دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > الفقه > متون الفقه > زاد المستقنع > كتاب الصلاة

 
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #5  
قديم 6 ذو الحجة 1429هـ/4-12-2008م, 12:20 AM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
افتراضي الشرح الممتع للشيخ: محمد بن صالح العثيمين

يَقِفُ المَأْمُومُونَ خَلْفَ الإِمَامِ، .............
قوله: «فصل» أي: في موقف الإِمامِ والمأمومين. أي: أين يقفُ الإِمامُ؟ وأين يقفُ المأمومُ؟ فهذا هو المراد بهذا الفصل.
والإِمامُ على اسمه إمامٌ، فالأنسبُ أن يكون أَمامَ المُصلِّين حتى يتميَّز، ويكون قُدوةً ومتبوعاً، وهكذا جاءت السُّنَّةُ.
قوله: «يقف المأمومون خلف الإِمام» المأمومون: جمع، وأقلُّ الجَمْعِ في باب الجماعة اثنان، وكان المأمومون في أولِ الإِسلامِ لا يقفون وراءَ الإِمام إلا إذا كانوا ثلاثةً فأكثر، وأما إذا كانا اثنين فإِنَّهما يقفان عن يمينِه وشمالِه، ولكن هذا نُسِخَ. فصار أقلَّ الجَمْعِ في باب الجَماعةِ اثنين، فالمرادُ بالجَمْعِ هنا اثنان فأكثر، فيقفُ الاثنان فأكثر خلفَ الإِمامِ.
وسبقَ أنَّ إمامَ العُراة يصلِّي وسطَهم، وأن إمامةَ النِّساءِ تصلِّي وَسَطَهُنَّ.

وَيَصِحُّ مَعه عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ جَانِبَيْهِ لاَ قُدَّامَهُ، وَلاَ عَنْ يَسَارِهِ فَقَطْ.
قوله: «ويصحُّ معه عن يمينه أو جانبيه» ، الضَّميرُ في قوله: «يصح» يعودُ على الوقوفِ، أي: ويَصِحُّ أن يقفوا معه، أي: مع الإِمامِ عن يمينه أو عن جانبيه، أي: أن يكون المأمومان فأكثر عن يمينه أو عن جانبيه، أي: أحدهما عن يمينِه والثاني عن شمالِه، وهذا أفضلُ مِن أن يكونوا عن يمينِه فقط، لأنَّ عبدَ الله بنَ مسعودٍ رضي الله عنه وَقَفَ بين علقمةَ والأسود، وقال: «هكذا رأيتُ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم فَعَلَ»، فَصَارَ للمأمومين فأكثر مع الإِمام ثلاثةُ مواقفٍ.
الأول: خلفَه وهو الأفضلُ.
الثاني: عن جانبيه.
الثالث: عن يمينِه فقط.
قوله: «لا قدّامه» ، أي: لا يَصِحُّ أن يَقِفَ المأمومون قُدَّام الإِمام، فإن وَقَفَوا قُدَّامه فصلاتُهم باطلةٌ.
ودليل ذلك: أنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كان يَقِفُ أمامَ النَّاسِ وقال: «صَلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي» وهذا يَعمُّ الصَّلاةَ بأفعالِها وعددِها وهيئتِها وجميعِ أحوالِها، ومنها الوقوفُ، فيكون الوقوفُ قُدَّامه خلافَ السُّنَّةِ، وحينئذٍ تبطلُ الصَّلاةَ.
وقال بعضُ أهل العِلْمِ: إنَّ الصَّلاةَ لا تبطلُ؛ لأنَّه لم يَرِدْ عن النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّه نَهَى عن الصَّلاةِ قُدَّامَ الإِمامِ، وغايةَ ما فيه أنَّ هذا فِعْلُه، وقد وَقَفَ معه جابرُ بن عبد الله وجَبَّارُ بن صَخْر، أحدُهما عن يمينِه والثاني عن يسارِه، فأخذَهما وردَّهما إلى خَلْفِه. فلمَّا لم يكن فيه إلا الفِعلُ كان مستحبَّاً وليس بواجبٍ، وإلى هذا ذهبَ الإِمامُ مالكٌ رحمه الله.
وتوسَّطَ شيخُ الإِسلامِ ابنُ تيميَّة رحمه الله، وقال: إنَّه إذا دَعَتِ الضَّرورةُ إلى ذلك صحَّت صلاةُ المأمومِ قُدَّامَ الإِمامِ، وإلا فلا.
والضَّرورةُ تدعو إلى ذلك في أيَّامِ الجُمعة، أو في أيَّامِ الحَجِّ في المساجدِ العاديةِ، فإنَّ الأسواقَ تمتلئُ ويصلِّي الناسُ أمامَ الإِمامِ.
وهذا القولُ وَسَطٌ بين القولين، وغالباً ما يكون القولُ الوسطُ هو الرَّاجح؛ لأنَّه يأخذُ بدليلِ هؤلاءِ ودليلِ هؤلاء.
فإذا قال قائلٌ: إنَّ الدَّليلَ هنا فِعليٌّ، والقاعدةُ: أنَّ الدَّليلَ الفِعليَّ لا يقتضي الوجوب؟
قلنا: هذا صحيحٌ، لكن ظاهرُ فِعْلِ الرَّسولِ عليه الصلاة والسلام حيث لم يُمَكِّنْ جابراً وجَبَّاراً مِن الوقوفِ عن يمينِه وشِمالِه، بل أخَّرهُما قد يقال: إنه يدلُّ على وجوبِ تقدُّمِ الإِمام إذا كان المأمومون اثنين فأكثر، لكن مع ذلك في النَّفْسِ منه شيءٌ، وإنَّما القولُ الوسَط أنَّه عندَ الضَّرورةِ لا بأسَ به، وإذا لم يكن هناك ضرورةٌ فلا.
قوله: «ولا عن يساره» أي: لا تَصِحُّ صلاةُ المأمومِ إنْ وَقَفَ عن يسارِ الإِمامِ، لكن بشرط خُلوِّ يمينِه، والدَّليلُ على أن هذا شرطٌ مِن كلامِ المؤلِّفِ أنَّه قال: «عن يسارِه فقط» أي: دون أن يكون عن يمينِه أحدٌ، أما صلاةُ الإِمامِ فهل تَصِحُّ أم لا؟
الجواب: إنْ بقيَ الإِمامُ على نِيَّةِ الإِمامةِ، فإنَّ صلاتَه لا تَصِحُّ؛ لأنه نَوى الإِمامةَ وهو منفردٌ، وأمَّا إن نَوى الانفرادَ، فإنَّ صلاتَه صحيحةٌ.
إذا قيل: ما الدَّليلُ على أنَّها لا تَصِحُّ عن يسارِه مع خلوِّ يمينِه؟
قلنا: دليلُ ذلك: أنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم «قام يُصلِّي ذاتَ ليلةٍ مِن الليلِ، وكان ابنُ عبَّاس رضي الله عنهما قد نامَ عندَه، فَدَخَلَ معه ابنُ عباس، ووَقفَ عن يسارِه، فأخذ النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم برأسِه مِن ورائِه فجعله عن يمينِهِ» لأنَّها لو صحَّت لأقرَّه النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم على ذلك.
فإن قال قائلٌ: هذا في النَّفْلِ؟
فالجوابُ عن ذلك مِن وجهين:
الوجه الأول: أنَّ القاعدةَ: أنَّ ما ثَبَتَ في النَّفْلِ ثَبَتَ في الفرضِ إلا بدليل، ويدلُّ لهذه القاعدةِ تَصرُّفُ الصَّحابةِ رضي الله عنهم حين ذكروا أنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كان يصلِّي على راحلتِه في السَّفَرِ، قالوا: غيرَ أنَّه لا يصلِّي عليها المكتوبةَ، فدلَّ هذا على أنَّ الأصلَ أنَّ ما ثَبَتَ في النَّفْلِ ثَبَتَ في الفَرضِ؛ ولهذا احتاجوا إلى استثناءِ الفَريضة. وهذا الحديثُ يُستفادُ منه أنَّ الصَّلاةَ عند الإطلاقِ تشمَلُ الفريضةَ والنافلةَ.
الوجه الثاني: أنَّ النَّفْلَ يُتسامحُ فيه أكثرُ مِن التَّسامحِ في الفَرضِ، فإذا لم يُتسامحْ في النَّفْلِ عن يسار الإِمامِ، فَعَدَمُ التَّسامحِ في الفَرضِ مِن باب أَولى، هذا تقريرُ كلامِ المؤلِّفِ.
وأكثرُ أهلِ العِلْمِ يقولون بصحَّةِ الصَّلاةِ عن يسار الإِمامِ مع خُلُوِّ يمينِهِ، وأنَّ كون المأمومِ الواحدِ عن يمين الإِمامِ إنَّما هو على سبيلِ الأفضليَّةِ، لا على سبيلِ الوجوبِ. واختار هذا القولَ شيخُنا عبدُ الرَّحمن بن سَعدي رحمه الله.
ودفعوا الاستدلالَ بحديثِ ابنِ عبَّاس: بأنَّ هذا فِعْلٌ مجرَّدٌ، والفِعلُ المجرَّدُ لا يدلُّ على الوجوبِ. هذه قاعدةٌ أصوليَّةٌ؛ أنَّ فِعْلَ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم المُجرَّدَ لا يدلُّ على الوجوبِ، لأنَّه لو كان للوجوبِ لقالَ النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم لعبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ لا تَعُدْ لمثلِ هذا. كما قال ذلك لأبي بَكْرة حين رَكَعَ قبل أنْ يدخلَ في الصَّفِّ.
