيْفِ، والمُرَادُ إِحْسانُ ضِيَافَتِهِ.
وفي (الصَّحِيحَيْنِ) مِن حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ، قَالَ: أَبْصَرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَمِعَتْهُ أُذُنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ قَالَ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ والْيَوْمِ الآخِرِ، فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ))
قَالُوا: وَمَا جَائِزَتُه؟
قَالَ: ((يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ))

قَالَ: ((وَالضِّيَافَةُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ، وَمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَهُوَ صَدَقَةٌ)).
وخرَّجَ مُسْلِمٌ مِن حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ أيضًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((الضِّيَافَةُ ثَلاَثَةُ أيَّامٍ، وَجَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَمَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَثْوِيَ عِنْدَه حَتَّى يُؤَثِّمَهُ))
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَكَيْفَ يُؤَثِّمُهُ؟
قَالَ: ((يُقِيمُ عِنْدَهُ وَلاَ شَيْءَ لَهُ يَقْرِيهِ بِهِ)).
وخَرَّجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ مِن حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ)) قَالَهَا ثَلاَثًا.
قَالُوا: وَمَا كَرَامَةُ الضَّيْفِ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: ((ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا جَلَسَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ)).

فَفِي هَذِهِ الأَحَادِيثِ أَنَّ جَائِزَةَ الضَّيْفِ يَوْمٌ ولَيْلَةٌ، وأَنَّ الضِّيَافَةَ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ، فَفَرَّقَ بَيْنَ الجَائِزَةِ والضِّيَافَةِ، وأَكَّدَ الجَائِزَةَ، وَقَدْ وَرَدَ فِي تَأْكِيدِهَا أَحَادِيثُ أُخَرُ، فَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ المِقْدَامِ بنِ مَعْدِيكَرِبَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لَيْلَةُ الضَّيْفِ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، فَمَنْ أَصْبَحَ بِفِنائِهِ، فَهُوَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، إِنْ شَاءَ اقْتَضَى، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ)). وخَرَّجَه ابنُ ماجَةَ، ولَفْظُه: ((لَيْلَةُ الضَّيفِ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ)).

وخرَّجَ الإمامُ أَحْمَدُ، وأَبُو دَاوُدَ مِن حَدِيثِ المِقْدَامِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((أَيُّمَا رَجُلٍ أَضَافَ قَوْمًا، فَأَصْبَحَ الضَّيْفُ مَحْرُومًا، فَإِنَّ نَصْرَهُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ حَتَّى يَأْخُذَ بِقِرَى لَيْلَةٍ مِنْ زَرْعِهِ وَمالِهِ)).
وفي (الصَّحِيحَيْنِ) عَن عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ تَبْعَثُنَا، فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ لاَ يَقْرُونَا، فَمَا تَرَى؟
فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنْ نَزَلْتُم بِقَوْمٍ، فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي للضَّيْفِ، فَاقْبَلُوا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا، فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ)).
وخَرَّجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ والحَاكِمُ مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((أَيُّمَا ضَيْفٍ نَزَلَ بِقَوْمٍ، فَأَصْبَحَ الضَّيْفُ مَحْرُومًا، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِ قِرَاهُ، وَلاَ حَرَجَ عَلَيْهِ)).
وقَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ عَمْرٍو: (مَنْ لَمْ يَضِفْ، فَلَيْسَ مِن مُحَمَّدٍ، وَلاَ مِن إِبْرَاهِيمَ).
وقَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ الحَارِثِ بنِ جَزْءٍ: (مَن لَمْ يُكْرِمْ ضَيْفَه، فَلَيْسَ مِن مُحَمَّدٍ، وَلاَ مِن إِبْرَاهِيمَ).
وقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لِقَوْمٍ نَزَلَ عَلَيْهِم، فاسْتَضَافَهُم، فَلَمْ يُضَيِّفُوهُ، فَتَنَحَّى ونَزَلَ، فَدَعاَهُم إِلَى طَعَامِهِ، فَلْمِ يُجِيبُوهُ، فَقَالَ لَهُم: (لاَ تُنْزِلُونَ الضَّيْفَ وَلاَ تُجِيبُونَ الدَّعْوَةَ مَا أَنْتُم مِن الإِسْلاَمِ عَلَى شَيْءٍ).
فَعَرَفَهُ رَجُلٌ مِنْهُم، فَقَالَ لَهُ: انْزِلْ عَافَاكَ اللهُ.

قَالَ: (هَذَا شَرٌّ وشَرٌّ، لاَ تُنْزِلُونَ إلاَّ مَنْ تَعْرِفُونَ).


ورُوِيَ عن أَبِي الدَّرْدَاءِ نَحْوُ هَذِهِ القَضِيَّةِ إلاَّ أنَّه قَالَ لَهُم: (ماَ أَنْتُم مِنَ الدِّينِ إلاَّ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ، وأَشَارَ إِلَى هُدْبَةٍ فِي ثَوْبِهِ).



وهَذِهِ النُّصُوصُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الضِّيَافَةِ يَوْمًا ولَيْلَةً، وهو قَوْلُ اللَّيْثِ وأَحْمَدَ، وَقَالَ أَحْمَدُ: (لَهُ المُطَالَبَةُ بذَلِكَ إِذَا مَنَعَهُ؛ لأَِنَّه حَقٌّ لَهُ وَاجِبٌ) وهَلْ يَأْخُذُ بيَدِهِ مِن مَالِهِ إِذَا مَنَعَهُ، أو يَرْفَعُه إِلَى الحَاكِمِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ مَنْصُوصَتَيْنِ عَنْهُ.
وقَالَ حُمَيْدُ بنُ زَنْجُويَه: (لَيْلَةُ الضَّيْفِ وَاجِبَةٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ قِرَاهُ مِنْهُم قَهْرًا، إلاَّ أَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا في مَصَالِحِ المُسْلِمِينَ العَامَّةِ دُونَ مَصْلَحَةِ نَفْسِهِ).
وقَالَ اللَّيْثُ بنُ سَعْدٍ: (لو نَزَلَ الضَّيْفُ بالعَبْدِ أَضَافَهُ مِن المَالِ الذِي بيَدِهِ، وللضَّيْفِ أَنْ يَأْكُلَ وإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ سَيِّدَه أذِنَ له؛ لأَِنَّ الضِّيَافَةَ واجِبَةٌ). وهو قِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ؛ لأَِنَّه نَصَّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إِجَابَةُ دَعْوَةِ العَبْدِ المَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِن الصَّحَابَةِ أَنَّهُم أَجَابُوا دَعْوَةَ المَمْلُوكِ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيضًا، فإِذَا جَازَ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى طَعَامِهِ ابْتِدَاءً وجَازَ إِجَابَةُ دَعْوَتِهِ، فإِضَافَتُه لِمَن نَزَلَ بِهِ أَوْلَى.

ومَنَعَ مَالِكٌ، والشَّافِعِيُّ وغَيْرُهُما مِنْ دَعْوَةِ العَبْدِ المَأْذُونِ لَهُ بدُونِ إِذْنِ سَيِّدِهِ، ونَقَلَ عَلِيُّ بنُ سَعِيدٍ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الضِّيَافَةِ للغُزَاةِ خَاصَّةً بِمَن مَرُّوا بِهِم ثَلاَثَةَ أيَّامٍ، والمَشْهُورُ عنه الأَوَّلُ، وهو وُجُوبُهَا لكُلِّ ضَيْفٍ نَزَلَ بقَوْمٍ.

واخْتَلَفَ قَوْلُه : هَلْ تَجِبُ عَلَى أَهْلِ الأَمْصَارِ والقُرَى، أَمْ تَخْتَصُّ بأَهْلِ القُرَى، ومَنْ كَانَ عَلَى طَرِيقٍ يَمُرُّ بِهِ المُسَافِرُونَ؟
عَلَى رِوَايَتَيْنِ مَنْصُوصَتَيْنِ عَنْهُ.
والمَنْصُوصُ عَنْهُ: أَنَّهَا تَجِبُ للمُسْلِمِ والكَافِرِ،وخَصَّ كَثِيرٌ مِن أَصْحَابِهِ الوُجُوبَ للمُسْلِمِ، كَمَا لاَ تَجِبُ نَفَقَةُ الأَقَارِبِ مَعَ اخْتِلاَفِ الدِّينِ عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.
وأَمَّا اليَوْمَانِ الآخَرَانِ، وهُمَا الثَّانِي والثَّالِثُ، فَهُمَا تَمَامُ الضِّيَافَةِ، والمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أنَّه لاَ يَجِبُ إِلاَّ الجَائِزَةُ الأُولَى، وقَالَ: (قَدْ فُرِّقَ بَيْنَ الجَائِزَةِ والضِّيَافَةِ، والجَائِزَةُ أَوْكَدُ) ومِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَوْجَبَ الضِّيَافَةَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ: منهم أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ العَزِيزِ، وابنُ أَبِي مُوسَى، والآمِدِيُّ، ومَا بَعْدَ الثَّلاَثِ، فهو صَدَقَةٌ، وظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الضِّيَافَةَ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَ اليَوْمِ واللَّيْلَةِ الأُولَى، ورَدَّه أَحْمَدُ بقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الضِّيافَةُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا زَادَ فَهُوَ صَدَقَةٌ)) ولو كَانَ كَمَا ظَنَّ هَذَا، لكَانَ أَرْبَعَةً.
قُلْتُ: ونَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تعَالَى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْواتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ}[فصلت: 9-10]. والمُرَادُ: فِي تَمَامِ الأَرْبَعَةِ.

وهذا الحَدِيثُ الذي احْتَجَّ به أَحْمَدُ قَدْ تَقَدَّمَ مِن حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ، وخَرَّجَه البُخَارِيُّ مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، فَلْيُحْسِنْ قِرَى ضَيْفِهِ)).


قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ومَا قِرَى الضَّيْفِ؟
قَالَ: ((ثَلاَثٌ، فَمَا كَانَ بَعْدُ، فَهُوَ صَدَقَةٌ)).
قَالَ حُمَيْدُ بنُ زَنْجُويَه: (عَلَيْهِ أَنْ يَتَكَلَّفَ لَهُ فِي اليَوْمِ واللَّيْلَةِ مِنَ الطَّعَامِ أَطْيَبَ مَا يَأْكُلُه هو وعِيَالُه، وفي تَمَامِ الثَّلاَثِ يُطْعِمُه مِن طَعَامِهِ) وفِي هَذَا نَظَرٌ، وسَنَذْكُرُ حَدِيثَ سَلْمَانَ بالنَّهْيِ عَنِ التَّكلُّفِ للضَّيْفِ، ونَقَلَ أَشْهَبُ عن مَالِكٍ، قَالَ: (جَائِزَتُه يَوْمٌ ولَيْلَةٌ يُكْرِمُه ويُتْحِفُه ويَخُصُّه يَوْمًا ولَيْلَةً وثَلاَثَةَ أيَّامٍ ضِيَافَةً).
وكَانَ ابنُ عُمَرَ يَمْتَنِعُ مِن الأَكْلِ مِنْ مَالِ مَنْ نَزَلَ عَلَيْهِ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، ويَأْمُرُ أَنْ يُنْفَقَ عَلَيْهِ مِن مَالِهِ. ولصَاحِبِ المَنْزِلِ أَنْ يَأُمُرَ الضَّيْفَ بالتَّحَوُّلِ عنه بَعْدَ الثَّلاَثِ؛ لأَِنَّه قَضَى مَا عَلَيْهِ، وفَعَلَ ذَلِكَ الإِمَامُ أَحْمَدُ.
وقَوْلُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَثوِيَ عِنْدَهُ حَتَّى يُحْرِجَهُ))يَعْنِي: يُقِيمُ عِنْدَه حَتَّى يُضَيِّقَ عَلَيْهِ، لَكِنْ هَلْ هَذَا فِي الأَيَّامِ الثَّلاَثَةِ أم فيما زَادَ عَلَيْهَا؟
فَأَمَّا فِيمَا لَيْسَ بوَاجِبٍ، فَلاَ شَكَّ فِي تَحْرِيمِهِ، وأَمَّا في مَا هو واجِبٌ وهو اليَوْمُ واللَّيْلَةُ فيَنْبَنِي عَلَى أَنَّه هَلْ تَجِبُ الضِّيَافَةُ عَلَى مَن لاَ يَجِدُ شَيْئًا أم لاَ تَجِبُ إلاَّ عَلَى مَن وَجَدَ مَا يَضِيفُ بِهِ؟
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا لاَ تَجِبُ إِلاَّ عَلَى مَن يَجِدُ ما يَضِيفُ بِهِ -وهو قَوْلُ طَائِفَةٍ مِن أَهْلِ الحَدِيثِ، مِنهُم حُمَيدُ بنُ زَنْجُويَه- لَمْ يَحِلَّ للضَّيْفِ أَنْ يَسْتَضِيفَ مَن هُوَ عَاجِزٌ عَن ضِيَافَتِهِ.
وقَدْ رُوِيَ مِن حَدِيثِ سَلْمَانَ، قَالَ: ((نَهَانَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَتَكَلَّفَ لِلضَّيْفِ مَا لَيْسَ عِنْدَنَا)) فَإِذَا نُهِيَ المَضِيفُ أَنْ يَتَكَلَّفَ للضَّيْفِ مَا لَيْسَ عِنْدَه دَلَّ عَلَى أَنَّه لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ المُوَاسَاةُ للضَّيْفِ إلاَّ مِمَّا عِنْدَه، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَه فَضْلٌ لَمْ يَلْزَمْه شَيْءٌ، وَأَمَّا إِذَا آثَرَ عَلَى نَفْسِهِ، كَمَا فَعَلَ الأَنْصَارِيُّ الذِي نَزَلَ فيه: {ويُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}[الحشر: 9] فذَلِكَ مَقَامُ فَضْلٍ وإِحْسَانٍ، ولَيْسَ بوَاجِبٍ.
ولو عَلِمَ الضَّيْفُ أَنَّهُم لاَ يَضِيفُونَه إِلاَّ بقُوتِهِم وقُوتِ صِبْيَانِهِم، وَأَنَّ الصِّبْيَةَ يَتَأَذَّوْنَ بذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ لَهُ اسْتِضَافَتُهم حِينَئذٍ عَمَلاً بقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهُ حَتَّى يُحْرِجَهُ)).





وأيضًا فالضِّيَافَةُ نَفَقَةٌ وَاجِبَةٌ، فَلاَ تَجِبُ إِلاَّ عَلَى مَنْ عندَه فَضْلٌ عَن قُوتِهِ وقُوتِ عِيَالِهِ، كنَفَقَةِ الأَقَارِبِ، وزَكَاةِ الفِطْرِ.

وَقَدْ أَنْكَرَ الخَطَّابِيُّ تَفْسِيرَ تَأْثِيمِهِ بأَنْ يُقِيمَ عِنْدَه وَلاَ شَيْءَ لَهُ يَقْرِيهِ، وَقَالَ: (أُرَاهُ غَلَطًا، وكَيْفَ يَأْثَمُ في ذَلِكَ وهو لاَ يَتَّسِعُ لِقرَاهُ، وَلاَ يَجِدُ سَبِيلاً إِلَيْهِ؟ وإِنَّما الكُلْفَةُ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ).


