دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم اللغة > متون علوم اللغة العربية > النحو والصرف > ألفية ابن مالك

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 19 ذو الحجة 1429هـ/17-12-2008م, 11:17 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي أحكام اتصال الفعل بالفاعل وانفصاله، تأخر الفاعل عن المفعول


والأصْلُ في الفاعلِ أنْ يَتَّصِلَا =والأصْلُ في المفعولِ أنْ يَنْفَصِلَا
وقدْ يُجاءُبخِلافِ الأَصْلِ = وقدْ يَجِي المفعولُ قبلَ الفاعِلِ
وأَخِّر المفعولَ إنْ لَبْسٌ حُذِرْ = أو أُضْمِرَ الفاعلُ غيرَ مُنْحَصِرْ
وما بِإِلَّا أوْ بإنَّما انْحَصَرْ = أَخِّرْ وقدْ يَسْبِقُ إنْ قَصْدٌ ظَهَرْ
وشاعَ نحوُ خافَ رَبَّهُ عُمَرْ = وشَذَّ نَحْوُ زَانَ نُورُهُ الشجَرْ

  #2  
قديم 24 ذو الحجة 1429هـ/22-12-2008م, 09:33 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح ابن عقيل (ومعه منحة الجليل للأستاذ: محمد محيي الدين عبد الحميد)


والأصلُ في الفَاعِلِ أَنْ يَتَّصِلاَ = والأصلُ في المفعولِ أنْ يَنْفَصِلاَ ([1])
وقد يُجَاءُ بخلافِ الأصلِ = وقدْ يَجِي المفعولُ قَبْلَ الفِعْلِ ([2])

الأصلُ أنْ يَلِيَ الفاعلُ الفعلَ مِن غيرِ أنْ يَفْصِلَ بينَه وبينَ الفعلِ فاصلٌ؛ لأنَّه كالجزءِ منه؛ ولذلك يُسَكَّنُ له آخِرُ الفعلِ إنْ كانَ ضميرَ مُتَكَلِّمٍ أو مُخَاطَبٍ، نحوُ: (ضَرَبْتُ وضَرَبْتَ)، وإنما سَكَّنُوه كراهةَ توالي أَرْبَعِ مُتَحَرِّكاتٍ، وهم إنما يَكْرَهُونَ ذلك في الكَلِمَةِ الواحدةِ؛ فدَلَّ ذلك على أنَّ الفاعلَ معَ فِعْلِه كالكَلِمَةِ الواحدةِ.
والأصلُ في المفعولِ أنْ يَنْفَصِلَ من الفعلِ بأنْ يَتَأَخَّرَ عن الفاعلِ، ويَجُوزُ تقديمُه على الفاعلِ إنْ خلا مما سَيَذْكُرُهُ، فتقولُ: (ضَرَبَ زيداً عمرٌو)، وهذا معنى قولِهِ: (وقدْ يُجَاءُ بخِلافِ الأصلِ).
وأشارَ بقولِهِ: (وقدْ يَجِي المفعولُ قبلَ الفعلِ) إلى أنَّ المفعولَ قد يَتَقَدَّمُ على الفعلِ، وتحتَ هذا قسمانِ:
أحدُهما: ما يَجِبُ تقديمُه، وذلك([3]) كما إذا كانَ المفعولُ اسمَ شرطٍ، نحوُ: (أيًّا تَضْرِبْ أَضْرِبْ)، أو اسمَ استفهامٍ، نحوُ: (أيَّ رَجُلٍ ضَرَبْتَ)؟ أو ضميراً منفصِلاً لو تَأَخَّرَ لَزِمَ اتِّصَالُه، نحوُ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ}، فلو أُخِّرَ المفعولُ لَزِمَ الاتصالُ، وكانَ يُقالُ: (نَعْبُدُكَ)، فيَجِبُ التقديمُ، بخلافِ قولِكَ: (الدِّرْهَمُ إيَّاهُ أَعْطَيْتُكَ)؛ فإنَّه لا يَجِبُ تقديمُ (إيَّاه)؛ لأنك لو أَخَّرْتَه لَجَازَ اتِّصَالُه وانفصالُه على ما تَقَدَّمَ في بابِ المُضْمَرَاتِ، فكُنْتَ تقولُ: (الدِّرْهَمُ أَعْطَيْتُكَهُ وأَعْطَيْتُكَ إِيَّاهُ).
والثاني: ما يَجُوزُ تقديمُه وتأخيرُه، نحوُ: (ضَرَبَ زيدٌ عَمْراً)، فتقولُ: (عَمراً ضَرَبَ زيدٌ)([4]).
وأَخِّرِ المَفْعُولَ إِنْ لَبْسٌ حُذِرْ = أو أُضْمِرَ الفَاعِلُ غَيْرَ مُنْحَصِرْ ([5])
يَجِبُ تقديمُ الفاعلِ على المفعولِ إذا خِيفَ الْتِبَاسُ أَحَدِهما بالآخَرِ؛ كما إذا خَفِيَ الإعرابُ فيهما ولم تُوجَدْ قَرينةٌ تُبَيِّنُ الفاعلَ مِن المفعولِ، وذلك نحوُ: (ضَرَبَ مُوسَى عِيسَى)، فيَجِبُ كونُ (موسى) فاعلاً و(عيسى) مفعولاً.
وهذا مَذْهَبُ الجمهورِ، وأجازَ بعضُهم تقديمَ المفعولِ في هذا ونحوِه، قالَ: لأنَّ العربَ لها غَرَضٌ فى الالتباسِ كما لها غَرَضٌ في التَّبْيِينِ([6]).


فإذا وُجِدَتْ قَرِينَةٌ تُبَيِّنُ الفاعلَ من المفعولِ جازَ تقديمُ المفعولِ وتأخيرُه، فتقولُ: (أَكَلَ مُوسَى الكُمَّثْرَى، وأَكَلَ الكُمَّثْرَى مُوسَى)([7])، وهذا معنى قولِه: (وَأَخِّرِ المَفْعُولَ إنْ لَبْسٌ حُذِرْ).
ومعنى قولِه: (أَوْ أُضْمِرَ الْفَاعِلُ غَيْرَ مُنْحَصِرْ) أنه يَجِبُ أيضاً تقديمُ الفاعلِ وتأخيرُ المفعولِ إذا كانَ الفاعلُ ضميراً غيرَ محصورٍ، نحوُ: (ضَرَبْتُ زَيْداً)، فإنْ كانَ ضميراً محصوراً وَجَبَ تأخيرُه، نحوُ: (ما ضَرَبَ زيداً إلاَّ أنا)([8]).
وما بِإِلاَّ أَوْ بِإِنَّمَا انْحَصَرْ = أَخِّرْ وَقَدْ يَسْبِقُ إِنْ قَصْدٌ ظَهَرْ ([9])
يقولُ: إذا انْحَصَرَ الفاعلُ أو المفعولُ بـ(إلا) أو بـ(إنما) وَجَبَ تأخيرُه، وقد يَتَقَدَّمُ المحصورُ من الفاعلِ أو المفعولِ على غيرِ المحصورِ إذا ظَهَرَ المحصورُ مِن غيرِه، وذلك كما إذا كانَ الحَصْرُ بـ(إلاَّ)، فأمَّا إذا كانَ الحَصْرُ بـ(إِنَّمَا) فإنَّه لا يَجُوزُ تقديمُ المحصورِ؛ إذ لا يَظْهَرُ كونُه محصوراً إلاَّ بتأخيرِه، بخلافِ المحصورِ بـ(إلاَّ)؛ فإنَّه يُعْرَفُ بكونِه واقعاً بعد (إلاَّ)، فلا فرقَ بينَ أنْ يَتَقَدَّمَ أو يَتَأَخَّرَ.
فمثالُ الفاعِلِ المحصورِ بـ(إنَّمَا) قولُكَ: (إنما ضَرَبَ عمراً زيدٌ)، ومثالُ المفعولِ المحصورِ بإنما: (إنما ضَرَبَ زيدٌ عمراً)، ومثالُ الفاعلِ المحصورِ بـ(إلاَّ): (ما ضَرَبَ عمراً إلا زيدٌ)، ومثالُ المفعولِ المحصورِ بإلاَّ: (ما ضَرَبَ زيدٌ إلا عَمراً)، ومثالُ تَقَدُّمِ الفاعلِ المحصورِ بـ(إلا) قولُكَ: (ما ضَرَبَ إلا عمرٌو زيداً)، ومنه قولُه:
147- فَلَمْ يَدْرِ إِلاَّ اللهُ مَا هَيَّجَتْ لَنَا = عَشِيَّةً انَاءُ الدِّيَارِ وَشَامُهَا ([10])
ومثالُ تَقْدِيمِ المفعولِ المحصورِ بإلاَّ قولُكَ: (ما ضَرَبَ إلا عَمْراً زيدٌ)، ومنه قولُه:
148- تَزَوَّدْتُ مِنْ لَيْلَى بِتَكْلِيمِ سَاعَةٍ = فَمَا زَادَ إِلاَّ ضِعْفَ مَا بِي كَلاَمُهَا ([11])
هذا معنى كلامِ المُصَنِّفِ.
واعْلَمْ أنَّ المحصورَ بـ(إنما) لا خِلافَ في أنه لا يَجُوزُ تقديمُه، وأمَّا المحصورُ بإلاَّ ففيه ثلاثةُ مَذَاهِبَ:
أَحَدُها: وهو مَذْهَبُ أكثرِ البَصْرِيِّينَ والفَرَّاءِ وابنِ الأَنْبَارِيِّ، أنه لا يَخْلُو إما أنْ يكونَ المحصورُ بها فاعلاً أو مفعولاً؛ فإنْ كانَ فاعلاً امْتَنَعَ تقديمُه؛ فلا يَجُوزُ: (ما ضَرَبَ إلاَّ زيدٌ عَمْراً)، فأمَّا قولُه: (فلم يَدْرِ إلاَّ اللهُ ما هَيَّجَتْ لنا)([12]) [147] فأُوِّلَ على أنَّ (ما هَيَّجَتْ) مفعولٌ بفعلٍ محذوفٍ، والتقديرُ: (دَرَى ما هَيَّجَتْ) لنا، فلم يَتَقَدَّمِ الفاعلُ المحصورُ على المفعولِ؛ لأنَّ هذا ليسَ مفعولاً للفعلِ المذكورِ، وإنْ كانَ المحصورُ مفعولاً جازَ تقديمُه، نحوُ: (ما ضَرَبَ إلا عمراً زيدٌ.)
الثاني: وهو مَذْهَبُ الكِسَائِيِّ، أنه يَجُوزُ تقديمُ المحصورِ بـ(إلا)، فاعلاً كانَ أو مفعولاً.
الثالثُ: وهو مَذْهَبُ بعضِ البَصْرِيِّينَ، واخْتَارَه الجزُولِيُّ والشَّلَوْبِينُ، أنه لا يَجُوزُ تقديمُ المحصورِ بإلاَّ فاعلاً كانَ أو مفعولاً.
وشاعَ نحوُ: (خَافَ رَبَّهُ عُمَرْ) = وشَذَّ نَحْوُ: (زانُ نَوْرُهُ الشَّجَرْ) ([13])
أي: شاعَ في لِسانِ العربِ تقديمُ المفعولِ المشتمِلِ على ضميرٍ يرجِعُ إلى الفاعلِ المتأخِّرِ([14])، وذلك نحوُ: (خافَ رَبَّهُ عُمَرُ)، فـ(ربَّه) مفعولٌ، وقد اشْتَمَلَ على ضميرٍ يَرْجِعُ إلى (عمرُ)، وهو الفاعلُ، وإنما جازَ ذلك وإنْ كانَ فيه عَوْدُ الضميرِ على متأخِّرٍ لَفْظاً؛ لأنَّ الفاعلَ مَنْوِيُّ التقديمِ على المفعولِ؛ لأنَّ الأصلَ في الفاعلِ أنْ يَتَّصِلَ بالفعلِ، فهو مُتَقَدِّمٌ رُتْبَةً، وإنْ تَأَخَّرَ لَفْظاً.
فلو اشْتَمَلَ المفعولُ على ضميرٍ يَرْجِعُ إلى ما اتَّصَلَ بالفاعلِ، فهل يَجُوزُ تقديمُ المفعولِ على الفاعلِ؟ في ذلك خِلافٌ، وذلك نحوُ: (ضَرَبَ غُلامَهَا جارُ هِنْدٍ)، فمَن أَجَازَهَا - وهو الصحيحُ - وَجَّهَ الجَوَازَ بأنه لَمَّا عادَ الضميرُ على ما اتَّصَلَ بما رُتْبَتُهُ التقديمُ، كانَ كَعَوْدِهِ على ما رُتْبَتُه التقديمُ؛ لأنَّ المتَّصِلَ بالمتقدِّمِ مُتَقَدِّمٌ.
وقولُه: (وشَذَّ... إلى آخِرِه)؛ أي: شَذَّ عَوْدُ الضميرِ مِن الفاعلِ المتقدِّمِ على المفعولِ المتأخِّرِ، وذلك نحوُ: (زانَ نَوْرُهُ الشجرَ) فالهاءُ المتَّصِلَةُ بنَوْرُ الذي هو الفاعلُ عائدةٌ على (الشَّجَرَ)، وهو المفعولُ، وإنما شَذَّ ذلك؛ لأنَّ فيه عَوْدَ الضميرِ على متأخِّرٍ لَفظاً ورُتْبَةً؛ لأنَّ (الشَّجَرَ) مفعولٌ، وهو مُتَأَخِّرٌ لَفظاً، والأصلُ فيه أنْ يَنْفَصِلَ عن الفعلِ، فهو متأخِّرٌ رُتْبَةً.
وهذه المسألةُ ممنوعةٌ عندَ جمهورِ النحْويِّينَ، وما وَرَدَ من ذلك تَأَوَّلُوهُ، وأَجَازَها أبو عبدِ اللهِ الطوالُ مِن الكُوفِيِّينَ، وأبو الفتحِ بنُ جِنِّيٍّ، وتَابَعَهما المصنِّفُ([15])، ومِمَّا وَرَدَ من ذلك قولُه:
149- لَمَّا رَأَى طَالِبُوهُ مُصْعَباً ذُعِرُوا = وكادَ لو سَاعَدَ المَقْدُورُ يَنْتَصِرُ ([16])

وقولُه:
150- كَسَا حِلْمُهُ ذَا الحِلْمِ أثوابَ سُؤْدَدٍ = ورَقَّى نَدَاهُ ذَا النَّدَى في ذُرَى المَجْدِ([17])
وقولُه:
151- ولوْ أَنَّ مَجْداً أَخْلَدَ الدَّهْرَ وَاحِداً = مِن الناسِ أَبْقَى مَجْدُهُ الدَّهْرَ مُطْعِمَا ([18])
وقولُه:
152- جَزَى رَبُّهُ عَنِّي عَدِيَّ بنَ حَاتِمٍ = جَزَاءَ الكِلابِ العاوياتِ وقدْ فَعَلْ ([19])
وقولُه:
153- جَزَى بَنُوهُ أَبَا الغِيلانِ عَنْ كِبَرٍ = وحُسْنِ فِعْلٍ كما يُجْزَى سِنِمَّارُ ([20])
فلو كانَ الضميرُ المُتَّصِلُ بالفاعلِ المتقدِّمِ عائداً على ما اتَّصَلَ بالمفعولِ المتأخِّرِ امْتَنَعَتِ المسألةُ، وذلك نحوُ: (ضَرَبَ بَعْلُها صاحبَ هِنْدٍ)، وقد نَقَلَ بعضُهم في هذه المسألةِ أيضاً خِلافاً، والحقُّ فيها المَنْعُ.


([1])(والأصلُ) مبتدأٌ،(في الفاعلِ) جَارٌّ ومَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بالأصلُ،(أنْ) مصدريَّةٌ،َتَّصِلاَ) فعلٌ مضارعٌ منصوبٌ بأنْ، والألِفُ للإطلاقِ، والفاعلُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جَوَازاً تَقْدِيرُهُ هو يعودُ على الفاعلِ، و(أنْ) ومَنْصُوبُها في تأويلِ مصدرٍ مرفوعٍ خبرِ المبتدأِ، (والأصلُ في المفعولِ أنْ يَنْفَصِلاَ) مثلُ الشَّطْرِ السابقِ تَماماً، وتقديرُ الكلامِ: والأصلُ في الفاعلِ اتِّصَالُه بالفعلِ، والأصلُ في المفعولِ انْفِصَالُه من الفعلِ بالفاعلِ.

([2])(وقد) حرفُ تقليلٍ، (يُجَاءُ) فعلٌ مضارعٌ مبنيٌّ للمجهولِ،(بخلافِ) جَارٌّ ومَجْرُورٌ في مَوْضِعِ نائبِ فاعلٍ لِيُجَاءُ، وخلافِ مضافٌ و(الأصلِ) مضافٌ إليه،(وقدْ) حرفُ تقليلٍ،َجِيءُ) فعلٌ مضارعٌ، (المفعولُ) فاعلُ يَجِيءُ، (قَبْلَ) ظرفٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ حالٍ مِن المفعولُ، وقبلَ مضافٌ و(الفعلِ) مضافٌ إليه.

([3])يَجِبُ تقديمُ المفعولِ به على الفعلِ العاملِ فيه في ثلاثةِ مواضِعَ، وقد ذَكَرَ الشارِحُ مَوْضِعَيْنِ منها من غيرِ ضَبْطٍ:
المَوْضِعُ الأوَّلُ: أنْ يكونَ المفعولُ واحداً مِن الأشياءِ التي يَجِبُ لها التصدُّرُ، وذلك بأنْ يكونَ اسمَ شرطٍ أو اسمَ استفهامٍ، أو يكونَ المفعولُ (كم) الخبريَّةَ، نحوُ: كم عَبِيدٍ مَلَكْتَ. أو مُضافاً إلى واحدٍ مما ذُكِرَ، نحوُ: غلامَ مَن تَضْرِبْ أَضْرِبْ، ونحوُ: غلامَ مَن ضَرَبْتَ؟ ونحوُ: مالَ كم رَجُلٍ غَصَبْتَ.
الموضِعُ الثاني: أنْ يكونَ المفعولُ ضميراً منفصلاً في غيرِ بابَِلْنِيهِ) و(خِلْتَنِيهِ) اللذيْن يجوزُ فيهما الفصلُ والوصلُ معَ التأخيرِ، نحوُ قولِهِ تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
المَوْضِعُ الثالِثُ: أنْ يكونَ العاملُ في المفعولِ وَاقِعاً في جوابِ (أمَّا)،وليسَ مَعَنا ما يَفْصِلُ بينَ (أمَّا) والفعلِ مِن معمولاتِه سِوَى هذا المفعولِ، سواءٌ أكانَتْ (أمَّا) مذكورةً في الكلامِ،نحوُ قولِهِ تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْأم كانَتْ مُقَدَّرَةً، نحوُ قولِه سُبْحَانَهُ: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}، فإنْ وُجِدَ ما يكونُ فاصلاً بينَ (أمَّا) والفعلِ سِوَى المفعولِ لم يَجِبْ تقديمُ المفعولِ على الفِعْلِ، نحوُ قولِكَ: أمَّا اليومَ فأَدِّ وَاجِبَكَ.
والسرُّ في ذلك أنَّ (أمَّا) يَجِبُ أنْ يُفْصَلَ بينَها وبينَ الفاءِ بمفردٍ، فلا يجوزُ أنْ تَقَعَ الفاءُ بعدَها مباشرةً، ولا أنْ يُفْصَلَ بينَها وبينَ الفاءِ بجملةٍ؛ كما سيأتي بَيَانُه في بابِها.