وهذا القولُ قولٌ جيدٌ جداً، وهو أرجحُ مِن القولِ ببطلانِ صلاتِه عن يسارِه مع خلوِّ يمينِه؛ لأنَّ القولَ بتأثيم الإِنسانِ أو ببطلانِ صلاتِهِ بدون دليلٍ تطمئنُّ إليه النَّفْسُ فيه نَظَرٌ، فإنَّ إبطالَ العبادةِ بدون نَصٍّ كتصحيحها بدون نَصٍّ.

وَلاَ الفَذّ خَلْفَهُ، أَوْ خَلْفَ الصَّفِّ،...........
قوله: «ولا الفذ خلفه» أي: لا تَصِحُّ صلاةُ المأمومِ الواحدِ خلفَ الإمام. وأمَّا الإمامُ ففيه تفصيلٌ: إنْ بقيَ على نيِّةِ الإمامةِ لم تَصِحَّ صلاتُه؛ لأنَّه نوى الإمامةَ وليس معه أحدٌ، وإنْ نوى الانفرادَ فصلاته صحيحةٌ.
قوله: «أو خلفَ الصف» أي: لا تَصِحُّ صلاةُ المأمومِ خلفَ الصَّفِّ؛ لأنَّه منفردٌ وقد جاءَ الحديثُ عن رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا صَلاةَ لِمُنْفَرِدٍ خَلْفَ الصَّفِّ». ورأى النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم رَجُلاً يُصلِّي وحدَه خَلْفَ الصَّفِّ فأمَرَه أنْ يعيدَ الصَّلاةَ. ولولا أنَّها فاسدةٌ ما أَمَرَه بالإِعادةِ، لأنَّ الإِعادةَ إلزامٌ وتكليفٌ في أَمْرٍ قد فُعِلَ وانتُهِيَ منه، فلولا أنَّ الأمرَ الذي فُعِلَ وانتُهِيَ منه فاسدٌ ما كُلِّفَ الإِنسانُ إعادتَه، لأنَّ هذا يستلزم أن تجبَ عليه العبادةُ مرتين.
وما قاله المؤلِّف رحمه الله هو المذهب، وهو مِن المفردات.
وذهبَ أكثرُ أهلِ العِلمِ ـ وهو رواية عن أحمد ـ: إلى صِحَّة الصَّلاةِ منفرداً خلفَ الصَّفِّ، لعُذرٍ أو لغيرِ عُذر، ولو كان في الصَّفِّ سَعَةٌ.
وقال بعضُ العلماءِ: في ذلك تفصيلٌ، فإنْ كان لعذرٍ صَحَّت الصَّلاةُ، وإنْ لم يكن لعُذر لم تَصِحَّ الصَّلاةُ.
واستدلَّ الجمهورُ: بأن هذا المصلِّي صلَّى مع الجماعةِ، وفَعَلَ ما أُمِرَ به، وقد قال النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّمَا جُعِلَ الإِمامُ ليؤتمَّ به» وقد ائتم بإمامِه فكبَّر حين كبّر.. إلخ.
ولأنَّ ابنَ عبَّاسٍ لما أداره الرَّسولُ عليه الصَّلاةُ والسلامُ عن يمينِهِ انفردَ بجُزءٍ يسيرٍ، والمُفسدُ للصَّلاةِ يستوي فيه الكثيرُ والقليلُ كالحَدَثِ فلو كان الانفرادُ مبطلاً لبطلت صلاةُ ابنِ عبَّاسٍ.
وأجابوا عن حديث: «لا صلاةَ لمُنْفَرِدٍ خلفَ الصَّفِّ» أنَّ هذا النَّفْيَ نَفْيٌ للكمالِ كقوله: «لا صلاةَ بحضرةِ طعامٍ ولا وهو يدافِعُه الأخبثان»، ومعلومٌ أنَّ الإِنسانَ لو صَلَّى بحضرةِ طعامٍ فصلاتُه صحيحةٌ، ولو صَلَّى وهو يدافعُ الأخبثين ـ البولَ والغائطَ ـ فصلاتُه صحيحةٌ.
وأما ما وَرَدَ أنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم «رأى رَجُلاً يصلِّي خلفَ الصَّفِّ فأمرَه أنْ يعيدَ الصَّلاةَ»، فأجابوا عنه بأن هذا الحديثَ في صحَّته نَظَرٌ، وإذا صَحَّ فلعلَّ هناك شيئاً أوجب أنْ يأمرَه النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم بإعادةِ الصَّلاةِ، وهذه قضيَّةُ عَينٍ لا نجزِمُ بأن السَّبَبَ هو كونه صَلَّى خلفَ الصَّفِّ.
وأما استدلال الجمهور على قولهم بصحة صلاة المنفرد خلف الصَّفِّ بأنه فَعَلَ ما أُمِرَ به مِن المتابعةِ فهذا صَحيحٌ، لكن هناك واجباتٌ أخرى غير المتابعةِ وهي المُصافَّة، فإن المُصافَّةَ واجبةٌ فإذا تَرَكَ واجبَ المُصافَّة بطلتْ صلاتُه.
وأما استدلالهم بأنَّ ابنَ عبَّاس انْفَرَدَ حين أخذَ النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم برأسِه وأقامَه عن يمينِه فهذا انفرادٌ جزئيٌّ، ونحنُ لا نقولُ ببطلانِ الصَّلاةِ إذا انفردَ الإِنسانُ بمثلِ هذه الصُّورةِ، أي: لو أنَّ شخصاً جاءَ وكبَّرَ خلفَ الصَّفِّ وهو يعرِفُ أن خلفَه رَجُلٌ أو رَجُلان سيأتيان معه، فلا بأس ما دامت الرَّكعة لم تفتْهُ وصلاتُه صحيحةٌ، وهذه اللَّحظةُ التي حصَلَ بها الانفرادُ لا يُقال فيها: إنَّ هذا الرَّجُلَ صلّى منفرداً خلفَ الصَّفِ أو خلفَ الإِمامِ، فالاستدلالُ بحديثِ ابنِ عبَّاسٍ ضعيفٌ.
وأما قولهم بأنَّ حديثَ: «لا صلاةَ لمُنْفَرِدٍ خلفَ الصَّفِّ» نَفْيٌ للكمالِ فهذا مردودٌ، لأنَّ النَّفْيَ إذا وَقَعَ فله ثلاثُ مراتبٍ:
المرتبةُ الأولى والثانية: أن يكون نفياً للوجود الحِسِّي، فإنْ لم يمكن فهو نَفْيٌ للوجودِ الشَّرعي، أي: نفيٌ للصِّحَّةِ، فالحديثُ الذي معنا لا يمكن أن يكون نفياً للوجود؛ لأنَّه مِن الممكن أنْ يصلِّيَ الإِنسانُ خلفَ الصَّفِّ منفرداً، فيكون نفياً للصِّحَّةُ، والصِّحَّةُ هي الوجودُ الشَّرعيُّ؛ لأنه ليس هناك مانعٌ يمنعُ نَفْيَ الصِّحَّةِ، فهاتان مرتبتان.
المرتبة الثالثة: إذا لم يمكن نَفْيُ الصِّحَّةِ؛ بأن يوجد دليلٌ على صِحَّةِ المنفيِّ فهو نَفْيٌ للكمالِ، مثل قوله عليه الصلاة والسلام: «لا يؤمِنُ أحدُكُم حتى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لنفسِه» لأنَّ مَن لا يُحِبُّ لأخيه ما يُحِبُّ لنفسِه لا يكون كافراً، لكن ينتفي عنه كمالُ الإِيمان فقط.
وتنظيرهم بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاةَ بحَضْرةِ طعام» فيه نَظَرٌ، لأنَّ العِلَّةَ بنفي الصَّلاةِ بحَضْرةِ طعامٍ هي تشويشُ الذِّهنِ، فإنَّ الرَّسولَ صلّى الله عليه وسلّم كان إذا سَمِعَ بكاءَ الصَّبيِّ أوجز في الصَّلاةِ لئلا تُفْتَتَنَ أمُّه. وأمُّه سوف تبقى في صلاتِها، لكن يُشوِّشُ عليها بكاءُ ولدِها.
وأيضاً: أخبرَ النَّبيُّ عليه الصلاة والسلام: «أنَّ الشَّيطانَ يأتي إلى المصلي فيقول: اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكره»، وهذا لا شك أنه يوجب غفلة القلب، فيدل هذا الحديث والذي قبله على أن مجرد التشويش وانشغال القلب لا يبطل الصلاة فيكون قوله: «لا صلاة بحضرة طعام» غير موجب لبطلان الصلاة فبطل التنظير.
وأما قولُهم بأنَّ أَمْرَ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم الرجل الذي صَلَّى منفرداً خلفَ الصَّفِّ أن يعيدَ الصَّلاةَ، قضيةُ عَين.. إلخ.
فجوابه: أنَّ الواجبَ حَمْلُ النَّصِّ على ظاهرِه المُتَبَادَر منه، إلا أنْ يَدلَّ دليلٌ على خِلافِهِ. والمُتَبَادَر هنا: أنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم أَمَرَهُ بالإِعادةِ؛ لكونه صَلَّى منفرداً خلفَ الصَّفِّ؛ كما يفيده سياقُ الكلامِ، والأصلُ عدمُ ما سواه.
إذاً؛ فالقولُ الرَّاجحُ أنَّ الصَّلاةَ خلفَ الصَّفِّ منفرداً غيرُ صحيحةٍ، بل هي باطلةٌ يجب عليه إعادتُها. ولكن؛ إذا قال قائلٌ: أفلا يكون القولُ الوسط هو الرَّاجح، وأنه إذا كان لعُذْرٍ صحَّت الصَّلاةُ؟
فالجواب: بلى، القولُ الوسطُ هو الرَّاجحُ، وأنَّه إذا كان لعُذرٍ صحَّت الصَّلاةُ؛ لأنَّ نَفْيَ صحَّةِ صلاةِ المنفردِ خلفَ الصَّفِّ يدلُّ على وجوبِ الدُّخولِ في الصَّفِّ؛ لأنَّ نَفْيَ الصِّحَّةِ لا يكون إلا بفعلِ مُحرَّمٍ أو تَرْكِ واجبٍ، فهو دالٌّ على وجوبِ المُصافَّةِ، والقاعدةُ الشرعيةُ أنَّه لا واجبَ مع العجزِ، لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ، وقوله: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ، فإذا جاء المصلِّي ووَجَدَ الصَّفَّ قد تَمَّ فإنَّه لا مكان له في الصَّفِّ، وحينئذٍ يكون انفرادُه لعُذرٍ فتصِحُّ صلاتُه، وهذا القولُ وسطٌ، وهو اختيارُ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيمية رحمه الله، وشيخِنا عبد الرحمن بن سَعدي. وهو الصَّوابُ.
فإن قال قائل: لماذا لا تقولون بأنْ يجذِبَ أحدَ النَّاسِ مِن الصَّفِّ؟
فالجواب: إنَّنا لا نقولُ بذلك؛ لأنَّ هذا يستلزمُ مَحاذير:
المحذور الأول: التَّشويش على الرَّجُلِ المَجذوبِ.
المحذور الثاني: فَتْحُ فُرْجَةٍ في الصَّفِّ، وهذا قَطْعٌ للصَّفِّ، ويُخشى أن يكون هذا مِن بابِ قَطْعِ الصَّفِّ الذي قال فيه الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «مَن قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللهُ».
المحذور الثالث: أنَّ فيه جِنايةً على المَجذوبِ بنَقْلِهِ مِن المكان الفاضلِ إلى المكانِ المفضولِ.
المحذور الرابع: أنَّ فيه جِنايةً على كلِّ الصَّفِّ؛ لأنَّ جميعَ الصَّفِّ سوف يتحرَّكُ لانفتاح الفُرْجَةِ مِن أجلِ سَدِّهَا.
فإن قال قائلٌ: أفلا نأمرُه أن يصلِّيَ إلى جَنْبِ الإِمامِ؟
قلنا: لا نأمرُه أن يصلِّيَ إلى جَنْبِ الإِمامِ؛ لأنَّ في ذلك ثلاثة محاذير:
المحذور الأول: تخطِّي الرِّقابِ، فإذا قَدَّرنا أنَّ المسجدَ فيه عشرةُ صفوفٍ، فجاءَ الإِنسانُ ولم يجدْ مكاناً، وقلنا: اذهبْ إلى جَنْبِ الإِمامِ فسوف يتخطَّى عشرةَ صفوفٍ بل لو لم يكن إلا صَفٌّ واحدٌ فقد تَخطَّى رقابَهم.
المحذور الثاني: أنَّه إذا وَقَفَ إلى جَنْبِ الإِمامِ خالفَ السُّنَّة في انفرادِ الإِمامِ في مكانِه؛ لأنَّ الإِمامَ موضعُه التقدُّم على المأمومِ، فإذا شارَكه أحدٌ في هذا الموضعِ زالت الخُصوصيَّة.
المحذور الثالث: أننا إذا قلنا: تقدَّمْ إلى جَنْبِ الإِمامِ، ثم جاء آخرٌ قلنا له: تقدَّمْ إلى جَنْبِ الإِمام. ثم ثانٍ، وثالث حتى يكون عند الإِمامِ صفٌّ كاملٌ، لكن لو وَقَفَ هذا خلفَ الصَّفِّ لكان الدَّاخلُ الثاني يصفُّ إلى جَنْبِهِ، فيكونان صفًّا بلا محذور.
فإن قال قائلٌ: لماذا لا تأمرونه أن يبقى، فإن جاءَ معه أحدٌ، وإلا صَلَّى وحدَه منفرداً، قلنا: في هذا محذوران:
المحذور الأول: أنَّه ربَّما ينتظِرُ فتفوتُه الرَّكعة، وربَّما تكون هذه الرَّكعةُ هي الأخيرةُ فتفوتُه الجماعةُ.
المحذور الثاني: أنه إذا بقيَ وفاتتْهُ الجماعةُ فإنَّه حُرِمَ الجماعةَ في المكانِ وفي العملِ، وإذا دَخَلَ مع الإِمامِ وصَلَّى وحدَه منفرداً، فإننا نقول على أقلِّ تقدير: حُرِم المكان فقط، أما العملُ فقد أدركَ الجماعةَ، فأيُّهما خيرٌ أنْ نحرِمه الجماعةَ في العمل والمكان، أو في المكان فقط؟
الجواب: في المكان فقط، هذا لو قلنا: إنَّه في هذه الحال يكون مرتكباً لمحذور، مع أنَّ الرَّاجحَ عندي أنَّه إذا تعذَّرَ الوقوفَ في الصَّفِّ، فإنَّه إذا صَفَّ وحدَه لم يرتكب محظوراً.
مسألة: ما هو الانفراد المبطل للصَّلاة؟
الجواب: الانفرادُ المبطلُ للصَّلاةِ أنْ يرفعَ الإِمامُ مِن الركوعِ ولم يدخل مع المسبوقِ أحدٌ، فإنْ دَخَلَ معه أحدٌ قبل أن يرفعَ الإِمامُ رأسَه مِن الرُّكوعِ، أو انفتح مكانٌ في الصَّفِّ فدخلَ فيه قبل أن يرفعَ الإِمامُ مِن الركوعِ، فإنَّه في هذه الحالِ يزول عن الفرديَّة.

إِلاَّ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً، وَإِمَامَةُ النِّسَاءِ تَقِفُ فِي صَفِّهِنَّ،.........
قوله: «إلا أن يكون امرأة» الضَّميرُ يعودُ على الفَذِّ، أي: إلا أن يكون الفَذُّ امرأة خلفَ رَجُلٍ، أو خلفَ الصَّفِّ أيضاً، فإنَّ صلاتَها تَصِحُّ.
ودليل ذلك: حديثُ أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّه صَلَّى مع النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم هو ويتيمٌ خلفَ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وصَلَّتِ المرأةُ خلفَهم. فَدَلَّ هذا على أنَّ المرأةَ يَصِحُّ أن تصلِّيَ منفردةً خلفَ الصَّفِّ، وهذا يُضافُ إلى أدلَّةِ الجمهورِ الذين قالوا: إنَّ صلاةَ الفَذِّ خلفَ الصَّفِّ صحيحةٌ. فإنهم أيضاً استدلُّوا بهذا فقالوا: صلاةُ المرأةِ خلفَ الصَّفِّ صحيحةٌ، والأصلُ تساوي الرِّجَالِ والنِّساءِ في الأحكام، لكن هذا يَسهلُ الرَّدُ عليه بأن نقول: المرأةُ ليس لها مَحَلٌّ في مَصافِّ الرِّجَالِ أبداً، فالشريعة تهدفُ إلى فَصْلِ الرجال عن النساء حتى في أماكنِ العبادةِ. ولهذا قال النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «خيرُ صُفوفِ النِّساءِ آخرُها» لأنَّها أبعدُ عن الرِّجَالِ، لكن فيه دليلٌ للقول الرَّاجحِ وهو صِحَّةُ صلاةِ المنفردِ خلفَ الصَّفِّ إذا كان تاماً؛ فإنَّ المرأةَ إنَّما صحَّت صلاتُها خلفَ الرِّجال منفردةً لتعذُّرِ وقوفها معهم شرعاً، وإذا كان الصَّفُّ تامَّاً فقد تعذَّرَ الوقوفُ فيه حِسًّا.
وظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ: أنَّه لا فَرْقَ بين أن تكون المرأةُ تصلِّي مع جماعةِ رِجالٍ أو مع جماعةِ نساءٍ، ولكن هذا الظَّاهرُ ليس بمرادِه، بل إنَّ المرأةَ مع جماعةِ النساءِ كالرَّجُلِ مع جماعةِ الرِّجَالِ، أي: لا يَصِحُّ أن تَقِفَ خلفَ إمامتها، ولا خلفَ صَفِّ نساءٍ، بل إذا كُنَّ نساءً فإنَّ المرأةَ يجبُ أن تكون في الصَّفِّ، ولا تَصِحُّ صلاتُها منفردةً خلفَ الصَّفِّ ولا خلفَ إمامةِ النِّساءِ.
قوله: «وإمامة النساء تقف في صفهنّ» أي: إذا صَلَّى النِّساءُ جماعةً فإنَّ إمامتَهن تَقِفُ في صفِّهنَّ؛ لأن ذلك أسترُ، والمرأةُ مطلوبٌ منها الستر بقَدْرِ المستطاعِ، ومِن المعلومِ أن وقوفَها بين النِّساءِ أسترُ مِن كونِها تتقَّدمُ بين أيديهنَّ.
وحُجَّتُه ما روي عن عائشة وأمِّ سَلَمة رضي الله عنهما أنَّهما إذا أمَّتا النساء وقفتا في صَفِّهنَّ. وهذا فِعْلُ صحابيَّة، والعلماءُ رحمهم الله مختلفون في فِعْلِ الصَّحابيِّ وقولِهِ، إذا لم يثبت له حُكم الرَّفْعِ، هل يكون حُجَّة أم لا؟
والأصحُّ: أنه حُجَّةٌ ما لم يخالفه نَصٌّ، فإنْ خالَفَه نَصٌّ فالحُجَّةُ في النَّصِّ، أو يخالفه صَحابيٌّ آخر، فإنْ خالَفَه صحابيٌّ آخرُ طُلِبَ المُرجِّحُ. ويُفرَّق بين الصَّحابيِّ الفقيه مِن غير الفقيه، فالفقيه قوله أقربُ إلى كونه حُجَّة مِن غير الفقيه.
وأفادنا المؤلِّف رحمه الله في قولِه: «وإمامةُ النِّساءِ» أنَّ الجماعةَ تنعقد بالنِّساءِ وحدَهن؛ لأن ثبوتَ الحُكمِ لها وهو وقوفُ الإِمامةِ بينهنَّ يدلُّ على أنَّها مشروعةٌ؛ لأنَّ غيرَ المشروعِ باطلٌ وما تعلَّقَ به مِن أحكامٍ فهو باطلٌ، وسَبَقَ في أول بابِ صلاةِ الجماعةِ الخلافُ في هذه المسألة: وأن بعضَ أهلِ العلمِ قال: يُسَنُّ، وبعضهم قال: يُباح، وبعضهم قال: يُكره.
قوله: «وإمامة النساء تقف في صفهنّ» لم يتكلَّم عن وقوف المرأةِ مع المرأةِ الواحدةِ، فوقوفُ المرأةِ مع المرأةِ الواحدةِ كوقوف الرَّجُل مع الرَّجُلِ الواحدِ إن وقفت عن يسارِها أو أمامِها أو خلفِها فإنَّها لا تَصِحُّ صلاتها على المذهب، كما أن الرَّجُلَ لو وقف عن يسارِ الرَّجُلِ أو أمامِه أو خلفِه لم تَصِحَّ صلاتُه، وإن وقفت عن يمينِها صحّت صلاتُها كالرَّجُلِ تماماً.
وسبق في باب ستر العورة أن إمامَ العراة يقف بينهم وجوباً، ما لم يكونوا عُمياً أو في ظُلمة، فإن كانوا عُمياً أو في ظُلمةٍ وَقَفَ أمامَهم، وإنما أوجبنا أن يقفَ إمامُ العُراةِ بينهم؛ لأن ذلك أسترُ.
إذاً؛ يُستثنى مِن تقدُّمِ الإِمام مسألتان: إمامةُ النساءِ، وإمامُ العُراةِ، أما إمامةُ النساء فتكون بينهنَّ على سبيل الاستحباب، وأما إمامُ العُراة فيكون بينهم على سبيل الوجوبِ إلا إذا كانوا عُمياً أو في ظُلمة فإنه يتقدَّمُ.

وَيَلِيهِ الرِّجَالُ، ثُمَّ الصِّبْيَانُ، ثُمَّ النِّسَاءُ، كَجَنَائِزِهِمْ.
قوله: «ويليه الرجال ثم الصبيان ثم النساء» . «يليه» أي: يلي الإِمامَ في الصَّفِّ إذا اجتمعَ رجالٌ ونساءٌ صغارٌ أو كبارٌ. «الرجال» وهم: البالغون؛ لأن وَصْفَ الرَّجُلِ إنما يكون للبالغ، فإذا أرادوا أن يصفُّوا تقدَّمَ الرِّجالُ البالغون ثم الصبيانُ، ثم النساءُ في الخلفِ.
والدَّليلُ قول النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «ليلني منكم أولو الأحلامِ والنُّهى» وهذا أمْرٌ وأقلُّ أحوالِ الأَمْرِ الاستحبابُ. ولأنَّ المعنى يقتضي أن يتقدَّمَ الرِّجالُ؛ لأنَّ الرِّجَالَ أضبطُ فيما لو حصلَ للإِمامِ سهوٌ أو خطأٌ في آيةٍ، أو احتاجَ إلى أنْ يستخلفَ إذا طرأ عليه عُذرٌ وخرجَ مِن الصَّلاةِ، ثم بعد ذلك الصبيانُ؛ لأنَّ الصبيان ذكورٌ، وقد فضّل الله الذكورَ على الإِناثِ فهم أقدم مِن النساءِ، ثم بعد ذلك النساءُ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «خيرُ صُفوفِ النِّساءِ آخرُها»، وهذا يدلُّ على أنه ينبغي تأخُّر النساء عن الرِّجالِ، وأما حديث: «أخِّرُوهنَّ مِن حيثُ أخَّرَهُنَّ اللهُ»، فهو ضعيف لا يُحتجُّ به، لكن يُحتجُّ بهذا الحديث: «خيرُ صفوفِ النِّساءِ آخرُها» ويلزم مِن ذلك أن تتأخَّر صفوفُ النِّساءِ عن صفوفِ الرِّجَالِ، وهذا الترتيب الذي ذكرناه، واستدللنا عليه بالأثر والنظر ما لم يمنع مانعٌ، فإنْ مَنَعَ منه مانعٌ بحيث لو جُمعَ الصبيانُ بعضُهم إلى بعضٍ لحصلَ بذلك لعبٌ وتشويشٌ، فحينئذٍ لا نجمعُ الصبيانَ بعضَهم إلى بعضٍ؛ وذلك لأن الفَضْلَ المتعلِّقَ بذات العبادةِ أَولى بالمراعاةِ مِن الفَضْلِ المتعلِّقِ بمكانِها. وهذه قاعدةٌ فقهيةٌ، ولهذا قال العلماءُ: الرَّمَلُ في طوافِ الـقُـدُومِ أَولى مِن الدُّنُوِ مِن البيت؛ لأنَّ الرَّمَلَ يتعلَّقُ بذاتِ العبادةِ، والدُّنُو مِن البيت يتعلَّقُ بمكانِها. فهنا نقول: لا شَكَّ أنَّ مكان الصبيان خلفَ الرِّجالِ أَولى، لكن إذا كان يحصُلُ به تشويشٌ وإفسادٌ للصَّلاةِ على البالغين؛ وعليهم أنفسِهم، فإنَّ مراعاةَ ذلك أَولى مِن مراعاة فَضْلِ المكان.
إذاً؛ كيف نعملُ؟.
الجواب: نعملُ كما قال بعضُ العلماءِ: بأنْ نجعلَ بين كُلِّ صبيين بالغاً مِن الرِّجالِ فَيَصفُّ رَجُلٌ بالغٌ يليه صبيٌّ، ثم رَجُلٌ ثم صبيٌّ، ثم رَجُلٌ، ثم صبيٌّ؛ لأنَّ ذلك أضبطُ وأبعدُ عن التشويشِ، وهذا وإنْ كان يستلزمُ أنْ يتأخَّرَ بعضُ الرِّجالِ إلى الصَّفِّ الثاني أو الثالثِ حسب كثرة الصبيان؛ فإنَّه يحصُلُ به فائدةٌ، وهي الخشوعُ في الصَّلاةِ وعدمُ التشويشِ.
وهذا الذي ذكرنا في تقديم الرِّجالِ، ثم الصبيان، ثم النساء، إنَّما هو في ابتداءِ الأمرِ، أما إذا سَبَقَ المفضولُ إلى المكان الفاضلِ؛ بأنْ جاءَ الصَّبيُّ مبكِّراً وتقدَّمَ وصار في الصَّفِّ الأولِ، فإن القولَ الرَّاجحَ الذي اختاره بعضُ أهلِ العِلم ـ ومنهم جَدُّ شيخِ الإِسلامِ ابنِ تيمية، وهو مَجْدُ الدِّين عبد السلام ـ أنه لا يُقامُ المفضولُ مِن مكانِه، وذلك لقولِ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «مَن سَبَقَ إلى ما لم يَسبقْهُ إليه مسلمٌ فهو له» وهذا العمومُ يشمَلُ كلَّ شيءٍ اجتمع استحقاقُ النَّاسِ فيه، فإنَّ مَن سَبَقَ إليه يكون أحقَّ به. ولأنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِن مجلِسِه ثم يَجلسُ فيه». ولأنَّ هذا عدوان عليه.
فإنْ قال قائلٌ: «مَنْ سَبَقَ إلى ما لم يَسبقْ إليه أحدٌ فهو أحقُّ به» عامٌّ. وقولُه: «لِيَلِني منكم أُولُو الأحلامِ والنُّهَى» خاصٌّ، والقاعدةُ: أنَّه إذا اجتمعَ خاصٌّ وعامٌّ فإنَّ الخاصَّ يُخَصِّصُ العامَّ؟.
فالجواب عنه: أن نقولَ: إنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم لم يقلْ: لا يَلِني منكم إلا أُولو الأحلامِ والنُّهَى. ولم يقل: لِيُقِمْ منكم أُولُو الأحلامِ والنُّهَى مَن كانوا دونهم. وإنما قال: «لِيَلِني منكم أُولُو الأحلامِ والنُّهى» فأمر أولي الأحلام والنُّهى أن يلوه. وهذا حَثٌّ لهؤلاء الكِبارِ على أن يتقدَّموا لِيَلُوا رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم. فهذا هو وَجْهُ الحديثِ، ولأنَّ فيه مفسدةَ تنفيرِ هؤلاء الصبيان بالنسبة للمسجد، لا سيَّما إذا كانوا مراهقين، أي: إذا كان للواحد منهم ثلاث عشرة سَنَةً، أو أربع عشرة سنة، ثم نقيمه مِن مكانه، فسيكون هذا صعباً عليه؛ لأنه قد فرح أن كان في الصَّفِّ الأولِ، وكذلك مِن مفاسده أنَّ هذا الصَّبيَّ إذا أخرجه شخصٌ بعينه فإنه لا يزال يَذكرُه بسوءٍ، وكلَّما تذكَّره بسوءٍ حَقَدَ عليه، لأنَّ الصَّغيرَ عادةً لا يَنسى ما فُعِلَ به.
قوله: «كجنائزهم» أي: كما يرتَّبون في جنائزِهم، فإذا اجتمعَ جنائزٌ مِن هؤلاءِ الأجناسِ: الرِّجال والصبيان والنساء، فإنَّهم يُقدَّمونَ على هذا الترتيبِ مما يلي الإِمام: الرِّجال، ثم الصبيان، ثم النساء.
ولكن؛ هل يكون تَقدُّمُهم بالتقدُّمِ إلى القِبلة، أو بالقُرْبِ مِن الإِمامِ؟
الجواب: بالقُرْبِ مِن الإِمام، فإذا وُجِدَ رَجُلٌ، وطفلٌ وأنثى فَنَضَعُ الرَّجُلَ مما يلي الإِمامَ، ثم الطفلَ، ثم الأُنثى، ونضعُ رأسَ الرَّجُلِ بحذاء وَسَطِ الأُنثى؛ لأنَّ السُّنَّةَ في صلاة الجنازة أنْ يقِفَ الإِمامُ عند رأسِ الرَّجُلِ وعند وَسَطِ الأُنثى؛ فإنْ عَكَسَ وَجَعَلَ النساءَ مما يلي الإِمامَ والرِّجال مِن خَلفِهنَّ فإنَّه يَصِحُّ؛ لأنَّ هذا الترتيبَ على سبيلِ الأفضليَّةِ لا على سبيلِ الوجوبِ.

وَمَنْ لَمْ يَقِفْ مَعَهُ إِلاَّ كَافِرٌ،...........
قوله: «ومن لم يقف معه إلا كافر» . «إلا كافر» بالرَّفع؛ فاعل يقف، فيتعيَّن الرفعُ هنا؛ لأن الاستثناءَ مُفرَّغٌ، والاستثناءُ المُفرَّغُ: هو الذي لم يُذكر فيه المستثنى منه، فإذا لم يُذكر المستثنى منه صار ما بعد «إلا» على حسب العوامل التي قبلَها.
و«مَنْ» اسمُ شَرْطٍ. وقوله: «فَفَذٌّ» خبرُ مبتدأً محذوفٍ، والجملةُ جوابُ الشرط.
شرعَ المؤلِّفُ في ذِكْرِ المنفردِ حُكماً، بعد أنْ ذَكَرَ المنفردَ حِسًّا فقال: «ومَن لم يقف...» إلخ، أي: لو أنَّ رَجُلاً وَقَفَ خلفَ الصَّفِّ ومعه كافر فهو فَذٌّ، أي: منفردٌ حُكماً؛ لأنَّ اصطفافَ الكافرِ معه كعدمِهِ؛ لأنَّ صلاتَه لا تَصِحُّ، فلا تَصِحُّ مصافتُه. وهذا مع العِلم، ولكن إذا كان يَجهلُ أنَّ الواقف معه كافرٌ فظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ أنَّ صلاتَه لا تَصِحُّ، وفي هذا نَظَرٌ، بل المُتعيِّنُ أنَّه إذا وَقَفَ معه كافرٌ لا يعلمُ بكفرِه، فإنَّ صلاتَه صحيحةٌ، وأما إذا عَلِمَ بكفرِه فالمذهبُ أنَّ صلاتَه لا تَصِحُّ؛ لأنه فَذٌّ، وعلى القولِ الذي رجَّحنا، نقول: إنَّه إذا كان الصَّفُّ تامًّا فصلاتُه صحيحةٌ، لأنَّ صلاةَ الفَذِّ خلفَ الصَّفِّ مع تمامِهِ صحيحةٌ، أما إذا لم يكن تامًّا وقد عَلِمَ بكفرِه فصلاتُه باطلةٌ.

أَوْ امْرَأَةٌ، أَوْ مَنْ عَلِمَ حَدَثَهُ أَحَدُهُمَا،..........
قوله: «أو امرأة» أي: لم يقفْ معه إلا امرأةٌ فهو فَذٌّ، لأنَّ المرأةَ ليست مِن أهلِ المُصافَّةِ للرِّجالِ، فإنْ وقفتْ امرأةٌ مع رَجُلين، فهل تَصِحُّ صلاتُهما وصلاتُها؟
الجواب: نعم، الصَّلاةُ صحيحةٌ، ولا سيما مع الضَّرورةِ كما يحدثُ ذلك في أيام مواسم الحَجِّ في المسجدِ الحرامِ والمسجدِ النبويِّ، ولكن في هذه الحالِ إذا أحسست بشيءٍ مِن قُربِ المرأةِ منك وَجَبَ عليك الانفصال؛ لأنَّ بعض الناسِ لا يطيق أنْ تَقِفَ إلى جنبه امرأةٌ ليست مِن محارمِهِ، لا سيما إذا كانت شابَّةً أو فيها رائحةٌ مثيرةٌ، فقد لا يتمكَّنُ مِن الصَّلاةِ، ففي هذه الحال يجب أن يَنصرفَ ويطلبَ مكاناً آخر حذراً مِن الفتنةِ.
مسألة: إذا كانت المرأةُ أمامَ الرَّجُلِ. مثاله: أن يكون صَفُّ رِجالٍ خلفَ صَفِّ نساءٍ فتصِحُّ الصَّلاةُ، ولهذا قال الفقهاء: «صَفٌّ تامٌّ مِن نساءٍ لا يمنعُ اقتداءَ مَن خلفِهنّ مِن الرِّجالِ».
قوله: «أو من علم حدثه أحدهما» أي: الواقف والموقوف معه، مثاله: دَخَلَ رَجُلان المسجدَ فوجدا الصَّفَّ الأولَ تامَّاً فقاما خلفَ الصَّفِّ، وأحدُهما مُحدثٌ يعلمُ حَدَثَ نفسِه، والآخرُ على طهارةٍ ولا يعلمُ أنَّ صاحبَه مُحدثٌ، فالصَّلاةُ على كلامِ المؤلِّفِ غيرُ صحيحةٍ.
والعِلَّة: أنَّ هذا الواقف يعلم أنَّه محدثٌ، وأنَّ صلاتَه باطلةٌ، وأنَّ صاحبَه وَقَفَ إلى جنب مَن لا تصِحُّ صلاتُه فيكون منفرداً.
ولكن؛ الصحيحُ في هذه المسألة: أن الثاني الذي ليس بمحدثٍ صلاته صحيحة؛ إذا كان لا يعلم بحدثِ صاحبِه لأنه معذورٌ بالجهل، فإنَّه لا يدري أنَّ صاحبَه مُحدثٌ، لكن لو عَلِمَ أن صاحبَه مُحدثٌ فهو فَذٌّ؛ لأنه يعتقدُ أنَّه صَلَّى مع شخصٍ لا تصِحُّ صلاتُه.
فإنْ جَهِلَ هو وصاحبُه حتى انقضتِ الصَّلاةُ، فصلاةُ الواقفِ مع المحدثِ صحيحةٌ؛ لأنَّه لم يعلمْ واحدٌ منهما بالحَدَثِ.
فإن قال قائلٌ: كيف لا يعلم؟
فالجواب: أن نقولَ: يمكن أن يكون أحدُهما أكلَ لحمَ إبلٍ ولا يعلمُ أنَّه لَحمُ إبلٍ فصَلَّى، فإذا انتهتِ الصَّلاةُ أُخبِرَ بأنه لحمُ إبلٍ، فقد صَلَّى مُحدِثاً ولم يعلم بحَدَثِ نفسِه، فصلاتُه غيرُ صحيحة، وصلاةُ الواقف معه صحيحةٌ.
فصور المسألة كما يلي:
1 ـ إذا علما الحدثَ جميعاً فصلاتُهما باطلةٌ، أما مَن كان مُحدثاً فالأمرُ ظاهرٌ، وأما مَن لم يكن محدثاً فلأنه وَقَفَ مع شخصٍ يعلمُ أنَّ صلاتَه باطلةٌ، فهو فَذٌّ.
2 ـ إذا جَهِلا حدثَ أحدِهما جميعاً، فصلاةُ غيرِ المحدثِ صحيحةٌ، وصلاةُ المحدثِ باطلةٌ.
3 ـ إذا عَلِمَ الطَّاهرُ بحدثِ صاحبِه، وصاحبُه لم يعلم فكلاهما صلاتُه باطلةٌ أما المحدثُ فظاهرٌ، وأما الطَّاهرُ فلأنَّه صَفَّ مع شخصٍ يعتقدُ أنَّ صلاتَه باطلةٌ فهو فَذٌّ.
مثال ذلك: أنْ يكون الطاهرُ قد سَمِعَ الرَّجُلَ أحْدَثَ، والآخرُ ما أحسَّ بنفسِه فقامَ فصَلَّى، فإنَّ هذا الذي صَلَّى طاهراً صَلَّى مع شخصٍ يعلمُ أنَّه مُحدِثٌ، وأنَّ صلاتَه باطلةٌ.
4 ـ إذا عَلِمَ المحدثُ بحَدَثِهِ. ولكن الذي صَفَّ معه لم يعلمْ فعلى كلام المؤلِّفِ صلاتُهما جميعاً باطلةٌ.
والقولُ الصحيحُ: أنَّ صلاةَ المتطهر غيرُ باطلةٍ؛ لأنَّه معذورٌ بجهل حَدَثِ صاحبِهِ.

أَوْ صَبِيٌّ فِي فَرْضٍ فَفَذٌّ.
قوله: «أو صبي في فرض ففذ» أي: ومَن لم يقفْ معه إلا صبيٌّ في فَرْضٍ فهو فَذٌّ. والمرادُ بالصبيِّ هنا: مَن لم يَبلغْ.
وقوله: «في فرض» خَرَجَ به ما لو وَقَفَ معه الصَّبيُّ في نَفْلٍ، مثل: قيامُ رمضان، والحاصل أنَّه إذا وَقَفَ معه صَبيٌّ خلفَ الصَّفِّ فإنْ كانت الصَّلاةُ فريضةً فهو فَذٌّ، وإنْ كانت الصلاةُ نافلةً فالمصافَّةُ صحيحةٌ.
والتعليل: أنَّ الفريضةَ في حَقِّ الصَّبيِّ نَفْلٌ فيكون المفترضُ قد صَفَّ إلى جَنْبِ متنفِّلٍ، فلا تَصِحُّ مصافَّتُه، كما لا تصِحُّ إمامتُه في الفرضِ. ولهذا إذا وَقَفَ معه في النَّفْلِ فصلاتُه صحيحةٌ.
ولكن؛ هذا التَّعليلُ عَليلٌ لما يلي:
أولاً: أنَّ المصافَّةَ ليست كالإِمامةِ، فالإِمامُ قد اعتمدَ عليه المأمومُ ووَثَقَ به وقلَّده في صلاتِهِ، بخلافِ الذي صَفَّ إلى جَنْبِهِ فيكون القياسُ غيرَ صحيحٍ؛ لأنَّ مِن شرطِ صحَّةِ القياسِ تساوي الأصلِ والفرعِ في العِلَّةِ، والعِلَّةُ هنا مختلفةٌ.
ثانياً: أنَّ هذا تعليلٌ في مقابلةِ النَّصِّ، فإنَّه قد ثَبَتَ أنَّ أنسَ بنَ مالك رضي الله عنه صَفَّ خلفَ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم ومعه يَتيمٌ. واليتيمُ لم يبلغْ، وكان ذلك في نَفْلٍ، والقاعدةُ: أنَّ ما ثَبَتَ في النَّفْلِ ثَبَتَ في الفرضِ إلا بدليل، وليس هناك دليلٌ يُفرِّقُ بين الفَرْضِ والنَّفْلِ.
ثالثاً: أنَّ الأصلَ المقيسَ عليه وهو: أنَّه لا تَصِحُّ إمامةُ الصَّبيِّ بالبالغِ غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ السُّنَّةَ وَرَدت بخلافِهِ، وذلك في قصَّةِ عَمرِو بنِ سَلَمة الجَرْمي، فإنَّه أمَّ قومَه وله سِتٌّ أو سبعُ سنين»كما ثبت ذلك في «صحيح البخاري». وعلى هذا؛ فيكون القولُ الرَّاجحُ في هذه المسألةِ: أنَّ مَن وَقَفَ معه صبيٌّ فليس فَذَّاً لا في الفريضة ولا في النَّفْلِ، وصلاتُه صحيحةٌ.

وَمَنْ وَجَدَ فُرْجَةً دَخَلَهَا، وَإِلاَّ عَنْ يَمِينِ الإِمَامِ،...........
قوله: «ومَن وَجَدَ فرجة دخلها» «الفرجة» هي الخَلَلُ في الصَّفِّ، أي: مكاناً ليس فيه أحدٌ. وقوله: دخلها أي: وَجَب عليه دخولها؛ إذا لم يكن معه أحدٌ يَصفُّ معه، فإنْ كان معه أحد يصف معه، فإن كان واحداً، قاما جميعاً خلف الصف، وإن كانا اثنين فأكثر دخل في الفرجة.
وإذا وَجَدَ فُرجةً قد تهيَّأ لها شخصٌ ليدخلَها، فظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ أنه يدخلُها، ويكون التفريط مِن المتخلِّفِ عنها، وهذا يقعُ كثيراً فتأتي مثلاً فتجدُ في الصَّفِّ الأول فُرجةً؛ لكن خلفَها شخصٌ يتنفَّلُ وتنفُّلُه خلفَها يقتضي أنه متهيِّئٌ لدخولِها فلك أن تتقدَّمَ فيها.
لأننا نقول: لماذا لم يتقدَّم ويُصَلِّ فيها، فهو الذي فرَّطَ في هذا المكان؟ وهذا الذي هو ظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ حَقٌّ لا شَكَّ فيه، وأنك تدخلُ في الفُرجةِ، ولو رأيت مَن يصلِّي خلفَها يريد الدخولَ فيها؛ لأنَّه هو الذي فوَّت المكانَ الفاضلَ على نفسِه والنَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لو يعلمُ النَّاسُ ما في النِّداءِ والصَّفِّ الأولِ ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا»، ولكن إذا خشيتَ فِتنةً أو عداوةً أو بغضاءً فاتركها، فإن الجماعةَ إنما شُرعت لمصالحَ عظيمةٍ؛ منها الائتلافُ والتَّوادُّ والتَّحابُ بين المسلمين، وإذا عَلِمَ الله مِن نيَّتِك أنَّه لولا خَوفِ هذه المفسدة لتقدَّمتَ إلى هذا المكان الفاضلِ فإنه قد يُثيبك سبحانه وتعالى لحُسْنِ نيَّتِكَ.
والدليل على أنَّه يدخُلُها هو أَمْرُ الرَّسولِ صلّى الله عليه وسلّم بالتَّراصِّ، فإنَّ أمرَه بالتَّراصِّ يستلزمُ سَدَّ الفُرَجِ، ورُويَ عن النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّ مَن وَصَلَ صفًّا وَصَلَه اللهُ، «وأنَّ اللهَ وملائكتَه يُصلُّون على الذين يَصِلون الصفوفَ».
قوله: «وإلا عن يمين الإِمام» الصواب: «وإلا فعن»؛ لأنَّ قولَه: «وإلا» هذه «إنْ» الشرطية مدغمة في «لا» أي: وإنْ لا يجدُ فُرجةً فعن يمين الإِمامِ، فتأتي الفاءُ الرابطةُ في جوابِ الشَّرطِ، لأنَّ المعنى وإلا فليقفْ عن يمين الإِمامِ، ويجوزُ أنْ نقدِّرَ جوابَ الشَّرطِ فِعلاً ماضياً، فنقول: التقدير: وإلا وَقَفَ عن يمين الإِمام. وحينئذٍ لا نحتاجُ إلى الفاء الرَّابطة، أي: إذا لم يَجدْ فُرجةً فإنَّه يقفُ عن يمينِ الإِمامِ، لأن موقفَ المأمومِ الواحدِ عن يمينِ الإِمامِ لحديث ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما حيث صَلَّى مع النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم في صلاةِ الليلِ، فوقفَ عن يسارِ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم فأخذَ النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم برأسِه مِن ورائِه فجعلَه عن يمينهِ فلما كان يمينُ الإِمامِ موقفَ المأمومِ الواحدِ؛ قلنا لهذا الرَّجُلِ الذي لم يجدْ مكاناً في الصَّفِّ: تقدَّم وكُنْ عن يمينِ الإِمامِ هكذا مُقتضى كلامِ المؤلِّفِ.
ولكن؛ هذا فيه نظر؛ لأن يمينَ الإِمامِ موقفٌ للمأمومِ الواحدِ، أما في هذه المسألةِ فالمأمومون جماعةٌ كثيرةٌ، ولا يَصِحُّ قياسُ هذا على هذا، ولم يَرِدْ عن النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّ أحداً صَلَّى إلى جَنْبِهِ مع وجودِ صَفٍّ إلا في مسألةٍ واحدةٍ، وهي: «حينما أنابَ أبا بكرٍ رضي الله عنه في مَرَضِ موتِه فوجدَ خِفَّةً فخرجَ وصَلّى بالنَّاسِ، وجَلَسَ عن يسارِ أبي بكرٍ. لكن؛ هذه المسألة ضرورةٌ؛ لأنَّ أبا بكر ليس له مكانٌ في الصَّفِّ، ولا يمكنه أن يتأخَّر إلى آخرِ الصُّفوفِ وهو في صلاةٍ.
وأيضاً: هو نائبُ الرسولِ عليه الصلاة والسلام فلا بُدَّ أن يكون إلى جَنْبِهِ مِن أجلِ أن يبلِّغَ مَن خلفَه مِن المأمومين تكبيرات النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام.
فهذه ثلاثةُ أمورٍ لا توجدُ في هذه الصُّورة التي ذكرها المؤلِّفُ، ولهذا نرى أنَّ وقوفَ أحدٍ إلى جانبِ الإِمامِ في مثل هذه الصُّورة مِن البِدَعِ التي لم تَرِدْ عن النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن كلمةَ الإِمام ينبغي أن تكون متضمنةً لمعناها بأنْ يكون إماماً حقيقة أمامَ مَن خلفَه، فهو قدوةٌ متبوعٌ فلا يشاركه في مكانِه أحدٌ، كما لا يشاركُه في أفعالِه أحدٌ، فهو متقدِّمٌ على المأمومِ مكاناً وعَمَلاً، فكيف نقول لشخصٍ: تقدَّمْ وكُنْ مع الإِمامِ؟ ثم إنَّ في هذا محاذيرَ منها:
أولاً: سيتخطَّى رقابَ المصلِّين، فإذا كانت عشرةَ صفوفٍ سيتخطَّى عشرةَ صفوف، والنَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم لما رأى رَجُلاً يتخطَّى الرِّقابِ قال: «اجْلِسْ فقد آذَيْتَ وآنيتَ».
ثانياً: إذا تقدَّم وصلَّى إلى جَنْبِ الإِمامِ؛ وجاء آخرٌ ولم يجدْ مكاناً تقدَّم وصلَّى إلى جانبِ الإِمامِ فاجتمع شخصان، وإذا جاء ثالث كذلك، ورابع حتى يكون مع الإِمام صَفٌّ كاملٌ.
نعم؛ إذا كان لا يوجدُ مكان في المسجد إلا مقدار صَفَّين، الصَّفُّ الأول فيه الإِمامُ، والصَّفُّ الثاني فيه المأمومون، ودَخَلَ رَجُلٌ ولم يجد مكاناً إلا يمين الإِمام، فهنا نقول: هذا محلُّ ضرورة، ولا بأس أنْ يقفَ إلى جَنْبِ الإِمامِ.
فإذا قلنا بأنَّه لا يقفُ عن يمينِ الإِمامِ؛ فماذا يعملُ؟
فالجواب: أنه يصلِّي خلفَ الصَّفِّ وحدَه، وأنَّ صلاتَه صحيحةٌ على القول الرَّاجحِ.

فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ فَلَهُ أَنْ يُنَبِّه مَنْ يَقُومُ مَعَهُ،..........
قوله: «فإن لم يمكنه فله أن ينبه مَن يقوم معه» أي: إذا لم يمكنه أن يتقدَّم إلى الإِمام ويصلِّي إلى جانبه، مثل: أن يكون الإِمامُ في مكانٍ ضيِّقٍ كطاقِ القِبْلةِ ـ أي: المِحْراب ـ فلا يمكن أنْ يصفَّ فيه أكثرُ مِن واحدٍ، فهنا: لا يتمكَّن أن يقفَ عن يمينِ الإِمامِ.
«فله» أي: لهذا الرَّجُلِ أن يُنبِّه مَن يقومُ معه، فيقول: يا فلان تأخَّرْ ـ جزاك الله خيراً ـ لِتُصلِّيَ معي، ولكن يُكره أن يجذِبَه بدون أن ينبِّهه.
وهل يلزم المُنَبَّه أن يتأخَّر مع هذا الرَّجُلِ؟
قالوا: يلزمه أنْ يتأخَّر معه مِن أجل أن يصحِّحَ صلاةَ صاحبِه فها هنا مسألتان:
الأولى: تتعلَّقُ بالدَّاخلِ.
والثانية: تتعلَّقُ بالمصلِّين في الصَّفِّ.
أما الدَّاخلُ فنقول: نَبِّه مَن يصلِّي معك ويتأخَّر مَن نُبِّه.
وأما المصلُّون فنقول لِمَن نُبِّه: يجب عليك أن تتأخَّرَ تكميلاً لصلاة صاحِبِك.
وفي المسألتين نظر:
أما المسألة الأولى: وهي: أن يُنبِّه مَن يقوم معه. فإنَّ الصَّحيحَ أنَّه ليس له ذلك، لأنه إذا نَبَّهه أحرجَه، ولأنه قد يكون مِن السُّؤال المذمومِ، فإنَّ هذا الذي نَبَّهتَه سوف يكون له عليك مِنَّةٌ؛ ولأنه إذا فُتِحَ هذا البابُ فقد يتأذَّى الناسُ، فكلُّ مَن جاء ولم يجدْ أحداً يقفُ معه، قلنا: نَبِّه مَن يقوم معك؛ ولأن هذا لم يصحَّ مِن فِعْلِ الصَّحابةِ رضي الله عنهم أو التابعين.
وأما المسألة الثانية: فإنَّ الصَّحيحَ أنَّه لا يلزمه أنْ يرجعَ معه، لأننا لو قلنا بلزومِ الرُّجوعِ لقلنا: إنَّه إذا لم يرجعْ فعليه إثمٌ، وقد قال الله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15] ، وكما أنَّه لا يلزمُني أن أشتري لِمَن لم يجدِ الماءَ في الوُضُوء ماءً يتوضَّأ به، ولا أنْ أُحَصِّلَ له الماءَ، فكذلك هنا، وتكميل العبادات ليس على غيرِ العابدِ، فالعبادات على العابدِ نفسِه، أما غيره فهو في حِلٍّ منها.
فماذا يصنع إذا لم يكن له أن يُنبِّه مَن يقوم معه؟
الجواب: المذهب: يقف حتى يُيسِّرَ اللهُ له مَن يقومُ معه أو يصلِّي وحدَه.
والقولُ الصَّحيحُ: أنَّه يصلِّي خلفَ الصَّفِّ منفرداً متابعاً للإِمامِ.
ودليل ذلك ما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] وقوله: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وهذا الرَّجُلُ الذي لم يجدْ مكاناً في الصَّفِّ لم يستطعْ أكثرَ مِن ذلك.
ثانياً: إذا قلنا: لا تصفَّ وحدَك لزِمَ مِن هذا أحدُ أمور:
إما أن يَدَعَ الصَّلاةَ مع الجماعة؛ ويصلِّي وحدَه؛ فتفوتُه صلاةُ الجماعةِ.
وإما أن يتقدَّمَ إلى الإِمامِ، وقد ذكرنا أنَّ هذا ليس مِن السُّنَّة، وإما أن يجذِبَ أحداً معه وقد قلنا: إن هذا أيضاً لا يجوز.
فما بقيَ عليه إلا أنْ يصفَّ وحدَه؛ لأنَّ انفرادَه في المكان فقط أَولى مِن انفرادِه في المكان والمتابعة، وقد ذكرنا فيما سبق أنَّ أكثرَ أهلِ العِلْمِ صحّحوا صلاة المنفردِ خلفَ الصَّفِّ لعُذرٍ ولغير عُذر، فيكون القولُ بتصحيحِ صلاةِ المنفردِ خلفَ الصَّفِّ للعُذرِ قولاً وسطاً بين قولين أحدهما يقول: لا بأسَ مطلقاً، والثاني يقول: لا تصِحُّ الصَّلاةُ ولو لعُذر.
والغالبُ في أقوال العلماء إذا تدبَّرتها أنَّ القولَ الوسطَ يكون هو الصَّواب؛ لأنَّ القول الوسط تجده أخذَ بأدلَّةِ هؤلاء وأدلَّةِ هؤلاء فَجَمَعَ بين الأدلَّةِ.
وانظر مثلاً إلى العقائد، فقد انقسم النَّاسُ في صفات الله إلى طَرَفين ووسط:
طَرفٍ غلوا في الإثبات فأثبتوها مع التمثيل.
وطَرفٍ غلوا في التنزيهِ فَنفَوها. فهذان طرفان.
ووَسَطٍ أثبتها مع نفي المماثلةِ.
وفي القَدَرِ انقسمَ النَّاسُ إلى طرفين ووَسَط:
طرفٍ غلوا في إثبات القَدَرِ وقالوا: إنَّ الإِنسانَ مُجبرٌ على فِعْلِه وليس له اختيار.
وطرفٍ آخر غلوا في النَّفْي وقالوا: إنَّ العبدَ مستقلٌّ بعَمَلِهِ ولا تعلُّقَ لقَدَرِ اللهِ فيه.
وقسم ثالث وَسَط قالوا: إنَّ الإِنسانَ له إرادةٌ واختيارٌ في فِعْلِه، ولكنَّه مكتوبٌ عند الله وبتقدير الله، فتوسَّطوا، فصاروا على الصَّواب.
وفي باب الوعيد انقسم النَّاسُ أيضاً إلى طَرفين ووَسَطٍ:
قسمٍ أخذوا بنصوصِ الوعيدِ وتركوا نصوصَ الرَّجاءِ.
وقسمٍ آخر أخذوا بنصوصِ الرَّجاءِ وتركوا نصوصَ الوعيدِ.
وقسم توسَّطَ.
فالقسم الأول: الذين أخذوا بنصوصِ الوعيد وأهدروا نصوصَ الرَّجاءِ، قالوا: مَن فَعَلَ كبيرة مِن كبائرِ الذنوب فإنه مُخلَّدٌ في النَّارِ ولا تنفعُ فيه الشفاعةُ.
والقسم الثاني: الذين تطرَّفوا مِن جهةٍ أخرى أخذوا بنصوص الرَّجاءِ وتركوا نصوصَ الوعيدِ، وقالوا: فاعلُ الكبيرةِ لا يدخلُ النارَ، والنصوصُ الواردةُ في الوعيدِ إنَّما تنصبُّ على الكُفَّارِ لا على المؤمنين.
والقسم الثالث: قالوا: إنَّ نصوصَ الوعيد نصوصٌ ثابتةٌ واردةٌ على مَن استحقَّها، ولكن هذا الذي استحقَّ هذا الوعيد تحتَ المشيئة؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] .
وفي آلِ الرَّسولِ صلّى الله عليه وسلّم انقسمَ النَّاسُ إلى طَرفين ووَسَطٍ:
قسمٍ غلوا في آلِ الرَّسولِ غلواً كبيراً، حتى بالغ بعضُهم فادَّعى ألوهية بعضِ آل البيت وربوبيتهم وأنَّ لهم تصرُّفاً في الكون. وهذا القسمُ يتزعَّمُه الروافضُ.
وقسم بالعكس؛ أبغضُوهم وسبُّوهم وقَدَحوا فيهم، وهذا القسمُ يتزعَّمُه النَّواصبُ ومنهم الخوارج؛ لأنَّ الخوارجَ قاتلوا عليَّ بن أبي طالب، وخرجوا عليه واستباحوا قِتالَه.
والقسم الثالث: وَسَطٌ، قالوا: إنَّ آلَ البيتِ لهم حَقٌّ علينا، المِؤمنُ منهم له حَقَّان: حَقُّ الإِيمان، وحَقُّ القَرابة مِن الرَّسولِ صلّى الله عليه وسلّم، ولكننا لا نغلوا فيهم كما غلتِ الرافضةُ، ولا نسبُّهم ونبغضُهم كما فَعَلَ النَّواصبُ، بل نحن وَسَطٌ.
وفي أسماءِ الإِيمان والدِّين اختلفَ النَّاسُ أيضاً على طرفين ووَسَطٍ.
طرفٍ قالوا: إذا فَعَلَ المؤمنُ كبيرةً سمَّيناه كافراً، وهؤلاء هم الخوارجُ، وعلى العكس المرجئة، قالوا: إذا فَعَلَ المؤمنُ كبيرةً فهو مؤمنٌ كاملُ الإِيمان وإيمانُه كإيمان جبريل وأبي بكر.
والقسم الثالث قالوا: هو مؤمنٌ فاسقٌ، مؤمنٌ بإيمانِه فاسقٌ بكبيرتِه، أو مؤمنٌ ناقصُ الإِيمان، فلا يُعطى الإِيمانَ المطلق، ولا يُسلب مطلقُ الإِيمانِ.
فأنت ترى دائماً القولَ الوسطَ هو الذي يكون صحيحاً، ووجه ذلك واضحٌ؛ لأنَّ القولَ الوسطَ يأخذ مِن أدلَّة هؤلاء وأدلَّة هؤلاء، والقولُ الطَّرفُ يأخذ بأحدِ الأدلَّةِ ويدعُ الأدلَّةَ الأخرى.
فالقولُ الرَّاجحُ في مسألتِنا الفقهيةِ: أنَّ مَن صَلَّى خلفَ الصَّفِّ لِتمامِ الصَّفِّ فصلاتُه صحيحةٌ.

فَإِنْ صَلَّى فَذًّا رَكْعَةً لَمْ تَصِحَّ، وَإِنْ رَكَعَ فَذًّا ثُمَّ دَخَلَ فِي الصَّفِّ، أَوْ وَقَفَ مَعَهُ آخَرُ قَبْلَ سُجُودِ الإِمَامِ صَحَّتْ.
قوله: «فإن صلّى فذاً ركعة لم تصح» لا شكَّ أنَّ قوله: «فإن صلّى فذًّا ركعة لم تصح» مكرَّرٌ مع ما سبق في قوله: «ولا الفَذّ خلفَه أو خلفَ الصَّفِّ، إلا أن يكون امرأة»، لكن المؤلِّفُ ذَكَرَ هذا تمهيداً لقوله: «وإنْ رَكَعَ فذًّا ثم دَخَلَ في الصَّفِّ أو وقف معه آخرٌ قبل سجودِ الإِمامِ صحَّت»، فهاتان مسألتان:
الأولى: إنْ رَكَعَ فَذًّا ثم دَخَلَ في الصَّفِّ قبل سجودِ الإِمامِ صحَّت صلاتُه لزوالِ الفرديَّةِ قبل تمامِ الرَّكعةِ، وظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ: أنَّه لا فَرْقَ بين أن يكون ذلك لعُذرٍ أو لغير عُذرٍ، فجعل المؤلِّفُ رحمه الله الغايةَ سجودَ الإِمامِ، فإذا زالت الفرديةُ قبل سجودِ الإِمامِ فصلاتُه صحيحةٌ، وإنْ زالت بعدَ سجودِ الإِمامِ أو لم تزل أبداً فصلاتُه غيرُ صحيحةٌ. ووجه ذلك: أنه لم يصلِّ ركعةً كاملةً فذًّا وقد علَّق النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم إدراكَ الصَّلاةِ بإدراكِ الركعةِ.
مثال ذلك: رَجُلٌ وقفَ خلفَ الصَّفِّ وكبَّر ورَكَعَ بدون عُذر، والصَّفُّ لم يتمَّ ثم تقدَّمَ فدَخَلَ في الصَّفِّ قبلَ سجودِ الإِمام، أي: ولو بعدَ الركوعِ فصلاتُه صحيحةٌ على كلامِ المؤلِّفِ، لأنَّ فَذِّيَّتَه زالت قبل أن يسجدَ إمامُه.
ولكن؛ المذهبُ في هذه المسألة خِلافُ ما مشى عليه المؤلِّفُ، وهو: أنه إنْ كان لغيرِ عُذرٍ فَرَفَع الإِمامُ مِن الركوع قبل أنْ تزولَ فَذِّيَّتُه فصلاتُه غيرُ صحيحةٌ، وإنْ زالت فَذِّيَّتُه قبل الرَّفْعِ مِن الركوعِ فصلاتُه صحيحة، هذا إذا كان لغير عُذرٍ، أما إذا كان لعُذر فهو كما قال المؤلِّفُ: العبرةُ بسجودِ الإِمامِ.
والعذرُ هو خوفُ فَوتِ الرَّكعة، فإذا خشيَ إن تقدَّم حتى ينتهيَ إلى الصَّفِّ أنْ تفوتَه الركعةُ فله أن يُكبِّرَ ويركعَ فذَّاً، ثم يدخلَ في الصَّفِّ قبل أن يسجدَ الإِمامُ، فإنْ سَجَدَ الإِمامُ ولو قبلَ أنْ تزولَ فَذِّيَّتُهُ ولو لعُذر فصلاتُه غيرُ صحيحةٍ. هذا هو المشهور مِن المذهب، أي: أنَّهم يُفرِّقون بين الذي انفردَ لعُذر والذي انفردَ لغير عُذر.
والصَّحيحُ في هذه المسألة والتي بعدها: أنه إذا كان لعُذرٍ فصلاتُه صحيحةٌ مطلقاً، والعُذرُ تمامُ الصَّفِّ، فإذا كان الصَّفُّ تامَّاً فصلاتُه صحيحةٌ بكلِّ حال، حتى وإنْ بقيَ منفرِداً إلى آخرِ الصَّلاةِ، وأما إذا كان لغير عُذرٍ فإنْ رَفَعَ الإِمامُ مِن الرُّكوعِ قبل أن تزولَ فَذِّيَّتُهُ فصلاتُه غيرُ صحيحةٍ، وإذا زالت فَذِّيَّتُه قبل رَفْعِ الإِمامِ مِن الرُّكوعِ فصلاتُه صحيحةٌ.
ودليل ذلك: حديث أبي بكرة رضي الله عنه أنه أدركَ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم راكعاً فركع قبل أن يصل إلى الصف ثم دخل في الصف فلما سلَّم قال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «زادك الله حرصاً ولا تعد» فدعا له ونهاه أن يعود لأن المشروع أن لا يدخل المسبوق في الصلاة حتى يصل إلى الصف ولم يأمره بإعادة الركعة فدل هذا على أن ركعته صحيحة.
هذه هي المسألة الأولى.
وأما الثانية: وهي ما إذا رَكَعَ فَذَّاً ودَخَلَ معه آخر قبل سجودِ الإِمامِ فصلاته صحيحة ووجهها ما سبق في الأولى.


 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
موقف, الإمام

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:13 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir