(20 -25) {كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ *}؛ أي: هذا الذي أَوْجَبَ لكم الغفلةَ والإعراضَ عن وَعْظِ اللَّهِ وتذكيرِه أَنَّكُمْ {تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} وتَسْعَوْنَ فيما يُحَصِّلُها، وفي لَذَّاتِها وشَهَوَاتِها، وتُؤْثِرُونَها على الآخِرَةِ فتَذرونَ العمَلَ لها؛ لأنَّ الدنيا نَعِيمُها ولَذَّاتُها عَاجلةٌ، والإنسانُ مُولَعٌ بحُبِّ العاجِلِ، والآخِرةَ متَأَخِّرٌ ما فيها مِن النعيمِ الْمُقيمِ.
فلذلك غَفَلْتُمْ عنها وتَرَكْتُمُوها كأنَّكم لم تُخْلَقُوا لها، وكأنَّ هذه الدارَ هي دارُ القَرارِ، التي تُبْذَلُ فيها نَفائِسُ الأعمارِ، ويُسْعَى لها آناءَ الليلِ والنهارِ.
وبهذا انْقَلَبَتْ عليكم الحقيقةُ، وحَصَلَ مِن الْخَسارِ ما حَصَلَ، فلو آثَرْتُمُ الآخرةَ على الدنيا، ونَظَرْتُمْ للعَواقِبِ نَظَرَ البَصيرِ العاقلِ لأَنْجَحْتُم ورَبِحْتُم رِبْحاً لا خَسارةَ معَه، وفُزْتُمْ فَوْزاً لا شَقاءَ يَصْحَبُه.
ثُمَّ ذَكَرَ ما يَدْعُو إلى إيثارِ الآخِرَةِ ببيانِ حالِ أهْلِها وتَفَاوُتِهم فيها، فقالَ في جزاءِ الْمُؤْثِرِينَ للآخِرَةِ على الدنيا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ}؛ أي: حَسَنَةٌ بَهِيَّةٌ، لها رَوْنَقٌ ونُورٌ، مِمَّا هم فيه مِن نَعيمِ القلوبِ وبَهجةِ النفوسِ ولَذَّةِ الأرواحِ.
{إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}؛ أي: تَنْظُرُ إلى ربِّها على حَسَبِ مَراتِبِهم: منهم مَن يَنْظُرُه كلَّ يومٍ بُكرةً وعَشِيًّا، ومِنهم مَن يَنْظُرُه كلَّ جُمُعَةٍ مَرَّةً واحدةً، فيَتَمَتَّعُونَ بالنظَرِ إلى وَجْهِهِ الكريمِ، وجَمالِه الباهرِ الذي ليسَ كمِثْلِه شيءٌ.
فإذا رَأَوْهُ نَسُوا ما هم فيه مِن النعيمِ، وحَصَلَ لهم مِن اللَّذَّةِ والسرورِ ما لا يُمْكِنُ التعبيرُ عنه، ونُضِّرَتْ وُجوهُهم وازْدَادُوا جَمالاً إلى جَمالِهم، فنَسْأَلُ اللَّهَ الكريمَ أنْ يَجْعَلَنا معَهم.
وقالَ في الْمُؤْثِرِينَ العاجلةَ على الآجِلَةِ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ}؛ أي: مُعَبَّسَةٌ ومُكَدَّرَةٌ خاشعةٌ ذَليلةٌ.
{تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ}؛ أي: عُقوبةٌ شَديدةٌ، وعَذابٌ أليمٌ، فلذلك تَغَيَّرَتْ وُجوهُهُم وعَبَسَتْ.