([4])بَقِيَتْ صورةٌ أُخْرَى، وهي أنه قد يَجِبُ تأخيرُ المفعولِ عن الفعلِ، وذلك في خمسةِ مَوَاضِعَ:
الأولى: أنْ يكونَ المفعولُ مَصْدراً مُؤَوَّلاً من أنَّ المُؤَكِّدَةِ ومَعْمُولَيْها؛مُخَفَّفَةً كانَتْ (أنَّ) أو مُشَدَّدَةً، نحوُ قولِكَ: عَرَفْتُ أنَّكَ فاضلٌ، ونحوُ قولِه تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُإلاَّ أنْ تَتَقَدَّمَ عليه (أمَّا)،نحوُ قولِكَ: أمَّا أَنَّكَ فاضلٌ فعَرَفْتُ.
المَوْضِعُ الثاني: أنْ يكونَ الفعلُالعاملُ فيه فِعْلَ تعجُّبٍ، نحوُ قولِكَ: ما أَحْسَنَ زَيْداً، وما أَكْرَمَ خَالِداً.
الموضِعُ الثالِثُ: أنْ يكونَ الفعلُ العاملُ فيه صِلَةً لحرفٍ مصدريٍّ ناصِبٍ ـ وذلك أنْ وكي ـ نحوُ قولِكَ: يُعْجِبُنِي أنْ تَضْرِبَ زَيْداً، ونحوُ قولِكَ: جِئْتُ كي أَضْرِبَ زَيْداً، فإنْ كانَ الحرفُ المصدريُّ غيرَ ناصبٍ لم يَجِبْ تأخيرُ المفعولِ عن العاملِ فيه، نحوُ قولِكَ: وَدِدْتُ لو تَضْرِبُ زَيْداً، يجوزُ أنْ تقولَ: وَدِدْتُ لَو زَيْداً تَضْرِبُ، ونحوُ قَوْلِكَ: يُعْجِبُنِي ما تَضْرِبُ زَيْداً، فيجوزُ أنْ تقولَ: يُعْجِبُنِي ما زَيْداً تَضْرِبُ.
المَوْضِعُ الرابِعُ: أنْ يكونَ الفعلُ العاملُ فيه مَجْزُوماً بجَازِمٍ ما، وذلك كقولِكَ: لم تَضْرِبْ زَيْداً، لا يجوزُ أنْ تقولَ: لم زَيْداً تَضْرِبْ. فإنْ قَدَّمْتَ المفعولَ على الجازِمِ؛ فقُلْتَ: زَيْداً لم تَضْرِبْ ـ جازَ.
الموضِعُ الخامِسُ: أنْ يكونَ الفعلُ العاملُ منصوباً بلن عندَ الجمهورِ، أو بإِذَنْ عندَ غيرِ الكِسَائِيِّ، نحوُ قولِكَ: لن أَضْرِبَ زَيْداً، ونحوُ قولِكَ: إذنْ أُكْرِمَ المُجْتَهِدَ، فلا يجوزُ أنْ تقولَ: لن زَيْداً أَضْرِبَ. كما لا يجوزُ عندَ الجمهورِ أنْ تقولَ: إِذَنِ المجتهدَ أُكْرِمَ، وأجازَالكِسَائِيُّ أنْ تقولَ: إِذَنِ المُجْتَهِدَ أُكْرِمَ.

([5])(وأَخِّرِ) فعلُ أمرٍ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وُجُوباً تَقْدِيرُهُ أنتَ،(المفعولَ) مفعولٌ به لأَخِّر، (إنْ) شَرْطِيَّةٌ، (لَبْسٌ) نائبُ فاعلٍ لفعلٍ محذوفٍ يُفَسِّرُهُ المذكورُ بعدَه، والجملةُمن الفعلِ المحذوفِ وفاعلِهِ في مَحَلِّ جزمٍ فعلُ الشرطِ، (حُذِرْ) فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمجهولِ، ونائبُ الفاعلِ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جَوَازاً تَقْدِيرُهُ هو يعودُ إلى لَبْسٌ، والجملةُ مِن حُذِر المذكورِ ونائبِ فاعلِه لا مَحَلَّ لها؛ تَفْسِيرِيَّةٌ،(أو) عاطفةٌ، (أُضْمِرَ) فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمجهولِ، (الفاعلُ) نائبُ فاعلِ أُضْمِرَ، (غَيْرَ) حالٌ مِن قولِه: الفاعلُ، وغيرَ مضافٌ و(مُنْحَصِرْ) مضافٌ إليه، مجرورٌ بالكسرةِ الظاهرةِ، وسُكِّنَ لأجلِ الوَقْفِ.

([6])الذي ذَكَرَ ذلك هو ابنُ الحَاجِّ، وقد أَخْطَأَ الجَادَّةَ؛ فإنَّ العربَ لا يُمْكِنُ أنْ يكونَ مِن أغراضِها الإلباسُ؛ إذ مِن شأنِ الإلباسِ أنْ يُفْهِمَ السامعَ غيرَ ما يُرِيدُ المتكلِّمُ، ولم تُوضَعِ اللغةُ إلا للإفهامِ، وما ذَكَرَه ابنُ الحاجِّ لِتَدْعِيمِ حُجَّتِهِ مِمَّا جاءَ عن العربِ كُلُّه ليسَ مِن الإلباسِ في شيءٍ، وإنما هو من بابِ الإجمالِ، فلمَّا الْتَبَسَ عليه الفرقُ بينَ الإلباسِ والإجمالِ لم يُفَرِّقْ بينَ حُكْمِهِما، والفرقُ بينَهما أنَّ الإجمالَ هو احتمالُ اللفظِ لمعنييْنِ أو أكثرَ،مِن غيرِ أنْ يَسْبِقَ أحدُ المعنييْنِ إلى ذِهْنِ السامِعِ، ألاَتَرَى أنكَ لو سَمِعْتَ كَلِمَةَ (عُمَيْرٍ) ـ بزِنَةِ التصغيرِ ـ لاحْتَمَلَ عِنْدَكَ أنْ يكونَ تصغيرَ عُمَرَ،كما يَحْتَمِلُ أنْ يكونَ تَصْغِيرَ عَمْرٍو، بدونِ أنْ يكونَ أَحَدُهما أَسْبَقَ إلى ذِهْنِكَ مِن الآخرِ، فأمَّا الإلباسُ فهو احتمالُ اللفظِ لمعنييْنِ أو أكثرَ معَ تَبَادُرِ غيرِ المقصودِ مِنهما إلى ذِهْنِ السامِعِ.
وذلك كما في المثالِ الذي ذَكَرَه الشارِحُ، ألاَ تَرَى أنك لو قلتَ:َرَبَ موسى عيسى) لاحْتَمَلَ هذا الكلامُ أنْ يكونَ موسى مضروباً، ولكنَّه يَسْبِقُ إلى ذِهْنِكَ أنه ضارِبٌ؛ بسببِ أنَّ الأصلَ أنْ يكونَ الفاعلُ وَالِياً لِفِعْلِهِ، ولا يُمْكِنُ أنْ يكونَ الإلباسُ مِن مقاصِدِ البُلَغَاءِ، فافْهَمْ ذلك وتَدَبَّرْهُ.

([7])قد تكونُ القرينةُ الدالَّةُ على الفاعلِ مَعْنَوِيَّةً، وقد تكونُ لفظيَّةً، فالقرينةُ المعنويَّةُ كما في مثالِ الشارِحِ، وكما في قولِكَ: أَرْضَعَتِ الصُّغْرَى الكُبْرَى؛ إذ لا يجوزُ أنْ يكونَ الإرضاعُ قد حَصَلَ مِن الصُّغْرَى للكُبْرَى، كما لا يجوزُ أنْ يكونَ مُوسَى مأكولاً والكُمَّثْرَى هي الآكِلَ.
والقرينةُ اللفظيَّةُ ثلاثةُ أنواعٍ:
الأوَّلُ: أنْ يكونَ لأحدِهِما تابعٌ ظَاهِرُ الإعرابِ؛ كقولِكَ: ضَرَبَ مُوسَى الظَّرِيفُ عِيسى، فإنَّ (الظَّرِيفُ) تابعٌ لموسى،فلو رُفِعَ كانَ موسى مرفوعاً، ولو نُصِبَ كانَ موسى مَنصوباً كذلك.
الثاني: أنْ يَتَّصِلَ بالسابقِ مِنهما ضميرٌ يعودُ على المتأخِّرِ، نحوُ قَوْلِكَ: ضَرَبَ فَتَاهُ مُوسَى، فهنا يَتَعَيَّنُ أنْ يكونَ (فتاه) مفعولاً؛إذ لو جَعَلْتَه فاعلاً وموسى مَفعولاً لعادَ الضميرُ على متأخِّرٍ لفظاً ورُتْبَةً، وهو لا يجوزُ، بخلافِ ما لو جَعَلْتَه مفعولاً؛فإنَّ الضميرَ حينَئذٍ عائدٌ على متأخِّرٍ لَفْظاً مُتَقَدِّمٍ رُتْبَةً،وهو جائزٌ.
الثالِثُ: أنْ يكونَ أَحَدُهما مُؤَنَّثاً وقد اتَّصَلَتْ بالفعلِ علامةُ التأنيثِ، وذلك كقَوْلِكَ: ضَرَبَتْ مُوسَى سَلْمَى؛ فإنَّ اقترانَ التاءِ بالفِعْلِ دالٌّ على أنَّ الفاعلَ مُؤَنَّثٌ، فتَأَخُّرُهُ حينَئذٍ عن المفعولِ لا يَضُرُّ.

([8])ومن ذلك قولُ عَمْرِو بنِ مَعْدِ يَكْرِبَ،وأَنْشَدْنَاهُ في مباحثِ الضميرِ:
قَدْ عَلِمَتْ سَلْمَى وَجَارَاتُهَا = ما قَطَّرَ الفارِسَ إلاَّ أنا

([9])(وما) اسمٌ موصولٌ: مفعولٌ مُقَدَّمٌ لأَخِّرْ، (بإِلاَّ) جَارٌّ ومَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بانْحَصَر الآتي،(أو) عاطفةٌ، (بإِنَّمَا) جَارٌّ ومَجْرُورٌ معطوفٌ على (بإِلاَّ(انْحَصَرْ) فِعْلٌ ماضٍ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جَوَازاً تَقْدِيرُهُ هو يعودُ إلى ما الموصولةِ، والجملةُ من الفعلِ وفاعلِه لا مَحَلَّ لها صِلَةُ ما الموصولةِ، (أَخِّرْ) فعلُ أمرٍ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وُجُوباً تَقْدِيرُهُ أنتَ،(وقد) حرفٌ دالٌّ على التقليلِ، (يَسْبِقُ) فعلٌ مضارِعٌ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جَوَازاً تَقْدِيرُهُ هو يعودُ على ما،(إنْ) شرطيَّةٌ،َصْدٌ) فاعلٌ لفعلٍ محذوفٍ يُفَسِّرُهُ ما بعدَه، والتقديرُ: إنْ ظَهَرَ قَصْدٌ، والجملةُمِن الفعلِ المحذوفِ وفاعلِه فعلُ الشرطِ،َهَرْ) فِعْلٌ ماضٍ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جَوَازاً تَقْدِيرُهُ هو يعودُ إلى قَصْدٌ، والجملةُ مِن ظَهَر المذكورِ وفاعلِه لا مَحَلَّ لها؛تَفْسِيرِيَّةٌ، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ يَدُلُّ عليه سابقُ الكلامِ.

([10])هذا البيتُ مِن الشواهدِ التي لم يَنْسُبْها أحدٌ مِمَّن احْتَجَّ به مِن أَئِمَّةِ النحوِ، وهو من شواهدِ سِيبَوَيْهِ (1/ 270)،وقد عَثَرْتُ بعدَ طَويلِ البحثِ على أنه مِن قَصِيدَةٍ طويلةٍ لذي الرُّمَّةِ غَيْلاَنَ بنِ عُقْبَةَ، وأَوَّلُها قولُه:
مَرَرْنَا عَلَى دَارٍ لِمَيَّةَ مَرَّةً = وَجَارَاتِهَا قد كادَ يَعْفُو مُقَامُهَا
وبعدَه بيتُ الشاهِدِ، ثمَّ بعدَه قولُه:
وقدْ زَوَّدَتْ مَيٌّ على النَّأْيِ قَلْبَهُ = عَلاقاتِ حاجاتٍ طَوِيلٌ سَقَامُهَا
فأَصْبَحْتُ كالهَيْمَاءِ لا الماءُ مُبْرِدٌ = صَدَاهَا ولا يَقْضِي عَلَيْهَا هُيَامُهَا
اللغةُ: (آناءُ) من الناسِ مَن يَرْوُونَهُ بهمزةٍ ممدودةٍ؛ كآبارٍ وآرَامٍ، ومِنهم مَن يَرْوِيهِ بهمزةٍ في أَوَّلِهِ غيرَ ممدودةٍ وهمزةٍ بعدَ النونِ ممدودةٍِ بوزنِ أعمالٍ، وقد جَعَلَه العَيْنِيُّ جمعَ نَأْيٍ ـ بفتحِ النونِ ـ ومعناه البُعْدُ، وعندي أنه جمعُ نؤيٍ ـ بزِنَةِ قُفْلٍ أو صُرَدٍ أو ذِئْبٍ أو كَلْبٍ ـ وهو الحَفِيرَةُ تُحْفَرُ حولَ الخِبَاءِ لِتَمْنَعَ عنه المطرَ. ويجوزُ أنْ تكونَ الهمزةُ في أَوَّلِه ممدودةً على أنه قَدَّمَ الهمزةَ التي هي العينُ على النونِ،فاجْتَمَعَ في الجمعِ همزتانِ متجاوِرَتانِ.
وثانِيَتُهُما ساكنةٌ، فقَلَبَها ألفاً من جِنْسِ حركةِ الأُولَى،كما فَعَلُوا بآبارٍ وآرامٍ جَمْعِ بِئْرٍ، ورِئْمٍ، كما يجوزُ أنْ تكونَ المَدَّةُ في الهمزةِ الثانيةِ على الأصلِ، وقد جَعَلَه الشيخُ خالدٌ بكسرِ الهمزةِ الأولى على أنه مصدرٌ بزِنَةِ الإبعادِ ومعناه، وهو بعيدٌ؛فلا تَلْتَفِتْ إليه.
َشَامُهَا) ضَبَطَه غيرُ واحدٍ بكسرِ الواوِ بِزِنَةِ جِبَالٍ على أنه جَمْعُ وَشْمٍ، وهو ما تَجْعَلُه المرأةُ على ذِرَاعِها ونحوِه: تَغْرِزُ ذِرَاعَها بالإبرةِ ثمَّ تَحْشُوهُ بدُخَانِ الشَّحْمِ، وليسَ ذلك بصوابٍ أصلاً، وقد تَحَرَّفَ الكلامُ عليهم فانْطَلَقُوا يُخَرِّجُونَه ويَتَمَحَّلُونَ له، والواوُ مفتوحةٌ، وهي واوُ العطفِ، والشامُ: جمعُ شامةٍ، وهي العلامةُ، وَشَامُ: معطوفٌ إما على (آنَاءُ) وإما على (عَشِيَّةً) على ما سَنُبَيِّنُه لك في الإعرابِ،هذا وروايةُ الديوانِ هكذا:
فلم يَدْرِ إلاَّ اللهُ ما هَيَّجَتْ لَنَا = أَهِلَّةُ آناءِ الدِّيَارِ وَشَامُهَا
المعنى: لا يَعْلَمُ إلاَّ اللهُ تعالى مِقْدَارَما هَيَّجَتْهُ فينا مِن كَوَامِنِ الشوْقِ هذه العَشِيَّةُ التي قَضَيْنَاها بجوارِ آثارِدارِ المحبوبةِ، وعلاماتِ هذه الدارِ.
الإعرابُ: (فلم) الفاءُ حرفُ عطفٍ، لم: حرفُ نفيٍ وجزمٍ وقلبٍ، (يَدْرِ) فعلٌ مضارعٌ مجزومٌ بلم،وعلامةُ جزمِه حذفُ الياءِ، (إلاَّ) أداةُ استثناءٍ مُلْغَاةٌ، (اللهُ) فاعلُ يَدْرِي،(ما) اسمٌ موصولٌ مفعولٌ به لِيَدْرِي، وجملةَُيَّجَتْ) معَ فاعلِه الآتي لا مَحَلَّ لها؛صِلَةُ الموصولِ، (لَنَا) جَارٌّ ومَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بهَيَّجَتْ،َشِيَّةُ) يجوزُ أنْ يكونَ فاعلاً لِهَيَّجَتْ، وعَشِيَّةُ مضافٌ و(آناءِ) مضافٌ إليه، وآناءِ مضافٌ و(الديارِ) مضافٌ إليه،َشَامُهَا) الواوُ حرفُ عطفٍ، وشامُ: معطوفٌ على عَشِيَّةُ إنْ جَعَلْتَه فاعلَ هَيَّجَتْ، وشامُ مضافٌ وضميرُ الغائبةِ العائدُ على الدِّيَارِ مضافٌ إليه، ولا تَلْتَفِتْ لغيرِ هذا من أعاريبَ، ويجوزُ نَصْبُ عَشِيَّةً على الظرفيَّةِ، ويكونُ (آناءُ) فاعلاً لِهَيَّجَتْ، ويكونُ قد حَذَفَ تنوينَ عَشِيَّةَ للضرورةِ، أو أَلْقَى حركةَ الهمزةِ مِن آناءُ على تنوينِ عَشِيَّةً ثمَّ حَذَفَ الهمزةَ، ويكونَُامُهَا) معطوفاً على آناءُ الديارِ.
الشاهدُ فيه: قولُه: (فَلَمْ يَدْرِ إلاَّ اللهُ ما...إلخ)؛حيثُ قَدَّمَ الفاعلَ المحصورَ بإلاَّ، على المفعولِ، وقد ذَهَبَ الكِسَائِيُّ إلى تجويزِ ذلك؛استشهاداً بمثلِ هذا البيتِ.
والجمهورُ على أنه ممنوعٌ، وعندَهم أن (ما) اسمٌ موصولٌ مفعولٌ به لفعلٍ محذوفٍ، والتقديرُ: فلم يَدْرِ إلاَّ اللهُ دَرَى ما هَيَّجَتْ لنا، وسَيَذْكُرُ ذلك الشارِحُ.

([11]) نَسَبَ كثيرٌ مِن العلماءِ هذا البيتَ لمجنونِ بني عامرٍ قَيْسِ بنِ المُلَوَّحِ، ولم أَعْثُرْ عليه في دِيوَانِهِ، ولعلَّ السرَّ في نِسْبَتِهِم البيتَ له ذِكْرُ (لَيْلَى) فيه.
الإعرابُ: (تَزَوَّدْتُ) فِعْلٌ ماضٍ وفاعلٌ، (مِن لَيْلَى بِتَكْلِيمِ) مُتَعَلِّقَانِ بِتَزَوَّدَ، وتكليمِ مضافٌ و(ساعةٍ) مضافٌ إليه،(فما) نافيةٌ، (زادَ) فِعْلٌ ماضٍ، (إلاَّ) أداةُ استثناءٍ مُلْغَاةٌ، (ضِعْفَ) مفعولٌ به لِزَادَ، وضِعْفَ مضافٌ و(ما) اسمٌ موصولٌ مضافٌ إليه،ِي) جَارٌّ ومَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ صلةُ الموصولِ،َلاَمُهَا) كلامُ: فاعلُ زَادَ، وكلامُ مضافٌ، وضميرُ الغائبةِ العائدُ إلى لَيْلَى مضافٌ إليه.
الشاهدُ فيه: قولُه: (فما زادَ إلاَّ ضِعْفَ ما بِي كلامُها)؛حيثُ قَدَّمَ المفعولَ به، وهو قولُه: (ضِعْفَ)،على الفاعلِ، وهو قولُه: (كلامُها)،معَ كونِ المفعولِ مُنْحَصِراً بإلاَّ، وهذا جائزٌ عندَ الكِسَائِيِّ وأكثرِ البَصْرِيِّينَ، وبَقِيَّةُ البَصْرِيِّينَ يَتَأَوَّلُونَ ذلك البيتَ ونحوَه بأنَّ في (زادَ) ضميراً مُسْتَتِراً يعودُ على تكليمِ ساعةٍ، وهو فاعلُه،وقولُه: (كلامُها) فاعلٌ بفعلٍ محذوفٍ، والتقديرُ: زَادَه كلامُها. وهو تأويلٌ مُسْتَبْعَدٌ، ولا مُقْتَضَى له.

([12])قَدَّمْنَا ذِكْرَ الكلامِ على هذا الشاهِدِ، وهو الشاهِدُ رَقْمُ 147.

([13])(وشاعَ) فِعْلٌ ماضٍ،(نحوُ) فاعلُ شاعَ، (خافَ) فِعْلٌ ماضٍ،َبَّهُ) رَبَّ: منصوبٌ على التعظيمِ، وربَّ مضافٌ وضميرُ الغائبِ العائدُ إلى عُمَر المتأخِّرِ لَفْظاً: مضافٌ إليه،ُمَرْ) فاعلُ خافَ، والجملةُ مِن خافَ وفاعلِه ومفعولِه في مَحَلِّ جرٍّ بإضافةِ نحوُ إليها،(وشَذَّ) فِعْلٌ ماضٍ،(نحوُ) فاعلُ شَذَّ، (زَانَ) فِعْلٌ ماضٍ،َوْرُهُ) نَوْرُ: فاعلُ زانَ، ونَوْرُ مضافٌ وضميرُ الغائبِ العائدُ إلى الشجرِ المتأخِّرِ لفظاً ورُتْبَةً مضافٌ إليه،(الشَّجَرْ) مفعولٌ به لِزَانَ، وجملةُ زَانَ وفاعلِه ومفعولِه في مَحَلِّ جرٍّ بإضافةِ نحوُ إليها، والمرادُ بنحوِ: (خافَ رَبَّهُ عُمَرُ): كلُّ كلامٍ اتَّصَلَ فيه ضميرُ الفاعلِ المتأخِّرِ بالمفعولِ المتقدِّمِ، والمرادُ بنحوِ: (زانَ نَوْرُهُ الشَّجَرَ): كلُّ كلامٍ اتَّصَلَ فيه ضميرُ المفعولِ المتأخِّرِ بالفاعلِ المتقدِّمِ.

([14])من ذلك قولُ الأَعْشَى مَيْمُونٍ:
كَنَاطِحٍ صَخْرَةً يَوْماً لِيُوهِنَهَا = فلم يَضِرْهَا وأَوْهَى قَرْنَهُ الوَعِلُ

([15])ذَهَبَ إلى هذا الأخفشُأيضاًً، وابنُ جِنِّيٍّ تابعٌ فيه له، وقد أَيَّدَهُما في ذلك المُحَقِّقُ الرَّضِيُّ، قالَ: (والأَوْلَى تَجْوِيزُ ما ذَهَبَا إليه، ولكِنْ على قِلَّةٍ، وليسَ للبَصْرِيَّةِ مَنْعُه معَ قولِهم في بابِ التنازُعِ بما قالُوا). اهـ. وهو يُشِيرُ إلى رَأْيِ البَصْرِيِّينَ في التنازُعِ مِن تَجْوِيزِهِم إعمالَ العاملِ الثاني المتأخِّرِ في لفظِ المعمولِ، وإعمالَ المتقدِّمِ من العامليْنِ في ضَمِيرِهِ؛ إذ فيه عَوْدُ الضميرِ على المتأخِّرِ.

([16])البيتُ لأحدِ أصحابِ مُصْعَبِ بنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما يَرْثِيهِ.
اللغةُ: (طَالِبُوهُ) الذين قَصَدُوا قِتَالَه،ُعِرُوا) أَخَذَهُمُ الخوفُ،(كادَ يَنْتَصِرُ)؛لأنَّ خَوْفَهم منه أَعْظَمُ وسيلةٍ لانتصارِه عليهم، وهو مأخوذٌ مِن قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ)).
الإعرابُ: (لَمَّا) ظرفٌ بمعنى حِينَ مَبْنِيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ نَصْبٍ بذُعِرَ الآتي،َأَى) فِعْلٌ ماضٍ،َالِبُوهُ) طَالِبُو: فاعلُ رَأَى، وطَالِبُو مضافٌ والضميرُ العائدُ إلى مُصْعَبٍ مضافٌ إليه، والجملةُ مِن رَأَى وفاعلِه في مَحَلِّ جرٍّ بإضافةِ لَمَّا الظرفيَّةِ إليها،ُصْعَباً) مفعولٌ به لِرَأَى،ُعِرُوا) فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمجهولِ،ونائبُ فاعلٍ، (وكادَ) فِعْلٌ ماضٍ ناقصٌ، واسْمُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جَوَازاً تَقْدِيرُهُ هو يعودُ إلى مُصْعَبٍ، (لو) شرطيَّةٌ غيرُ جازمةٍ، (سَاعَدَ المَقْدُورُ) فعلٌ وفاعلٌ، وهو شَرْطُ لو،َنْتَصِرُ) فعلٌ مضارعٌ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جَوَازاً تَقْدِيرُهُ هو يعودُ إلى مُصْعَبٍ، والجملةُ مِن يَنْتَصِرُ وفاعلِه في مَحَلِّ نَصْبٍ خبرُكادَ،وجوابُ لو محذوفٌ يَدُلُّ عليه خبرُ كادَ، وجملةُ الشرطِ والجوابِ لا مَحَلَّ لها؛اعتراضيَّةٌ بينَ كادَ واسمِها وبينَ خَبَرِها.
الشاهدُ فيه: قولُه:َأَى طَالِبُوهُ مُصْعَباً)؛حيثُ أَخَّرَ المفعولَ عن الفاعِلِ، معَ أنَّ معَ الفاعلِ ضَمِيراً يعودُ على المفعولِ، فعادَ الضميرُ على متأخِّرٍ لَفْظاً ورُتْبَةً، ومِن شواهدِ هذه المسألةِ ـ مِمَّا لم يَذْكُرْهُ الشارِحُ ـ قولُ الشاعِرِ:
لَمَّا عَصَى أَصْحَابُهُ مُصْعَباً = أَدَّى إِلَيْهِ الكَيْلَ صَاعاً بِصَاعْ
وقولُ الآخَرِ:
أَلاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ يَلُومَنَّ قَوْمُهُ = زُهَيْراً على ما جَرَّ مِن كُلِّ جَانِبِ
وسَنُنْشِدُ في شَرْحِ الشاهِدِ رَقْمِ 153 الآتي بعضَ شواهِدَ لهذه المسألةِ، ونَذْكُرُ لكَ ما نُرَجِّحُهُ من أقوالِ العلماءِ.

([17]) البيتُ مِن الشواهِدِ التي لا يُعْلَمُ قائِلُها.
اللغةُ: (كَسَا) فعلٌ يَتَعَدَّى إلى مفعوليْنِ ليسَ أَصْلُهما المبتدأَ والخبرَ، تقولُ: كَسَوْتُ مُحَمَّداً جُبَّةً، كما تقولُ: أَلْبَسْتُ عَلِيًّا قَمِيصاً،ِلْمُهُ) الحِلْمُ: الأَنَاةُ والعقلُ، وهو أيضاًً تأخيرُ العقوبةِ وعَدَمُ المعاجلةِ فيها،ُؤْدَدٍِ) هو السيادةُ، (وَرَقَّى) بتضعيفِ القافِ: أصلُ معناه؛ جَعْلُه يَرْقَى؛ أي: يَصْعَدُ، والمِرْقَاةُ: السُّلَّمُ الذي به تَصْعَدُ مِن أسفلَ إلى أعلى، والمرادُ رَفَعَه وأَعْلَى مَنْزِلَتَه مِن بينِ نُظَرَائِهِ، (النَّدَى) المرادُ به الجُودُ والكَرَمُ، (ذُرَى) بضمِّ الذالِ: جمعُ ذِرْوَةٍ، وهي أعلى الشيءِ.
الإعرابُ: (كَسَا) فِعْلٌ ماضٍ،ِلْمُهُ) حِلْمُ: فاعلُ كَسَا، وحلمُ مضافٌ والضميرُ مضافٌ إليه،(ذا الحِلْمِ) ذا: مفعولٌ أوَّلُ لِكَسَا، وذا مضافٌ والحِلْمِ مضافٌ إليه،َثْوَابَ سُؤْدَدٍ) أثوابَ: مفعولٌ ثانٍ لِكَسَا، وأثوابَ مُضافٌ وسُؤْدَدٍ مضافٌ إليه،َرَقَّى) فِعْلٌ ماضٍ،َدَاهُ) فاعلٌ ومضافٌ إليه،(ذا النَّدَى) مفعولٌ به ومضافٌ إليه،(في ذُرَى) جَارٌّ ومَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بِرَقَّى، وذُرَى مضافٌ و(المَجْدِ) مضافٌ إليه.
الشاهدُ فيه: قولُه: (كَسَا حِلْمُهُ ذا الحِلْمِ... ورَقَّى نَدَاهُ ذَا النَّدَى)؛فإنَّ المفعولَ فيهما مُتَأَخِّرٌ عن الفاعلِ،معَ أنَّ الفاعلَ مضافٌ إلى ضميرٍ يعودُ على المفعولِ، فيكونُ فيه إعادةُ الضميرِ على متأخِّرٍ في اللفظِ والرتبةِ جميعاً، وذلك لا يجوزُ عندَ جُمْهُورِ البَصْرِيِّينَ، خِلافاً لابنِ جِنِّيٍّ ـ تَبَعاً للأخفشِ، وللرَّضِيِّ، وابنِ مالكٍ في بعضِ كُتُبِهِ.
كذا قالُوا، ونحنُ نَرَى أنه لا يَبْعُدُ ـ في هذا البيتِ ـ أنْ يكونَ الضميرُ في (حِلْمُهُ ونَدَاهُ) عائداً على ممدوحٍ ذُكِرَ في أبياتٍ تَقَدَّمَتِ البيتَ الشاهدَ، فيكونُ المعنى: أنَّّ حِلْمَ هذا الممدوحِ هو الذي أَثَّرَ فيمَن تَرَاهُمْ مِن أصحابِ الحِلْمِ، إذا ائْتَسَوْا به وجَعَلُوه قُدْوَةً لهم، واسْتَمَرَّ تأثيرُه فيهم حتى بَلَغُوا الغايةَ من هذه الصفةِ، وأنَّ نَدَى هذا الممدوحِ أَثَّرَ كذلك فيمَن تَرَاهُم من أصحابِ الجُودِ، فافْهَمْ وأَنْصِفْ.
وشواهِدُ المسألةِ كثيرةٌ، فليسَ بضَائِرٍ أنْ يَبْطُلَ الاستدلالُ بواحدٍ مِنها.

([18]) البيتُ لشاعرِ الأنصارِ سَيِّدِنَا حَسَّانَ بنِ ثَابِتٍ، يَرْثِي مُطْعِمَ بنَ عَدِيِّ بنِ نَوْفَلِ بنِ عَبْدِ مَنَافِ بنِ قُصَيٍّ، أحدَ أجوادِ مَكَّةَ، وأَوَّلُ هذه القصيدةِ قولُه:
أَعَيْنِ أَلاَ ابْكِي سَيِّدَ النَّاسِ وَاسْفَحِي = بِدَمْعٍ فإِنْ أَنْزَفْتِهِ فَاسْكُبِي الدَّمَا
اللغةُ: (أَعَيْنِ) أراد:َ يا عَيْنِي، فحَذَفَ ياءَ المتكلِّمِ اكتفاءً بالكسرةِ التي قبلَها،(اسْفَحِي) أَسِيلِي وصُبِّي،َنْزَفْتِهِ) أَنْفَذْتِ دَمْعَكِ فلم يَبْقَ منه شيءٌ، (أَخْلَدَ) كَتَبَ له الخُلُودَ، ودوامَ البقاءِ.
المعنى: يريدُ أنه لا بَقَاءَ لأحدٍ في هذه الحياةِ مهما يَكُنْ نافعاً لمجموعِ البشرِ.
الإعرابُ: (لو) شرطيَّةٌ غيرُ جازمةٍ، (أنَّ) حرفُ توكيدٍ ونصبٍ، (مَجْداً) اسمُ أنَّ، وجملةَُخْلَدَ) معَ فاعلِه المُسْتَتِرِ فيه في مَحَلِّ رفعٍ خبرُ أنَّ، وأنَّ معَ ما دَخَلَتْ عليه في تأويلِ مصدرٍ مرفوعٍ على أنه فاعلٌ لِفِعْلٍ محذوفٍ، والتقديرُ: لو ثَبَتَ إِخْلاَدُ مَجْدٍ صَاحِبَه، وهذا الفعلُ هو فعلُ الشرطِ، (الدَّهْرَ) منصوبٌ على الظرفيَّةِ الزَّمَانِيَّةِ، وعاملُه أَخْلَدَ، (وَاحِداً) مفعولٌ به لأَخْلَدَ،(من الناسِ) جَارٌّ ومَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ صِفَةٌ لواحدٍ،(أَبْقَى) فِعْلٌ ماضٍ،َجْدُهُ) مَجْدُ: فاعلُ أَبْقَى، ومَجْدُ مضافٌ وضميرُ الغائبِ العائدُ إلى مُطْعِمٍ المُتَأَخِّرِ مضافٌ إليه، والجملةُ مِن أَبْقَى وفاعلِه ومفعولِه لا مَحَلَّ لها من الإعرابِ؛جوابُ (لو)،ُطْعِمَا) مفعولٌ به لأَبْقَى.
الشاهدُ فيه: قولُه: (أَبْقَى مَجْدُهُ مُطْعِمَا)؛حيثُ أَخَّرَ المفعولَ ـ وهو قولُه: مُطْعِمَا ـ عن الفاعلِ، وهو قولُه: (مَجْدُهُ)،معَ أنَّ الفاعلَ مضافٌ إلى ضميرٍ يعودُ على المفعولِ، فيَقْتَضِي أنْ يَرْجِعَ الضميرُ إلى مُتَأَخِّرٍ لَفْظاً ورُتْبَةً.

([19]) البيتُ لأبي الأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ، يَهْجُو عَدِيَّ بنَ حَاتِمٍ الطَّائِيَّ، وقد نَسَبَه ابنُ جِنِّيٍّ إلى النابغةِ الذُّبْيَانِيِّ، وهو انتقالُ ذِهْنٍ من أبي الفتحِ، وسَبَبُه أنَّ للنابغةِ الذُّبيانِيِّ قصيدةً على هذا الرَّوِيِّ.
اللغةُ: (جَزَاءَ الكِلاَبِ العَاوِيَاتِ) هذا مَصْدَرٌ تَشْبِيهِيٌّ، والمعنى: جزاهُ اللهُ جزاءً مثلَ جزاءِ الكلابِ العاوياتِ، ويُرْوَى: (الكلابِ العادياتِ) بالدالِ بِدَالَ الواوِ ـ وهو جمعُ عَادٍ، والعادي: اسمُ فاعلٍ مِن عَدَا يَعْدُو، إذا ظَلَمَ وتَجَاوَزَ قَدْرَه،(وقد فَعَلْ) يريدُ أنه تعالى اسْتَجَابَ فيه دُعَاءَهُ، وحَقَّقَ فيه رَجَاءَهُ.
المعنى: يَدْعُو على عَدِيِّ بنِ حَاتِمٍ بأنْ يَجْزِيَهُ اللهُ جَزَاءَ الكِلابِ، وهو أنْ يَطْرُدَهُ الناسُ ويَنْبِذُوهُ ويَقْذِفُوه بالأحجارِ، ثمَّ يقولُ: إنه سُبْحَانَهُ قد اسْتَجَابَ دعاءَه عليه.
الإعرابُ: (جَزَى) فِعْلٌ ماضٍ،(ربُّه) فاعلٌ ومضافٌ إليه،َنِّي) جَارٌّ ومَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بجَزَى،َدِيَّ) مفعولٌ به لِجَزَى،(ابنَ) صفةٌ لِعَدِيَّ، وابنَ مضافٌ و(حاتمٍ) مضافٌ إليه،َزَاءَ) مفعولٌ مُطْلَقٌ مُبَيِّنٌ لنوعِ عاملِه،وهو جَزَى، وجزاءَ مضافٌ و(الكلابِ) مضافٌ إليه، (العَاوِيَاتِ) صفةٌ لِلكلابِ،(وقد) الواوُ للحالِ، قد: حَرْفُ تَحْقِيقٍ، (فَعَلْ) فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الفتحِ لا مَحَلَّ له، وسُكِّنَ لأجلِ الوقفِ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جَوَازاً تَقْدِيرُهُ هو يعودُ على رَبُّهُ، والجملةُ في مَحَلِّ نصبٍ حالٌ.
الشاهدُ فيه: قولُه:َزَى رَبُّهُ...عَدِيَّ) حيثُ أَخَّرَ المفعولَ، وهو قولُه: (عَدِيَّ)، وقَدَّمَ الفاعلَ، وهو قولُه: (رَبُّهُ) معَ اتصالِ الفاعلِ بضميرٍ يعودُ على المفعولِ.

([20])نَسَبُوا هذا البيتَ لِسليطِ بنِ سَعْدٍ، ولم أَقِفْ له على سابقٍ أو لاحِقٍ.
اللغةُ: (أَبَا الغِيلانِ) كُنْيَةٌ لرَجُلٍ لم أَقِفْ على تعريفٍ له، (سِنِمَّارُ) بكسرِ السينِ والنونِ بعدَهما ميمٌ مُشَدَّدَةٌ: اسمُ رجلٍ رُومِيٍّ، يقالُ: إنه الذي بَنَى الخَوَرْنَقَ ـ وهو القصرُ الذي كانَ بظاهرِ الكُوفَةِ ـ للنُّعمانِ بنِ امْرِئِ الْقَيْسِ مَلِكِ الحِيرَةِ، وإنه لَمَّا فَرَغَ مِن بِنائِه أَلْقَاهُ النُّعْمَانُ مِن أعلى القصرِ؛ لئلاَّ يَعْمَلَ مثلَه لِغَيْرِه، فَخَرَّ مَيِّتاً، وقد ضَرَبَتْ به العربُ المَثَلَ في سُوءِ المُكَافَأَةِ، يقولونَ: (جَزَانِي جَزَاءَ سِنِمَّارَ) قالَ الشاعرُ:
جَزَتْنَا بَنُو سَعْدٍ بِحُسْنِ فِعَالِنَا = جَزَاءَ سِنِمَّارٍ وما كانَ ذَا ذَنْبِ
(انْظُرِ المَثَلَ رَقْمَ 828 في مَجْمَعِ الأمثالِ 1 / 159 بتحقيقِنا).
الإعرابُ: (جَزَى) فِعْلٌ ماضٍ،َنُوهُ) فاعلٌ ومضافٌ إليه،َبَا الغِيلانِ) مفعولٌ به ومضافٌ إليه،(عن كِبَرٍ) جَارٌّ ومَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بِجَزَى،(وحُسْنِ فِعْلٍ) الواوُ عاطفةٌ، وحُسْنِ: معطوفٌ على كِبَرٍ، وحُسْنِ مضافٌ وفِعْلٍ: مضافٌ إليه،(كما) الكافُ للتشبيهِ، و(ما) مصدريَّةٌ، (يُجْزَى) فعلٌ مضارِعٌ مبنيٌّ للمجهولِ، (سِنِمَّارُ) نائبُ فاعلِ يُجْزَى، و(ما) ومَدْخُولُها في تأويلِ مصدرٍ مجرورٍ بالكافِ، والجارُّ والمجرورُ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ صفةٍ لِمَوْصُوفٍ محذوفٍ يَقَعُ مفعولاً مُطْلَقاً مُبَيِّناً لِنَوْعَِزَى)،وتقديرُ الكلامِ: جَزَى بَنُوهُ أبا الغيلانِ جَزَاءً مُشَابِهاً لِجَزَاءِ سِنِمَّارَ.
الشاهِدُ فيه: قولُه: (جَزَى بَنُوهُ أَبَا الغِيلانِحيثُ أَخَّرَ المفعولَ، وهو قولُه:َبَا الغِيلاَنِ) عن الفاعلِ، وهو قولُه:َنُوُه)،معَ أنَّ الفاعلَ مُتَّصِلٌ بضميرٍ عائدٍ على المفعولِ.
هذا، ومن شواهدِ هذه المسألةِ مِمَّا لم يُنْشِدْهُ الشارِحُ ـ زيادةً على ما ذَكَرْنَاهُ في شرحِ الشاهدِ رَقْمِ 149 ـ قولُ الشاعِرِ:
وما نَفَعَتْ أَعْمَالُهُ الْمَرْءَ رَاجِياً = جزاءً عليها مِن سِوَى مَن له الأمرُ
حيثُ قَدَّمَ الفاعلَ ـ وهو قولُه: (أَعْمَالُهُ) ـ على المفعولِ، وهو قولُه (المَرْءَ)،معَ أنه قد اتَّصَلَ بالفاعلِ ضميرٌ يعودُ إلى المفعولِ، فجملةُ ما أَنْشَدَهُ الشارِحُ وأَنْشَدْنَاهُ لهذه المسألةِ ثمانِيَةُ شَوَاهِدَ.
ولكثرةِ شَوَاهِدِ هذه المسألةِ نَرَى أنَّ ما ذَهَبَ إليه الأخفشُ ـ وتابَعَه عليه أبو الفتحِ بنُ جِنِّيٍّ، والإمامُ عبدُ القاهرِ الجُرْجَانِيُّ، وأبو عبدِ اللهِ الطوالُ، وابنُ مَالِكٍ، والمُحَقِّقُ الرَّضِيُّ ـ مِن جوازِ تقديمِ الفاعلِ المتَّصِلِ بضميرٍ يعودُ إلى المفعولِ، وهو القولُ الخَلِيقُ بأنْ تَأْخُذَ به وتَعْتَمِدَ عليه، ونَرَى أنَّ الإنصافَ واتِّبَاعَ الدليلِ يُوجِبَانِ علينا أنْ نُوَافِقَ هؤلاء الأَئِمَّةَ على ما ذَهَبُوا إليه،وإنْ كانَ الجمهورُ على خِلافِه؛ لأنَّ التمسُّكَ بالتعليلِ معَ وُجُودِ النصِّ على خِلافِه مِمَّا لا يجوزُ، وأحكامُ العربيَّةِ يُقْضَى فيها على وَفْقِ ما تَكَلَّمَ به أهلُها.


  #3  
قديم 24 ذو الحجة 1429هـ/22-12-2008م, 09:34 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي أوضح المسالك لجمال الدين ابن هشام الأنصاري (ومعه هدي السالك للأستاذ: محمد محيي الدين عبد الحميد)


السابِعُ: أنَّ الأصْلَ فيهِ أنْ يَتَّصِلَ بفعلِه، ثم يَجِئَ المفعولُ, وقَدْ يُعْكَسُ, وقَدْ يَتَقَدَّمُهما المفعولُ, وكلٌّ مِن ذلك جَائِزٌ وواجِبٌ.
فأمَّا جوازُ الأصْلِ فنحوُ: {ووَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ}([1]).
وأمَّا وُجوبُه ففي مَسْأَلَتَيْنِ:
إحْدَاهما: أنْ يُخْشَى اللَّبْسُ كـ (ضَرَبَ مُوسَى عِيسَى).([2]) قاله أبو بَكْرٍ([3]) والمُتأخِّرونَ؛ كالجُزُولِيِّ وابنِ عُصفورٍ وابنِ مالكٍ, وخَالَفَهم ابنُ الحاجِّ, مُحْتَجًّا بأنَّ العَرَبَ تُجِيزُ تَصْغِيرَ عُمَرَ وعَمْرٍو, وبأنَّ الإجمالَ من مَقاصدِ العُقلاءِ, وبأنَّه يَجُوزُ: (ضَرَبَ أَحَدُهُما الآخَرَ), وبأنَّ تَأْخِيرَ البيانِ لوَقْتِ الحاجةِ جَائِزٌ عَقْلاً باتفاقٍ, وشَرْعاً على الأصَحِّ, وبأنَّ الزجَّاجَ نَقَلَ أنَّه لا خِلافَ في أنَّه يَجوزُ في نحوِ: {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ}([4]) كَوْنُ {تِلْكَ} اسْمَها و{دَعْوَاهُمْ} الخَبَرَ, والعَكْسُ([5]).
الثانيةُ: أنْ يُحصَرَ المَفْعولُ بإِنَّما نحوَ: (إِنَّمَا ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْراً) وكذا الحَصْرُ بإِلاَّ عندَ الجُزُولِيِّ وجماعةٍ, وأجازَ البَصْرِيونَ والكِسائيُّ والفَرَّاءُ وابنُ الأنْبَارِيِّ تَقْدِيمَه على الفاعِلِ؛ كقولِه:
216- وَلَمَّا أَبَى إِلاَّ جِمَاحاً فُؤَادُهُ([6])
وقولِه:
217- فَمَا زَادَ إِلاَّ ضِعْفَ مَا بِي كَلامُهَا([7])
وقولِه:
218- وتُغْرَسُ إِلاَّ فِي مَنَابِتِهَا النَّخْلُ([8])
وأمَّا تَوَسُّطُ المَفْعولِ جوازاً فنَحْوُ: {ولَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ}([9])، وقولِكَ: (خَافَ رَبَّهُ عُمَرُ). وقالَ:
219- كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ([10])
وأمَّا وُجُوبُه ففي مَسْألتَيْنِ:
إحداهما: أنْ يَتَّصِلَ بالفاعلِ ضميرُ المفعولِ نحوُ: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ}([11]) {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ}([12])، ولا يُجِيزُ أكثرُ النحْويِّينَ نحوَ: (زَانَ نُورُهُ الشَّجَرَ), لا في نَثْرٍ ولا في شِعْرٍ, وأجازَهُ فيهما الأخْفَشُ وابنُ جِنِّي والطُّوَالُ وابنُ مَالِكٍ؛ احتجاجاً بنحوِ قولِه:
220- جَزَى رَبُّهُ عَنِّي عَدِيَّ بنَ حَاتِمٍ([13])
والصحيحُ جَوازُه في الشِّعْرِ فقَطْ.
والثانيةُ: أنْ يُحْصَرَ الفاعلُ بإِنَّمَا نحوُ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ}([14])، وكذا الحَصْرُ بإلاَّ عِنْدَ غيرِ الكِسائِيِّ, واحْتَجَّ بقولِه:
221- مَا عَابَ إِلاَّ لَئِيمٌ فِعْلَ ذِي كَرَمٍ وَلاَ جَفَا قَطُّ إِلاَّ جُبَّأٌ بَطَلاَ([15])
وقولِه:
222- وَهَلْ يُعَذِّبُ إلاَّ اللهُ بالنَّارِ([16])
وقولِه:
223- فَلَمْ يَدْرِ إلاَّ اللهُ مَا هَيَّجَتْ لَنَا([17])
وأمَّا تَقدُّمُ المفعولِ جوازاً فنحوُ: {فَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ}([18]).
وأمَّا وُجوباً ففي مَسْأَلَتَيْنِ:
إحداهما: أنْ يَكُونَ مِمَّا له الصَّدْرُ نحوَ: {فَأَيَّ آيَاتِ اللهِ تُنْكِرُونَ}([19]) {أَيًّا مَا تَدْعُوا}([20]).
الثانيةُ: أنْ يَقَعَ عَامِلُه بعدَ الفاءِ, وليسَ له مَنْصوبٌ غَيْرُه مُقَدَّمٌ عليها نحوَ: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}([21]) ونحوَ: {فَأَمَّا اليَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ}([22]) بخلافِ: (أَمَّا اليَوْمَ فَاضْرِبْ زَيْداً)([23]).
تنبيهٌ: إذا كانَ الفاعلُ والمفعولُ ضَميريْنِ ولا حَصْرَ في أحدِهما, وَجَبَ تقديمُ الفاعلِ؛ كضَرَبْتُه, وإذا كانَ المُضْمَرُ أحَدَهما, فإنْ كَانَ مَفْعولاً وجَبَ وَصْلُه وتأخيرُ الفاعلِ؛ كضَرَبَنِي زَيْدٌ, وإِنْ كَانَ فَاعِلاً وَجَبَ وَصْلُه وتأخيرُ المفعولِ، أو تَقْديمُه على الفعلِ؛ كضَرَبْتُ زَيْداً وزَيْداً ضَرَبْتُ. وكلامُ الناظمِ يُوهِمُ امتناعَ التقديمِ؛ لأنَّه سَوَّى بينَ هذهِ المسألةِ ومسألةِ (ضَرَبَ مُوسَى عِيسَى), والصوابُ ما ذَكَرْنَا.




([1]) سورة النمْلِ، الآية: 16.

([2]) خَشْيَةُ اللَّبْسِ لها صُورتانِ: إحْدَاهُما: أنْ يَكُونَ إعرابُ الفاعلِ والمفعولِ تَقْدِيريًّا كمثالِ المُؤلِّفِ، والثانيةُ: أنْ يَكُونَا مَبْنِيَّيْنِ نحوَ: (نَصَحَ هَذَا ذَاكَ) ويَزُولُ اللَّبْسُ معَ ذلك في صُوَرٍ:
الأُولَى: أنْ يَكُونَ أحَدُهما مُؤنَّثاً, فإنْ لَحِقَتْ تاءُ التأنيثِ الفِعْلَ عَلِمْتَ أنَّ المُؤنَّثَ هو الفَاعِلُ نَحْوُ: ( ضَرَبَتْ هذهِ هَذَا).
والثانيةُ: أَنْ يُتْبَعَ أحَدُهما بنَعْتٍ أو عَطْفٍ أو تَوْكيدٍ ظاهرِ الإعرابِ نحوَ: ( ضَرَبَ يَحْيَى العَاقِلُ مُوسَى) أو ( ضَرَبَ يَحْيَى نَفْسُه مُوسَى) فإِنْ رَفَعْتَ التابِعَ عَلِمْتَ أنَّ مَتْبوعَه هو الفاعِلُ.
والثالثةُ: أَنْ يَتعيَّنَ بالمعنَى نحوَ: ( أكَلَ الكُمَّثْرَى مُوسَى) وفي نحوِ: ( أَرْضَعَتْ سَلْمَى مُوسَى), دَليلانِ يُمَيِّزانِ الفاعلَ من المَفْعولِ، فتَفَطَّنْ.

([3]) هو أبو بَكْرٍ: مُحمدُ بنُ السَّرِيِّ، المعروفُ بابنِ السِّراجِ، وهو من تلاميذِ أبي العَبَّاسِ المُبَرِّدِ، وهو من شُيوخِ أبي القَاسِمِ الزجاجِيِّ وأَبِي سَعِيدٍ السِّيرافِيِّ وأبي عَلِيٍّ الفَارِسِيِّ وعَلِيِّ بنِ عِيسَى الرُّمَّانِيِّ، وتُوُفِّيَ ابنُ السِّراجِ في ذِي الحِجَّةِ من سَنَةِ 316 من الهِجْرَةِ.

([4]) سورة الأنبياءِ، الآية: 15.

([5])اعْلَمْ أنَّ أهَمَّ ما في استدلالِ ابنِ الحاجِّ على ما ادَّعاهُ دَلِيلانِ؛ أَوَّلُهما: أَنَّ الإجمالَ مِن مَقاصِدِ البُلغاءِ، وثانيهِما: أنَّ بعضَ النُّحاةِ أجازَ في قولِه تعالى: {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} كَونَ (تِلْكَ) اسْمَ زَالَتْ، ودَعْوَاهُمْ خَبَرَها, وأجازَ العَكْسَ، وهذهِ الصورةُ في المُبْتدأِ والخَبَرِ تُشْبِهُ الصورةَ المُتنازَعَ عليها في الفاعلِ والمَفْعولِ، وهذا الاستدلالُ خالٍ عن التحقيقِ، جَارٍ معَ ظَواهِرَ لَوْ وُضِعَتْ في مَوْضِعِ البَحْثِ لم تَثْبُتْ.
أمَّا أنَّه جَعَلَ كَوْنَ الإجمالِ مِن مَقَاصِدِ البُلغاءِ دَلِيلاً؛ فإِنَّ هذا لا يُفِيدُه شيئاً؛ لأنَّ الإجمالَ الذي هو مِن مَقاصِدِ البُلغاءِ غَيْرُ اللَّبْسِ الذي لا يُقِرُّه أحَدٌ منهم، وبيانُ ذلكَ أنَّ الكلامَ المُحْتَمِلَ لمَعْنييْنِ أو أكْثَرَ إِمَّا أَنْ يَسْبِقَ إلى الذِّهْنِ أحَدُ هذيْنِ المَعْنيَيْنِ أو أَحَدُ المعاني المُحْتَمَلَةِ، وإِمَّا أَلاَّ يَسْبِقَ أحَدُهما إلى الذهْنِ, بل تَكُونُ المَعانِي كُلُّها أمَامَ الذِّهْنِ سَواءً, فيُتَوَقَّفُ في الحُكْمِ بأنَّ هذا المعنَى أو ذاكَ هو مَقْصودُ المُتكَلِّمِ من كلامِه، فإنْ تَبادَرَ أحَدُ المَعْنييْنِ، وكانَ هو غَيْرَ مرادِ المُتكلِّمِ فهو الإلباسُ، وإنْ لم يَتبادَرْ أحَدُ المعاني، وكانَ جَمِيعُها سواءً, فهذا هو الإجمالُ، وهذا الذي معَنا الآنَ من قَبِيلِ الإلباسِ، وليسَ من قَبِيلِ الإجمالِ، ألاَ تَرَى أنَّكَ لو قُلْتَ: (ضَرَبَ مُوسَى عِيسَى)؛ لتَبَادَرَ إلى ذِهْنِ سَامِعِكَ أنَّ مُوسَى ضَارِبٌ؛ بسَبَبِ كَوْنِ الأصْلِ في الفاعلِ أَنْ يَجِيءَ قبلَ المَفْعولِ، فلو كُنْتَ تُرِيدُ أَنَّ مُوسَى مَضْروبٌ فقَدْ أَوْقَعْتَ السامعَ في اللَّبْسِ، بخِلافِ ما لو قُلْتَ: (عُمَيْرٌ). فإِنَّ السامِعَ سَيتَرَدَّدُ في أنَّ هذا اللفظَ تَصْغِيرُ عُمَرَ أو تَصْغِيرُ عَمْرٍو، وليسَ في اللفظِ ما يَدُلُّ على أحَدِ الوجهَيْنِ، فلا تَحْكُمْ بأحَدِهما، بل تَبْقَى مُتوَقِّفاً إلى أَنْ يُبَيِّنَ لكَ المُتكَلِّمُ ما أرادَ.
وأمَّا تَشْبِيهُهُ صُورةَ الفاعلِ والمفعولِ بصُورةِ المُبْتدأِ والخَبَرِ, وقِياسُه الصورةَ الأُولَى على الصُّورةِ الثانيةِ فمِمَّا لا يُقْضَى العَجَبُ منه؛ لوجودِ الفَرْقِ البَيِّنِ بينَهما، فإنَّ المبتدأَ عينُ الخَبَرِ في المَاصَدَقِ، فلو حَكَمْتَ بأنَّ الثانِيَ عَيْنُ الأوَّلِ يَكونُ كما لو حَكَمْتَ بأنَّ الأوَّلَ عينُ الثاني، والفاعِلُ غَيْرُ المَفْعولِ, طَبْعاً فإذا جَعَلْتَ أحَدَهما الآخَرَ لَمْ يَصِحَّ الكلامُ.

([6])216-هذا صَدْرُ بَيْتٍ من الطويلِ، وعَجُزُه قولُه:
*ولَمْ يَسْلُ عَنْ لَيْلَى بِمَالٍ وَلاَ أَهْلِ*

وقدْ ذَكَرَ العَينِيُّ وصاحِبُ التصريحِ أنَّ البيتَ لدِعْبِلٍ الخُزاعِيِّ، وذكََرَ العَينِيُّ بعدَه بيتاً ثَانياً، وهو قولُه:
تَسَلَّى بأُخْرَى غَيْرِهَا فَإِذَا الَّتِي = تَسَلَّى بِهَا تُغْرِي بِلَيْلَى وَلاَ تُسْلِي
ودِعْبِلٌ الخُزاعِيُّ ليسَ من الطَّبَقةِ التي يُسْتَشْهَدُ بكلامِها على قَواعِدِ النحوِ والتصريفِ، فإذا صَحَّ أنَّ البيتَ من كلامِه, كانَ ذِكْرُ العلماءِ له في هذا المَوْضِعِ مِن قَبِيلِ التمثيلِ، لا مِن قَبِيلِ الاستشهادِ.
اللغةُ: (جِمَاحاً) مَصْدَرُ قَوْلِكَ: جَمَحَ الفَرَسُ يَجْمَحُ – مِثْلُ فَتَحَ يَفْتَحُ – إذا جَرَى جَرْياً عَالِياً، وقالَ ابنُ فَارِسٍ: جَمَحَ الفرسُ جِمَاحاً، إِذَا أعْثَرَ فَارِسَهُ حَتَّى يَغْلِبَهُ، وقالَ ابنُ فَارِسٍ أَيْضاً: جَمَحَ؛ أي: أسْرَعَ إسراعاً لا يَرُدُّه شَيْءٌ، وكُلُّ شَيْءٍ مَضَى لوَجْهِهِ على شَيْءٍ فقَدْ جَمَحَ، والجَمُوحُ من الرِّجالِ: الذي يَرْكَبُ هَواهُ فلا يُمْكِنُ رَدُّه، والمعنَى ههنا على هذا: ( لَمْ يَسْلُ) مُضارِعُ سَلاَ بمعنَى تَعَزَّى وصَبَرَ, ( تُغْرِي) تُحَرِّضُ وتَحُضُّ.
الإعرابُ: ( لَمَّا) ظَرْفٌ بمعنَى (حِينَ)، مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ نَصْبٍ، وناصِبُه قولُه: ( تَسَلَّى) في البيتِ التالي له, (أَبَى) فعلٌ ماضٍ (إِلاَّ) أداةُ استثناءٍ مُلْغاةٌ, (جِمَاحاً) مفعولٌ بهِ لأَبَى, (فُؤَادُهُ) فُؤَادُ: فاعلُ أَبَى، وهو مُضافٌ, وضميرُ الغائبِ مُضافٌ إليهِ, (ولَمْ) الواوُ عَاطِفَةٌ، لَمْ: حَرْفُ نَفْيٍ وجَزْمٍ وقَلْبٍ, (يَسْلُ) فعلٌ مُضارِعٌ مجزومٌ بلَمْ، وعَلامَةُ جَزْمِه حذفُ الواوِ, والضمَّةُ قبلَها دليلٌ عليها، وفاعِلُه ضَمِيرٌ مُستتِرٌ فيهِ جَوازاً تقديرُه: هو, ( عَنْ لَيْلَى بِمَالٍ) كُلٌّ منهما جارٌّ ومَجْرورٌ مُتعَلِّقٌ بقولِه: ( يَسْلُ). وقولُه: ( وَلاَ أهَلِ) الواوُ عَاطِفَةٌ، ولا: زَائِدَةٌ لتأكيدِ النفْيِ، وهو مَجرورٌ بالكسرةِ الظاهرةِ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُه: (أَبَى إِلاَّ جِمَاحاً فُؤَادُهُ) حيثُ قَدَّمَ المفعولَ المَحْصورَ بإِلاَّ – وهو قولُه: (جِمَاحاً) – على الفاعلِ الذي هو قولُه: (فُؤَادُهُ).
وقدِ اسْتَدَلَّ بهذا البيتِ ونَحْوِه جمهورُ البَصْريِّينَ والفَرَّاءُ وابنُ الأنْبَارِيِّ والكِسائِيُّ، فقالوا: يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ المَفْعولُ المَحْصورُ بإِلاَّ على الفاعلِ؛ لأنَّ المَفْعولَ - وإنْ تَقَدَّمَ - في مَنْزِلَةِ التأخيرِ، وأكْثَرُ هؤلاءِ لا يُجِيزُ تَقْدِيمَ الفاعلِ المَحْصورِ بإِلاَّ؛ لانتفاءِ العِلَّةِ التي أَجَازُوا من أجْلِها تَقْدِيمَ المَفْعولِ المَحْصورِ بإِلاَّ.
وذهَبَ بعضُ البَصْريِّينَ إلى أنَّه لا يَجوزُ تَقْدِيمُ المحصورِ بإِلاَّ مُطْلقاً، فَاعِلاً كانَ هذا المَحْصُورُ أو مَفْعولاً، وهؤلاءِ قَاسُوا الحَصْرَ بإِلاَّ على الحَصْرِ بإِنَّما.
والذينَ أجازوا تقديمَ المفعولِ المحصورِ بإلاَّ فرَّقُوا بينَ الحَصْرِ بإِلاَّ والحَصْرِ بإنَّما فقالوا: أَنْتَ لَوْ قُلْتَ: (إِنَّمَا ضَرَبَ بَكْراً خَالِدٌ). لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ على أنَّ المَحْصورَ هو تَالِي إِنَّما، ولَكِنَّكَ لو قُلْتَ: (مَا ضَرَبَ إِلاَّ بَكْراً خَالِدٌ) وقَدَّمْتَ إِلاَّ معَ المَفْعولِ فقَدْ وَضَحَ مَقْصودُكَ، فلَمَّا كَانَ اللَّبْسُ في (إِنَّمَا) مَوْجوداً البَتَّةَ. وكانَ اللَّبْسُ معَ إلاَّ غيرَ مَوْجودٍ حِينَ تُقَدِّمُ إِلاَّ قُلْنَا بالجوازِ في هذا الموضِعِ الذي لا لَبْسَ فيه.

([7])217-هذا عَجُزُ بَيْتٍ من الطويلِ، وصَدْرُه قَوْلُه:
*تَزَوَّدْتُ مِنْ لَيْلَى بتَكْلِيمِ سَاعَةٍ*

ونَسَبَ كثيرٌ من العلماءِ البيتَ لمَجْنونِ بَنِي عامرٍ قَيْسِ بنِ المُلَوَّحِ، ولَمْ أعْثُرْ عليه في دِيوانِه، ولعلَّ السرَّ في نِسْبَتِهم البيتَ له ذِكْرُ (لَيْلَى) فيه.
الإعرابُ: (تَزَوَّدْتُ) فِعْلٌ وفاعلٌ, (مِنْ لَيْلَى بتَكْلِيمِ) مُتعلِّقانِ بتَزَوَّدَ، و(تَكْلِيمِ) مُضافٌ, و(سَاعَةٍ) مُضافٌ إليهِ, (فَمَا) نَافِيَةٌ, (زَادَ) فِعْلٌ ماضٍ, (إِلاَّ) أداةُ استنثاءٍ مُلْغاةٌ, (ضِعْفَ) مفعولٌ بهِ لزَادَ، وهو مُضافٌ, و(ما) اسمٌ موصولٌ, مُضافٌ إليهِ, (بِي) جارٌّ ومَجْرورٌ مُتعَلِّقٌ بمحذوفٍ, صِلَةِ الموصولِ, (كَلامُهَا) كلامُ: فَاعِلُ زَادَ، وكلامُ مضافٌ، وضميرُ الغائبةِ العائدُ إلى لَيْلَى مُضافٌ إليهِ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُه: (فَمَا زَادَ إِلاَّ ضِعْفَ مَا بِي كَلامُهَا) حيثُ قَدَّمَ المفعولَ بهِ, وهو (ضِعْفَ) على الفاعِلِ، وهو (كَلامُها) معَ كونِ المفعولِ مُنحصِراً (بإِلاَّ), وهذا جائِزٌ عندَ الكِسائِيِّ.
وأكْثَرُ البَصْريِّينَ يَتأوَّلونَ ذلك البيتَ ونَحْوَه بأنَّ في (زَادَ) ضَمِيراً مُستتِراً َيعودُ على تَكْليمِ سَاعِةٍ، وهو فَاعِلُه، وقولُه: (كَلامُها) فاعلٌ بفعلٍ محذوفٍ، والتقديرُ: فما زَادَ (هو) إِلاَّ ضِعْفَ مَا بِي زَادَهُ كَلامُهَا، وهو تأويلٌ مُتكَلَّفٌ مُستبعَدٌ، لا مُقْتَضِيَ لَهُ.

([8])218-هذا عَجُزُ بَيْتٍ من الطويلِ، وصَدْرُه قَوْلُه:
*وهَلْ يُنْبِتُ الخَطِّيَّ إِلاَّ وَشِيجُهُ*

وهذا البيتُ من قصيدةٍ لزُهَيْرِ بنِ أَبِي سُلْمَى المُزَنِيِّ، يَمْدَحُ فيها هَرَمَ بنَ سِنَانِ بنِ أَبِي حَارِثَةَ, والحارِثَ بنَ عَوْفِ بنِ أَبِي حَارِثَةَ المُرِّيَّيْنِ.
اللغةُ: (الخَطِّيَّ) أَرَادَ بهِ الرِّماحَ، نَسَبَها إلى الخَطِّ، والخَطُّ: جَزِيرَةٌ بالبَحْرَيْنِ تَرْفَأُ إليها سُفُنُ الرِّماحِ؛ أي: تَرْسُو فيها, (وَشِيجُهُ) الوَشِيجُ: القَنَا المُلْتَفُّ في مَنْبَتِه، واحِدُه وَشِيجَةٌ، وأصْلُه مِن الوُشُوجِ – بضمِّ الواوِ – وهو تَداخُلُ الشيءِ بَعْضِه في بعضٍ, يُرِيدُ لا تُنْبِتُ القَنَاةَ إِلاَّ القَنَاةُ، وفي أمثالِ العَرَبِ: لا تُنْبِتُ البَقْلَةَ إلاَّ الحَقْلَةُ، والحَقْلَةُ – بفتحِ الحاءِ وسُكونِ القافِ –: الأرضُ الطَّيِّبَةُ.
المعنَى: يَمْدَحُ هَرَماً والحارِثَ بأنَّهما كَرِيمانِ مِن قَوْمٍ كِرَامٍ، ولا يُولَدُ الكِرَامُ إلاَّ في الموضِعِ الكَرِيمِ، وضَرَبَ نَبْتَةَ الخَطِّيِّ وغِرَاسَ النَّخْلِ مَثَلاً.
الإعرابُ: ( هَلْ) حَرْفُ استفهامٍ بمعنَى النفْيِ مَبْنِيٌّ على السكونِ لا مَحَلَّ له, ( يُنْبِتُ) فعلٌ مضارعٌ مَرْفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ, ( الخَطِّيَّ) مَفْعولٌ بهِ ليُنْبِتُ, ( إِلاَّ) أداةُ حَصْرٍ, ( وَشِيجُهُ) وَشِيجُ: فَاعِلٌ ليُنْبِتُ مَرْفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ، وهو مُضافٌ, وضميرُ الغائبِ مُضافٌ إليه, (وتُغرَسُ) الواوُ حَرْفُ عَطْفٍ. تُغرَسُ فعلٌ مضارِعٌ مَبْنِيٌّ للمجهولِ مَرْفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ, (إِلاَّ) أداةُ حَصْرٍ, (في مَنَابِتِهَا) الجَارُّ والمجرورُ مُتعَلِّقٌ بتُغْرَسُ، و(مَنَابِتِ) مضافٌ, وضميرُ الغائبةِ مُضافٌ إليهِ, (النَّخْلُ) نائبُ فَاعِلٍ لتُغْرَسَ, مَرْفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُه: (تُغْرَسُ إِلاَّ فِي مَنَابِتِهَا النَّخْلُ) حَيْثُ قدَّمَ الجارَّ والمجرورَ – وهو قولُه: (فِي مَنَابِتِهَا) – على نَائِبِ الفاعلِ, وهو قولُه: (النَّخْلُ). معَ أنَّ الجارَّ والمجرورَ مَحْصورٌ بإِلاَّ, ولمَّا كانَ الجَارُّ والمَجْرورُ بمَنْزِلَةِ المفعولِ، وكانَ النائبُ عن الفاعِلِ بمَنْزلةِ الفاعِلِ – صَحَّ الاستدلالُ بهذا الشاهدِ على جَوازِ تَقْدِيمِ المَفْعولِ المَحْصورِ بإِلاَّ على الفَاعِلِ، وقدِ اسْتَشْهَدَ بهذا البَيْتِ مَن ذَكَرْنا في شَرْحِ الشاهدِ (216) على جوازِ ذلكَ التقديمِ.

([9]) سورة القَمَرِ، الآية:41.

([10])219-هذا عَجُزُ بَيْتٍ مِنَ البَسِيطِ، وصَدْرُه قَوْلُه:
*جَاءَ الخِلافَةَ أو كَانَتْ لَهُ قَدَراً*

وهذا البيتُ مِن كَلامِ جَرِيرِ بنِ عَطِيَّةَ، من قَصيدةٍ يَمْدَحُ فيها أمِيرَ المُؤْمِنينَ الخليفةَ العادِلَ عُمَرَ بنَ عَبْدِ العزيزِ.
اللغةُ: ( أَوْ كَانَتْ لَهُ قَدَراً), (أو) في هذا البيتِ عندَ الكُوفِيِّينَ بمعنَى الواوِ، دَالَّةٌ على الجمعِ المُطْلَقِ، وقالَ ابنُ هِشَامٍ في (مُغْنِي اللَّبِيبِ) (وَالَّذِي رَأَيْتُهُ فِي دِيَوانِ جَرِيرٍ: إِذْ كَانَتْ). اهـ.
والمرادُ أنَّها كانَتْ مُقَدَّرَةً له في الأزَلِ فلَمْ يَحْصُلْ له تَعَبٌ ولا مُعاناةٌ, كما أنَّ مُوسَى عليهِ السلامُ قدْ حَصَلَتْ له النُّبُوَّةُ واللُّقِيُّ بتقديرِ العزيزِ العليمِ من غيرِ مَشَقَّةٍ ولا مُعاناةٍ، وأخَذَ قولَه: (كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ) من قولِه تعالَى: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى}.
الإعرابُ: ( جَاءَ) فِعْلٌ ماضٍ، وفَاعِلُه ضَمِيرٌ مُستتِرٌ فيهِ جَوازاً تقديرُه: هو, يَعودُ إلى المَمْدوحِ, ( الخِلافَةَ) مَفْعولٌ بهِ, ( أَوْ) حَرْفُ عَطْفٍ, (كانَتْ) كانَ: فعلٌ ماضٍ نَاقِصٌ، والتاءُ عَلامَةُ التأنيثِ، واسْمُه ضَمِيرٌ مُستتِرٌ فيهِ جَوازاً تقديرُه: هي, يعودُ إلى الخلافةِ, ( لَهُ) جارٌّ ومَجْرورٌ مُتعَلِّقٌ بـ(قَدَرِ)، أو بمحذوفٍ, حالٌ منه, ( قَدَراً) خَبَرُ كَانَ, (كَمَا) الكَافُ حَرْفُ جَرٍّ، ما: مَصدَرِيَّةٌ, (أَتَى) فِعْلٌ مَاضٍ, (رَبَّهُ) رَبَّ: مَفْعولٌ بهِ تَقدَّمَ على الفاعلِ، وهو مُضافٌ, وضميرُ الغائبِ العائِدُ إلى الفاعلِ المتأخِّرِ مُضافٌ إليهِ, (مُوسَى) فَاعِلُ أتَى، مَرْفُوعٌ بضَمَّةٍ مُقدَّرَةٍ على الألفِ, (عَلَى قَدَرِ) جارٌّ ومَجْرورٌ مُتعَلِّقٌ بأتَى، و(ما) المَصْدرِيَّةُ وما دَخَلَتْ عليهِ في تأويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ بالكافِ، والجَارُّ والمجرورُ مُتعَلِّقٌ بمحذوفٍ, صِفَةٌ لموصوفٍ مَحْذوفٍ يَقَعُ مفعولاً مُطْلقاً، عَامِلُه جَاءَ، وتقديرُ الكلامِ: جاءَ الخِلافَةَ إِتْياناً مِثْلَ إتيانِ مُوسَى – إلخ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُه: (أَتَى رَبَّهُ مُوسَى) حَيْثُ قَدَّمَ المفعولَ على الفاعلِ، وأعادَ الضميرَ المُتَّصِلَ بالمفعولِ المُتقَدِّمِ – وهو قولُه: (رَبَّهُ) – على الفاعِلِ المتأخِّرِ الذي هو قَوْلُه: مُوسَى، وأصْلُ الكلامِ: كما أتَى مُوسَى رَبَّهُ، فقَدَّمَ المفعولَ على الفاعلِ؛ فصارَ كما في البيتِ.
ومِثْلُ هذا مِمَّا شاعَ في لسانِ العربِ، ولم يَسْتَأْثِرْ به قومٌ دونَ قَوْمٍ، ولهذا لم يَختَلِفِ النحاةُ في جوازِه، وهذا الضميرُ – وإنْ عادَ على متأخِّرٍ في اللفظِ – عَائِدٌ على مُتقَدِّمٍ في الرُّتْبَةِ؛ لأنَّ مَرْتَبَةَ الفاعلِ من الفعلِ سَابِقَةٌ على مَرْتَبَةِ المفعولِ منه. فَافْهَمْ هذا, واللهُ يَنْفَعُكَ بهِ.

([11]) سورة البقرةِ، الآية:124.

([12]) سورة غافِرٍ، الآية:52.

([13])220-هذا صَدْرُ بَيْتٍ من الطويلِ، وعَجُزُه قولُه:
*جَزَاءَ الكِلابِ العَاوِيَاتِ وَقَدْ فَعَلْ*

والبيتُ لأبي الأسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ، يَهْجُو عَدِيَّ بنَ حَاتِمٍ الطَّائِيَّ، وقدْ نَسَبَهُ ابنُ جِنِّي إلى النابغةِ الذُّبْيانِيِّ، وهو انتقالُ ذِهْنٍ مِن أَبِي الفَتْحِ، وسَبَبُه أنَّ للنابغةِ الذُّبْيانِيِّ قَصِيدَةَ هِجاءٍ على هذا الرَّوِيِّ.
اللغةُ: ( جَزَاءَ الكِلابِ العَاوِيَاتِ) هذا مَصْدَرٌ تَشْبِيهِيٌّ، والمعنَى: جَزَاهُ اللهُ جَزَاءً مِثْلَ جَزَاءِ الكِلابِ العَاوِيَاتِ، ويُرْوَى: ( الكِلابِ العَادِيَاتِ) – بالدالِ بَدَلَ الوَاوِ- وهو جَمْعُ عَادٍ، والعَادِي: اسْمُ فاعلٍ مِن عَدَا يَعْدُو؛ إذا ظَلَمَ وتَجَاوَزَ قَدْرَه, ( وقَدْ فَعَلْ) يُرِيدُ أنَّه تَعالَى قَدِ استجابَ فيه دُعاءَه وحَقَّقَ فيهِ رَجَاءَهُ.
الإعرابُ: (جَزَى) فعلٌ ماضٍ, (رَبُّهُ) فَاعِلٌ، ومُضافٌ إليهِ, (عَنِّي) جارٌّ ومَجْرورٌ مُتعَلِّقٌ بجَزَى, (عَدِيَّ) مَفْعولٌ بهِ لجَزَى, (ابْنَ) صِفَةٌ لـ(عَدِيَّ)، وهو مُضافٌ، و(حَاتِمٍ) مُضافٌ إليهِ, (جَزَاءَ) مَفْعولٌ مُطلَقٌ مُبَيِّنٌ لنُوعِ عاملِه الذي هو جَزَى، وهو مُضافٌ, و (الكِلابِ) مُضافٌ إليهِ, (العَاوِيَاتِ) صِفَةٌ للكلابِ, (وقَدْ) الواوُ للحالِ، قَدْ: حَرْفُ تَحْقيقٍ, (فَعَلْ) فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ علَى الفَتْحِ لا مَحَلَّ له، وسُكِّنَ لأجْلِ الوَقْفِ، وفاعلُه ضَمِيرٌ مُستتِرٌ فيهِ، والجملةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ حَالٌ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُه: (جَزَى رَبُّهُ... عَدِيَّ) حيثُ أخَّرَ المفعولَ، وهو (عَدِيَّ) وقَدَّمَ الفاعِلَ، وهو (رَبُّهُ) معَ اتصالِ الفاعلِ بضميرٍ يَعودُ على المفعولِ.
ونَظِيرُ هذا البيتِ قَوْلُ حَسَّانَ بنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ:
ولَوْ أَنَّ مَجْداً أَخْلَدَ الدَّهْرَ وَاحِداً = مِن النَّاسِ أَبْقَى مَجْدُهُ الدَّهْرَ مُطْعِمَا
الشاهدُ فيهِ: قولُه: ( أَبْقَى مَجْدُهُ مُطْعِمَا) حيثُ قَدَّمَ الفَاعِلَ، وهو قولُه: مَجْدُهُ، على المفعولِ به, وهو قولُه: مُطْعِماً. معَ أنَّ الفاعِلَ مُتَّصِلٌ بضَميرٍ يَعودُ على المَفْعولِ.
ونظيرُه قولُ الآخَرِ:
ومَا نَفَعَتْ أَعْمَالُهُ المَرْءَ رَاجِياً = عَلَيْهَا ثَوَاباً مِن سِوَى مَن لَهُ الأمْرُ

وقَوْلُ سَلِيطِ بنِ سَعْدٍ:
جَزَى بَنُوهُ أَبَا الغِيلاَنِ عَنْ كِبَرٍ = وحُسْنِ فِعْلٍ كَمَا يُجْزَى سِنِمَّارُ
وقولُ الآخَرِ:
كَسَا حِلْمُهُ ذَا الحِلْمِ أثْوَابَ سُؤْدَدٍ = وَرَقَّى نَدَاهُ ذَا النَّدَى في ذُرَى المَجْدِ
وقولُ الآخَرِ:
لَمَّا عَصَى أصْحَابُهُ مُصْعَباً = أَدَّى إِلَيْهِ الْكَيْلَ صَاعاً بصاعِ
وقَوْلُ الآخرِ:
ألاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ يَلُومَنَّ قَوْمُهُ = زُهَيْراً على ما جَرَّ مِن كُلِّ جَانِبِ
واعْلَمْ أوَّلاً أنَّ سِرَّ الاختلافِ بينَ النحاةِ في جوازِ هذهِ المسألةِ – وهي تقديمُ الفاعلِ المُتَّصِلِ بضميرِ غَيْبَةٍ يَعودُ إلى المفعولِ المتأخِّرِ في اللفظِ – يَرْجِعُ إلى اختلافِهم في مَرْتَبَةِ المفعولِ.
فأَمَّا جُمهورُ النحاةِ فيُقَرِّرُونَ أنَّ الأصلَ أنَ يَقَعَ الفِعْلُ أوَّلاً، ثم يَلِيهِ الفاعِلُ؛ لأنَّه أحَدُ جُزْأَيِ الجملةِ، وما عداهما فَضْلَةٌ، وإذا وَجَبَ تقديمُ الفعلِ فإِنَّه يَجِبُ أَنْ يقَعَ الفاعلُ بعدَه؛ لِئَلاَّ يُفْصَلَ بينَ الجُزْأَيْنِ اللذَيْنِ يَتِمُّ بهما الكلامُ، ولأنَّ الفاعِلَ مُحتاجٌ إليه، وما عَداهُ من مُتعلَّقاتِ الفعلِ غيرُ مُحتاجٍ إليه، والمحتاجُ إليهِ أَوْلَى بالتقديمِ من غيرِه، فإنْ تقَدَّمَ المفعولُ في اللفظِ كانَ في النيَّةِ مُؤخَّراً.
ونازَعَ في هذا الكلامِ الأخْفَشُ ومَن رأَى رأيَهُ فقالوا: إنْ كانَ مُرادُكم مِن أنَّ رُتْبةَ الفاعلِ التَّقَدُّمُ ورُتْبَةَ المَفْعولِ التأخُّرُ، اقْتِضاءَ الفِعْلِ لكُلٍّ منهما؛ فإِنَّا نُسَلِّمُ أنَّ اقتضاءَ الفعلِ للفاعلِ سَابِقٌ على اقتضائِه للمَفْعولِ؛ لأنَّ الفعلَ يَقْتَضِي الفاعِلَ ضَرُورةً، ثم قد يَقْتَضِي المفعولَ وقدْ لا يَقْتضِيهِ، فدَرَجَةُ اقتضاءِ الفعلِ للمَفْعولِ مُتراخِيَةٌ عن دَرَجَةِ اقتضائِه للفاعلِ، ولَكِنَّا نَمْنَعُ أنْ يَكُونَ هذا هو مُرادَ العُلماءِ عندَ قولِهم: (إِنَّ الضَّمِيرَ لا يَعودُ على مُتأخِّرٍ لَفْظاً ورُتْبَةً).
بَلْ إِنَّ مُرادَهم من الرُّتْبَةِ في هذهِ العبارةِ مَوْقِعُه من الكلامِ، ونحنُ نَدَّعِي أنَّ المفعولَ قَدْ كَثُرَ في الكلامِ الفصيحِ مَجِيئُه تالياً للفعلِ وبعَقِيبِه, حتَّى إِنَّه لَيُعْتَبَرُ كأنَّ مَوْقِعَه في الكلامِ هو هذا المَوْقِعُ, وإنْ كانَ اقتضاءُ الفعلِ إِيَّاهُ مُتراخِياً، فإذا تأخَّرَ في الكلامِ عن مُجاورةِ الفِعْلِ فكأنَّه زُحْزِحَ عن مَوْضِعِه الذي أصْبَحَ؛ بسَبَبِ كثرةِ تَقَدُّمِه, كأنَّه الموضِعُ الطَّبيعِيُّ، فلو اتَّصَلَ الفاعِلُ حِينَئذٍ بضميرِ المفعولِ المُتأخِّرِ عنه لَفْظاً لم يَكُنِ الضميرُ عائداً على متأخِّرٍ لفظاً ورُتْبةً، بل هو رَاجِعٌ إلى مُتأخِّرٍ لفظاً مُتَقَدِّمٍ رُتْبَةً، كما تَقولُونَ أنتم في عودِ الضميرِ المُتَّصلِ بالمفعولِ المُتقدِّمِ على الفاعلِ المُتَأخِّرِ عنه.
قالَ أبو رَجَاءٍ: ونحنُ نَرَى ما ذهَبَ إليهِ الأخْفَشُ في هذهِ المسألةِ مَذْهباً مُستقِيماً حَرِيًّا بأنْ نَأْخُذَ به؛ لكَثْرَةِ الشواهدِ التي رَوَاها العُلماءُ لهذهِ المسألةِ، وليسَ لهذهِ العِلَّةِ التي ذَكَرْنَاها عنه، وإنْ كانَتْ وَجِيهةً.
ثم اعْلَمْ ثانياً أنَّ الضَّمِيرَ الموضوعَ للغَيْبَةِ يَعودُ على مُتأَخِّرٍ لَفْظاً ورُتْبَةً – على تَفْسيرِ الجُمهورِ – في سِتَّةِ مَواضِعَ غيرَ المَوْضِعِ الذي الذي قَدَّمْنا بيانَهُ، وهي:
الموضِعُ الأوَّلِ: الضَّمِيرُ المرفوعُ بنِعْمَ أو بِئْسَ، المُفَسَّرُ بتَمْيِيزٍ، نحوُ: ( نِعْمَ رَجُلاً زَيْدٌ، وبِئْسَ رَجُلاً عَمْرٌو), إذا قَدَّرْتَ المَخْصوصَ مُبْتَدَأً خَبَرُه مَحْذوفٌ، أو قَدَّرْتَه خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذوفٍ، أمَّا إذا قَدَّرْتَهُ مُبْتَدَأً خَبَرُه جَمْلةُ (نِعْمَ) معَ فاعلِه المُستتِرِ فيه وُجوباً فإِنَّ مَرْجِعَ الضميرِ المُسْتتِرِ في (نِعْمَ) يَكُونُ حِينَئذٍ مُتَقدِّماً رُتْبَةً.
الموضِعُ الثاني: أنْ يَكُونَ الضميرُ مَرْفوعاً بأوَّلِ الفعليْنِ المتنازعَيْنِ، نحوَ قولِ الشاعرِ:
جَفَوْنِي وَلَمْ أَجْفُ الأَخِلاَّءَ إِنَّنِي = لِغَيْرِ جَمِيلٍ مِنْ خَلِيلِيَ مُهْمِلُ
الموضِعُ الثالِثُ: أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ مُبْتَدَأً يُفَسِّرُه خَبَرُه، نحوَ قولِه تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا}.
الموضِعُ الرابِعُ: ضميرُ الشأْنِ والقِصَّةِ، نحوَ قولِه تعالى: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}. وقولِه: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا}.
الموضِعُ الخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ مَجْروراً برُبَّ، وهذا يُوافِقُ الضميرَ المرفوعَ بنِعْمَ في أمْريْنِ: أحَدُهما: أنَّه يَجِبُ في كُلٍّ منهما أنْ يَكُونَ مُفْرداً، وثانيهما: أَنَّه يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُفَسِّرُه تَمْيِيزاً، ومن ذلك قولُ الشاعرِ:
رُبَّهُ فِتْيَةً دَعَوْتُ إِلَى مَا = يُورِثُ المَجْدَ دَائِباً فَأَجَابُوا
ويُفارِقُ الضميرُ المَجْرورُ برُبَّ الضميرَ المَرْفوعَ بنِعْمَ أو بِئْسَ, بأَنَّ مَجْرورَ رُبَّ يَجِبُ أنْ يَكُونَ مُذَكَّراً, ولَوْ كَانَ مُفَسِّرُه مُؤنَّثاً، تَقولُ: (رُبَّهُ امْرَأَةً) ولا تَقُولُ: (رُبَّهَا امْرَأَةً), أمَّا الضميرُ المرفوعُ بنِعْمَ أو بِئْسَ فيَكُونُ مُؤَنَّثاً إِنْ كانَ مُفَسِّرُه مُؤنَّثاً، نحوَ قَوْلِكَ: (نِعْمَتِ امْرَأَةً زَيْنَبُ) و(بِئْسَتِ امْرَأَةً هِنْدُ).
الموضِعُ السادِسُ: أَنْ يَكُونَ الضميرُ مُبْدَلاً منه اسْمٌ ظَاهِرٌ مُفَسِّرٌ له، نحوَ قولِكَ: (ضَرَبْتُهُ زَيْداً) وقدِ اخْتَلَفَ النَّقْلُ عن سِيبَوَيْهِ في جوازِ هذا الموضعِ، فقالَ ابنُ عُصْفُورٍ: أجازَهُ الأخْفَشُ، ومنَعَه سِيبَوَيْهِ. وقالَ ابنُ كَيْسانَ: هو جَائِزٌ بالإجماعِ.

([14]) سورة فاطرٍ، الآية: 28.

([15])221-هذا بَيْتٌ من البسيطِ، ولَمْ أَقِفْ على نِسْبَتِه إلى قائِلٍ مُعيَّنٍ، ولا عَثَرْتُ له على سَابِقٍ أو لاحِقٍ يَتَّصِلُ به.
اللغةُ: (عَابَ) بالعينِ المُهملَةِ – من العَيْبِ، وهو أنْ تَذْكُرَ المُتكَلِّمَ فيه بالذمِّ والثَّلْبِ, (لَئِيمٌ) المرادُ بهِ البخيلُ؛ بدَلالةِ مُقابلتِه بذِي الكَرَمِ, (جَفَا) من الجَفَا، وهو فِعْلُ مَا يَسوءُ, (جُبَّأٌ) - بضَمِّ الجيمِ وفتْحِ المُوحَّدةِ مُشدَّدَةً، بزِنَةِ سُكَّرٍ – هو الجَبَانُ, (بَطَلاَ) البَطَلُ – بفتحِ الباءِ والطاءِ جَمِيعاً – هو الشُّجاعُ.
الإعرابُ: (ما) حَرْفُ نَفْيٍ مَبْنِيٌّ على السكونِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ, (عَابَ) فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ علَى الفَتْحِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ, (إلاَّ) أَدَاةُ حَصْرٍ, (لَئِيمٌ) فَاعِلُ (عابَ) مَرْفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ, (فِعْلَ) مَفْعولٌ بهِ لعَابَ, مَنْصوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ، و(فِعْلَ) مُضافٌ, و(ذِي) مُضافٌ إليهِ مجرورٌ بالياءِ نِيَابَةً عن الكسرةِ؛ لأنَّه من الأسماءِ السِّتَّةِ، وهو مُضافٌ, و(كَرَمٍ) مُضافٌ إليهِ, (ولا) الواوُ حَرْفُ عَطْفٍ، لا: زَائِدَةٌ لتأكيدِ النفْيِ, (جَفَا) فِعْلٌ ماضٍ, مَبْنِيٌّ على فَتْحةٍ مُقدَّرَةٍ على الألفِ للتعَذُّرِ, (قَطُّ) ظَرْفُ زمانٍ مَبْنِيٌّ على الضمِّ في مَحَلِّ نَصْبٍ بجَفَا, (إِلاَّ) أداةُ حَصْرٍ، حَرْفٌ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ, (جُبَّأٌ) فَاعِلُ جَفَا مَرْفوعٌ وعلامةُ رَفْعِه الضمَّةُ الظاهرةُ, (بَطَلاَ) مَفْعولٌ بهِ لجَفَا، مَنْصوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ.
الشاهدُ فيه: في هذا البيتِ شَاهدانِ للمَسألةِ التي ذَكَرَهُ المُؤلِّفُ من أجْلِها: أحَدُهما: في قولِه: (مَا عَابَ إِلاَّ لَئِيمٌ فِعْلَ) وثانيهما: في قولِه: (وَلاَ جَفَا إِلاَّ جُبَّأٌ بَطَلاَ) حيثُ قَدَّمَ في كلِّ واحدٍ من المَوْضعيْنِ الفاعِلَ المحصورَ بإِلاَّ – وهو قولُه: (لَئِيمٌ) في العبارةِ الأُولَى، وقولُه: (جُبَّأٌ) في العبارةِ الثانيةِ – على المفعولِ بهِ المحصورِ فيه – وهو قولُه: (فِعْلَ ذِي كَرَمٍ) في العبارةِ الأولى، وقولُه: (بَطَلاَ) في العبارةِ الثانيةِ – وهذا البيتُ من الأبياتِ التي اسْتَدَلَّ بها الكِسَائِيُّ على جوازِ تَقْديمِ المحصورِ بإِلاَّ إذا كانَ فَاعِلاً.
وجُمهورُ البَصْريِّينَ لا يَرَوْنَ جوازَ تقديمِ المحصورِ بإِلاَّ إذا كانَ فاعِلاً، ويُجِيزُونَ تَقْدِيمَه إذا كانَ مَفْعولاً، على ما عَرَفْتَ في شرحِ الشاهِدِ السابِقِ (رَقْمِ 216).
وهم يَرُدُّونَ استشهادَ الكِسَائِيِّ بهذا البَيْتِ، ويَقُولُونَ: إِنَّ قولَ الشاعِرِ: (فِعْلَ ذِي كَرَمٍ). ليسَ مَفْعولاً بِهِ لِعَابَ المذكورِ في البيتِ، وقولَه: (بَطَلاَ). لَيْسَ مفعولاً بهِ لجَفَا المذكورِ فيه، بل كُلُّ واحدٍ منهما مَفْعولٌ بهِ لفِعْلٍ محذوفٍ يَدُلُّ عليه المذكورُ، وتقديرُ الكلامِ: ما عَابَ إِلاَّ لَئِيمٌ، عَابَ فِعْلَ ذِي كَرَمٍ، ولا جَفَا قَطُّ إِلاَّ جُبَّأٌ، جَفَا بَطَلاً، فالفَاعِلُ في كلٍّ مِنَ العِبارتَيْنِ من جُملةٍ غَيْرِ الجملةِ التي مِنها المفعولُ المذكورُ. فاحْفَظْ ذلك.

([16])222-هذا عَجُزُ بَيْتٍ من البَسيطِ، وصَدْرُه قولُه:
*نُبِّئْتُهُمْ عَذَّبُوا بالنَّارِ جَارَتَهُمْ*

وقَدْ نَسَبَ أبو الفَرَجِ (الأغاني 7/118 بولاق) هذا البيتَ إلى يَزِيدَ بنِ الطَّثْرِيَّةِ، ورَوَى قَبْلَه بيتاً آخَرَ، وهو قولُه:
يَا سَخْنَةَ العَيْنِ لِلْجَرْمِيِّ إِذْ جَمَعَتْ = بَيْنِي وبَيْنَ نَوَارِ وَحْشَةُ الدَّارِ
اللغةُ: ( نُبِّئْتُهُمْ) فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ للمجهولِ, أصْلُه نَبَّأَ – بتشديدِ الباءِ – بمعنَى أعْلَمَ, ( جَارَتَهُمْ) ويُرْوَى في مَكانِه: (جَارَهُمْ), والجارُ: الذي دارُه لَصِيقَةٌ لدَارِكَ أو قَرِيبٌ منها، أو هو المُسْتجِيرُ بك، وإرادةُ الثاني هنا أَوْلَى, (هَلْ) بمعنى حَرْفِ النفْيِ، وكأنَّه قدْ قالَ: ولا يُعَذِّبُ أحَدٌ أحَداً بالنَّارِ غَيْرُ اللهِ تعالى.
المعنى: يَهْجُو قوماً بأنَّه عَلِمَ أنَّهم يُعذِّبُونَ بالنارِ مَن استجارَ بهم واستغاثَهم، وأنَّهم جَعَلُوا ذلكَ العذابَ مكانَ إغاثَتِه وإبلاغِه مَأْرَبَهُ، ويُنْكِرُ عليهم ذلك.
الإعرابُ: (نُبِّئْتُهُمْ) نُبِّئَ: فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ للمجهولِ، وتاءُ المُتكلِّمِ نائبُ فاعِلٍ مَبْنِيٌّ على الضمِّ في مَحَلِّ رَفْعٍ، وهو المفعولُ الأوَّلُ، وضَمِيرُ الغَائِبِينَ مَفْعولٌ ثانٍ, (عَذَّبُوا) فعلٌ ماضٍ وفاعلُه, (بالنارِ) جارٌّ ومَجْرورٌ مُتعَلِّقٌ بعَذَّبُوا, (جَارَتَهُمْ) جَارَةَ: مَفْعولٌ بهِ لعَذَّبُوا، وهو مُضافٌ, وضميرُ الغائِبِينَ مُضافٌ إليه، وجُملةُ الفعلِ الماضي وفَاعِلِه ومفعولِه في مَحَلِّ نَصْبٍ, مَفْعولٌ ثَالِثٌ لنُبِّئَ, (وهَلْ) الواوُ حَرْفُ عَطْفٍ، أو للاستئنافِ، هل: حَرْفُ استفهامٍ إنكاريٍّ بمعنَى النَّفْيِ، مَبْنِيٌّ على السكونِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ, (يُعَذِّبُ) فِعْلٌ مُضارِعٌ مَرْفوعٌ؛ لتَجَرُّدِه من الناصبِ و الجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِه الضمَّةُ الظَّاهِرَةُ, (إِلاَّ) أَداةُ حَصْرٍ, حَرْفٌ مَبْنِيٌّ على السكونِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ, (اللهُ) فاعِلُ يُعَذِّبُ مَرْفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ, (بالنارِ) جارٌّ ومَجْرورٌ مُتعَلِّقٌ بيُعَذِّبُ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُه: (هَلْ يُعَذِّبُ إلاَّ اللهُ بالنَّارِ) حَيْثُ قَدَّمَ الفاعِلَ المحصورَ بإِلاَّ – وهو قولُه: (اللهُ) – على ما هو بمَنْزلةِ المفعولِ به؛ وهو الجارُّ والمجرورُ, الذي هو قولُه: (بالنَّارِ). وقدْ طَوَى ذِكْرَ المفعولِ به، ولو أنَّه جاءَ بهِ وجاءَ بالكلامِ على وَجْهِهِ لَقالَ: وهل يُعَذِّبُ أحداً بالنارِ إلاَّ اللهُ، وقدْ بَيَّنَّا في شَرْحِ الشاهدِ السابقِ أَنَّ هذا التقديمَ مِمَّا يُجِيزُه الكِسَائِيُّ، وأنَّ جَمْهرةَ البَصْريِّينَ لا يُجِيزُونَه، ولهم تَوْجِيهٌ لمَوْضِعِ الاستدلالِ, يَرُدُّونَ بهِ استدلالَ الكِسَائِيِّ بهذا البيتِ، وخُلاصَتُه أنَّ قَوْلَ الشاعرِ: (بالنَّارِ). ليسَ مُتَعَلِّقاً بقولِه: (يُعَذِّبُ). المذكورِ قبلَه، ولكنَّه مُتعَلِّقٌ بفِعْلٍ محذوفٍ مُماثِلٍ له, يَدُلُّ المذكورُ عليهِ، وكأنَّه قالَ: لا يُعَذِّبُ إلاَّ اللهُ يُعَذِّبُ بالنَّارِ. وهذا نظيرُ ما ذَكَرْنَاهُ في تخريجِ الشاهدِ السابقِ، وهو تَكَلٌّفٌ لا مُقْتَضَيَ له.

([17])223-هذا صَدْرُ بَيْتٍ من الطويلِ، وعَجُزُه قولُه:
*عَشِيَّةَ آنَاءُ الدِّيارِ وَشَامُهَا*

وهذا البيتُ مِن الشواهدِ التي لم يَنْسُبْها أحَدٌ مِمَّن احَتَجَّ به من أئمَّةِ النحوِ، وهو من شواهدِ سِيبَوَيْهِ (1/370)، وقدْ عَثَرْتُ بعدَ طويلِ البَحْثِ على أنَّه من قصيدةٍ طويلةٍ لذي الرُّمَّةِ غَيْلانَ بنِ عُقْبَةَ، وأوَّلُها قولُه:
مَرَرْنَا عَلَى دَارٍ لِمَيَّةَ مَرَّةً = وجَارَاتِها، قَدْ كَادَ يَعْفُو مَقامُهَا
وبعدَه بيتُ الشاهِدِ، ثم بعدَه قولُه:
وقَدْ زَوَّدَتْ مَيٌّ عَلَى النَّأْيِ قَلْبَهُ = عَلاَقاتِ حَاجَاتٍ طَوِيلٌ سَقَامُها
فأَصْبَحْتُ كالهَيْمَاءِ، لا المَاءُ مُبْرِدٌ = صَدَاهَا، وَلاَ يَقْضِي عَلَيْهَا هُيامُهَا
اللغةُ: ( آناءُ) مِن الناسِ مَن يَرْويهِ بهَمْزةٍ مَمْدودةٍ كآبَارٍ وآرَامٍ، ومِنهم مَن يَرْويهِ بهَمزةِ أَوَّلِه غيرِ ممدودةٍ وهَمْزَةٍ بعدَ النونِ مُمْدودةٍ على مِثالِ أقْفالٍ وأعمالٍ، وقدْ جَعَلُه العَيْنيُّ جَمْعَ نَأْيٍ – بفتحِ النونِ – ومعناهُ: البُعْدُ، وعندي أنَّه جَمْعُ نُؤْيٍ – بزِنَةِ قُفْلٍ أو صُرَدٍ أو ذِئْبٍ أو كَلْبٍ – وهو: الحَفِيرَةُ تُحْفَرُ حولَ الخِبَاءِ؛ لتَمْنَعَ عنه المَطَرَ، ويَجوزُ أنْ تَكُونَ الهمزةُ أوَّلَه ممدودةً على أنَّه قَدَّمَ الهمزةَ التي هي العَيْنُ على النونِ، فاجْتَمَعَ في أوَّلِ الجمعِ همزتانِ مُتجاوِرتانِ، وثَانِيَتُهما سَاكِنَةٌ, فقَلَبَها ألِفاً مِن جنسِ حركةِ الأُولَى؛ كما فَعَلُوا بآبارٍ وآراءٍ وآرامٍ، جَمْعِ بِئْرٍ ورَأْيٍ ورِئْمٍ، ويجوزُ أنْ تَكُونَ الهمزةُ أَوَّلَه غيرَ مَمْدودةٍ, والمَدَّةُ في الهمزةِ الثانيةِ على الأصْلِ، وقدْ جَعَلَهُ الشيخُ خالِدٌ بكَسْرِ الهمزةِ الأولى على أنَّه مصدرٌ بزِنَةِ الإبعادِ، ومعناهُ: وهو بَعِيدٌ, فلا تَلْتَفِتْ إليه.
(وَشَامُهَا) ضَبَطَهُ غيرُ واحدٍ بكَسْرِ الوَاوِ بزِنَةِ جِبَالٍ على أنَّه جَمْعُ وَشْمٍ، وهو ما تَجْعَلُه المرأةُ على ذِرَاعِها ونحوِه، تَغْرِزُ ذَراعَها بالإبرةِ ثم تَحْشُوه بدُخانِ الشَّحْمِ، وليسَ ذلك بصوابٍ أصْلاً، وقدْ تَحَرَّفَ الكلامُ عليهم فانْطَلَقُوا يُخَرِّجُونَه ويَتَمحَّلُونَ له، والواوُ مَفْتوحةٌ, وهي واوُ العَطْفِ، والشَّامُ: جَمْعُ شَامَةٍ، وهي العلامةُ، وهو مَعْطوفٌ على (عَشِيَّةَ)، هذا وروايةُ البيتِ في الديوانِ هكذا:
فلَمْ يَدْرِ إلاَّ اللهُ مَا هَيَّجَتْ لَنَا = أَهِلَّةَ آنَاءِ الدِّيارِ وَشَامُهَا
الإعرابُ: (فلَمْ) الفَاءُ حَرْفُ عَطْفٍ، لَمْ: حَرْفُ نَفْيٍ وجَزْمٍ وقَلْبٍ, (يَدْرِ) فعلٌ مضارعٌ مجزومٌ بحذفِ الياءِ, (إِلاَّ) أداةُ استثناءٍ مُلْغاةٌ, (اللهُ) فَاعِلٌ, (مَا) اسمٌ موصولٌ مفعولٌ بهِ ليَدْرِي، وجُمْلَةُ (هَيَّجَتْ) معَ فاعلِه الآتي لا مَحَلَّ لها, صِلَةُ الموصولِ, (لنا) جارٌّ ومَجْرورٌ مُتعَلِّقٌ بهَيَّجَتْ, ( عَشِيَّةُ) أعَرَبَهُ كثيرٌ على أنَّه فَاعِلٌ لهَيَّجَتْ، وهو مُضافٌ، و(آنَاءِ) مُضافٌ إليهِ، وآناءِ مُضافٌ، و(الدِّيارِ) مُضافٌ إليهِ, (وَشَامُهَا) الواوُ حَرْفُ عَطْفٍ، شَامُ: مَعْطوفٌ على (عَشِيَّةُ)، وهو مُضافٌ وضَمِيرُ الغائبةِ العَائِدُ على الديارِ مُضافٌ إليه، ويَجُوزُ عندِي نَصْبُ ( عَشِيَّةَ) على الظرفيَّةِ، ويَكُونُ آنَاءُ فَاعِلاً لهَيَّجَتْ، وقَدْ وُصِلَ فيهِ هَمْزَةُ القَطْعِ, وهي هَمْزَتُه الأولى، بل هذا الإعرابُ عندي هو الصوابُ؛ فإنَّ الشُّعَراءَ اعتادوا أنْ يَتحدَّثوا عمَّا تُثِيرُه في أنفُسِهم آثارُ دِيارِ الأَحِبَّةِ ورُسومُها وما خَلَّفُوا فيها من علاماتٍ تدُلُّ عليهم.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُه: (فَلَمْ يَدْرِ إلاَّ اللهُ ما..إلخ) حيثُ قَدَّمَ الفاعِلَ المحصورَ بإلاَّ على المفعولِ، وقدْ ذهَبَ الكِسائِيُّ إلى تجويزِ ذلك؛ استشهاداً بمثلِ هذا البيتِ، والجمهورُ على أنَّه مَمْنوعٌ، وعندَهم أنَّ (مَا) اسمٌ موصولٌ مفعولٌ بهِ لفعلٍ مَحْذوفٍ، والتقديرُ: فلَمْ يَدْرِ إلاَّ اللهُ، دَرَى ما هَيَّجَتْ لَنَا.