قَالَ: (وإِنَّمَا وَجْهُ الحَدِيثِ أَنَّه كَرِهَ له المُقَامَ عِنْدَه بَعْدَ ثَلاَثٍ؛ لِئَلاَّ يَضِيقَ صَدْرُه بِمَكَانِهِ، فتَكُونَ الصَّدَقَةُ منه عَلَى وَجْهِ المَنِّ والأَذَى فَيَبْطُلَ أجْرُه) وهَذَا الذِي قَالَهُ فيه نَظَرٌ، فَإِنَّه قَدْ صَحَّ تَفْسِيرُه في الحَدِيثِ بِمَا أَنْكَرَهُ، وَإِنَّمَا وجْهُهُ أَنَّه إِذَا أَقَامَ عِنْدَه وَلاَ شَيْءَ لَهُ يَقْرِيهِ بِهِ، فَرُبَّمَا دَعَاهُ ضِيقُ صَدْرِهِ بِهِ، وحَرَجُه إِلَى مَا يَأْثَمُ به فِي قَوْلٍ، أو فِعْلٍ، ولَيْسَ المُرَادُ أَنَّهُ يَأْثَمُ بتَرْكِ قِرَاهُ مَعَ عَجْزِه عَنْهُ، واللهُ أَعْلَمُ.


  #7  
قديم 28 ذو القعدة 1429هـ/26-11-2008م, 11:25 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post شرح معالي الشيخ : صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ(مفرغ)



القارئ:

(وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقُلْ خيراً أو ليصْمُت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) رواه البخاري ومسلم).
الشيخ:
هذا الحديث أدب من الآداب العظيمة، وهو صِنْوُ حديث: ((من حسن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه)) من جهة أنه أصلٌ في الآداب العامّة، وهذا الحديث دلَّ على أنّ من صفات المؤمن بالله وباليوم الآخر، الذي يخاف الله ويتقيه، ويخافُ ما يحصلُ له في اليوم الآخر، ويرجو أن يكون ناجياً في اليوم الآخر، أنَّ من صفاته:
- أنه يقول الخير أو يصمت.
- ومن صفاته أنه يكرم الجار.
- ومن صفاته أنهُ يُكرم الضيف، هذا بعموم ما دل عليه الحديث.
الحديث دلَّ على أنَّ الحقوق منقسمة إلى:
- حقوقٍ لله.
- وحقوقٍ للعباد.
وحقوقُ الله جل وعلا:مدارها على مراقبته، ومراقبةُ الحق -جل وعلا- أعْسَرُ شيءٍ أن تكون في اللسان، ولهذا نبَّه بقوله: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)) على حقوق الله -جل وعلا- والتي من أَعْسَرها من حيث العمل والتطبيق حفظُ اللسان.
وهنا أمرهُ بأن يقول خيراً أو أن يصمت، فَدلّ على أَنّ الصَّمتَ متراخٍ في المرتبة عن قول الخير؛لأنه ابتدأ الأمر بقول الخير فقال: ((فليقل خيراً)) فهذا هو الاختيار، هو المقدم، أنْ يسعى في أن يقول الخير.
والمرتبة الثانية: أنه إذا لم يجد خيراً يقوله أن يختار الصَّمت.
وهذا لأنّ الإنسان محاسبٌ على ما يتكلمُ به وقد قال -جل وعلا-
{لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاحٍ بين الناس}.
فهذا الحديث فيه: ((فليقل خيراً)) وعلَّق هذا بالإيمان بالله، واليوم الآخر، وقول الخير متعلق بالثلاثة التي في آية النساء قال: {إلا من أمر بصدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاحٍ بين الناس}.
- فالصدقة واضحة.
- والإصلاح أيضا واضح.
- والمعروف هو ما عُرِفَ حُسْنهُ في الشريعة.
ويدخل في ذلك:
- جميع الأمر بالواجبات والمستحبات.
- وجميع النهي عن المحرمات والمكروهات.
- وتعليم العلم.
- والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى آخره.

فإذاً قوله عليه الصلاة والسلام: ((فليقُلْ خيراً)) يعني:
- فليقل أمراً بالصدقة.
- فليقل أمراً بالمعروف.
- فليقل بما فيه إصلاح بين الناس.
وغيرُ هذه ليس فيها خير، وقد تكون من المباحة، وقد تكون من المكروهة، وإذا كان كذلك فالاختيار أن يصْمُت، وخاصَّةً إذا كان في ذلك إحداث لإصلاح ذات البين، يعني أن يكون ما بينه، وبين الناس صالحاً على جهة الاستقامة بين المؤمنين الإخوة، قال عليه الصلاة والسلام هنا: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصْمُت)) يعني أن حفظ اللسان من الفضول بقول الخير، أو بالصمت، إن لم تجد خيراً، أنّ هذا من علامات الإيمان بالله واليوم الآخر.
لأن أشدَّ شيءٍ على الإنسان أن يحفظه لسانهُ، لهذا جاء في حديث معاذ المعروف: أنه سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قال له -عليه الصلاة والسلام-: وكفَّ عليك هذا، فاستعجب معاذ، فقال: يارسول الله! أوإنّا مؤاخذون بما نقول؟!

قال: ((ثكلتك أمّك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على مناخرهم أو قال على وجوههم إلا حصائدُ ألسنتهم)) فدلَّ على أن اللسان خطير تحركه، إذا لم يكن تحركهُ في خير، فإنه عليك لا لَكَ، والتوسع في الكلام المباح قد يؤدي إلى الاستئناس لكلامٍ مكروه، أو كلام محرمٍ، كما هو مجرَّب واقع.
فإن الذين توسعوا في الكلام، وأكثروا منه في غير الثلاثة المذكورة في الآية جرَّهم ذلك إلى أن يدخلوا في أمورٍ محرّمة، من:
- غيبة.
- أو نميمة.
- أو بهتان.
- أو مداهنة.
- أو ما أشبه ذلك مما لا يُحمد.
فإذاً الإيمان بالله واليوم الآخر يحضُّ على حفظ اللسان، وفي حفظ اللسان الإشارة لحفظ جميع الجوارح الأخر؛ لأنّ حفظ اللسان أشدُّ ذلك، وقد جاء في الحديث الصحيح، أنّ النبي
-عليه الصلاة والسلام- قال: ((من ضَمِنَ لي ما بين لحييه وما بين فَخِذَيه ضَمنْتُ له الجنة)).
ثم قال عليه الصلاة والسلام: ((ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُكرم جاره)) وإكرام الجار يعني: أن يكون معه على صفة الكرم، والكَرم هو: اجتماع الصفات المحمودة التي يحسنُ اجتماعها في الشيء، فيقال: هذا كريم؛ لأنه ذو صفات محمودة.. وفي أسماء الله -جل وعلا- (الكريم) والكريم في أسماء الله -جل وعلا- هو الذي تفرّد بصفات الكمال، والأسماء الحُسنى، فاجتمع له -جل وعلا-:
- الحُسْن الأعظم في الأسماء.
- والعلو في الصفات.
- والحكمة في الأفعال جلا وعلا.
فالكريم في اللغة: من فاق جنسَهُ في صفات الكمال.
فالإكرام هو: أن تسعى في تحقُّقِ صفات الكمال أو في تحقيقها.
فإكرام الجار: أن تسعى في تحقيق صفات الكمال التي تتطلبُها المجورة.
وإكرام الضيف: أن تسعى في تحقيق صفات الكمال التي تتطلبُها الضيافة.
وقوله: ((فليُكْرِم جاره)) على هذا يدخل فيه:
- إكرام الجار بالألفاظ الحسنة.
- إكرام الجار بحفظ الجار في أهله.
- حفظ الجار في عِرْضِه.
- في الاطلاع على مسْكَنهِ.
- ويدخل فيه هذا حفظُ الجار في أداء الحقوق العامة له في الجدار الذي بينهما.
- أو النوافذ التي تُطلُّ على الجار.
- أو في موقف السيارات مثلاً.
- أو في اعتداء الأطفال.
- أو ما أشبه ذلك.
فيدخُل هذا جميعاً في إكرام الجار، ويدخل فيه أيضاً أن يكرِم الجار في المطعم والملبس وأشباه ذلك، يعني أنه إذا كان عنده طعام فإنه يُطعم جارهُ منه، وقد كان عليه الصلاة والسلام رُبَّما طُهيَ في بيته بعض اللحم فقال: ((أرسلوا لجارنا اليهودي من مرقة هذا اللحم)) وهذا في حق الجار الكافر.
ولهذا رأى طائفة من أهل العلم، كأحمدَ في رواية وكغيره: (أنَّ إكرام الجار في هذا الحديث عام، يدخل فيه إكرام الجار المسلم، وإكرام الجار الكافر).
وإكرام الجار المسلم له حقَّان:
- لإسلامه.
- ولجواره.
فإذاً إكرام الجار كلمة عامَّة يدخل فيها:

- أداء ما له من الحقوق.
- وكف الأذى عنه.
- وبسط اليد له بالطعام وما يحتاجه.

وهذا أيضاً مع قول الله -جل وعلا-: {الذين هم يراءون ويمنعون الماعون} والماعون هو ما يُحتاج إليه في الإعارة، {ويمنعون الماعون} يعني: يمنعون ما يحتاجُ إليه المسلمون في الإعارة، فإذا احتاج جارك إلى أن تعيره شيئاً من أدوات الطهي، أو شيئاً من أدوات المنزل، أو من الأثاث، أو ما أشبه ذلك؛ فإن من إكرامه أن تُعْطِيهُ ذلك.
أمَّا إذا كان يتعدّى على أشيائك، ويتلف المال؛ فهذا لا يكون له الحق في إكرامه بذلك؛ لأنه مظنّة التعدي.
الجار هنا قسمان:
- جارٌ قرِيب.
- وجارٌ بعيد.
وفي القسمين جاء قول الله -جل وعلا- في سورة النساء: {والجارِ ذي القُربى والجارِ الجنُبِ والصاحب بالجَنْبِ} فقوله: {والجار ذي القربي} فسرت بتفسيرين:
الأول: أن الجار ذا القُربى هو من له جِوارٌ وقرابة، فقدمهُ على الجار الجُنب يعني الذي ليس له قرابة.
التفسير الثاني: أن الجار ذا القربى في قوله: {والجار ذي القُربى} أنه الجار القريب، و{الجار الجُنب} أنه الجار البعيد، لأنَّ كلمة جُنُب في اللغة: تعني البعيد، ومنه سميِّت الجنابة جنابة، وفلان جُنُب لأنه من البُعد، فدلّ هذا على أنّ إكرام الجار يدخل فيه الجار القريب، والجار البعيد.
ما حدُّ الجار البعيد؟
بعضهم حده بسبعة بيوت بعضهم حده بأربعين بيتاً من يمين، وشمال، وأمام، وخلف.
وهذه كلها تقديرات لم يصح فيها شيء عن المصطفى -عليه الصلاة والسلام- وهذا محكومٌ بالعرف، فما كان فيه العُرْف أنه قريب فهو قريب، وما كان فيه العرْف أنه جارٌ بعيد؛ فيدخل في ذلك، وهذا يتنوع بتنوع البلاد والأعراف.
قال: ((ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلْيُكرم ضيفهُ)) إكرام الضيف أن تبذلَ للضيف من الصفات المحمودة ما به يحصل له الحق
والصفات المحمودة التي تُعطى للضيف:

- بَشَاشةُ الوجه.

- وانطلاق الأسارير.
- والكرم باللسان.
يعني أن يُضاف بألفاظٍ حسنة، من إكرام الضيف:
- أن تطعمهُ وهو المقصود، لأنّ الأضياف يحتاجون لذلك، وقوله هنا: ((فلْيكرم جاره))((فلْيكرم ضيفه))((فلْيقل خيراً)) كلها أوامر وهي على الوجوب، وإكرام الضيف واجب كما دلَّ عليه الحديث بإطعامه، وهذا فيه تفصيل، وهو أنَّه يجبُ أن يُضاف الضيف بالإطعام يوماً وليلة، كما جاء في الحديث: أنها جائزة الضيف، يوم وليلة وتمامُ الضيافة ثلاثة أيام بلياليها، يعني يومين بعد اليوم والليلة الأولى، فيجب أن تكرِم الضيف بأن تُعْطيهُ ما يحتاجهُ.
قال العلماء: (هذا في حق أهل القُرى الذين ليس ثَمَّ مكان يُمكن الضيف أن يسْتأجِرَ له، أما في المُدن الكبار التي يوجد فيها الخان، ويوجد فيها الدور التي تؤجر، فإنَّهُ لا تجب الضيَافة لأنهُ لا يضيع مع ذلك، إلا إذا كان محتاجاً لها، ولا مكان له يُؤويه؛ فإنَّهُ يجب على الكفاية من يُعطيه كفايته، وأن يُضيفَه يوماً وليلة، وتمام الثلاثة مُستحب، أمّا مثل الآن في مُدُننِا الكبار هذه فإنها لا تجب، وإنما تُستحب في القُرى، وفي الأطراف، وأهل الخيام، ونحو ذلك، إذا نَزَل بهم الأضياف فإنه يجبُ عليه أن يقريهم يوماً وليلة، وتمام الضيافة ثلاثة أيام بلياليها).
إذا تقرر هذا فما الذي يقدِّمه؟
الذي يقدمه للضيف ما تيسر لهُ، يعني ما يَطْعمهُ هو وأهله، ولا يجب عليه أن يتكلَّف له في ذبح، أو تكلُّف طعامٍ كثير، أو ما أشبه ذلك، فالذي يجب: ما يطعمه به ويسدُّ عوزة هذا الضيف، أو يسدُّ جوعه، من الطعام المعتاد الذي يأكُلهُ، وقد جاء في الأثر: أنَّ قوماً من أهل الكتاب أرسلوا لعمر بن الخطاب، فقالوا له: إن المسلمين إذا مرُّوا بنا كلّفونا ذبح الدجاج لهم، وإنَّ هذا لا نُطيقه.
فأرسل إليهم عمر بما حاصله: (أنْ أطعموهم ممّا تأكلون ولا تتكلفوا لهم).
وهذا ظاهر من حيث الأصول في أنّ الإكرام لا يعني التكلف، وهذا الوجوب في حق من عنده فضلٌ في ماله يفيض ويزيدُ عن حاجته الضرورية، وحاجة من يمونه، أمَّا إذا كان محتاجاً هو ومن يمونه لهذا الطعام؛ فإنّ من يمونهُ أولى من الضيف في الشرع.


  #8  
قديم 28 ذو القعدة 1429هـ/26-11-2008م, 11:34 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post الكشاف التحليلي

حديث أبي هريرة - مرفوعاً -:(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا...)
تخريج الحديث
موضوع الحديث
منزلة الحديث
المعنى الإجمالي للحديث
الآداب التي تضمنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه
الأدب الأول: الصمت
الأدب الثاني: إكرام الجار
الأدب الثالث: إكرام الضيف
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر...)
هذا السياق يدل على أن هذه الخصال من الإيمان
أقسام أعمال الإيمان باعتبار تعلقها:
القسم الأول: أعمال تَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ اللهِ، كَأَدَاءِ الفرائض وتَرْكِ المُحَرَّمَاتِ
القسم الثاني: أعمال تَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ عِبَادِه كإِكْرَامِ الضَّيْفِ والجَارِ
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (فليقل خيراً أو ليصمت)
الأمر في الحديث للوجوب
معنى التخيير بين قول الخير والصمت
في قوله: (فليقل خيراً أو ليصمت) تنبيه إلى حق الله تعالى
استقامة اللسان من خصال الإيمان
ذكر بعض النصوص في حفظ اللسان
ذكر بعض أقوال السلف في حفظ اللسان وفضل الصمت
معنى ما روي عن لقمان: (إذا كان الكلام من فضة فالصمت من ذهب)
ذم الكلام فيما لا ينفع
حفظ اللسان يعين على حفظ الجوارح
حكم التزام الصمت مطلقاً واعتقاده قربة
أنواع الكلام المحمود
كتابة الملكين لما يلفظ به المكلف
الإجماع على أن الملك الذي عن اليمين يكتب الحسنات والذي عن الشمال يكتب السيئات
هل يكتب كل ملفوظ أو ما يتعلق به ثواب وعقاب فقط
ما ليس بحسنة فهو سيئة وإن لم يعاقب عليها
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره)
معنى إكرام الجار
من صور إكرام الجار:
1- احتمال أذاه، وكف الأذى عنه
2- مواساته عند الحاجة والمصيبة
الوصية بإكرام الجار
حكم إكرام الجار
وجوب الإحسان إلى الجار
تحريم الإساءة إلى الجار
مراتب الجيران
حد الجار البعيد
من أحكام الجوار
منع الجار أن يتصرف في ملكه بما يضر جاره
العباد الذين أمر الله بالإحسان إليهم خمسة أصناف:
الصنف الأول: الوالدان وأولو القربى
الصنف الثاني: الضعفاء والمساكين
الصنف الثالث: الجيران والأصحاب
تفسير قوله تعالى: (والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب)
أقوال السلف في تفسير الآية
الصنف الرابع: الضيف وابن السبيل
الصنف الخامس: الموالي والأجراء
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)
معنى إكرام الضيف
حكم الضيافة
للضيف حقان: جائزة، وضيافة
المنصوص عن أحمد أن الواجب الجائزة (يوم وليلة)
اليومان الثاني والثالث من تمام الضيافة
ذهب بعض الحنابلة إلى أن الضيافة الواجبة ثلاثة أيام
هل يجوز للضيف أن يقيم عند مضيفه حتى يحرجه؟
هل يجوز إخراج الضيف بعد تمام مدة الضيافة؟
حكم تضييف العبد من مال سيده
على من تجب الضيافة؟
قيل: على أهل الأمصار والقُرى، وقيل: تختص بأهلِ القُرى ومَنْ كان على طريق المسافر
هل تجب ضيافة الكافر؟
هل يحق للضيف أن يطالب بحق الضيافة إذا منع؟
ذكر بعض آداب الضيافة
من فوائد حديث أبي هريرة رضي الله عنه
وُجُوبُ الإيمانِ باللَّهِ تعالى واليوم الآخر
وجوب حفظ اللسانِ
الحثُّ على قولِ الخيرِ
قولُ الخيرِ أفضلُ من الصمت
وُجُوبُ أداءِ حقِّ الجارِ
وُجُوبُ إكرامِ الضيفِ
حقُّ اللَّهِ مُقَدَّمٌ على حقِّ النفسِ
حثُّ الإسلامِ على الكَرَمِ


  #9  
قديم 28 ذو القعدة 1429هـ/26-11-2008م, 11:38 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post العناصر

العناصر
حديث أبي هريرة - مرفوعاً -:(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا...)
تخريج الحديث
موضوع الحديث
منزلة الحديث
المعنى الإجمالي للحديث
الآداب التي تضمنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه
الأدب الأول: الصمت
الأدب الثاني: إكرام الجار
الأدب الثالث: إكرام الضيف
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر...)
هذا السياق يدل على أن هذه الخصال من الإيمان
أقسام أعمال الإيمان باعتبار تعلقها:
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (فليقل خيراً أو ليصمت)
الأمر في الحديث للوجوب
معنى التخيير بين قول الخير والصمت
في قوله: (فليقل خيراً أو ليصمت) تنبيه إلى حق الله تعالى
استقامة اللسان من خصال الإيمان
ذكر بعض النصوص في حفظ اللسان
ذكر بعض أقوال السلف في حفظ اللسان وفضل الصمت
معنى ما روي عن لقمان: (إذا كان الكلام من فضة فالصمت من ذهب)
ذم الكلام فيما لا ينفع
حفظ اللسان يعين على حفظ الجوارح
حكم التزام الصمت مطلقاً واعتقاده قربة
أنواع الكلام المحمود
كتابة الملكين لما يلفظ به المكلف
الإجماع على أن الملك الذي عن اليمين يكتب الحسنات والذي عن الشمال يكتب السيئات
هل يكتب كل ملفوظ أو ما يتعلق به ثواب وعقاب فقط
ما ليس بحسنة فهو سيئة وإن لم يعاقب عليها
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره)
معنى إكرام الجار
الوصية بإكرام الجار
حكم إكرام الجار
مراتب الجيران
حد الجار البعيد
ذكر بعض أحكام الجوار
أصناف العباد الذين أمر الله بالإحسان إليهم
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)
معنى إكرام الضيف
حكم الضيافة
هل يجوز للضيف أن يقيم عند مضيفه حتى يحرجه؟
هل يجوز إخراج الضيف بعد تمام مدة الضيافة؟
حكم تضييف العبد من مال سيده
على من تجب الضيافة
هل تجب ضيافة الكافر؟
هل يحق للضيف أن يطالب بحق الضيافة إذا منع؟
ذكر بعض آداب الضيافة
من فوائد حديث أبي هريرة رضي الله عنه


  #10  
قديم 28 ذو القعدة 1429هـ/26-11-2008م, 11:39 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post الأسئلة

الأسئلة
س1: عدد بإيجاز الآداب التي تضمنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه؟
س2: ما وجه دلالة هذا الحديث على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان؟
س3: هل الأمر بقول الخير أو الصمت للوجوب؟
س4: ما معنى التخيير بين قول الخير وبين الصمت؟
س5: اذكر بعض النصوص الدالة على وجوب حفظ اللسان؟
س6: ما حكم التزام الصمت مطلقاً واعتقاده قربة؟
س7: هل يكتب الملكان كل ملفوظ أو ما يتعلق به الثواب والعقاب فقط؟
س8: اذكر بعض صور إكرام الجار؟
س9: بين حكم إكرام الجار؟
س10: اذكر خمسة أصناف من العباد الذين أمر الله بالإحسان إليهم؟
س11: ما حكم إكرام الضيف؟
س12: هل يجوز إخراج الضيف بعد مدة الضيافة؟
س13: ما حكم تضييف العبد من مال سيده؟
س14: على من تجب الضيافة؟
س15: هل تجب ضيافة الكافر؟
س16: هل يحق للضيف أن يطالب بحق الضيافة إذا منع؟
س17: اذكر باختصار بعض آداب الضيافة؟


  #11  
قديم 12 شعبان 1430هـ/3-08-2009م, 06:29 AM
الصورة الرمزية ساجدة فاروق
ساجدة فاروق ساجدة فاروق غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 6,511
افتراضي إجابات على أسئلة طلاب الدورات العلمية بالمعهد/ الشيخ عبد العزيز الداخل

السؤال الأول : ما معنى هذه العبارة ؟؟

اقتباس:
ومفهومُ التَّخْيِيرِ في قولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالَ فيهِ الحافظُ رَحِمَهُ اللهُ: (سْتُشْكِـلَ التَّخْيِيرُ الَّذي في قولِهِ:(فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)؛ لأنَّ الْمُباحَ إذا كانَ في أحدِ الشِّقَّيْنِ لَزِمَ أنْ يكونَ مَأمورًا بهِ، فيكونَ واجبًا أوْ مَنْهِيًّا، فيكونَ حرامًا.
والجوابُ عنْ ذلكَ أنَّ صِيغةَ الفعلِ في قولِهِ: (فَلْيَقـُلْ).
اقتباس:
وفي قولـِهِ: (لِيَصْمُتْ)لِمُطْلَقِ الإذْنِ الَّذي هوَ أَعَمُّ مِن الْمُباحِ وغيرِهِ.
نَعَمْ، يَلْزَمُ مِنْ ذلكَ أنْ يكونَ المباحُ حَسَنًا لدخولِهِ في الخيرِ).
الجواب : مراده أن ههنا أمر بالقول وأمر بالصمت عُطف بينهما بـ(أو) التي تعني التخيير في الأصل والتخيير يقتضي الإباحة أي أن العبد مخير بين القول والصمت (هكذا فهم صاحب الاستشكال)
فكيف يخير بين أمرين في كلام لو أمر به لكان واجباً ، أو نهي عنه لكان حراماً
أي: لو قال: (فليقل خيراً) وسكت، لكان واجباً عليه أن يتكلم.
ولو قال: (فليصمت) وسكت لكان حراماً عليه أن يتكلم.

وهذا الاستشكال غريب لأن التخيير لا يقتضي الإباحة في جميع استعمالاته ، وإنما يفسره السياق

فالتخيير في اللغة يرد على معان:
منها: التسوية كما في قوله تعالى: (اصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم) . ، وقوله:
(استغفر لهم أو لا تستغفر لهم)
ومنها: التهديد كما في قوله تعالى:
(فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)
ومنها: مطلق الإذن كما في قوله تعالى: (فإما مناً بعد وإما فداء)
فقد أذن للإمام أن يمن على بعض الأسرى بعد الإثخان وأن يفاديهم
ويجتهد الإمام في اختيار ما هو أصلح وأنفع.
وله معان أخر

وفي هذا الحديث العظيم القسمة ثلاثية فإما أن يتكلم الإنسان بخير أو يتكلم بشر أو يسكت
فنهي عن الكلام بالشر، وأمر بالكلام بالخير أو الصمت.
وهذا لا يقتضي الجمود على حالة واحدة من الكلام أو الصمت
فإن الكلام يكون واجباً ويكون مستحباً ويكون مباحاً
فالكلام الواجب كالقراءة الواجبة في الصلاة وأداء الشهادات وما يلزم منه بر الوالدين وصلة الأرحام وأداء الحقوق كله واجب.
والكلام المستحب كنوافل القراءة والذكر ونحو ذلك.
والكلام المباح ما لا يتعلق به وجوب ولا استحباب ولا كراهة ولا تحريم.



السؤال الثاني: في الحديث الرابع عشر حث النبي صلى الله عليه وسلم على إكرام الجار لكن من ابتلي بجيران روافض فهل يكرمهم أم يتقي شرهم بعدم الإختلاط بهم؟
الجواب: الجار له حق الجوار ؛ فيحسن إليه ويتقي شره، ولا يلزم من الإحسان المخالطة والتزاور إذا كان يخشى شرهم وكيدهم .
وأول مراتب الإحسان كف الأذى ولا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه، ثم دعوته إلى الله تعالى وإلى دين الحق بالتي هي أحسن، ثم الإحسان إليه في أمور الدنيا بما يناسب الحال.
وإذا كان الجار مؤذياً له فهو بخير النظرين إما الصبر على ما يحتمل من أذاه ، أو رفع أمره لولي الأمر لكف أذاه.
وأما إذا عرف عنه الكيد للمسلمين وتبين منه ما يدل على ذلك فيحذر منه ويحذّر غيره نصيحة للمسملين ، ويجتهد في كف شره بما يستطيع من الوسائل المشروعة.


موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
ح15, حديث

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:33 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir