دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم الحديث الشريف > متون علوم الحديث الشريف > بلوغ المرام > كتاب الصلاة

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 8 ذو القعدة 1429هـ/6-11-2008م, 04:34 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي مقدمات شرح بلوغ المرام

بلوغُ الْمَرَامِ مِنْ أَدِلَّةِ الأحكامِ
تَصنيفُ
الحافظِ أحمدَ بنِ عليِّ بنِ حجَرٍ العَسقلانيِّ
(773 – 852 هـ)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
ربِّ يَسِّرْ بِخَيْرٍ
الحمدُ للَّهِ علَى نِعَمِهِ الظاهِرةِ والباطِنةِ قَديمًا وحَديثًا، والصلاةُ والسلامُ علَى نَبِيِّهِ ورسولِهِ مُحَمَّدٍ وآلِهِ وصَحْبِهِ الذين سارُوا في نُصْرَةِ دِينِهِ سَيْرًا حَثيثًا، وعلَى أَتباعِهم الذين وَرِثُوا عِلْمَهُم – والعلماءُ وَرَثَةُ الأنبياءِ – أَكْرِمْ بهم وَارِثًا ومَوْرُوثًا.
أمَّا بَعْدُ:
فهذا مُخْتَصَرٌ يَشتَمِلُ علَى أُصولِ الأَدِلَّةِ الحديثةِ للأحكامِ الشَّرعيَّةِ حَرَّرْتُهُ تَحريرًا بالِغًا ليَصْيرَ مَن يَحفظُهُ بينَ أَقرانِهِ نابِغًا، ويَستعينَ به الطالِبُ الْمُبْتَدِي، ولا يَستغنِي عنه الراغِبُ الْمُنْتَهِي.
وقد بَيَّنْتُ عَقِيبَ كلِّ حَديثٍ مَن أَخرَجَهُ مِن الأَئِمَّةِ؛ لإرادةِ نُصْحِ الأُمَّةِ:
- فالْمُرادُ بالسبعةِ: أحمدُ، والبخاريُّ، ومسلِمٌ، وأبو دَاوُدَ، والنَّسائيُّ، والتِّرمذيُّ، وابنُ ماجَهْ.
- وبالسِّتَّةِ: مَن عدا أَحمدَ.
- وبالخمسةِ: مَن عَدَا البخاريَّ ومسلِمًا. وقد أَقولُ: الأربعةُ وأحمدُ.
- وبالأربعةِ: مَن عَدَا الثلاثةَ الأُوَلَ.
- وبالثلاثةِ: مَن عَدَاهُمْ والأخيرَ.
- وبالْمُتَّفَقِ: البخاريُّ، ومسلِمٌ، وقد لا أَذْكُرُ مَعَهُما غيرَهما.
- وما عدا ذلكَ فهو مُبَيَّنٌ.
وسَمَّيْتُهُ: بُلوغَ الْمَرَامِ مِن أَدِلَّةِ الأحكامِ
واللَّهَ أسأَلُ أن لا يَجْعَلَ ما عَلِمْنا علينا وَبَالًا، وأن يَرْزُقَنا العَمَلَ بما يُرْضِيَهُ سُبحانَهُ وتعالَى.


  #2  
قديم 21 ذو القعدة 1429هـ/19-11-2008م, 05:57 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي سبل السلام للشيخ: محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني


مُقَدِّمَةٌ
الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَنَّ عَلَيْنَا بِبُلُوغِ المَرَامِ مِنْ خِدْمَةِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، وَتَفَضَّلَ عَلَيْنَا بِتَيْسِيرِ الوُصُولِ إلَى مَطَالِبِهَا العَلِيَّةِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ شَهَادَةً تُنْزِلُ قَائِلَهَا الغُرَفَ الأُخْرَوِيَّةَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الَّذِي بِاتِّبَاعِهِ يُرْجَى الفَوْزُ بِالمَوَاهِبِ اللَّدُنِّـيَّةِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ الَّذِينَ حُبُّهُمْ ذَخَائِرُ العُقْبَى وَهُمْ خَيْرُ البَرِيَّةِ.
وَبَعْدُ، فَهَذَا شَرْحٌ لَطِيفٌ عَلَى بُلُوغِ المَرَامِ، تَأْلِيفِ الشَّيْخِ العَلَّامَةِ القاضي شَيْخِ الإِسْلامِ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حَجَرٍ أَحَلَّهُ اللَّهُ دَارَ السَّلامِ، اخْتَصَرْته عَنْ شَرْحِ القَاضِي العَلَّامَةِ شَرَفِ الدِّينِ الحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ المَغْرِبِيِّ- أَعْلَى اللَّهُ دَرَجَاتِهِ فِي عِلِّيِّينَ- مُقْتَصِراً عَلَى حَلِّ أَلْفَاظِهِ وَبَيَانِ مَعَانِيهِ قَاصِداً بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ، ثُمَّ التَّقْرِيبَ لِلطَّالِبِينَ فِيهِ وَالنَّاظِرِينَ، مُعْرِضاً عَنْ ذِكْرِ الخِلافَاتِ وَالأَقَاوِيلِ، إلَّا أَنْ يَدْعُوَ إلَيْهِ مَا يَرْتَبِطُ بِهِ الدَّلِيلُ، مُتَجَنِّباً لِلْإِيجَازِ المُخِلِّ وَالإِطْنَابِ المُمِلِّ.
وَقَدْ ضَمَمْتُ إلَيْهِ زِيَادَاتٍ جَمَّةً عَلَى مَا فِي الأَصْلِ مِن الفَوَائِدِ؛ وَأَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَهُ فِي المَعَادِ مِنْ خَيْرِ العَوَائِدِ، فَهُوَ حَسْبِي وَنِعْمَ الوَكِيلُ، وَعَلَيْهِ فِي البِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ التَّعْوِيلُ.
(الحَمْدُ لِلَّهِ) افْتَتَحَ كَلامَهُ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى امْتِثَالاً لِمَا وَرَدَ فِي البدايةِ بِهِ مِن الآثَارِ، وَرَجَاءً لِبَرَكَةِ تَأْلِيفِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ مَنْزُوعُ البَرَكَةِ كَمَا وَرَدَتْ بِذَلِكَ الأَخْبَارُ، وَاقْتِدَاءً بِكِتَابِ اللَّهِ المُبِينِ، وَسُلُوكَ مَسْالكِ العُلَمَاءِ المُؤَلِّفِينَ.
قَالَ المُنَاوِيُّ فِي (التَّعْرِيفَاتُ) فِي حَقِيقَةِ الحَمْدِ: إنَّ الحَمْدَ اللُّغَوِيَّ: الوَصْفُ بِفَضِيلَةٍ عَلَى فَضِيلَةٍ عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ بِاللِّسَانِ. وَالحَمْدَ العُرْفِيَّ: فِعْلٌ يُشْعِرُ بِتَعْظِيمِ المُنْعِمِ لِكَوْنِهِ مُنْعِماً. وَالحَمْدَ القَوْلِيَّ: حَمْدُ اللِّسَانِ وَثَنَاؤُهُ عَلَى الحَقِّ بِمَا أَثْنَى بِهِ عَلَى نَفْسِهِ عَلَى لِسَانِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ. وَالحَمْدَ الفِعْلِيَّ: الإِتْيَانُ بِالأَعْمَالِ البَدَنِيَّةِ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَذَكَرَ الشَّارِحُ التَّعْرِيفَ المَعْرُوفَ لِلْحَمْدِ بِأَنَّهُ لُغَةً: الوَصْفُ بِالجَمِيلِ عَلَى الجَمِيلِ الِاخْتِيَارِيِّ. وَاصْطِلاحاً: الفِعْلُ الدَّالُّ عَلَى تَعْظِيمِ المُنْعِمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُنْعِمٌ، وَاصِلَةٌ تِلْكَ النِّعْمَةُ أَوْ غَيْرُ وَاصِلَةٍ؛ وَاللَّهُ، هُوَ اسمٌ للذَّاتِ الوَاجِبُ الوُجُودِ المُسْتَحِقُّ لِجَمِيعِ المَحَامِدِ.
(عَلَى نِعَمِهِ) جَمْعُ: نِعْمَةٍ؛ قَالَ الرَّازِيُّ: النِّعْمَةُ: المَنْفَعَةُ المَفْعُولَةُ عَلَى جِهَةِ الإِحْسَانِ إلَى الغَيْرِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: النِّعْمَةُ مَا قَصَدْتَ بِهِ الإِحْسَانَ فِي النَّفْعِ؛ وَالإِنْعَامُ: إيصَالُ الإِحْسَانِ الظَّاهِرِ إلَى الغَيْرِ.
(الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ) مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِه تَعَالَى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}. وَقَدْ أَخْرَجَ البَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبُ الإِيمَانِ) عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِه تَعَالَى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}، قَالَ: هَذَا مِنْ كُنُوزِ عِلْمِي؛ سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ((أَمَّا الظَّاهِرَةُ فَمَا سَوَّى مِنْ خَلْقِك، وَأَمَّا البَاطِنَةُ فَمَا سَتَرَ مِنْ عَوْرَتِك، وَلَوْ أَبْدَاهَا لَقَلاَكَ أَهْلُكَ فَمَنْ سِوَاهُمْ)).
وَأَخْرَجَ أَيْضاً عَنْهُ وَالدَّيْلَمِيُّ وَابْنُ النَّجَّارِ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ فَقَالَ: ((أَمَّا الظَّاهِرَةُ فَالإِسْلامُ وَمَا سَوَّى مِنْ خَلْقِكَ وَمَا أَسْبَغَ عَلَيْكَ مِنْ رِزْقِهِ، وَأَمَّا البَاطِنَةُ فَمَا سَتَرَ مِنْ عَمَلِك)).
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ مَوْقُوفَةٍ: النِّعْمَةُ الظَّاهِرَةُ الإِسْلامُ، وَالبَاطِنَةُ كلُّ ما سَتَرَ عَلَيْك مِن الذُّنُوبِ وَالعُيُوبِ وَالحُدُودِ.
أَخْرَجَهَا ابْنُ مَرْدُويَهْ عَنْهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ مَوْقُوفَةٍ أَيْضاً: النِّعْمَةُ الظَّاهِرَةُ وَالبَاطِنَةُ هِيَ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. أَخْرَجَهَا عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ، وَتَفْسِيرُهُمَا مَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ: {نِعَمَهُ ظَاهِرَةً}: هِيَ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ عَلَى اللِّسَانِ، {وَبَاطِنَةً}. قَالَ: فِي القَلْبِ. أَخْرَجَهَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَفَسَّرَهُمَا الشَّارِحُ بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَرَأَيْنَا التَّفْسِيرَ المَرْفُوعَ, وَتَفْسِيرَ السَّلَفِ أَوْلَى بِالِاعْتِمَادِ.
(قَدِيماً وَحَدِيثاً) مَنْصُوبَانِ عَلَى أَنَّهُمَا حَالانِ مِنْ (نِعَمِهِ)، وَلَمْ يُؤَنَّثْ؛ لِأَنَّ الجَمْعَ لَمَّا أُضِيفَ صَارَ لِلْجِنْسِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: عَلَى جِنْسِ نِعَمِهِ. وَيَحْتَمِلُ النَّصْبَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَأَنَّهُمَا صِفَةٌ لِزَمَانٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: زَمَاناً قَدِيماً وَحَدِيثاً.
وَالقَدِيمُ: ما تَقَدَّمَ زَمَنُه على الزمنِ, والحديثُ: ما حَضَرَ مِنه, ونِعَمُ الربِّ تعالى قديمةٌ عَلَى عَبْدِهِ مِنْ حِينَ نَفَخَ فيه الرُّوحَ فِيهِ، ثُمَّ فِي كُلِّ آنٍ مِنْ آنَاتِ زَمَانِهِ، فَهِيَ مُسْبَغَةٌ عَلَيْهِ فِي قَدِيمِ زَمَانِهِ وَحَدِيثِهِ، وَحَالَ تَكَلُّمِهِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِقَدِيمِ النِّعَمِ: الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى الآبَاءِ؛ فَإِنَّهَا نِعَمٌ عَلَى الأَبْنَاءِ، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ بَنِي إسْرَائِيلَ بِذِكْرِ نِعَمِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى آبَائِهِمْ فَقَالَ: {يَا بَنِي إسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} الآيَاتِ، فِي مَوَاضِعَ مِن القُرْآنِ.
أَشَارَ إلَيْهِ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَّا أَنَّهُ قَالَ: {يَا بَنِي إسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ} الآيَةَ، وَالتِّلاوَةُ (نِعْمَتِي) فَكَأَنَّهُ سَبْقُ قَلَمٍ، وَيُرَادُ بِالحَدِيثِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ مِنْ حِينَ نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ، فَهِيَ حَادِثَةٌ نَظَراً إلَى النِّعْمَةِ عَلَى الآبَاءِ.
(وَالصَّلاةُ) عَطْفُ اسْمِيَّةٍ عَلَى اسْمِيَّةٍ، وَهَلْ هُمَا خَبَرِيَّتَانِ أَوْ إنْشَائِيَّتَانِ؟
فِيهِ خِلافٌ بَيْنَ المُحَقِّقِينَ، وَالحَقُّ أَنَّهُمَا خَبَرِيَّتَانِ لَفْظاً يُرَادُ بِها(1) الإِنْشَاءُ.
وَلَمَّا كَانَت الكمَالاتُ الدِّينِيَّةُ وَالدُّنْيَوِيَّةُ وَمَا فِيهِ صَلاحُ المَعَاشِ وَالمَعَادِ فَائِضَةً مِن الجَنَابِ الأَقْدَسِ عَلَى العِبَادِ بِوَاسِطَةِ هَذَا الرَّسُولِ الكَرِيمِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ، نَاسَبَ إرْدَافُ (الحَمْدُ لِلَّهِ) بِالصَّلاةِ عَلَيْهِ وَالتَّسْلِيمِ لِذَلِكَ؛ وَامْتِثَالاً للِآيَةِ الكريمةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}؛ وَلِحَدِيثِ:((كُلُّ كَلامٍ لا يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ وَلا يُصَلَّى فِيهِ عَلَيَّ فَهُوَ أَقْطَعُ أَكْتَعُ مَمْحُوقُ البَرَكَةِ)). ذَكَرَهُ فِي الشَّرْحِ وَلَمْ يُخَرِّجْهُ، وَفِي (الجَامِعُ الكَبِيرُ) أَنَّهُ أَخْرَجَهُ الدَّيْلَمِيُّ وَالحَافِظُ عَبْدُ القَادِرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّهَاوِيُّ فِي (الأَرْبَعِينَ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قَالَ الرَّهَاوِيُّ: غَرِيبٌ تَفَرَّدَ بِذِكْرِ الصَّلاةِ فِيهِ إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ الشَّامِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا لا يُعْتَدُّ بِرِوَايَتِهِ وَلا بِزِيَادَتِهِ؛ انْتَهَى.
وَالصَّلاةُ مِن اللَّهِ لِرَسُولِهِ: تَشْرِيفُهُ وَزِيَادَةُ تَكْرِمَتِهِ، فَالقَائِلُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ. طَالِبٌ لَهُ زِيَادَةَ التَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِمَةِ. وَقِيلَ: المُرَادُ مِنْهَا: آتِهِ الوَسِيلَةَ، وَهِيَ الَّتِي طَلَبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن العِبَادِ أَنْ يَسْأَلُوهَا لَهُ كَمَا يَأْتِي فِي الآذَانِ.
(وَالسَّلامُ) قَالَ الرَّاغِبُ: السَّلامُ وَالسَّلامَةُ: التَّعَرِّي مِن الآفَاتِ البَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ، وَالسَّلامَةُ الحَقِيقِيَّةُ لا تَكُونُ إلَّا فِي الجَنَّةِ؛ لِأَنَّ فِيهَا بَقَاءً بِلا فَنَاءٍ وَغَنَاءً بِلا فَقْرٍ، وَعِزًّا بِلا ذُلٍّ، وَصِحَّةً بِلا سَقَمٍ.
(عَلَى نَبِيِّهِ) يَتَنَازَعُ فِيهِ المَصْدَرَانِ قَبْلَهُ. وَالنَّبِيُّ: مِن النُّبُوَّةِ وَهِيَ الرِّفْعَةُ (فَعِيلٌ) بِمَعْنَى (مُفْعِلٌ)؛ أَي: المُنْبِئُ عَن اللَّهِ بِمَا تَسْكُنُ إلَيْهِ العُقُولُ الزَّاكِيَةُ. وَالنُّبُوَّةُ سِفَارَةٌ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ ذَوِي العُقُولِ مِنْ عِبَادِهِ؛ لِإِزَاحَةِ عِلَلِهِمْ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ.
(وَرَسُولِهِ) فِي الشَّرْحِ: النَّبِيُّ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ إنْسَانٍ أُنْزِلَ عَلَيْهِ شَرِيعَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِطَرِيقِ الوَحْيِ، فَإِذَا أُمِرَ بِتَبْلِيغِهَا إلَى الغَيْرِ سُمِّيَ رَسُولاً. وَفِي أَنْوَارِ التَّنْزِيلِ: الرَّسُولُ مَنْ بَعَثَهُ اللَّهُ بِشَرِيعَةٍ مُجَدِّدَةٍ يَدْعُو النَّاسَ إلَيْهَا، وَالنَّبِيُّ أَعَمُّ مِنْهُ، وَالإِضَافَةُ إلَى ضَمِيرِهِ تَعَالَى فِي (رَسُولِهِ) وَمَا قَبْلَهُ عَهْدِيَّةٌ؛ إذِ المَعْهُودُ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَزَادَهُ بَيَاناً بقَوْلِهِ: (مُحَمَّدٍ) فَإِنَّهُ عَطْفُ بَيَانٍ عَلَى (نَبِيِّهِ) وَهُوَ عَلَمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ (حَمِدَ) مَجْهُولٌ مُشَدَّدُ العَيْنِ، أَيْ: كَثِيرُ الخِصَالِ الَّتِي يُحْمَدُ عَلَيْهَا، فهو يُحْمَدُ أَكْثَرُ مِمَّا يُحْمَدُ غَيْرُهُ مِن البَشَرِ، فَهُوَ أَبْلَغُ مِن (مَحْمُودٍ)؛ لِأَنَّ هَذَا مَأْخُوذٌ مِن المَزِيدِ وَذَاكَ مِن الثُّلاثِيِّ، وَأَبْلَغُ مِن (أَحْمَدَ)؛ لِأَنَّهُ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ مُشْتَقٌّ مِن الحَمْدِ.
وَفِيهِ قَوْلانِ: هَلْ هُوَ أَكْثَرُ حَامِدِيَّةً لِلَّهِ تَعَالَى فَهُوَ أَحْمَدُ الحَامِدِينَ لِلَّهِ؟ أَوْ هُوَ بِمَعْنَى: أَكْثَرُ مَحْمُودِيَّةً فَيَكُونَ كَمُحَمَّدٍ فِي مَعْنَاهُ؟
وَفِي المَسْأَلَةِ خِلافٌ وَجِدَالٌ، وَالمُخْتَارُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلاً وَقَرَّرَهُ المُحَقِّقُونَ وَأَطَالَ فِيهِ ابْنُ القَيِّمِ فِي أَوَائِلِ زَادِ المَعَادِ.
(وَآلِهِ) وَالدُّعَاءُ لِلْآلِ بَعْدَ الدُّعَاءِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ امْتِثَالاً لِحَدِيثِ التَّعْلِيمِ، وَسَيَأْتِي فِي الصَّلاةِ، وَلِلْوَجْهِ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ قَرِيباً.
(وَصَحْبِهِ): اسْمُ جَمْعٍ لِصَاحِبٍ، وَفِي المُرَادِ بِهِمْ أَقْوَالٌ اخْتَارَ المُصَنِّفُ فِي نُخْبَةِ الفِكَرِ أَنَّ الصَّحَابِيَّ مَنْ لَقِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ وَكَانَ مُؤْمِناً وَمَاتَ عَلَى الإِسْلامِ. وَوَجْهُ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الآلِ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ هُوَ الوَجْهُ فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الثَّنَاءِ عَلَى الرَّبِّ؛ لِأَنَّهُم الوَاسِطَةُ فِي إبْلاغِ الشَّرَائِعِ إلَى العِبَادِ، فَاسْتَحَقُّوا الإِحْسَانَ إلَيْهِمْ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ.
(الَّذِينَ سَارُوا فِي نُصْرَةِ دِينِهِ) هُوَ صِفَةٌ لِلْفَرِيقَيْنِ: الآلِ وَالأَصْحَابِ.
وَالسَّيْرُ هنا يُرَادُ بِهِ الجِدُّ وَالِاجْتِهَادُ والنَّصْرُ. وَالنُّصْرَةُ: العَوْنُ. وَالدِّينُ وَضْعٌ إلَهِيٌّ يَدْعُو أَصْحَابَ العُقُولِ إلَى القَبُولِ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَالمُرَادُ أَنَّهُمْ أَعَانُوا صَاحِبَ الدِّينِ المُبَلِّغَ وَهُوَ الرَّسُولُ، وَفِي وَصْفِهِمْ بِهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُم اسْتَحَقُّوا الذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ بِذَلِكَ.
(سَيْراً) مَصْدَرٌ نَوْعِيٌّ لِوَصْفِهِ بِقَوْلِهِ: (حَثِيثاً)؛ فَإِنَّ المَصْدَرَ إذَا أُضِيفَ أَوْ وُصِفَ كَانَ لِلنَّوْعِ، وَالحَثِيثُ السَّرِيعُ كَمَا فِي القَامُوسِ، وَفِي نُسْخَةٍ (فِي صُحْبَتِهِ) وَهي عِوَضٌ مِن قَوْلِهِ: فِي نُصْرَةِ دِينِهِ.
(وَعَلَى أَتْبَاعِهِمْ) أَتْبَاعُ الآلِ وَالأَصْحَابِ.
(الَّذِينَ وَرِثُوا عِلْمَهُمْ) وَهُوَ عِلْمُ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
(وَالعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ)، وَهُوَ اقْتِبَاسٌ مِن حَدِيثِ: ((العُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ)) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَدْ ضُعِّفَ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بعضُ عُلَمَاءِ الآلِ فقالَ:

العِلْمُ مِيرَاثُ النَّبِيِّ كَذَا أَتَى = فِي النَّصِّ وَالعُلَمَاءُ هُمْ وُرَّاثُـهُ
مَا خَلَّفَ المُخْتَارُ غَيْرَ حَدِيثِهِ = فِيـنَا فَذَاكَ مَتَاعُهُ وَأَثَاثُــهُ

(أَكْرِمْ) فِعْلُ تَعَجُّبٍ.
(بِهِمْ) فَاعِلُهُ، وَالبَاءُ زَائِدَةٌ، أَوْ مَفْعُولٌ بِهِ وَفِيهِ ضَمِيرُ فَاعِلِهِ.
(وَارِثاً) نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَهُوَ نَاظِرٌ إلَى الأَتْبَاعِ، (وَمَوْرُوثاً) نَاظِرٌ إلَى مَنْ تَقَدَّمَهُمْ، وَفِيهِ مِن البَدِيعِ اللَّفُّ وَالنَّشْرُ مُشَوَّشاً، وَيَحْتَمِلُ عَوْدُ الصِّفَتَيْنِ إلَى الكُلِّ مِن الآلِ وَالأَصْحَابِ وَالأَتْبَاعِ، فَإِنَّ الآلَ وَالأَصْحَابَ وَرِثُوا عِلْمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَرَّثُوهُ الأَتْبَاعَ فَهُمْ وَارِثُونَ مُوَرِّثُونَ، وَكَذَلِكَ الأَتْبَاعُ وَرِثُوا عِلْمَ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ أَيْضاً وَوَرَّثُوا أَتْبَاعَ الأَتْبَاعِ، وَلَعَلَّ هَذَا أَوْلَى؛ لِعُمُومِهِ.
(أَمَّا) هِيَ حَرْفُ شَرْطٍ، وَقَوْلُهُ (بَعْدُ) قَائِمٌ مَقَامَ شَرْطِهَا، وَبَعْدُ ظَرْفٌ لَهُ ثَلاثُ حَالاتٍ: إضَافَتُهُ، فَيُعْرَبُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ}.
وَقَطْعُهُ عَن الإِضَافَةِ مَعَ نِيَّةِ المُضَافِ إلَيْهِ، فَيُبْنَى عَلَى الضَّمِّ نَحْوُ: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ}.
وَقَطْعُهُ عن الإضافةِ مَعَ عَدَمِ نِيَّةِ المُضَافِ إلَيْهِ، فَيُعْرَبُ مُنَوَّناً كَقَوْلِهِ:

فَسَاغَ لِيَ الشَّرَابُ وَكُنْت قَبْلاً = أَكَادُ أَغَصُّ بِالمَاءِ الفُرَاتِ

(فَهَذَا) الفَاءُ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَاسْمُ الإِشَارَةِ لِمَا فِي الذِّهْنِ مِن الأَلْفَاظِ وَالمَعَانِي؛ (مُخْتَصَرٌ)، فِي القَامُوسِ: اخْتَصَرَ الكَلامَ: أَوْجَزَهُ،(يَشْتَمِلُ) يَحْتَوِي.
(عَلَى أُصُولِ) جَمْعُ: أَصْلٍ، وَهُوَ أَسْفَلُ الشَّيْءِ كَمَا فِي القَامُوسِ، وَفَسَّرَهُ فِي الشَّرْحِ بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ: بِمَا يُبْنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ، (الأَدِلَّةِ) جَمْعُ: دَلِيلٍ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: المُرْشِدُ إلَى المَطْلُوبِ.
وهو في عُرْفِ الأُصُولِيِّينَ: مَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ بِالنَّظَرِ الصَّحِيحِ فِيهِ إلَى مَطْلُوبٍ خَبَرِيٍّ. وَعِنْدَ أَهْلِ المِيزَانِ: مَا يَلْزَمُ مِن العِلْمِ بِهِ العِلْمُ بِشَيْءٍ آخَرَ. وَإِضَافَةُ الأُصُولِ إلَى الأَدِلَّةِ بَيَانِيَّةٌ؛ أَي: الأُصُولُ هِيَ الأَدِلَّةُ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِجْمَاعُ وَالقِيَاسُ.
(الحَدِيثِيَّةِ) صِفَةٌ لِلْأُصُولِ مُخَصِّصَةٌ عَنْ غَيْرِ الحَدِيثِيَّةِ، وَهِيَ نِسْبَةٌ إلَى حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(لِلْأَحْكَامِ) جَمْعُ: حُكْمٍ. وَهُوَ عِنْدَ أَهْلِ الأُصُولِ: خِطَابُ اللَّهِ تعالَى المُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ المُكَلَّفِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُكَلَّفٌ، وَهِيَ خَمْسَةٌ: الوُجُوبُ وَالتَّحْرِيمُ وَالنَّدْبُ وَالكَرَاهَةُ وَالإِبَاحَةُ.
(الشَّرْعِيَّةِ) وَصْفٌ لِلْأَحْكَامِ يُخَصِّصُهَا عَن العَقْلِيَّةِ، وَالشَّرْعُ: مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ كَمَا فِي القَامُوسِ. وَفِي غَيْرِهِ: الشَّرْعُ: نَهْجُ الطَّرِيقِ الوَاضِحِ، وَاسْتُعِيرَ لِلطَّرِيقَةِ الإِلَهِيَّةِ مِن الدِّينِ.
(حَرَّرْتُه) بِالمُهْمَلاتِ، وَالضَّمِيرُ لِلْمُخْتَصَرِ، فِي القَامُوسِ: تَحْرِيرُ الكَلامِ وَغَيْرِهِ: تَقْوِيمُهُ. وَهُوَ يُنَاسِبُ قَوْلَ الشَّارِحِ: تَهْذِيبُ الكَلامِ وَتَنْقِيحُهُ (تَحْرِيراً) مَصْدَرٌ نَوْعِيٌّ لِوَصْفِهِ بِقَوْلِهِ (بَالِغاً) بِالغَيْنِ المُعْجَمَةِ. فِي القَامُوسِ: البَالِغُ: الجَيِّدُ،(لِيَصِيرَ) عِلَّةٌ لَحَرَّرْتُه.
(مَنْ يَحْفَظُهُ مِنْ بَيْنِ أَقْرَانِهِ) جَمْعُ: قِرْنٍ بِكَسْرِ القَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَهُوَ: الكُفُوُ وَالمِثْلُ، (نَابِغاً) بِالنُّونِ وَمُوَحَّدَةٍ وَمُعْجَمَةٍ، مِنْ: نَبَغَ.
قَالَ فِي القَامُوسِ: النَّابِغَةُ: الرَّجُلُ العَظِيمُ الشَّأْنِ، (وَيَسْتَعِينَ) عَطْفٌ عَلَى: لِيَصِيرَ، (بِهِ الطَّالِبُ) لِأَدِلَّةِ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الحَدِيثِيَّةِ، (المُبْتَدِئُ) فَإِنَّهُ قَدْ قَرَّبَ لَهُ الأَدِلَّةَ وَهَذَّبَهَا، (وَلا يَسْتَغْنِي عَنْهُ الرَّاغِبُ) فِي العُلُومِ، (المُنْتَهِي) البَالِغُ نِهَايَةَ مَطْلُوبِهِ؛ لِأَنَّ رَغْبَتَهُ تَبْعَثُهُ عَلَى أَنْ لا يَسْتَغْنِيَ عَنْ شَيْءٍ فِيهِ، سِيَّمَا (1) مَا قَدْ هُذِّبَ وَقُرِّبَ.
(وَقَدْ بَيَّنْتُ عَقِبَ) مِنْ: عَقَبَهُ، إذَا خَلَفَهُ كَمَا فِي القَامُوسِ، أَيْ: فِي آخِرِ، (كُلِّ حَدِيثٍ مَنْ أَخْرَجَهُ مِن الأَئِمَّةِ) مَنْ ذَكَرَ إسْنَادَهُ وَسيَاقَ طُرُقِهِ (لِإِرَادَةِ نُصْحِ الأُمَّةِ) عِلَّةٌ لِذِكْرِهِ مَنْ خَرَّجَ الحَدِيثَ؛ وَذَلِكَ لأَنَّ فِي ذِكْرِ مَنْ أَخْرَجَهُ عِدَّةَ نَصَائِحَ لِلْأُمَّةِ:
مِنْهَا: بَيَانُ أَنَّ الحَدِيثَ ثَابِتٌ فِي دَوَاوِينِ الإِسْلامِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ قَدْ تَدَاوَلَتْهُ الأَئِمَّةُ الأَعْلامُ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ قَدْ تَتَبَّعَ طُرُقَهُ وَبَيَّنَ مَا فِيهَا مِنْ مَقَالٍ؛ مِنْ تَصْحِيحٍ وَتَحْسِينٍ وَإِعْلالٍ.
وَمِنْهَا: إرْشَادُ المُنْتَهِي أَنْ يُرَاجِعَ أُصُولَهَا الَّتِي مِنْهَا انْتَقَي هَذَا المُخْتَصَرَ. وَكَانَ يَحْسُنُ أَنْ يَقُولَ المُصَنِّفُ بَعْدَ قَوْلِهِ: (مَنْ أَخْرَجَهُ مِن الأَئِمَّةِ): وَمَا قِيلَ فِي الحَدِيثِ مِنْ تَصْحِيحٍ وَتَحْسِينٍ وَتَضْعِيفٍ. فَإِنَّهُ يَذْكُرُ ذَلِكَ بَعْدَ ذِكْرِ مَنْ خَرَّجَ الحَدِيثَ فِي غَالِبِ الأَحَادِيثِ كَمَا سَتَعْرِفُهُ.
(فَالمُرَادُ) أَيْ: مُرَادِي (بِالسَّبْعَةِ)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُرَاداً لِكُلِّ مُصَنِّفٍ، وَلا هُوَ جِنْسُ المُرَادِ، بَل اللَّامُ عِوَضٌ عَن الإِضَافَةِ، وَالفَاءُ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إذَا عَرَفْتَ مَا ذَكَرْتُه فَالمُرَادُ بِالسَّبْعَةِ حَيْثُ يَقُولُ عَقِيبَ الحَدِيثِ: أَخْرَجَهُ السَّبْعَةُ. هُم الَّذِينَ بَيَّنَهُمْ بِالإِبْدَالِ مِنْ لَفْظِ العَدَدِ.
(أَحْمَدُ) هُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بنُ محمدِ بْنِ حَنْبَلٍ، وَقَدْ وَسَّعَ الشَّارِحُ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي تَرَاجِمِ السَّبْعَةِ، فَنَقْتَصِرُ عَلَى قَدْرٍ يُعْرَفُ بِهِ شَرِيفُ صِفَاتِهِمْ، وَأَزْمِنَةُ وِلادَتِهِمْ وَوَفَاتِهِمْ.
فَنَقُولُ: وُلِدَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ، وَطَلَبَ هَذَا الشَّأْنَ صَغِيراً, وَرَحَلَ لِطَلَبِهِ إلَى الشَّامِ وَالحِجَازِ وَاليَمَنِ وَغَيْرِهَا, حَتَّى أُجْمِعَ عَلَى إمَامَتِهِ وَتَقْوَاهُ وَوَرَعِهِ وَزَهَادَتِهِ.
قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: كَانَتْ كُتُبُهُ اثْنَيْ عَشَرَ حِمْلاً وَكَانَ يَحْفَظُهَا على ظَهْرِ قَلْبِهِ، وَكَانَ يَحْفَظُ أَلْفَ أَلْفِ حَدِيثٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: خَرَجْتُ مِنْ بَغْدَادَ وَمَا خَلَّفْتُ بِهَا أَتْقَى وَلا أَزْهَدَ وَلا أَوْرَعَ وَلا أَعْلَمَ مِنْهُ.
وَأَلَّفَ (المُسْنَدُ الكَبِيرُ) أَعْظَمَ المَسَانِيدِ وَأَحْسَنَهَا وَضْعاً وَانْتِقَاداً، فَإِنَّهُ لَمْ يُدْخِلْ فِيهِ إلَّا مَا يَحْتَجُّ بِهِ مَعَ كَوْنِهِ انْتَقَاهُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ وَخَمْسِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ سَنَةَ إحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ بِبَغْدَادَ مَدِينَةِ السَّلامِ، وَقَبْرُهُ مَعْرُوفٌ مَزُورٌ. وَقَدْ أُلِّفَتْ فِي تَرْجَمَتِهِ كُتُبٌ بَسِيطَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ.
(وَالبُخَارِيُّ) هُوَ الإِمَامُ القُدْوَةُ فِي هَذَا الشَّأْنِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ البُخَارِيُّ، مَوْلِدُهُ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ.
طَلَبَ هَذَا الشَّأْنَ صَغِيراً، وَرَدَّ عَلَى بَعْضِ مَشَايِخِهِ غَلَطاً وَهُوَ فِي إحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً فَأَصْلَحَ كِتَابَهُ مِنْ حِفْظِهِ، سَمِعَ الحَدِيثَ بِبَلْدَةِ بُخَارَى, ثُمَّ رَحَلَ إلَى عِدَّةِ أَمَاكِنَ، وَسَمِعَ الكَثِيرَ، وَأَلَّفَ الصَّحِيحَ مِنْهُ مِنْ زُهَاءِ سِتِّمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ، أَلَّفَهُ بِمَكَّةَ وَقَالَ: مَا أَدْخَلْتُ فِيهِ إلَّا صَحِيحاً، وَأَحْفَظُ مِائَةَ أَلْفِ حَدِيثٍ صَحِيحٍ، وَمِائَتَيْ أَلْفِ حَدِيثٍ غَيْرِ صَحِيحٍ. وَقَدْ ذَكَرَ تَأْوِيلَ هَذِهِ العِدَّةِ فِي الشَّرْحِ.
وَقَدْ أُفْرِدَتْ تَرْجَمَتُهُ بِالتَّأْلِيفِ، وَذَكَرَ المُصَنِّفُ مِنْهَا شَطْراً صَالِحاً فِي مُقَدِّمَةِ (فَتْحُ البَارِي)، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِقَرْيَةِ سَمَرْقَنْدَ وَقْتَ العِشَاءِ لَيْلَةَ السَّبْتِ, لَيْلَةَ عِيدِ الفِطْرِ، سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، عَن اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ سَنَةً إلَّا ثَلاثَةَ عَشَرَ يَوْماً وَلَمْ يُخَلِّفْ وَلَداً.
(وَمُسْلِمٌ) هُوَ الإِمَامُ الشَّهِيرُ مُسْلِمُ بْنُ الحَجَّاجِ القُشَيْرِيُّ أَحَدُ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ، وَطَلَبَ عِلْمَ الحَدِيثِ صَغِيراً، وَسَمِعَ مِنْ مَشَايِخِ البُخَارِيِّ وَغَيْرِهِمْ؛ وَرَوَى عَنْهُ أَئِمَّةٌ مِنْ كِبَارِ عَصْرِهِ وَحُفَّاظِهِ، وَأَلَّفَ المُؤَلَّفَاتِ النَّافِعَةَ، وَأَنْفَعُهَا صَحِيحُهُ، الَّذِي فَاقَ بِحُسْنِ تَرْتِيبِهِ, وَحُسْنِ سِيَاقِهِ, وَبَدِيعِ طَرِيقَتِهِ، وَحَازَ نَفَائِسَ التَّحْقِيقِ.
وَلِلْعُلَمَاءِ فِي المُفَاضَلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَحِيحِ البُخَارِيِّ خِلافٌ، وَأَنْصَفَ بَعْضُ العُلَمَاءِ فِي قَوْلِهِ:

تَشَاجَرَ قَوْمٌ فِي البُخَارِي وَمُسْلِمٍ = إلَيَّ وَقَالُوا أَيَّ ذَيْنِ تُقَدِّمُ
فَقُلْتُ لَقَدْ فَاقَ البُخَارِيُّ صِحَّةً = كَمَا فَاقَ فِي حُسْنِ الصِّنَاعَةِ مُسْلِمُ

وَكَانَتْ وَفَاتُهُ عَشِيَّةَ الأَحَدِ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ سَنَةَ إحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَدُفِنَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ بِنَيْسَابُورَ، وَقَبْرُهُ بِهَا مَشْهُورٌ مَزُورٌ.
(وَأَبُو دَاوُدَ) هُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ الأَشْعَثِ السِّجِسْتَانِيُّ، مَوْلِدُهُ سنةَ اثْنَتَيْنِ وَمِائَتَيْنِ، سَمِعَ الحَدِيثَ مِنْ أَحْمَدَ وَالقَعْنَبِيِّ وَسُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ خَلائِقُ كَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ. وَقَالَ: كَتَبْتُ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ، انْتَخَبْتُ مِنْهَا مَا تَضَمَّنَهُ كِتَابُ السُّنَنِ، وَأَحَادِيثُهُ أَرْبَعَةُ آلافِ حَدِيثٍ وَثَمَانِمِائَةٍ لَيْسَ فِيهَا حَدِيثٌ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى تَرْكِهِ، رَوَى سُنَنَهُ بِبَغْدَادَ وَأَخَذَهَا أَهْلُهَا عَنْهُ، وَعَرَضَهَا عَلَى أَحْمَدَ فَاسْتَجَادَهُ وَاسْتَحْسَنَه.
قَالَ الخَطَّابِيُّ: هِيَ أَحْسَنُ وَضْعاً وَأَكْثَرُ فِقْهاً مِن الصَّحِيحَيْنِ.
وَقَالَ ابْنُ الأَعْرَابِيِّ: مَنْ عِنْدَهُ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَنُ أَبِي دَاوُدَ لَمْ يَحْتَجْ إلَى شَيْءٍ مَعَهُمَا مِن العِلْمِ.
وَمِنْ ثَمَّ صَرَّحَ الغَزَالِيُّ بِأَنَّهَ يَكْفِي المُجْتَهِدَ فِي أَحَادِيثِ الأَحْكَامِ, وَتَبِعَهُ أَئِمَّةٌ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَتْ وَفَاتُه بالبَصْرَةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ.
(وَالتِّرْمِذِيُّ) هُوَ أَبُو عِيسَى مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ سَوْرَةَ التِّرْمِذِيُّ, مُثَلَّثُ الفَوْقِيَّةِ، وَالمِيمُ مَكْسُورَةٌ وَمَضْمُومَةٌ، نِسْبَةً إلَى مَدِينَةٍ قَدِيمَةٍ عَلَى طَرَفِ جَيْحُونَ نَهْرِ بَلْخَ، لَمْ يَذْكُرِ الشَّارِحُ وَلا الذَّهَبِيُّ وَلا ابْنُ الأَثِيرِ وِلادَتَهُ، وَسَمِعَ الحَدِيثَ عَن البُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ شُيوخِ البُخَارِيِّ.
وَكَانَ إمَاماً ثَبَتاً حُجَّةً، وَأَلَّفَ كِتَابَ (السُّنَنُ) وَكِتَابَ (العِلَلُ) وَكَانَ ضَرِيراً, قَالَ: عَرَضْتُ كِتَابِي هَذَا- أَيْ كِتَابَ السُّنَنِ المُسَمَّى بِالجَامِعِ- عَلَى عُلَمَاءِ الحِجَازِ وَالعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ فَرَضُوا بِهِ. وَمَنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ فَكَأَنَّمَا فِي بَيْتِهِ نَبِيٌّ يَتَكَلَّمُ.
قَالَ الحَاكِمُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ عِلْكٍ يَقُولُ: مَاتَ البُخَارِيُّ وَلَمْ يُخَلِّفْ بِخُرَاسَانَ مِثْلَ أَبِي عِيسَى فِي العِلْمِ وَالحِفْظِ وَالوَرَعِ وَالزُّهْدِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِتِرْمِذَ أَوَاخِرَ رَجَبٍ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ.
(وَالنَّسَائِيُّ) هُوَ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ الخُرَاسَانِيُّ, ذَكَرَ الذَّهَبِيُّ أَنَّ مَوْلِدَهُ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ، وَسَمِعَ مِنْ قُتَيْبَةَ بنِ سَعِيدٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهُويَهْ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ بِخُرَاسَانَ وَالحِجَازِ, وَالعِرَاقِ, وَمِصْرَ, وَالشَّامِ, وَالجَزِيرَةِ، وَبَرَعَ فِي هَذَا الشَّأْنِ, وَتَفَرَّدَ بِالمَعْرِفَةِ وَالإِتْقَانِ وَعُلُوِّ الإِسْنَادِ، وَاسْتَوْطَنَ مِصْرَ.
قَالَ أَئِمَّةُ الحَدِيثِ: إنَّهُ كَانَ أَحْفَظَ مِنْ مُسْلِمٍ صَاحِبِ الصَّحِيحِ. وَسُنَنُهُ أَقَلُّ السُّنَنِ بَعْدَ الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثاً ضَعِيفاً، وَاخْتَارَ مِنْ سُنَنِهِ كِتَابَ (المُجْتَبَى) لَمَّا طُلِبَ مِنْهُ أَنْ يُفْرِدَ الصَّحِيحَ مِن السُّنَنِ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِثَلاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ شَهْرِ صَفَرٍ, سَنَةَ ثَلاثٍ وَثَلاثِمِائَةٍ بِالرَّمْلَةِ، وَدُفِنَ بِبَيْتِ المَقْدِسِ، وَنِسْبَتُهُ إلَى نَسَاءَ بِفَتْحِ النُّونِ وَفَتْحِ السِّينِ المُهْمَلَةِ وَبَعْدَهَا هَمْزَةٌ، وَهِيَ مَدِينَةٌ بِخُرَاسَانَ خَرَجَ مِنْهَا جَمَاعَةٌ مِن الأَعْيَانِ.
(وَابْنُ مَاجَهْ) هُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مَاجَه القَزْوِينِيُّ؛ مَوْلِدُهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَمِائَتَيْنِ، وَطَلَبَ هَذَا الشَّأْنَ وَرَحَلَ فِي طَلَبِهِ وَطَافَ البِلادَ حَتَّى سَمِعَ أَصْحَابَ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ، وَرَوَى عَنْهُ خَلائِقُ، وَكَانَ أَحَدَ الأَعْلامِ.
وَأَلَّفَ (السُّنَنُ)، وَلَيْسَتْ لَهَا رُتْبَةُ مَا أُلِّفَ مِنْ قَبْلِهِ؛ لِأَنَّ فِيهَا أَحَادِيثَ ضَعِيفَةً بَلْ مُنْكَرَةً، وَنُقِلَ عَن الحَافِظِ المِزِّيِّ أَنَّ غَالِبَ مَا انْفَرَدَ بِهِ الضعفُ، وَلِذَا جَرَى كَثِيرٌ مِن القُدَمَاءِ عَلَى إضَافَةِ المُوَطَّأِ إلَى الخَمْسَةِ.
قَالَ المُصَنِّفُ: وَأَوَّلُ مَنْ أَضَافَ ابْنَ مَاجَهْ إلَى الخَمْسَةِ أَبُو الفَضْلِ بْنُ طَاهِرٍ فِي الأَطْرَافِ، وكَذَا فِي شُرُوطِ الأَئِمَّةِ السِّتَّةِ، ثُمَّ الحَافِظُ عَبْدُ الغَنِيِّ، فِي كِتَابِهِ (أَسْمَاءُ الرِّجَالِ)، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الثُّلاثَاءِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَلاثٍ، أَوْ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ.
(وَبِالسِّتَّةِ) أَيْ: وَالمُرَادُ بِالسِّتَّةِ إذَا قَالَ: أَخْرَجَهُ السِّتَّةُ (مَنْ عَدَا أَحْمَدَ) وَهُم المَعْرُوفُونَ بِأَهْلِ الأُمَّهَاتِ السِّتِّ (وَبِالخَمْسَةِ مَنْ عَدَا البُخَارِيَّ وَمُسْلِماً وَقَدْ أَقُولُ) عِوَضاً عَنْ قَوْلِهِ: الخَمْسَةُ (الأَرْبَعَةُ) وَهُمْ أَصْحَابُ السُّنَنِ إذَا قِيلَ: أَصْحَابُ السُّنَنِ (وَأَحْمَدُ، وَ) المُرَادُ (بِالأَرْبَعَةِ) عِنْدَ إطْلاقِهِ لَهُمْ (مَنْ عَدَا الثَّلاثَةَ الأُوَلَ) الشَّيْخَيْنِ وَأَحْمَدَ (وَ) المُرَادُ (بِالثَّلاثَةِ) عِنْدَ إطْلاقِهِ لَهُمْ (مَنْ عَدَاهُمْ) أَيْ: مَنْ عَدَا الشَّيْخَيْنِ وَأَحْمَدَ، والَّذِي عَدَاهُمْ هُم الأَرْبَعَةُ أَصْحَابُ السُّنَنِ (وَعَدَا الأَخِيرَ) وَهُوَ ابْنُ مَاجَهْ فَيُرَادُ بِالثَّلاثَةِ: أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ(وَ) المُرَادُ (بِالمُتَّفَقِ) إذَا قَالَ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ) فَإِنَّهُمَا إذَا أَخْرَجَا الحَدِيثَ جَمِيعاً مِنْ طَرِيقِ صَحَابِيٍّ وَاحِدٍ قِيلَ لَهُ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ, أَيْ: بَيْنَ الشَّيْخَيْن.
(وَقَدْ لا أَذْكُرُ مَعَهُمَا) أَي الشَّيْخَيْنِ (غَيْرَهُمَا) كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّهُ قَدْ يُخَرِّجُ الحَدِيثَ السَّبْعَةُ أَوْ أَقَلُّ، فَيَكْتَفِي بِنِسْبَتِهِ إلَى الشَّيْخَيْنِ, (وَمَا عَدَا ذَلِكَ) أَيْ: مَا أَخْرَجَهُ غَيْرُ مَنْ ذُكِرَ كَابْنِ خُزَيْمَةَ وَالبَيْهَقِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيِّ(فَهُوَ مُبَيَّنٌ) بِذِكْرِهِ صَرِيحاً.
(وَسَمَّيْتُه) أَي: المُخْتَصَرَ (بُلُوغُ المَرَامِ) هُوَ مِنْ بَلَغَ المَكَانَ بُلُوغاً وَصَلَ إلَيْهِ، كَمَا فِي القَامُوسِ، وَالمَرَامُ: الطَّلَبُ، وَالمَعْنَى الإِضَافِيُّ: وُصُولُ الطَّلَبِ، بِمَعْنَى المَطْلُوبِ، أَيْ: فَالمُرَادُ وُصُولِي إلَى مَطْلُوبِي (مِنْ جَمعِ أَدِلَّةِ الأَحْكَامِ) ثُمَّ جَعَلَهُ اسْماً لِمُخْتَصَرِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إضَافةُ إلَى مَفْعُولِ المَصْدَرِ، أَيْ: بُلُوغُ الطَّالِبِ مَطْلُوبَهُ مِنْ أَدِلَّةِ الأَحْكَامِ.
(وَاللَّهَ) بِالنَّصْبِ مَفْعُولُ (أَسْأَلُ) قُدِّمَ عَلَيْهِ لِإِفَادَةِ الحَصْرِ, أَيْ: لا أَسْأَلُ غَيْرَهُ (أَنْ لا يَجْعَلَ مَا عَلِمْنَا عَلَيْنَا وَبَالاً) بِفَتْحِ الوَاوِ: هُوَ الشِّدَّةُ وَالثِّقَلُ كَمَا فِي القَامُوسِ، أَيْ: لا يَجْعَلَهُ شِدَّةً فِي الحِسَابِ وَثِقَلاً مِنْ جُمْلَةِ الأَوْزَارِ؛ إذ الأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ إذَا لَمْ تُخْلَصْ لِوَجْهِ اللَّهِ انْقَلَبَتْ أَوْزَاراً وَآثَاماً.
(وَأَنْ يَرْزُقَنَا العَمَلَ بِمَا يُرْضِيهِ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) أُنَزِّهُهُ عَنْ كُلِّ قَبِيحٍ، وَأُثْبِتُ لَهُ العُلُوَّ عَلَى كُلِّ عَالٍ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ، وَكَثِيراً مَا قُرِنَ التَّسْبِيحُ بِصِفَةِ العُلُوِّ؛ كَسُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى, و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}.
_______________________

(1) لعل الصواب: بهما.
(1) لعل الصواب: لا سيَّما.


  #3  
قديم 21 ذو القعدة 1429هـ/19-11-2008م, 06:05 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي توضيح الأحكام للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن البسام


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مُقَدِّمَةُ الطبعةِ الخامسةِ

الحمدُ للهِ المُبْدِئِ المُعِيدِ، شَرَعَ أَحْكَامَهُ وَفْقَ مَصالِحِ العَبِيدِ، والصلاةُ والسلامُ على صاحبِ القولِ السديدِ، الذي بَلَّغَ شَرْعَ ربِّه بالمُوجَزِ المُفيدِ، وعلى آلِه وصَحْبِه الذين حَمَلُوا الشريعةَ فأَدَّوْها بأمانةٍ وتَسديدٍ.
أمَّا بَعْدُ:
فأحمَدُ اللَّهَ تعالى وأَشْكُرُه على ما يَسَّرَ وسَهَّلَ مِن وَضْعِ هذا الشرْحِ الشاملِ المفيدِ، الذي جَمَعَ مِن العلومِ الطارِفَ والتَّلِيدَ، بأسلوبٍ مَبْسُوطٍ مُيَسَّرٍ، وتَرْتِيبٍ مُفَصَّلٍ؛ لِيَسْتَفِيدَ منه كلُّ قارِئٍ، فلا يَرْتَفِعُ ويَصْعُبُ على المُبْتَدِئِ، ولا يَنْزِلُ في مُسْتَوَاه عن المُنْتَهِي؛ لذا صارَ له القَبُولُ – وللهِ الحمدُ – عندَ طَبَقاتِ القُرَّاءِ، فتَنَاوَلُوه بتلهُّفٍ مِن حينِ صُدُورِه، حتَّى نَفِدَتْ نُسَخُ طَبَعاتِه الأُولى في مُدَّةٍ وَجِيزَةٍ جِدًّا.
ورَاحَ الطلَبُ والسؤالُ عنها بعدَ ذلك بإلحاحٍ، ممَّا شَجَّعَنا على إعادةِ طبعِه، وإسعافِ طالِبِيهِ، ولكنْ بصورةٍ أفضلَ مِن الأُولى، وبتحقيقٍ أَوْفَى وأَكْمَلَ، أَرْجُو مِن اللَّهِ تعالى أنْ أكونَ في هذه الطبعةِ قد سَدَّدْتُ وقَارَبْتُ أكثرَ مِن سابِقَتِها.
ولا بُدَّ للإنسانِ أنْ يَعْرِضَ له في فَتَرَاتٍ لاحقةٍ، ما يُقَوِّمُ به فَرَطَاتٍ نَدَّتْ منه في أيَّامٍ سابقةٍ، ما دَامَتْ له يدٌ تَصِلُ إلى كتابٍ، أو فِكْرٌ يَهْدِيه إلى صوابٍ.
وقد كَتَبَ القاضي الفاضلُ، شيخُ صِناعةِ الكتابةِ في عَصْرِهِ عبدُ الرَّحِيمِ بنُ عليٍّ البَيْسَانِيُّ، المُتَوَفَّى سنةَ (596) – رَحِمَه اللَّهُ– إلى نائبِه في وَزَارَةِ الكتابةِ الأديبِ الشهيرِ العِمادِ الأَصْفَهَانِيِّ المُتَوَفَّى سنةَ (597)، كَتَبَ إليه يقولُ:
"إنِّي رَأَيْتُ أنه لا يَكْتُبُ إنسانٌ كتاباً في يومٍ إلاَّ قالَ في غَدِه: لو غُيِّرَ هذا لكانَ أحسنَ، ولو زِيدَ كذا لكانَ يُسْتَحْسَنُ، ولو قُدِّمَ هذا لكانَ أفضلَ، ولو تُرِكَ هذا لكانَ أجملَ. وهذا مِن أعظمِ العِبَرِ، وهو دليلٌ على استيلاءِ النقْصِ على جُملةِ البَشَرِ".
وقد كانَ منِّي في هذه الطبعةِ، كما قالَ القاضي الفاضِلُ، فاسْتَدْرَكْتُ:
أولاً: ما فاتَنا مِن أخطاءٍ مَطْبَعِيَّةٍ وَقَعَتْ في الطَّبَعاتِ الأولى.
ثانياً: زِدْتُ فيها زياداتٍ كثيرةً هامَّةً، وفوائدَ فقهيَّةً غالِيةً، مَيَّزَتْ هذه الطبعةَ عن سابقتِها تمييزاً بيِّناً.
ثالثاً: زِدْتُ في تخريجِ أكثرِ الأحاديثِ، معَ تحقيقٍ أكثرَ في بيانِ درجةِ الحديثِ.
رابعاً: زِدْتُ كثيراً في شرحِ المفرَداتِ من الناحيةِ اللُّغَوِيَّةِ والصرفيَّةِ والنحْوِيَّةِ والعِلْمِيَّةِ وتحديدٍ أكثرَ للمواضِعِ.
خامساً: وَصَلَتْنِي قراراتُ المَجْمَعِ الفِقْهِيِّ التابعِ لمنظمةِ المؤتمرِ الإسلاميِّ بجُدَّةَ، وقَرَارَاتُ هيئةِ كِبارِ العلماءِ، وقراراتُ المَجْمَعِ الفقهيِّ التابعِ لرابطةِ العالمِ الإسلاميِّ، حتى هذا العامِ (1421هـ) منذُ تأسيسِه، فأَلْحَقْتُ كلَّ قرارٍ بالمكانِ الذي يُناسِبُه مِن أبوابِ ومسائلِ الكتابِ.
وهي قراراتٌ هامَّةٌ جدًّا، بَحَثَها نُخبةٌ مختارَةٌ مِن علماءِ المسلمينَ في القضايا المعاصرةِ والقضايا المتقدِّمَةِ التي تَحتاجُ إلى فحصٍ وتمحيصٍ، حيثُ خَرَجَ منها المَجْمَعُ برأيٍ واحدٍ فيها.
سادساً: أَجْرَيْتُ بعضَ التغييرِ والتقديمِ والتأخيرِ لعباراتٍ وفِقْراتٍ في الكتابِ، مِمَّا زادَه حُسناً وفَضلاً.
سابعاً: وَضَعْتُ المتنَ، وهو (أحاديثُ بلوغِ المرامِ) بأعلى الصحائفِ مكتوبةً بحرفٍ مُتَمَيِّزٍ بلونِه وحَجمِه وضَبْطِه.
وبالجملةِ: فإنَّ القارِئَ الكريمَ سَيَرَى – إنْ شاءَ اللَّهُ تعالى – فَرقاً كبيراً واضحاً بينَ هذه الطبعةِ الخامسةِ وسابقتِها، عسى بذلك أنْ تكونَ ملائمةً لمقامِ هذا الكتابِ الذي هو شرحٌ لكتابٍ عظيمٍ، ألا وهو كتابُ (بُلُوغُ المَرَامِ).
ونَسْأَلُ اللَّهَ تعالى أنْ يَجْعَلَ عَمَلِي خالِصاً لوجهِه الكريمِ، وأنْ يُوَفِّقَنَا وإخوانَنَا المسلمينَ لِمَا يُحِبُّه ويَرْضَاه، وصَلَّى اللَّهُ وسَلَّمَ على سيِّدِنا مُحَمَّدٍ، وعلى آلِهِ وصَحْبِه أجمعينَ.
وكَتَبَه المؤلِّفُ
عبدُ اللَّهِ بنُ عبدِ الرحمنِ البَسَّامُ
شهرَ شعبانَ 1421هـ
في مَنْزِلِه في عَوَالِي مَكَّةَ
شَرَّفَها اللَّهُ تعالى وحَماها مِن كلِّ سُوءٍ.


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الإلمامُ في أصولِ الأحكامِ

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على أشرفِ المرسلينَ نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ، وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ، والتابعينَ لهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ.
أمَّا بعدُ:
فإنَّ مَن تَصَدَّى لاستنباطِ الأحكامِ الشرعيَّةِ من مصدرِها الأوَّلِ (الكتابِ والسنَّةِ)، أو كانَ يَتَلَقَّى تلك الأحكامَ مِمَّن يَأْخُذُها من هذا المصدرِ، ويُمْعِنُ نظرَه فيها، ويَخْتارُ منها ما رأَى أنه أقربُ إلى الصوابِ، فإنَّ عليه أنْ يكونَ ذا إلمامٍ بالأصولِ الأربعةِ:
1- مُصْطَلَحُ الحديثِ.
2- أصولُ الفِقْهِ.
3- القواعدُ الفقهيَّةُ.
4- المقاصدُ الشرعيَّةُ.
فيَعْرِفُ بالأصلِ الأولِ الحديثَ الذي يَصْلُحُ الاعتمادُ عليه والاحتجاجُ به.
ويَفْهَمُ بالأصلِ الثاني أدلَّةَ الأحكامِ الفرعيَّةِ المتعلِّقَةِ بأفعالِ المكلَّفينَ.
ويَجْمَعُ بالأصلِ الثالثِ شَتَاتَ المسائلِ بهذه القواعدِ التي تَضْبِطُ أفرادَها وتَرْبِطُ فرائِدَها عن التَّشَتُّتِ والانتشارِ.
ويَعْرِفُ بالأصلِ الرابعِ أسرارَ الشريعةِ ومقاصِدَها، وما تَتَوَخَّاهُ مِن جَلْبِ المصالحِ ودَرْءِ المفاسدِ.
لذا فإني جَعَلْتُ بينَ يَدَي شَرْحِي على بلوغِ المَرَامِ هذه المقدماتِ الأربعَ؛ لِتكونَ أمامَ قارئِ هذا الشرحِ، فتُرِيَه كيفَ أَخَذْتُ الأحكامَ مِن أصولِها، واسْتَنْبَطْتُ المسائلَ مِن مَصْدَرِها، فيُدْرِكَ طُرُقَ الاستنباطِ وسُبُلَ السيْرِ إلى الاجتهادِ؛ فإنَّ إِدْرَاكَه يَزِيدُه طُمَأْنِينَةً إلى صحَّةِ الحُكْمِ، ويُدَرِّبُه على الإقدامِ إلى أخذِ المسائلِ مِن أصولِها، ولتكونَ هذه المقدماتُ بدايةَ الطريقِ في سُلُوكِ بابِ الترجيحِ بينَ المسائلِ المتعارضةِ، والاجتهادِ في إصابةِ الحقِّ في الأحكامِ المختلفةِ.
واللَّهُ المسؤولُ أنْ يَنْفَعَ بها مَن جَمَعَها ومَن قَرَأَهَا، وأنْ يَجْعَلَ العملَ فيها والاستفادةَ مِنها خالِصَيْنِ لوجهِ اللَّهِ الكريمِ، ومُقَرِّبَيْنِ لَدَيْهِ في جنَّاتِ النعيمِ.
وصَلَّى اللَّهُ وسَلَّمَ على نبيِّنا مُحَمَّدٍ، وعلى آلِهِ وصَحْبِه أجمعينَ.
المُؤَلِّفُ.
25/3/1410هـ


الأصلُ الأولُ
في مُصْطَلَحِ الحديثِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على خاتَمِ المرسلينَ نبيِّنا مُحَمَّدٍ، وعلى آلِه وأصحابِه أجمعينَ، وعلى التابعينَ لهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.
أمَّا بعدُ:
فهذه رسالةٌ مُخْتَصَرَةٌ ومُقَدِّمَةٌ مفيدةٌ في أصولِ الحديثِ، أَضَعُها أمامَ قارِئِ شَرْحِي على بلوغِ المرامِ، جامعةٌ لِمَا تَمَسُّ الحاجةُ إليه مِن مُصْطَلَحِ علمِ الحديثِ، تَوَخَّيْتُ فيها تَسهيلَ مبادِئِ هذا الأصلِ، فقَرَّبْتُه مِن طالبِ العلمِ؛ ليَقْطِفَ أزهارَه ويَجْنِيَ بواكِيرَ ثِمارِه بيُسْرٍ وسُهُولَةٍ، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلاَّ باللَّهِ العَلِيِّ العظيمِ.

مصطلحُ علمِ الحديثِ:
تعريفُه: هو علمٌ يُعْرَفُ به حالُ الراوِي والمَرْوِيِّ مِن حيثُ القَبُولُ والردُّ.
فائدتُه: معرفةُ ما يُقْبَلُ وما يُرَدُّ من الأحاديثِ بتمييزِ الصحيحِ مِن السَّقيمِ.
استمدادُه: تُسْتَمَدُّ مادَّةُ هذا العلمِ مِن أحوالِ مَتْنِ الحديثِ، وأحوالِ رُواتِه وروايتِهم وتَتَبُّعِ تلك الأحوالِ.
تعريفاتٌالحديثُ، والخَبَرُ: مُترادفانِ؛ فهما ما نُسِبَ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قولٍ أو فعلٍ أو تَقريرٍ.
الإسنادُ، والسَّنَدُ: مترادفانِ؛ فهما سِلْسِلَةُ الرجالِ المُوصِلَةُ إلى المَتْنِ.
المَتْنُ: ما يَنْتَهِي إليه السندُ مِن الكلامِ.

تقسيمُ الحديثِ باعتبارِ طُرُقِهِ:
الحديثُ قِسمانِ: متواترٌ وآحادٌ.
المتواترُ: ما وَصَلَ بطُرقٍ ليسَ لها عددٌ مُعَيَّنٌ، فهو ما رَوَاه عددٌ كثيرٌ تُحِيلُ العادةُ تَوَاطُؤَهُم على الكَذِبِ.
والآحادُ: هو الحديثُ الذي وَصَلَ إلينا بطُرُقٍ محصورةٍ معيَّنَةٍ، فإذا ثَبَتَتْ أفادَتِ العلمَ.
أقسامُ الآحادِ:
غريبٌ: ما انْفَرَدَ بروايتِه راوٍ واحدٌ، ولو في طَبَقَةٍ واحدةٍ مِن طَبَقاتِ السَّنَدِ.
عَزِيزٌ: أنْ لا يَقِلَّ رواتُه في جميعِ طَبَقاتِ السنَدِ عن اثنيْنِ.
مشهورٌ، ومُسْتَفِيضٌ: مُترادفانِ؛ فهما ما رَوَاهُ ثلاثةٌ فأكثرُ في كلِّ طَبَقَةٍ ما لم يَبْلُغْ حَدَّ التواترِ.

تقسيمُ الحديثِ مِن حيثُ القَبُولُ:
يَنْقَسِمُ إلى أربعةِ أقسامٍ:
1- الصحيحُ لذاتِه: هو ما اتَّصَلَ سَنَدُه بنقلِ عَدْلٍ تامِّ الضبْطِ عن مِثْلِه حتى نهايةِ السنَدِ، وأنْ يَخْلُوَ مِن الشذوذِ والعِلَّةِ.
2- الصحيحُ لغيرِه: هو ما اجْتَمَعَ فيه شروطُ الحسنِ لذاتِه؛ فرُوَاتُه أقلُّ ضَبطاً، ويَنْجَبِرُ ذلك بتعددِ الطرُقِ.
3- الحسنُ لذاتِه: هو ما اجْتَمَعَ فيه شروطُ الصحيحِ لذاتِه، لكن يكونُ رَاوِيه خفيفَ الضبطِ، ولا يُوجَدُ ما يَجْبُرُ ذلك القُصُورَ.
4- الحَسَنُ لغيرِه: هو الحديثُ الضعيفُ الذي انْجَبَرَ ضعفُه بتعددِ الطرقِ حتى تَرَجَّحَ جانِبُ قَبُولِه.
أنواعُ الأحاديثِ المردودةِ:
يُقَابِلُ الأحاديثَ المقبولةَ الأحاديثُ المردودةُ، وهي ما قَصُرَتْ عن رُتبةِ الحسنِ بفقدِ شرطٍ فأكثرَ مِن شروطِه، ويَتَفاوَتُ هذا الضعفُ مِن حيثُ شِدَّتُه وخِفَّتُه، والحديثُ الضعيفُ أقسامٌ كثيرةٌ، نَذْكُرُ المشهورَ منها:
ضعفُ الحديثِ مِن حيثُ فَقْدُ العدالةِ والضبْطِ:
مِن أقسامِه:
المُخْتَلِطُ: هو الراوي الذي طَرَأَ عليه سُوءُ الحِفْظِ بكِبَرِ سِنِّه أو ذَهابِ بَصَرِه، أو لِفَقْدِ كُتُبِه، فما حَدَّثَ قَبْلَ الاختلاطِ قُبِلَ، وما لم يَتَمَيَّزْ يُتَوَقَّفُ فيه.
المُنْكَرُ: ما رَوَاه الضعيفُ مخالفاً للثِّقَةِ، ويُسَمَّى مُقابِلُه (المعروفَ).
المُبْهَمُ: هو أنْ يكونَ الراوِي مجهولاً.
المتروكُ: هو ما روَاه معروفٌ بالكَذِبِ في كلامِ الناسِ.
الموضوعُ: هو ما روَاه راوٍ عُرِفَ بتعمُّدِ الكَذِبِ على رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

ضعفُ الحديثِ من حيثُ فَقْدُ الاتصالِ:
المقطوعُ: هو ما أُضِيفَ إلى التابِعِيِّ أو إلى مَن دُونَه مِن قولٍ أو فعلٍ، مُتَّصِلاً كانَ أو مُنْقَطِعاً.
المُنْقَطِعُ: هو ما سقَطَ مِن رُوَاتِه راوٍ واحدٌ فأكثرُ، مِن غيرِ توالٍ قبلَ الصحابِيِّ.
المُعْضَلُ: هو ما سَقَطَ مِن إسنادِه راويانِ فأكثرُ، على التوالي في أيِّ مكانٍ في السَّنَدِ.
المُعَلَّقُ: هو ما حُذِفَ مِن مَبْدَأِ إسنادِه راوٍ فأكثرُ.
المُرْسَلُ: هو ما روَاه التابعِيُّ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
المُدَلَّسُ: وهو قِسمانِ: الأولُ: تَدْلِيسُ الإسنادِ؛ بأنْ يُوهِمَ بأنه سَمِعَ مِن شيخِه وهو لم يَسْمَعْ منه، ويَرْوِيَ ذلك بصيغةٍ مُحْتَمِلَةٍ.
الثاني: تدليسُ الشيوخِ، بأنْ يَرْوِيَ عن شيخٍ فيُسَمِّيَه بما لا يُعْرَفُ به حتَّى لا يُعْرَفَ.

ضعفُ الحديثِ من حيثُ وُجُودُ الشذوذِ أو العِلَّةِ:
الشاذُّ: هو ما رَوَاه المقبولُ مخالِفاً مَن هو أَوْثَقُ منه، والذي يُقابِلُه يُسَمَّى (المحفوظَ).
المُعَلَّلُ: هو ما يكونُ فيه علةٌ خَفِيَّةٌ قادحةٌ في صحَّتِه، معَ أنَّ ظاهرَه السلامةُ، وسببُ العِلَّةِ وَهْمُ راويه.
والطريقُ إلى معرفةِ حالِ الحديثِ وكشفِ العلةِ: هو جمعُ طُرُقِ الحديثِ والنظرُ في اختلافِ رُوَاتِه وضَبْطِهِم.
والعِلَّةُ قد تكونُ في المتنِ، وقد تكونُ في السنَدِ وهو أكثرُ.
المُضْطَرِبُ: هو الذي يُرْوَى على أشكالٍ متعارضةٍ، ولا يُمْكِنُ التوفيقُ بينَها، وتكونُ متساويةً في القوَّةِ.
والاضْطِرَابُ قد يكونُ في المتنِ، وقد يكونُ في السندِ وهو أكثرُ.

أقسامُ الحديثِ باعتبارِ مَن أُضِيفَ إليه:
المرفوعُ: هو ما أُضِيفَ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ، سواءٌ كانَ مُتَّصِلاً أو مُنْقَطِعاً.
الموقوفُ: هو ما أُضِيفَ إلى الصحابِيِّ، سواءٌ كانَ متَّصِلاً أو منقطعاً.
المقطوعُ: هو ما أُضِيفَ إلى التابعِيِّ أو مَن دُونَه مِن قولٍ أو فعلٍ، متَّصِلاً كانَ أو منقطِعاً.
المُسْنَدُ: ما اتَّصَلَ سَنَدُه إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فائدةٌ:
المقطوعُ هو غيرُ المُنْقَطِعِ؛ لأنَّ المقطوعَ مِن صفاتِ المتنِ، والمنقطِعَ مِن صفاتِ السندِ.

من أنواعِ الكتبِ في علمِ الحديثِ:
الجامِعُ: هو كتابٌ جَمَعَ فيه مؤلِّفُه أقسامَ الحديثِ في العقائدِ والأحكامِ، والآدابِ والتفسيرِ، والسِّيَرِ والمناقِبِ وغيرِ ذلكَ، مِثْلَ صحيحِ البُخارِيِّ.
المُسْنَدُ: ما جَمَعَ فيه مؤلِّفُه الأحاديثَ على ترتيبِ الصحابةِ؛ فكلُّ أحاديثِ صحابيٍّ جُمِعَتْ وحدَها، بقَطْعِ النظرِ عن مَوَاضِيعِها، وأشهرُ المسانيدِ مسندُ الإمامِ أحمدَ.
السُّنَنُ: هو كتابٌ جُمِعَتْ فيه الأحاديثُ على ترتيبِ أبوابِ الفِقْهِ، مثلُ سُنَنِ أبي داودَ.
المُعْجَمُ: كتابٌ جُمِعَتْ فيه الأحاديثُ على ترتيبِ الشيوخِ؛ إمَّا على حَسَبِ حروفِ الهجاءِ، وإما على حسَبِ وفاةِ الشيخِ، أو غيرِ ذلكَ، مثلُ المعاجِمِ الثلاثةِ للطبرانِيِّ.
المُسْتَدْرَكُ: كتابٌ جُمِعَ فيه ما فاتَ صاحِبَ كتابٍ آخَرَ، ويكونُ على شرطِه، مثلُ مُسْتَدْرَكِ الحاكِمِ على الصحيحيْنِ.
المُسْتَخْرَجُ: كتابٌ يَعْمِدُ صاحبُه إلى أحدِ كتبِ الصحاحِ، فيُورِدُ أحاديثَه بأسانيدَ لنفسِه من غيرِ طريقِ المؤلِّفِ، كمُسْتَخْرَجِ الإسماعيليِّ على صحيحِ البخاريِّ.
العِلَلُ: كتابٌ جُمِعَ فيه الأحاديثُ المعلولةُ، معَ بيانِ عِلَلِها، مثلُ كتابِ العللِ للدَّارَقُطْنِيِّ، والعِلَلِ للتِّرْمِذِيِّ.
الجُزْءُ: هو كتابٌ جُمِعَ فيه أحاديثُ رجلٍ واحدٍ أو مسألةٍ واحدةٍ، مثلُ جُزْءِ القِراءةِ خَلْفَ الإمامِ للبُخاريِّ.
الأربعونَ: كتابٌ جَمَعَ أربعينَ حديثاً مِن بابٍ واحدٍ، أو من أبوابٍ شَتَّى، وأَشْهَرُها الأربعونَ للنَّوَوِيِّ.
مَن أَخْرَجَ لهم المؤلِّفُ في بُلُوغِ المَرامِ:
1- الإمامُ أبو عبدِ اللَّهِ أحمدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ حَنْبَلٍ الشَّيْبَانِيُّ البغداديُّ، أحدُ الأئمَّةِ الأربعةِ، تُوُفِّيَ عامَ (241هـ).
2- الإمامُ أبو عبدِ اللَّهِ محمدُ بنُ إسماعيلَ البخاريُّ الجُعْفِيُّ، مولاهم صاحِبُ الصحيحِ، تُوُفِّيَ (256هـ).
3- الإمامُ أبو الحسينِ مسلمُ بنُ الحَجَّاجِ القُشَيْرِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ، منسوبٌ إلى إحدَى مُدُنِ خُرَاسَانَ، صاحبُ الصحيحِ، تُوُفِّيَ (261هـ).
4- الإمامُ أبو داودَ سليمانُ بنُ الأشعثِ الأَزْدِيُّ السِّجِسْتَانِيُّ- مدينةٌ بخُراسَانَ- صاحبُ السُّنَنِ، تُوُفِّيَ (275هـ).
5- الإمامُ أبو عيسى مُحَمَّدُ بنُ عيسى التِّرْمِذِيُّ؛ نسبةً إلى تِرْمِذَ بخُرَاسَانَ بقربِ نَهْرِ جَيْحُونَ، تُوُفِّيَ (279هـ)
6- الإمامُ أبو عبدِ الرحمنِ أحمدُ بنُ شُعَيْبٍ النَّسَائِيُّ؛ نسبةً إلى مدينةِ نَسَأَ بخُرَاسَانَ، صاحبُ السُّنَنِ، تُوُفِّيَ (303هـ).
7- الإمامُ أبو عبدِ اللَّهِ محمدُ بنُ يَزِيدَ القَزْوِينِيُّ؛ نسبةً إلى قَزْوِينَ مدينةٍ بعراقِ العَجَمِ، واشْتُهِرَ بـ (ابنِ ماجَهْ)، تُوُفِّيَ (273هـ).
8- الإمامُ أبو عبدِ اللَّهِ مالكُ بنُ أَنَسٍ الأَصْبَحِيُّ؛ نسبةً إلى ذِي أَصْبَحَ أحدِ ملوكِ اليمنِ، أحدُ الأئمَّةِ الأربعةِ، وعالمُ المدينةِ، تُوُفِّيَ (179هـ).
9- الإمامُ أبو عبدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بنُ إِدْرِيسَ الشافِعِيُّ القُرَشِيُّ المُطَّلِبِيُّ، عالمُ قريشٍ، أحدُ الأئمَّةِ الأربعةِ، تُوُفِّيَ (204هـ).
10- الإمامُ أبو بكرٍ عبدُ اللَّهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ أبي شَيْبَةَ الكُوفِيُّ العَبْسِيُّ بالولاءِ، صاحبُ المصنَّفِ، تُوُفِّيَ (235هـ).
11- الإمامُ أبو عبدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بنُ إسحاقَ بنِ خُزَيْمَةَ السُّلَمِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ، إمامُ الأئمَّةِ، تُوُفِّيَ (311هـ).
12- الإمامُ أبو بكرٍ أحمدُ بنُ الحسينِ البَيْهَقِيُّ؛ نسبةً إلى بَيْهَقَ؛ بلدةٍ بقُرْبِ نَيْسَابُورَ، شيخُ خُراسَانَ، صاحبُ مؤلَّفَاتٍ كثيرةٍ مفيدةٍ، تُوُفِّيَ (458هـ).
13- الإمامُ أبو عبدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بنُ عبدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ، اشْتُهِرَ بلقبِ الحاكمِ، ألَّفَ المُسْتَدْرَكَ على الصحيحيْن، تُوُفِّيَ (405هـ).
14- الإمامُ أبو حاتمٍ مُحَمَّدُ بنُ حِبَّانَ البُسْتِيُّ؛ نسبةً إلى بُسْتَ؛ مدينةٍ من أعمالِ كابُلَ، كانَ مِن أوعيةِ العلمِ، تُوُفِّيَ (354هـ).
15- الإمامُ أبو الحسنِ عليُّ بنُ عمرَ الدَّارَقُطْنِيُّ؛ نسبةً إلى دَارِ قُطْنٍ حيٍّ في بغدادَ، إمامٌ حافِظٌ له السننُ، تُوُفِّيَ (385هـ).
16- الإمامُ أبو القاسمِ سليمانُ بنُ أحمدَ الطَّبَرَانِيُّ؛ نسبةً إلى طَبَرِيَّةَ بالشامِ، صاحبُ المعاجِمِ الثلاثةِ، تُوُفِّيَ سنةَ (360هـ).
17- الإمامُ أبو عليٍّ سعيدُ بنُ عثمانَ بنِ السَّكنِ البغداديُّ، من حُفَّاظِ الحديثِ، له (المُنْتَقَى الصحيحُ) في الحديثِ، تُوفِّيَ (354هـ).
18- الإمامُ أبو الحسنِ عليُّ بنُ مُحَمَّدِ بنِ القَطَّانِ، قُرْطُبِيُّ الأصلِ، مِن حُفَّاظِ الحديثِ، له عِدَّةُ مُصَنَّفَاتٍ، تُوُفِّيَ (628هـ).
19- الحافِظُ أبو بكرٍ أحمدُ بنُ عمرِو بنِ عليٍّ البَصْرِيُّ، صاحبُ المُسْنَدَيْنِ الصغيرِ والكبيرِ، تُوُفِّيَ (292هـ).
20- الحافظُ أبو مُحَمَّدٍ عبدُ اللَّهِ بنُ عليِّ بنِ الجَارُودِ النَّيْسَابُورِيُّ، صاحبُ (المُنْتَقَى مِن السننِ المُسْنَدَةِ)، تُوُفِّيَ (307هـ).
هؤلاء هم الأئمَّةُ الذين انْتَقَى الحافظُ ابنُ حَجَرٍ أحاديثَ كتابِه (بلوغُ المرامِ) من أسفارِهم، عَرَّفْنَا بهم القارِئَ بهذا التعريفِ الموجَزِ؛ لتكونَ المعرفةَ الأُولى لمَن لم يَعْرِفْهُم قَبلَ هذا.
الذي اطَّلَعْتُ عليه مِن شروحِ بلوغِ المرامِ:
1- (البَدْرُ التَّمَامُ)، للشيخِ الحسينِ بنِ مُحَمَّدٍ المَغْرِبِيِّ الصَّنْعَانِيِّ، ولا يَزَالُ مخطوطاً، رَأَيْتُه عندَ إبراهيمَ النورِيِّ، وعندي صورةٌ مِنه.
2- (سُبُلُ السَّلاَمِ)، للشيخِ مُحَمَّدِ بنِ إسماعيلَ الصَّنْعَانِيِّ، اخْتَصَرَه مِن البَدْرِ التمامِ، وقدْ طُبِعَ عِدَّةَ طَبَعاتٍ، وهو الشرحُ المتداوَلُ لبُلُوغِ المرامِ.
3- (فَتْحُ العَلاَّمِ)، للشيخِ مُحَمَّدٍ صِدِّيقِ بنِ حَسَنٍ خانَ، مُخْتَصَرٌ مِن سُبُلِ السلامِ، وقد طُبِعَ، وكانَتْ نُسَخُه قليلةً ولكنه صُوِّرَ فانْتَشَرَ.
4- شَرْحُ السيِّدِ مُحَمَّدِ بنِ يُوسُفَ الأهدلِ، قالَ السيِّدُ أمينٌ كتبيٌّ: إنه رآه في مكتبةِ الشيخِ عمرَ حَمْدانَ.
5- شرحُ الشيخِ أحمدَ الدهلويِّ، انْتَخَبَه مِن فتحِ البارِي وعِدَّةِ مصادرَ أُخَرَ.
6- شَرْحُ الشيخِ مُحَمَّدٍ عابدٍ الأنصارِيِّ الحَنَفِيِّ، نَزِيلِ المدينةِ المنوَّرَةِ، جاءَ ذِكْرُه في ذيلِ كَشْفِ الظنونِ.
7- شَرْحُ الشيخِ مُحَمَّدٍ عليٍّ أَحْمَدين المُدَرِّسِ المُنْتَدَبِ مِن مِصْرَ للتدريسِ في المعهدِ السعوديِّ بمكةَ المكرَّمَةِ، ولا يَزَالُ مخطوطاً.
8- (نَيْلُ المَرامِ)، شرحٌ مَدْرَسِيٌّ قام به السيِّدُ علوِيٌّ مالِكِيٌّ، والأستاذُ إبراهيمُ سليمانَ النورِيُّ.
9- (بَشِيرُ الكِرامِ)، حاشِيَةٌ نفيسةٌ للسيِّدِ مُحَمَّدٍ أمينٍ كتبيٍّ.
10- منظومةُ بُلُوغِ المَرامِ، للشيخِ مُحَمَّدِ بنِ إسماعيلَ الصَّنْعانِيِّ، نظَمَ فيه جُلَّ ما حوَاه بلوغُ المرامِ من الأحاديثِ. مطبوعٌ.
11- الإلمامُ بتخريجِ أحاديثِ منظومةِ بلوغِ المرامِ، للسيِّدِ مُحَمَّدِ بنِ يحيى زبارةَ الصَّنْعَانِيِّ. مطبوعٌ معَ نَظْمِ الصَّنعانِيِّ.
هذه الشروحُ والحواشِي التي وصَلَ إليها علمي عن بلوغِ المرامِ، وهي تُنْبِئُ عن اهتمامِ علماءِ المسلمينَ بهذا الكتابِ القَيِّمِ المبارَكِ.

ترجمةُ المؤلِّفِ:
الإمامُ العلاَّمَةُ الحافظُ أبو الفَضْلِ أحمدُ بنُ عليِّ بنِ مُحَمَّدِ بنِ حَجَرٍ العَسْقَلاَنِيُّ- وعَسْقَلاَنُ بفتحِ العَيْنِ وسكونِ السينِ وتخفيفِ اللامِ مدينةٌ من أعمالِ فِلَسْطِينَ قُرْبَ غَزَّةَ- المِصْرِيُّ الشافِعِيُّ، وُلِدَ في مِصْرَ في اليومِ الثاني عَشَرَ مِن شعبانَ عامَ ثلاثةٍ وسبعينَ وسبعِمائةٍ، ونَشَأَ بها فتُوُفِّيَتْ أُمُّهُ في طُفولتِه، ثُمَّ تُوُفِّيَ أبوه في صِباهُ.
دِراستُه ومشايِخُه:
دَخَلَ الكُتَّابَ بعدَ أنْ أَكْمَلَ خَمْسَ سِنِينَ، فأَكْمَلَ حِفْظَ القرآنِ وهو ابنُ تِسْعِ سِنِينَ، وحَفِظَ كثيراً مِن مُتُونِ العلمِ في صِباهُ، ومِنها: العُمْدَةُ، والحاوِي الصغيرُ، ومُخْتَصَرُ ابنِ الحاجِبِ، ومُلْحَةُ الإعرابِ.
وأخَذَ العِلْمَ عن عددٍ كبيرٍ مِن الأعلامِ، مِن أَشْهَرِهِم:
1- السِّرَاجُ البُلْقِينِيُّ: تَفَقَّه عليه.
2- السِّراجُ ابنُ المُلَقِّنِ: وقدِ اخْتَصَّ به ولازَمَه.
3- عبدُ الرَّحِيمِ بنُ رَزِينٍ: سَمِعَ عليه صحيحَ البُخَارِيِّ.
4- الحافِظُ العِرَاقِيُّ: لاَزَمَه نحوَ عَشْرِ سِنينَ، وأَخَذَ عنه جميعَ مسموعاتِه.
5- الجمالُ بنُ ظهيرةَ: أَخَذَ عنه في مَكَّةَ المُكَرَّمَةِ.
6- العِزُّ بنُ جَمَاعَةَ: أَخَذَ عنه، وأَكْثَرَ مِن الأخذِ عنه.
7- الهمَّامُ الخُوَارَزْمِيُّ.
8- الفَيْرُوزآبَادِيُّ صاحبُ القاموسِ: أَخَذَ عنه في علومِ العربيَّةِ.
9- أحمدُ بنُ عبدِ الرحمنِ المعروفُ بابنِ هِشامٍ: كسَلَفِه، أَخَذَ عنه علومَ العربيَّةِ.
10- البُرْهَانُ التَّنُّوخِيُّ: أَخَذَ عنه القِرَاءَاتِ السبْعَ.
وبالجُملةِ: فقدْ أَخَذَ واسْتَفادَ عن أئمَّةِ عصرِه في البلادِ المصريَّةِ، ورَحَلَ إلى غيرِهم في بُلدانِهم.

رَحَلاَتُه:
رَحَلَ إلى بلادٍ كثيرةٍ، كلُّها في طَلَبِ العلمِ وتحقيقِ مسائلِه؛ فمِن البُلدانِ التي أقامَ فيها:
1- الحَرَمانِ الشريفانِ: وجَاوَرَ في مكةَ المكرمةِ، وصَلَّى التراويحَ في المسجدِ الحرامِ سنةَ (785هـ)، وسَمِعَ صحيحَ البُخاريِّ في مكةَ على الشيخِ المُحَدِّثِ عفيفِ الدينِ النَّيْسَابُورِيِّ ثمَّ المَكِّيِّ، وتَرَدَّدَ على مكةَ المكرمةِ مَرَّاتٍ للحَجِّ والاعْتِمارِ.
2- دِمَشْقُ: ووَجَدَ فيها بعضَ تلاميذِ مؤرِّخِ الشامِ ابنِ عَساكِرَ، وأَخَذَ فيها عن ابنِ المُلَقِّنِ والبُلْقِينِيِّ.
3- بيتُ المَقْدِسِ: وكثيرٌ مِن مدنِ فِلَسْطِينَ، كنابُلُسَ، والخَلِيلِ، والرَّمْلَةِ، وغَزَّةَ، واجْتَمَعَ بعلمائِها واسْتَفَاد مِنهم.
4- صَنعاءُ: وبعضُ بُلدانِ اليمنِ، وقَرَأَ على علمائِها واسْتَفَادَ مِنهم.
كلَّ هذا في طَلَبِ العلمِ، والأخذِ عن كبارِ الشيوخِ.
أعمالُه:
وَلاَّه السلطانُ المُؤَيَّدُ نيابةَ القضاءِ عن جلالِ الدينِ البُلْقِينِيِّ ثمَّ عرَضَ عليه قضاءَ البلادِ المِصْرِيَّةِ في عامِ (827هـ) فقَبِلَ ونَدِمَ على ذلك، ثمَّ بعدَ سنةٍ واحدةٍ اسْتَقالَ عنه، ثمَّ أَلَحَّ عليه في قَبُولِه فرأَى الأمرَ مُتَعَيِّناً عليه، فقَبِلَ الوِلايةَ وفَرِحَ به الناسُ فرحاً عظيماً، ثمَّ زِيدَ في وِلايتِه، فضُمَّ إليه قضاءُ البلادِ الشاميَّةِ حتى قبلَ عامِ (833هـ) وما زالَ حِيناً يقومُ بالقضاءِ وحيناً يَتْرُكُه؛ وذلك لكثرةِ الشغْبِ والتعصُّبِ والأهواءِ، حتى بَلَغَتْ سِنُو قضائِه إحدَى وعشرينَ سنةً بعدَ أنِ انْتَهَتْ إليه رئاسةُ القُضاةِ، وكانَ آخِرُ ولايتِه القضاءَ في اليومِ الثامنِ من رَبيعٍ الثاني عامَ (852هـ).
كما وَلِيَ من الأعمالِ:
- الخطابةَ في الجامِعِ الأزهرِ.
- الخطابةَ في جامعِ عمرِو بنِ العاصِ في القاهرةِ.
- مَنْصِبَ الإفتاءِ بدارِ العَدْلِ.

مؤلَّفَاتُه:
الحافِظُ ابنُ حَجَرٍ رَزَقَه اللَّهُ تعالى في مؤلَّفاتِه مَيْزَاتٍ قَلَّ أنْ تُوجَدَ لغيرِه؛ فإنَّها جَمَعَتْ مِن السَّعَةِ والتحقيقِ ما لم يَكُنْ لغيرِها، فصارَ لها القَبُولُ التامُّ والانتشارُ العامُّ، في حياتِه وحتى الآنَ، فلا نَجِدُ باحثاً ولا مؤلِّفاً إلا يَعْتَمِدُ على كُتُبِه، ومِن أشهرِ مؤلَّفاتِه ما يأتي:
1- (فَتْحُ البارِي بشرحِ صحيحِ البُخارِيِّ) الذي يَعْتَبِرُه المحقِّقونَ أنفعَ شروحِ البخاريِّ، حتى قالَ بعضُهم: إنَّ شرحَ البخاريِّ دَيْنٌ على أُمَّةِ مُحَمَّدٍ لم يُوَفِّهِ إلاَّ الحافِظُ ابنُ حَجَرٍ بفتحِ البارِي.
2- (تَهْذِيبُ التهذيبِ) جَمَعَ تَراجِمَ رجالِ الحديثِ وبَيَّنَ مقاماتِهم ومنازِلَهم.
3- (الإصابةُ في تَمْيِيزِ الصحابةِ) خَصَّه لتراجمِ أصحابِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويَمْتَازُ ببيانِ مَرْوِيَّاتِهم ومَن أَخَذَ عنهم.
4- (بُلُوغُ المرامِ مِن أدلَّةِ الأحكامِ) وسيأتي الكلامُ عليه إنْ شاءَ اللَّهُ تعالى.
وبالجملةِ: فقدْ بَلَغَتْ مؤلَّفَاتُه نحوَ خمسينَ ومائةٍ، أَغْلَبُها في تحقيقِ السنَّةِ المُطَهَّرَةِ؛ روايةً ودِرايةً.
وابنُ حَجَرٍ مَفْخَرَةٌ مِن مفاخرِ الزمانِ، وعَلَمٌ مِن أئمَّةِ الإسلامِ، ورئيسٌ مِن رؤساءِ العِلْمِ، نَفَعَ اللَّهُ تعالى بعلمِه مِن تخريجِ التلاميذِ الكبارِ، ومِن تأليفِ الأسفارِ، وهذه الترجمةُ الموجزةُ لا تُوَفِّيه حقَّه، ولا تُظْهِرُ مزاياه، ولا تُبْرِزُ فضلَه، وقدْ أَفْرَدَ له كثيرٌ مِن العلماءِ والحفَّاظِ التصانيفَ في تَرْجَمَتِه، وأحسنُ مَن كَتَبَ تلميذُه العلاَّمَةُ السَّخَاوِيُّ في كتابٍ سَمَّاهُ (الجَوَاهِرُ والدُّرَرُ في ترجمةِ الحافظِ ابنِ حَجَرٍ).
تُوُفِّيَ – رَحِمَه اللَّهُ – في بلادِ مِصْرَ في 28 ذي الحِجَّةِ عامَ (852هـ). ودُفِنَ بالقَرَافَةِ الصُّغْرَى، رَحِمَه اللَّهُ تعالى رَحْمَةَ المُصْطَفَيْنَ الأخيارِ.

بُلُوغُ المَرامِ
كتابٌ مُباركٌ مُفيدٌ معَ صِغَرِ حَجْمِه، حوَى ما يُغْنِي عن التطويلِ، وأَقْبَلَ عليه العلماءُ قديماً وحديثاً، فلا تَجِدُ حَلْقَةَ عالمٍ إلاَّ وكتابُ (بلوغُ المَرامِ) في رأسِ قائمةِ الدروسِ، وأَقْبَلَ عليه الطلاَّبُ بالحِفْظِ والتداوُلِ، واسْتَغْنَوْا به عن غيرِه مِن أمثالِه، فصارَ له قَبُولٌ، وعليه إقبالٌ، حتى اسْتَفادَ منه في كلِّ عصرٍ الجَمُّ الغفيرُ، فلَمَّا أُنْشِئَتْ في بلادِنا المعاهدُ العلميَّةُ والكليَّاتُ الدينيَّةُ، صارَ هو أولَ كتابٍ يُفَضَّلُ تدريسُه وتقريرُه.
ولهذا الكتابِ الجليلِ مَيْزَاتٌ عظيمةٌ نافعةٌ ليسَتْ لغيرِه، نُورِدُ بعضَها فيما يأتي:
1- بَيَّنَ مؤلِّفُه مَرتبةَ الحديثِ، مِن الصحَّةِ والحُسْنِ والضعفِ بما يُغْنِي الطالبَ عن الرجوعِ إلى غيرِه.
2- اقْتَصَرَ من الحديثِ على الشاهدِ من البابِ بما لا يُخِلُّ بالمعنى المقصودِ، فحَصَلَ مِن هذا الإيجازُ والفائدةُ.
3- إذا كانَ للحديثِ رواياتٌ أُخَرُ فيها زياداتٌ مفيدةٌ في البابِ، أَلْحَقَها بإيجازٍ ووضوحٍ، فجَاءَتْ رواياتُ الحديثِ في المسأَلةِ يُتَمِّمُ بعضُها بعضاً.
4- انْتَقَى أحاديثَ الكتابِ مِن دَوَاوِينِه المشهورةِ وأُمَّهَاتِه المُعْتَبَرَةِ، التي أَشْهَرُها مسندُ أحمدَ والصحيحانِ والسُّنَنُ الأربعُ.
5- يُصَدِّرُ البابَ – غالباً – بما في الصحيحيْن أو أَحَدِهما، ثمَّ يُتْبِعُهما بما في السنَنِ أو غَيْرِها؛ لِتَكُونَ الأحاديثُ الصحيحةُ هي العمدةَ في البابِ والمَرْجِعَ في المسائلِ، والباقي مُكَمِّلاَتٍ ومُتَمِّماتٍ.
6- يَتَتَبَّعُ العِلَلَ الموجودةَ في الحديثِ فيَذْكُرُها.
7- إذا كانَ للحديثِ مُتابعاتٌ أو شَوَاهِدُ، أشارَ إليها إشارةً لطيفةً، وبهذا جاءَتْ فائدتُه من حيثُ الجَمْعُ أكبرَ مِن حَجْمِه.
8- رَتَّبَ المؤلِّفُ كُتُبَه وأبوابَه وأحاديثَه على كتبِ الفِقْهِ؛ لِيَسْهُلَ على القارِئِ مراجعتُه، ولِيُسَايِرَ كتبَ الأحكامِ مِن حيثُ الدَّلالةُ عليها.
9- جعَلَ في آخرِه باباً فيه نُخْبَةٌ طيِّبَةٌ مِن أحاديثِ الآدابِ، سَمَّاه: (جامِعٌ في الآدابِ)؛ لِيَسْتَفِيدَ منه القارِئُ في الأحكامِ والسلوكِ.
وبالجملةِ: فكتابُ بلوغِ المرامِ، مِن نفائسِ كتبِ الأحكامِ، ويَجْدُرُ بطلاَّبِ العلمِ حِفْظُه وفَهْمُه والعنايةُ به، فقد حَرَّرَ لهم تحريراً بالغاً؛ لِيَصِيرَ مَن يَحْفَظُه بَيْنَ أقرانِه نابغاً، يَسْتَعِينُ به المبتدِئُ، ولا يَسْتَغْنِي عنه المُنْتَهِي، فجَزَى اللَّهُ مُؤَلِّفَه خيرَ الجزاءِ.
صِلَتِي بِبُلُوغِ المرامِ:
كانَ شيخُنا الشيخُ عبدُ الرحمنِ بنُ ناصِرِ بنِ سِعْدِيٍّ رَحِمَه اللَّهُ تعالى يُدَرِّسُ فيه في مكتبةِ جامعِ عنيزةَ، وقَلَّ أنْ يَخْلُوَ وقتٌ وليس في هذا الكتابِ درسٌ: إمَّا درسٌ خاصٌّ لطلابِ العلمِ، أو عامٌّ لجماعةِ الجامِعِ، وكنتُ أحدَ الطلابِ عليه رَحِمَه اللَّهُ، وكانَ يَحُثُّنَا على حفظِ بلوغِ المرامِ، فكنتُ أحدَ مَن حَفِظَ الكتابَ وللهِ الحمدُ، وكنتُ أُكَرِّرُ أحاديثَه خَشْيَةَ النِّسْيَانِ، وأُرَاجِعُ على معانيه شَرْحَه (سُبُلُ السَّلاَمِ).
وهذا الحِفْظُ والاستذكارُ والمراجعةُ فيما بينَ (1362هـ) إلى (1367هـ)، ثُمَّ الْتَحَقْتُ بدارِ التوحيدِ بالطائفِ، فوَجَدْتُ الكتابَ مُقَرَّراً في فُصُولِها ومُقَسَّماً على سِنِي الدراسةِ، وكانَ يُدَرِّسُنا فِيهِ مبعوثُ الأزهرِ الشيخُ مُحَمَّدٌ عبدُ الحَكيمِ، ثمَّ لمَّا تَخَرَّجْتُ في كُلِّيَّةِ الشريعةِ بمكةَ المكرمةِ عامَ (1374هـ) صِرْتُ – معَ القضاءِ – مُدَرِّساً في المسجدِ الحرامِ، ففَتَحْتُ به درساً بعدَ صلاةِ المغربِ إلى العشاءِ.
وما زِلْتُ مُلازماً لهذا الكتابِ، حتى مَنَّ اللَّهُ تَبارَكَ وتعالى عليَّ فوَضَعْتُ عليه هذا الشرحَ، فأَسْأَلُ اللَّهَ تعالى بأسمائِه الحسنى، وصِفَاتِه العُلَى أنْ يَنْفَعَ به المؤلِّفَ والمُسْتَفِيدَ، وأنْ يَجْعَلَه خالصاً لوجهِه الكريمِ، مُقَرِّباً إليه في جنَّاتِ النعيمِ، وصَلَّى اللَّهُ على نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ.

الأصلُ الثاني
في أُصُولِ الفِقْهِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ للهِ وَحْدَه، والصلاةُ والسلامُ على مَن لا نبيَّ بعدَه.
أمَّا بعدُ:
فهذه خُلاصةٌ مفيدةٌ في أصولِ الفقهِ، قَصَدْتُ بها تقديمَ مبادِئِ هذا العلمِ الهامِّ، الذي لا يَسْتَغْنِي عن مَعْرِفَتِه دارسُ الكتابِ والسنَّةِ النبويَّةِ، ومُسْتَنْبِطُ معانيهما، والمُتَصَدِّي لاستخراجِ مسائلِهما وأحكامِهِما، انْتَقَيْتُها مِن عِدَّةِ مصادِرَ مِن كتبِ الأصولِ، وأَجْرَيْتُ فيها الاختيارَ والتنقيحَ؛ لِتكونَ سهلةً مُيَسَّرَةً، وأسألُ اللَّهَ تعالى الإعانةَ والتوفيقَ.
العلمُ: هو معرفةُ المعلومِ بإدراكِه على ما هو عليه في الواقعِ فيما مِن شأنِه أنْ يُعْلَمَ.
وهو قِسمانِ: ضروريٌّ ومُكْتَسَبٌ.
الضروريُّ: هو كلُّ علمٍ لَزِمَ المخلوقَ على وجهٍ لا يُمْكِنُه دفعُه عن نفسِه مِمَّا لا يَقَعُ عن نظرٍ واستدلالٍ؛ وذلك كالعلمِ الحاصلِ عن طريقِ الحواسِّ الخمْسِ.
والمُكْتَسَبُ: هو كلُّ علمٍ يَقَعُ عن نظرٍ واستدلالٍ؛ كالعلمِ بوجوبِ الصلاةِ والزكاةِ، وغيرِ ذلكَ ممَّا يَحْتَاجُ إلى نظرٍ واستدلالٍ.
الجَهْلُ: هو تَصَوُّرُ المعلومِ على خلافِ ما هو عليه، وهو نوعانِ:
جهلٌ بسيطٌ: وهو انتفاءُ إدراكِ الشيءِ بالكلِّيَّةِ فيما مِن شأنِه أنْ يُعْلَمَ.
وجهلٌ مُرَكَّبٌ: وهو اعتقادٌ جازمٌ غيرُ مطابِقٍ للواقعِ، يُسَمَّى مُرَكَّباً؛ لأنَّ صاحبَه جاهلٌ بالحُكْمِ، وجاهلٌ بأنه جاهلٌ.
رُتَبُ المُدْرَكَاتِ:
1- اليَقِينُ: هو جَزْمُ القلبِ معَ الاستنادِ إلى الدليلِ.
2- الظنُّ: تجويزُ أمريْنِ أحدُهما أقوَى مِن الآخَرِ وهو الظنُّ.
3- الشكُّ: تجويزُ أمريْن ليسَ أحدُهما أرجحَ من الآخرِ.
4- الوَهْمُ: تجويزُ أمريْن أحدُهما أضعفُ من الآخرِ وهو الوهمُ.
النَّظَرُ: هو الفِكْرُ في حالِ المنظورِ فيه، وهو طريقُ معرفةِ الأحكامِ إذا وُجِدَ بشروطِه.
وشُرُوطُه: هو أنْ يكونَ كاملَ الأداةِ، وهي الإحاطةُ بكثيرٍ مِن العلومِ الشرعيَّةِ والعلومِ الأُصُوليَّةِ والعلومِ العربيَّةِ، مِمَّا سَيَأتي بيانُه، إنْ شاءَ اللَّهُ تعالى.
الدليلُ: هو المُرشِدُ إلى المطلوبِ، سواءٌ أدَّى إلى العلمِ أو إلى الظنِّ.
ناصِبُ الدليلِ: ناصِبُ الدليلِ هو اللَّهُ تَبَارَكَ وتعالى، والمبلِّغُ عنه الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
المُسْتَدِلُّ: هو الطالِبُ للدليلِ، فيَقَعُ ذلك على السائلِ؛ لأنَّه يَطْلُبُ الدليلَ من المسؤولِ، كما يَقَعُ على المسؤولِ؛ لأنه يَطْلُبُ الدليلَ مِن الأصولِ.
المُسْتَدَلُّ عليه: المستدَلُّ عليه هو الحكمُ من تحليلٍ وتحريمٍ، وكَراهةٍ ونَدْبٍ.
المُسْتَدَلُّ له: يَقَعُ على الحكمِ؛ لأنَّ الدليلَ يُطْلَبُ له، ويَقَعُ على السائلِ؛ لأنَّ الدليلَ يُطْلَبُ له.
الاستدلالُ: هو طَلَبُ الدليلِ، وقد يكونُ ذلك مِن السائلِ للمسؤولِ، وقد يكونُ من المسؤولِ في الأصولِ.

أصولُ الفِقْهِ:
أصولُ الفقهِ له معنيانِ: أحدُهما: أنه مركَّبٌ إضافيٌّ مُكَوَّنٌ من كلمتيْن؛ أصولٍ، وفِقْهٍ، وثانيهما: أنه عَلَمٌ ولَقَبٌ لهذا الفنِّ.
أولاً: التعريفُ الإضافيُّ:
الأصولُ: جَمْعُ أصلٍ، وهو ما يُبْنَى عليه غيرُه، كأصلِ الشجرةِ التي يَتَفَرَّعُ عنها أغصانُها.
والفقهُ لغةً: الفَهْمُ، واصطلاحاً: معرفةُ الأحكامِ الشرعيَّةِ الفرعيَّةِ التي طريقُها الاجتهادُ.
ثانياً: التعريفُ اللَّقَبِيُّ:
العلمُ بأدلَّةِ الفِقْهِ الإجماليَّةِ، وكيفيَّةِ اسْتِخراجِ الأحكامِ الشرعيَّةِ منها وحالِ المُستفِيدِ.
فائدةُ أصولِ الفِقْهِ:
هو ذو أهميَّةٍ كبيرةٍ وفائدةٍ عظيمةٍ، يَسْتَطِيعُ المُجيدُ فيه سلوكَ طريقِ الاجتهادِ باستخراجِ المسائلِ الشرعيَّةِ مِن أدلَّتِها، واستنباطِ الأحكامِ من أصولِها إذا تَوَفَّرَتْ لديه الآلةُ الكاملةُ.
الأحكامُ:
اتَّفَقَتِ الأُمَّةُ الإسلاميَّةُ على أنَّ الأحكامَ الشرعيَّةَ هي مِن اللَّهِ وحدَه، وأنَّ الرسولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو المبلِّغُ عنه: إمَّا نصًّا، أو اجتهاداً يُقِرُّه اللَّهُ عليه.

أقسامُ الأحكامِ الشرعيَّةِ:
يَنْقَسِمُ الحكمُ الشرعيُّ إلى تكليفيٍّ ووَضْعِيٍّ:
فالأحكامُ التكليفيَّةُ خمسةٌ:
الواجِبُ: ويُسَمَّى الفرضَ، وهو ما يُثابُ فاعلُه امتثالاً، ويُعاقَبُ تارِكُه.
المَنْدُوبُ: هو ما يُثابُ فاعِلُه امتثالاً، ولا يُعاقَبُ تارِكُه.
المحرَّمُ: ويُسَمَّى المحظورَ، وهو ما يُعاقَبُ فاعِلُه، ويُثابُ تارِكُه امْتِثالاً.
المَكْرُوهُ: هو ما يُثابُ تارِكُه امْتِثالاً، ولا يُعاقَبُ فاعِلُه.
المُباحُ: هو ما لا يُعاقَبُ فاعِلُه، ولا يُثابُ تارِكُه، فهو مُسْتَوِي الطرفيْن.
هذا هو أصلُ وضعِ المباحِ، إلا أنه إذا قُصِدَ بفعلِه الخيرُ الْتَحَقَ بالمأموراتِ، وإنْ قُصِدَ بفعلِه الشرُّ الْتَحَقَ بالمنهيَّاتِ.

الأحكامُ الوضعِيَّةُ:
هو خِطابُ الشارعِ المتعلِّقُ بجعلِ شيءٍ سبباً أو شرطاً أو مانِعاً، ومن ذلك الصحَّةُ والبُطلانُ:
السببُ: هو جَعْلُ الشيءِ علامَةً على تعلُّقِ الطَّلَبِ بذمَّةِ المُكَلَّفِ؛ كقولِه تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] فقدْ جَعَلَ الدُّلُوكَ علامةَ توجُّهِ طلبِ الصلاةِ إلى المكلَّفِ.
الشرْطُ: هو ما يَلْزَمُ مِن عَدَمِه عدَمُ الحُكْمِ، فإذا فُقِدَتِ الطهارةُ فُقِدَ الأثرُ المترتِّبُ عليها وهو صحَّةُ الصلاةِ، ولا يَلْزَمُ مِن وُجُودِه وجودٌ ولا عَدَمٌ لذاتِه.
المانِعُ: هو ما يَلْزَمُ مِن وُجُودِه عدَمُ الحُكْمِ على عكسِ الشرطِ؛ كالقتلِ بغيرِ حقٍّ، فإنه يَمْنَعُ الوارِثَ مِن الإرثِ إذا قَتَلَ مُوَرِّثَه، معَ قيامِ سببِ استحقاقِ الإرثِ.
الصحَّةُ: ما تَرَتَّبَ المقصودُ مِن الفعلِ عليه، عبادةً كانَ أو عَقداً، فالعبادةُ أَبْرَأَتِ الذمَّةَ، وسَقَطَ بها الواجبُ، والعقدُ تَرَتَّبَ آثارُه بنُفُوذِه، وذلك بتَرَتُّبِ المِلْكِ عليه.
ولا يكونُ الشيءُ صحيحاً مِن عبادةٍ أو عقدٍ، إلاَّ باجتماعِ شروطِه وانتفاءِ موانعِه.
قالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ السِّعْدِيُّ: هذا أصلٌ كبيرٌ، وقاعدةٌ عظيمةٌ، يَحْصُلُ به لمَن حَقَّقَه نفعٌ عظيمٌ، ويَنْدَفِعُ عنه كثيرٌ مِن الاضْطِرابِ والاشْتِباهِ، ومعنى هذا الأصلِ: أن الأحكامَ لا تَتِمُّ حتى تَتِمَّ شُرُوطُها وتَنْتَفِيَ موَانِعُها، وأمَّا إذا عُدِمَتِ الشروطُ أو قامَ مانعٌ لم يَتِمَّ الحكمُ عليه؛ فالصلاةُ، والزكاةُ، والصيامُ، والحَجُّ، وسائرُ الأعمالِ لا تَتِمُّ إلا بوجودِ شروطِها وانتفاءِ موانعِها.
البُطلانُ: هو الذي لم تَتَرَتَّبْ آثارُه عليه لخَلَلٍ في أركانِه أو شُرُوطِه، سواءٌ كانَ عبادةً أو عَقداً، فإنْ كانَ واجباً فإنَّ الذمَّةَ لم تَبْرَأْ، والواجبَ لم يَسْقُطْ، بل لا تَزَالُ الذمَّةُ مشغولةً به، وإذا كانَ عَقداً فإنَّ أَثَرَه- وهو انتقالُ المِلْكِ به- لم يَحْصُلْ.
وبعضُ الأصولِيِّينَ قالُوا: إنَّ الباطلَ والفاسِدَ مترادفانِ. وبعضُهم قالُوا: الباطلُ ما اتَّفَقَ العلماءُ على بُطلانِه، والفاسِدُ ما اخْتَلَفُوا فيه. وهذا أَرْجَحُ.
ويَحْرُمُ فعلُ العباداتِ الباطلةِ، والعقودِ الباطلةِ؛ لأنَّ في ذلك مخالفةً لأمرِ اللَّهِ تعالى، وتَعَدِّياً لحدودِه، وفيه سُخْرِيَةٌ واسْتِخفافٌ بأحكامِ اللَّهِ تعالى؛ فإنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ للذي طَلَّقَ امْرَأَتَه أَلْبَتَّةَ: ((تَتَّخِذُونَ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً؟!)). وقالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطاً لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ)).
الكلامُ: هو اللفظُ المفيدُ فائدةً يَحْسُنُ السكوتُ عليها، ويَتَأَلَّفُ من اسميْن، أو فعلٍ واسمٍ.
والاسمُ: ما دَلَّ على معنًى في نفسِه من غيرِ إشعارٍ بزمنٍ، وهو ثلاثةُ أقسامٍ:
1- ما يُفِيدُ العمومَ، كالأسماءِ الموصولةِ وأسماءِ الاستفهامِ، وأسماءِ الشرطِ.
2- ما يُفِيدُ الخصوصَ كالأعلامِ.
3- ما يُفِيدُ الإطلاقَ، كالنكِرَةِ في سياقِ الإثباتِ.
الفعلُ: ما دَلَّ على معنًى واقْتَرَنَ بزمانٍ، وهو ثلاثةُ أنواعٍ:
1- ماضٍ: ما أفادَ الزمنَ الماضِيَ.
2- أمرٌ: ما أفادَ الزمنَ المُسْتَقْبَلَ.
3- مضارِعٌ: ما أفادَ الحالَ أو الاستقبالَ.
الحرفُ: ليسَ له معنًى في نفسِه، وإنما يَدُلُّ على معنًى في غيرِه، سواءٌ كانَ عاملاً كحروفِ الجرِّ، أو غيرَ عاملٍ كحروفِ الاستفهامِ.
الحقائقُ ثلاثٌ:
1- لُغَوِيَّةٌ: وهي اللفظُ المستعملُ فيما وُضِعَ له في اللغةِ؛ كالدعاءِ للصلاةِ.
2- شرعيَّةٌ: وهي اللفظُ المستعمَلُ فيما وُضِعَ له في الشرْعِ؛ كالصلاةِ لتلكَ الأفعالِ والأقوالِ المخصوصةِ.
3- عُرْفِيَّةٌ: وهي اللفظُ المستعمَلُ فيما وُضِعَ له في العُرْفِ؛ كالدابَّةِ للماشيةِ على أربعٍ.
وفائدةُ هذا التقسيمِ: أنْ يُحْمَلَ كلُّ لفظٍ على معناه الحقيقيِّ في موضعِ استعمالِه، فيُحْمَلَ في استعمالِ أهلِ اللُّغةِ على الحقيقةِ اللغويَّةِ، وفي استعمالِ الشرعِ على الحقيقةِ الشرعيَّةِ، وفي استعمالِ أهلِ العرفِ على الحقيقةِ العرفيَّةِ.
الأمرُ: ما تَضَمَّنَ طلبَ الفعلِ على وجهِ الاستعلاءِ؛ مثلُ: {أَقِيمُوا الصَّلاَةَ} [الأنعام: 72]
وله صِيَغٌ، منها:
1- فعلُ الأمرِ؛ كقولِه تعالَى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ} [الإسراء: 78].
2- اسمُ فعلِ الأمرِ؛ كقولِ المؤذِّنِ: حَيَّ على الصلاةِ.
3- المضارِعُ المقرونُ بلامِ الأمرِ؛ كقولِهِ تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104].
ما يَقْتَضِيه الأمرُ: إذا تَجَرَّدَتْ صيغةُ الأمرِ من القرائنِ الصارفةِ، فإنها تَقْتَضِي وجوبَ المأمورِ به.
وصيغةُ الأمرِ تَقْتَضِي الفوريَّةَ، وبعضُهم قالَ: لا تَقْتَضِي الفوريَّةَ؛ لأنَّ الغرضَ إيجادُ الفعلِ من غيرِ اختصاصٍ بالزمنِ الأوَّلِ.
ولا تَقْتَضِي التَّكْرَارَ؛ فإنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا)). ولَمَّا سَأَلَه الرجلُ: أفي كلِّ عامٍ؟ أَنْكَرَ عليه وقالَ: ((الْحَجُّ مَرَّةً)).
النَّهْيُ: النهيُ هو طلَبُ الكَفِّ عن الفعلِ على وجهِ الاستعلاءِ، وصيغتُه الفعلُ المضارِعُ المقرونُ بلا الناهيةِ؛ كقوْلِهِ تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى}.
وصيغةُ النهيِ عندَ الإطلاقِ تَقْتَضِي تحريمَ المَنْهِيِّ عنه.
وإنْ عادَ النَّهْيُ إلى ذاتِ المنهِيِّ عنه أو شرطِه، فإنه يَقْتَضِي الفسادَ، وإنْ عادَ إلى أمرٍ خارجٍ، فإنَّ المنهيَّ عنه صحيحٌ معَ التحريمِ.
والنهيُ يُفارِقُ الأمرَ بما يَلِي:
الأولُ: أنَّ الأمرَ لا يَقْتَضِي الفوريَّةَ على الراجِحِ، بخلافِ النهيِ فيُوجِبُ الكَفَّ في الحالِ.
الثاني: أنَّ الأمرَ لا يَقْتَضِي التَّكرارَ، بخلافِ النهيِ فإنه يَقْتَضِي أنْ لا يعودَ إلى الفعلِ.

موانِعُ التكليفِ:
قالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((عُفِيَ لأُمَّتِي عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)). [حديثٌ صحيحٌ]، هذه الموانعُ هي: (أ) الجهلُ: وهو تَصَوُّرُ المعلومِ على خلافِ ما هو عليه. وقالَ بعضُ الأُصُولِيِّينَ: إنه عَدَمُ العلمِ بالشيءِ. وبعضُهم قالَ: إنَّ الأوَّلَ جَهْلٌ مُرَكَّبٌ، والثانيَ جَهْلٌ بسيطٌ.
فمتى فَعَلَ المُكَلَّفُ محرَّماً جاهلاً بتحريمِه، أو تَرَكَ واجباً جاهلاً بوجوبِه عليه، فلا إثمَ عليه، وأَدِلَّتُه من الكتابِ والسنَّةِ كثيرةٌ؛ قالَ تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]
(ب) النِّسيانُ: وهو ذُهُولُ القلبِ عن شيءٍ كانَ معلوماً، ومثلُه السهوُ عن الشيءِ، فمتى ترَكَ واجباً ناسياً، أو فَعَلَ محرَّماً ناسياً، فلا شيءَ عليه، ولكِنَّ ذِمَّتَه لم تَبْرَأْ بتركِ الواجبِ، فمتى ذَكَرَه أتَى به.
جاءَ في الصحيحِ، أن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ نَامَ عَنْ صَلاَةٍ أَوْ نَسِيَهَا، فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا)).
(ج) الخَطَأُ: وهو أنْ يَقْصِدَ بفعلِه شيئاً، فيُصَادِفَ غيرَ ما قَصَدَه.
فمَن فَعَلَ شيئاً فأَخْطَأَ في تصرُّفِه فلا إثمَ عليه؛ لأنَّ ذلك مُرَتَّبٌ على المقاصِدِ والنيَّاتِ، والناسي والمُخْطِئُ لا قَصْدَ لهما، فلا إثمَ عليهما.
(د) الإكراهُ: إلزامُ الشخصِ على فعلِ ما لا يُرِيدُ أنْ يَفْعَلَه، أو إجبارُه على تركِ ما يُرِيدُ فِعْلَه، فمَن أُكْرِهَ على فعلِ محرَّمٍ أو تَرْكِ واجبٍ فلا شيءَ عليه.
فهؤلاء لم تَنْتَفِ عنهم الأهليَّةُ، فهم مكلَّفُونَ، وإنما عَرَضَتْ لهم عوارِضُ صاروا في حِينِها مَعْذُورِينَ ومعفوًّا عنهم، فإذا زَالَتْ عنهم هذه العوارِضُ طُولِبُوا بما في ذِمَمِهم من الواجباتِ، فإنها لم تَسْقُطْ عنهم.

والخلاصَةُ: أن هؤلاءِ الأربعةَ لا إِثْمَ عليهم فيما فَعَلُوه؛ لأنَّ الإثمَ مُرَتَّبٌ على المقاصِدِ، وهم ليسَ لهم قصدٌ فيما فعَلُوه.
وأما ضمانُ ما أَتْلَفُوه مِن نفسٍ أو مالٍ: فهم ضَامِنُون؛ لأنَّ الضمَانَ مُرَتَّبٌ على نفسِ الفعلِ، سواءٌ قَصَدَ أو لم يَقْصِدْ.
العامُّ: هو اللفظُ المستغرِقُ لجميعِ أفرادِه بلا حصرٍ؛ مثلُ قولِه تعالى: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2].
وصِيَغُ العمومِ كثيرةٌ، منها:
1- أسماءُ الشروطِ، وأسماءُ الاستفهامِ.
2- الأسماءُ الموصولةُ.
3- النكرةُ في سياقِ النفيِ، أو النهيِ، أو الشرطِ، أو الاستفهامِ.
4- المُعَرَّفُ بـ(أل) الاستغراقيَّةِ.
حُكْمُه: إذا وَرَدَ في التشريعِ لفظٌ عامٌّ فإنَّ الحكمَ يَتَناوَلُ جميعَ أفرادِه، فيَجِبُ العملُ بعمومِه حتى يقومَ دليلٌ على التخصيصِ، فإذا وُجِدَ المُخَصِّصُ بَقِيَ العامُّ متناوِلاً ما بَقِيَ من الأفرادِ.
ويَقِلُّ أنْ يُوجَدَ عامٌّ ليسَ مُخَصَّصاً، حتى قِيلَ: ما مِن عامٍّ إلاَّ وله مُخَصِّصٌ.
الخاصُّ: هو غيرُ العامِّ، فهو اللفظُ الدالُّ على محصورٍ بشخصٍ أو عددٍ، كرجلٍ ورجليْنِ ورجالٍ ونساءٍ ورَهْطٍ وجماعةٍ.
التخصيصُ:
التخصيصُ: هو إخراجُ بعضِ ألفاظِ العامِّ.
والمُخَصِّصُ – بكسرِ الصادِ -: هو الشارِعُ، ويُطْلَقُ أيضاً على الدليلِ الذي حَصَلَ به التخصيصُ.

أقسامُ التخصيصِ:
يَنْقَسِمُ إلى مُتَّصِلٍ ومُنْفَصِلٍ:
المُتَّصِلُ: ما لا يَسْتَقِلُّ بنفسِه، وأنواعُه هي:
1- الاستثناءُ: والاستثناءُ إخراجُ بعضِ أفرادِ العامِّ بـ (إلاَّ) أو إحدى أَخَوَاتِها.
2- الشرطُ: تَعْلِيقُ شيءٍ بشيءٍ وجوداً أو عَدَماً بـ (إنِ) الشرطيَّةِ أو إحدى أَخواتِها.
3- الصفةُ: وهي ما أَشْعَرَ بمعنًى يَخْتَصُّ به بعضُ أفرادِ العامِّ؛ مِن نعتٍ أو بَدَلٍ أو حالٍ.
المُنْفَصِلُ: ما يَسْتَقِلُّ بنفسِه، ويكونُ بالكتابِ والسنَّةِ والإجماعِ والقياسِ.
المُطْلَقُ والمُقَيَّدُ:
المطلَقُ: هو اللفظُ الدالُّ على الحقيقةِ بلا قيدٍ؛ كقولِه تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3]
والمقيَّدُ: ما دَلَّ على الحقيقةِ بقَيْدٍ؛ كقولِه تعالى: {قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} إلى قولِه: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام: 145].
العملُ بالمطلَقِ:
إذا جاءَ في النصوصِ الشَّرْعِيَّةِ لفظٌ مطلَقٌ في موضعٍ، وجاءَ مُقَيَّداً في موضعٍ آخرَ:
فإنِ اتَّحَدا حُكْماً وسبباً، كالدمِ في الآيتيْن السابقتيْن، حُمِلَ المطلَقُ منهما على المقيَّدِ بلا خلافٍ بينَ الأصوليِّينَ.
وإنِ اتَّحَدَ الحكمُ واخْتَلَفَ السببُ؛ كقولِه تعالى في كفَّارَةِ الظِّهارِ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] وفي كفَّارةِ قتلِ الخطأِ: {فتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]. فهذا فيه خلافٌ:
فبعضُ الأصوليِّينَ يَحْمِلُ المطلَقَ منهما على المقيَّدِ.
وبعضُهم لا يَحْمِلُه ويقولُ: لكلِّ نصٍّ حُكْمُه؛ ذلك أن السببَ والكفَّارَةَ أمرٌ تَعَبُّدِيٌّ، ولعَلَّ الشارِعَ في مثلِ كفَّارةِ القتلِ شَدَّدَ في الأمرِ، وخَفَّفَ في كفَّارةِ الظِّهارِ، وهكذا كلُّ ما اخْتَلَفَ حُكْمُه واتَّحَدَ سببُه. واللَّهُ أَعْلَمُ.
المُجْمَلُ والمُبَيَّنُ:
المُجْمَلُ: هو الذي لا يُعْقَلُ معناه من لفظِه، ويَفْتَقِرُ في معرفةِ المرادِ منه إلى غيرِه في تعيينِه أو بيانِ صفتِه أو في بيانِ مِقْدَارِه.
فمثالُ الحاجةِ إلى بيانِ عينِه: القُرْءُ في قَوْلِهِ تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]؛ فإنَّ القُرْءَ لفظٌ مُشْتَرَكٌ بينَ الحَيْضِ والطُّهْرِ.
ومثالُ ما يَحْتَاجُ إلى بيانِ صِفَتِه: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ} [البقرة: 43]؛ فإنَّ كيفِيَّتَها مجهولةٌ تَحتاجُ إلى بيانٍ.
ومثالُ ما يَحْتاجُ إلى بيانِ مِقْدارِه: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]؛ في مِقدارِ النِّصابِ ومقدارِ المُخْرَجِ.
المُبَيَّنُ:
هو ما فُهِمَ منه معنًى معيَّنٌ بالنصِّ أو بعدَ البيانِ.
فالأوَّلُ كقولِه تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 39]، وقولِه تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء: 32]، وكلفظِ: سماءٍ، وأرضٍ، وجبلٍ، وغيرِ ذلكَ، فالآيتانِ صريحتانِ في بيانِ الحُكميْنِ، والألفاظُ الثلاثةُ مفهومةُ المعنَى بأصلِ وَضْعِها.
الثاني: وهو ما يُفْهَمُ المرادُ منه بعدَ التبيينِ؛ مثلُ قولِه تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]؛ فإنَّ إقامةَ الصلاةِ وإيتاءَ الزكاةِ كلٌّ مِنهما مُجْمَلٌ، ولكنَّ الشارِعَ بَيَّنَهما فصارَ حُكْمُهما التفصيليُّ بَيِّناً بعدَ التبيينِ.
العَمَلُ بالمُجْمَلِ:
يَجِبُ على المكلَّفِ العَزْمُ على العملِ بالمجملِ متى ظَهَرَ له بيانُه، ويَجِبُ عليه البحثُ عنه إذا احْتاجَ إلى العملِ؛ فإنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدْ بَيَّنَ لأمَّتِه جميعَ شريعتِه ولم يَتْرُكْ شيئاً إلاَّ بَيَّنَه؛ إما بقولِه، أو بفعلِه، أو بهما جميعاً.
وكلُّ ما جاءَ مُجْمَلاً في القرآنِ الكريمِ، فإنَّ السنَّةَ المطهَّرَةَ بَيَّنَتْه وفَسَّرَتْه، حتى صارَ ذِكْرُه عَلَماً عليه وعلى أحكامِه التفصيليَّةِ، وللهِ الحمدُ.
فالصلاةُ والزكاةُ والصيامُ والحَجُّ والجهادُ والبيعُ والنِّكاحُ، وغيرُ ذلك مِن ألفاظٍ كانَتْ مُجْمَلَةً مُبْهَمَةً، إلاَّ أنها بعدَ أنْ عُرِفَتْ أحكامُها وتفاصيلُها صارَتْ أحكاماً مُبَيَّنَةً مفسَّرةً لا تحتاجُ بعدَ ذلكَ إلى بيانٍ.
النصوصُ الشَّرْعِيَّةُ:
كتابُ اللَّهِ تعالى:
وهو غَنِيٌّ عن التعريفِ، وهو أساسُ الشرعِ الذي بُنِيَتْ عليه أحكامُه، وكلُّ ما بينَ الدَّفَّتَيْنِ ثابتٌ ثُبوتاً قطعيًّا لا شَكَّ ولا رَيْبَ فيه، وذلك بطريقِ التواترِ القطعيِّ منذُ نَزَلَ به الرُّوحُ الأمينُ على قلبِ الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ربِّ العالمينَ، فالقرآنُ الذي بينَ أيدِينا هو نفسُ القرآنِ الذي أُنْزِلَ؛ قالَ تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
السنَّةُ النبويَّةُ:
السنَّةُ المطهَّرَةُ هي صِنْوُ الكتابِ، وهي ما نُقِلَ إلينا عن رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ غيرِ القرآنِ، نقلاً ثابتاً، وبعضُ السنَّةِ بَلَّغَها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالوَحْيِ وبعضُها بَلَّغَها باجتهادٍ مِنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
مَنْزِلَةُ السنَّةِ مِن الكتابِ:
للسنَّةِ من الكتابِ ثلاثُ منازِلَ:
الأولى: سُنَّةٌ موافقةٌ نُصُوصُها نصوصَ الكتابِ، فهي مُؤَكِّدَةٌ.
الثانيةُ: سنَّةٌ مفسِّرَةٌ لنصوصِ الكتابِ المجمَلةِ، وسُنَّةٌ مُقَيِّدَةٌ لمَا جاءَ في مُطْلَقِه، وسُنَّةٌ مخصِّصةٌ نصوصُها لمَا جاءَ من العمومِ في نصوصِ الكتابِ.
الثالثةُ: سنَّةٌ أَتَتْ بأحكامٍ زائدةٍ على ما جاءَ به الكتابُ؛ إما بوحيٍ وإما باجتهادٍ مِن الرسولِ المعصومِ، الذي لا يُقِرُّه اللَّهُ على الخطأِ.
ودَلالةُ الكتابِ والسنَّةِ إنْ كانَتْ على جميعِ المعنَى فهي دَلالةُ مطابَقَةٍ، وإنْ كانَتْ على بعضِه فدَلالةُ تَضَمُّنٍ، وإنْ كانَتْ على توابعِ الحكْمِ من شروطٍ ومتمِّماتٍ فدَلالةُ الْتِزامٍ.
النَّسْخُ:
هو رفعُ حكمِ دليلٍ شرعيٍّ أو لفظِه بدليلٍ آخرَ مِن الكتابِ أو السنَّةِ؛ فإنه إذا جاءَ نصٌّ شرعيٌّ بحكمٍ، ثمَّ جاءَ بعدَه نصٌّ آخرُ يُبْطِلُ العملَ بحكمِ النصِّ الأوَّلِ – في كلِّ ما يَتَناوَلُه أو في بعضِه – سُمِّيَ النصُّ الثاني ناسخاً، والنصُّ الأولُ منسوخاً، ويُسَمَّى إبطالُ ما بَطَلَ مِن حكمِ النصِّ الأولِ نسخاً.
والنصوصُ الشَّرْعِيَّةُ التكليفيَّةُ لم تأتِ دَفعةً واحدةً، بل جاءَتْ تدريجيًّا؛ لِتَتَهَيَّأَ نفوسُ المخاطَبِينَ لقَبولِها وتَحَمُّلِ تكاليفِها، كما في نصوصِ الخمرِ ونصوصِ القتالِ.
والنسخُ جائزٌ عقلاً: فالأمرُ للهِ وحدَه، {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد: 41]، فله أنْ يُشَرِّعَ لعبادِه ما تَقْتَضِيه حِكمتُه، وحكمةُ اللَّهِ تعالى تَقْتَضِي مصالحَ العبادِ، والمصالحُ تَخْتَلِفُ حسَبَ الزمانِ والمكانِ والحالِ.
أما جوازُه شَرعاً: فإنه موجودٌ في نصوصِ الكتابِ والسنَّةِ؛ قالَ تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66]، وقالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا)). روَاه مُسْلِمٌ وغيرُه.
ما يَمْتَنِعُ نَسْخُه:
كلُّ النصوصِ الطلبيَّةِ قابلةٌ للنسْخِ إلاَّ قِسْمَيْنِ:
الأولُ: ما نَصَّ على تأبيدٍ؛ كقولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْجِهَادُ مَاضٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)).
الثاني: كلُّ نصٍّ لاَ يَقْبَلُ حُسْنُهُ أَوْ قُبْحُهُ السُّقُوطَ؛ نحوُ قولِه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء: 23]، و {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} [الأعراف: 33].
الأخبارُ غيرُ قابلةٍ للنسْخِ؛ لأنَّ النسخَ تكذيبٌ للخبرِ الأولِ، وهو مُحالٌ على اللَّهِ ورسولِه، ولأن النسخَ مَحَلُّه الحكمُ.
الأحكامُ: التي تكونُ صالحةً في كلِّ زمانٍ ومكانٍ مِن أصولِ الإيمانِ وأصولِ العباداتِ ومكارمِ الأخلاقِ، وأمثالِ ذلكَ مِمَّا هو واجبٌ وحَسَنٌ في كلِّ مِلَّةٍ سماويَّةٍ لم تُحَرَّفْ.
كما أنَّه لا يُمْكِنُ نسخُ ما هو قبيحٌ في كلِّ مِلَّةٍ سماويَّةٍ لم تُحَرَّفْ، وذلك مثلُ الشركِ والكفرِ والظلْمِ والقبائحِ ومساوِئِ الأخلاقِ؛ لأنَّ الشرائعَ أَجْمَعَتْ كلُّها على ما فيه مصالحُ العبادِ، ودَفْعِ ما فيه مفسدةٌ عليهم.
شروطُ النسْخِ:
1- تَعَذُّرُ الجمعِ بينَ الدليليْن.
2- العلمُ بتأخُّرِ الناسِخِ.
3- ثُبُوتُ الناسِخِ.
الفرقُ بينَ النسخِ وبينَ التقييدِ والتخصيصِ: إنما يَظْهَرُ في عصرِ الرسالةِ فقطْ؛ وذلك أن النصَّ قد يَجِيءُ عامًّا ومعَه ما يُخَصِّصُه، فيَدُلُّ هذا مِن أولِ الأمرِ على أنَّ العامَّ قاصرٌ على ما بَقِيَ بعدَ التخصيصِ، وقد يَجِيءُ مطلَقاً ومعَه ما يُقَيِّدُه، فيَدُلُّ هذا من أولِ الأمرِ على أنَّ المُطْلَقَ لا يُعْمَلُ به إلاَّ معَ القيْدِ المذكورِ.
حِكْمَةُ النسْخِ:
1- مُراعاةُ مصالحِ العبادِ بتشريعِ ما هو المناسِبُ لهم، وما فيه نَفْعُهُم في دُنياهم وأُخْرَاهُم.
2- التدرُّجُ في التشريعيْنِ، وأخذُ الناسِ به شيئاً فشيئاً، كما في تحريمِ الخمْرِ وفرضِ الشرائعِ.
وهناكَ حِكَمٌ أُخْرَى، وهذان الأمرانِ أهمُّ ما في ذلك بظهورِهما في تاريخِ التشريعِ.
هذا، وإنه من المعلومِ أنه لا نَسْخَ بعدَ وفاةِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنَّ أحكامَ الشرعِ لا يَنْسَخُها إلا الشارِعُ.
إذا تَقَرَّرَ هذا فإننا بعدَ وفاةِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجِبُ علينا أنْ نَنْظُرَ في نصوصِ الكتابِ والسنَّةِ من حيثُ التخصيصُ والتقييدُ كأنَّ النصوصَ جاءَتْ معاً، فنُخَصِّصَ العامَّ، ونُقَيِّدَ المطلَقَ، ولا يَعْنِينَا تواريخُ مَجِيءِ النصوصِ مِن الناحيةِ العمليَّةِ، وإنما يَعْنِينَا من الناحيةِ التاريخيَّةِ؛ لنَعْرِفَ تطوُّراتِ التشريعِ والظروفَ والمناسباتِ التي جاءَ فيها.
وإنَّ في هذا مِن الفوائدِ العظمَى ما لا يُسْتهانُ به.
ونصوصُ الكتابِ والسنَّةِ يَنْسَخُ بعضُها بعضاً، على قولِ جمهورِ الفقهاءِ؛ لأنها في مستوًى واحدٍ مِن حيثُ التشريعُ؛ إذ هي في الحقيقةِ كلُّها من عندِ اللَّهِ تعالى.
تعارُضُ النصوصِ:
يَجِبُ أنْ نَعْلَمَ أنه ليسَ بينَ نصوصِ الشريعةِ الثابتةِ تناقُضٌ، بل إذا وُجِدَ ما ظاهِرُه ذلكَ فلا بُدَّ مِن نسخٍ أو تخصيصٍ أو تقييدٍ أو تأويلٍ أو ترجيحٍ لأحدِ النصَّينِ على الآخرِ.
فإذا وَجَدْنا نصيْنِ صحيحيْنِ متعارِضَيْنِ فلنا في ذلك ثلاثُ طرقٍ:
الأولَى: هي الجمْعُ بينَهما بحملِ كلِّ واحدٍ مِنهما على حالٍ، فمتى أَمْكَنَ الجمعُ بينَهما فإننا لا نَعْدِلُ إلى سِوَاه؛ لأنَّ في ذلك إعمالَ النصوصِ الشَّرْعِيَّةِ كلِّها.
الثانيةُ: إذا لم يَكُنِ الجمعُ بينَهما، وعَرَفْنَا المتأخِّرَ مِنهما، اعْتَبَرْنَا المتأخِّرَ مِنهما ناسخاً للمتقدِّمِ.
الثالثةُ: إذا لم يُعْرَفِ المتقدِّمُ والمتأخِّرُ، رَجَعْنا إلى الترجيحِ فاعْتَمَدْنَا أصحَّهما:
· فيُقَدَّمُ النصُّ على الظاهرِ.
· والظاهرُ على المؤوَّلِ.
· والمنطوقُ على المفهومِ.
· والمُثْبِتُ على النافِي.
· والناقِلُ عن الأصلِ على المُبْقِي عليه.
الإجماعُ:
هو اتِّفَاقُ الفقهاءِ المُجْتَهِدِينَ من أمةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعدَ وفاتِه على أمرٍ مِن الأمورِ الشَّرْعِيَّةِ؛ قولاً أو فعلاً في أيِّ عصرٍ من العصورِ.
وذهَبَ بعضُ الأئمَّةِ الكِبارِ إلى أنَّ الإجماعَ لا يُمْكِنُ تحقُّقُه إلا في عصرِ الصحابةِ؛ إذ كانوا قلِيلِينَ وكانَتْ تَجْمَعُهم رُقْعَةٌ ضيِّقَةٌ مِن الأرضِ، وأما بعدَ هذا العصرِ فقدْ تَفَرَّقَ الفقهاءُ وحَمَلَةُ السنَّةِ في نواحٍ متعدِّدةٍ؛ كالعراقِ والشامِ والمغربِ والحِجازِ واليمنِ، وصارَ الاطِّلاعُ على آراءِ جميعِ الفقهاءِ مِنهم في عصرٍ واحدٍ معَ هذا التفرُّقِ كالمتعذِّرِ.
لكنَّ جمهورَ الفقهاءِ على القولِ بجوازِ الإجماعِ في كلِّ عصرٍ، فإذا حَدَثَتْ حادثةٌ وأَفْتَى فقيهٌ مجتهِدٌ، أو حَكَمَ بها قاضٍ مجتهِدٌ، ثمَّ تَنَاقَلَها المجتهدونَ مِن المُفْتِينَ والقُضاةِ وارْتَضَوْهَا وعَمِلُوا بها، ولم يُوجَدْ مخالِفٌ ممَّن بَلَغَتْهم، فهذا إجماعٌ قوليٌّ، ومِن المُقِرِّينَ لها إجماعٌ سكوتِيٌّ.
وقد يكونُ الإجماعُ عَمَلِيًّا، كالعملِ بما تَقْتَضِيه العادةُ والعُرْفُ.
حُجِّيَّةُ الإجماعِ:
ذهَبَ جمهورُ علماءِ الأصولِ إلى أنَّ الإجماعَ حُجَّةٌ قطعيَّةٌ، وأنه أصلٌ من أصولِ التشريعِ.
وإذا اتَّفَقَ أكثرُ المجتهدينَ على حكمِ مسألةٍ شَرْعِيَّةٍ اجْتِهاديَّةٍ وخَالَفَهم قليلٌ مِن العلماءِ، فما قالَ به الأكثرُ لا يُعْتَبَرُ إجماعاً، وإنما يُعْتَبَرُ حُجَّةً شَرْعِيَّةً فقطْ؛ وذلك لقُوَّتِه.
وكثيرٌ مِن الفقهاءِ المُنْتَصِرِينَ لمذاهبِهِم، أو لمسألةٍ يَرَوْنَها يُسْرِفُونَ في حكايةِ الإجماعِ، فأيُّ مسألةٍ يَنْقُلُونَ الإجماعَ فيها، إذا تَتَبَّعَها الباحثُ وَجَدَ الخلافَ فيها.
قالَ ابنُ القَيِّمِ: عادةُ ابنِ المُنْذِرِ إذا رأَى أكثرَ أهلِ العلمِ قالُوا في مسألةٍ حَكَاه إجماعاً.
مُسْتَنَدُ الإجماعِ:
ذهَبَ جمهورُ الأصوليِّينَ إلى أنَّ الإجماعَ ليسَ أصلاً مُسْتَقِلاًّ بنفسِه، بل لا بُدَّ له مِن مستندٍ مِن الكتابِ أو السنَّةِ، سواءٌ عَلِمْنَا ذلكَ أو لا؛ إذ يَكْفِي أنْ يكونَ الإجماعُ قد وَصَلَ إلينا بطريقِ النقلِ الصحيحِ.
وإنما قالُوا ذلك؛ لأنَّ الإجماعَ لو كانَ أصلاً مستقِلاًّ لاقْتَضَى إثباتَ شَرْعٍ زائدٍ بعدَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك غيرُ جائزٍ.
وذهَبَ جمهورُ الأُصُولِيِّينَ إلى عدمِ جوازِ نسْخِ الإجماعِ بالإجماعِ؛ وذلك أنَّ الإجماعَ الأوَّلَ لو كانَ قطعيًّا وفَرَضْنا أن الثانِيَ قطعِيٌّ أيضاً، كانَ هذا مُحالاً؛ إذ الأُمَّةُ أَجْمَعَتْ على الأولِ، ولا تَجْتَمِعُ الأمةُ على ضلالةٍ، فيُحْكَمُ على الإجماعِ الثاني بأنه خطأٌ؛ لمجيئِه مخالِفاً للدليلِ القاطعِ، ولا يُتَصَوَّرُ وجودُ إجماعٍ قطعيٍّ لاحِقٍ يَنْسَخُ إجماعاً قطعيًّا سابقاً.
القياسُ:
معناه: إلحاقُ فرعٍ بأصلٍ في الحكمِ؛ لمساواتِه له في عِلَّةِ حُكْمِه.
ويُشْتَرَطُ لكلِّ قياسٍ أربعةُ أشياءَ:
1- المَقِيسُ عليه، ويُسَمَّى الأصلَ.
2- المَقِيسُ، ويُسَمَّى الفرعَ.
3- الوَصْفُ الجامعُ بينَ الأصلِ والفرعِ، ويُسَمَّى العِلَّةَ.
4- الحكمُ الشرعيُّ المنقولُ مِن الأصلِ إلى الفرعِ.
مسألتانِ هامَّتانِ:
المسألةُ الأُولَى:
ما شَرَعَه اللَّهُ تعالى لعبادِه إنما شَرَعَه لهم لمصلحةٍ تعودُ عليهم بجَلْبِ ما فيه خيرٌ لهم ودفْعِ ما فيه شرٌّ عنهم، وهذه هي الحكمةُ المقتضيةُ لتشريعِ الأحكامِ، وإلاَّ فإنَّ اللَّهَ تعالى غنِيٌّ عن العالمينَ ومُتَعَالٍ بكمالِه المُطْلَقِ أن يَنَالَه نفعٌ أو ضررٌ.
والعلَّةُ الباعثةُ على التشريعِ قد تكونُ خَفِيَّةً؛ لذا فإنَّ المَدَارَ هو وجوبُ المتابعةِ والإذعانِ والخضوعِ لأمرِ اللَّهِ، كما أنَّ الأحكامَ تَدُلُّ على ما يَظْهَرُ مِن الأوصافِ الظاهرةِ المُنْضَبِطَةِ، التي يُظَنُّ وُجُودُ الحكمةِ معَها، وسُمِّيَتْ تلكَ الأوصافُ بالعللِ الشَّرْعِيَّةِ؛ فإنَّ العلَّةَ هي الوصفُ الظاهرُ المنضبِطُ الذي يُظَنُّ وجودُ الحكمةِ الباعثةِ على التشريعِ معَه غالباً.
لذا كانَ دَوَرَانُ الحكمِ معَ علَّتِه أضبطَ وأبعدَ عن الاضْطِرابِ والخَلَلِ فيها.
ومِن هنا فإنَّ القاعدةَ هي: (أنَّ مَناطَ الأحكامِ المظانُّ الكُلِّيَّةُ).
المسألةُ الثانيةُ:
مقاصِدُ الشارِعِ من وضعِ الشريعةِ تَنْحَصِرُ في ثلاثةِ أقسامٍ، هي:
الأولُ: المقاصِدُ الضروريَّةُ، وهي حِفْظُ الدِّينِ، والعقلِ، والنفسِ، والعِرْضِ، والنسْلِ، والمالِ، وحِفْظُها بما يُقِيمُ أركانَها ويَضْمَنُ بقاءَها، وبما يُخَلِّصُها مِن الخَلَلِ الواقعِ بها ويَدْرَأُ عنها الخَلَلَ المتوقَّعَ في المستقبلِ:
فقدْ شُرِعَ الجهادُ لحفظِ الدِّينِ وضمانِ بلاغِه، والقِصَاصُ لحفظِ النفسِ، والقطْعُ لحفظِ المالِ، والحدُّ في الزِّنَى لصَوْنِ العِرْضِ وحفظِ النسلِ، وحدُّ المُسْكِرِ لحِفْظِ العقلِ.
الثاني: المقاصدُ الحاجِيَّةُ، وهي ما يَقَعُ محلَّ الحاجةِ ولم يَصِلْ إلى الضرورةِ؛ لغرضِ التوسعةِ ورفعِ الضيقِ المؤَدِّي إلى المشقَّةِ والحرجِ، والذي يَرْفَعُه إباحةُ البُيُوعِ والإجاراتِ والمشاركاتِ وسائرِ المعاملاتِ، والتمتُّعِ بالطيِّباتِ.
الثالثُ: المقاصدُ الكماليَّةُ، ويَنْدَرِجُ تحتَها محاسِنُ العاداتِ، وكلُّ ما فوقَ الحاجيَّاتِ من التحسينِيَّاتِ.
الاجتهادُ:
الاجتهادُ: هو بذلُ الفقيهِ وُسْعَه في نَيْلِ حُكْمٍ شرعِيٍّ عَمَلِيٍّ بطريقةِ الاستنباطِ، ومعنى بَذْلِ الوُسْعِ أنْ يَأْتِيَ بكلِّ ما يَسْتَطِيعُ للوصولِ إلى معرفةِ الحكمِ الشرعيِّ حتى يُحِسَّ من نفسِه العجزَ عن طلبِ الزيادةِ.
ولا بُدَّ أنْ يكونَ مَن بَذَلَ جُهْدَه لطلبِ الحُكْمِ الشرعيِّ فقيهاً؛ لأنَّ غيرَ الفقيهِ ليسَ فيه مِن المُؤَهِّلاتِ ما يُوصِّلُه إلى المطلوبِ، فلا يُعْتَبَرُ اجتهادُه، ولا يُسَمَّى مُجْتَهِداً، كما لو بَذَلَ شخصٌ لم يَتَعَلَّمِ الطبَّ كلَّ ما في وُسْعِه لمعرفةِ مرضٍ باطنِيٍّ في مريضٍ خاصٍّ، وعَمَلِ العلاجِ اللازِمِ لهذا المرضِ.
شروطُ المجتهِدِ:
اشْتَرَطَ الأصولِيُّون في المُجْتَهِدِ شروطاً، إذا تَوَافَرَتْ فيه كانَ أهلاً للاجتهادِ، وهذه خُلاصتُها:
الأولُ: أنْ يكونَ عالماً بالكتابِ لغةً، بمعرفةِ مفرداتِه ومركَّباتِه وخَوَاصِّها، وذلك باطِّلاعِه على مفرداتِ اللغةِ والصرفِ والنحوِ والبيانِ والمعانِي بطريقِ التعلُّمِ والممارسةِ بالكلامِ الجيِّدِ من كلامِ العربِ.
الثاني: أنْ يكونَ عالماً بالسنَّةِ، بأنْ يَعْرِفَها بمَتْنِها: وهو نفسُ الحديثِ، وسَنَدِها: وهو طريقُ وصولِها إلينا، ومعرفةُ حالِ الرواةِ مِن الجَرْحِ والتعديلِ... ويُكْتَفَى بتعديلِ الأئمَّةِ الموثوقِ بهم؛ كالإمامِ أحمدَ والبُخَارِيِّ ومسلمٍ، وغيرِهم من أئمَّةِ السنَّةِ الكِبارِ.
الثالثُ: أنْ يكونَ ذا معرفةٍ تامَّةٍ بأصولِ الفِقْهِ؛ من معرفةِ العامِّ والخاصِّ، والمطلقِ والمقيَّدِ، والمُجْمَلِ والمُبَيَّنِ، والناسخِ والمنسوخِ، وطريقةِ الجمعِ والترجيحِ في النصوصِ التي ظاهِرُها التعارُضُ، وغيرِ ذلك مما يَحْتَاجُ إليه المجتهِدُ، وما هو مُبَيَّنٌ في محالِّه من كتبِ الأصولِ.
فإذا تَوَافَرَتْ هذه الشروطُ في عالِمٍ، وآتاه اللَّهُ تعالى الفَهْمَ الصحيحَ لنصوصِ كتابِه وسنَّةِ رسولِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واسْتعانَ باللَّهِ تعالى، وأَكْثَرَ البحثَ والمراجعةَ، ثمَّ اسْتَعانَ بكلامِ الأئمَّةِ السابقينَ والعلماءِ الأَقْدَمِينَ - فإنَّ اللَّهَ تعالى سَيُوَفِّقُه.
ولذا نُدْرِكُ خطأَ مَن قالَ: إنَّ بابَ الاجتهادِ مقفولٌ. بل هو مفتوحٌ ولكن بمِفتاحِه المُعَدِّ له، كما نُدْرِكُ خطأَ شبابٍ جاهلٍ زَجَّ بنفسِه في هذا المَيْدَانِ الخَطِرِ بلا سلاحٍ.
فنَسْأَلُ اللَّهَ تعالى الهدايةَ للجميعِ، واللَّهُ أعلمُ، وصَلَّى اللَّهُ على نبيِّنا مُحَمَّدٍ وعلى آلِه وصحبِه وسَلَّمْ.


الأصلُ الثالثُ
في
القواعدِ الفقهيَّةِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللَّهِ، أمَّا بعدُ:
فهذه القواعدُ وشَرْحُها قدِ اسْتَقَيْنَاها من عدَّةِ مصادِرَ مِن كتبِ القواعدِ، إلا أننا أَجْرَيْنَا في كلِّ ما اطَّلَعْنَا عليه من المصادرِ بعضَ التصرُّفاتِ من الاختصارِ والتعديلِ والتوضيحِ؛ لتكونَ ملائمةً لمَن يُرِيدُ الفائدةَ القريبةَ والثمرةَ الدانيَةَ.
تعريفٌ وتاريخٌ:
القاعدةُ لغةً: هي أساسُ الشيءِ؛ كالبناءِ ونحوِه.
واصطلاحاً: هي حُكْمٌ أغلبِيٌّ يَنْطَبِقُ على معظمِ جزئيَّاتِه.
فهي أصولٌ فقهيَّةٌ كلِّيَّةٌ في نصوصٍ موجزةٍ، تَتَضَمَّنُ أحكاماً تشريعيَّةً عامَّةً، وتَمْتازُ في صِياغتِها – على عُمُومِها – بالإيجازِ.
وهي أحكامٌ أغلبيَّةٌ غيرُ مطَّرِدَةٍ؛ لأنَّها تُصَوِّرُ الفكرةَ الفقهيَّةَ المبدئيَّةَ التي تُعَبِّرُ عن المِنهاجِ القياسِيِّ العامِّ، والقياسُ كثيراً ما يَنْخَرِمُ في بعضِ المسائلِ إلى حلولٍ اسْتِحْسانِيَّةٍ؛ ولذا فإنها لا تَخْلُو من استثناءاتٍ في فروعِ الأحكامِ التطبيقيَّةِ؛ إذ يَرَى الفقهاءُ أن تلك الفروعَ المستثناةَ من القاعدةِ هي أليقَ بالتخريجِ على قاعدةٍ أخرَى.
ولكن كونُ القواعدِ أغلبيَّةً لا يَنْقُصُ مِن قِيمتِها العمليَّةِ؛ فإنَّ فيها تصويراً بارعاً للمقرَّراتِ الفقهيَّةِ العامَّةِ، وضَبطاً لفروعِ الأحكامِ العمليَّةِ، تُبَيِّنُ في كلِّ زُمْرَةٍ من هذه الفروعِ وَحْدَةَ المناطِ، وجهةَ الارتباطِ.
قالَ القَرافِيُّ: وقواعدُ الفقهِ عظيمةُ النفعِ، وبقدرِ الإحاطةِ بها يَعْظُمُ قَدْرُ الفقيهِ، وتَتَّضِحُ له مناهجُ الفتوَى، ومَن أَخَذَ الفروعَ الجزئيَّةَ دونَ القواعدِ الكلِّيَّةِ، تَنَاقَضَتْ عليه تلكَ الفروعُ واضْطَرَبَتْ.
أمَّا مَن ضَبَطَ الفقهَ بقواعدِه، فإنه يَسْتَغْنِي عن ضبطِ أكثرِ الجزئيَّاتِ؛ لانْدِرَاجِها في الكلِّيَّاتِ، وتَناسَبَ عندَه ما تَضارَبَ عندَ غيرِه.
والقواعدُ الفقهيَّةُ لم تُوضَعْ كلُّها جملةً واحدةً، بل تَكَوَّنَتْ نصوصُها بالتدرُّجِ في عصورِ ازدهارِ الفقهِ ونهضتِه، على أيدي كبارِ فقهاءِ المذاهبِ؛ اسْتِنْباطاً مِن دَلالاتِ النصوصِ التشريعيَّةِ العامَّةِ وعِلَلِ الأحكامِ.
ولا يُعْرَفُ لكلِّ قاعدةٍ صانِعٌ معيَّنٌ من الفقهاءِ، إلاَّ ما كانَ منها نَصَّ حديثٍ نبويٍّ، مثلَ قاعدةِ: ((لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ)) فمُعْظَمُ تلكَ القواعدِ قدِ اكْتَسَبَتْ صياغتَها عن طريقِ التداولِ والتحريرِ على أيدِي الفقهاءِ في مجالِ التعليلِ والاستدلالِ، فالتعليلُ للأحكامِ أعظمُ مصدرٍ لتقعيدِ هذه القواعدِ.
ولَعَلَّ أَقْدَمَ مَن جَمَعَ أهمَّ القواعدِ هو العلاَّمةُ أبو طاهرٍ الدبَّاسُ الحَنَفِيُّ؛ فقد جَمَعَ سبعَ عَشْرَةَ قاعدةً.
ثم صَنَّفَ الكَرْخِيُّ فيها رسالةً خاصَّةً جاءَتْ بسبعٍ وثلاثينَ قاعدةً، وهكذا إلى أنْ جاءَ السُّبْكِيُّ بكتابِه (الأشباهُ والنظائرُ) فبَسَطَ القولَ فيها وفَرَّعَه.
ثم جاءَ الزَّرْكَشِيُّ فصَنَّفَ فيها كتاباً سمَّاه (المنثورُ في ترتيبِ القواعدِ الفقهيَّةِ) ثمَّ تابَعَه الخادمِيُّ بمجموعٍ جمَعَ فيه طائفةً كبيرةً من تلكَ القواعدِ.
وقد أَلَّفَ في هذه القواعدِ عددٌ كبيرٌ مِن فقهاءِ المذاهبِ من أمثالِ السُّيُوطِيِّ الشافعيِّ في كتابِه (الأشباهُ والنظائِرُ)، والقَرَافِيِّ المالِكِيِّ في كتابِه (الفُرُوقُ)، وابنِ رَجَبٍ الحَنْبَلِيِّ في كتابِه (القواعدُ الفقهيَّةُ).
قالَ الشيخُ مصطفى الزَّرْقَاءُ: أما قواعدُ المَجَلَّةِ فكلُّها قواعدُ كلِّيَّةٌ ذاتُ صياغةٍ فنيَّةٍ، غيرَ أنَّ فيها شيئاً من الترادُفِ أو التداخُلِ معَ غيرِه.
ثم إنَّ الشيخَ أحمدَ الزرقاءَ والِدَ الشيخِ مصطفى الزرقاءِ دَرَّسَ تلكَ القواعدَ وعُنِيَ بها عنايةً تامَّةً، وأطالَ البحثَ والتفتيشَ فيها، فألَّفَ فيها كتابَه القَيِّمَ (شَرْحُ القواعدِ الفقهيَّةِ) الذي هَذَّبَ فيه تلكَ القواعِدَ المائةَ، ثمَّ شَرَحَها فيه شرحاً جامعاً وافياً يُغْنِي كلَّ باحثٍ فيها عمَّا سِواهُ في هذا البابِ، واللَّهُ المُوَفِّقُ.
معنى القواعدِ الفقهيَّةِ
القواعدُ: جمعُ قاعدةٍ، وهي لغةً: أساسُ البناءِ.
واصطلاحاً: حكمٌ أغلبيٌّ يَنْطَبِقُ على معظمِ جزئيَّاتِه؛ لتُعْرَفَ أحكامُها منه، فأَحْكَامُها ليسَتْ كليةً، بل هي أغلبيَّةٌ؛ ذلك أنَّ بعضَ فروعِ تلكَ القواعدِ يُعارِضُها أثرٌ أو ضرورةٌ أو قيدٌ أو علَّةٌ مؤثِّرةٌ، فتُخْرِجُها عن الاطِّرادِ، فحُكِمَ عليها بالأغلبيَّةِ، لا بالاطِّرادِ.
مَيْزَاتُها:
تَمتازُ القواعدُ الفقهيَّةُ بمزيدٍ مِن الإيجازِ في صياغتِها، على عمومِ معناها، فتُعْتَبَرُ من جوامعِ الكَلِمِ؛ كقولِهم: الأمورُ بمقاصدِها، أو المشقَّةُ تَجْلُبُ التيسيرَ، فكلٌّ من هاتيْنِ الجملتيْن قاعدةٌ كليةٌ كبرَى، يَنْدَرِجُ تحتَها ما لا يُحْصَى من المسائلِ الفقهيَّةِ المختلفةِ.
وفي هذه القواعدِ الكليةِ الفقهيةِ ضبطٌ لفروعِ الأحكامِ العمليَّةِ.
قالَ القَرافِيُّ: القواعدُ الكليةُ الفقهيَّةُ جليلةُ القدرِ، مُشْتَمِلَةٌ على أسرارِ الشرعِ وحِكَمِه، فهي مهمَّةٌ في الفقهِ، عظيمةُ النفْعِ، وبقَدْرِ الإحاطةِ بها يَعْظُمُ قَدْرُ الفقيهِ وتَتَّضِحُ له مناهجُ الفتوَى، فمَن ضَبَطَ الفقهَ بقواعدِه اسْتَغْنَى عن حِفْظِ أكثرِ الجزئيَّاتِ؛ لانْدِرَاجِها في سِلْكِ الكلِّيَّاتِ.
أنواعُ القواعدِ الفقهيَّةِ ومراتِبُها:
القواعدُ الفقهيةُ ليسَتْ على درجةٍ واحدةٍ من العمومِ والشمولِ؛ فهناكَ القواعدُ الكبرَى، وهي قواعدُ خمسٌ يَنْدَرِجُ تحتَ كلِّ واحدةٍ منها عددٌ من القواعدِ الفقهيةِ، فهي أشملُ وأعمُّ ممَّا سِواها؛ بكثرةِ ما يَنْدَرِجُ تحتَها من الفروعِ والمسائلِ الفقهيةِ من مختلِفِ أبوابِ الفقهِ.
وهذه القواعدُ الخمسُ هي:
1- الأمورُ بمقاصدِها.
2- اليقينُ لا يَزُولُ بالشكِّ.
3- الضررُ يُزَالُ.
4- المَشقَّةُ تَجْلُبُ التيسيرَ.
5- العادةُ مُحَكَّمَةٌ.
وهناكَ قواعدُ أُخَرُ أقلُّ شمولاً للفروعِ من هذه القواعدِ، وتُسَمَّى قواعدَ جزئيَّةً، وستأتي إنْ شاءَ اللَّهُ تعالى.
الفرقُ بينَ القاعدةِ والضابطِ:
القاعدةُ قد تُسْتَعْمَلُ بمعنى الضابطِ، والضابطُ قد يُسْتَعْمَلُ بمعنى القاعدةِ، إلاَّ أنَّ بينَهما فرقيْنِ:
أحدُهما: أن القاعدةَ تَجْمَعُ فروعاً من أبوابٍ شتَّى، وأما الضابطُ فلا يَجْمَعُ إلا فروعاً مِن بابٍ واحدٍ.
الثاني: أنَّ القاعدةَ مُتَّفَقٌ عليها بينَ المذاهبِ أو أكثرِها، وأما الضابطُ فيَخْتَصُّ بمذهبٍ معينٍ، وقد أَجْمَلْنَاها كلَّها باسمِ القواعدِ من بابِ تسميَةِ البعضِ باسمِ الكلِّ، وهو سائغٌ لغةً وشرعاً وعُرفاً.
الفرقُ بينَ أصولِ الفقهِ، والقواعدِ الفقهيَّةِ:
علمُ أصولِ الفقهِ: مجموعةٌ مِن القواعدِ التي تُبَيِّنُ للفقيهِ طُرُقَ استخراجِ الأحكامِ من الأدلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، فهو يُبَيِّنُ أصلَ الشريعةِ في التكاليفِ العمليَّةِ، ويَرْسُمُ المناهجَ للمجتهدِ؛ لِيَسِيرَ في سبيلٍ قويمٍ إلى استنباطِ الأحكامِ الفرعيَّةِ، ويَعْصِمُه من الخطأِ في الاستنباطِ.
فموضوعُ علمِ أصولِ الفقهِ الأدلَّةُ الإجماليَّةُ والأحكامُ الكليَّةُ وكيفيَّةُ استنباطِ الحكمِ من الدليلِ الإجماليِّ.
وأما القواعدُ الفقهيَّةُ: فهي مجموعةٌ من الأحكامِ المتشابهةِ التي تَرْجِعُ إلى قياسٍ واحدٍ يَجْمَعُها، أو إلى ضابطٍ فقهيٍّ يَرْبِطُها، فهي أصلٌ للأحكامِ الفِقْهِيَّةِ الجزئيَّةِ المتفرِّقَةِ، يَعْمِدُ إليها الفقيهُ فيَجْمَعُ شَتاتَهَا ويَرْبِطُ بينَ جزئيَّاتِها برِباطٍ وثيقٍ هو القاعدةُ الفِقْهِيَّةُ التي تَحْكُمُها، فهي مَبْنِيَّةٌ على الجمعِ بينَ المسائلِ المتشابهةِ من الأحكامِ الفِقْهِيَّةِ.
فموضوعُ علمِ هذه القواعدِ: هو ما تَشَابَهَ من المسائلِ والأحكامِ الفِقْهِيَّةِ، وما يَرْبِطُ كلَّ مجموعةٍ متشابهةٍ منها من قياسٍ أو ضابطٍ فقهيٍّ هو القاعدةُ، أما أصولُ الفقهِ: فيَنْبَنِي عليه استنباطُ الفروعِ الفِقْهِيَّةِ من أدلَّتِها.
القواعدُ الكُلِّيَّةُ الخمسُ الكبرى:
تَقَدَّمَ لنا أن القواعدَ الفِقْهِيَّةَ ليسَتْ على درجةٍ واحدةٍ من العمومِ؛ فهناك قواعدُ كبرَى وهناكَ قواعدُ أُخَرُ أقلُّ منها شمولاً للفروعِ، وهذا بيانٌ للكبرَى والإشارةُ إلى بعضِ معانيها:
القاعدةُ الأولى من القواعدِ الكبرَى: الأمورُ بمقاصدِها:
دليلُها: قولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
معنى القاعدةِ لغةً: الأمورُ جمعُ أمرٍ، وهو الحالُ، والمقاصدُ: جمعُ مَقْصِدٍ، ومعناه: الإرادةُ والعَزْمُ.
والمعنى: أن أعمالَ المكلَّفِ وتصرُّفاتِه تَخْتَلِفُ نتائجُها باختلافِ مقصودِ الشخصِ وغايتِه؛ فمَنِ الْتَقَطَ لُقَطَةً يَقْصِدُ أَخْذَها لنفسِه، كانَ غاصِباً، ومَنِ الْتَقَطَها لحِفْظِها وتَعْرِيفِها ورَدِّها لصاحبِها متى ظهَرَ، كانَ أَمِيناً.
وكما أن الفعلَ يَتَكَيَّفُ حُكْمُه في أحكامِ الدنيا بِناءً على قصدِ فاعلِه، فكذلك يَتَرَتَّبُ عليه من جزاءِ الآخرةِ بالثوابِ والعقابِ حسَبَ قَصْدِه.
وهذه القاعدةُ على وَجازَتِها ذاتُ معنًى عامٍّ يَشْمَلُ كلَّ ما يَصْدُرُ عن الإنسانِ من قولٍ أو فعلٍ.
القاعدةُ الثانيةُ من القواعدِ الكبرى: ((لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ)):
هي نصٌّ مِن حديثٍ أَخْرَجَه الحاكمُ والبَيْهَقِيُّ والدَّارَقُطْنِيُّ عن عُبَادَةَ بنِ الصامتِ.
معنى القاعدةِ: الضررُ: إلحاقُ مفسدةٍ بالغيرِ، وأما الضِّرارُ: فالمُجازاةُ بالمقابلةِ، وحُرِّمَ الضررُ لأنه تَعَدٍّ، وحُرِّمَ الضِّرارُ لأنه مفسدةٌ بلا مصلحةٍ، وأفضلُ منه تَضْمِينُ المُتَعَدِّي، كما في حديثِ قَصْعَةِ عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها.
هذه القاعدةُ ركنٌ من أركانِ الشريعةِ، لها أدلَّةٌ كثيرةٌ من الكتابِ والسنَّةِ، وهي أساسٌ لمنعِ الفعلِ الضارِّ، كما أنها أصلٌ لمبدأِ جَلْبِ المصالحِ ودَرْءِ المفاسِدِ، وهي عُمْدَةُ الفقهاءِ في تقريرِ الأحكامِ الشَّرْعِيَّةِ للحوادثِ.
وعلى هذه القاعدةِ يُبْنَى كثيرٌ من أبوابِ الفقهِ؛ كالردِّ بالعَيْبِ، والحَجْرِ بأنواعِه، والشُّفْعَةِ، والحُدودِ، والقِصاصِ، والكفَّارَاتِ، وضَمانِ المُتْلَفَاتِ، ودَفْعِ الصائلِ، وقِتالِ البُغاةِ، إلى غيرِ ذلك ممَّا في حِكْمَةِ شرعيَّتِه دفعٌ للضررِ.
القاعدةُ الثالثةُ من القواعدِ الكبرَى: اليَقِينُ لا يَزُولُ بالشكِّ:
من أدلَّةِ هذه القاعدةِ: قولُه تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [يونس: 36]، وفي الصحيحيْن: شَكَا إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرجلُ يُخَيَّلُ إليه أنه يَجِدُ الشيءَ في الصلاةِ، قالَ: ((لاَ يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتاً أَوْ يَجِدَ رِيحاً)).
وفي مسلمٍ: ((إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلاَثاً أَوْ أَرْبَعاً؟ فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ)).
أمَّا الدليلُ العقليُّ: فإنَّ اليقينَ أقوَى من الشكِّ، فلا يَنْهَدِمُ اليقينُ بالشكِّ.
معنى القاعدةِ في اللغةِ: اليقينُ: طُمَأْنِينَةُ القلبِ على حقيقةِ الشيءِ، والشكُّ: مُطْلَقُ التردُّدِ.
وفي اصطلاحِ الأُصُولِيِّينَ: الشكُّ: هو استواءُ طرَفَيِ الشيءِ بلا ترجيحِ أحدِهما على الآخَرِ.
معنى القاعدةِ في الاصطلاحِ الفِقهيِّ: أن الأمرَ المتيَقَّنَ ثبوتُه لا يَرْتَفِعُ إلا بدليلٍ قاطعٍ، ولا يُحْكَمُ بزوالِه لمجرَّدِ الشكِّ، كذلك الأمرُ المتيَقَّنُ عَدَمُ ثُبُوتِه لا يُحْكَمُ بثبوتِه بمجرَّدِ الشكِّ؛ لأنَّ الشكَّ أَضْعَفُ مِن اليقينِ.
مكانةُ القاعدةِ: هذه القاعدةُ تَدْخُلُ في جميعِ أبوابِ الفقهِ، قالُوا: إن المسائلَ المُخَرَّجَةَ عليها تَبْلُغُ ثلاثةَ أرباعِ الفقهِ وأكثرَ.
القاعدةُ الرابعةُ من القواعدِ الكبرَى: المشقَّةُ تَجْلُبُ التيسيرَ:
المعنى اللُّغويُّ: المشقَّةُ: التعَبُ والجَهْدُ والعَناءُ. والتيسيرُ: السُّهولةُ واللُّيُونَةُ.
المعنَى الاصْطِلاحِيُّ: أنَّ الأحكامَ التي يَنْشَأُ عن تطبيقِها حَرَجٌ على المكلَّفِ فإنَّ الشريعةَ تُخَفِّفُها بما يَقَعُ تحتَ قُدْرَةِ المكلَّفِ دونَ عُسْرٍ أو إحراجٍ.
دليلُ القاعدةِ: أدِلَّتُها كثيرةٌ جِدًّا من الكتابِ والسنَّةِ؛ قالَ تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقالَ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]. وقالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ)). أَخْرَجَه أحمدُ، وقالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ)). مُتَّفَقٌ عليه.
القاعدةُ الخامسةُ مِن القواعدِ الكبرى: العادَةُ مُحَكَّمَةٌ:
المعنى اللُّغويُّ: العادةُ مُشْتَقَّةٌ من العَوْدِ أو المُعاودةِ، بمعنى التَّكرارِ، فالعادةُ اسمٌ لتكريرِ الفعلِ حتى يَصِيرَ سهلاً تعاطيه كالطبْعِ، وأمَّا مُحَكَّمَةٌ فهي اسمُ مفعولٍ مِن التحكيمِ في القضاءِ والفصلِ بينَ الناسِ، أي: أنَّ العادةَ هي المرجِعُ للفصلِ عندَ النزاعِ.
المعنى الاصطلاحِيُّ: أن للعادةِ في نظرِ الشرعِ حاكمِيَّةً تَخْضَعُ لها أحكامُ التصرُّفاتِ، فتَثْبُتُ تلكَ الأحكامُ على وَفْقِ ما تَقْضِي به العادةُ أو العُرْفُ إذا لم يَكُنْ هناكَ نَصٌّ شرعِيٌّ مخالِفٌ لتلكَ العادةِ أو العُرْفِ، فالعادَةُ والعرفُ لفظانِ بمعنًى واحدٍ مِن حيثُ ما يَدُلُّ عليهما لفظُهما ويَصْدُقانِ عليه حتى تكونَ العادةُ والعُرْفُ حُجَّةً وحُكْماً.
يُعْتَبَرُ العُرْفُ والعادةُ حُجَّةً عندَ عدمِ مخالفتِه لنصٍّ شَرْعِيٍّ أو شرطٍ لأحدِ المتعاقدَيْنِ، كما لو اسْتَأْجَرَ شخصٌ آخَرَ لِيَعْمَلَ له مِن الظهرِ إلى العصرِ فقطْ، فليسَ للمستأجِرِ أنْ يُلْزِمَ الأجيرَ بالعملِ من الصباحِ إلى المساءِ بحُجَّةِ أنَّ عُرْفَ البلدةِ كذلك، بل يَتَّبِعُ المدَّةَ المشروطةَ بينَهما.
إذا وَافَقَ العُرْفُ والعادةُ الدليلَ الشرعيَّ وَجَبَ مراعاتُه وتطبيقُه، وإذا خَالَفَ العرفُ الدليلَ الشرعيَّ مِن كلِّ وجهٍ، وَجَبَ ردُّ العُرْفِ والعادةِ، فلا يُعْتَبَرَانِ حُكماً لإثباتِ حكمٍ شرعيٍّ إلاَّ إذا لم يَرِدْ نصٌّ في ذلك الحُكْمِ المرادِ إثباتُه.
وأمَّا إنْ كانَتْ مخالفةُ العرفِ للدليلِ الشرعيِّ في بعضِ أفرادِه، أو كانَ الدليلُ الشرعيُّ قياساً، فإنَّ العرفَ العامَّ يُعْتَبَرُ مُخَصِّصاً للنصِّ، ويُتْرَكُ القياسُ مِن أجلِه.
ضابِطٌ عامٌّ: كلُّ ما وَرَدَ به الشرعُ مُطلقاً، ولا ضابِطَ له في الشرْعِ ولا في اللغةِ، فإنه يُرْجَعُ فيه إلى العُرْفِ، مثلُ: الحِرْزِ في السَّرِقَةِ، فهو ما يُعْتَبَرُ حَدُّه في العُرْفِ، حيثُ لا تحديدَ له في الشرْعِ، ولا في اللغةِ، ويَخْتَلِفُ بينَ مالٍ ومالٍ، وبينَ حالٍ وحالٍ.
قرارُ المَجْمَعِ الفِقْهِيِّ بشأنِ موضوعِ العُرْفِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على سيِّدِنا مُحَمَّدٍ خاتَمِ النبيِّينَ، وعلى آلِهِ وصحبِه.
قرارٌ رَقْمُ (9) بشأنِ العُرْفِ:
إنَّ مجلسَ مَجْمَعِ الفقهِ الإسلاميِّ المُنْعَقِدَ في دورةِ مؤتمرِه الخامسِ بالكُوَيْتِ مِن 1 إلى 6 جُمادَى الأُولَى 1409هـ / 10 إلى 15 كانونَ الأولِ (ديسمبرَ) 1988م.
بعد اطِّلاعِه على البحوثِ المُقَدَّمَةِ من الأعضاءِ والخُبَراءِ في موضوعِ (العُرْفِ) واستماعِه للمناقشاتِ التي دارَتْ حولَه.
قَرَّرَ:
أولاً: يُرادُ بالعرفِ: ما اعْتَادَهُ الناسُ، وساروا عليه؛ مِن قولٍ أو فعلٍ أو ترْكٍ، وقد يكونُ مُعْتَبَراً شَرعاً أو غيرَ مُعْتَبَرٍ.
ثانياً: العرفُ إنْ كانَ خاصًّا، فهو مُعْتَبَرٌ عندَ أهلِه، وإنْ كانَ عامًّا فهو مُعْتَبَرٌ في حقِّ الجميعِ.
ثالثاً: العُرْفُ المُعْتَبَرُ شرعاً هو ما اسْتَجْمَعَ الشروطَ الآتيةَ:
(أ‌) أنْ لا يُخَالِفَ الشريعةَ، فإنْ خالَفَ العُرْفُ نصًّا شرعيًّا أو قاعدةً من قواعدِ الشريعةِ فإنه عُرْفٌ فاسدٌ.
(ب‌) أنْ يكونَ العرفُ مُطَّرِداً (مُستمِرًّا) أو غالباً.
(ج‌) أن يكونَ العرفُ قائماً عندَ إنشاءِ التصرُّفِ.
(د‌) أنْ لا يُصَرِّحَ المتعاقِدانِ بخلافِه، فإنْ صَرَّحا بخلافِه فلا يُعْتَدُّ به.
رابعاً: ليسَ للفقيهِ – مُفْتِياً كانَ أو قاضِياً - الجمودُ على المنقولِ في كتبِ الفقهاءِ مِن غيرِ مراعاةِ تَبَدُّلِ الأعرافِ. واللَّهُ أعلمُ.
القواعدُ الكُلِّيَّةُ غيرُ الكُبْرَى
القاعدةُ الأولى: إعمالُ الكلامِ أوْلَى مِن إهمالِه.
المعنى اللُّغَوِيُّ: إعطاءُ الكلامِ حكماً مفيدا مقتضاه اللغويَّ أولَى مِن إلغائِه؛ فإنَّ العاقلَ يُصانُ كلامُه عن الإلغاءِ ما أَمْكَنَ.
أما المعنَى الفقهيُّ: فهو إعمالُ كلامِ المتكلِّمِ من شارعٍ أو عاقدٍ أو حالِفٍ أو غيرِهم، بأنْ تُحْمَلَ ألفاظُه على معانيها الحقيقيَّةِ.
فلو قالَ شخصٌ لآخَرَ: وَهَبْتُكَ هذا الشيءَ. فأَخَذَه المُخاطَبُ، ثمَّ ادَّعَى القائلُ أنه ما أرادَ بلفظِ الهبةِ إلاَّ البيعَ، وطَلَبَ يَمِيناً، فإنه لا يُقْبَلُ قولُه؛ لأنَّ الأصلَ في الكلامِ الحقيقةُ، وحقيقةُ الهِبَةِ تمليكٌ بدونِ عِوَضٍ.
القاعدةُ الثانيةُ: إذا تَعَذَّرَتِ الحقيقةُ يُصارُ إلى المجازِ:
المعنى: الحقيقةُ هي الأصلُ، والمجازُ فرعُ الحقيقةِ، فحيثُ كانَ المجازُ خَلَفاً عن الحقيقةِ فإنه يَتَعَيَّنُ المعنى الحقيقيُّ للَّفْظِ ما لم يُوجَدْ مُرَجِّحٌ للمجازِ.
ويُشْتَرَطُ في اللفظِ المُسْتَعْمَلِ في معناهُ المجازِيِّ وجودُ قرينةٍ مانعةٍ من إرادةِ المعنى الحقيقيِّ، كأنْ يكونَ المعنَى الحقيقيُّ مهجوراً عُرفاً.
فلو حَلَفَ شخصٌ أنْ لا يَأْكُلَ هذا الدقيقَ، فأَكَلَ منه خُبزاً حَنِثَ؛ لأنَّ أكلَ الدقيقِ دونَ خَبْزِه مهجورٌ عُرْفاً.
القاعدةُ الثالثةُ: المُطْلَقُ يُجْرَى على إطلاقِه ما لم يَقُمْ دليلُ التقييدِ نصًّا أو دَلالةً:
اللفظُ المطلَقُ: هو ما دَلَّ على أمرٍ مِن الأمورِ مجرَّداً عن القيودِ.
وأما اللفظُ المقيَّدُ: فهو الذي يَكُونُ محدَّداً بشيءٍ من القيودِ.
فلفظُ فرَسٍ مثلاً مُطْلَقٌ، فإذا قلنا: فرسٌ أبيضُ، صارَ مقيَّداً.
ومعنى القاعدةِ: أن اللفظَ المطلَقَ يُعْمَلُ به على إطلاقِه حتى يقومَ دليلُ التقييدِ بالنصِّ عليه أو بدَلالةِ الحالِ.
فلو وَكَّلَ شخصٌ آخرَ على شراءِ سيارةٍ فاشْتَرَاها حَمْرَاءَ فقالَ المُوَكِّلُ: أرَدْتُ بيضاءَ. فيُلْزَمُ المُوَكِّلُ بما اشْتَرَاهُ الوكِيلُ؛ لأنَّ وِكالَتَه مُطْلَقَةٌ، فيُجْرَى على إطلاقِه.
حالاتُ التقييدِ:
التقييدُ بالنصِّ: هو اللفظُ الدالُّ على القيدِ؛ كما لو قالَ لوكيلِه: بِعِ السلعةَ بالدولارِ.
التقييدُ بالدَّلالةِ: والدلالةُ غيرُ اللفظيَّةِ تكونُ عُرْفِيَّةً أو حالِيَّةً.
كما لو وَكَّلَ طالبُ علمٍ شرعيٍّ آخَرَ بشراءِ كتبٍ، فاشْتَرَى له كتبَ هندسةٍ، فإنَّ المبيعاتِ لا تَلْزَمُ الموكِّلَ؛ لأنَّ دَلالةَ الحالِ تُفِيدُ وتُقَيِّدُ أن مرادَه كتبُ العلمِ الشرعيِّ.
القاعدةُ الرابعةُ: التأسيسُ أَوْلَى من التأكيدِ:
المعنى اللُّغَوِيُّ: التأسيسُ: مِن أَسَّسَ البناءَ: جَعَلَ له أُسًّا، والتأكيدُ معناهُ التقويةُ.
المعنى الاصطلاحيُّ: أن الكلامَ إذا دارَ بينَ أنْ يُفِيدَ معنًى جديداً، وبينَ أنْ يُؤَكِّدَ معنًى سابقاً كانَ حَمْلُه على إفادةِ المعنى الجديدِ أولَى مِن حَمْلِه على التأكيدِ؛ لأنَّ التأسيسَ يُفِيدُ معنًى جديداً لم يَتَضَمَّنْه الكلامُ السابقُ، بخلافِ التأكيدِ؛ فإنه لا يُفِيدُ إلا إعادةَ معنَى اللفظِ السابقِ.
فمَنْ حَلَفَ على أمرٍ بأنه لا يَفْعَلُه ثمَّ حَلَفَ مرَّةً أخرَى أنه لا يَفْعَلُه أبداً، ثمَّ فعَلَه، فإنْ نَوَى بالثاني اليمينَ الأولَى، فعليه كفارَةٌ واحدةٌ، وإنْ نَوَى باليمينِ الثاني يميناً آخَرَ، فعليه كفارةُ يمينَيْنِ.
القاعدةُ الخامسةُ: إذا تَعَذَّرَ الأصلُ يُصارُ إلى البدلِ:
المعنى: الأصلُ هنا: ما يَجِبُ أداؤُه، والأداءُ: الإتيانُ بالأصلِ، أما البدلُ: فهو القضاءُ، والقضاءُ: هو الإتيانُ بالخَلَفِ أو البَدَلِ.
والمرادُ: أنَّ الواجبَ هو أداءُ الأصلِ، فإذا لم يُمْكِنْ إيفاؤُه والإتيانُ به فإنه يَنْتَقِلُ الحكمُ إلى البدلِ.
ويكونُ ذلك في حقوقِ اللَّهِ تعالى، كالصلاةِ في وَقْتِها، ويكونُ في حقوقِ العبادِ، كردِّ المغصوبِ.
فالواجبُ الإتيانُ بالأداءِ كاملاً، كالصلاةِ في وقتِها معَ الجماعةِ، فإنْ فاتَ وقتُها أو فاتَتِ الجماعةُ أتَى بالقضاءِ بعدَ فواتِ الجماعةِ أو بعدَ خروجِ الوقتِ.
والمغصوبُ الواجبُ ردُّه ردًّا كاملاً، فإنْ تَعَذَّرَ بتَلَفِه أو عَدَمِ القدرةِ على ردِّه، فيُرَدُّ بدلُه مِثلاً إنْ كانَ مِثليًّا، أو قِيمَتُه إِنْ كانَ مُقَوَّماً.
ومن أدلَّةِ هذه القاعدةِ: قولُه تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ. فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} [البقرة: 238 - 239].
وقولُه تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 52].
القاعدةُ السادسةُ: التصرُّفُ في أمورِ الرَّعِيَّةِ مَنُوطٌ بالمصلحةِ:
المعنى اللغويُّ: الرعيَّةُ: عمومُ الناسِ. مَنُوطٌ: اسمُ مفعولٍ من نَاطَ يَنُوطُ، بمعنى: رَبَطَ وعَلَّقَ، فمعناه: معلَّقٌ ومُرْتَبِطٌ به.
المعنى الاصطلاحيُّ: أنَّ تَصَرُّفَ الإمامِ وكُلِّ مَن وُلِّيَ شيئاً من أمورِ المسلمينَ يَجِبُ أنْ يكونَ مبنِيًّا ومقصوداً به المصلحةُ العامَّةُ، وإلاَّ فليسَ بنافذٍ ولا صحيحٍ شرعاً.
فهذه القاعدةُ تَضْبُطُ تصرُّفاتِ كلِّ مَن وَلِيَ شيئاً مِن أمورِ العامَّةِ؛ من إمامٍ وأميرٍ وقاضٍ وموظَّفٍ، فتُفِيدُ أنَّ أعمالَ هؤلاء وأمثالِهم – لكي تكونَ مُلْزِمَةً – يَجِبُ أنْ تكونَ مبنيَّةً على مصلحةِ الجماعةِ، وأنَّ الوُلاَةَ وعُمُومَ الموظَّفِينَ ليسوا عُمَّالاً لأنفسِهم، إنما وكلاءُ على الأمَّةِ في القيامِ بشُؤُونِها، فعليهم أنْ يُرَاعُوا خيرَ التدابيرِ لصلاحِ الرعيَّةِ.
ومِن أدلَّةِ هذه القاعدةِ: قولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَعِيَّةً يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ رَعِيَّتَهُ إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ)). مُتَّفَقٌ عليه.
ووجهُ الدَّلالةِ: أن عَمَلَه في غيرِ مصلحةِ الرعيَّةِ غِشٌّ، والغِشُّ مردودٌ باطلٌ لا يُلْزَمُ به أحدٌ.
قالَ الإمامُ الشافعيُّ: مَنْزِلَةُ الإمامِ من الرعيَّةِ مَنْزِلَةُ الولِيِّ مِن اليتيمِ.
القاعدةُ السابعةُ: المرءُ مُؤَاخَذٌ بإقرارِه:
المعنى اللُّغويُّ: الإقرارُ مِن قَرَّ الشيءُ، إذا ثَبَتَ في مكانِه.
وتعريفُ الإقرارِ شرعاً: إخبارٌ عن ثبوتِ حقٍّ للغيرِ على نفسِه.
المعنى الاصطلاحيُّ: أنَّ الإنسانَ مُؤَاخَذٌ في إخبارِه عن ثبوتِ حقٍّ للغيرِ على نفسِه.
حكمُ الإقرارِ: أنه حُجَّةٌ مُلْزِمَةٌ على مَن أَقَرَّ، ومَن يأتي عن طريقِه.
ومِن أدلَّةِ القاعدةِ: قولُه تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} [البقرة: 282]. وجاءَ في بعضِ الأحاديثِ: ((لاَ عُذْرَ لِمَنْ أَقَرَّ)). والحديثُ – وإنْ لم يُعْلَمْ له أصلٌ – إلا أنه صحيحُ المعنَى.
دليلٌ عقليٌّ: هو رُجْحَانُ صِدْقِ المُقِرِّ على كَذِبِه؛ لأنَّ العاقِلَ لا يُقِرُّ بضررٍ على نفسِه دونَ حقٍّ.
والإقرارُ لا يَصِحُّ ولا يُعْتَبَرُ شرعاً إلاَّ مِن مُكَلَّفٍ، وهو البالغُ العاقلُ، فإقرارُ الصغيرِ والمجنونِ لا يَصِحُّ.
ولا يُقْبَلُ رُجُوعُ المُقِرِّ بحقوقِ الآدَمِيِّينَ؛ لأنَّها مَبْنِيَّةٌ على الشُّحِّ، ويُقْبَلُ في حقوقِ اللَّهِ تعالى، كالحدودِ الخالِصِ حقُّها للهِ؛ فإنَّ حقَّ اللَّهِ تعالى مبنِيٌّ على المسامحةِ والسَّتْرِ.
الإقرارُ حُجَّةٌ قاصرةٌ على المُقِرِّ نفسِه، أو مَن يأتي مِن جِهَتِه؛ ذلك أنَّ إقرارَه مُلْزِمٌ له فقطْ، فلا يَتَعَدَّاهُ إلى غيرِه.
القاعدةُ الثامنةُ: الجوازُ الشرعيُّ يُنافِي الضَّمانَ:
المعنى: أن الإنسانَ لا يُؤَاخَذُ بفعلِ ما أُذِنَ له فيه شرعاً.
فالمُرَتَّبُ على المأذونِ غيرُ مضمونٍ إلاَّ بالتَّعَدِّي أو التفريطِ، فمَن حفَرَ بئراً في أرضِه، فوَقَعَ فيها إنسانٌ أو حيوانٌ، فالحافِرُ هنا غيرُ ضامنٍ؛ لأنه مأذونٌ له، ولأنه غيرُ مُتَعَدٍّ.
لكن لو حَفَرَ في الطريقِ حُفْرَةً، فوَقَعَ فيها إنسانٌ أو حيوانٌ، فهو ضامِنٌ؛ لأنه غيرُ مأذونٍ له فيه.
القاعدةُ التاسعةُ: اليَدُ الأمينةُ لا تَضْمَنُ إلاَّ بالتَّعَدِّي أو التفريطِ:
الشرحُ: كلُّ مَن بيدِه مالٌ برضا صاحبِه أو وِلايتِه عليه، فهو أمينٌ عليه، سواءٌ كانَ للأمينِ فيما تحتَ يَدِهِ حظُّ نفسٍ أو لا.
ويَدْخُلُ في الأمينِ: الأجيرُ، والمُرْتَهَنُ، والشَّرِيكُ، والمُضارِبُ، والوَدِيعُ، والوَلِيُّ، والوَصِيُّ، والوكيلُ، والناظِرُ، ونحوُهم، سواءٌ كانوا بعملِهم مُسْتَأْجَرِينَ أو مُتَبَرِّعِينَ، فكلُّ هؤلاء لا يَضْمَنُونَ ما تَلِفَ بأيدِيهم إلاَّ بإحدَى حالتيْنِ:
الأولى: التعدِّي، وهو فعلُ ما لا يَجُوزُ.
الثانيةُ: التفريطُ، وهو تَرْكُ ما يَجِبُ.
وإنِ ادَّعَوْا تَلَفَ ما بأيديهم، أو ادَّعَوْا عدَمَ التعدِّي أو التفريطِ فيه، فالقولُ قولُهم.
وأمَّا إنِ ادَّعَوْا رَدَّهَا على صاحبِها: فإنْ كانوا قَبَضُوا العينَ لحظِّ أنفسِهم فإنه لا يُقْبَلُ منهم دعوَى الردِّ إلاَّ ببيِّنَةٍ، وإنْ كانوا قَبَضُوها لحظِّ صاحبِها فقطْ فالقولُ قولُهم في الردِّ أيضاً.
وكلُّ مَن قُلْنَا: القولُ قولُه، فلا بُدَّ مِن أمريْن: أنْ لا يُخَالِفَ قولُه عادةً وعرفاً، وأن عليه اليمينَ بطلَبِ صاحبِها.
أمَّا مَن كانَتِ العينُ بيدِه بغيرِ رضا صاحبِها، كالغاصِبِ ومَن في حُكْمِه، فإنه ضامِنٌ على كلِّ حالٍ، سواءٌ حَصَلَ التلَفُ بتعَدٍّ أو تفريطٍ أو لا؛ لأنَّ يَدَه ظالمةٌ مُتَعَدِّيَةٌ، فتُضْمَنُ العينُ بمنافعِها التالفةِ تحتَ يدِه، ويُضْمَنُ النقْصُ الحاصِلُ عندَه.
القاعدةُ العاشرةُ: ((الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ)):
هذه القاعدةُ حديثٌ أَخْرَجَه أبو داودَ، والتِّرْمِذِيُّ، والنَّسَائِيُّ، وغيرُهم، فهو مِن جوامعِ كَلِمِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لاشْتِمَالِه على معانٍ كثيرةٍ، وقدْ جَرَى مَجْرَى المَثَلِ بوَجَازَتِه وجَمْعِه.
المعنى اللُّغَوِيُّ: قالَ في النهايةِ: الخَراجُ: ما حَصَلَ مِن غَلَّةِ العيْنِ، والباءُ مُتَعَلِّقَةٌ بمحذوفٍ، تقديرُه: الخَراجُ مُسْتَحَقٌّ بسببِ الضَّمانِ، والضمانُ هو الكَفالةُ والالتزامُ.
المعنى الاصطلاحيُّ: أنَّ ما خَرَجَ مِن الشيءِ من غَلَّةٍ ومنفعةٍ فهو للمشترِي عِوَضَ ما كانَ عليه من ضَمانِ المِلْكِ؛ فإنَّ العينَ المباعةَ لو تَلِفَتْ كانَتْ من ضمانِه، فالغلَّةُ إذاً له في مقابلِ الغُرْمِ؛ لأنَّ مَن يَتَحَمَّلُ الخَسَارَةَ – لو حَصَلَتْ – يَجِبُ أنْ يَحْصُلَ على الرِّبْحِ، فالنِّقْمَةُ بقدرِ النعمةِ، والنعمةُ بقدرِ النقمةِ، والغُنْمُ بالغُرْمِ.
القاعدةُ الحاديةَ عَشْرَةَ: ((عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ)):
هذه القاعدةُ نصُّ حديثٍ روَاه أحمدُ وأصحابُ السنَنِ عن سَمُرَةَ بنِ جُنْدَبٍ.
المعنى: أنَّ مَن أَخَذَ شيئاً بغيرِ حقٍّ، كانَ ضامناً له، فلا تَبْرَأُ ذِمَّتُه حتى يَرُدَّه.
الضمانُ نوعانِ:
1 - ضمانُ عَقْدٍ. 2 - ضمانُ يَدٍ.
فضمانُ العقدِ: مَرَدُّه ما اتَّفَقَ عليه العاقدانِ أو بَدَلُه.
وضمانُ اليَدِ: مَرَدُّه المِثْلُ أو القيمةُ.
والمرادُ بالقاعدةِ ضمانُ اليَدِ لا العَقْدِ.
فمَنِ الْتَقَطَ لُقَطَةً لنفسِه، فيَدُه يَدُ غَصْبٍ وضمانٍ، حتى يُؤَدِّيَها لصاحبِها.
القاعدةُ الثانيةَ عَشْرَةَ: لا مَساغَ للاجتهادِ في موردِ النصِّ:
المعنى اللُّغَوِيُّ: يُقالُ: ساغَ الشرابُ في الحَلْقِ، إذا سَهُلَ انحدارُه لانفتاحِ مَنْفَذِه، و: لا مَساغَ؛ أي: لا مَنْفَذَ ولا طريقَ.
والاجتهادُ: هو بَذْلُ الجُهْدِ العِلْمِيِّ في استنباطِ الأحكامِ من أدلَّتِها، وهو نوعانِ:
1- اجتهادٌ في فَهْمِ النصوصِ لإمكانِ تَطْبِيقِها، وهذا واجبٌ على كلِّ مجتهدٍ.
2- اجتهادٌ عن طريقِ القياسِ والرأيِ، وهذا لا يَجُوزُ الالتجاءُ إليه، إلاَّ بعدَ أنْ لا نَجِدَ حُكْمَ المسألةِ المبحوثِ عنها في الكتابِ والسنَّةِ والإجماعِ، وهو المقصودُ هنا.
والاجتهادُ لا يُنْقَضُ بمثلِه، فإنَّ أبا بَكْرٍ حَكَمَ في مسائلَ خَالَفَه فيها عمرُ، فلَمَّا وَلِيَ عمرُ لم يَنْقُضْ حكمَ أبي بكرٍ.
فإذا اجْتَهَدَ عالمٌ في مسألةٍ وعَمِلَ باجتهادِه، ثمَّ بدَا له رأيٌ آخَرُ، فعَدَلَ عن الأولِ، فلا يَنْقُضُ اجتهادُه الثانِي حكمَه الناشِئَ عن اجتهادِه الأوَّلِ.
القاعدةُ الثالثةَ عَشْرةَ: ما لا يَتِمُّ الواجبُ إلاَّ به فهو واجبٌ:
قالوا: إن هذه قاعدةٌ أصولِيَّةٌ، لا قاعدةٌ فِقْهِيَّةٌ. وهذه القاعدةُ جزءٌ مِن قاعدةِ: الوسائلُ لها أحكامُ المقاصِدِ.
فالوسيلةُ إلى الغايةِ تَأْخُذُ حُكْمَها، فوسائلُ الواجباتِ واجبةٌ، ووسائلُ المحرَّماتِ محرَّمَةٌ، ووسائلُ المستحَبَّاتِ مُسْتَحَبَّةٌ، ووسائلُ المكروهاتِ مكروهةٌ، ووسائلُ المباحاتِ مباحةٌ.
فإنَّ اللَّهَ تعالى إذَا أَمَرَ بأمرٍ، فإنه قدْ أَمَرَ بما لا يَتِمُّ إلاَّ به، وإذا نَهَى عن فعلٍ، فقدْ نَهَى عن الوسائلِ الداعيةِ إليه... وهكذا.
ومِن أَدِلَّتِها قولُه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9].
القاعدةُ الرابعةَ عَشْرَةَ: مَنِ اسْتَعْجَلَ شيئاً قبلَ أوانِه، عُوقِبَ بحِرمانِه:
المعنى: أنَّ مَن تَوَصَّلَ بالوسائلِ التي لَيْسَتْ مشروعةً؛ تعجُّلاً منه للحصولِ على مقصودِه المُسْتَحَقِّ له، فإنَّ الشرعَ عامَلَه بضدِّ مقصودِه، فأَوْجَبَ حِرمانَه جزاءَ فِعْلِه واسْتِعْجَالِه.
فلو قَتَلَ وارِثٌ مُوَرِّثَه مُسْتَعْجِلاً للإرثِ، فإنه يُحْرَمُ من الميراثِ، سواءٌ كانَ مُتَّهماً أو غيرَ مُتَّهَمٍ.
وقد عَبَّرَ ابنُ رَجَبٍ عن هذه القاعدةِ بقولِه: مَن أَتَى بسببٍ يُفِيدُ المِلْكَ أو الحِلَّ، أو يُسْقِطُ الواجباتِ على وجهٍ مُحَرَّمٍ، أُلْغِيَ ذلك السببُ، وصارَ وجودُه كعدَمِه ولم يَتَرَتَّبْ عليه أحكامُه.
مكانةُ هذه القاعدةِ: هذه القاعدةُ من بابِ السياسةِ الشَّرْعِيَّةِ في سدِّ الذرائعِ، كما في حِرمانِ الوارثِ مِن الميراثِ إذا قَتَلَ مُوَرِّثَه، ولو كانَ قَتَلَه خَطَأً.
القاعدةُ الخامسةَ عَشْرَةَ: ما ثَبَتَ بالشرعِ مُقَدَّمٌ على ما ثَبَتَ بالشرطِ:
دليلُ هذه القاعدةِ وأصلُها: قولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ)). متَّفَقٌ عليه.
والمرادُ بكتابِ اللَّهِ: أحكامُ اللَّهِ تعالى، فكلُّ ما تَضَمَّنَ مخالفةً لأُسُسِ الشَّريعةِ التي قَرَّرَها القرآنُ والسنَّةُ، فالتعاقدُ على ذلك أو اشْتِرَاطُه باطلٌ، فكتابُ اللَّهِ هنا ليسَ معناه القرآنَ، بل ما كَتَبَه اللَّهُ وأَوْجَبَه في شريعتِه التي شَرَعَها.
فهذه القاعدةُ تُفِيدُ أنَّ الشرطَ إذَا ثَبَتَتْ منافاتُه لمُقْتَضَيَاتِ الشرعِ، بحيثُ تَتَعَطَّلُ الغايةُ الشَّرْعِيَّةُ مِن العقدِ– إنْ كانَ في العقودِ– فعِندَئِذٍ يَبْطُلُ العقدُ إذا كانَ الشرطُ يُعَطِّلُ ركناً من أركانِ العقدِ، أو يُعارِضُ مقصودَ العقدِ الأصليَّ.
وإذا كانَ الشرطُ لا يُعَطِّلُ ركناً مِن أركانِ العقدِ، فإنَّ الذي يَبْطُلُ هو الشرطُ وحدَه، ويَبْقَى العقدُ صحيحاً؛ لأنَّ ما ثَبَتَ بالشرعِ مُقَدَّمٌ على ما ثَبَتَ بالشرطِ.
القاعدةُ السادسةَ عَشْرَةَ: إذا عادَ التحريمُ إلى نفسِ العبادةِ أَفْسَدَها، وإنْ عادَ إلى أمرٍ خارجٍ عنها لم تَفْسُدْ:
الشرحُ: هذا الضابطُ في العباداتِ يُبَيِّنُ ما يُفْسِدُها وما لا يُفْسِدُها مِمَّا وَرَدَ النهيُ عنه:
فإنْ كانَ النهيُ عائداً إلى ذاتِ العبادةِ، كالنهيِ عن الوضوءِ بماءٍ محرَّمٍ، أو الصلاةِ في ثوبٍ محرَّمٍ، فإنَّ الصلاةَ لا تَصِحُّ؛ فإنَّ الطهارةَ والسُّتْرَةَ من شروطِ الصلاةِ.
أمَّا إذا كانَ التحريمُ في أمرٍ خارجٍ عنها، كالوضوءِ في إناءٍ محرَّمٍ، والصلاةِ بعمامةٍ محرَّمَةٍ -صَحَّتِ الصلاةُ، وإنْ كانَ الفعلُ في ذاتِه مُحَرَّماً.
ومثلُ الصلاةِ الصيامُ، فإنْ تَنَاوَلَ شيئاً من المُفْطِرَاتِ فصَوْمُه فاسدٌ، وإنِ اغْتَابَ أو نَمَّ أو شَتَمَ صَحَّ صَوْمُه وإنْ كانَ الفعلُ في ذاتِه محرَّماً.
القاعدةُ السابعةَ عَشْرَةَ: الأصلُ براءةُ الذمَّةِ:
المعنى: الذمَّةُ وَصْفٌ شَرْعِيٌّ يُعَبِّرُ به الإنسانُ أصلاً لمَا له وما عليه من الحقوقِ، والأصلُ: هو عدمُ انْشِغالِ ذمةِ الإنسانِ بحقِّ الآخَرِ مِن الحقوقِ المدنيَّةِ والحقوقِ الجزائيَّةِ، فالمُتَّهَمُ برِيءٌ حتى تَثْبُتَ إدانتُه، ومعَ الشكِّ يُرَجَّحُ جانِبُ البراءةِ، ولو حَصَلَ خطأٌ فإنَّ الخطأَ في البراءةِ خيرٌ مِن الخطأِ في إدانةِ بَرِيءٍ.
وهذه القاعدةُ داخلةٌ تحتَ القاعدةِ الكبرى: اليقينُ لا يزولُ بالشكِّ؛ فإنَّ الأصلَ بقاءُ ما كانَ على ما كانَ حتى يَثْبُتَ خلافُه.
القاعدةُ الثامنةَ عَشْرَةَ: الأصلُ بقاءُ ما كانَ على ما كانَ:
الشرْحُ: هذا أصلٌ كبيرٌ يُفِيدُ، أن اليقينَ لا يَزُولُ بالشكِّ، فمَن تَيَقَّنَ حالةً مِن الحالاتِ، أو أمراً مِن الأمورِ، فإنه لا يُزِيلُه إلاَّ بيقينٍ مِثْلِه، وإلاَّ فالأصلُ بقاؤُه، وفروعُ الأصلِ كثيرةٌ جدًّا.
ومِن أمثلتِه: أنَّ مَن تَيَقَّنَ الطهارةَ وشَكَّ في الحَدَثِ، فالأصلُ الطهارةُ، والعكسُ بالعكسِ، فمَن تَيَقَّنَ الحدَثَ وشَكَّ في الطهارةِ، فالأصلُ الحدَثُ، وهكذا في جزئيَّاتِ المسائلِ.
وهو مُسْتَمَدٌّ من نصوصٍ كثيرةٍ؛ منها الحديثُ الصحيحُ: أنه شُكِيَ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يَجِدُهُ الرجلُ وهو في الصلاةِ، فقالَ عليه الصلاةُ والسلامُ: ((لاَ يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتاً أَوْ يَجِدَ رِيحاً)). متَّفَقٌ عليه، فمَن تَيَقَّنَ أمراً مِن الأمورِ، اسْتَصْحَبَه حتَّى يَتَيَقَّنَ زَوَالَه.
وهذه القاعدةُ جزءٌ مِن القاعدةِ السابقةِ: اليقينُ لا يَزُولُ بالشكِّ.
القاعدةُ التاسعةَ عَشْرَةَ: ((الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ)).
هذه القاعدةُ نصُّ حديثٍ شريفٍ، الجملةُ الثانيةُ منه في الصحيحيْنِ، وهي: ((الْيَمِينُ عَلَى الْمُنْكِرِ))، وأما الجملةُ الأولى، فهي من روايةِ البَيْهَقِيِّ.
المعنى: البيِّنَةُ عندَ بعضِ الفقهاءِ هي الشَّهادةُ، ولكنها عندَ المحقِّقِينَ منهم هي: كلُّ ما أبانَ الحقَّ وأَظْهَرَه.
المُدَّعِي: مَن إذا تَرَكَ دَعْوَاه تُرِكَ.
المُدَّعَى عليه: هو مَن إذَا تَرَكَ طَلَبَ دَعْوَاه طُلِبَ وأُحْضِرَ.
وهذه القاعدةُ النبويَّةُ يُؤَيِّدُها العقلُ؛ لأنَّ الأصلَ براءةُ الذمَّةِ، فمَنِ ادَّعَى شيئاً وأَنْكَرَه المُدَّعَى عليه فعلى المُدَّعِي إثباتُه بطريقةٍ أو أكثرَ من طرقِ الإثباتِ، وإنْ عَجَزَ فليسَ له إلاَّ يمينُ المُدَّعَى عليه.
وقدْ أَجْمَعَ أهلُ العلمِ على هذا الأصلِ العظيمِ، واعْتَبَرُوه قاعدةً يُرْجَعُ إليها في فضِّ المنازعاتِ، حتى قالَ بعضُ العلماءِ: إنَّ هذه القاعدةَ هي المرادةُ من قولِه تعالى: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20] واللَّهُ أَعْلَمُ.
القاعدةُ العشرونَ: إذا قَوِيَتِ القرينةُ قُدِّمَتْ على الأصلِ:
الشرحُ: الاعتبارُ الشرعيُّ هو تقديمُ الأصلِ ونفيُ ما عَدَاه، لكن قد تَقْوَى القرينةُ على الأصلِ، وحينَئذٍ تُقَدَّمُ عليه.
فإذَا ادَّعَتِ الزوجةُ التي في بَيْتِ زَوْجِها أنه لم يُنْفِقْ عليها لم تُقْبَلْ دَعْوَاها؛ لأنَّ القرينةَ المبنيَّةَ على العادةِ تُكَذِّبُها.
وإذا تَنازَعَ الزوجانِ في أثاثِ بيتِهما فالأصلُ أنهما شُرَكَاءُ فيه، ولكن قرينةُ أنَّ كلَّ واحدٍ مِنهما له ما يُناسِبُه مِن الأثاثِ قَوِيَتْ على هذا الأصلِ، فصارَ ما يَصْلُحُ للزوجِ فهو له، وما يَصْلُحُ للزوجةِ فهو لها.
ويأتي هنا تقديمُ غَلَبَةِ الظنِّ لِمَا يَشُقُّ الوصولُ إلى يقينِه، واكْتَفَى العلماءُ بغلبةِ الظنِّ بأشياءَ؛ منها: الظنُّ في الصلاةِ والطوافِ والسعيِ وغيرِها على الراجِحِ من أقوالِ العلماءِ.
القاعدةُ الحاديةُ والعشرونَ: ((الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ صُلْحاً أَحَلَّ حَرَاماً أَوْ حَرَّمَ حَلاَلاً، وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلاَّ شَرْطاً أَحَلَّ حَرَاماً أَوْ حَرَّمَ حَلاَلاً)):
الشرحُ: هذانِ الأصلانِ هما لفظُ حديثيْن صَحَّحَهما كثيرٌ مِن أئمَّةِ الحديثِ، وتَلَقَّتْهُما الأمَّةُ بالرضا والقَبولِ؛ لِمَا عليهما من أنوارِ كلامِ النبوَّةِ في الجمْعِ والاختصارِ والبيانِ.
فالأولُ: يَدُلُّ على أنَّ أيَّ صُلْحٍ يَقَعُ بينَ المسلمينَ في الدماءِ والأموالِ وأحكامِ النِّكاحِ وغيرِ ذلكَ، فإنه جائزٌ نافذٌ بينَ المتصالحينَ، إلاَّ أنْ يكونَ الصلحُ أَحَلَّ شيئاً مِمَّا حَرَّمَه اللَّهُ، أو حَرَّمَ شيئاً مِمَّا أَحَلَّه اللَّهُ، فحِينَئِذٍ يكونُ الصلحُ غيرَ جائزٍ ولا نافذٍ؛ لأنَّه جاءَ على غيرِ مُرادِ اللَّهِ تعالى.
وأمثلةُ الصلحِ الجائزِ والصلحِ المحظورِ كثيرةٌ.
الأصلُ الثاني: أنَّ كلَّ شَرْطٍ اشْتَرَطَه أحدُ المتعاقدَيْن فهو لازِمٌ مُلْزِمٌ لمَن شُرِطَ عليه، سواءٌ كانَ في عقودِ الأنكحةِ أو في عقودِ المعاملاتِ أو المعاهداتِ أو غيرِها، فهي صحيحةٌ لازمةٌ، ما لم تَكُنِ الشروطُ أَحَلَّتْ حراماً، أو حَرَّمَتْ حلالاً، فحينَئذٍ تكونُ باطلةً، وإنْ كانَتْ مائةَ شرطٍ، فشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ، وأمثلةُ الشروطِ الجائزةِ والممنوعةِ كثيرةٌ.
والدليلُ على صحَّةِ تلكَ الشروطِ: أَمْرُ اللَّهِ تعالى بالوفاءِ، وتحريمُ الإخلالِ بها؛ قالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وأمثالُها من النصوصِ.
القاعدةُ الثانيةُ والعشرونَ: الأصلُ في العباداتِ الحَظْرُ، فلا يُشْرَعُ منها إلاَّ ما شَرَعَه اللَّهُ ورسولُه:
المعنى: أن العباداتِ تَوْقِيفِيَّةٌ، فمَن أَتَى بعبادةٍ لم يَدُلَّ عليها كتابُ اللَّهِ ولا سنَّةُ رسولِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهي بدعةٌ مردودةٌ.
والبدعةُ نوعانِ:
أحدُهما: بدعةٌ حقيقيَّةٌ، وهي التي لا يُوجَدُ لها أصلٌ في كتابِ اللَّهِ ولا سنَّةِ رسولِ اللَّهِ، كصلاةٍ بركوعيْنِ وسجودٍ واحدٍ.
الثاني: إضافيَّةٌ، وهي الغالبُ في البِدَعِ، وذلك بأنْ يكونَ للعملِ شائبتانِ:
إحداهما: له تَعَلُّقٌ بالشرعِ، كأصلِ الصلاةِ والذِّكْرِ.
الثانيةُ: أنْ لا يكونَ له تعلُّقٌ بالشرعِ، وذلك بأنْ تُوقَعَ على هيئةٍ أو كيفيَّةٍ لم يَقُمْ عليها دليلٌ، وذلك مثلُ صلاةِ الرغائبِ أو الأذانِ لصلاةِ العيدِ.
وكلٌّ من النوعيْن مردودٌ، ومن أدلَّةِ ردِّها قولُه تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21].
وما جاءَ في الصحيحيْنِ من حديثِ عائشةَ، أن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)) أي: مردودٌ على صاحبِه.
القاعدةُ الثالثةُ والعشرونَ: الأصلُ في العاداتِ الإباحةُ، فلا يُمْنَعُ منها إلاَّ ما حَرَّمَ اللَّهُ ورسولُه.
العاداتُ هي استعمالُ ما خَلَقَه اللَّهُ لعبادِه مِن المآكلِ والمشاربِ والمراكبِ والمساكنِ والصنائعِ والحِرَفِ والمُخْتَرَعَاتِ والمعاملاتِ، كلُّها مباحةٌ جائزةٌ إلاَّ ما حَرَّمَه اللَّهُ ورسولُه من الأشياءِ التي يَرْجِعُ ضررُ استعمالِها إلى الأديانِ أو الأبدانِ أو الأعراضِ أو الأنسابِ أو الأموالِ.
وهذا أصلٌ عظيمٌ يَدُلُّ على ما في الإسلامِ من سماحةٍ وسَعَةٍ وحركةٍ، فالأصلُ في العقودِ والمعاملاتِ والمقاولاتِ والاتفاقيَّاتِ وغيرِها، الأصلُ فيها الحِلُّ ما لم تَشْتَمِلْ على مفسدةٍ، ومفاسدُ العقودِ تَرْجِعُ – غالباً – إلى ثلاثةِ أمورٍ:
1 - الرِّبا. 2 - الغَرَرُ. 3 - الخِدَاعُ.
وأدلَّةُ هذا الأصلِ كثيرةٌ؛ منها قولُه تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة: 29]، وقولُه تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32].
القاعدةُ الرابعةُ والعشرونَ: الشارِعُ لا يَأْمُرُ إلا بما مصلحتُه خالصةٌ أو راجِحَةٌ، ولا يَنْهَى إلا عمَّا مَفْسَدَتُه خالصةٌ أو راجِحَةٌ:
الشرحُ: هذه القاعدةُ تَشْمَلُ أصولَ الشريعةِ وفُرُوعَها، وحقَّ اللَّهِ وحقَّ خلقِه، فما أَمَرَتْ به من المصالحةِ الأصوليَّةِ إلا وفيه مصلحةٌ؛ كالإيمانِ والإسلامِ والإحسانِ وحسنِ القَصْدِ إلى اللَّهِ بالتوكُّلِ والمحبَّةِ والخَشيةِ وغيرِها، وكذلك ما أَمَرَتْ به من الفروعِ؛ كالصلاةِ والزكاةِ والصيامِ والحَجِّ والجهادِ والأمرِ بالمعروفِ وغيرِها من العباداتِ.
ومثلُه ما أَمَرَتْ به من الأخلاقِ الحسنَةِ؛ من العدلِ والصدقِ والبِرِّ والصلَةِ والعَفافِ ونحوِها من الأخلاقِ الفاضلةِ، كما أنَّها نَهَتْ عمَّا يَضُرُّ في الدينِ والعقلِ والعِرضِ والنفسِ والمالِ؛ من الكفرِ والشركِ والقتلِ عُدواناً والزِّنَى والرِّبا والخمرِ.
ثم قدْ يَعْرِضُ أمرٌ فيه مصلحةٌ وفيه مضرَّةٌ، وهنا يأتي بابُ الترجيحِ؛ فما زادَتْ مصلحتُه على مفسدتِه فُعِلَ، وما زادَتْ مفسدتُه على مصلحتِه اجْتُنِبَ.
والنصوصُ لِمَا تَقَدَّمَ كثيرةٌ في الكتابِ والسنَّةِ، ومنها قولُه تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء: 23] الآياتِ.
وقولُه تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلى قولِه: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 151 - 153].
فهذه الآياتُ الكريماتُ من سورةِ الإسراءِ ومن سورةِ الأنعامِ وغيرُها من الآياتِ جَمَعَتِ الأمرَ بكلِّ خيرٍ، والنهيَ عن كلِّ شرٍّ، وقد قالَ بعضُ المُصلِحينَ: إن الإسلامَ مبنِيٌّ على تحقيقِ المصالحِ ودَرْءِ المفاسدِ، وهو هذه القاعدةُ.
القاعدةُ الخامسةُ والعشرونَ: إذا تَزَاحَمَتِ المصالحُ قُدِّمَ أعلاها، وإذا تَزَاحَمَتِ المفاسدُ قُدِّمَ أَخَفُّها.
الشرحُ: هذانِ الأصلانِ الكبيرانِ من محاسنِ الشريعةِ الإسلاميَّةِ، ومِن سُمُوِّها في أحكامِها.
الأصلُ الأوَّلُ: إذا تَزَاحَمَتِ المصالحُ، وصارَ لا بُدَّ من فعلِ إحداها قُدِّمَ الأعلى منها على الأدنَى؛ جلباً للخيرِ مهما أَمْكَنَ
ففي العباداتِ: تُقَدَّمُ الواجباتُ على المستحبَّاتِ، وفي الامتثالِ: تُقَدَّمُ طاعةُ اللَّهِ على كلِّ أحدٍ، ثمَّ طاعةُ الوالدين في المعروفِ على مَن سِوَاهُما، وهكذا الأقربُ فالأقربُ في البرِّ والإحسانِ.
والعاداتُ يُقَدَّمُ منها الأنفعُ على غيرِه، فتُقَدَّمُ الأعمالُ المُتَعَدِّي نفعُها إلى الخلْقِ على القاصرِ نَفْعُها.
كلُّ هذا ليَغْتَنِمَ المسلمُ ما هو أجَلُّ وأفضلُ وأعلى، إذا لم يُمْكِنْه الإتيانُ بالأمريْن كليهما؛ الفاضلِ والمفضولِ، قالَ تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزُّمَر: 18].
الأصلُ الثاني: إذا تَزَاحَمَتِ المفاسدُ وصارَ لا بُدَّ مِن ارْتكابِ إحداها قُدِّمَ الأخفُّ على الأغلَظِ؛ اتِّقاءً للشرِّ مهما أَمْكَنَ الأمرُ.
ولهذين الأصليْن أمثلةٌ كثيرةٌ، فمِن تقديمِ أخفِّ المفسدتيْن على أشدِّهما: خَرْقُ الخَضِرِ للسفينةِ خَشْيَةً مِن ذَهابِها كلِّها، وكقتلِه الغلامَ خشيةً من كفرِ أبَوَيْهِ بسببِ بقائِه.
القاعدةُ السادسةُ والعشرونَ: الضروراتُ تُبِيحُ المحظوراتِ.
الشرحُ: الضرورةُ هي العذرُ الذي يَجُوزُ بسببِه إجراءُ الشيءِ الممنوعِ وارتكابُ المحظورةِ؛ كأكلِ الميْتةِ عندَ الضرورةِ، وإجراءِ كلمةِ الكفرِ عندَ الإكراهِ الشديدِ.
ويَجِبُ أنْ يُلاحَظَ أنَّ ما أُبِيحَ للضرورةِ يُقَدَّرُ بقدرِها، فمَنِ اضْطُرَّ إلى أكلِ الميتةِ لا يَأْكُلُ منها إلا بقَدْرِ ما يُمْسِكُ عليه حياتَه ولا يَشْبَعُ منها.
القاعدةُ السابعةُ والعشرونَ: دَرْءُ المفاسدِ أولَى من جلْبِ المنافعِ.
الشرحُ: القصدُ من تشريعِ الأحكامِ دَفْعُ المفاسدِ عن الناسِ، وجلْبُ المصالحِ لهم، والمصالحُ المَحْضَةُ أو المفاسدُ المحضةُ قليلةٌ، ولكن إذا تعارَضَتْ مفسدةٌ ومصلحةٌ فإنَّ دفعَ المفسدةِ يُقَدَّمُ على جلْبِ المصلحةِ؛ بِناءً على أن الشريعةَ عُنِيَتْ بالمنهيَّاتِ أكثرَ مِن عنايتِها بالمأموراتِ.
القاعدةُ الثامنةُ والعشرونَ: الحكمُ يَدُورُ معَ عِلَّتِه؛ وُجُوداًَ وعَدَماً:
الشرحُ: هذه قاعدةٌ جليلةٌ؛ لأنَّ أحكامَ اللَّهِ تعالى تَدُورُ على حِكَمٍ ساميةٍ وأسرارٍ عاليةٍ، تُحَقِّقُ المصالحَ وتَدْرَأُ المفاسدَ، فمتى وُجِدَتْ هذه الأسرارُ والحِكَمُ الربانيَّةُ وُجِدَتْ أحكامٌ تُناسِبُها، ويَدُورُ الحُكْمُ حيثُ تَدُورُ العلةُ؛ إثباتاً أو نفياً.
والحكمةُ التشريعيَّةُ قد يَنُصُّ عليها الشارعُ الحكيمُ، وقد يَسْتَنْبِطُها العلماءُ، وقد يكونُ للحُكمِ الشرعيِّ عِدَّةُ أسرارٍ وحِكَمٍ، ويَثْبُتُ الحكمُ بوجودِ واحدةٍ.
وقليلٌ مِن الأحكامِ لا يَفْهَمُ العلماءُ لها حِكْمَةً بيِّنَةً، فيُسَمُّونَها الأحكامَ التعبديَّةَ، وأحكامُ اللَّهِ تعالى تَتَمَثَّلُ واضحةً في قَوْلِهِ تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157] وقولِه تعالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157].
فكلُّ ما أَمَرَ به: فهو معروفٌ شرعاً وعقلاً، وكلُّ ما نَهَى عنه: فهو منكرٌ شرعاًَ وعقلاً، وكلُّ ما أباحَه: فهو طيِّبٌ، وكلُّ ما حَرَّمَه: فهو خبيثٌ.
وهذه الأسرارُ والحِكَمُ دائرةٌ في أحكامِ الشريعةِ كلِّها؛ أصولِها وفروعِها، عباداتِها ومعاملاتِها.
فنَسْأَلُ اللَّهَ تعالى أنْ يُبَصِّرَ المسلمينَ بأمرِ دينِهم؛ لِيَرَوا جَمَالَه وحُسْنَه وموافقتَه للعقولِ الصحيحةِ والفِطَرِ السليمةِ، واللَّهُ المُوَفِّقُ.
القاعدةُ التاسعةُ والعشرونَ: العِبْرَةُ في العقودِ بالمقاصدِ والمعاني، لا الألفاظِ والمباني.
الشرحُ: القصدُ في العقدِ: هو ما قَصَدَه فاعلُه منه، فلا تَتَرَتَّبُ الأحكامُ على مجرَّدِ الألفاظِ، وإنما تَتَرَتَّبُ على المقاصدِ والمعاني التي يَقْصِدُها العاقدانِ مِن الألفاظِ المستعملَةِ في صيغةِ العقدِ؛ لأنَّ القصدَ الحقيقيَّ من الكلامِ هو المعنَى، وإنما اعْتُبِرَ اللفظُ دالاًّ عليه، فإذا أَظْهَرَ القصدَ كانَ الاعتبارُ له ويُقَيَّدُ اللفظُ به، وتَرَتَّبَ الحكمُ بِناءً عليه.
فالهِبَةُ بشرطِ العِوَضِ بيعٌ، وإنْ كانَتْ بغيرِ لفظِه، وهكذا.
القاعدةُ الثلاثونَ: الحدودُ تُدْرَأُ بالشُّبُهَاتِ:
لِمَا رُوِيَ عن عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مرفوعاً: ((ادْرَؤُوا الحُدُودَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)).
قالَ في فتحِ القديرِ للحنفيَّةِ: أَجْمَعَ فقهاءُ الأمصارِ على أنَّ الحدودَ تُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ.
قالَ ابنُ نُجَيْمٍ: القِصَاصُ كالحدودِ في الدفعِ بالشبهةِ، فلا يَثْبُتُ إلا بما تَثْبُتُ به الحدودُ.
قالَ العلماءُ: مِن شَرْطِ الشبْهةِ المُسقِطَةِ للحدِّ: أنْ تكونَ قويَّةً، وإلاَّ فلا أثَرَ لها، وقالوا: الشبهةُ لا تُسْقِطُ التعزيرَ.
قالَ ابنُ نُجَيْمٍ: ويُخَالِفُ القِصَاصُ الحدودَ في سبْعِ مسائلَ، مِنها:
1- الحدُّ لا يُورَثُ والقِصاصُ يُورَثُ.
2- يَصِحُّ العفوُ في القِصاصِ ولا يَصِحُّ في الحدِّ إلاَّ حدَّ القاذِفِ.
3- تَصِحُّ الشفاعةُ في القِصاصِ دونَ الحدِّ.
4- يَتَوَقَّفُ القِصاصُ على الدعوَى، بخلافِ الحدِّ، إلاَّ حدَّ القَذْفِ.
القاعدةُ الحاديةُ والثلاثونَ: الوجوبُ يَتَعَلَّقُ بالاستطاعةِ، فلا واجِبَ معَ العجزِ ولا مُحَرَّمَ معَ الضرورةِ.
الشرحُ: كلُّ مَن عَجَزَ عن شيءٍ من الواجباتِ، فإنها ساقطةٌ عنه غيرُ واجبةٍ عليه:
كأركانِ الصلاةِ وشروطِها وواجباتِها، فيُصَلِّي المريضُ حسَبَ قُدْرَتِه.
وكسقوطِ الصومِ عمَّن عَجَزَ عنه لكِبَرٍ أو مرضٍ لا يُرْجَى شفاؤُه.
وكسقوطِ الجهادِ عن الأعمى والأعرجِ ونحوِهما.
وكدَرَجاتِ النهيِ عن المنكَرِ.
وهذه القاعدةُ الجليلةُ مأخوذةٌ مِن مثلِ قولِه تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. وحديثِ: ((إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ)).
ونصوصُ أدلَّتِها كثيرةٌ.
أما الجزءُ الثاني من القاعدةِ: فإنَّ الممنوعَ شرعاً يُباحُ عندَ الضرورةِ؛ فقد قالَ تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119].
وهذه قاعدةٌ أصوليَّةٌ فِقْهِيَّةٌ.
القاعدةُ الثانيةُ والثلاثونَ: الشريعةُ مَبْنِيَّةٌ على أصليْنِ: الإخلاصِ للهِ، والمتابعةِ للرسولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الشرحُ: هذان الأصلانِ شرطانِ لكلِّ عملٍ دينِيٍّ ظاهرٍ أو باطنٍ، فأقوالُ اللسانِ وأعمالُ الجوارحِ وأعمالُ القلوبِ مَنُوطٌ صلاحُها وقَبُولُها بتحقيقِ هذيْن الأصليْن كليهِما، فإنْ فُقِدَا أو فُقِدَ أحدُهما في العبادةِ فهي مردودةٌ.
ومن أدلَّةِ هذه القاعدةِ قولُه تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البيِّنَة: 5]، وقولُه تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]،
وقولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))،
وقولُه عليه الصلاةُ والسلامُ: ((مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهُوَ رَدٌّ))، وغَيْرُ ذلكَ من النصوصِ، فأعمالُ المُرَائِينَ وأعمالُ المُبْتَدِعِينَ باطلةٌ.
وهذه القاعدةُ كما أنها تَشْمَلُ جَميعَ العباداتِ فإنها أيضاً تَشْمَلُ المعاملاتِ، فأيُّ عقدٍ أو شرطٍ ليسَ على وَفْقِ الشرعِ فإنه محرَّمٌ باطلٌ.
فائدةٌ: قالَ الشيخُ مصطفى الزرقا:
لا تَنْحَصِرُ العقودُ في المعاملاتِ المعروفةِ في صدرِ الإسلامِ؛ من بيعٍ وإجارةٍ وهِبَةٍ ورَهْنٍ وشَرِكَةٍ وصُلْحٍ وقِسْمَةٍ وإعارةٍ وإيداعٍ، وسائرِ العقودِ الأخرَى، فيُباحُ للناسِ إيجادُ أنواعٍ أُخَرَ من العقودِ غيرِ داخلةٍ في أحدِ الأنواعِ السابقةِ، فيُمْكِنُهُم أنْ يَتَعارَفُوا على أنواعٍ جديدةٍ إذا دَعَتْهُمْ حاجتُهم إلى نوعٍ جديدٍ متى تَوَفَّرَتِ الأركانُ العامَّةُ التي تُعْتَبَرُ من النظامِ العامِّ في الإسلامِ، بحيثُ لا يُخَالِفُ العقدُ قواعدَ الشريعةِ التي عَبَّرَ عنها النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقولِه: ((كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ)).
واللَّهُ أَعْلَمُ.
وفي صباحِ يومِ الأربِعاءِ المُوَافِقِ 26 من شهرِ ربيعٍ الأولِ عامَ ألفٍ وأربعِمائةٍ وعشرةٍ تَمَّتْ هذه المقدِّمَةُ الثالثةُ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا مُحَمَّدٍ وعلى آلِهِ وصَحْبِه أجمعينَ.


الأصلُ الرابعُ
في المقاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ للهِ الذي شَرَعَ لعبادِه من الأحكامِ ما فيه السَّدَادُ، وجَنَّبَهم طُرُقَ الغَيِّ والفسادِ، والصلاةُ والسلامُ على مَن أُرْسِلَ رَحْمَةً للعبادِ، وعلى آلِهِ وأصحابِه ذَوِي البصائرِ والرَّشادِ.
أمَّا بعدُ:
فإنَّ التفقُّهَ بمقاصدِ الشريعةِ، ومعرفةَ حِكَمِ اللَّهِ في أحكامِه، ومَعْرِفَةَ أسرارِه في أوامرِه ونواهِيهِ: مِن أنفعِ العلومِ وأجلِّها؛ ذلك أنَّ الأحكامَ الشَّرْعِيَّةَ في أصولِها وفُرُوعِها مُعَلَّلَةٌ برعايةِ مصالحِ العبادِ في عاجلِهم وآجلِهم.
فمعرفةُ أسرارِ اللَّهِ تعالى في أحكامِه والتبَصُّرُ فيها هو كَشْفٌ عن كُنوزٍ ثَمينةٍ تَزِيدُ المؤمنَ إيماناً بربِّه ورغبةً في القيامِ بشرعِه، بامتثالِ أوامرِه واجتنابِ نواهِيهِ، وتُخَفِّفُ عليه مشقَّةَ العبادةِ وتُعِينُه على اجتنابِ المعصيةِ وتُقَوِّي ثِقَتَه بربِّه جَلَّ وعَلاَ، حينَما يَتَفَقَّهُ بشرعِه ويَحْصُلُ له المعرفةُ واليقينُ أنه تعالى لم يَأْمُرْ إلا بما يُصْلِحُ خلقَه، ولا يَنْهَى إلاَّ عمَّا يَضُرُّهُم في حياتِهم الأولى والآخرةِ.
لذا فإني بعدَ أنْ قَرَأْتُ الكتابَ القَيِّمَ (الموافقاتُ) للإمامِ الشاطبيِّ، ذلكَ الكتابَ الذي هو ومؤلِّفُه غَنِيَّانِ عن الإشادةِ والتعريفِ، لمَّا قَرَأْتُ غالبَ فصولِه اسْتَخَرْتُ اللَّهَ تعالى أنْ أُلَخِّصَ منه نُبْذَةً في المقاصدِ الشَّرْعِيَّةِ، وأَجْعَلَها مُقَدِّمَةً لشرحِي على (بلوغُ المرامِ)؛ لتكونَ رابعةً للمقدِّماتِ الثلاثِ التي هي أصولُ العلومِ الشَّرْعِيَّةِ، فهو أصلٌ كبيرٌ وعلمٌ جليلٌ، جاءَتِ الإشارةُ إليه والدَّلالةُ عليه مِن الكتابِ والسنَّةِ بنصوصٍ أكثرَ مِن أنْ تُحْصَى:
مِنها قولُه تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [إبراهيم: 1]، وقولُه تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وقولُه: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6]، وقولُه تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 179]، وقولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا؛ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الآخِرَةَ)). وأشباهُ ذلك.
ولعلَّ أوَّلَ مَن أَلَّفَ فيه: الغزاليُّ بكتابِه (شفاءُ الغليلِ في مسالِكِ التعليلِ)، والعِزُّ بنُ عبدِ السلامِ في كتابِه (قواعدُ الأحكامِ)، ولابنِ القَيِّمِ في كتابِه القَيِّمِ (أعلامُ المُوَقِّعِينَ) فصولٌ جيِّدَةٌ في هذا البابِ، بَيَّنَ فيها حِكَمَ اللَّهِ وأسرارَه في كثيرٍ من الأحكامِ، لاسِيَّما في المسائلِ التي قالَ المعارِضونَ: إنها جاءَتْ على خلافِ القياسِ.
وأما أبو إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيُّ: فقدْ أجادَ فيه وأعطاه حقَّه من التحقيقِ والتدقيقِ في كتابِه الجليلِ (المُوافَقَاتُ)؛ مِمَّا دَفَعَنِي إلى أنْ أُلَخِّصَ منه جملةً كافيةً لطالبِ العلمِ، وفِقَراً مفيدةً تُدَرِّبُه على التوسُّعِ في هذا العلمِ العظيمِ. واللَّهُ المُوَفِّقُ.
المقاصِدُ
إنَّ وَضْعَ الشرائعِ إنما هو لمصالحِ العبادِ في العاجلِ والآجلِ معاً، وهذا ما يَدُلُّ عليه مثلُ قولِه تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، وقولِه تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا}، وقولِه تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}. فدَلَّ الاسْتِقْرَاءُ من الشريعةِ أنها وُضِعَتْ لمصالحِ العبادِ.


المقاصِدُ قِسمانِ:
أحدُهما: يَرْجِعُ إلى قصدِ الشارعِ مِن وضعِه الشريعةَ.
الثاني: يَرْجِعُ إلى قصدِ المكلَّف مِن أفعالِه.
القسمُ الأوَّلُ
فيما يَرْجِعُ إلى قصدِ الشارِعِ من وضعِ الشريعةِ
وهو أنواعٌ:
النوعُ الأولُ: في بيانِ قصدِ الشارعِ في وضعِ الشريعةِ، وفيه مسائلُ:
المسألةُ الأولى: تكاليفُ الشريعةِ تَرْجِعُ إلى حفظِ مقاصدِها في الخَلْقِ:
وهذه المقاصدُ لا تَعْدُو ثلاثةَ أقسامٍ:
الأولُ: مقاصدُ ضَرُورِيَّةٌ.
الثاني: حاجِيَّةٌ.
الثالثُ: تحسينيَّةٌ.
فأمَّا الضرورياتُ فإنه لا بُدَّ منها في قيامِ مصالحِ الدينِ والدنيا، بحيثُ إذا فُقِدَتْ لم تَجْرِ مصالحُ الدنيا على استقامةٍ، بل على فسادٍ، وفي الآخرةِ تُؤَدِّي إلى فَوَاتِ النجاةِ والنعيمِ، وحُصُولِ الخُسرانِ المبينِ.
والحفظُ لها يكونُ بالقيامِ بأركانِها، وتَثْبِيتِ قواعدِها، كما يكونُ بما يَدْرَأُ عنها الاختلالَ الواقعَ أو المتوقَّعَ فيها:
فأصولُ العباداتِ: راجعةٌ إلى حفظِ الدِّينِ.
والعاداتُ: راجعةٌ إلى حِفْظِ النفسِ والعقلِ.
والمعاملاتُ: راجعةٌ إلى حِفْظِ النسلِ والمالِ.
ومجموعُ الضروراتِ خمسةٌ: هي حِفْظُ الدِّينِ، والنفسِ، والنسلِ، والمالِ، والعقلِ.
وأما الحاجيَّاتُ: فإنه يُفْتَقَرُ إليها مِن حيثُ التوْسِعَةُ، ورَفْعُ الضِّيقِ المؤدِّي غالباً إلى الحَرَجِ ولكنه لا يَبْلُغُ مبلَغَ الفسادِ، وهي جارِيَةٌ في العباداتِ والعاداتِ والمعاملاتِ والجِناياتِ:
ففي العباداتِ: كالرُّخَصِ في الطهارةِ والتيَمُّمِ والمسْحِ على الخُفِّ، وفي الصلاةِ كالقَصْرِ والجمعِ للمسافرِ، وفي الحَجِّ كالحَجِّ عن العاجِزِ.
وفي العاداتِ: كالصيدِ والتمتُّعِ بالطيِّباتِ.
وفي المعاملاتِ: كالقرضِ والعارِيَّةِ.
وفي الجِناياتِ: كالحُكْمِ باللَّوْثِ، ووضعِ الدِّيَةِ على العاقلةِ.
وأمَّا التحسينيَّاتُ: فهي مِن الأخذِ بما يَلِيقُ من محاسنِ العاداتِ، وتَجَنُّبِ الأحوالِ المُدَنِّساتِ، ويَجْمَعُ ذلك قِسْمُ مكارمِ الأخلاقِ:
ففي العباداتِ كإزالةِ النجاسةِ، وفي العاداتِ كأدَبِ الأكلِ، وفي المعاملاتِ كالمنعِ من بيعِ فضلِ الماءِ، وفي الجناياتِ كمنعِ قتلِ الحرِّ بالعبدِ، فهذه الأمورُ راجعةٌ إلى محاسنَ زائدةٍ على أصلِ المصالحِ الضروريَّةِ والحاجيَّةِ؛ إذ ليسَ فُقْدَانُها بمُخِلٍّ بأمرٍ ضَرُورِيٍّ ولا حاجِيٍّ، وإنما جَرَتْ مَجْرَى التحسينِ والتزيينِ.
المسألةُ الثانيةُ: المقاصدُ عامَّةٌ في جميعِ التكاليفِ والأزمانِ والأحوالِ.
وإذا ثَبَتَ أن الشارعَ قد قَصَدَ بالتشريعِ إقامةَ المصالحِ الأُخْرَوِيَّةِ والدنيويَّةِ على وجهٍ لا يُخَلُّ لها به نظامٌ، فلا بُدَّ أنْ يكونَ وَضْعُها على ذلكَ الوجهِ أبدِيًّا وكلِّيًّا وعامًّا في جميعِ أنواعِ التكليفِ وجميعِ الأحوالِ، وكذلكَ وَجَدْنَا الأمرَ فيها وللهِ الحمدُ.
المسألةُ الثالثةُ: المقاصِدُ المُعْتَبَرَةُ في الشريعةِ:
المَقْصِدُ: هو جَلْبُ المصلحةِ أو تَكْمِيلُها، ودفعُ المفسدةِ أو تقليلُها، والمصالحُ المُجْتَلَبَةُ شرعاً والمفاسدُ المُسْتَدْفَعَةُ إنما تُعْتَبَرُ من حيثُ تُقامُ الحياةُ الدنيا للحياةِ الأخرَى، لا من حيثُ الأهواءُ والنفوسُ في جلبِ مصالِحِها العاديَّةِ، أو دَرْءِ مفاسدِها العاديَّةِ؛ ذلك أن الشريعةَ إنما جاءَتْ لتُخْرِجَ الناسَ مِن دواعِي أهوائِهم حتى يكونوا عِباداً للهِ، قالَ تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71].
المسألةُ الرابعةُ: الدليلُ على اعتبارِ مقاصدِ الشريعةِ الكلِّيَّةِ:
الدليلُ على أن الشارِعَ قَصَدَ المحافظةَ على القواعدِ الثلاثةِ؛ الضروريَّةِ والحاجيَّةِ والتحسينيَّةِ، هو استقراءُ الشريعةِ، والنظرُ في أدلَّتِها الكلِّيَّةِ والجزئيَّةِ، فقد تَضافَرَ بعضُها معَ بعضٍ فصارَ من مجموعِها التواترُ المعنويُّ؛ فإنَّ العلماءَ لم يَعْتَمِدُوا في إثباتِ قصدِ الشارعِ في هذه القواعدِ على دليلٍ مخصوصٍ؛ لأنَّ في جُزْئِيَّاتِ الأدلَّةِ نوعَ ظَنٍّ عندَ بعضِ الأصوليِّينَ، وإنما أَلْفَوْا أدلَّةَ الشريعةِ كلَّها دائرةً على خطورةِ تلكَ القواعدِ، فمَن كانَ من حَمَلَةِ الشريعةِ يَسْهُلُ عليه إثباتُ مقاصِدِ الشارعِ مِن هذه القواعدِ الثلاثِ.
النوعُ الثاني: في بيانِ قصدِ الشارعِ في وضعِ الشريعةِ للتكليفِ بالمقدورِ وما لا حَرَجَ فيه، ويَحْتَوِي على مسائلَ:
المسألةُ الأولى: ثَبَتَ في الأصولِ أنَّ شرطَ التكليفِ أو سَبَبَه قُدْرَةُ المكلَّفِ عليه؛ فما لا قُدْرَةَ للمكلَّفِ عليه لا يَصِحُّ التكليفُ به شرعاً، وإنْ جازَ عقلاً.
فالأوصافُ التي طُبِعَ عليها الإنسانُ؛ كالشهوةِ إلى الطعامِ أو الشرابِ لا يُطْلَبُ رفعُها، فإنَّه مِن تكليفِ ما لا يُطاقُ.
المسألةُ الثانيةُ: لا تَكْلِيفَ بما لا يُطاقُ:
الأوصافُ التي لا قُدْرَةَ للإنسانِ على جلبِها ولا دَفْعِها على قسميْنِ:
أحدُهما: ما كانَ نتيجةَ عملٍ؛ كالعلمِ والحُبِّ.
الثاني: ما كانَ فِطْرِيًّا، ولم يَكُنْ نتيجةَ عملٍ؛ كالشجاعةِ والجُبْنِ والحِلْمِ.
فالأولُ: ظاهرٌ أنَّ الجزاءَ يَتَعَلَّقُ بها في الجملةِ، مِن حيثُ كونُها مُسَبَّباتٍ من أسبابٍ مُكْتَسَبَةٍ.
أما الثاني: وهو ما كانَ منها فِطريًّا، فيُنْظَرُ فيه مِن جهتيْنِ:
إحداهما: أنها محبوبةٌ للشارعِ أو غيرُ محبوبةٍ له.
الثانيةُ: من وقوعِ الثوابِ عليها أو عَدَمِ وقوعِه.
فالنظرُ الأوَّلُ: ظاهرُ الدليلِ النقليِّ أنَّ الحبَّ والبُغْضَ يَتَعَلَّقُ بها.
والنظرُ الثاني: أنهما يَصِحُّ تَعَلُّقُهما بالذواتِ، وهي أبعدُ عن الأفعالِ من الصفاتِ؛ كقولِه تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}. ولا يَسُوغُ في هذا الموضِعِ أنْ يُقالَ: إن المرادَ حبُّ الأفعالِ فقطْ. فكذلك لا يُقالُ في الصفاتِ إذا تَوَجَّهَ الحبُّ إليها في الظاهِرِ: إنَّ المرادَ الأفعالُ.
وإذا ثَبَتَ هذا، فيَصِحُّ أيضاً أنْ يَتَعَلَّقَ الحبُّ والبُغْضُ بالأفعالِ؛ كقولِهِ تعالَى: {لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148]، وقولِه تعالى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} [التوبة: 46]، وقولِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَبْغَضُ الْحَلاَلِ إِلَى اللَّهِ الطَّلاقُ)).
فإذنِ الحبُّ والبُغْضُ مُطْلَقٌ في الذواتِ والصفاتِ والأفعالِ.
المسألةُ الثالثةُ: لا تَكْلِيفَ بما فيه حَرَجٌ:
الشارِعُ لم يَقْصِدْ إلى التكليفِ بالمقدورِ عليه الشاقِّ الذي خرَجَ عمَّا جَرَتْ به العاداتُ قبلَ التكليفِ، والدليلُ على ذلك أمورٌ:
أحدُها: النصوصُ؛ قالَ تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} [الأعراف: 157]، وقالَ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقالَ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ)).
الثاني: ما ثَبَتَ من مشروعيَّةِ الرُّخَصِ، كرُخَصِ القَصْرِ، والفِطْرِ، وتناولِ المحرَّماتِ في الاضْطِرارِ، فإنَّ هذا يَدُلُّ قطعاً على مطلقِ رفعِ الحرجِ والمشقَّةِ، وكذلك ما جاءَ مِن النهيِ عن التعمُّقِ والتكلُّفِ في الانقطاعِ عن دوامِ الأعمالِ، ولو كانَ الشارعُ قاصداً للمشقَّةِ في التكليفِ لَمَا كانَ ثَمَّ تَرْخِيصٌ ولا تخفيفٌ.
الثالثُ: الإجماعُ على عدمِ وقوعِه في التكاليفِ، وهو يَدُلُّ على عدمِ قصدِ الشارِعِ إليه، ولو كانَ واقعاً لحَصَلَ في الشريعةِ التناقُضُ والاختلافُ، وذلك منفيٌّ عنها.
لكن ليسَ معنى هذا نفيَ المشقَّةِ عن التكليفِ؛ فإنه لا نِزَاعَ في أنَّ الشارعَ قاصدٌ للتكليفِ بما يَلْزَمُ فيه مشقَّةٌ ما، ولكن لا تُسَمَّى في العادةِ المستمرَّةِ مشقَّةً، كما لا يُسَمَّى مشقَّةً طلبُ المعاشِ بالتحرُّفِ؛ لأنه مُمْكِنٌ معتادٌ، وأربابُ العاداتِ يَعُدُّون المنقطِعَ عنه كسلانَ.
وإلى هذا المعنى يَرْجِعُ الفرقُ بينَ المشقَّةِ التي لا تُعَدُّ مشقَّةً عادةً، والتي تُعَدُّ مشقَّةً، وهو إن كانَ العملُ يُؤَدِّي الدوامُ عليه إلى الانقطاعِ عنه، أو عن بعضِه، أو إلى وقوعِ خَلَلٍ في صاحبِه في نفسِه أو مالِه أو حالٍ مِن أحوالِه، فالمشقَّةُ هنا خارجةٌ عن المعتادِ.
وإنْ لم يَكُنْ فيها شيءٌ مِن ذلكَ في الغالبِ فلا يُعَدُّ في العادةِ مَشَقَّةً، وإنْ سُمِّيَتْ كُلْفَةً، فأحوالُ الإنسانِ كلُّها كُلْفَةٌ في هذه الدارِ.
إذا تَقَرَّرَ هذا، فإنَّ التكليفَ الشاقَّ المعتادَ على العبادِ ليسَ مقصودُ الشارعِ به المشقَّةَ على عبادِه، وإنما قَصَدَ به المصالحَ العائدةَ عليهم.
وإذا لم تَكُنِ المشقَّةُ مقصودةَ الشارعِ في الأعمالِ المعتادةِ، فأولى أنْ لا تكونَ مقصودةً منه في غيرِ المعتادةِ.
المسألةُ الرابعةُ: الحِكْمَةُ من نفيِ الحرجِ في التكليفِ:
الحَرَجُ مرفوعٌ عن المكلَّفِ لوجهيْن:
أحدُهما: الخوفُ من الانقطاعِ من الطريقِ وبُغْضِ العبادةِ.
الثاني: خوفُ التقصيرِ عندَ مُزاحمةِ الوظائفِ المتعلِّقةِ بالعبدِ المختلفةِ الأنواعِ، مثلِ قِيامِه على أهلِه ووَلَدِه إلى تكاليفَ أُخَرَ.
فالأولُ: حَفِظَ به على الخلقِ قلوبَهم، وحَبَّبَ إليهم تلك التكاليفَ، فلو عَمِلُوا على غيرِ السهولةِ لدَخَلَ عليهم فيما كُلِّفوا به ما لا تَخْلُصُ به أعمالُهم.
الثاني: أنَّ المُكَلَّفَ مطالَبٌ بأعمالٍ ووظائِفَ شَرْعِيَّةٍ لا بُدَّ له منها، فإذا أَوْغَلَ في عملٍ شاقٍّ فرُبَّمَا قَطَعَه عن غيرِه، ولا سيَّما حقوقُ الغيرِ التي تَتَعَلَّقُ به، فيكونُ بذلكَ ملوماً غيرَ معذورٍ؛ إذ المرادُ منه القيامُ بجميعِها على وجهٍ لا يُخِلُّ بواحدٍ منها، وهذا في العملِ الشاقِّ المأذونِ فيه، فأمَّا إنْ كانَ غيرَ مأذونٍ فيه فهوَ أظهرُ في المنعِ.
المسألةُ الخامسةُ: مخالفةُ ما تَهْوَى النفسُ شاقٌّ عليها، وصعبٌ خُرُوجُها منه، وكَفَى ذلك شاهداً عليه حالُ المشركينَ وأهلِ الكتابِ ممَّن صَمَّمُوا على بقاءِ ما هم عليه، حتى رَضُوا بهلاكِ نفوسِهم وأحوالِهم، ولم يَرْضَوْا بمخالفةِ الهوَى.
والشارِعُ قَصَدَ بوضعِ الشريعةِ إخراجَ المكلَّفِ من اتِّباعِ هواه؛ حتى يكونَ عبداً للهِ، وإذاً فمخالفةُ الهوى ليسَتْ من المشقَّاتِ المعتبرَةِ في التكليفِ، وإنْ كانَتْ شاقَّةً في مجارِي العاداتِ؛ إذ لو كانَتْ مُعْتَبَرَةً حتى يُشْرَعَ التخفيفُ لأجلِ ذلك، لكانَ ذلك نقضاً لمَا وُضِعَتِ الشريعةُ له، وذلك باطلٌ.
المسألةُ السادسةُ: الاعتدالُ في التكاليفِ والدعوةُ إلى امتثالِها.
الشريعةُ جارِيَةٌ في التكليفِ على الطريقِ الوسطِ، الآخِذِ من الطَّرَفَيْن بقسطٍ لا مَيلَ فيه، الداخلِ تحتَ كَسْبِ العبدِ، مِن غيرِ مشقَّةٍ عليه ولا انحلالٍ؛ كتكليفِ الصلاةِ والزكاةِ والصيامِ والحَجِّ ابتداءً مِن غيرِ سببٍ ظاهرٍ، أو لسببٍ يَرْجِعُ إلى عدمِ العلمِ؛ كقولِه تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} [البقرة: 219]، وقولِه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219] وأشباهِ ذلكَ.
فإنْ كانَ التشريعُ لأجلِ انحرافِ المكلَّفِ إلى أحدِ الطرفيْن كانَ التشريعُ رادًّا إلى الوسطِ، لكن على وجهٍ يَمِيلُ فيه إلى الجانبِ الآخَرِ؛ لِيَحْصُلَ الاعتدالُ فيه، فعلى الطبيبِ الرفيقِ حَمْلُ المريضِ على ما فيه صلاحُه بحسَبِ حالِه، حتى إذا اسْتَقَلَّتْ صِحَّتُه هَيَّأَ له طريقاً في التدبيرِ وَسَطاً لائقاً به في جميعِ أحوالِه.
فإذا نَظَرْتَ في كُلِّيَّةٍ شَرْعِيَّةٍ فتَأَمَّلْها تَجِدْها حاملةً على التوسُّطِ؛ فإنْ رأيتَ مَيْلاً إلى جهةِ طَرَفٍ مِن الأطرافِ فذلك في مقابلةِ واقِعٍ أو مُتَوَقَّعٍ في الطرفِ الآخرِ:
فطرفُ التشديدِ وعامَّةُ ما يكونُ في التخويفِ والترهيبِ يُؤْتَى به في مقابلةِ مَن غَلَبَ عليه الانحلالُ في الدِّينِ، وطَرَفُ التخفيفِ وعامَّةُ ما يكونُ في الترجِيَةِ والترغيبِ والترخيصِ يُؤْتَى به في مقابلةِ مَن غَلَبَ عليه الحَرَجُ الشديدُ:
فإذا لم يَكُنْ هذا ولا ذاكَ رأيتَ التوسُّطَ لائحاً، ومَسْلَكَ الاعتدالِ واضحاً، وهو الأصلُ الذي يُرْجَعُ إليه.
النوعُ الثالثُ: في بيانِ قصدِ الشارعِ في دخولِ المُكَلَّفِ تحتَ أحكامِ الشريعةِ:
ويَشْتَمِلُ على مسائِلَ:
المسألةُ الأولى: المَقْصِدُ الشرعيُّ من وضعِ الشريعةِ إخراجُ المكلَّفِ مِن داعيةِ هَوَاهُ، حتى يكونَ عبداً للهِ اختياراً، كما هو عبدٌ للهِ اضطراراً، ومِن أدلَّةِ ذلك:
الأولُ: النصُّ الصريحُ على أنَّ العبادَ خُلِقُوا للتعبُّدِ للهِ والدخولِ تحتَ أمرِ اللَّهِ تعالى ونَهْيِه؛ قالَ تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] إلى غيرِها من الآياتِ الآمرةِ بالعبادةِ في عُمُومِها وتفاصيلِها، فكلُّه راجعٌ إلى طاعةِ اللَّهِ في جميعِ الأحوالِ، والانقيادِ إلى أحكامِه على كلِّ حالٍ، وهو معنى التعبُّدِ.
الثاني: ما دَلَّ على ذمِّ مخالفةِ هذا القصدِ، مِن النهيِ عن مخالفةِ أمرِ اللَّهِ، وذمِّ مَن أَعْرَضَ عن شرعِ اللَّهِ، وإيعادِه بالعذابِ العاجلِ والآجلِ.
الثالثُ: مِن علمِ التجارِبِ والعاداتِ مِنْ أنَّ المصالحَ الدينيَّةَ والدنيويةَ لا تَحْصُلُ معَ الاسترسالِ في اتِّباعِ الهوى والمشيِ معَ الأعراضِ، وهذا معروفٌ؛ ولذا اتَّفَقُوا على ذمِّ مَنِ اتَّبَعَ شَهَوَاتِه، وما اتَّفَقُوا عليه إلا لصحَّتِه عندَهم.
وإذاً: فلا يَصِحُّ لأحدٍ أنْ يَدَّعِيَ على الشريعةِ أنها وُضِعَتْ على مُقْتَضَى تَشَهِّي العبادِ وأغراضِهم.
وإذاً: عَلِمْنَا أنَّ وضعَ الشريعةِ إنما جاءَ لمصالحِ العبادِ فهي عائدةٌ عليهم بحسَبِ أمرِ الشارعِ، وعلى حَدِّه الذي حَدَّه، لا على مُقْتَضَى أهوائِهم وشَهَوَاتِهم؛ ولذا كانَتِ التكاليفُ الشَّرْعِيَّةُ ثقيلةً على النفوسِ.
وإذا تَقَرَّرَ هذا انْبَنَى عليه قواعدُ:
الأولى: أنَّ كلَّ عملٍ كانَ المتَّبَعُ فيه الهوَى مِن غيرِ التفاتٍ إلى الأمرِ أو النهيِ أو التخييرِ، فهو باطلٌ؛ لأنه لا بُدَّ للعملِ من حاملٍ يَحْمِلُ عليه، وداعٍ يَدْعُو إليه.
فأمَّا بُطلانُ العباداتِ: فظاهرٌ.
وأما العاداتُ: فذلك من حيثُ عدمُ تَرَتُّبِ الثوابِ على مُقْتَضَى الأمرِ والنهيِ، فوُجُودُها في ذلكَ وعَدَمُها سواءٌ.
الثانيةُ: أنَّ اتِّبَاعَ الهوَى طريقٌ مذمومٌ، وإنْ جاءَ في ضِمْنِ المحمودِ؛ لأنه إذا تَبَيَّنَ أنه مضادٌّ بوضعِه لوضعِ الشريعةِ، فحَيْثُما زاحَمَ مُقْتَضَاها في العملِ كانَ مَخُوفاً؛ لأنه سببُ تعطيلِ الأوامرِ وارتكابِ النواهي، ولأنه إذا اتُّبِعَ ربما أَحْدَثَ للنفسِ ضَرَاوَةً.
الثالثةُ: أنَّ اتِّبَاعَ الهوى في الأحكامِ الشَّرْعِيَّةِ مَظِنَّةٌ لأنْ يَحْتَالَ بها على أغراضِه.
المسألةُ الثانيةُ: تقسيمُ المقاصدِ إلى أصليَّةٍ وتَبَعِيَّةٍ:
المقاصدُ الشَّرْعِيَّةُ ضَربانِ: مقاصدُ أصليةٌ ومقاصدُ تبعيةٌ:
فأمَّا المقاصدُ الأصليَّةُ فهي التي لا حظَّ فيها للمكلَّفِ، وهي الضروريَّاتُ المُعتبَرَةُ في كلِّ مِلَّةٍ، وإنما قلنا: إنها لا حَظَّ فيها للعبدِ؛ لأنَّها قيامٌ بمصالِحَ عامَّةٍ.
وأما المقاصدُ التابعةُ: فهي التي رُوعِيَ فيها حظُّ المكلَّفِ؛ فمِن جِهَتِها يَحْصُلُ له مُقْتَضَى ما جُبِلَ عليه مِن نيلِ الشهواتِ والاستمتاعِ بالمباحاتِ وسدِّ الخَلاَّتِ.
وذلك أنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ حَكَمَتْ أنَّ قيامَ الدِّينِ والدنيا إنما يَصْلُحُ ويَسْتَمِرُّ بدواعٍ مِن قِبَلِ الإنسانِ، تَحْمِلُه على اكتسابِ ما يَحْتاجُ إليه، فخَلَقَ له شهوةَ الطعامِ والشرابِ إذا مَسَّه الجوعُ؛ لِيُحَرِّكَه ذلك الباعثُ إلى التسبُّبِ في سدِّ هذه الخَلَّةِ بما أَمْكَنَه، وهكذا بقيَّةُ الشهَوَاتِ هي الأسبابُ الموصِّلَةُ إليها.
ثم خَلَقَ الجنَّةَ والنارَ وأَرْسَلَ الرسُلَ؛ لِيُبَيِّنُوا أنَّ الاستقرارَ ليسَ هنا، وإنما هذه مَزْرَعَةٌ لدارٍ أخرَى، وأنَّ السعادةَ الأبديَّةَ أو الشقاوةَ الأبديةَ هناكَ، لكنَّها تُكْتَسَبُ أسبابُها هنا بالرجوعِ إلى ما حدَّهُ الشارعُ، أو بالخروجِ عنه، فيَأْخُذُ المكلَّفُ في استعمالِ الأمورِ الموصِّلَةِ إلى تلكَ الأغراضِ.
المسألةُ الثالثةُ: العملُ إذا وَقَعَ على وَفْقِ المقاصدِ الشَّرْعِيَّةِ:
فإمَّا أنْ يكونَ على المقاصدِ الأصليَّةِ أو المقاصدِ التابعةِ:
فإذا وَقَعَ على مُقْتَضَى المقاصدِ الأصليَّةِ، بحيثُ رَاعَاهَا، فلا إِشكالَ في صحَّتِه وسلامتِه؛ ذلك أنَّ المقصودَ الشرعيَّ من التشريعِ إخراجُ المكلَّفِ عن داعيةِ هواه حتى يكونَ عبداً للهِ، ويُبْنَى عليه قواعدُ:
من ذلك: أن المقاصدَ الأصليَّةَ إذا رُوعِيَتْ كانَ العبدُ أقربَ إلى إخلاصِ العملِ وصيرورتِه عبادةً، وأبعدَ عن مشاركةِ الحظوظِ التي تُغَيِّرُ في وجهِ محضَ العبوديَّةِ.
المسألةُ الرابعةُ: الإنسانُ قد يَدَعُ حظَّ نفسِه في أمرٍ إلى حظِّ ما هو أعلى منه:
كما تَرَى الناسَ يَبْذُلُون المالَ في طلبِ الجاهِ؛ لأنَّ حظَّ النفسِ في الجاهِ أعلى، ويَبْذُلُون النفوسَ في طلبِ الرئاسةِ حتى يموتوا في طريقِ ذلك، وهكذا الرُّهبانُ قد يَتْرُكُونَ لذَّاتِ الدنيا للذةِ الرئاسةِ والتعظيمِ؛ فإنها أعلى، وحظُّ الذِّكْرِ والتعظيمِ والرئاسةِ والاحترامِ والجاهِ أعظمُ الحظوظِ التي يُسْتَحْقَرُ متاعُ الدنيا في جَنْبِها عندَهم.
المسألةُ الخامسةُ: الرُّهبانُ ومَن أَشْبَهَهم يَنْقَطِعُون في الصوامعِ والدِّيَاراتِ، ويَتْرُكُون الشهَوَاتِ واللذَّاتِ، ويُسْقِطُونَ حُقُوقَهم في التوجُّهِ إلى معبودِهم، ويَعْمَلُون في ذلك غايةَ ما يُمْكِنُهم من وجوهِ التقرُّبِ إلى معبودِهم وما يَظُنُّون أنه سببٌ إليه، إلاَّ أنَّ كلَّ ما يَعْمَلُون مردودٌ عليهم، لا يَنْفَعُهُم اللَّهُ بشيءٍ منه في الآخرةِ؛ لأنهم بَنَوْا على غيرِ أصلٍ، كما قالَ تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ. عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ. تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} [الغاشية: 2 - 4] والعياذُ باللَّهِ!
ودونَهم في ذلك أهلُ البِدَعِ والضلالِ مِن أهلِ هذه الملَّةِ؛ فقد جاءَ في الخوارجِ قولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَحْقِِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ عِنْدَ صَلاَتِهِمْ....)) الحديثَ.
وعلى الجملةِ: فالإخلاصُ في الأعمالِ إنما يَنْفَعُ إذَا كانَ مَبْنِيًّا على أصلٍ صحيحٍ، فإنْ كانَ على أصلٍ فاسدٍ فبالضِّدِّ.
العادةُ إذا قُصِدَ بالإتيانِ بها وجهُ اللَّهِ:
ومِن المعلومِ: أنَّ البناءَ على المقاصدِ الأصليَّةِ يُصَيِّرُ تَصَرُّفاتِ المكلَّفِ كلَّها عباداتٍ، سَوَاءٌ كانَتْ مِن قَبِيلِ العباداتِ أو العاداتِ؛ لأنَّ المكلَّفَ إذا فَهِمَ مُرادَ الشارعِ من قيامِ أحوالِ الدنيا، وأَخَذَ في العملِ على مُقْتَضَى ما فَهِمَ، فهو إنما يَعْمَلُ من حيثُ طُلِبَ منه العملُ، ويَتْرُكُ إذا طُلِبَ مِنه الترْكُ، فهو أبداً في إعانةِ الخلْقِ على ما هم عليه من إقامةِ المصالحِ باليدِ واللسانِ والقلبِ، فأمَّا باليدِ: ففي وجوهِ الإعاناتِ، وأمَّا باللسانِ: فبالوعْظِ والتذكيرِ باللَّهِ، والأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكَرِ، وبالدعاءِ، وبالقلبِ: لا يُضْمِرُ لهم شرًّا، بل يَعْتَقِدُ لهم الخيرَ ويَعْرِفُهُم بأحسنِ أوصافِهم، ولو بمجرَّدِ الإسلامِ، ويَحْتَقِرُ نفسَه بالنسبةِ إليهم، إلى غيرِ ذلك من الأمورِ القلبيَّةِ المتعلِّقَةِ بالعبادِ.
فالعاملُ بالمقاصدِ الأصليَّةِ عاملٌ في هذه الأمورِ في نفسِه؛ امتثالاً لأمرِ ربِّه، واقتداءً بنبيِّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكيفَ لا تكونُ تصرُّفاتُ مَن هذه سبيلُه عِبادةً كلُّها، بخلافِ مَن كانَ عاملاً على حَظِّه؛ فإنه إنما يَلْتَفِتُ إلى حظِّه، أو ما كانَ طريقاً إلى حَظِّه، وهذا ليسَ بعبادةٍ على الإطلاقِ، بل عاملٌ في مباحٍ إنْ لم يُخِلَّ بحقِّ اللَّهِ أو بحقِّ غيرِه فيه، والمباحُ لا يُتَعَبَّدُ إلى اللَّهِ به.
لا يكونُ العملُ صحيحاً أو مقبولاً إلاَّ إذا رَاعَى وجهَ اللَّهِ في القصدِ التابعِ:
أما المقصدُ الأولُ: إذا تَحَرَّاهُ المكلَّفُ يَتَضَمَّنُ القصدَ إلى كلِّ ما قَصَدَه الشارعُ في العملِ مِن حصولِ مصلحةٍ أو دَرْءِ مفسدةٍ؛ فإنَّ العاملَ به إنما قَصَدَ تلبيةَ أمرِ الشارعِ؛ إما بعدَ فَهْمِ ما قَصَدَ، وإمَّا لمجرَّدِ امتثالِ الأمرِ، وعلى كلِّ تقديرٍ: فهو قاصدٌ ما قَصَدَه الشارِعُ.
وإذا ثَبَتَ أن قصدَ الشارعِ أعمُّ المقاصدِ وأوَّلُها وأَوْلاَهَا، وأنه نورٌ صِرْفٌ لا يَشُوبُه غرضٌ ولا حظٌّ، كانَ المتلقِّي له على هذا الوجهِ قدْ أَخَذَه وافياً كاملاً غيرَ منسوبٍ ولا قاصرٍ عن مرادِ الشارعِ؛ فهو حَرِيٌّ أنْ يَتَرَتَّبَ الثوابُ فيه للمكلَّفِ على تلكَ النسبةِ.
وأما القصدُ التابعُ: فلا يَتَرَتَّبُ عليه ذلكَ كلُّه؛ لأنه حينَ أخَذَ الأمرَ والنهيَ بالحظِّ، أو أخَذَ العملَ بالحظِّ، قد قَصَرَ الحظَّ عن إطلاقِه، وخَصَّ عمومَه، فلا يَنْهَضُ نهوضَ الأولِ، وشَاهِدُه قاعدةُ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
يَعْظُمُ الأجرُ بقصدِ المصلحةِ العامَّةِ:
العملُ على المقاصدِ الأصليَّةِ يُصَيِّرُ الطاعةَ أعظمَ، وإذا خُولِفَتْ كانَتْ مَعْصِيَتُها أعظمَ.
أما الأولُ: فلأن العاملَ على وَفْقِها عاملٌ على الإصلاحِ لجميعِ الخلقِ والدفعِ عنهم على الإطلاقِ؛ لأنه إما قاصِدٌ لجميعِ ذلك بالفعلِ، وإما قاصرٌ نفسَه على امتثالِ الأمرِ الذي يَدْخُلُ تحتَ قصدِه كلُّ ما قَصَدَه الشارِعُ بذلكَ الأمرِ، وإذا فَعَلَ جُوزِيَ على كلِّ نفْسٍ أحياها، وعلى كلِّ مصلحةٍ عامَّةٍ قَصَدَها، ولا شكَّ في عِظَمِ هذا العملِ؛ ولذلك كانَ مَن أَحْيَا النفسَ فكأنَّما أَحْيَا الناسَ جميعاً، بخلافِ ما إذا لم يَعْمَلْ على وَفْقِه، فإنما يَبْلُغُ ثوابُه مبلغَ قصدِه؛ لأنَّ الأعمالَ بالنيَّاتِ، فمتَى كانَ قَصْدُه أعمَّ كانَ أجرُه أعظمَ، ومتى لم يَعُمَّ قصدُه لم يَكُنْ أَجْرُه إلا على وَزْنِ ذلك، وهو ظاهرٌ.
وأمَّا الثاني: فإنَّ العاملَ على مخالَفَتِها عاملٌ على الإفسادِ العامِّ، وهو مضادٌّ للعاملِ على الإصلاحِ العامِّ، وقدْ مَرَّ أنَّ قَصْدَ الإصلاحِ العامِّ يَعْظُمُ به الأجرُ، فالعاملُ على ضِدِّه يَعْظُمُ به وِزْرُهُ؛ ولذلك كُتِبَ على ابنِ آدمَ الأوَّلِ كِفْلٌ مِن وِزْرِ كلِّ مَن قَتَلَ النفسَ المحرَّمَةَ؛ لأنه أولُ مَن سَنَّ القتلَ، وكانَ مَن قَتَلَ النفسَ فكأنما قَتَلَ الناسَ جميعاً، ومَن سَنَّ سنَّةً سيِّئةً كانَ عليه وِزْرُها ووِزْرُ مَن عَمِلَ بها.
العاداتُ إذا كانَتْ مَصْلَحَتُها تَعَبُّدِيَّةً جازَتْ فيها النيابةُ:
المطلوبُ الشرعيُّ ضَربانِ:
أحدُهما: ما كانَ مِن قَبِيلِ العاداتِ الجاريَةِ بينَ الخلقِ في الاكتسابِ وسائرِ المعاملاتِ الدنيويَّةِ التي هي طرقُ الحظوظِ العاجلةِ؛ كالعقودِ على اختلافِها، والتصاريفِ الماليَّةِ على تَنَوُّعِها، فهذه النيابةُ فيها صحيحةٌ، فيجوزُ أنْ يَنُوبَ عن غيرِه منابَهُ في استجلابِ المصالحِ له، ودَرْءِ المفاسدِ عنه بالإعانةِ والوِكالةِ ونحوِ ذلك مِمَّا هو في معناهُ؛ لأنَّ الحكمةَ التي يُطْلَبُ بها المكلَّفُ في ذلك كلِّه صالحةٌ أنْ يأتِيَ بها سِوَاهُ؛ كالبيعِ والشراءِ والأخذِ والإعطاءِ، ما لم يَكُنْ مشروعاً لحكمةٍ لا تَتَعَدَّى المكلَّفَ عادةً أو شرعاً؛ كالأكلِ واللُّبسِ وغيرِ ذلكَ مما جَرَتْ به العادةُ، وكالنكاحِ وأحكامِه التابعةِ له مِن وجوهِ الاستمتاعِ التي لا تَصِحُّ النيابةُ فيه شرعاً؛ فإنَّ هذا مفروغٌ من النظرِ فيه؛ لأنَّ حِكْمَتَه لا تَتَعَدَّى صاحبَها إلى غيرِه.
الحاصلُ: أن حكمةَ العاداتِ إنِ اخْتَصَّتْ بالمكلَّفِ فلا نيابةَ، وإلاَّ صَحَّتِ النيابةُ.
الثاني: التعبُّدَاتُ الشَّرْعِيَّةُ؛ فلا يقومُ فيها أحدٌ عن أحدٍ، ولا يُغْنِي فيها عن المكلَّفِ غيرُه، وعَمَلُ العاملِ لا يُجْزَى به غيرُه، ولا يَنْتَقِلُ بالقصدِ إليه، والدليلُ على صحَّةِ هذه الدعوَى أمورٌ:
أحدُها: النصوصُ؛ قالَ تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18]، وقالَ تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [النجم: 39]، وقالَ تعالى: {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} [فاطر: 18].
الثاني: المعنى، وهو أنَّ مقصودَ العباداتِ الخضوعُ للهِ والتوجُّهُ إليه، والانقيادُ تحتَ حُكْمِه، حتى يكونَ العبدُ بقلبِه وجوارِحِه حاضراً معَ اللَّهِ، ومراقِباً له غيرَ غافلٍ عنه، والنيابةُ تُنافِي هذا المقصودَ.
الثالثُ: أنه لو صَحَّتِ النيابةُ في العباداتِ البدنيَّةِ، لصَحَّتْ في الأعمالِ القلبيَّةِ؛ كالإيمانِ وغيرِه من الصبرِ والشكرِ والرضا والتوكُّلِ والخوفِ والرجاءِ، وما أَشْبَهَ ذلكَ، ولم تَكُنِ التكاليفُ محتومةً على المكلَّفِ عَيناً لجوازِ النيابةِ.
وما تَقَدَّمَ من الآياتِ كلُّها عموماتٌ نَزَلَتِ احْتِجاجاً على الكفَّارِ، ورَدًّا عليهم في اعتقادِهم حَمْلَ بعضِهم وِزْرَ بعضٍ.
خيرُ العملِ ما وُوظِبَ عليه:
من مقصودِ الشارعِ في الأعمالِ دوامُ المكلَّفِ عليها؛ لقولِهِ تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 23]، وفي الحديثِ: ((أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ وَإِنْ قَلَّ)).
فالمكلَّفُ إذَا أرادَ الدخولَ في عملٍ غيرِ واجبٍ، فمِن حقِّه أنْ لا يَنْظُرَ إلى سهولةِ الدخولِ فيه ابتداءً حتى يَنْظُرَ في مآلِه فيه؛ فإنَّ المشقَّةَ التي تَدْخُلُ على المكلَّفِ من وجهيْنِ:
أحدُهما: مِن جهةِ شدَّةِ التكليفِ نفسِه، بكثرتِه أو ثِقَلٍ في نفسِه.
الثاني: مِن جهةِ المداومةِ عليه، وإنْ كانَ في نفسِه خفيفاً.
الشريعةُ عامَّةٌ ما لم يَقُمْ دليلُ الخصوصيَّةِ:
الشريعةُ بحسَبِ المكلَّفِينَ كلِّيَّةٌ عامَّةٌ: فلا يَخْتَصُّ بالخطابِ بحكمٍ مِن أحكامِها الكلِّيَّةِ بعضٌ دونَ بعضٍ، والدليلُ على ذلك أمورٌ:
أحدُها: النصوصُ؛ قالَ تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28]، وقالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((بُعِثْتُ إِلَى الأَحْمَرِ وَالأَسْوَدِ)). وأشباهُ هذين النصَّيْن ممَّا يَدُلُّ على أنَّ البَعْثَةَ عامَّةٌ، لا خاصَّةٌ.
الثاني: أنَّ الأحكامَ إذا كانَتْ موضوعةً لمصالحِ العبادِ، فَهُم بالنسبةِ إلى ما تَقْتَضِيه من المصالحِ سواءٌ، فلو وُضِعَتْ على الخصوصِ لم تَكُنْ موضوعةً لمصالحِ العبادِ بإطلاقٍ.
الثالِثُ: إجماعُ العلماءِ المتقدِّمِينَ من الصحابةِ والتابعينَ ومَن بعدَهم؛ ولذلك صَيَّرُوا أفعالَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّةً للجميعِ في أمثالِها.
القياسُ يَدُلُّ على عمومِ الأحكامِ، ولا خُصُوصِيَّةَ للصوفِيَّةِ:
وهذا الأصلُ المتقدِّمُ يَتَضَمَّنُ قواعدَ عظيمةً:
منها: أنه يُعْطِي قُوَّةً عظيمةً في إثباتِ القياسِ على مُنْكِرِيه، من جهةِ أنَّ الخطابَ الخاصَّ ببعضِ الناسِ يَعُمُّ أمثالَها من الوقائعِ.
ومنها: أنَّ كثيراً مِمَّن لم يَتَحَقَّقْ بفَهْمِ مقاصدِ الشريعةِ يَظُنُّ أنَّ الصوفيَّةَ جَرَتْ على طريقةٍ غيرِ طريقةِ الجمهورِ، وأنهم امْتَازُوا بأحكامٍ غيرِ الأحكامِ المبثوثةِ في الشريعةِ، مُسْتَدِلِّينَ على ذلكَ بأمورٍ من أقوالِهم وأفعالِهم.
أحكامُ العاداتِ:
العاداتُ المستمِرَّةُ ضَربانِ:
أحدُهما: العاداتُ الشَّرْعِيَّةُ التي أَقَرَّها الدليلُ الشرعيُّ أو نفاها.
ومعنى ذلك: أن الشرعَ أَمَرَ بها إيجاباً أو نَدباً، أو نَهَى عنها كَراهةً أو تحريماً.
الثاني: العاداتُ الجاريَةُ بينَ الخلقِ بما ليسَ في نفيِه ولا إثباتِه دليلٌ شرعيٌّ.
فالأوَّلُ: ثابتٌ أبداً، كسائرِ الأمورِ الشَّرْعِيَّةِ؛ كما قالُوا في سَلْبِ العبدِ أهليَّةَ الشهادةِ والأمرِ بإزالةِ النجاسةِ وسترِ العورةِ، وما أَشْبَهَ ذلكَ مِن العوائدِ الجاريَةِ في الناسِ، إمَّا حسنةً عندَ الشارعِ أو قبيحةً؛ فإنها من جملةِ الأمورِ الداخلةِ تحتَ أحكامِ الشرعِ، فلا تَبْدِيلَ لها، ولا يَصِحُّ أنْ يَنْقَلِبَ الحَسَنُ فيها قبيحاً ولا القبيحُ حسناً.
وأمَّا الثاني: فقدْ تكونُ تلكَ العوائدُ ثابتةً، وقدْ تَتَبَدَّلُ، ومعَ ذلك فهي أسبابٌ لأحكامٍ تَتَرَتَّبُ عليها، فالثابتةُ: كوجودِ شهوةِ الطعامِ والوِقاعِ والنظرِ والكلامِ وأشباهِ ذلكَ، والمُتَبَدِّلَةُ: منها ما يكونُ متبَدِّلاً في العادةِ من حُسْنٍ إلى قبحٍ وبالعكسِ، مثلُ: كشفِ الرأسِ؛ فإنه يَخْتَلِفُ بحسَبِ البِقاعِ في المواقعِ، فهو لذوي المُروءاتِ قبيحٌ في البلادِ الشرقيَّةِ، وغيرُ قبيحٍ في البلادِ الغربيَّةِ، فالحكمُ الشرعيُّ يَخْتَلِفُ باختلافِ ذلك.
واعْلَمْ: أن ما جَرَى ذِكْرُه هنا من اختلافِ الأحكامِ عندَ اختلافِ العوائدِ ليسَ في الحقيقةِ اختلافاً في أصلِ الخطابِ؛ لأنَّ الشرعَ موضوعٌ على أنه دائمٌ أبداً، وإنما معنى الاختلافِ أنَّ العوائدَ إذا اخْتَلَفَتْ رُجِعَتْ كلُّ عادةٍ إلى أصلٍ شرعيٍّ يُحْكَمُ به عليها.
الأصلُ في العباداتِ التعبُّدُ، وفي العاداتِ التعليلُ:
الأصلُ في العباداتِ التعبُّدُ، دونَ الالتفاتِ إلى المعاني، والدليلُ على ذلك أمورٌ:
منها: الاستقراءُ؛ فإنَّا وَجَدْنَا الطهارةَ لا تَتَعَدَّى مَحَلَّ مُوجِبِها، وكذلك الصَّلَوَاتُ خُصَّتْ بأفعالٍ مخصوصةٍ، إنْ خَرَجَتْ عنها لم تَكُنْ عبادةً، وأنَّ الذِّكْرَ المخصوصَ في هيئةٍ ما مطلوبٌ، وفي هيئةٍ أُخرَى غيرُ مطلوبٍ، وأنَّ الطهارةَ مِن الحَدَثِ مخصوصةٌ بالماءِ الطَّهُورِ، وإنْ أَمْكَنَتِ النظافةُ بغيرِه.
ومِنها: أن وجوهَ التعبُّدَاتِ لم يَهْتَدِ إليها العقلاءُ اهْتِدَاءَهم لوجوهِ معانِي العاداتِ؛ فقدْ رأيتُ الغالبَ فيها الضلالَ، ومِن ثَمَّ حَصَلَ التغييرُ فيما بَقِيَ من الشرائعِ المتقدِّمَةِ، وهذا ما يَدُلُّ على أن العقلَ لا يَسْتَقِلُّ بدَرَكِ معانيها، ولا بوَصْفِها، فافْتَقَرْنا إلى الشريعةِ في ذلكَ.
ولما كانَ الأمرُ كذلكَ عَذَرَ اللهُ أهلَ الفَتَراتِ في عدمِ اهتدائِهم؛ قالَ تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15].
وإذا ثَبَتَ هذا لم يَكُنْ بُدٌّ مِن الرجوعِ في هذا البابِ إلى مجرَّدِ ما حَدَّه الشارعُ، وهو معنى التعبُّدِ؛ ولذلك كانَ الواقفُ معَ مجرَّدِ الاتِّباعِ فيه أولَى بالصوابِ وأَجْدَى على طريقةِ السلَفِ الصالحِ.
وأما العاداتُ: فالأصلُ الالتفاتُ فيها إلى المعاني؛ وذلك لأمورٍ:
الأولُ: الاستقراءُ؛ فإننا وَجَدْنا الشارعَ قاصداً لمصالحِ العبادِ، والأحكامُ العاديَّةُ تَدُورُ حيثُما دارَ، فتَرَى الشيءَ الواحدَ يُمْنَعُ في حالٍ لا تكونُ فيه مصلحةٌ، فإذا كانَ فيه مصلحةٌ جازَ، كالدِّرْهمِ بالدرهمِ إلى أجلٍ: يَمْتَنِعُ في المبايعةِ ويَجُوزُ في القَرْضِ. وبَيْعِ الرُّطَبِ باليابسِ: يَمْتَنِعُ حيثُ يكونُ مجرَّدَ رِباً وغَرَرٍ مِن غيرِ مصلحةٍ، ويَجُوزُ إذا كانَ مصلحةً راجحةً، ولم يوجَدْ هذا في بابِ العباداتِ مفهوماً كما فَهِمْناه في العاداتِ.
وقالَ تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]، وقالَ: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] إلى غيرِ ذلكَ ممَّا لا يُحْصَى، وجميعُه يُشِيرُ إلى اعتبارِ المصالحِ للعبادِ.
الثاني: أن الشارعَ تَوَسَّعَ في بيانِ العِلَلِ في تشريعِ بابِ العاداتِ، بخلافِ بابِ العباداتِ؛ فإنَّ المعلومَ فيه خلافُ ذلك.
الثالثُ: أنَّ الالتفاتَ إلى المعاني قد كانَ معلوماً في الفتراتِ، واعْتَمَدَ عليه العقلاءُ حتى جَرَتْ بذلك مصالِحُهُم.
إذا تَقَرَّرَ أن الغالبَ في العاداتِ هي المعاني، فإنه إذا وُجِدَ فيها التعبُّدُ فلا بدَّ مِن الوقوفِ معَ المنصوصِ؛ كطلبِ الصَّداقِ في النِّكاحِ، والذبحِ في المحَلِّ المخصوصِ في الحيوانِ المأكولِ، والفروضِ المقدَّرَةِ في المواريثِ، وعددِ الأشهرِ في العِدَدِ الطلاقيَّةِ، وما أَشْبَهَ ذلكَ.
القسمُ الثاني
فيما يَرْجِعُ إلى مقاصدِ المكلَّفِ في التكليفِ
وفيه مسائلُ:
الأولى: إنما الأعمالُ بالنيَّاتِ، والمقاصدُ مُعْتَبَرَةٌ في التصرُّفاتِ من العباداتِ والعاداتِ، والأدلَّةُ على هذا المعنى لا تَنْحَصِرُ، ويَكْفِيكَ منها: أن المقاصدَ تُفَرِّقُ بينَ ما هو عادةٌ وما هو عبادةٌ، وفي العباداتِ بينَ ما هو واجبٌ وغيرُ واجبٍ.
وفي العاداتِ بينَ ما هو واجبٌ، ومندوبٌ، ومباحٌ، ومكروهٌ، ومحرَّمٌ، وصحيحٌ، وفاسدٌ، والعملُ الواحدُ يُقْصَدُ به أمرٌ فيكونُ عبادةً، ويُقْصَدُ به شيءٌ آخرُ فلا يكونُ كذلكَ.
والأعمالُ قسمانِ: عاداتٌ وعباداتٌ.
فأما العاداتُ: فلا تَحْتَاجُ في الامتثالِ بها إلى نيَّةٍ، بل مُجَرَّدُ وقوعِها كافٍ؛ كردِّ الودائعِ والمغصوبِ، والنفقةِ على الزوجاتِ، ونحوِ ذلكَ.
وأما العباداتُ: فتحتاجُ إلى النيةِ.
والأعمالُ الداخلةُ تحتَ الاختيارِ لا تَصِيرُ تعبديَّةً إلاَّ معَ القصدِ إلى ذلك، فأمَّا ما وُضِعَ على التعبُّدِ كالصلاةِ والحَجِّ وغيرِهما، فلا إشكالَ فيه، وأما العاداتُ فلا تكونُ تعبُّديَّاتٍ إلا بالنيَّاتِ.
يَنْبَغِي أنْ يكونَ قصدُ المكلَّفِ من عملِه موافقاً لقصدِ الشارعِ من تشريعِه ذلكَ العملَ.
قصدُ الشارِعِ من المكلَّفِ أنْ يكونَ قصدُه في العملِ موافقاً لقصدِه في التشريعِ، والدليلُ على ذلك ظاهرٌ مِن وضعِ الشريعةِ.
إذ قدْ مرَّ أنها موضوعةٌ لمصالحِ العبادِ على الإطلاقِ والعمومِ، والمطلوبُ من المكلَّفِ أنْ يَجْرِيَ على ذلكَ في أعمالِه، وأنْ لا يَقْصِدَ خلافَ ما قَصَدَه الشارعُ.
ولأنَّ المكلَّفَ خُلِقَ لعبادةِ اللَّهِ، وذلك راجعٌ إلى العملِ على وَفْقِ القصدِ في وضعِ الشريعةِ، وهذا محصولُ العبادةِ، فيَنَالُ بذلك الجزاءَ في الدنيا والآخرةِ.
وأيضاً: فإنَّ قصدَ الشارعِ المحافظةُ على الضرورياتِ، وما رَجَعَ إليها مِن الحاجيَّاتِ والتحسينيَّاتِ، وهو عِلَّةُ ما كُلِّفَ به العبدُ، فلا بُدَّ أنْ يكونَ مطلوباً بالقصدِ إلى ذلكَ، وإلاَّ لم يَكُنْ عاملاً على المحافظةِ؛ لأنَّ الأعمالَ بالنيَّاتِ.
مَن قَصَدَ مِن العملِ غيرَ ما قَصَدَه الشارعُ بَطَلَ عملُه وأُهْدِرَ ثوابُه:
كلُّ مَنِ ابْتَغَى في تكليفِ الشريعةِ غيرَ ما شُرِعَتْ له، فقد ناقَضَ الشريعةَ، وكلُّ مَن ناقَضَها فعَمَلُه في المناقضةِ باطلٌ؛ فإنَّ المشروعاتِ إنما وُضِعَتْ لتحصيلِ المصالحِ ودَرْءِ المفاسدِ، فإذا خُولِفَتْ لم تَكُنْ في تلكَ الأفعالِ التي خُولِفَ بها جَلْبُ مصلحةٍ ولا دَرْءُ مفسدةٍ.
أما مَنِ ابْتَغَى في الشريعةِ ما لم تُوضَعْ له، فهو مناقضٌ لها.
والدليلُ عليه مِن أوجهٍ:
أحدُها: أن الأفعالَ والتروكَ متماثلةٌ عقلاً بالنسبةِ إلى ما يُقْصَدُ بها؛ إذ لا تحسينَ للعقلِ ولا تقبيحَ، فإذا جاءَ الشارعُ بتعيينِ أحدِ المتماثليْنِ للمصلحةِ، وتعيينِ الآخَرِ للمفسدةِ فقدْ بَيَّنَ الوجهَ الذي مِنه تَحْصُلُ المصلحةُ، فأَمَرَ به، أو أَذِنَ فيه، وبَيَّنَ الوجهَ الذي تَحْصُلُ به المفسدةُ، فنَهَى عنه؛ رَحْمَةً بالعبادِ، فإذا قَصَدَ المكلَّفُ عينَ ما قَصَدَهُ الشارعُ فقدْ قَصَدَ وَجْهَ المصلحةِ على أتَمِّ وجهِه، فهو جديرٌ بأنْ تَحْصُلَ له، وإنْ قَصَدَ غيرَ ما قَصَدَه الشارعُ، وذلك إنما يكونُ في الغالبِ لتَوَهُّمِ أنَّ المصلحةَ فيما قَصَدَ؛ لأنَّ العاقِلَ لا يَقْصِدُ وجهَ المفسدةِ كِفاحاً- فقدْ جَعَلَ ما قَصَدَ الشارِعُ مُهْمَلَ الاعتبارِ، وما أَهْمَلَ الشارِعُ مقصوداً مُعْتَبَراً، وذلك مُضَادَّةٌ للشريعةِ ظاهرةٌ.
الثاني: أنَّ حاصلَ هذا القصدِ يَرْجِعُ إلى ما رآه الشارعُ حسناً، فهو عندَ هذا القاصدِ ليسَ بحسَنٍ، وما لم يَرَهُ الشارعُ حسناً فهو عندَه حسنٌ، وهذه مضادَّةٌ أيضاً.
الثالثُ: قولُه تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115]
قالَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ: سَنَّ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووُلاَةُ الأمرِ مِن بعدِه سُنناً؛ مَن أَخَذَ بها فهو مُهْتَدٍ، ومَن خَالَفَها اتَّبَعَ غيرَ سبيلِ المؤمنينَ.
الرابعُ: الآخِذُ بالمشروعِ مِن حيثُ لم يَقْصِدْ به الشارِعُ ذلكَ القصدَ آخِذٌ في غيرِ مشروعٍ حقيقةً؛ لأنَّ الشارعَ إنما شَرَعَه لأمرٍ معلومٍ بالفرضِ، فإذا أَخَذَ بالقصدِ إلى غيرِ ذلكَ الأمرِ المعلومِ لم يأتِ بذلكَ المشروعِ أصلاً، وإذا لم يَأْتِ به ناقَضَ الشارِعَ في ذلك الأخذِ مِن حيثُ صارَ كالفاعلِ لغيرِ ما أَمَرَ به والتارِكِ لمَا أَمَرَ به.
قَصْدُ المكلَّفِ العملَ أقسامٌ:
التكاليفُ إذا عُلِمَ قصدُ المصلحةِ فيها فللمكلَّفِ في الدخولِ تحتَها ثلاثةُ أحوالٍ:
أحدُها: أنْ يَقْصِدَ بها ما فَهِمَ من مقصدِ الشارِعِ في شَرْعِها، فهذا لا إِشكالَ في موافقتِه، ولكنْ يَنْبَغِي أنْ لا يُخَلِّيَه من قصدِ التعبُّدِ، فكم(1) مَن فَهِمَ المصلحةَ فلم يَلْوِ على غيرِها مِن قصدِ التعبُّدِ، فهي غَفْلَةٌ تُفَوِّتُ خيراتٍ كثيرةً، بخلافِ ما إذا لم يُهْمِلِ التعبُّدَ.
الثاني: أنْ يَقْصِدَ بها ما عسَى أنْ يَقْصِدَه الشارعُ مِمَّا اطَّلَعَ عليه أو لم يَطَّلِعْ عليه، كأنْ يَنْوِيَ مِن هذا العملِ ما قَصَدَه الشارعُ من شرعِه، وهذا أكملُ من الأوَّلِ، إلاَّ أنه رُبَّما فاتَه النظرُ إلى التعبُّدِ، والقصدُ إليه في التعبُّدِ.
الثالثُ: أنْ يَقْصِدَ مجرَّدَ الامتثالِ؛ فَهِمَ قصدَ المصلحةِ أو لم يَفْهَمْ، فهذا أكملُ وأسلَمُ: أما كونُه أكملَ: فإنه نَصَبَ نفسَه عبداً مُمْتَثِلاً مُلَبِّياً؛ إذ لم يَعْتَبِرْ إلاَّ مجرَّدَ الأمرِ.
وأما كونُه أسلَمَ: فلأنَّ العاملَ بالامتثالِ عاملٌ بمُقْتَضَى العبوديَّةِ، فإنْ عَرَضَ له قصدُ غيرِ اللَّهِ رَدَّه قَصْدُ التعبُّدِ، بخلافِ ما إذا عَمِلَ على جَلْبِ المصالحِ؛ فإنه عَدَّ نفسَه هنالِكَ واسطةً بينَ العبادِ ومصالِحهم، وإذا رأَى نفسَه واسطةً فرُبَّمَا دَخَلَه شيءٌ مِن اعتقادِ المشاركَةِ.
وأيضاً: فإنَّ حَظَّه هنا محمودٌ، والعملُ على الحظِّ طريقٌ إلى دخولِ الدواخلِ، والعملُ على إسقاطِها طريقٌ إلى البراءةِ منها.
ليسَ لأحدٍ أنْ يُسْقِطَ حقَّ اللَّهِ في نفسِه أو مالِه أو عملِه:
كلُّ ما كانَ من حقوقِ اللَّهِ فلا خِيرةَ فيها للمكلَّفِ، ولا يَمْلِكُ إسقاطَها؛ وذلك كالطهارةِ والصلاةِ والزكاةِ... إلخ. وما يَتَعَلَّقُ بذلك مِن الكفَّاراتِ والمعاملاتِ والأكلِ والمَلْبَسِ وغيرِ ذلكَ من العباداتِ والعاداتِ التي ثَبَتَ أنَّ فيها حقًّا للهِ تعالى، وكذلك الجِناياتُ كلُّها على هذا الوِزانِ جميعُها، لا يَسْقُطُ حقُّ اللَّهِ فيها ألبتَّةَ، فلو طَمِعَ أحدٌ أنْ يُسْقِطَ الطهارةَ بَقِيَ مطلوباً بها حتى يَقُومَ بها، ولوِ اسْتَحَلَّ أكلَ ما حَرَّمَه الشارعُ أو اسْتِحْلالَ نِكاحٍ بلا وَلِيٍّ، أو استحلالَ الرِّبا، أو بيعاً فاسداً، أو إسقاطَ حدِّ الزِّنَى، أو الحِرَابَةِ ونحوِها لم يَصِحَّ شيءٌ منه.
وإذا كانَ الحكمُ دائراً بينَ حقِّ اللَّهِ وحقِّ العبدِ لم يَصِحَّ للعبدِ إسقاطُ حقِّه إذا أدَّى إلى إسقاطِ حقِّ اللَّهِ؛ وذلك مثلُ أنَّ حَقَّ العبدِ ثابتٌ له في حياةِ العبدِ وكمالِ جسمِه وعقلِه وبقاءِ مالِه في يدِه، فإذا أَسْقَطَ ذلك بأنْ سَلَّطَ يدَ الغيرِ عليه فقدْ خَالَفَ الشرعَ؛ إذ ليسَ لأحدٍ أنْ يَقْتُلَ نفسَه ولا أنْ يُفَوِّتَ عُضْواً مِن أعضائِه ولا مالاً من مالِه؛
قالَ تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]،
وقالَ: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188].
سكوتُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الزيادةِ على المشروعِ معَ الداعيةِ إلى الزيادةِ نهيٌ عن الزيادةِ:
السكوتُ عن شَرْعِيَّةِ الحكمِ على ضَربيْنِ:
أحدُهما: أنْ يَسْكُتَ عنه لأنه لا دَاعِيَةَ له تَقْتَضِيه، ولا مُوجِبَ يُقَدَّرُ لأجلِه؛ كالنوازلِ التي حَدَثَتْ بعدَ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فإنها لم تَكُنْ موجودةً ثمَّ سَكَتَ عنها معَ وجودِها، وإنما حَدَثَتْ بعدَ ذلكَ، فاحْتَاجَ أهلُ الشريعةِ إلى النظرِ فيها وإجرائِها على ما تَقَرَّرَ في كلِّيَّاتِها، وما أَحْدَثَه السلَفُ الصالحُ راجعٌ إلى هذا القِسْمِ؛ مِن جمعِ المصحفِ وتدوينِ العلمِ وتضمينِ الصناعِ، وما أَشْبَه ذلكَ ممَّا لم يَجْرِ له ذكرٌ زَمَنَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم تَكُنْ مِن نوازلِ زمانِه، ولا عَرَضَ للعملِ بها موجِبٌ يَقْتَضِيها.
فهذا القسمُ جاريةٌ فروعُه على أصولِه المقررَّةِ شرعاً بلا إشكالٍ، والقصدُ الشرعيُّ فيها معروفٌ.
الثاني: أنْ يَسْكُتَ عنه، وموجِبُه المُقْتَضِي له قائمٌ، فلم يُقَرَّرْ فيه حكمٌ عندَ نزولِ النازلةِ زائدٌ على ما كانَ في ذلكَ الزمنِ.
فهذا الضربُ السكوتُ فيه كالنصِّ على أنَّ قَصْدَ الشارعِ أنْ لا يُزَادَ فيه ولا يُنْقَصَ؛ لأنه لمَّا كانَ هذا المعنى الموجِبُ لشرعِ الحكمِ العمليِّ موجوداً، ثمَّ لم يَشْرَعِ الحكمَ دَلالةً عليه، كانَ ذلك صريحاً في أنَّ الزائدَ على ما كانَ هناكَ بدعةٌ زائدةٌ ومخالِفةٌ لمَا قَصَدَه الشارعُ؛ إذ فُهِمَ مِن قَصْدِه الوقوفُ عندَ ما حَدَّ هنالكَ، لا الزيادةُ عليه ولا النقصانُ منه.
وذلكَ مثلُ سجودِ الشكرِ عندَ مَن لم يَثْبُتْ ذلك عندَه، كمالكٍ رَحِمَه اللَّهُ، فالبِدَعُ هي فعلُ ما سَكَتَ الشارعُ عن فعلِه، أو تَرْكُ ما أَذِنَ في فِعْلِه.
فالأولُ: كسجودِ الشكرِ عندَ مالكٍ، والدعاءِ بهيئةِ الاجتماعِ في أدبارِ الصلَوَاتِ، والاجتماعِ للدعاءِ بعدَ العصرِ يومَ عَرَفَةَ في غيرِ عَرَفَةَ.
والثاني: كالصيامِ معَ تركِ الكلامِ، ومُجَاهَدَةِ النفسِ بتركِ مأكولاتٍ معيَّنَةٍ.
فالبِدَعُ إنما أُحْدِثَتْ لمصالحَ يَدَّعِيها أهلُها، ويَزْعُمُون أنها غيرُ مخالِفةٍ لقصدِ الشارعِ، ولا لوضعِ الأعمالِ.
وإلى هنا تَمَّ ما اخْتَرْتُه وما لخَّصْتُه من كتابِ (الموافقاتُ) للإمامِ الشَّاطِبِيِّ، وقدْ جَرَى اخْتيارُه في عِدَّةِ مجالسَ، آخِرُها ليلةَ السَّبتِ الموافِقِ (28/5/1410 هـ).
والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا مُحَمَّدٍ، وعلى آلِهِ وصحبِه أجمعينَ.
وكَتَبَه عبدُ اللَّهِ بنُ عبدِ الرحمنِ بنِ صالِحٍ البَسَّامُ
مَكَّةُ المُكَرَّمَةُ



بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مُقَدِّمَةٌ
إنَّ الحمدَ للهِ نَحْمَدُه ونَسْتَعِينُه ونَسْتَهْدِيه، ونعوذُ باللَّهِ مِن شرورِ أنفسِنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللَّهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّداً عبدُه ورسولُه.
أمَّا بعدُ: فقدْ ذَكَرْنَا في المقدِّمةِ الأولى من مقدماتِ هذا الشرحِ بيانَ أهميةِ (بلوغُ المرامِ) وعِظَمَ قَدْرِه، وجَلِيلَ فائِدَتِه، والمَيْزَاتِ الطيِّبَةَ التي انْفَرَدَ بها عن الكتبِ المصنَّفةِ في بابِه؛ ممَّا دعا العلماءَ إلى العنايةِ به والإقبالِ عليه، والاستفادةِ منه، واختيارِه على غيرِه في حَلَقَاتِ الدروسِ وقاعاتِ المعاهدِ والجامعاتِ، حتى صارَ هو العمدةَ في الاستظهارِ والاستنباطِ والاستفادةِ، فتَعَدَّدَتْ طباعتُه، وكَثُرَ تداوُلُه، وكما قيلَ: الموردُ العَذْبُ كثيرُ الزِّحامِ.
كما ذَكَرْتُ في تلكَ المقدِّمةِ صِلَتِي بهذا الكتابِ وطُولَ صُحْبَتِي إيَّاه؛ فإنها أُلْفَةٌ قديمةٌ، وعَلاقةٌ وثيقةٌ، وصلةٌ عَريقةٌ تَطَلَّبُ منِّي الوفاءَ لماضِيهِ وخِدْمَةَ قارِئِيه، والقيامَ بحقِّ مؤلِّفِه؛ وذلك بشرحٍ يُقَرِّبُ معانِيَه ويَكْشِفُ عن مَطاوِيه، ويَسْتَخْرِجُ دُرَرَه، ويَجْلُو أصدافَه، ويُبْرِزُ محاسِنَه، فحَدَّثْتُ نفسِي بأني- بعدَ أنْ تَوَفَّرَتِ المصادرُ وكَثُرَتِ المراجعُ وتَيَسَّرَتِ الأمورُ – أَسْتَطِيعُ أنْ أُقَدِّمَ لطلابِ العلمِ شرحاً يُلائِمُ أذواقَهم ويُشاكِلُ مناهِجَهم ويُناسِبُ ما يُلْقَى عليهم من دروسِ مادَّةِ الحديثِ، وزادَ في إقدامي على شرحِ هذا الكتابِ أمرانِ:
أحدُهما: ما لَمَسْتُه مِن إقبالٍ على شرحي على العمدةِ المسمَّى (تَيْسِيرُ العلاَّمِ)، واختيارِه لتدريسِ مادَّةِ الحديثِ في كثيرٍ من دُورِ العلمِ وحَلَقَاتِ الدروسِ في المساجدِ، وإعجابِ الكثيرِ في جمعِه وترتيبِه وتنسيقِه وتبويبِه.
الثاني: أنَّ الشروحَ المتداولةَ لبلوغِ المرامِ غيرُ مرتَّبَةٍ ولا مُنَسَّقَةٍ، وطريقةَ تأليفِها تُخالِفُ النَّهْجَ الذي تَسِيرُ عليه المعاهِدُ والجامعاتُ الآنَ.
فأَقْدَمْتُ على تأليفِ هذا الشرحِ الذي أَرْجُو أنْ يكونَ مناسباً لوقتِه، ملائماً لقرَّائِه، كافياً في بابِه، وافياً في مقصودِه، وما في هذا الكتابِ مِن فوائدَ وأحكامٍ فهي قسمانِ:
أحدُهما: ما اسْتَخْرَجْتُه مِن خَزينِ الحافظةِ ثمرةَ دراساتٍ سابقةٍ صاغَتْها المَلَكَةُ حتى صارَ مِن إعدادِها.
الثاني: نُقُولٌ مِن تلكَ المراجعِ إما بنصِّها وإما باخْتِصارٍ لا يُخِلُّ بمعناها؛ فإني لا أَحْذِفُ من الكلامِ إلاَّ اسْتِطْرَادَاتٍ خارجةً عن الموضوعِ أو زياداتٍ عن الخلاصةِ المختارةِ.
وبعدُ: فقد حَلَّيْتُ هذا الشرحَ بأمورٍ تَزِيدُ في حسنِه وتُرَغِّبُ في قِراءَتِه، وأُوجِزُها بما يأتي:
أولاً: فَصَّلْتُ مواضيعَ الكتابِ ونَسَّقْتُها؛ لِيَأْخُذَ كلُّ طالبِ علمٍ بُغْيَتَه ومُرادَه؛ ففيه الكلامُ عن درجةِ الحديثِ وتفسيرِ غريبِه وبيانِ أحكامِه وتفصيلِ الخلافِ في مسائلِه، فكلُّ موضوعٍ من هذه المواضيعِ له فَصْلُه الخاصُّ به وحدَه.
ثانياً: أَنَّنِي لم أَنْتَصِرْ لأيِّ إمامٍ، ولم أَتَعَصَّبْ لأيِّ مذهبٍ، وإنما وَجَّهْتُ قَصْدِي إلى ما يُرَجِّحُه الدليلُ من أقوالِ العلماءِ رَحِمَهم اللَّهُ تعالى.
ثالثاً: أَنَّنِي أَلْحَقْتُ به ما يُناسِبُه مِن القراراتِ التي صَدَرَتْ من المجامعِ الفِقْهِيَّةِ؛ وهي: مَجْمَعُ الفِقْهِ الإسلاميُّ، التابعُ لمنظمةِ المؤتمرِ الإسلاميِّ، ومَقَرُّه جُدَّةُ، والمَجْمَعُ الفقهيُّ الإسلاميُّ التابعُ لرابطةِ العالمِ الإسلاميِّ، ومَقَرُّه مَكَّةُ المكرَّمَةُ، ومَجْلِسُ هيئةِ كِبارِ العلماءِ في المملكةِ العربيَّةِ السُّعُودِيَّةِ، ومَجْمَعُ البحوثِ الإسلاميَّةِ بالقاهِرَةِ.
وهذه القراراتُ قِسمانِ:
إما مسائلُ قديمةٌ بَحَثَها علماءُ المجلِسِ؛ فقيمةُ القرارِ منها دراستُه من أحدِ هذه المجامِعِ أو منها كلِّها، وإعطاءُ المسلمينَ فيه رَأْياً جماعيًّا مِن نُخْبَةٍ ممتازةٍ من علماءِ المسلمينَ.
وإما مسائلُ مُسْتَجَدَّةٌ اقْتَضَاها العصرُ الحاضرُ، فدَرَسَها أحدُ هذه المجامِعِ الكبيرةِ وخَرَجَ منها برأيٍ شرعيٍّ جماعيٍّ طُبِّقَتْ عليه النصوصُ الشَّرْعِيَّةُ، مِمَّا أبانَ عن عظمةِ هذه الشريعةِ وشُمُولِها وصلاحِيَتِها لكلِّ زمانٍ ومكانٍ.
رابعاً: أنني حَرَصْتُ على تَتَبُّعِ الحقائقِ العلميَّةِ التي تَوَصَّلَ إليها العلمُ في هذه الأزمنةِ، التي تَطَوَّرَتْ فيها العلومُ الطبيعيَّةُ والعلومُ الكونيَّةُ، مِمَّا له صِلَةٌ في نصوصِ هذا الكتابِ ومسائلِه؛ لأُبْرِزَ بقدرِ علمِي واسْتِطاعتي ما تَحْمِلُه هذه النصوصُ الكريمةُ من إعجازٍ عِلْمِيٍّ باهرٍ، طابَقَ بكلِّ وضوحٍ وجلاءٍ ما في تلك الحقائقِ العلميَّةِ الجديدةِ؛ تحقيقاً لقولِه تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فُصِّلَتْ: 53]، وقولِه جَلَّ وعَلاَ: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص: 88]، فبظُهورِ هذا التطابُقِ بينَ النصوصِ الكريمةِ وما أَوْدَعَه اللَّهُ في هذا الكونِ مِن حقائقَ يُعْلَمُ أنه كُلَّه جاءَ مِن لَدُنْ حكيمٍ خبيرٍ، فيَزْدَادُ الذين آمَنُوا إيماناً وتقومُ الحُجَّةُ الظاهرةُ القويَّةُ على المعانِدِينَ.
خامساً: أنَّ هذا الشرحَ بالرغمِ مِن حِرْصِي على تَقْرِيبِه لطالبِ العلمِ المبتدِئِ، إلاَّ أَنِّي تَوَسَّعْتُ فيه تَوَسُّعاً، فبَحَثْتُ جميعَ جوانبِ الحديثِ روايةً ودِرايةً، فقدْ تَكَلَّمْتُ على درجةِ الحديثِ من حيثُ القَبُولُ والردُّ، وذلك في الأحاديثِ التي ليسَتْ في الصحيحيْنِ أو أَحَدِهِما، ثُمَّ شَرَحْتُ مُفْرَدَاتِ الحديثِ وغريبَ لفظِه لُغَةً ونَحْواً وصَرفاً واصْطِلاحاً وتعريفاً عمليًّا(1)، ثمَّ إنِّي اسْتَنْبَطْتُ الأحكامَ والآدابَ بطريقةٍ مُوَسَّعَةٍ، وعُنِيتُ عنايةً تامَّةً بعِلَلِ الأحكامِ وأسرارِها؛ لأُظْهِرَ محاسِنَ الإسلامِ وأحكامَه أمامَ القارِئِ، لا سِيَّمَا الناشِئَةُ مِنهم؛ لِيَزِيدَ تَعَلُّقُهم بدينِهم فيَأْخُذُوه عن قناعةٍ ويقينٍ.
سادساً: تَتْمِيماً لفائدةِ هذا الشرحِ فإني أَلْحَقْتُ غالباً في كلِّ حديثٍ ما يُشابِهُ أحكامَه ويُناسِبُها مِن الفوائدِ، ممَّا يُعَدُّ أحكاماً زائدةً عمَّا يُفْهَمُ مِن الحديثِ، أو مِن البابِ؛ لذا فإنِّي جَعَلْتُها بعنوانٍ مُمَيِّزٍ لها حينَما أقولُ: فائدةٌ أو فوائدُ.
اصْطِلاحاتٌ خاصَّةٌ في هذا الشرحِ:
- إذا قُلْتُ: (الشيخُ) فمرادِي: شيخُ الإسلامِ أحمدُ ابنُ تَيْمِيَّةَ.
- وإذا قلتُ: (قالَ ابنُ عبدِ الهادي) فمِن كتابِه المُحَرَّرِ.
- وإذا قلتُ: (في التلخيصِ) فمرادِي التلخيصُ الحبيرُ، للحافظِ ابنِ حجرٍ.
- وإذا قلتُ: (قالَ الصَّنْعَانِيُّ) فهو مِن سُبُلِ السلامِ.
- وإذا قلتُ: (قالَ الشَّوْكَانِيُّ) فأعني مِن نَيْلِ الأوطارِ.
- و (قالَ صديقٌ حسنٌ) يعني: مِن الروضةِ النديَّةِ.
- وإذا قلتُ: (قالَ الأَلْبَانِيُّ) فهو من إرواءِ الغَلِيلِ، وقليلٌ من حاشِيَتِه على المِشْكَاةِ.
- ومرادي بـ (الرَّوْضِ) الرَّوْضُ المُرْبِعُ، ومرادِي بـ (الحاشِيَةِ) حاشيةُ الرَّوْضِ، للشيخِ عبدِ الرحمنِ بنِ قاسِمٍ.
- قد يَتَكَرَّرُ شرحُ اللفظةِ الواحدةِ من الحديثِ أكثرَ مِن مرَّةٍ، وقصدي إراحةُ القارِئِ بإعادةِ شرحِها عن الإحالةِ إلى مكانِها.
وبعدُ:
فإِنَّنِي مُغْتَبِطٌ أشدَّ الاغْتِباطِ بهذه الصَّحْوَةِ الإسلاميَّةِ المبارَكَةِ، وهذا الوعيِ الدينِيِّ الذي جُلُّ أمرِه صارَ في الشبابِ والشابَّاتِ، فأَسْأَلُ اللَّهَ تعالى أنْ يُبارِكَ فيه، وأنْ يُؤَيِّدَه ويُقَوِّيَه، وأنْ يَقِيَه شَرَّ الآفاتِ، ومكايدَ الأشرارِ، وتدبيرَ الأعداءِ.
والذي أَنْصَحُ إخوانِي وأَخَوَاتِي وأبنائي وبناتِي به: أنْ يَحْرِصُوا على جمعِ الكَلِمَةِ وتوحيدِ الصفِّ ولَمِّ الشَّمْلِ، ولا يكونُ ذلك إلا بتناسِي الخلافاتِ الفرعيَّةِ في المسائلِ الاجتهاديَّةِ.
فلا يَكُنْ بحثُهم لها مَصْدَرَ عداوةٍ وبَغْضاءَ، وإنما يكونُ بحثَ استفادةٍ ووصولٍ إلى الحقِّ؛ فإنْ وَصَلُوا إلى إجماعٍ بينَهم عليها فذاكَ، وإلاَّ عَمِلَ كلٌّ مِنهم بما أَوْصَلَه إليه اجتهادُه بلا عَدَاوَةٍ ولا بَغْضَاءَ، ولا تَهَاجُرٍ ولا تَقَاطُعٍ؛ فقد سَبَقَهم إلى الخلافِ فيها علماءُ أجِلاَّءُ، فلم يُحْدِثْ بحثُهم فيها ونِقاشُهُم مسائِلَها عداوةً ولا بغضاءَ، وإنما كلٌّ مِنهم يَعْمَلُ على شاكِلَتِه وما رَأَى أنه الحقُّ.
فلْيَحْذَرْ أولادُنا الأعِزَّاءُ مِن التفرُّقِ والاختلافِ؛ فإنه سببُ الفُرْقَةِ وإضاعةِ الجَهْدِ؛ {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} [آل عِمران: 103].
بارَكَ اللَّهُ في أعمالِهم، وسَدَّدَ أقوالَهم، ونَجَّحَ مساعِيَهم، وجَعَلَهم هُدَاةً مُهْتَدِينَ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على أشرفِ المرسلينَ، نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ.
المؤلِّفُ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدِّمَةُ الحافِظِ ابنِ حَجَرٍ لِكتابِه بُلُوغِ المَرامِ
الحمدُ للهِ على نِعَمِه الظاهرةِ والباطنةِ قديماً وحديثاً، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّه ورسولِه مُحَمَّدٍ وآلِه وصحبِه الذين سَارُوا في نُصْرَةِ دينِه سَيْراً حَثيثاً، وعلى أتباعِهِم الذين وَرِثُوا عِلْمَهم، و((الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ)) أَكْرِمْ بهم وَارِثاً ومَوْرُوثاً.
أمَّا بعدُ: فهذا مُخْتَصَرٌ يَشْتَمِلُ على أصولِ الأدلَّةِ الحديثيَّةِ للأحكامِ الشَّرْعِيَّةِ، حَرَّرْتُه تحريراً بالغاً؛ لِيَصِيرَ مَن يَحْفَظُهُ بينَ أقرانِه نابغاً، ويَسْتَعِينَ به الطالبُ المُبْتَدِي، ولا يَسْتَغْنِيَ عنه الراغبُ المُنْتَهِي، وقدْ بَيَّنْتُ عَقِبَ كلِّ حديثٍ مَن أَخْرَجَه مِن الأئِمَّةِ؛ لإرادةِ نُصْحِ الأُمَّةِ.
فالمرادُ بالسبعةِ: أحمدُ والبُخَارِيُّ ومسلمٌ وأبو داودَ وابنُ ماجَهْ والتِّرْمِذِيُّ والنَّسَائِيُّ.
وبالستَّةِ: مَن عَدَا أحمدَ، وبالخمسةِ: مَن عَدَا البخاريَّ ومُسلماً، وقد أقولُ: الأربعةُ وأحمدُ، وبالأربعةِ: مَن عَدَا الثلاثةَ الأُوَلَ، وبالثلاثةِ: مَن عَدَاهُم وعدا الأخيرَ، وبالمُتَّفَقِ عليه: البُخَارِيُّ ومسلمٌ، وقد لا أَذْكُرُ معَهما غيرَهما، وما عدا ذلك فهو مُبَيَّنٌ. وسَمَّيْتُه: (بُلُوغُ المَرَامِ مِن أَدِلَّةِ الأَحْكَامِ).
واللَّهَ أَسْأَلُ أنْ لا يَجْعَلَ ما عَلِمْنا علينا وبالاً، وأنْ يَرْزُقَنَا العملَ بما يُرْضِيه سُبْحَانَهُ وتَعَالَى.





(1) لعلها: فكلُّ.

(1) لعلها: عِلْمِيًّا.


موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
مقدمات, شرح

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:12 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir