بابُ الصَّومِ في السَّفرِ وغيرِه
جاءت هذه الشَّريعةُ بالأحكامِ المُيسَّرَةِ السَّمْحَةِ تحقيقاً لقولِه تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) وقولِه: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ).
فلما كان السَّفرُ غالباً فيه مشقَّةٌ وصعوبةٌ، وأنه قطعةٌ من العذابِ، خُفِّفَ فيه.
ومن تلك التخفيفاتِ الرُّخصةُ في الفِطرِ في نهارِ رمضانَ.
وهي رخصةٌ مستحبَّةٌ؛ لقولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ)).
وهي رخصةٌ، تعُمُّ الذي ينالُهُ بالسفرِ مشقَّةٌ، وغيرُه ممَّن تكونُ أسفارُهم راحةً ومتعةً؛ لأن الحُكْمَ للغالبِ.
وبمثلِ هذه الأحكامِ اللَّطِيفَةِ نعلمُ مَدَى ما تُراعيه هذه الشَّريعةُ الكريمةُ من تخفيفٍ ورحمةٍ ومُلاءمةٍ للأوقاتِ والظُّروفِ، ومطالبةِ النَّاسِ بقدرِ ما يستطيعونَ.
رَضِينا باللهِ ربًّا، وبالإسلامِ ديناً، وبمحمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبيًّا.
الحديثُ الحادي والثمانونَ بعدَ المائةِ
عن عائشةَ رَضِي اللهُ عَنْهُا، أنَّ حمزةَ بنَ عمرٍو الأسْلَميَّ قال للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَأَصُومُ فِي السَّفرِ؟ – وَكانَ كَثِيرَ الصِّيَام ِ-
قال: ((إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأفْطِرْ)) .
(181) المعنَى الإجماليُّ:
علِمَ الصَّحابةُ رَضِي اللهُ عَنْهُم أن الشَّارعَ الرَّحيمَ، ما رخَّصَ في الفطرِ في السَّفرِ إلا رحمةً بهم وإشفاقاً عليهم.
فكان حمزةُ الأسلميُّ عندَه جَلَدٌ وقوَّةٌ على الصِّيامِ، وكان محِبًّا للخيْرِ، كثيرَ الصِّيامِ رَضِي اللهُ عَنْهُ .
فَسَألَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أيصومُ في السَّفرِ؟.
فخيَّرَه النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الصِّيامِ والفطرِ، فقال : ((إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ)).
ما يُؤْخَذُ من الحديثِ:
1ـ الرُّخصةُ في الفطرِ في السَّفرِ؛ لأنه مظِنَّةُ المشقَّةِ.
2ـ التَّخْييرُ بين الصِّيامِ والفطرِ، لمن عندَه قوَّةٌ على الصِّيامِ. والمرادُ بذلك صومُ رمضانَ، ويُوَضِّحُه ما أخرجه أبو داودَ والحاكمُ من أن حمزةَ بْنَ عمرٍو قال : ((يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي صَاحِبُ ظَهْرٍ أُعَالِجُهُ أُسَافِرُ عَلَيْهِ ، وَأَكْرِيهِ ، وَإِنَّهُ رُبَّمَا صَادَفَنِي هَذَا الشَّهْرُ - يَعْنِي رَمَضَانَ - وَأَنَا أَجِدُ الْقُوَّةَ ، وَأَنَا شَابٌّ ، وَأَجِدُ بِأَنْ أَصُومَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ أَنْ أُؤَخِّرَهُ ، فَيَكُونَ دَيْنًا أَفَأَصُومُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْظَمُ لِأَجْرِي أَوْ أُفْطِرُ ، قَالَ: أَيَّ ذَلِكَ شِئْتَ يَا حَمْزَةُ )).
الحديث ُالثاني والثمانونَ بعدَ المائةِ
عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ قال: كُنَا نُسَافِرُ مَعَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى المُفْطِرِ، وَلاَ المُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ .
(182) المعنَى الإجماليُّ:
كان الصَّحابةُ يسافرونَ مع النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فيُفْطِرُ بعضُهم، ويصومُ بعضُهم، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقِرُّهم على ذلك؛ لأن الصِّيامَ هو الأصلُ ، والفِطرَ رخصةٌ، والرُّخصةُ ليس في ترْكِها إنكارٌ، ولذا فإنه لا يَعيبُ بعضُهم على بعضٍ في الصِّيامِ أو الفطرِ.
ما يُؤْخَذُ من الحديثِ:
1ـ جَوازُ الفطرِ في السَّفرِ.
2ـ إقرارُ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابَه على الصِّيامِ والفطرِ في السَّفرِ، مما يدلُّ على إباحةِ الأمريْنِ.
الحديثُ الثالثُ والثمانونَ بعدَ المائةِ
عن أبي الدَّرْدَاءِ رَضِي اللهُ عَنْهُ قال: خَرَجْنَا معَ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شهرِ رَمَضَانَ، في حَرٍّ شَدِيدٍ، حتَّى إنْ كان أَحَدُنَا لَيَضَعُ يَدَهُ على رأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الحرِّ، وما فينا صائِمٌ إلا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعبدُ اللهِ بنِ رَوَاحَةَ .
(183) المعنَى الإجماليُّ:
خرجَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأصحابِه في رمضانَ، في أيَّامٍ شديدةِ الحرِّ.
فمن شدَّةِ الحرِّ، لم يَصُمْ منهم إلا النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وعبدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ الأنصاريُّ رَضِي اللهُ عَنْهُ .
فهما تحمَّلا الشِّدَّةَ وصاما، ممَّا يدلُّ على جَوازِ الصِّيامِ في السَّفرِ ، وإن كان ذلك مع المشقَّةِ التي لا تصلُ إلى حدِّ التَّهلُكةِ.
الحديثُ الرابعُ والثمانونَ بعدَ المائةِ
عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِي اللهُ عَنْهُ قال: كان رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سَفَرٍ، فَرَأَى زِحَاماً وَرَجُلاً قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ، فقالَ: ((مَا هَذَا؟)) قالُوا: صَائِمٌ، قَالَ: ((لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصيامُ في السَّفَرِ)) .
وفي لفظٍ لمسلمٍ: ((عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ)).
(184) المعنَى الإجماليُّ:
كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أحدِ أسفارِه، فرأى النَّاسَ متزاحمينَ , ورجُلاً قد ظُلِّلَ عليه، فسأَلهم عن أمرِه. فقالوا: إنه صائمٌ ، وبلغَ به الظَّمأُ هذا الحدَّ.
فقال الرَّحيمُ الكريمُ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ الصِّيامَ فِي السَّفَرِ لَيْسَ مِنَ البِرِّ، ولكنْ عليكم برُخْصةِ اللهِ التي رخَّصَ لكم،
فهو لم يُرِدْ منكم بِعِبَادَتِه تعذيبَ أنفسِكُم.
ما يُؤْخَذُ من الحديثِ:
1ـ جَوازُ الصِّيامِ في السَّفرِ، وجوازُ الأخذِ بالرُّخصةِ بالفِطرِ.
2ـ أن الصِّيامَ في السَّفرِ ليس بِرًّا، وإنما يُجْزِئُ ، ويُسْقِطُ الواجبَ.
3ـ أن الأفضلَ إتيانُ رُخَصِ اللهِ تعالى، التي خَفَّفَ بها على عبادِه.
اختلافُ العلماءِ :
اختلفَ العُلماءُ في صومِ رمضانَ في السَّفرِ.
فشدَّدَ بعضُ السَّلفِ، كالزُّهْرِيِّ ، والنَّخَعِيِّ، وذهبوا إلى أن صيامَ المسافرِ لا يُجزئُ عنه، وهو مرويٌّ عن عبدِ الرَّحمنِ بْنِ عوفٍ، وأبِي هُريرةَ، وابنِ عمرَ، وهو مذْهبُ الظَّاهريةِ.
وذهب جماهيرُ العلماءِ، ومنهم الأَئِمَّةُ الأربعةُ، إلى جَوازِ الصِّيامِ والفِطرِ.
واحتجَّ الأوَّلونَ بقولِه تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).
ووجهُه: أن اللهَ لم يَفْرِضِ الصَّومَ إلا على مَن شَهِدَهُ، وَفَرَضَ على المريضِ والمُسافِرِ في أيَّامٍ أُخَرَ.
وما رواهُ مسلمٌ عن جابرٍ: أن النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عامَ الفتحِ في رمضانَ، فصامَ حتَّى بلغَ كُرَاعَ الغَمِيمِ، فصامَ النَّاسُ، ثم دعا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَرَفَعَهُ حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ، ثُمَّ شَرِبَ، فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ، فَقَالَ: ((أَولَئِكَ الْعُصَاةُ، أَولَئِكَ الْعُصَاةُ)). فَنَسَخَ قولُه: ((أَولَئِكَ الْعُصَاةُ)) لصيامِه.
وما رواه الْبُخَارِيُّ عن جابرٍ: ((لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيامُ فِي السَّفَرِ)).
واحتجَّ الجمهورُ بحُجَجٍ قوِيَّةٍ، منها أحاديثُ البابِ.
الأوَّلُ: حديثُ حمزةَ الأسلميِّ: ((إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ)).
والثاني: حديثُ أنسٍ: ((كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ , ولاَ الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ)).
والثالثُ: حديثُ أبي الدَّرداءِ، فيه صيامُ رسولِ اللهِ ، وعبدِ اللهِ بْنِ رواحةَ.
وأجابوا عن أدلَّةِ الأوَّلينَ بما يأتي:
أمَّا الآيةُ: فالذي أُنْزِلت عليه، صامَ بعدَ نُزولِها، وهو أعلمُ الخلْقِ بمعناها ، فَيَتَحَتَّمُ أنَّ معناها غيرُ ما ذكرْتُم.
وأكثرُ العلماءِ ذكروا أن فيها مُقَدَّراً، تقديرُه [فَأَفْطَرَ].
أما قولُه: ((أُولَئِكَ الْعُصَاةُ)). فهي واقعةُ عينٍ لأُناسٍ شقَّ عليهم الصِّيامُ، فأفطرَ هو عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ليَقْتَدُوا به، فلم يفعلوا فقال: ((أُولَئِكَ الْعُصَاةُ)) لعدمِ اقتدائِهم به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ.
وأمَّا حديثُ: ((لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيامُ فِي السَّفَرِ)). فمعناه أن الصِّيامَ في السَّفرِ ليس من البِرِّ الذي يُتَسابقُ إليه، ويُتنافَسُ فيه.
فقد يكونُ الفطرُ أفضلَ منه، إذا كان هناك مشقَّةٌ، أو كان الفطرُ يساعدُ على الجهادِ، واللهُ يُحبُّ أن تُؤْتَى رُخَصُهُ، كما يَكْرَهُ أن تُؤْتَى معاصِيه.
والجمهورُ الذين يَرَوْنَ جَوازَ الصِّيامِ في السَّفرِ اختلفوا، أيُّهُما أفضلُ، الصِّيامُ أم الفطرُ؟
فذهب الأَئِمَّةُ الثَّلاثةُ: أبو حنيفةَ، ومالكٌ، والشَّافعيُّ إلى أن الصَّومَ أفضلُ لمَن لا يلْحَقُه مشقَّةٌ.
وذهب الإمامُ أحمدُ إلى أن الفِطرَ في رمضانَ أفضلُ ، ولو لم يلحقِ الصَّائمَ مشقَّةٌ.
ويقولُ باستحبابِ الفطرِ أيضاً سعيدُ بْنُ المسيِّبِ، والأوْزَاعيُّ , وإسحاقُ.
استدلَّ الأئِمَّةُ الثّلاثةُ بأحاديثَ:
منها ما رواه أبو داودَ عن سلمةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ، عن النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
((مَنْ كَانَتْ لَهُ حُمُولَةٌ يَأْوِي إِلَى شِبَعٍ، فَلْيَصُمْ رَمَضَانَ حَيْثُ أَدْرَكَهُ)).
وَ[الْحُمُولَةُ] بالضمِّ، : الأحمالُ التي يسافرُ بها صاحبُها.
أمَّا أدلةُ الحنابلِة فمنها حديثُ ((لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيامُ فِي السَّفَرِ)). متَّفَقٌ عليه.
وحديثُ: ((إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ)).
فائِدَةٌ:
أما مقدارُ السَّفرِ الذي يُباحُ في الفطرِ وقَصْرِ الصَّلاةِ، فقد اختلفَ العُلماءُ في تحديدِه.
والصَّحيحُ أنه لا يُقَيَّدُ بهذه التَّحديداتِ التي ذكروها؛ لأنه لم يَرِدْ فيه شيءٌ عن الشَّارعِ.
فالمُشرِّعُ أطلقَ السَّفرَ، فَنُطْلِقُه كما أطلقه.
فما عُدَّ سفراً، أُبيحَ فيه الرُّخَصُ السَّفريَّةُ، وتقدَّمَ بأبسطَ مِن هذا في [صلاةِ أهلِ الأعذارِ].
الحديثُ الخامسُ والثمانونَ بعدَ المائةِ
عن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه قال: كُنَّا مَعَ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفَرٍ، فَمِنَّا الصَّائِمُ، وَمِنَّا المُفْطِرُ.
قال: فَنَزَلْنا مَنْزِلاً في يَوْمٍ حارٍّ، وَأَكْثَرُنَا ظِلاًّ صَاحِبُ الْكِسَاءِ، فَمِنَّا مَنْ يَتَّقِي الشَّمْسَ بِيَدِه.
قالَ: فَسَقَطَ الصُّوَّمُ، وَقَامَ المُفْطِرُونَ فَضَرَبُوا الأَبْنِيَةَ، وَسَقَوُا الرِّكَابَ.
فقال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ذَهَبَ المُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالأَجْرِ)) .
(185) المعنَى الإجماليُّ:
كان الصَّحابةُ مع النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أحدِ أسفارِه، فبعضُهم مُفطرٌ، وبعضُهم صائمٌ.
والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقِرُّ كلاًّ منهم على حالِه.
فنزلوا في يومٍ حارٍّ ليستريحوا من عناءِ السَّفرِ وحرِّ الهاجرَةِ.
وكانوا رَضِي اللهُ عَنْهُم مُتَقَشِّفينَ، لا يجدُ أكثرُهم ما يُظِلُّه عن الشَّمسِ، إلا أن يضعَ يدَه على رأسِه ، أو أن يضعَ كِساءَه فوقَ عودٍ أو شجرةٍ فيستظلَّ به.
فلما نزلوا في هذه الهاجرةِ ، سقَط الصَّائمونَ من الحرِّ والظمإِ ، فلم يستطيعوا العملَ.
وقام المُفطرونَ، فضربوا الأبنيةَ بنصبِ الخيامِ والأَخْبِيَةِ، وسَقَوُا الإبلَ، وخدَموا إخوانَهم الصَّائمينَ.
فلمَّا رأى النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعلَهم ، وما قاموا به من خدمَةِ الجيشِ شجَّعهم، وبيَّن فَضْلَهم ، وقال: ((ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالأَجْرِ)).
ما يُؤْخَذُ من الحديثِ:
1ـ جَوازُ الإفطارِ والصِّيامِ في السَّفرِ؛ لأن النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقرَّ كلاًّ على ما هو عليه.
2ـ ما كان عليه الصَّحابةُ رَضِي اللهُ عَنْهُم من رقَّةِ الحالِ في الدُّنيا، ومع ذلك لم تمنعْهم رقَّةُ الحالِ من ارتكابِ الصِّعابِ في الجهادِ في سبيلِ اللهِ تعالى.
3ـ فضلُ خدمةِ الإخوانِِ والأهلِ، وأنها من الدِّينِ ومن الرُّجولةِ التي سَبَقَنَا فيها صفوةُ هذه الأُمَّةِ، خلافاً لفعلِ كثيرٍ من المترفِّعينَ المتكبِّرينَ.
4ـ أن الفطرَ في السَّفرِ أفضلُ، لا سِيَّما إذا اقترن بذلك مصلحةٌ من التَّقَوِّي على الأعداءِ ونحوِه؛ فإن فائدةَ الإفطارِ في مثلِ ذلك اليومِ ؛ فإنها تتعدَّى المُفْطِرَ إلى غيرِه، ومن هنا كان الإفطارُ أولى.
5ـ حثُّ الإسلامِ على العملِ وترْكِ الكسلِ، فقد جعل للعاملِ نصيباً كبيراً من الأجْرِ، وفضَّلَه على المنقطعِ للعبادَةِ.
وأين هذه من النَّاعِقينَ الذين يروْنه دِيناً عائقاً عن العملِ والتَّقدُّمِ والرُّقيِّ؟! قَبَّحَهُم اللهُ ، فإنهم يَهْرِفُونَ بما لا يعرِفونَ.