([18]) سورة البقرةِ، الآية:87.

([19]) سورة غافرٍ، الآية:81.

([20]) سورة الإسراءِ، الآية:110.

([21]) سورة المُدَّثِّرِ، الآية: 3.

([22]) سورة الضُّحَى، الآية:9.

([23])فإنْ قُلْتَ: فإِنَّكُمْ تُقرِّرونَ في قواعِدِكم أنَّ ما بعدَ فاءِ الجزاءِ لا يَعْمَلُ فيما قبلَها، وجَعَلْتُمْ بمُقْتَضَى هذهِ القاعدةِ لهذهِ الفاءِ حُكْمَ التصَدُّرِ في أَوَّلِ الكلامِ، فكيفَ جَعَلْتُم الاسْمَ المنصوبَ الواقِعَ بعدَ (أمَّا) الملفوظِ بها أو المُقدَّرَةِ مَنْصوباً بالفعلِ الواقِعِ بعدَ فاءِ الجزاءِ؟ بل زِدْتُمْ على ذلكَ فجَعَلْتُمْ تَقَدُّمَهُ على العاملِ المُقْتَرِنِ بالفاءِ وَاجِباً؟
فالجوابُ عن ذلك أنْ نَقولَ لكَ: إنَّا نَلْتَزِمُ أنَّ ما بعدَ فاءِ الجزاءِ لا يَعْمَلُ فيما قَبْلَها، لكنَّ مَحَلَّ ذلك إذا كانَ ما بعدَ الفاءِ وَاقعاً في مَوْقِعِه ومركزِه الطبيعيِّ، أمَّا إذا لم يكنْ وَاقعاً في موقعِه ومركزِه الطبيعيِّ – بل كانَ مُؤخَّراً عن مَوْقِعِه ومركزِه الطبيعيِّ – فإنَّه يَجوزُ أنْ يَعْمَلَ فيما قَبْلَه، ونحنُ نُقَرِّرُ هنا أنَّ ما بعدَ الفاءِ الواقعةِ في جَوابِ (أَمَّا) الملفوظِ بها أو المُقدَّرَةِ ليسَ واقعاً في مَوْقِعِه ومَرْكَزِه الطبيعيِّ، فلهذا جَازَ أَنْ يَعْمَلَ في المفعولِ المُتقَدِّمِ عليهِ في اللفظِ، ولهذا التأخُّرِ في هذا الموضِعِ سرٌّ نحنُ نُبَيِّنُه لكَ حتى تَكُونَ من الأمرِ على يَقِينٍ.
أنتَ تَعْلَمُ أنَّ (أمَّا) نَائِبَةٌ عن أداةِ الشرطِ وعن فِعْلِ الشرطِ جميعاً، ومن أجْلِ ذلكَ يُفَسِّرُونها بـ مَهْمَا يَكُنْ مِن شَيْءٍ، فمَهْمَا هي أداةُ الشرطِ، وقولُهم: (يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ) هو فعلُ الشرطِ، وقدْ نَابَتْ (أمَّا) مَنابَهما جميعاً، وما يلي (أمَّا) في اللفظِ هو جوابُ الشرطِ، والتَزَموا فيهِ الفاءَ ليَدُلُّوا من أَوَّلِ وَهْلَةٍ على أنَّه جوابٌ، حتى لا يَقَعَ في وَهْمِ وَاهِمٍ أنَّه الشرطُ؛ لأنَّ من المعلومِ أنَّ الشرطَ لا يَقْتَرِنُ بالفاءِ.
والتَزَمُوا أنْ يُفْصَلَ بينَ (أَمَّا) والفاءِ بفَاصِلٍ، والْتَزَموا أنْ يَكُونَ هذا الفاصِلُ مُفْرداً لا جُمْلةً، أمَّا التزامُهم الفَصْلَ بينَ (أمَّا) والفاءِ, فلِكَرَاهِيَتِهم أَنْ يَقَعَ جوابُ الشرطِ مُتَّصِلاً بأداةِ الشرطِ، وأمَّا التزامُهم أَنْ يَكُونَ هذا الفاصِلُ مُفْرداً؛ فلأنَّهم لو أجَازُوا وُقوعَ الجملةِ فَاصِلاً لوَقَعَ في وَهْمِ مَن لا يَعْرِفُ حقيقةَ الأمْرِ أنَّ هذهِ الجملةَ هي جُمْلَةُ الشرطِ، وإذنْ فهذا الاسْمُ المفردُ الذي التَزَموهُ بعدَ (أمَّا) جُزْءٌ من أجزاءِ جُمْلَةِ الجوابِ تَقَدَّمَ على مَوضِعِه ومركزِه الطبيعيِّ لسَبَبٍ صِناعِيٍّ، وهذهِ الفاءُ التي تَليهِ مُؤخَّرَةٌ عن مَوْضِعِها ومَرْكَزِها لسَبَبٍ صِناعِيٍّ أيضاً, ولو أَنَّ العامِلَ المُقْتَرِنَ بالفاءِ وقَعَ في مَوْضعِه الطبيعيِّ لَكانَ مُتَقَدِّماً في اللفظِ على الاسْمِ المنصوبِ، وهذا معنَى قَوْلِنا في أَوَّلِ جوابِ هذا السؤالِ: (إِنَّ مَا بعدَ فاءِ الجزاءِ لا يَعْمَلُ فيما قَبْلَها إذا كَانَتِ الفاءُ وَاقِعَةً في مَوْقِعِها الطبيعيِّ). فتَأَمَّلْ هَذَا الكَلامَ، وسيأتي له مَزِيدُ بَحْثٍ في فَصْلِ (أمَّا).



  #4  
قديم 24 ذو الحجة 1429هـ/22-12-2008م, 09:35 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح ألفية ابن مالك للشيخ: علي بن محمد الأشموني


[الفِعْلُ وَالفَاعِلُ وَالمَفْعُولُ بِهِ مِنْ حيثُ التَّقْدِيمُ والتَّأْخِيرُ]:
237 - والأصلُ في الفاعلِ أنْ يَتَّصِلاَ = وَالأَصْلُ فِي المَفْعُولِ أَنْ يَنْفَصِلاَ
238 - وَقَدْ يُجَاءُ بِخَلاَفِ الأَصْلِ = وَقَدْ يَجِي المَفْعُولُ قَبْلَ الفِعْلِ
(وَالأَصْلُ فِي الفَاعِلِ أَنْ يَتَّصِلاَ) بالفعلِ لِأنَّهُ كجُزْءٍٍ منهُ ألا تَرَى أنَّ علامةَ الرفعِ تَتَأَخَّرُ عنهُ في الأفعالِ الخمسةِ (وَالأَصْلُ في المفعولِ أن يَنْفَصِلاَ) عنهُ بالفاعلِ لِأنَّهُ فَضْلَةٌ.
(وَقَدْ يُجَاءُ بِخَلاَفِ الأَصْلِ) فيتَقَدَّمُ المفعولُ على الفاعلِ إما جوازًا وإِمَّا وجوبًا وقد يمتَنِعُ ذلكَ كمَا سيأَتِي (وَقَدْ يَجِي المفعولُ قبلَ الفاعلِ). وفاعلُه وهو أيضًا عَلَى ثلاثةِ أوجهٍٍ: جائزٍٍ نحوَ: {فريقًا هَدَى} وواجِبٍٍ نحوَ: "مَنْ أَكْرَمْتُ؟" ومُمْتَنِعٍٍ ، ويَمْنَعُهُ مَا أَوْجَبَ تَأَخُّرَه أوْ تَوَسُّطَهُ على ما سيأتِي بيانُهُ.
239- وَأَخَّرَ المَفْعُولَ إِنْ لَبْسٌ حُذِرْ = أَوْ أُضْمِرَ الفَاعِلُ غيرُ مُنْحَصِرْ
(وَأُخِّرَ المَفْعُولُ) عنِ الفاعلِ وجوبًا (إِنْ لَبْسٌ حُذِرْ) بسببِ خفاءِ الإعرابِ وعدمِ القرينةِ ؛ إِذْ لا يُعْلَمُ الفاعلُ مِنَ المفعولِ والحالةُ هذِه إلا بالرتبةِ كما في نحوِ: "ضَرَبَ مُوسَى عِيسَى" و"أَكْرِمْ ابْنِي أَخِي" فَإِنْ أُمِنَ اللَّبْسُ لوجودِ قرينةٍٍ جازَ التقديمُ نحو: "ضَرَبَتْ موسى سلمى" و"أَضْنَتْ سُعْدَى الحُمَّى".
تنبيهٌ : ما ذَكَرَهُ الناظمُ هو ما ذهَبَ إليهِ ابنُ السَّرَّاجِ وغيرُه، وتظَافَرَ عليهِ نصوصُ المتأخِّرِينَ.
ونازَعَ في ذلك ابنُ الحاجِّ في نقدِه على ابنِ عصفورٍٍ فأجازَ تقديمَ المفعولِ والحالةُ هذه محتجًّا بأنَّ العربَ تُجِيزُ تصغيرَ "عمرَ" و"عمرٍٍو" على "عُمَيْرٍٍ" وبأنَّ الإجمالَ مِنْ مقاصدِ العقلاءِ وبأنَّهُ يجوزُ ضَرَبَ أحدُهما الآخرَ وبأنَّ تأخيرَ البيانِ إلى وقتِ الحاجةِ جائزٌ عقلاً وشرعًا ، وبأنَّه قد نقَلَ الزجَّاجُ إنَّهُ لا اختلافَ في إنَّهُ يجُوزُ في نحو: {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} أن تكونَ {تِلْكَ} اسمُ "زَالَ" و{دَعْوَاهُمْ} الخبرُ والعكسُ.
قلت: وما قالَه ابنُ الحاجِّ ضعيفٌ ؛ لِأنَّهُ لو قُدِّمَ المفعولُ وأُخِّرَ الفاعلُ ، والحالةُ هذه ، لَقَضَى اللفظُ – بحَسْبِ الظاهرِ – بفاعليَّةِ المفعولِ ومفعوليَّةِ الفاعلِ : فيعظُمُ الضرَّرُ ويَشْتَدُّ الخَطَرُ بخلافِ ما احتَجَّ بهِ فإِنَّ الأمرَ فيهِ لا يُؤَدِّي إِلَى مِثْلِ ذلك وهو ظاهرٌ.
(أو أُضْمِرَ الفاعلُ) أي: وَأُخِّرَ المفعولُ عِنِ الفاعلِ أيضًا وجوبًا إِنْ وقَعَ الفاعلُ ضميرًا (غيرَ منحَصِرٍٍ) نحو: "أَكْرَمْتُكَ" و"أَهَنْتُ زَيْدًا".
240 - وَمَا بِإِلَّا أَوْ بِإِنَّمَا انْحَصَرْ = أَخِّرْ، وَقَدْ يَسْبِقُ إِنْ قَصْدٌ ظَهَرْ
(وَمَا بِإِلاَّ أَوْ بِإِنَّمَا انْحَصَرْ) مِنْ فاعلٍٍ أو مفعولٍٍ ظاهرًا كانَ أو مضمرًا (أُخِّرَ) عن غيرِ المحصورِ منهما فالفاعلُ المحصورُ نحو: "مَا ضَرَبَ عمرًا إلا زيدًا أَوْ إِلاَّ أَنَا" و"إِنَّمَا ضَرَبَ عمرًا زيدًا أو أنا" والمفعولُ المحصورُ نحو: "ما ضرَبَ زيدٌ إلا عمرًا" و"ما ضرَبْتُ إلاَّ عَمْرًا" و"إِنَّمَا ضَرَبَ زيدٌ عمرًا" و"إنما ضربَتُ عَمْرًا".
(وَقَدْ يَسْبِقُ) المحصورُ فاعلاً كانَ أو مفعولاً غيرَ المحصورِ (إِنْ قَصْدٌ ظَهَرَ) بأنْ كانَ الحصرُ بـ "إِلاَّ" وتقدَّمَتْ معَ المحصورِ بها نحوُ: "ما ضَرَبَ إلا زيدٌ عمرًا" و"ما ضَرَبَ إلا عمرًا زيدٌ" ومن الأوَّلِ قولُه [مِنَ الطَّوِيلِ]:
371 - فَلَمْ يَدْرِ إِلاَّ اللَّهُ مَا هَيَّجَتْ لَنَا = عَشِيَّةَ آنَاءِ الدِّيَارِ وِشَامُهَا
وقوله [مِنَ البَسِيطِ]:
372 - مَا عَابَ إِلاَّ لَئِيمٌ فِعْلَ ذِي كَرَمٍٍ = وَلاَ جَفَا قَطُّ إِلاَّ جَبَّأٌ بَطَلَا +
ومِنَ الثانِي قولُه [مِنَ الطَّوِيلِ]:
373 - تَزَوَّدْتُ مِنْ لَيْلَى بِتَكْلِيمِ سَاعَةٍٍ = فَمَا زَادَ إِلاَّ ضَعْفَ مَا بِي كَلامُها
وقوله [مِنَ الطَّوِيلِ]:
374 - وَلَمَّا أَبَى إِلاَّ جُمَاحًا فُؤَادُهُ = وَلَمْ يَسْلُ عَنْ لَيْلَى بِمَالٍٍ وَلاَ أَهْلِ
فَإِنْ لَمْ يظهَرِ القصدُ – بأنْ كانَ الحصرُ بـ "إِنَّمَا" أو بـ "إِلاَّ" ولم تتقدَّمْ معَ المحصورِ امتنَعَ تقديمُهُ لانعكاسِ المعنَى حينئذٍ وذلك واضحٌ.
تنبيهٌ: الذي أجازَ تقديمَ المحصورِ بـ "إلا" مطلقًا هو الكِسَائِيُّ محتجًّا بما سبَقَ وذهَبَ بعضُ البَصْرِيِّينَ إلى منْعِ تقديمِ المحصورِ مطلقًا واختارَه الجزولِيُّ والشَّلَوْبِينَ حملاً لـ "إلا" على "إنما" وذهبَ الجمهورُ مِنَ البَصْرِيِّينَ والفرَّاءُ وابنُ الأنباريُّ إلى منْعِ تقديمِ الفاعلِ المحصورِ ، وأجازُوا تقديمَ المفعولِ المحصورِ لِأنَّهُ في نيَّةِ التأخيرِ.
241 - وَشَاعَ نحوُ "خَافَ رَبَّهُ عُمَرْ " = وَشَذَّ نَحْوُ: "زَانَ نَوْرُهُ الشَّجَرْ".
(وَشَاعَ) في (لسانِ العربِ) تقديمُ المفعولِ المُلْتَبِسِ بضميرِ الفاعلِ عليهِ (نَحْوُ خَافَ رَبِّهِ عُمَرّ) وقولُه [مِنَ البَسِيطِ]:
375 - جاءَ الخِلاَفَةُ أَوْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا = كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ
لأنَّ الضميرَ فيهِ وإِنْ عادَ على متأخِّرٍٍ في اللفظِ إلا أَنَّهُ متقدِّمٌ في الرتبةِ.
(وشذَّ) في كلامِهِمْ تقديمُ الفاعلِ الملتبِسِ بضميرِ المفعولِ عليهِ (نحو: زَانَ نَوْرُهُ الشَّجَرَ) لما فيهِ من عودِ الضميرِ على متأَخِّرٍٍ لفظًا ورتبَةً قالَ الناظمُ: والنحويُّونَ – إلا أبَا الفتحِ – يحكمُونَ بمنعِ هذا والصحيحُ جوازُه واستدَلَّ على ذلك بالسماعِ وأنشدَ على ذلك أبياتًا منها قولُه [مِنَ الطَّوِيلِ]:
376 - وَلَوْ أَنَّ مَجْدًا أَخْلَدَ الدَّهْرُ واحدًا = مِنَ الناسِ أَبْقَى مَجْدُهُ الدَّهْرَ مَطْعَمَا
وقوله [مِنَ الطَّوِيلِ]:
377 - وَمَا نَفَعَتْ أَعْمَالُهُ المَرْءَ رَاجِيًا = جَزَاءً عَلَيْهَا مِنْ سِوَى مَنْ لَهُ الأَمْرُ
وقوله [مِنَ البَسِيطِ]:
378 - جَزَى بَنُوه أَبَا الغِيلاَنِ عَنْ كِبَرٍٍ = وَحُسْنِ فِعْلٍٍ كَمَا يُجْزَىَ سِنِمَّارُ
وقولُه [مِنَ الطَّوِيلِ]:
379 - كَسَا حِلْمُهُ ذَا الحِلْمِ أثوابَ سُؤْدُدٍٍ = وَرَقَّى نَدَاهُ ذَا النَّدَى فِي ذُرَا المَجْدِ
وقولُه [مِنَ الطَّوِيلِ]:
380 - جَزَى رَبُّهُ عَنِّي عَدِيَّ بَنْ حَاتِمٍٍ = جَزَاءَ الكِلاَبِ العَاوِيَاتِ وَقَدْ فَعَلْ
وذكَرَ لجوازِه وجهًا مِنَ القياسِ وممَّنْ أجازَ ذلك قبلَهُ وقبلَ أبي الفتحِ الأَخْفَشُ من البَصْرِيِّينَ والطوالُ مِنَ الكُوفِيِّينَ.
وتأَوَّلَ المانعونَ بعضَ هذه الأبياتِ بما هو خلافُ ظاهرِها.
وقد أجازَ بعضُ النحاةِ ذلك في الشعرِ دونَ النثرِ ، وهو الحقُّ والإنصافُ ؛ لأنَّ ذلك إنَّمَا ورَدَ في الشعرِ.
تنبيهاتٌ : الأَوَّلُ: لو كانَ الضميرُ المتَّصِلُ بالفاعلِ المتقدِّمِ عائدًا على ما اتَّصِلَ بالمفعولِ المُتَأَخِّرُ نحو: "ضَرَبَ أبوها غلامَ هندٍٍ" امتنَعَتِ المسألةُ إجماعًا كما امتنَعَ "صاحبُها في الدارِ" وقيل: فيهِ خلافٌ.
واختلَفَ في نحو: "ضَرَبَ أَبَاهَا غُلاَمُ هِنْدَ" فمنَعَهُ قومٌ وأجازَه آخرونَ ، وهو الصحيحُ ؛ لِأنَّهُ لمَّا عادَ الضميرُ على ما اتَّصَلَ بِمَا رُتْبَتُهُ التقديمُ ، كانَ كعودِه على مَا رُتْبَتُه التقديمُ.
الثانِي: كما يعودُ الضميرُ على مُتَقَدِّمٍٍ رُتْبَةٍٍ دُونَ لفظٍٍ – ويُسَمَّى متقدِّمًا حُكْمًا – كذلك يعودُ على متقدِّمٍٍ معنًى دونَ لفظٍٍ ، وهو العائدُ على المصدرِ المفهومِ مِنَ الفعلِ نحو: " أَدِّبْ وَلَدَكَ فِي الصِّغَرِ يَنْفَعُهُ فِي الكِبَرِ" أي التأديبُ ومنه: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} أي: العَدْلُ.
الثالثُ: يعودُ الضميرُ على متأَخِّرٍٍ لفظًا ورُتْبَةً – سِوَى ما تقدَّمَ – في سِتَّةِ مَوَاضِعَ.
أحدِها: الضميرُ المرفوعُ بـ "نِعْمَ" و"بِئْسَ" نحو: "نِعْمَ رَجُلاً زَيْدٌ" و"بِئْسَ رَجُلاً عَمْرٌو" بناءً على أنَّ المخصوصَ مبتدَأٌ لخبرٍٍ محذوفٍٍ أو خبرٍٍ لمبتدأٍٍ محذوفٍٍ.
الثانِي: أن يكونَ مرفوعًا بأوَّلِ المتنازعينِ المُعْمَلِ ثانيهما كقولِهِ [مِنَ الطَّوِيلِ]:
381 - جُفُونِي وَلَمْ أَجْفُ الأَخِلاَّءَ إِنَّنِي = لِغَيْرِ جَمِيلٍٍ مِنْ خَلِيلَيِ مُهْمِلُ
على ما سيأتي في بابِه
الثالثِ : أنْ يكونَ مخبِرًا عنهُ فيُفَسِّرُه خبرُه نحوُ { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا}
الرابعُ: ضميرُ الشأَنِ والقِصَّةُ نحو {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا}
الخامسُ: أن يُجَرَّ بـ "رُبَّ" وحكمُه حُكْمُ ضميرِ "نِعْمَ" و"بِئْسَ" في وجوبِ كونِ مفسِّرِهِ تمييزًا وكونِهِ مفردًا كقولِهِ [مِنَ الخَفِيفِ]:
382 - رُبَّهُ فِتْيَةً دَعَوْتُ إِلَى مَا = يُورِثُ المَجْدُ دَائِبًا فَأَجَابُوا
ولكنه يلزَمُ أيضًا التذكيرُ فيقال: "رُبَّهُ امرأةً لا رَبِّها" ويقال: "نِعْمَتِ امْرَأَةً هِنْدٌ".
السادس: أنْ يكونَ مبدَلاً منهُ الظاهرُ المفسَّرُ لهُ كـ "ضرَبْتُهُ زيدًا" قالَ ابنُ عصفورٍٍ: أجازَهُ الأَخْفَشُ ومنَعَه سِيبَوَيْهِ وقال ابنُ كَيْسَانَ : هو جائزٌ بإجماعٍٍ انتهى.
[اشْتَبَاهُ الفاعلُ بالمفعولِ وطريقُ التمييزِ بينَهما]:
خاتمةٌ: قد يشتبِهُ الفاعلُ بالمفعولِ ، وأكثرُ ما يكونُ ذلك إذا كانَ أحدُهما اسمًا ناقصًا والآخرُ اسمًا تامًّا وطريقُ معرفةِ ذلك: أنْ تجعَلَ في موضعِ التامِ: إِنْ كانَ مرفوعًا ضميرَ المتكلِّمِ المرفوعِ وإنْ كانَ منصوبًا ضميرَه المنصوبَ ، وتبدِلَ مِنَ الناقصِ اسمًا بمعناهُ في العقلِ وعدمِهِ فإنْ صحَّتْ المسألةُ بعد ذلك فهي صحيحةٌ قبلَه ، وإلا فهي فاسدةٌ فلا يجوزُ: " أَعْجَبَ زيدٌ مَا كَرِهَ عمرٌو" إن أوقعَتْ "ما" على ما لا يعقِلُ ؛ لِأنَّهُ لا يجوزُ: "أَعْجَبْتُ الثوبَ" ويجوزُ نصبُ "زيد" لِأنَّهُ يجوزُ: "أَعْجَبَنِي الثوبُ" فإن أوقَعَتْ "ما" على أنواعِ مَنْ يعقِلُ جازَ رفْعُه ؛ لِأنَّهُ يجوزُ: "أَعْجَبْتُ النساءَ" وتقولُ: "أَمْكَنَ المُسَافِرَ السَّفَرُ" بِنَصْبِ "المسافرِ" لأنَّكَ تقولُ: "أَمْكَنَنِي السَّفَرُ" ولا تقولُ: "أَمْكَنْتُ السَّفَرَ" واللَّهُ أَعْلَمُ.

  #5  
قديم 24 ذو الحجة 1429هـ/22-12-2008م, 09:36 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي دليل السالك للشيخ: عبد الله بن صالح الفوزان


7- رُتبةُ الفاعِلِ والمفعولِ بالنسبةِ للفعْلِ

236- والأصْلُ في الفاعلِ أن يَتَّصِلَا = والأصْلُ في المفعولِ أن يَنْفَصِلَا
237- وقد يُجاءُ بخِلافِ الأَصْلِ = وقد يَجِي المفعولُ قبلَ الفاعِلِ
هذا هو الحكْمُ السابعُ مِن أحكامِ الفاعلِ، وهو أنَّ الأصْلَ في الفاعلِ أنْ يَتَّصِلَ بفِعْلِه؛ لأنه مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ جُزْئِه؛ ولهذا جاءتْ علامةُ الرفْعِ بعدَ الفاعِلِ في الأمثِلَةِ الخمسةِ، نحوُ: يَكتبونَ.
والأصْلُ في المفعولِ أنْ يَنفصِلَ عن الفعْلِ بأنْ يَتَأَخَّرَ عن الفاعِلِ، نحوُ: حَرَّمَ الإسلامُ الغِشَّ قالَ تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ}.
وهذا الأصْلُ قد يكونُ واجِباً، كما سيَأْتِي إنْ شاءَ اللهُ، وقد يُخَالَفُ فيُقَدَّمُ المفعولُ على الفاعلِ.
وقد يَتقَدَّمُ المفعولُ على الفعْلِ.
وتَقَدُّمُ المفعولِ على الفاعِلِ نَوعانِ.
الأوَّلُ: جائزٌ، وهو ما خَلاَ مِن مُوجِبِ التقديمِ أو التأخيرِ، نحوُ: أمَّ الْمُصَلِّينَ عُمرُ، قالَ تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ} وقالَ تعالى: {إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} فـ (الإنسانُ) مفعولٌ مقدَّمٌ على الفاعِلِ وهو (ضُرٌّ) و (يعقوبُ) مفعولٌ مُقَدَّمٌ على الفاعِلِ (الموتِ).
الثاني: واجبٌ، وسيأتي إنْ شاءَ اللهُ.
وأمَّا تَقَدُّمُ المفعولِ على الفعْلِ فنَوعانِ أيضاً:
الأوَّلُ: جائزٌ وهو ما خلا مِن مُوجِبِ التقديمِ أو التأخيرِ، نحوُ: الواجِبَ كَتَبَ الطالِبُ، قالَ تعالى: {فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} (ففريقاً) مفعولٌ مُقَدَّمٌ للفِعْلِ الذي بَعْدَه.
الثاني: واجبٌ وله مَواضِعُ ثلاثةٌ:
1- أنْ يكونَ المفعولُ مِن الألفاظِ التي لها الصدارةُ كأسماءِ الشرْطِ والاستفهامِ، نحوُ: أيَّ مُخْلِصٍ تُكْرِمْ أُكْرِمْ فـ (أيَّ) مفعولٌ مقَدَّمٌ للفعْلِ (تُكْرِمْ) وتَقَدُّمُه واجبٌ؛ لأن له الصَّدَارَةَ، وكذا لو أُضيفَ لِمَا له الصَّدَارَةُ، نحوُ: صَديقَ مَن قابَلْتَ؟ فـ (صديقَ) مفعولٌ مُقَدَّمٌ للفِعْلِ بعدَه، وهو واجبُ التقديمِ؛ لأنه أُضيفَ لـ (مَن) الاستفهاميَّةِ، قالَ تعالى: {فَأَيَّ آيَاتِ اللهِ تُنكِرُونَ} فـ (أيَّ) مفعولٌ مُقَدَّمٌ للفعْلِ (تُنكِرُونَ)، وقالَ تعالى: {أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} فـ (أيًّا) مفعولٌ مُقَدَّمٌ للفعْلِ (تَدْعُوا) و (ما) صِلَةٌ.
2- أنْ يَقَعَ عامِلُه بعدَ فاءِ الجزاءِ في جوابِ (أمَّا) الشرطيَّةِ الظاهِرَةِ أو الْمُقَدَّرَةِ، ولا اسمَ يَفْصِلُ بينَ هذا العامِلِ و (أمَّا) فيَجِبُ تقديمُ المفعولِ به ليكونَ فاصِلاً؛ لأنَّ الفعْلَ ـ وخاصَّةً المقرونَ بفاءِ الجزاءِ ـ لا يَلِي (أمَّا) كقولِِه تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ} وقولُه تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} بخِلافِ قولِك: أمَّا اليومَ فاحفَظْ وَقْتَك، فلا يَجِبُ تقديمُ المفعولِ (وقْتَكَ) لحصولِ الفصْلِ بالظرْفِ.
2- أنْ يكونَ المفعولُ ضميراً منْفَصِلاً لو تَأَخَّرَ عن عامِلِه لوجَبَ اتِّصَالُه به، وذلك في غيرِ بابِ (سَلْنِيهِ) و (خِلْتَنِيهِ) اللَّذَيْنِ يَجُوزُ فيهما الاتِّصالُ والانفصالُ مع التأخُّرِ، ومِثالُ ذلك: أيُّها الشبابُ إيَّاكُمْ نُخَاطِبُ وإيَّاكُمْ تَرْقُبُ البلادُ فاسْتَقِيمُوا على طاعةِ اللهِ تعالى، فلو تَأَخَّرَ المفعولُ لقلنا: نُخَاطِبُكُم وتَرْقُبُكُم، فيَفوتُ الغرَضُ المقصودُ مِن التقديمِ وهو الحصْرُ قالَ تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
قالَ ابنُ مالكٍ: (والأصْلُ في الفاعلِ أنْ يَتَّصِلاَ.. إلخ) أيْ: أنَّ الأصلَ في تَكَوُّنِ الجملةِ وترتيبِها يَقتضِي أنْ يَتَّصِلَ الفاعلُ بعامِلِه، وأنْ يَنْفَصِلَ المفعولُ به عن ذلك العاملِ بسببِ وُقوعِ الفاعلِ فاصِلاً بينَهما، ولكنَّ هذا الأصْلَ لا يُرَاعَى أحياناً؛ فقد يَتَقَدَّمُ المفعولُ به على الفاعلِ، وقد يَتقدَّمُ المفعولُ به على الفِعْلِ أيضاً.
وُجوبُ تقديمِ الفاعلِ

238- وأُخِّرَ المفعولُ إن لَبْسٌ حُذِرْ = أو أضْمِرَ الفاعلُ غيرَ مُنْحَصِرْ
تَقَدَّمَ أنَّ الأصْلَ تَقَدُّمُ الفاعلِ على المفعولِ، وقد يكونُ ذلك واجِباً، وذلك في ثلاثةِ مَوَاضِعَ:
الأوَّلُ: إذا خِيفَ الْتِبَاسُ أحَدِهما بالآخَرِ كما إذا خَفِيَ الإعرابُ فيهما، ولم تُوجَدْ قَرينةٌ تُبَيِّنُ الفاعِلَ مِن المفعولِ، ومِن مَوَاضِعِ خَفاءِ الإعرابِ أنْ يكونَ كلٌّ منهما اسماً مَقصوراً لا تَظْهَرُ عليه الحركةُ، نحوُ: أَكْرَمَ عيسى موسى، فيَجِبُ كوْنُ (عيسى) فاعلاً و (موسى) مَفعولاً.
فإنْ وُجِدَ قَرينةٌ لَفظيَّةٌ أو مَعنويَّةٌ تُبَيِّنُ أحَدَهما مِن الآخَرِ لم يَجِبْ تقديمُ الفاعلِ فاللفظيَّةُ، نحوُ: وعَظَتْ عيسى ليلى، فـ (ليلى) فاعلٌ بدليلِ تأنيثِ الفعْلِ، والمعنويَّةُ، نحوُ: كَسَرَ العصا موسى، فـ (موسى) فاعلٌ بدَلالةِ المعنى.
الثاني: أنْ يكونَ الفاعلُ ضميراً متَّصِلاً والمفعولُ به اسماً ظاهراً، نحوُ: أتْقَنْتُ العملَ، فلا يَجُوزُ تقديمُ المفعولِ على الفاعلِ لئلا يَنْفَصِلَ الضميرُ مع إمكانِ الاتِّصالِ.
الثالثُ: أنْ يكونَ المفعولُ مَحصوراً بـ (إنما) أو (بإلا)، نحوُ: إنما يقولُ المسلِمُ الصدْقَ، وسيأتي قريباً ذِكْرُ ذلك إنْ شاءَ اللهُ.
وإلى الْمَوْضِعَيْنِ ـ الأوَّلِ والثاني ـ أشارَ بقولِه: (وأَخِّرِ الْمَفعولَ.. إلخ) أيْ: قَدِّمِ الفاعلَ وأَخِّرِ المفعولَ وُجوباً إذا خِيفَ اللَّبْسُ، أو كان الفاعلُ ضَميراً غيرَ محصورٍ يَجِبُ اتِّصالُه بعَامِلِه.
أحكامُ المحصورِ مِن فاعِلٍ أو مفعولٍ
239- وما بِإِلَّا أو بإنما انْحَصَرْ = أَخِّرْ وقد يَسْبِقُ إن قَصْدٌ ظَهَرْ
ذَكَرَ في هذا البيتِ مَوْضِعاً واحداً مِن مَواضِعِ وُجوبِ تقديمِ الفاعِلِ على المفعولِ، ومَوْضِعاً مِن مواضِعِ وُجوبِ تقديمِ المفعولِ على الفاعِلِ، وهو ما إذا كان الفاعلُ أو المفعولُ مَحصوراً بـ (إنما) أو بـ (إلا)؛ وذلك لأنَّ كلَّ ما قُصِدَ حَصْرُه استَحَقَّ التأخيرَ فاعلاً كان أو مفعولاً، أو غيرَهما.
فإذا حُصِرَ الفاعِلُ أُخِّرَ، ووَجَبَ تقديمُ المفعولِ، نحوُ: لا يَنفعُ المرءَ إلاَّ العمَلُ الصالحُ، وإنما يَنفعُ المرءَ العمَلُ الصالحُ، قالَ تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} فـ (العُلماءُ) فاعِلُ (يَخْشَى) لأنَّ الغرَضَ قَصْرُ الْخَشيةِ على العُلماءِ.
وقد يَجُوزُ تقديمُ المحصورِ بـ (إلا) على مفعولِه إذا هي تَقَدَّمَتْ معه وسَبَقَتْهُ، نحوُ: لا يَنفعُ إلاَّ العمَلُ الحميدُ المرْءَ، فـ (العملُ) فاعلٌ محصورٌ بـ (إلا)، وجازَ تَقَدُّمُه لعَدَمِ اللَّبْسِ؛ لأنَّ وُجودَ (إلا) قَبْلَه دليلٌ على أنه هو المحصورُ، بخِلافِ المحصورِ بـ (إنما) فإنه يَتَأَخَّرُ عنها، فلو قُدِّمَ لم يُعْلَمْ تَقَدُّمُه.
ومِن التقديمِ مع (إلا) قولُ الشاعِرِ:
ما عابَ إلاَّ لئيمٌ فِعْلَ ذي كَرَمٍ = ولا جَفَا قَطُّ إلاَّ جُبَّأٌ بَطَلاَ

فقُدِّمَ الفاعلُ المحصورُ بـ (إلا) في الْمَوْضِعَيْنِ وهو دليلٌ لِمَنْ يُجيزُ ذلك وإذا حُصِرَ المفعولُ أُخِّرَ ووَجَبَ تقديمُ الفاعلِ، سواءٌ كان الْحَصْرُ بـ (إنما) أو بـ (إلا)، نحوُ: لا يقولُ المسلِمُ إلاَّ الصدْقَ، إنما يقولُ المسلِمُ الصدْقَ.
وقد يَجُوزُ تقديمُ المحصورِ بـ (إلا) على فاعِلِه،ـ إذا هي تَقَدَّمَتْ معه، نحوُ: لا يقولُ إلاَّ الصدْقَ المسْلِمُ، قالَ الشاعرُ:
تَزَوَّدْتُ مِن ليلى بتَكليمِ سَاعَةٍ = فما زادَ إلاَّ ضِعْفَ ما بي كلامُها

فقَدَّمَ المفعولَ المحصورَ بـ (إلا) وهو (ضِعْفَ) على الفاعِلِ وهو (كلامُها) وهذا معنى قولِه: (ومَا بإلا أو إنما انْحَصَرَ أُخِّرْ.. إلخ) أيْ: ما انْحَصَرَ بـ (إلا) أو بـ (إنما) مِن فاعلٍ أو مفعولٍ فإنه يَجِبُ تأخيرُه وقد يَتَقَدَّمُ المحصورُ إذا ظَهَرَ المقصودُ وذلك إذا كان الْحَصْرُ بـ (إلا).
مِن مَسائلِ تقديمِ المفعولِ
240- وشاعَ نحوُ خافَ رَبَّه عُمَرُ = وشَذَّ نَحْوُ زَانَ نَوْرُهُ الشجَرْ
ذَكَرَ في هذا البيتِ مَسألتينِ مُتَعَلِّقَتَيْنِ بموضوعِ تقديمِ المفعولِ: الأُولَى: إذا اشتَمَلَ المفعولُ على ضميرٍ يَرْجِعُ إلى الفاعلِ جازَ تقديمُ المفعولِ وتأخيرُ الفاعلِ، نحوُ: أدَّى واجِبَه الطالِبُ، والأصْلُ: أدَّى الطالِبُ واجِبَه، قالَ تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا} فلو قِيلَ في غيرِ القرآنِ: (أخَذَتْ زُخْرُفَها الأرضُ) لجازَ.
وإنما جازَ ذلك ـ وإن كان فيه عَوْدُ الضميرِ على مُتَأَخِّرٍ ـ لأنَّ الفاعلَ وإنْ تَأَخَّرَ فهو مُتَقَدِّمٌ رُتبةً؛ لأنَّ الأصلَ فيه أنْ يَتَّصِلَ بالفعْلِ فالضميرُ عائدٌ على متَأَخِّرٍ لَفْظاً مُتَقَدِّمٍ رُتبةً.
وهذا معنى قولِه: (وشاعَ، نحوُ خافَ ربَّهُ عُمَرُ) أيْ: كَثُرَ في لسانِ العرَبِ تقديمُ المفعولِ المشتَمِلِ على ضميرٍ يَعودُ إلى الفاعِلِ المتأخِّرِ فـ (ربَّه) منصوبٌ على التعظيمِ، و (عمرُ) فاعِلٌ.
المسألةُ الثانيةُ: إذا اشتَمَلَ الفاعلُ المتقَدِّمُ على ضميرٍ يَعودُ إلى المفعولِ المتأخِّرِ، نحوُ: قَرَأَ صاحبُه الكتابَ، فهذا ممنوعٌ في النثْرِ، جائزٌ في الشعْرِ، ويَجبُ تقديمُ المفعولِ على الفاعلِ، فنقولُ: قَرَأَ الكتابَ صاحبُه قالَ تعالى: {وَإِذَ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ} وقالَ تعالى: {كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا} وهذه هي المسألةُ الثانيةُ التي يَجِبُ فيها تَقديمُ المفعولِ على الفاعِلِ، إذ لو تَأَخَّرَ المفعولُ به لعادَ الضميرُ على متَأَخِّرٍ لَفْظاً ورُتْبَةً، وهذا لا يَجوزُ.
وقد وَرَدَ في شعْرِ العرَبِ أمثلةٌ عادَ الضميرُ فيها مِن الفاعلِ المتقدِّمِ إلى المفعولِ المتأَخِّرِ، ولا دَاعِيَ لِمُحَاكَاتِها في النثْرِ، فتُحْفَظُ بلا تأويلٍ ولا يُقاسُ عليها، ومنها قولُ حَسَّانَ رَضِيَ اللهُ عنه:
ولو أنَّ مَجْداً أَخْلَدَ الدهْرَ واحِداً = مِن الناسِ أبقى مَجْدُه الدَّهْرَ مُطْعِمَا
فأَخَّرَ المفعولَ (مُطْمِعاَ) عن الفاعِلِ (مَجْدُه) مع أنَّ الفاعلَ قد اتَّصَلَ بضميرٍ يَعودُ على المفعولِ.
وقولُ الآخَرِ:
لَمَّا رأى طالِبُوه مُصْعَباً ذُعِرُوا = وكادَ لو ساعَدَ المقدورُ يَنْتَصِرُ

والضميرُ في الفاعلِ (طالِبُوهُ) يعودُ على المفعولِ المتأخِّرِ وهو قولُه (مُصْعَباً).
وهذا معنى قولِه: (وشَذَّ نَحْوُ زَانَ نَوْرُهُ الشجَرْ) أيْ: شَذَّ في كلامِهم تقديمُ الفاعلِ الْمُتَّصِلِ بضميرِ المفعولِ الْمُتَأَخِّرِ، والمرادُ بنحوِ (زَانَ نَورُهُ الشجَرْ) كلُ كلامٍ فيه ضميرٌ اتَّصَلَ بالفاعلِ المتقَدِّمِ، وهو عائدٌ على المفعولِ المتأخِّرِ، وقولُه: (نَوْرُهُ) بفتْحِ النونِ هو الزهْرُ أو الأبيضُ منه.

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
أحكام, اتصال

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:33 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir