(وقولُ الواحدِ مِن الصحابةِ ليسَ بِحُجَّةٍ في القولِ الجديدِ، وفي القديمِ حُجَّةٌ).
ذِكْرُ الواحدِ مِن الصحابةِ ليسَ قَيْدًا؛ فإنَّ الخِلافَ في الواحدِ، والاثنيْنِ، والثلاثةِ، والقَصْدُ في أنَّ الْخِلافَ جارٍ فيما لمْ يُجْمِعُوا عليهِ، وذلكَ إذا قالَ الواحدُ أو الاثنانِ مِن الصحابةِ قَوْلاً ولمْ يَنْتَشِرْ بحيثُ يَبْلُغُ الباقينَ، ولمْ يُعْلَمْ لهُ مخالِفٌ، فهلْ هوَ حُجَّةٌ أمْ لا؟
- قالَ في القديمِ: (إنَّهُ حُجَّةٌ يُقَدَّمُ على القياسِ).
- ويُحْكَى هذا عنْ بعضِ أصحابِ أبي حَنيفةَ.
- ومِنْ دليلِ هذا القولِ ما يُرْوَى أنَّهُ عليهِ السلامُ قالَ: ((أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ، بَأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ)).
- وقالَ: ((اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي: أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ)).
- وقال: ((عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ)).
- وفي (الصحيحِ): ((خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)).
- والقولُ الجديدُ، وهوَ الصحيحُ، أنَّهُ ليسَ حُجَّةً؛ أيْ: لا يَجِبُ تقليدُ الصحابيِّ في قولِهِ، بلْ يَجِبُ على المجتَهِدِ الاجتهادُ في أقوالِهم، كغيرِهم مِن العلماءِ.
ودليلُ ذلكَ أنَّ قولَ الصحابِيِّ إذا لمْ يُسْنِدْهُ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كانَ اجتهادَ عالِمٍ، يَجوزُ إقرارُهُ على الخطأِ، فلمْ يَجُزْ تقليدُهُ كغيرِهِ مِن العلماءِ.
- وأمَّا الأحاديثُ المذكورةُ فإنَّها مَحمولةٌ على اتِّباعِهم في أَصْلِ الدِّينِ، وما نَقَلُوهُ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وما أَجْمَعوا عليهِ، أوْ ما قالَهُ بعضُهم وانْتَشَرَ ولمْ يُنْكِرْهُ الباقونَ معَ عِلْمِهم بهِ.
- وأمَّا قولُ أحدِهم عن اجتهادِهِ فلا يَجِبُ تقليدُهُ فيهِ، بلْ قَضِيَّةُ الأحاديثِ المذكورةِ في الأمرِ باتِّبَاعِهم الاجتهادَ في مَواضِعِ الاجتهادِ؛ فإنَّ جماعةً مِن التابعينَ كالحَسَنِ وسعيدِ بنِ المُسَيِّبِ كانوا يَجتهدونَ في أيَّامِ الصحابةِ ويُفْتُونَ، وهم لا يُنْكِرونَ عليهم، فعُلِمَ أنَّ مِنْ سُنَّتِهم تَرْكَ التقليدِ والأخْذَ بالاجتهادِ، ولوْ وَجَبَ تقليدُهم لأَنْكَروا على مَنْ يَجتَهِدُ في زمانِهم مِن التابعينَ معَ عِلْمِهِ بأقوالِهم.
- وقالَ ابنُ بَرْهَانٍ: (الحقُّ الْمُبينُ أنَّ الصحابِيَّ إنْ قالَ قَوْلاً يُخالِفُ القياسَ كانَ حُجَّةً، وإنْ قالَ قولاً لا يُخالِفُ القياسَ لمْ يكُنْ حُجَّةً.
- واحتَجَّ بأنَّ قولَ الصحابيِّ المخالِفِ للقياسِ لا يَجوزُ أنْ يكونَ إلاَّ عنْ تَوْقِيفٍ مِن الشارعِ صِيانةً للصحابِيِّ عن التَّحَكُّمِ في الدِّينِ).
وهذا القولُ الذي اختارَهُ مَحْكِيٌّ عنْ بعضِ أصحابِ أبي حَنيفةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، واحْتَجَّ في ذلكَ بأنَّ أبا حَنيفةَ رضِيَ اللهُ عنهُ قَدَّرَ الجُعْلَ في رَدِّ الآبِقِ بأربعينَ دِرْهمًا لأثَرٍ عن ابنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ في ذلكَ.
- واحتَجَّ ابنُ بَرْهَانٍ بأنَّ الشافعيَّ رَضِيَ اللهُ عنهُ غَلَّظَ الدِّيَةَ بالأسبابِ الثلاثةِ، يعني: الْمَحْرَمِيَّةِ، والحَرَمِ، والأشهُرَ الْحُرُمِ، بأقْضِيَةِ الصحابةِ.
وهذا القولُ ضعيفٌ مِنْ وجهيْنِ:
أحدُهما: الاستقراءُ لأقوالِ الصحابةِ؛ فإنَّ المردودَ منها ممَّا لمْ يُوافِق القياسَ كثيرٌ، مثلُ: قولُ عائشةَ في مسألةِ الْعِينَةِ رَدَّهُ الشافعيُّ، وقولُ ابنِعمرَ في نَقْضِ الوُضوءِ بلَمْسِ الزوجةِ رَدَّهُ أبوحَنِيفَةَ، وأمثالُ ذلكَ كثيرٌ لِمَن استَقْرَأَهُ.
والوجهُ الثاني: أنَّ العُمدةَ في هذا القولِ حَصْرُ مُستَنَدِ قولِ الصحابيِّ في التوقيفِ والقياسِ، وهذا الحصْرُ ممنوعٌ؛ فإنَّ أبوابَ الاجتهادِ غيرُ القياسِ يَصِحُّ أنْ يكونَ مسْتَنَدًا، مثلُ: التقديمِ والتأخيرِ والعمومِ والتخصيصِ ونحوِ ذلكَ.
ويَصِحُّ أنْ يكونَ مُسْتَنَدُ قولِ الصحابِيِّ ما يَراهُ مُسْتَنَدًا عندَهُ ولا يُوافَقُ عليهِ، مثلُ: اعتقادِ أبي ذَرٍّ أنَّ التقَلُّلَ مِن الدُّنيا بحيثُ يكونُ أحدُهم على حَدِّ ما كانَ عليهِ في أيَّامِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ واجبٌ.
وإذا لمْ يَنحصِرْ مُسْتَنَدُ قولِ الصحابِيِّ في التوقيفِ والقياسِ جازَ مخالفَتُهُ وإنْ خالَفَ القِياسَ؛ فإنَّهُ صارَ كغيرِهِ مِن العُلماءِ، ولوْ كانَ الحكْمُ بالأفضلِيَّةِ والعلُوِّ في المنزِلَةِ يُوجِبُ على مَنْ دُونَ المفضَّلِ تَقليدَ المُفَضَّلِ لَزِمَ أنْ يَجِبَ تقليدُ التابعينَ على مَنْ بعدَهم لكونِهم مِن القرْنِ الثاني المشهودِ لهُ بالفضيلةِ على مَنْ بعدَهُ، وكذلكَ كانَ يَجِبُ على أهلِ القرنِ الرابعِ تقليدُ القرْنِ الثالثِ؛ فإنَّ القرْنَ الثالثَ مَشهودٌ بفَضلِهِ على القرْنِ الرابعِ، ولا قائلَ بذلكَ.