دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم الحديث الشريف > متون علوم الحديث الشريف > عمدة الأحكام > كتاب الطهارة

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 6 ذو القعدة 1429هـ/4-11-2008م, 08:33 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي باب التيمم

6- بَابُ التَّيَمُّمِ
عن عِمْرَانَ بنِ حُصَينٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أنَّ رَسُولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم رَأَى رَجُلاً مُعْتَزِلاً لَمْ يُصَلِّ في الْقَوْمِ، فقالَ: يَا فُلاَنُ، مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ في الْقَوْمِ؟ فقالَ: يا رَسُولَ اللهِ، أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ وَلاَ مَاءَ. فقالَ: ((عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ، فإِنَّهُ يَكْفيكَ)).
عن عَمَّارِ بنِ ياسرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُمَا قالَ: بَعَثنِي النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم في حاجَةٍ، فَأَجْنَبْتُ، فَلَمْ أَجِد المَاءَ، فَتَمَرَّغْتُ في الصَّعِيدِ كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ، ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فقالَ: ((إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا)) ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الأَرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ، وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ.
عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم قالَ: ((أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِن الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِن أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِيَ المَغَانِمُ، وَلَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خاصةً، وَبُعِثْتُ إلى النَّاسِ عَامَّةً)).

  #2  
قديم 10 ذو القعدة 1429هـ/8-11-2008م, 06:08 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي تصحيح العمدة للإمام بدر الدين الزركشي (النوع الأول: تصحيح الرواية)

حديثُ جابرٍ: ((أُعْطِيتُ خَمْسًا)) إلى أنْ قالَ: ((وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً)).

هذا اللفظُ للبخاريِّ ولم يَرْوِهِ مسلمٌ كذلكَ، إنَّمَا رَوَاهُ بلفظِ: ((وَبُعِثْتُ إلى كلِّ أَحْمَرَ وأَسْوَدَ))، وَلَعَلَّ المُصَنِّفَ اغْتَفَرَ ذلكَ، ظَنًّا منهُ تَرَادُفَهُمَا، وقدْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِمَا تُعْطِيهِ الصيغةُ مِن كلِّ واحدٍ منهما، على أنَّ روايةَ مسلمٍ أَقْوَى في نظرِ الحَدِيثِيِّ؛ لأنَّهُ رَوَاهَا عن شَيْخِهِ يَحْيَى بنِ يَحْيَى، عن هُشَيْمٍ، والبخاريُّ رَوَى لَفْظَهُ عن محمدِ بنِ سِنَانٍ، عن هُشَيْمٍ، وَيَحْيَى أَجَلُّ مِن محمدِ بنِ سِنَانٍ.
فهي روايةٌ أُخْرَى يُقَدَّمُ الحافظُ لها على مَن رَوَى بالمَعْنَى.

  #3  
قديم 10 ذو القعدة 1429هـ/8-11-2008م, 06:09 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي تصحيح العمدة للإمام بدر الدين الزركشي (النوع الثاني: التصحيح اللغوي)

قولُهُ: (( أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ )).

ولا ما يَجُوزُ فيهِ النصبُ بلا تَنْوِينٍ، وبهِ مع التنوينِ، وبالضمِّ بلا تنوينٍ، وعلى الأوَّلِ اقْتَصَرَ الإمامُ تَقِيُّ الدينِ الشارحُ، وقالَ: الخبرُ محذوفٌ أي ما مَعِي أو عندي موجودٌ، قولُهُ: (( فَأَيُّمَا رَجُلٍ )).
أيّ: مبتدأٌ فيهِ معني الشرطِ، وما زَائدةٌ لتوكيدِ الشرطِ، وجملةُ (( أَدْرَكَتْهُ الصلاةُ )) في موضعِ خفضٍ، صفةٌ لرجلٍ، والفاءُ في (( فَلْيُصَلِّ )): جوابُ الشرطِ.
قولُهُ: (( وَأُحِلَّتْ لِيَ الغَنَائِمُ )).
يجوزُ في "تَحِلُّ" ضَمُّ التاءِ وفتحُ الحاءِ علي البناءِ للمفعولِ، وفَتْحُهَا وكسرُ الحاءِ علي البناءِ للفاعلِ، وهو أكثرُ، قالَهُ الشيخُ نورُ الدينِ الهَاشِمِيُّ.

  #4  
قديم 10 ذو القعدة 1429هـ/8-11-2008م, 06:34 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي خلاصة الكلام للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن البسام

بابُ التَّيَمُّمِ

الْحَدِيثُ السادسُ والثلاثونَ
عنْ عِمْرَانَ بنِ حُصَينٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ، أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا مُعْتَزِلًا لَمْ يُصَلِّ في الْقَوْمِ؟ فقالَ: يَا فُلَانُ، مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ في الْقَوْمِ؟ فقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ وَلَا مَاءَ. فقالَ: ((عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ، فإِنَّهُ يَكْفيكَ)).

فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: التَّيَمُّمُ يَنُوبُ عن الغُسْلِ في التطهيرِ من الجنابةِ.
الثَّانِيَةُ: لا يُبَاحُ التَّيَمُّمُ إلَّا لعادِمِ الماءِ أو المُتَضَرِّرِ باسْتِعْمَالِهِ.

الْحَدِيثُ السابعُ والثلاثونَ
عنْ عَمَّارِ بنِ ياسرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهُمَا قالَ: بَعَثنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حاجَةٍ. فَأَجْنَبْتُ. فَلَمْ أَجِد المَاءَ، فَتَمَرَّغْتُ في الصَّعِيدِ كَمَا تَتَمَرَّغُ الدَّابَّةُ، ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ. فقالَ: ((إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا)) ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الأَرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ، وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ.

فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: صِفَةُ التَّيَمُّمِ، وهوَ ضربُ الأرضِ مرَّةً واحدةً باليدَيْنِ، ثمَّ مَسْحُ الوَجْهِ بهما وَمَسْحُ بعضِهَا ببعضٍ.
الثَّانِيَةُ: أنَّ التَّيَمُّمَ للحَدَثِ الأكبرِ كالتَّيَمُّمِ للحدثِ الأصغرِ في الصفةِ والأحكامِ.

الْحَدِيثُ الثامنُ والثلاثونَ
عنْ جابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ: أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((أُعْطِيتُ خَمْسًا، لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِن الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ ليَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا. فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أَمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي الغَنَائِمُ. وَلَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي. وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ، وَبُعِثْتُ إلى النَّاسِ عَامَّةً)).

فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: فَضْلُ نَبِيِّنَا على سائرِ الأنبياءِ، وفَضْلُ أُمَّتِهِ على سائرِ الأُمَمِ.
الثَّانِيَةُ: تَعْدِيدُ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى على عبادِهِ منْ أجلِ العِبَادَاتِ.
الثَّالِثَةُ: كَوْنُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُعْطِيَ هذهِ المَكَارِمَ والخصائصَ.
الرَّابِعَةُ: أَنَّ صِحَّةَ الصلاةِ والتَّيَمُّمِ لا يَخْتَصُّ بِبُقْعَةٍ دونَ أُخْرَى.
الْخَامِسَةُ: أنَّ الأصلَ في الأرضِ الطهارةُ للصلاةِ والتَّيَمُّمِ.

  #5  
قديم 10 ذو القعدة 1429هـ/8-11-2008م, 06:36 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي تيسير العلام للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن البسام

بابُ التيمُّمِ

التيمُّمُ في اللُّغةِ: القَصْدُ، قالَ تعالَى: ( وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ).
ثمَّ نُقِلَ في عُرفِ الفقهاءِ إلى مسحِ الوجهِ واليديْنِ، بشيءٍ من الصعيدِ؛ لأنَّ الماسِحَ قصَدَ إلى الصعيدِ. وقد عرَّفَهُ بعضُ العلماءِ بقولِهِ: طهارةٌ تُرابيَّةٌ، تشتملُ على مسحِ الوجهِ واليديْنِ عندَ عدمِ الماءِ، أو عدمِ القدرةِ على استعمالِهِ.
وهوَ من خصائصِ هذه الأمَّةِ المحمَّديَّةِ، التي يسَّرَ اللَّهُ أمورَها، وسهَّلَ عليها شريعتَها، وجعلَ لها من الحَرَجِ فرَجاً، ومن الضيقِ مخرجاً، وطهَّرَ باطِنَها وظاهِرَها، ببركةِ هذا النبيِّ الكريمِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنَّ مَن عَدِمَ الماءَ ـ الذي هو أحدُ أصْلَى الحياةِ ـ تعوَّضَ عنْهُ بالأصلِ الثاني الذي هو الترابُ؛ لئِلاَّ يَفْقِدَ الطهارةَ إطلاقاً، فإنَّ طهارةَ الماءِ تُطَهِّرُ الظاهرَ والباطنَ.
فإذا عُدِمتْ هذه الأداةُ الكاملةُ، رجَعْنا إلى صورةِ الطهارةِ بأداةِ الترابِ، لتحصلَ الطهارةُ الباطنةُ، فلا شكَّ في حكمتِهِ، ولا ريبَ في فائدتِهِ، لمَن رُزِقَ السعادةَ في الفَهْمِ.
وهو ثابتٌ في الكتابِ العزيزِ، والسُّنَّةِ المطهَّرَةِ، وإجماعِ الأمَّةِ المُحمَّديَّةِ المهديَّةِ، ويقتضيه القياسُ الصحيحُ.
الحديثُ السادسُ والثلاثونَ
عن عمرانَ بنِ حُصينٍ رضيَ اللَّهُ عنهُ، أنَّ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلاً مُعتزلاً لَمْ يُصَلِّ في الْقَوْمِ؟ فقالَ: يَا فُلاَنُ، مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ في الْقَوْمِ؟ فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ، أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ، وَلاَ ماءَ. فقالَ: ( عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ، فإِنَّهُ يَكْفيكَ ) .رواهُ البخاريُّ.
(36) غريبُ الحديثِ:
مُعْتَزِلاً: مُنفرِداً عن القومِ، مُتَنَحِّياً عنهم، وهو خلاَّدُ بنُ رافعٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ، وكان مِمَّنْ شَهِد بدراً.
الصَّعيدُ: وجهُ الأرضِ وما علا منهَا.
المعنَى الإجماليُّ:
صلَّّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصَّحابةِ صلاةَ الصُّبحِ، فلما فَرغَ من صلاتِهِ رأَى رجُلاً لم يُصلِّ معهم. فكان من كمالِ لُطفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحُسنِ دَعوتِهِ إلَى اللَّهِ، أنَّهُ لم يُعنِّفْهُ علَى تَخلُّفِهِ عن الجماعةِ، حتَّى يعلمَ السَّببَ في ذلك. فقالَ: يا فلانُ، ما مَنعكَ أنْ تُصلِّيَ مع القوْمِ؟
فشرحَ عُذرَهُ في ظَنِّهِ للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنَّهُ قد أصابَتْهُ جنابةٌ، ولا ماءَ عندَهُ، فأخَّرَ الصلاةَ حتَّى يَجدَ الماءَ ويتطَهَّرَ. فقالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِوَسَلَّمَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ لَكَ مِن لُطْفِهِ ما يَقُومُ مقامَ الماءِ في التطَهُّرِ، وهو الصَّعيدُ، فَعليك بهِ. فإنَّهُ يكفيكَ عن الماءِ.
ما يُؤخذُ من الحديثِ:
1ـ التَّيمُّمُ ينوبُ مَنابَ الغُسلِ في التَّطهُّرِ من الجنابةِ.
2ـ أنَّ التَّيمُّمَ لا يكونُ إلا لعادمِ الماءِ أو المُتضرِّرِ باستعمَالِهِ، وقد بَسَطَ الرَّجلُ عُذرَهُ وهو عدمُ الماءِ، فأقرَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علَى ذلك.
3ـ لا يَنبغِي لِمَن رَأَى مُقصِّراً في عملٍ، أنْ يُبادِرَهُ بالتَّعنيفِ أو اللَّومِ، حتَّى يَستوضِحَ عن السببِ في ذلك. فَلعلَّ لهُ عُذراً، وأنتَ تلومُ.
4ـ جوازُ الاجتهادِ في مسائلِ العلمِ بحضرةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد ظَنَّ الصَّحابيُّ أنَّ مَن أصابَتْهُ الجنابةُ لا يُصلِّي حتَّى يَجدَ الماءَ، وانصرفَ ذِهنُهُ إلَى أنَّ آيةَ التيمُّمِ خاصَّةٌ بالحدثِ الأصغرِ.

الحديثُ السابعُ والثلاثونَ
عن عَمَّارِ بنِ ياسرٍ رضيَ اللَّهُ عنهُما قالَ: بَعَثنِي رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حاجَةٍ، فأجْنَبْتُ، فَلَمْ أَجِدِ المَاءَ، فَتَمَرَّغْتُ في الصَّعِيدِ كما تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ، ثمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ. فقالَ: ( إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أنْ تقولَ بِيدَيْكَ هكذا ). ثم ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الأَرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، ثمَّ مَسَحَ الشِّمالَ عَلَى الْيَمِينِ، وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ.
(37) غريبُ الحديثِ:
فتمَرَّغْتُ في الصَّعيدِ: تَقَلَّبَ في الأرضِ حتَّى عَمَّ بَدنَهُ التُّرابُ.
أنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ: يُرادُ بالقولِ الفِعلُ، وهو كثيرٌ في لسانِ الشرعِ ولُغةِ العربِ.
المعنَى الإجماليُّ:
بعثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمارَ بنَ ياسرٍ في سفرِ لبعضِ حاجاتِهِ، فأصابَتْهُ جنابةٌ، فلم يجدِ الماءَ ليغْتسلَ منهُ، وكان لا يعلمُ حُكمَ التيمُّمِ للجنابةِ، وإنَّما يعلمُ حُكْمَهُ للحدثِ الأصغرِ. فاجتَهدَ وظَنَّ أنَّهُ كما مسحَ بالصَّعيدِ بعضَ أعضاءِ الوضوءِ عن الحدثِ الأصغرِ، فلا بُدَّ أنْ يكونَ التَّيمُّمُ من الجنابةِ بتعميمِ البدنِ بالصَّعيدِ، قِياساً علَى الماءِ، فَتقلَّبَ في الصَّعيدِ حتَّى عَمَّهُ التُّرابُ وصلَّى.
فلما جاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان في نفسِهِ مما عَلِمهُ شيءٌ؛ لأنَّهُ عن اجتهادٍ منهُ، ذكَرَ لهُ ذلك- لِيرَى: هلْ هو علَى صوابٍ أو لا؟
فقالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( يَكْفِيكَ عنْ تَعمِيمِ بَدَنِكَ كُلِّهِ بِالتُّرَابِ أنْ تَضْرِبَ بِيَدَيْكَ الأرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ تَمْسَحَ شِمَالَكَ عَلَى يَمِينِكِ، وظَاهَرَ كَفَّيْكَ وَوَجْهَكَ ).
اختلافُ العلماءِ:
اختلافُ العلماءِ: هلْ يُجزئُ في التَّيمُّمِ ضَربةٌ واحدةٌ للوجْهِ والكَفَّينِ أو لا بُدَّ مِن ضَربتيْنِ؟ وهل لا بُدَّ من المسحِ علَى اليدينِ إلَى المِرفقينِ؟.
فذهبَ بعضُهم ـ ومنهم الشَّافعيُّ ـ إلَى أنَّهُ لا بُدَّ مِن ضَربتينِ؛ واحدةٌ للوجْهِ والأخرَى لليدينِ إلَى المِرفقينِ؛ مُحتجِّين بأحاديثَ. منهَا: ما رواهُ الدَّارقُطنِيُّ عن ابنِ عُمرَ:( التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ).
وذهبَ الجمهورُ، ومنهم الإمامُ أحمدُ، والأوزاعيُّ، وإسحاقُ، وأهلُ الحديثِ: إلَى أنَّ التيمُّمَ ضربةٌ واحدةٌ، وأنَّهُ لا يُمْسَحُ إلا الوجْهُ والكَفَّانِ مُستدلِّينَ بأحاديثَ صحيحةٍ، منهَا حديثُ عَمَّارٍ هذا. قالَ ابنُ حجرٍ: وكان عَمَّارٌ يُفتي بهِ بعدَ زمنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والرَّاوي للحديثِ أعْرفُ بُمرادِهِ.
وأجابُوا عن أحاديثِ الضَّرْبتينِ والمِرفقينِ، بما فيهَا من المقالِ المشهورِ.
ولا تُجعلُ تلك الأحاديثُ في صَفِّ الأحاديثِ الصِّحاحِ الواضحةِ. قالَ ابنُ عبدِ البرِّ: أكثرُ الآثارِ المرفوعةِ عن عَمَّارٍِ ضربةٌ واحدةٌ، وما رُوِيَ من ضرْبتَينِ فكلُّهَا مُضطربةٌ. وقالَ ابنُ دقيقِ العيدِ: وَردَ في حديثِ: ’’التَّيمُّمُ ضَربتانِ: ضربةٌ للوجْهِ، وضربةٌ لليديْنِ‘‘. إلا أنَّهُ لا يُقاوِمُ هذا الحديثَ في الصحَّةِ، ولا يُعارَضُ مِثلُهُ بمثْلِهِ.
وقالَ الخطَّابِيُّ: ذهبَ جماعةٌ من أهلِ العلمِ إلَى أنَّ التيمُّمَ ضربةٌ واحدةٌ للوجْهِ والكَفَّينِ، وهذا المذْهَبُ أصحُّ في الرِّوَايَةِ.
ما يُؤخذُ من الحديثِ:
1ـ التيمُّمُ للغُسلِ مِنِ الجنابةِ.
2ـ أنَّهُ لا بُدَّ من طلبِ الماءِ قبلَ التيمُّمِ.
3ـ صفةُ التَّيمُّمِ، وهو ضربُ الأرضِ مرَّةً واحدةً، ثم مَسحُ الوجْهِ واليديْنِ إلَى المِرفقينِ وتَعميمُهَا بالمسحِ. قالَ ابنُ رُشدٍ: إطلاقُ اسمِ اليدِ علَى الكَفِّ أظهرُ من إطلاقِهِ علَى الكفِّ والسَّاعدِ.
4ـ ذَكرَ الصَّنعانِيُّ أنَّ العطفَ في رواياتِ هذا الحديثِ قد جاءَ بالواوِ وتفيدُ العطفَ المُطلقَ وجاءَ بالفاءِ وثم وتَفيدانِ التَّرتيبَ، والترتيبُ زيادةٌ، والزيادةُ مِن العدلِ مقبولةٌ فيُحملُ مَجموعُ ما في الصَّحيحينِ علَى التَّرتيبِ. ولم يَرِدْ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقديمُ اليديْنِ علَى الوجْهِ، لا قولاً ولا فِعلاً.
5ـ أنَّ التيمُّمَ للحدثِ الأكبرِ، كالتيمُّمِ للحدثِ الأصغرِ، في الصِّفةِ والأحكامِ.
6ـ الاجتهادُ في مسائلِ العباداتِ.
7ـ أنَّ المُجتهدَ إذا أدَّاهُ اجتهادُهُ إلَى غيرِ الصَّوابِ، وفِعَل العِبادةَ، ثم تَبيَّنَ لهِ الصوابُ بعدَ ذلكَ، فإنَّهُ لا يُعيدُ تلك العِبادةَ.

الحديثُ الثامنُ والثلاثونَ
عن جابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ رضيَ اللَّهُ عنهُما: أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ( أُعْطِيتُ خَمْساً، لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ. ليَ الأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أَُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الغنَائِمُ، وَلَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إلى النَّاسِ كافَّةً ).
(38) غريبُ الحديثِ:
ـ لم تَحِلَّ ـ يجوزُ ضَمُّ التاءِ وفتحُ الحاءِ، علَى البناءِ للمفعولِ، ويجوزُ فتحُ التاءِ وكسرُ الحاءِ علَى البناءِ للْفَاعِلِ، وهو أكثرُ، قالهُ الشَّيخُ نورُ الدِّينِ الهاشِمِيُّ.
المعنَى الإجماليُّ:
خُصَّ نَبيُّنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن سائرِ الأنبياءِ بخِصالِ شرفٍ، ومُيِّزَ بِمَحامدَ لم تكن لمَن قَبلَهُ من الأنبياءِ، عليهم السلامُ، فنالَ هذهِ الأُمَّةَ المُحمَّدِيَّةَ ـ ببركةِ هذا النَّبِيِّ الكريمِ الميمونِ ـ شيءٌ من هذِهِ الفضائلِ والمَكارمِ. فمِن ذلك: ما ثَبَت في هذا الحديثِ من هذِهِ الخصالِ الخمسِ الكريمةِ، اللائي أُولاهن:
أنَّ اللَّهَ سبحانهُ وتعالَى نصَرهُ، وأيَّدهُ علَى أعدائِهِ بالرُّعبِ، الذي يَحُلُّ بأعدائِهِ، فيُوهِنُ قُوَاهم، ويُضَعْضِعُ كَيانَهم، ويُفرِّقُ صُفوفَهم، ويَفُلَّ جَمعَهم، ولو كانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علَى مَسيرةِ شهرٍ منهم، تَأييداً مِن اللَّهِ ونَصراً لنَبيِّهِ وخُذْلاناً وهَزيمةً لأعداءِ دِينهِ، ولا شكَّ أنَّهَا إعانةٌ كبيرةٌ من اللَّهِ تعالَى.
ثانيهَا ـ أنَّ اللَّهَ سبحانَهُ وتعالَى وَسَّعَ علَى هذا النَّبِيِّ الكريمِ، وأُمَّتِهِ المرحومةِ بأنْ جعلَ لهم الأرضَ مَسجداً. فأينما تُدركُهم الصلاةُ فَلْيُصَلُّوا، فلا تَتقَيَّدُ بأمكنةٍ مخصوصةٍ، كما كانَ مَن قَبلَهم لا يُؤدُّون عِباداتِهم إلا في الكنائسِ، أو البِيعِ، وهكذا فإنَّ اللَّهَ رفعَ الحرجَ والضِّيقَ عن هذِهِ الأُمَّةِ، فضلاً منهُ وإحساناً، وكَرماً وامْتناناً.
وكذلك كانَ مَن قبلَ هذهِ الأُمَّةِ، لا يُطَهِّرُهم إلا الماءُ، وهذهِ الأُمَّةُ جُعِلَ التُّرابُ لمن لم يجدِ الماءَ طَهوراً. ومِثلُهُ العاجزُ عن استعمالِهِ لضَررِهِ.
ثالثُهَا: أنَّ الغنائمَ التي تؤخذُ من الكفَّارِ والمُقاتِلينَ حلالٌ لهذا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأُمَّتِهِ، يَقْتَسِمونهَا علَى ما بيَّن اللَّهُ تعالَى، بعدَ أنْ كانت مُحرَّمَةً علَى الأنبياءِ السَّابقينِ وأُممِهم، حيث كانوا يجمَعونهَا، فإنْ قُبِلت نَزلتْ عليهَا نارٌ من السَّماءِ فأحرَقَتهَا.
رابعُهَا: أنَّ اللَّهَ سبحانهُ وتعالَى، خَصَّهُ بالمقامِ المحمودِ، والشَّفاعةِ العُظمَى، يومَ يَتأخَّرُ عنهَا أُولو العزمِ مِن الرُّسلِ في عَرَصاتِ القيامةِ، فيقولُ: أنا لهَا. ويسجدُ تحتَ العرشِ، ويُمجِّدُ اللَّهَ سبحانَهُ وتعالَى، بِما هو أهلُهُ، فَيُقالُ: اشْفَعْ تُشَفَّعْ وَسَلْ تُعْطَهْ.
حينئذٍ يَسألُ اللَّهَ الشَّفاعةَ للخَلائقِ بالفَصْلِ بينهم في هذا المقامِ الطَّويلِ.
فهذا هو المقامُ المحمودُ الذي يَغْبطُهُ عليهِ الأوَّلونَ والآخِرون.
خامسُهَا: أنَّ كلَّ نَبيٍّ من الأنبياءِ السَّابقينَ تَختَصُّ دعوتُهم بقومِهم.
وقدَ جعلَ اللَّهُ تعالَى في هذا النَّبِيِّ العظيمِ، وفي رِسالتِهِ السَّاميةِ الصَلاحيةَ والشُّمولَ، لأنْ تكونَ الدُّستورَ الخالدَ، والقانونَ الباقيَ لجميعِ البشرِ، علَى اختلافِ أجناسِهم، وتَبايُنِ أصنافِهم، وتباعُدِ أقطارِهم، فهي الشَّريعةُ الصَّالحةُ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، ولمَّا كانت بهذهِ الصَّلاحيةِ والسموِّ، كانت هي الأخيرةَ؛ لأنَّهَا لا تحتاجُ إلَى زيادةٍ ولا فيهَا نقصٌ. وجُعِلت شاملةً، لِما فيهَا من عناصرِ البقاءِ والخلودِ.
ما يُؤخذُ من الحديثِ:
هذا حديثٌ عظيمٌ، وفيهِ فوائدُ جَمَّةٌ، ونَقتصرُ علَى البارزةِ منهَا:
1ـ تفضيلُ نَبيِّنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علَى سائرِ الأنبياءِ، وتفضيلُ أُمَّتِهِ علَى سائرِ الأممِ.
2ـ تعديدُ نِعمِ اللَّهِ علَى العبدِ، وأَنَّ ذِكْرَهَا - علَى وجْهِ الشُّكرِ لِلَّهِ، وذِكْرِ آلائِهِ - يُعدُّ عِبادةً، وشُكْراً لِلَّهِ.
3ـ كونُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُصِر بالرُّعبِ، وأُحِلَّتْ لهُ الغنائمُ، وبُعثَ إلَى الناسِ عامَّةً، وأُعطيَ الشفاعةَ، وجُعلتِ الأرضُ لهُ ولأمَّتِهِ مَسجداً وطَهوراً، كلُّ هذا من خصائصِهِ. وقد عُدَّت خصائِصُهُ فكانت سبعَ عشرةَ خَصلةً، وهي عندَ الصَّنْعانِيِّ إحدَى وعِشرونَ، وَمَن تَتبَّعَ الجامِعَيْنِ الصغيرَ والكبيرَ وَجدَ زيادةً علَى هذا العددِ.
4ـ أنَّ صحَّةَ الصلاةِ لا تَختصُّ ببقعةٍ دونَ أخرَى.
5ـ أنَّ الأصلَ في الأرضِ الطَّهارةُ للصلاةِ والتيمُّمِ.
6ـ أنَّ كلَّ أرضٍ صالحةٌ لِيتيمَّمَ منهَا.
7ـ سَعةُ هذهِ الشريعةِ وعَظمتُهَا، لذا جُعِلَت لتنظيمِ العالَمِ كلِّهِ في عِباداتِهِ ومعاملاتِهِ، علَى اختلافِ أمصارِهِ، وتَباعدِ أقطارِهِ.
8ـ قولُهُ: ( أيُّما رَجُلٍ ) لا يُرادُ بهِ جِنسُ الرجالِ وحدَهُ، وإنَّما يُرادُ أمثالُهُ من النساءِ أيضاً؛ لأنَّ النساءَ شَقائقُ الرجالِ.
9ـ قالَ الصَّنعانِيُّ: إنَّما خَصَّ مسافةَ الشهرِ، دونَ مسافةٍ أبعدَ منِهُ؛ لأنَّهُ لم يكنْ بَينَهُ وبينَ مَن أظهرَ العداوةَ لهُ أكثرُ من ذلك.


  #6  
قديم 10 ذو القعدة 1429هـ/8-11-2008م, 06:37 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي إحكام الأحكام لتقي الدين ابن دقيق العيد

بَابُ التَّيَمُّمِ

37 - الحَدِيثُ الأَوَّلُ:
عَن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلاً مُعْتَزِلاً لَمْ يُصَلِّ مَعَ القَوْمِ، فَقَالَ: ((يَا فُلانُ، مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ فِي القَوْمِ؟))، قَالَ: يَا رَسُولَ اللًَّهِ، أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ، وَلاَ مَاءَ، قَالَ: ((عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ، فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ)).
((عِمْرَانُ بنُ حُصَيْنِ)) بنِ عُبَيْدٍ، خُزَاعِيٌّ، أبُو نُجَيْدٍ - بِضَمِّ النُّونِ، وَفَتْحِ الجِيمِ، بَعْدَهَا يَاءٌ - مِن فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ وَفُضَلاَئِهِمْ، صَحَّ أَنَّ المَلاَئِكةَ كَانَتْ تُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: كَانَ يَرَاهُمْ، مَاتَ سَنَةَ اثْنَتَينِ وَخَمْسِينَ فِي خِلاَفَةِ مُعَاوِيَةَ.
وَالكَلاَمُ عَلَى هَذَا الحَدِيثِ مِن وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: ((المُعْتَزِلُ)) المُنْفَرِدُ عَن القَوْمِ، المُتَنَحِّي عَنْهُمْ، يُقَالُ: اعْتَزَلَ، وَانْعَزَلَ، وَتَعَزَّلَ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَاعْتِزَالُهُ عَن القَوْمِ اسْتِعْمَالٌ لِلأََدَبِ، وَالسُّنَّةِ فِي تَرْكِ جُلُوسِ الإِنْسَانِ عِنْدَ المُصَلِّينَ إِذَا لَمْ يُصَلِّ مَعَهُمْ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَن رَآهُ جَالِساً فِي المَسْجِدِ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ: ((مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ فِي القَوْمِ؟)) - وَقَد رُوِيَ: مَعَ النَّاسِ - ألَسْتَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ؟ وَهَذَا إِنْكَارٌ لِهَذِهِ الصُّورَةِ.
الثَّانِي: قَولُهُ: ((مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ فِي القَوْمِ؟)) وَقَدْ رُوِيَ: ((مَعَ القَوْمِ)) وَالمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، وَإِن اخْتَلَفَ أَصْلُ اللَّفْظَيْنِ، فَإِنَّ ((فِي)) لِلظَّرْفِيَّةِ، فَكَأَنَّهُ جَعَلَ اجْتِمَاعَ القَومِ ظَرْفاً خَرَجَ مِنْهُ هَذَا الرَّجُلُ، وَ((مَعَ)) لِلمُصَاحَبَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَصْحَبَهُمْ فِي فِعْلِهِمْ؟
الثَّالِثُ: قَولُهُ: ((أََصَابَتْنِي جَنَابَةٌ، وَلاَ مَاءَ)) يَحْتَمِلُ مِن حَيْثُ اللَّفْظُ وَجْهَينِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لاَ يَكُونَ عَالِماً بِمَشْرُوعِيَّةِ التَّيَمُّمِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ اعْتَقَدَ أَنَّ الجُنُبَ لاَ يَتَيَمَّمُ، وَهَذَا أَرْجَحُ مِن الأَوَّلِ، فَإِنَّ مَشْرُوعِيَّةَ التَّيَمُّمِ كَانَتْ سَابِقَةً عَلَى زَمَنِ إِسْلاَم عِمْرَانَ، رَاوِي الحَدِيثِ، فَإِنَّهُ أَسْلَمَ عَامَ خَيْبَرَ، وَمَشْرُوعِيَّةُ التَّيَمُّمِ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، فِي غَزْوَةِ المُرَيْسِيعِ، وَهِىَ وَاقِعَةٌ مَشْهُورَةٌ، وَالظَّاهِرُ عِلْمُ الرَّجُلِ بِهَا لِشُهْرَتِهَا، فَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى كَوْنِ الرَّجُلِ اعْتَقَدَ أَنَّ الجُنُبَ لاَ يَتَيَمَّمُ - كَمَا ذُكِرَ عَن عُمَرَ وَابنِ مَسْعُودٍ - كَانَ ذَلِكَ دَلِيلاً عَلَى أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ، وَمَن شَكَّ فِي تَيَمُّمِ الجُنُبِ حَمَلُوا المُلاَمَسَةَ المَذْكُورَةَ فِي الآيَةِ - أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: (أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ) [المَائِدَة: 6] - عَلَى غَيْرِ الجِمَاعِ؛ لأَنَّهُمْ لَو حَمَلُوهَا عَلَيْهِ لَكَانَ تَيَمُّمُ الجُنُبِ مَأْخُوذاً مِن الآيَةِ، فَلَمْ يَقَعْ لَهُمْ شَكٌّ فِي تَيَمُّمِ الجُنُبِ، وَهَذَا الظُّهُورُ الَّذِي ادُّعِيَ إنْ لَمْ يَكُنْ إِسْلاَمُ هَذَا الرَّجُلِ وَاقِعاً عِنْدَ نُزُولِ الآيَةِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِي مُدَّةٍ تَقْتَضِي العَادَةُ بُلُوغَهَا إِلَى عِلْمِهِ.
الرَّابِعُ: قَولُهُ: ((وَلاَ مَاءَ)) أَيْ مَوْجُودٌ، أَوْ عِنْدِي، أَوْ أَجِدُهُ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَفِي حَذْفِهِ بَسْطٌ لِعُذْرِهِ، لِمَا فِيهِ مِن عُمُومِ النَّفْيِ، كَأَنَّهُ نَفَى وُجُودَ المَاءِ بِالكُلِّيَّةِ بِحَيْثُ لَو وُجِدَ بِسَبَبٍ أَوْ سَعْيٍ، أَو غَيْرِ ذَلِكَ لَحَصَّلَهُ، فَإِذَا نَفَى وُجُودَهُ مُطْلَقاً، كَانَ أَبْلَغَ فِي النَّفْيِ، وَأَعْذَرَ لَهُ. وَقَد أَنْكَرَ بَعْضُ المُتَكَلِّمِينَ عَلَى النُّحَاةِ تَقْدِيرَهُمْ فِي قَولِنَا: ((لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ)) لاَ إِلَهَ لَنَا، أَوْ فِي الوُجُودِ، وَقَالَ: إنَّ نَفْيَ الحَقِيقَةِِ مُطْلَقَةً أَعَمُّ مِن نَفْيِهَا مُقَيَّدَةً، فَإِنَّهَا إِذَا نُفِيَتْ مُقيَّدَةً، دَلَّتْ عَلَى سَلْبِ المَاهِيَةِ مَعَ القَيْدِ، وَإِذَا نُفِيَتْ غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ كَانَ نَفْياً لِلحَقِيقَةِ، وَإِذَا انْتَفَتِ الحَقِيقَةُ انْتَفَتْ مَعَ كُلِّ قَيْدٍ، أَمَّا إِذَا نُفِيتْ مُقَيَّدَةً بِقَيْدٍ مَخْصُوصٍ، لَمْ يَلْزَمْ نَفْيُهَا مَعَ قَيْدٍ آخَرَ، هَذَا أَو مَعْنَاهُ.
الخَامِسُ: الحَدِيثُ دَلَّ بِصَرِيحِهِ عَلَى أَنَّ لِلجُنُبِ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ الفُقَهَاءُ، إِلاَّ أَنَّه رُوِيَ عَن عُمَرَ، وَابنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُمَا مَنعَا تَيَمُّمَ الجُنُبِ، وَقِيلَ: إِنَّ بَعْضَ التَّابِعِينَ وَافَقَهُمَا، وَقِيلَ: رَجَعَا عَنْ ذَلِكَ. وَكَأَنَّ سَبَبَ التَّرَدُّدِ مَا أََشَرْنَا إِلَيْهِ مِن حَمْلِ المُلاَمَسَةِ عَلَى غَيْرِ الجِمَاعِ، مَعَ عَدَمِ وُجُودِ دَلِيلٍ عِنْدَهُمْ عَلَى جَوَازِهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
38 - الحَدِيثُ الثَّانِي:
عَن عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: بَعَثَنِى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَاجَةٍ، فَأَجْنَبْتُ، فَلَمْ أَجِد الْمَاءَ، فَتَمَرَّغْتُ فِى الصَّعِيدِ كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ، ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: ((إِنَّمَا يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا)) ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الأَرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى اليَمِينِ، وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ.
((عَمَّارُ بنُ يَاسِرِ)) بنِ عَامرِ بنِ مَالِكِ بنِ كِنانَةَ، أَبُو اليَقْظَانِ العَنْسِيُّ - بِنُونٍ بَعْدَ المُهْمَلَةِ - أَحَدُ السَّابِقِينَ مِن المُهَاجِرِينَ، وَمِمَّن عُذِّبَ فِي ذَاتِ اللهِ تَعَالَى، قُتِلَ - بِلاَ خِلاَفٍ - بِصِفِّينَ مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلاَثِينَ.
وَالكَلاَمُ عَلَى هَذَا الحَدِيثِ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: يُقَالُ: ((أَجْنَبَ)) الرَّجُلُ، وَجَنُبَ بِالضَّمِّ، وَجَنَبَ بِالفَتْحِ، وَقَدْ مَرَّ.
الثَّانِي: قَولُهُ: ((فَتَمَرَّغْتُ فِى الصَّعِيدِ كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ)) كَأَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لِقِيَاسٍ لاَبُدَّ فِيهِ مِن تَقَدُّمِ العِلْمِ بِمَشْرُوعِيَّةِ التَّيَمُّمِ، وَكَأَنَّه لَمَّا رَأَى أَنَّ الوُضُوءَ خَاصٌ بِبَعْضِ الأَعْضَاءِ وَكَانَ بَدَلُهُ - وَهُوَ التَّيَمُّمُ - خَاصّاً، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَدَلُ الغُسْلِ الَّذِي يَعُمُّ جَمِيعَ البَدَنِ عَامّاً لِجَمِيعِ البَدَنِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ: فِي هَذَا الحَدِيثِ إبْطَالُ القِيَاسِ؛ لأَنَّ عَمَّاراً قَدَّرَ أَنَّ المَسْكُوتَ عَنْهُ مِن التَّيَمُّمِ لِلجَنَابَةِ حُكْمُهُ حُكْمُ الغُسْلِ لِلجَنَابَةِ، إِذْ هُوَ بَدَلٌ مِنْهُ، فَأَبْطَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّ لِكُلِّ شَيءٍ حُكْمَهُ المَنْصُوصَ عَلَيْهِ فَقَطْ. وَالجَوَابُ عَمَّا قَالَ: أَنَّ الحَدِيثَ دَلَّ عَلَى بُطْلاَنِ هَذَا القِيَاسِ الخَاصِّ، وَلاَ يَلْزَمُ مِن بُطْلاَنِ الخَاصِّ بُطْلاَنُ العَامِّ، وَالقَائِسُونَ لاَ يَعْتَقِدُونَ صِحَّةَ كُلِّ قِيَاسٍ، ثُمَّ فِي هَذَا القِيَاسِ شَيءٌ آخَرُ، وَهُو أنَّ الأَصْلَ - الَّذِي هُوَ الوُضُوءُ - قَدْ أُلْغِىَ فِيهِ مُسَاوَاةُ البَدَلِ لَهُ، فَإِنَّ التَّيَمُّمَ لاَ يَعُمُّ جَمِيعَ أَعْضَاءِ الوُضُوءِ، فَصَارَ مُسَاوَاةُ البَدَلِ لِلأَصْلِ مُلْغًى فِي مَحَلِّ النَّصِّ، وَذَلِكَ لاَ يَقْتَضِي المُسَاوَاةَ فِي الفَرْعِ، بَلْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَدْ يَكُونُ الحَدِيثُ دَلِيلاً عَلَى صِحَّةِ أَصْلِ القِيَاسِ، فَإِنَّ قَولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إنَّمَا كَانَ يَكْفِي كَذَا وَكَذَا)) يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فَعَلَهُ لَكَفَاهُ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ قَولِنَا: لَوْ كَانَ فَعَلَهُ لَكَان مُصِيباً، وَلَوْ كَانَ فَعَلَهُ لَكَانَ قاَئِساً لِلتَّيَمُّمِ لِلجَنَابَةِ عَلَى التَّيَمُّمِ لِلوُضُوءِ، عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ ((اللَّمْسُ )) المَذْكُورُ فِي الآيَةِ لَيسَ هُوَ الجِمَاعَ، لأَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَ عَمَّارٍ هُوَ الجِمَاعَ، لَكَانَ حُكْمُ التَّيَمُّمِ مُبَيَّناً فِي الآيَةِ، فَلَمْ يَكُنْ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَتَمَرَّغَ، فَإِذَنْ فِعْلُهُ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ اعْتِقَادَ كَوْنِهِ لَيسَ عَامِلاً بِالنَّصِّ بَلْ بِالقِيَاسِ، وَحُكْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ كَانَ يَكْفِيهِ التَّيَمُّمُ عَلَى الصُّورَةِ المَذْكُورَةِ، مَعَ مَا بَيَّنَّا مِن كَوْنِهِ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَفَعَلَهُ بِالقِيَاسِ عِنْدَهُ، لاَ بِالنَّصِّ.
الثَّالِثُ: فِي قَوْلِهِ: ((أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا)) اسْتِعْمَالُ القَوْلِ فِي مَعْنَى الفِعْلِ، وَقَدْ قَالُوا: إنَّ العَرَبَ اسْتَعْمَلَت القَولَ فِي كُلِّ فِعْلٍ.
الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: (( ثُمَّ ضَرَبَ الأَرْضَ بِيَدَيْهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً )) دَلِيلٌ لِمَن قَالَ بِالاكْتِفَاءِ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ لِلوَجْهِ وَاليَدَينِ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ حَقِيقَةُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: يُعِيدُ فِي الوَقْتِ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ، وَالإِعَادَةُ فِي الوَقْتِ دَلِيلٌ عَلَى إِجْزَاءِ الفِعْلِ إِذَا وَقَعَ ظَاهِراً، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لاَبُدَّ مِن ضَرْبَتَيْنِ، ضَرْبَةٍ لِلوَجْهِ، وَضَرْبَةٍ لِليَدَيْنِ، لِحَدِيثٍ وَرَدَ فِيهِ: ((التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ، ضَرْبَةٌ لِلوَجْهِ، وَضَرْبَةٌ لِليَدَيْنِ))، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يُقَاوِمُ هَذَا الحَدِيثَ فِي الصِّحَّةِ، وَلاَ يُعَارَضُ مِثْلُهُ بِمِثْلِهِ.
الخَامِسُ: قَوْلُهُ: ((ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى اليَمِينِ، وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ)) قَدَّمَ فِي اللَّفْظِ: ((مَسْحَ اليَدَيْنِ)) عَلَى ((مَسْحِ الوَجْهِ)) لَكِنْ بِحَرْفِ الوَاوِ، وَهِيَ لاَ تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، هَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَفِي غَيْرِهَا: ((ثُمَّ مَسَحَ بِوَجْهِهِ)) بِلَفْظَةِ ((ثُمَّ)) وَهِيَ تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، فَاسْتُدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ تَرْتِيبَ اليَدَيْنِ عَلَى الوَجْهِ فِي الوُضُوءِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، لأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي التَّيَمُّمِ، ثَبَتَ فِي الوُضُوءِ، إِذْ لاَ قَائِلَ بِالفَرْقِ.
السَّادِسُ: قَولُهُ: ((وَظاهِرَ الكَفَّينِ)) يَقْتَضِي الاكْتِفَاءَ بِمَسْحِ الكَفَّينِ فِي التَّيَمُّمِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّيَمُّمَ إِلَى المِرْفَقَينِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي الجُهَيْمِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَيَمَّمَ عَلَى الجِدَارِ، فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ. فَتَنَازَعُوا فِي أَنَّ مُطْلَقَ لَفْظِ ((اليَدِ)) هَلْ يَدُلُّ عَلَى الكَفَّينِ، أَوْ عَلَى الذِّرَاعَينِ، أَوْ عَلَى جُمْلَةِ العُضْوِ إِلَى الإِبْطِ؟ فَادَّعَى قَوْمٌ أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى ((الكَفَّينِ)) عِنْدَ الإِطْلاَقِ، كَمَا فِى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) [المَائِدَة: 38]، وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ أَبِي الجُهَيْمِ ((أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ))، وَالَّذِي فِي الصَّحِيحِ: ((وَيَدَيْهِ)).
39 - الحَدِيثُ الثَّالِثُ:
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، رَضِيَ اللََّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((أُعْطِيتُ خَمْساً لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبِياءِ قَبْلِى: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسَيِرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً، فَأيُّمَا رَجُلٍ مِن أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِيَ المَغَانِمُ وَلَمْ تُحَلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً)).
((جَابِرٌ)) هُوَ ابنُ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ - بِفَتْحِ الحَاءِ المُهْمَلَةِ وَبَعْدَهَا رَاءٌ مُهْمَلَةٌ - الأَنْصَارِيُّ السَّلَمِيُّ - بِفَتْحِ السِّينِ وَاللاَّمِ - مَنْسُوبٌ إِلَى بَنِي سَلِمَةَ - بِكَسْرِ اللاَّمِ - يُكْنَى أَبَا عَبْدِ اللهِ، تُوُفِّيَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ مِن الهِجْرَةِ، وَهُوَ ابنُ إِحْدَىَ وَتِسْعِينَ، وَالكَلاَمُ عَلَى حَدِيثِهِ مِنْ وُجُوهٍ:
الأَوَّلُ: قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أُعْطِيتُ خَمْساً))، تَعْدِيدٌ لِلفَضَائِلِ الَّتِي خُصَّ بِهَا، دُونَ سَائِرِ الأَنْبِيَاءِ، عَلَيْهِم السَّلاَمُ، وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِن هَذِهِ الخَمْسِ لَمْ تَكُنْ لأَحَدٍ قَبْلَهُ، وَلاَ يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا بِأَنَّ نُوحاً، عَلَيْهِ السَّلاَمُ - بَعْدَ خُرُوجِهِ مِن الفُلْكِ - كَانَ مَبْعُوثاً إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ، لأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ إِلاَّ مَن كَانَ مُؤمِناً مَعَهُ، وَقَدْ كَانَ مُرْسَلاً إِلَيْهِمْ، لأَنَّ هَذَا العُمُومَ فِي الرِّسَالَةِ لَمْ يَكُنْ فِي أَصْلِ البِعْثَةِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ لأَجْلِ الحَادِثِ الَّذِي حَدَثَ، وَهُوَ انْحِصَارُ النَّاسِ فِي المَوجُودِينَ، لِهَلاَكِ سَائِرِ النَّاسِ، وَأَمَّا نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعُمُومُ رِسَالَتِهِ فِي أَصْلِ بِعْثَتِهِ.
وَأَيضاً فَعُمُومُ الرِّسَالَةِ يُوجِبُ قَبُولَهَا عُمُوماً فِي الأَصْلِ وَالفُرُوعِ، وَأَمَّا التَّوحِيدُ، وَتَمْحِيصُ العِبَادَةِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَامّاً فِي حَقِّ بَعْضِِ الأَنْبِيَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْتِزَامُ فُرُوعِ شَرْعِهِ لَيْسَ عَامَّاً، [فَإِنَّ مِن الأَنْبِيَاءِ المُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ مَن قَاتَلَ غَيْرَ قَوْمِهِ عَلَى الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى، فَلَوْ لَمْ يَكُن التَّوحِيدُ لاَزِماً لَهُمْ بِشَرْعِهِ، أَو شَرْعِ غَيْرِهِ، لَمْ يُقَاتَلُوا، وَلَمْ يُقْتَلُوا، إِلاَّ عَلَى طَرِيقَةِ المُعْتَزِلَةِ القَائِلِينَ بِالحُسْنِ وَالقُبْحِ العَقْلَيَّينِ]، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَةُ عَلَى التَّوْحِيدِ عَامَّةً، لَكِنْ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَاءَ مُتَعَدِّدَةٍ، فَثَبَتَ التَّكْلِيفُ بِهِ لِسَائِرِ الخَلْقِ، وَإِنْ لَمْ تَعُمَّ الدَّعْوَةُ بِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى نَبِيٍّ وَاحِدٍ.
الثَّانِي: قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: ((نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ)) الرُّعْبُ هُوَ الوَجَلُ وَالخَوْفُ لِتَوَقُّعِ نُزُولِ مَحْظُورٍ، وَالخُصُوصِيَّةُ الَّتِي يَقْتَضِيهَا لَفْظُ الحَدِيثِ مُقَيَّدَةٌ بِهَذَا القَدْرِ مِن الزَّمَانِ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لاَ يُنْفَى وُجُودُ الرُّعْبِ مِن غَيْرِهِ فِي أَقَلَّ مِن هَذِهِ المَسَافَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ لِغَيْرِهِ فِي أَكْثَرَ مِنْهَا، فَإِنَّهُ مَذْكُورٌ فِي سِيَاقِ الفَضَائِلِ وَالخَصَائِصِ، وَيُنَاسِبُهُ أَنْ تُذْكَرَ الغَايَةُ فِيهِ. وَأَيْضاً فَإِنَّهُ لَو وُجِدَ لِغَيْرِهِ فِي أَكْثَرِ مِن هَذِهِ المَسَافَةِ لَحَصَلَ الاِشْتِرَاكُ فِي الرُّعْبِ فِي هَذَهِ المَسَافَةِ، وَذَلِكَ يَنْفِي الخُصُوصِيَّةَ بِهَا.
الثَّالِثُ: قَولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِداً)) المَسْجِدُ مَوضِِعُ السُّجُودِ فِي الأَصْلِ، ثُمُّ يُطْلَقُ فِي العُرْفِ عَلَى المَكَانِ المَبْنِيِّ لِلصَّلاَةِ الَّتِي السُّجُودُ مِنْهَا، وَعَلَى هَذَا فَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ ((المَسْجِدُ)) هَهُنَا عَلَى الوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، أَيْ جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِداً، أَعْنِي مَوضِعَ السُّجُودِ، أَي لاَ يَخْتَصُّ السُّجُودُ مِنْهَا بِمَوضِعٍ دُونَ غَيْرِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ مَجَازاً عَن المَكَانِ المَبْنِيِّ لِلصَّلاَةِ، لأَنَّهُ لَمَّا جَازَت الصَّلاَةُ جَمِيعُهَا كَانَتْ كَالمَسْجِدِ فِي ذَلِكَ، فَإِطْلاَقُ اسْمِهِ عَلَيْهَا مِنْ مَجَازِ التَّشْْبِيهِ، وَالَّذِي يُقَرِّبُ هَذَا التَّأْوِيلَ، أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إنَّمَا أُرِيدَ أَنَّهَا مَواضِعُ لِلصَّلاَةِ بِجُمْلَتِهَا، لاَ لِلسُّجُودِ فَقَطْ مِنْهَا، لأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ الأُمَمَ المَاضِيَةَ كَانَتَ تَخُصُّ السُّجُودَ وَحْدَهُ بِمَوضِعٍ دُونَ مَوضِعٍ.
الرَّابِعُ: قَولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((طَهُوراً)) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الطَّهُورَ هُوَ المُطَهِّرُ لِغَيْرِهِ، وَوَجْهُ الدَّلِيلِ أَنَّهُ ذَكَرَ خُصُوصِيَّتَهُ بِكَوْنِهَا طَهُوراً، أَيْ مُطَهِّراً، وَلَوْ كَانَ ((الطَّهُورُ)) هُوَ الطَّاهِرُ لَمْ تَثْبُت الخُصُوصِيَّةُ، فَإِنَّ طَهَارَةَ الأَرْضِ عَامَّةٌ فِي حَقِّ كُلِّ الأُمَمِ.
الأَمْرُ الثَّانِي: اسْتَدَلَّ بِهِ مَن جَوَّزَ التَّيَمُّمَ بِجَمِيعِ أَجْزَاءِ الأَرْضِ، لِعُمُومِ قَولِهِ: ((جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً)) وَالَّذِينِ خَصُّوا التَّيَمُّمَ بِالتُّرَابِ اسْتَدَلُّوا بِمَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ الآخَرِ: ((وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُوراً)) وَهَذَا خَاصٌّ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ العَامُّ، وَتَخْتَصُّ الطَّهُورِيَّةُ بِالتُّرَابِ.
وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا بِوُجُوهٍ، مِنْهَا مَنْعُ كَوْنِ التُّرْبَةِ مُرَادِفَةً لِلتُّرَابِ، وَادُّعِىَ أَنَّ تُرْبَةَ كُلِّ مَكَانٍ مَا فِيهِ مِنْ تُرَابٍ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا يُقَارِبُهُ. وَمِنْهَا أَنَّهُ مَفْهُومُ لَقَبٍ، أَعْنِِي تَعْلِيقَ الحُكْمِ بِالتُّرْبَةِ، وَمَفْهُومُ اللَّقَبِ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَرْبَابِ الأُصُولِ، وَقَالُوا: لَمْ يَقُلْ بِهِ إِلاَّ الدَّقَّاقُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ فِي الحَدِيثِ قَرِينَةً زَائِدَةً عَنْ مُجَرَّدِ تَعْلِيقِ الحُكْمِ بِالتُّرْبَةِ، وَهُوَ الاِفْتِرَاقُ فِي اللَّفْظِ بَيْنَ جَعْلِهَا مَسْجِداً، وَجَعْلِ تُرْبَتِهَا طَهُوراً عَلَى مَا فِي ذَلِكَ الحَدِيثِ. وَهَذَا الافْتِرَاقُ فِي هَذَا السِّياقِ قَدْ يَدُلُّ عَلَى الاِفْتِرَاقِ فِي الحُكْمِ، وَإلاَّ لَعُطِفَ أَحَدُهُمَا عَلَى الآخرِ نَسَقاً، كَمَا فِي الحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ.
وَمِنْهَا أَنَّ الحَدِيثَ المَذْكُورَ الَّذِي خُصَّتْ فِيهِ ((التُّرْبَةُ)) بِالطَّهُورِيَّةِ لَوْ سُلِّمَ أَنَّ مَفْهُومَهُ مَعْمُولٌ بِهِ، لَكَانَ الحَدِيثُ الآخَرُ بِمَنْطُوقِهِ يَدُلُّ عَلَى طَهُورِيَّةِ بَقِيَّةِ أَجْزَاءِ الأرْضِ، أََعْنِي قَولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَسْجِداً وَطَهُوراً))، فَإِذَا تَعَارَضَ فِي غَيْرِ التُّرَابِ دَلاَلَةُ المَفْهُومِ الَّذِي يَقْتَضِي عَدَمَ طَهُورِيَّتِهِ، وَدَلاَلَةَ المَنْطُوقِ الَّذِي يَقْتَضِي طَهُورِيَّتَهُ، فَالمَنْطُوقُ مُقَدَّمٌ عَلَى المَفْهُومِ. وَقَد قَالُوا: إِنَّ المَفْهُومَ يُخَصِّصُ العُمُومَ، فَتَمْتَنِعُ هَذِهِ الأوْلَوِيَّةُ إِذَا سُلِّمَ المَفْهُومُ هَهُنَا، وَقَدْ أَشَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى خِلاَفِ هَذِهِ القَاعِدَةِ، أَعْنِي تَخْصِيصَ العُمُومِ بِالمَفْهُومِ ثُمَّ عَلَيْكَ - بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ - بِالنَّظَرِ فِي مَعْنَى مَا أَسْلَفْنَاهُ مِن حَاجَةِ التَّخْصِيصِ إِلَى التَّعَارُضِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ العُمُومِ فِي مَحَلِّهِ.
الأَمْرُ الثَّالِثُ: أَخَذَ مِنْهُ بَعْضُ المَالِكِيَّةِ أَنَّ لَفْظَةَ: ((طَهُورٍ)) تُسْتَعْمَلُ لاَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الحَدَثِ وَلاَ الخَبَثِ، وَقَالَ: إِنَّ ((الصَّعِيدَ)) قَدْ يُسَمَّى طَهُوراً، وَلَيْسَ عَن حَدَثٍ، وَلاَ عَن خَبَثٍ، لأَنَّ التَّيَمُّمَ لاَ يَرْفَعُ الحَدَثَ، هَذَا أَوْ مَعْنَاهُ، وَجَعَلَ ذَلِكَ جَوَاباً عَن اسْتِدْلاَلِ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى نَجَاسَةِ فَمِ الكَلْبِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((طُهُورُ إنَاءِ أحَدِكُم، إِذَا وَلَغَ فِيهِ الكَلْبُ، أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعاً))، فَقَالُوا: ((طُهُورُ)) يُسْتَعْمَلُ إِمَّا عَن حَدَثٍ أَو خَبَثٍ، وَلاَ حَدَثَ عَلَى الإِنَاءِ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ عَن خَبَثٍ. فَمَنَعَ هَذَا المُجِيبُ المَالِكِيُّ الحَصْرَ، وَقَالَ: إِنَّ لَفْظَةَ ((طُهُورٍِ)) تُسْتَعْمَلُ فِي إِبَاحَةِ الاسْتِعْمَالِ، كَمَا فِي التُّرَابِ، إِذْ لاَ يَرْفَعُ الحَدَثَ كَمَا قُلْنَا، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: طُهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ)) مُسْتَعْمَلاً فِي إِبَاحَةِ اسْتِعْمَالِهِ، أَعْنِي الإِنَاءَ، كَمَا فِي التَّيَمُّمِ. وَفِي هَذَا عِنْدِي نَظَرٌ، فَإِنَّ التَّيَمُّمَ - وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لاَ يَرْفَعُ الحَدَثَ - لَكِنَّهُ عَنْ حَدَثٍ، أَيْ المُوجِبُ لِفِعْلِهِ حَدَثٌ، وَفَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِنَا: ((إِنَّهُ عَنْ حَدَثٍ)) وَبَيْنَ قَوْلِنَا: ((إِنَّهُ لاَ يَرْفَعُ الحَدَثَ)) وَرُبَّمَا تَقَدَّمَ هَذَا أَوْ بَعْضُهُ.
الخَامِسُ: قَولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِن أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فلْيُصَلِّ)) مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى عُمُومِ التَّيَمُّمِ بِأَجْزَاءِ الأَرْضِ، لأَنَّ قَولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَيُّمَا رَجُلٍ)) صِيغَةُ عُمُومٍ، فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ مَن لَمْ يَجِدْ تُرَاباً، وَوَجَدَ غَيْرَهُ مِن أَجْزَاءِ الأَرْضِ، وَمَن خَصَّ التَّيَمُّمَ بِالتُّرَابِ يَحْتَاجُ أَنْ يُقِيمَ دَلِيلاً يَخُصُّ بِهِ هَذَا العُمُومَ، أَو يَقُولُ: دَلَّ الحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ يُصَلِّي، وَأَنَا أَقُولُ بِذَلِكَ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلاَ تُرَاباً، صَلَّى عَلَى حَسَبِ حَالِهِ، فَأَقُولُ بِمُوجِبِ الحَدِيثِ، إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: ((فَعِنْدَهُ طَهُورُهُ وَمَسْجِدُهُ))، وَالحَدِيثُ إِذَا اجْتَمَعَتْ طُرُقُهُ فَسَّرَ بَعْضُهَا بَعْضاً.
السَّادِسُ: قَولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أُحِلَّتْ لِيَ الغَنَائِمُ)) يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ: جَوَازُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا كَيْفَ يَشَاءُ، وَيَقْسِمَهَا كَمَا أَرَادَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلهِ وَالرَّسُولِ) [الأَنْفَال: 1]، وَيَحْتَمِلُ أنْ يُرَادَ بِهِ: لَمْ يَحِلَّ مِنْهَا شَيءٌ لِغَيْرِهِ وَأُمَّتِهِ، وَفِي بَعْضِ الأَحَادِيثِ مَا يُشْعِرُ ظَاهِرُهُ بِذَلِكَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِالغَنَائِمِ بَعْضُهَا، وَفِي الأَحَادِيثِ: (( وَأُحِلَّ لَنَا الخُمُسُ )) أَو كَمَا قَالَ، أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ - بِكَسْرِ الحَاءِ وَبَعْدَهَا بَاءٌ مُوَحَّدَةُ - فِي صِحِيحِهِ.
السَّابِعُ: قَولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ)) قَدْ تَرِدُ الأَلِفُ وَاللاَّمُ لِلعَهْدِ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: (فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) [المُزَّمِّل: 16]، وَتَرِدُ لِلعُمُومِ، نَحْوَ قَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((المُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ)) وَتَرِدُ لِتَعْرِيفِ الحَقِيقَةِ، كَقَوْلِهِمْ: الرَّجُلُ خَيْرٌ مِن المَرْأَةِ، وَالفَرَسُ خَيْرٌ مِن الحِمَارِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَنَقُولُ: الأَقْرَبُ أَنَّهَا فِي قَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ)) لِلْعَهْدِ، وَهُوَ مَا بَيَّنَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن شَفَاعَتِهِ العُظْمَى، وَهِيَ شَفَاعَتُهُ فِي إِرَاحَةِ النَّاسِ مِِن طُولِ القِيَامِ بِتَعْجِيلِ حِسَابِهِمْ، وَهِيَ شَفَاعَةٌ مُخْتَصَّةٌ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلاَ خِلاَفَ فِيهَا، وَلاَ يُنْكِرُهَا المُعْتَزِلَةُ، وَالشَّفَاعَاتُ الأُخْرَوِيَّةُ خَمْسٌ:
إِحْدَاهَا: هَذِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِصَاصَ الرَّسُولِ بِهَا، وَعَدَمَ الخِلاَفِ فِيهَا. وَثَانِيَتُهَا: الشَّفَاعَةُ فِي إِدْخَالِ قَومٍ الجَنَّةَ مِن دُونِ حِسَابٍ، وَهَذِهِ قَدْ وَرَدَتْ أَيْضاً لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلاَ أَعْلَمُ الاخْتِصَاصَ فِيهَا، وَلاَ عَدَمَ الاخْتِصَاصِ. وَثَالِثَتُهَا: قَوْمٌ قَد استَوْجَبُوا النَّارَ، فَيُشْفَعُ فِي عَدَمِ دُخُولِهِم لَهَا، وَهَذِهِ أَيْضاً قَدْ تَكُونُ غَيْرَ مُخْتَصَّةٍ. وَرَابِعَتُهَا: قَوْمٌ دَخَلُوا النَّارَ، فَيُشْفَعُ فِي خُرُوجِهِمْ مِنْهَا، وَهَذِهِ قَدْ ثَبَتَ فِيهَا عَدَمُ الاخْتِصَاصِ، لِمَا صَحَّ فِي الحَدِيثِ مِن شَفَاعَةِ الأَنْبِياءِ وَالمَلاَئِكَةِ، وَقَد وَرَدَ أَيْضاً: ((الإِخْوَانُ مِن المُؤمِنِينَ يَشْفَعُونَ)). وَخَامِسَتُها: الشَّفَاعَةُ بَعْدَ دُخُولِ الجَنَّةِ فِي زِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ لأَهْلِهَا، وَهَذِهِ أَيْضاً لاَ تُنْكِرُهَا المُعْتَزِلَةُ.
فَتَلَخَّصَ مِن هَذَا أَنَّ الشَّفََاعَةَ مِنْهَا مَا عُلِمَ الاخْتِصَاصُ بِهِ، وَمِنْهَا مَا عُلِمَ عَدَمُ الاخْتِصَاصِ بِهِ، وَمِنْهَا مَا يَحْتَمِلُ الأَمْرَينِ، فَلاَ تَكُونُ الأَلِفُ وَاللاَّمُ لِلعُمُومِ، فَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْهُ إِعْلاَمُ الصَّحَابَةِ بِالشَّفَاعَةِ الكُبْرَى المُخْتَصِّ بِهَا هُوَ، الَّتِي صَدَّرْنَا بِهَا الأَقْسَامَ الخَمْسَةَ، فَلْتَكُنِ الأَلِفُ وَاللاَّمُ لِلعَهْدِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذَلِكَ عَلَى هَذَا الحَدِيثِ، فَلْتُجْعَلِ الأَلِفُ وَاللاَّمُ لِتَعْرِيفِ الحَقِيقَةِ وَتُنَزَّلُ عَلَى تِلْكَ الشَّفَاعَةِ؛ لانَّهُ كَالمُطْلَقِ حِينَئِذٍ، فَيَكْفِي تَنْزِيلُهُ عَلَى فَرْدٍ. وَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَقُولَ: لاَ حَاجَةَ إِلى هَذَا التَّكَلُّفِ، إِذْ لَيسَ فِي الحَدِيثِ إِلاَّ قَولُهُ: ((وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ)) وَكُلُّ هَذِهِ الأَقْسَامِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا قَدْ أُعْطِيَهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلْيُحْمَلِ اللَّفْظُ عَلَى العُمُومِ. لأَنَّا نَقُولُ: هَذِهِ الخَصْلَةُ مَذْكُورَةٌ فِي الخَمْسِ الَّتِي اخْتُصَّ بِهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَفْظُهَا - وَإنْ كَانَ مُطْلَقاً - إِلاَّ أنَّ مَا سَبَقَ فِي صَدْرِ الكَلاَمِ يَدُلُّ عَلَى الخُصُوصِيَّةِ، وَهُوَ قَولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلي)). وَأَمَّا قَوْلُهُ: ((وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ)) فَقَدْ تَقَدَّمَ الكَلاَمُ عَلَيْهِ فِي صَدْرِ الحَدِيثِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.

  #7  
قديم 10 ذو القعدة 1429هـ/8-11-2008م, 06:38 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح عمدة الأحكام لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله ابن باز (مفرغ)

باب التيمم

المتن :
41- عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا معتزلاً في القوم فقال: " يافلان ! ما منعك أن تصلي في القوم؟ فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء . قال: عليك بالصعيد؛ فإنه يكفيك ".
42- عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت. فلم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كما تتمرغ الدابة، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له. فقال: " إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا " ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه، ووجهه.
43- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا. فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم. ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة.وكان النبي يبعث إلى قومه، وبعثت إلى الناس عامة ".
الشرح:
هذه الأحاديث الثلاثة تتعلق بالتيمم، والتيمم رحمة من الله لعباده وتيسير عليهم، إذا فقدوا الماء أو عجزوا عن استعماله أن يستعملوا التيمم، والتيمم مصدر تيمم يتيمم تيمما، وهو قصد الصعيد – يعني وجه الأرض – بضربة بيديه على وجه الأرض، يعني بكفيه، فيقول: بسم الله ثم يمسح بهما وجهه وكفيه، بدلا من الوضوء بالماء، عند فقده أو عند العجز عن استعماله لمرض ونحوه، ويقوم هذا مقام الماء ويكون طهوراً كما في الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((الصعيد وَضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين)) وهو يقوم مقام الماء في رفع الحدث وفي جواز الصلاة به الطواف ومس المصحف ونحو ذلك، قال وهذا هو الصواب، وقال بعض أهل العلم إنه مبيح لا رافع، والصواب أنه يرفع الحدث إلى وجود الماء، أو إلى انتقاض الطهارة بما يبطل الوضوء.
الحديث الأول حديث عمران بن حصين بن عبيد الخزاعي رضي الله عنه وعن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سقط في السفر فرأى رجلا معتزلا لم يصل في القوم، فقال: ما منعك أن تصلي يا فلان؟ قال: يا رسول الله، أصابتني جنابة ولا ماء، أي عليَّ جنابة لم أجد الماء، فلهذا تأخر عن الصلاة مع الناس، فقال له المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((عليك بالصعيد فإنه يكفيك)) عليك بالتيمم، والصعيد وجه الأرض، فإنه يكفيك، أي يقوم مقام الماء عند فقد الماء، وهذا من رحمة الله وتيسيره جل وعلا، وقد دل على هذا قوله تعالى: ( فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) الآية من سورة المائدة، والصعيد يشمل التراب والرمل والحصى والنورة وجميع وجه الأرض، ولكن إذا تيسر التراب فهو مقدم للحديث الصحيح: ((وجعل التراب لي طهورا))، وإذا لم يتيسر وصار في أرض فيها رمل أو أرض صفاء لبس فيها رمل تيمم من وجه الأرض ويكفي.
وفي حديث عمار الدلالة على أنه يكفي أن يضرب التراب بيديه، ويمسح وجهه وكفيه، وكان عمار لما أصابته الجنابة رضي الله عنه تمرغ في الصعيد كما تتمرغ الدابة ظنا منه أن التيمم عن الجنابة مثل الغسل، يعني يعم البدن كله، فقاس هذا على هذا، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما فعل قال: ((إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا )) ثم ضرب بهما التراب ومسح بهما وجهه وكفيه، ولا حاجة إلى أن يتمرغ في الأرض أو يمسح ذراعيه أو قدميه، وهذا معنى ما دل عليه القرآن في قوله تعالى: ( فلم تجدا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ) واليد إذا أُطلقت المراد بها من مفصل الكف إلى أطراف الأصابع، كما في قوله جل وعلا: ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا ) والمقطوع هو الكف، ولا يُقطع الذراع ولا العضد، بل اليد التي تقطع هي الكف، من أطراف الأصابع إلى مفصل الكف، وهكذا في التيمم يمسح الكفين، أما في الوضوء فإلى المرافق، يغسل الذراعين إلى المرافق، ولهذا قال: ( وأيديكم إلى المرافق ) وما ورد عن بعض الصحابة أنهم مسحوا الذراعين وبعضهم مسح العضدين إلى الآباط، هذا قياس منهم على الماء، وبعضهم اجتهاد منه، فجاءت الشريعة تبين الحكم الشرعي وأنه ليس هناك مسح على الذراعين ولا على العضدين، إنما المسح يكون للكفين في التيمم، كما أوضح النبي صلى الله عليه وسلم بفعله، وبقوله في حديث عمار.
الحديث الثالث:
حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه وعن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أعطيت خمسا " يعني خمسَ خصال " لم يُعطهن أحد قبلي " أي من الأنبياء، هذه الخمس من خصائصه عليه الصلاة والسلام،
وله خصائص كثيرة عليه الصلاة والسلام، لكن هذه الخمس منها:
((نصرت بالرعب مسيرة شهر )) نصره الله بالرعب مسيرة شهر، أي: أن الله ينزل في قلوب العدو الرعب منه صلى الله عليه وسلم وهم عنه مسافة شهر، وهذا يحصل لمن اتبعه واستقام على دينه فإن الله يعطيه هذا الخير وهذه المنحة العظيمة بإنزال الرعب في قلوب الأعداء مسافة شهر.
الثانية: جُعلت له الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل، فالله جعل له ما في الأرض مسجدا وطهورا، كان الأولون إذا حضرت الصلاة وليسوا في مساجدهم وبيعهم أخروها حتى يأتوا إلى موضع الصلاة عندهم من البيع والصوامع والمساجد، فالله وسع لهذه الأمة ويسر لها، وجعل الأرض كلها مسجدا له، والحمد لله، فإذا كان في السفر أو بعيداً عن المسجد صلى في أي مكان، ولهذا قال: " وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل " وفي اللفظ الآخر: " فعنده مسجده وطهوره " مسجده الأرض وطهوره التراب. وهذا من تيسير الله ومن رحمته سبحانه وتعالى.
الثالثة: أحلت لي المغانم، ولم تحل لأحد قبلي فإذا استولى المسلمون على الكفار فإن المغانم التي هي أموالهم حل للمسلمين، يُنزع منها الخمس لبيت المال: وأربعة أخماس تقسم بين الغانمين من الجنود إذا كان القتال على الخيل، يعطى الفارس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه، ويعطى الرجل سهماً واحدا،ً وهكذا صاحب المطية يعطى سهماً واحداً. فالأولون إذا فرغوا من القتال فتأكل المغانم إذا قُبلت، أما هذه الأمة فرحمها الله وأحل لها المغانم فضلا منه وإحسانا، ولهذا قال: ((ولم تحل لأحد قبلي)).
الرابعة: " أعطيت الشفاعة ": أعطاه الله الشفاعة، وهي الشفاعة العظمى لأهل الموقف يوم القيامة، يشفع فيهم حتى يُقضى بينهم، وهذه من خصائصه عليه الصلاة والسلام ليست لبقية الأنبياء، فإذا كان يوم القيامة واجتمع الناس واشتد الأمر تقدم صلى الله عليه وسلم وحمد ربه وسجد بين يديه، وحمده بمحامد عظيمة حتى يأذن له، ثم يأذن له سبحانه وتعالى، فيقال له: اشفع تشفع، وسل تعط، فيشفع عند ذلك فيسأل ربه أن يقضي بين الناس، وهذا هو المقام المحمود الذي ذكره الله في كتابه كما في سورة بني إسرائيل: ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) هذا هو المقام المحمود الذي يحمده به الأولون والآخرون، لأنه يقوم مقاما عظيما يحمد الله فيه ويُثني عليه ويسجد له، ثم يقال له: ارفع رأسك، وقل تسمع وسل تعط، واشفع تشفع: فيرفع رأسه صلى الله عليه وسلم من سجوده ويشفع إلى الله أن يقضيَ بين الناس. وله شفاعات أخرى فيمن دخل النار من أمته عليه الصلاة والسلام، وله شفاعات في دخول أهل الجنة الجنة، لكن هذه الشفاعة العظمى خاصةٌ به عليه الصلاة والسلام، وهكذا الشفاعة في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة خاصة به، لا يدخلونها إلا بشفاعته عليه الصلاة والسلام، وله شفاعة ثالثة خاصة به وهي الشفاعة في عمه أبي طالب، كان في دركات النار وفي غمرات النار فيشفع فيه حتى يجعله الله في ضحضاح من النار يغلي منه دماغه، -نسأل الله العافية- لأنه نصر النبي صلى الله عليه وسلم وحاطه وحماه في حياته لكنه مات على الكفر نعوذ بالله، ولهذا صار من أهل النار، فصارت الشفاعة في التخفيف عنه تخفيفا لا يخرجه من النار بل يجعله في الطبقة الأولى منها، صلى الله عليه وسلم، وهي مستثناة من قوله جل وعلا ( فما تنفعهم – أي الكفار – شفاعة الشافعين ) إلا هذه مستثناة جاء بها النص، فنفعته بعض النفع وإن كان مخلدا في النار ومع أهل النار، لكنه خُفِّفَ عنه بعض الشيء بأسباب شفاعته عليه الصلاة والسلام.
الخصلة الخامسة: أنه بُعث إلى الناس عامة، والأنبياء يبعثون إلى أقوامهم، فكل نبي يبعث إلى قومه، أما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس عامة من جن وإنس، يدعوهم إلى الله وإلى توحيد الله، من آمن به واتبعه فله الجنة من الجن والإنس، والعرب والعجم، والذكور والإناث، ومن لم يقبل منه ولم يصدقه فله النار نعوذ بالله، كما قال الله سبحانه: ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ) وقال سبحانه (وما أرسالناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا )، فهو رسول الله إلى الثقلين الجن والإنس، من أجاب دعوته واستقام على دينه فله الجنة والقرار، ومن حاد عن ذلك واستكبر عن ذلك فله النار والخيبة والندامة، نسأل الله لنا ولكم العافية والسلامة، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

  #8  
قديم 13 محرم 1430هـ/9-01-2009م, 04:57 AM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
افتراضي شرح عمدة الأحكام للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين (مفرغ)


القارئ: بسم الله الرحمن الرحيم , الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله , قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:
باب التيمم:
عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً معتزلاً لم يصل في القوم قال: (( يا فلان ما منعك أن تصلي في القوم )) فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء . فقال: ((عليك بالصعيد فإنه يكفيك)).
وعن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء , فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة , ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: ((إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا)) ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه.
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم
هذا باب التيمم , والمراد به التطهر بالتراب عند فقد الماء كما هو معروف , وسمي تيممًا للأمر به في الآية في قوله تعالى: { فتيمموا صعيدًا طيبًا فامسحوا } فلما سماه الله تيممًا يعني قصدًا أخذوا اسمه من هذه الكلمة , وذكروا سبب نزول الآيات التي في شرعية التيمم وهو أنهم كانوا مسافرين في غزوة من الغزوات , ولما كانوا في ذات ليلة في مكان انقطع أو سقط عقد لعائشة في الليل فأمرهم النبي عليه الصلاة والسلام أن ينيخوا رواحلهم وأن يبيتوا , وليس معهم ماء يتوضئون به , فلما أصبحوا أنزل الله في تلك الليلة آية التيمم فتيمموا , وفيها يقول أسيد بن حضير لعائشة: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر , ما نزل بكم أمر أو شدة إلا جعل الله لكم منه مخرجًا وجعل الله للمسلمين فيه خيرًا.
وقد ورد في الأحاديث أنه من خصائص هذه الأمة , يعني أن من خصائص هذه الأمة التيمم بالتراب , حيث جعله الله طهورًا , قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ}, {يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} .
فالتطهير بهذا التراب تطهير معنوي , وذلك أن المسلم كأنه يستحضر أن ربه سبحانه أمره باستعمال التراب تمسحًا في وجهه وكفيه , فيقصد ذلك ويمتثل أمر الله , ويرتفع بذلك حدثه الذي على بدنه سواءً حدثًا أكبر أو أصغر , يرتفع حدثه ؛ وذلك لأن الله تعالى ذكر نوعين:
ذكر الحدث الأصغر بقوله: {أو جاء أحدٌ من الغائط} هذا حدث أصغر يرتفع بالوضوء.
والحدث الأكبر بقوله: {أو لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} وهو الذي يوجب الغسل , وكلاهما جعله يرتفع بهذا التيمم , {فتيمموا} يعني فاقصدوا {صعيدًا طيبًا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} .
فجعل الله هذا التيمم رافعًا للحدث , وجعله طهورًا معنويًا يحصل به نفع ويحصل به تطهير للقلب , وإن لم يكن فيه تنظيف للبدن ولا إزالة للوسخ ولا غير ذلك من أنواع النظافة , ولكنه تطهير معنوي . جعله الله تعالى توسعة , لما فرض الوضوء وعلم أن الماء قد يعوز في بعض الأحيان جعل لـه بدلاً وهو التراب , وإلا فالأصل أن الطهارة تكون بالماء , فذكر الله في نفس الآية إعواز الماء في قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} ولهذا ذكر العلماء من شروطه.. من شروط التيمم أن يطلب الماء فلا يجده , يبحث عنه في رحله وفي ما كان قريبا منه فلا يجده , أو يجده ولكن يكون قليلاً هو بحاجة إليه , فله أن يعدل إلى التيمم , إذا كان بحاجة إلى الماء للشرب أو للطبخ أو نحو ذلك فإنه يعدل إلى التيمم , ففيه رخصة وفيه توسعة .
والتيمم يحصل من الحدثين: الأصغر والأكبر , فالآية نزلت في الأصغر , عندما كانوا مسافرين وحضر الماء واحتاجوا إلى الوضوء أمرهم بأن يتيمموا , فجعل التيمم بدلاً عن الوضوء الذي هو غسل الأعضاء الظاهرة , وذُكر فيها أيضًا الغسل لقوله: {أو لامستم النساء} فإن الملامسة هي الجماع وهو موجب للغسل لا للوضوء , فتكون الآية اشتملت على الأمرين , على رفع التيمم للحدث الأصغر الذي هو الوضوء أو ما يرفعه الوضوء , ورفعه للحدث الأكبر الذي يوجب الغسل .
والأحاديث التي عندنا التي سمعنا تتعلق بالغسل , فإن حديث عمران في الغسل , وذلك أن بعض الصحابة كأنهم تعاظموا أن التيمم يرفع الحدث الأكبر فقالوا: كيف يرتفع غسل البدن كله بمسح الوجه وبمسح الكفين , فلأجل ذلك اعتزل ذلك الرجل الصلاة , لما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم وقد صلى بأصحابه وإذا رجل لم يصلِ معتزل جالس , فاستنكر جلوسه وتركه للصلاة , فسأله لماذا تركت الصلاة ؟ ما منعك أن تصلي مع القوم ؟ اعتذر ذلك الرجل بأن عليه حدث أكبر , أصابته جنابة يعني من آثار احتلام أو نحوه وليس هنا ماء يكفيني للاغتسال , ليس معنا ماء , فعند ذلك أمره بأن يتيمم فقال: ((عليك بالصعيد فإنه يكفيك)) .
الصعيد هو المأمور به في الآية في قوله: {فتيمموا صعيدًا طيبًا} , وقد اختلف العلماء في تفسير الصعيد , والصحيح أنه وجه الأرض المستوي الذي عليه تراب يمكن أن يمسح منه , وذلك لأنه سمي بذلك لصعوده على وجه الأرض , أو لأنه يتصاعد منه تراب يعلق باليد ونحوه , أو أنه إذا أتته الريح تصاعد منه التراب والغبار ونحوه .
وقد يطلق الصعيد على وجه الأرض المستوي كما في قوله تعالى: {فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} يعني مستوية ليس فيها أشجار ولا ثمار ونحوه , فأصبح الصعيد هو المستوي من الأرض , فإذن التيمم يكون من التراب المستوي من الأرض .
اشترط بعض العلماء أن يكون لـه غبار , وأخذه من الآية في قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْه} قالوا: إن كلمة {منه} تدل على التبعيض على أنه يعلق به غبار في اليد يمسح منه الوجه ويمسح منه الكف , فإذا كان لا غبار فيه لم يكن هناك تمسح منه .
والصحيح أنه لا يشترط ذلك , وإنما يكفي ضرب الأرض , إذا كانت الأرض مستوية وفيها تراب ونحوه .
ويكثر السؤال عن مثل هذه البلاد الآن التي قد يعوز فيها التراب , يعني المساجد مثلا المبلطة أو المفروشة والشوارع المسفلتة التي لا يوجد فيها تراب . والصحيح أنه يجوز ضرب وجه الأرض ؛ لأن ذلك يصدق عليه أنه صعيد , ولكن لابد أن يكون طاهرًا حيث اشترط الله الطيب في قوله: {صعيدًا طيبًا} , فإذا كانت نجسة لم يجز التيمم منها , يعني ضرب الأرض باليدين وتلك الأرض نجسة أو فيها قذر أو نحو ذلك , وإذا كان المكان فيه فرش أو نحوها وفيها شيء من الغبار كفى أن يضرب وجه الأرض ويتطاير منه الغبار . وإذا لم يكن فيه غبار ولم يجد مكانًا يتيمم منه يأتي بتراب ليتيمم منه .
وإذا لم يفعل صلى ولو بدون تيمم, إذا لم يستطع كالمريض.. المرضى الذين يكونون في المستشفيات لا يجدون التراب ولا يستطيعون الوصول إلى الماء , معذورون ؛ الله تعالى قد ذكر المرض من جملة الأعذار في قوله تعالى: { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَر } خص المرضى وإن كانوا يجدون الماء ، والمسافر ؛ لأنه غالبًا يفقد الماء .
فالمريض قد يصعب عليه استعمال الماء , بل لا يستطيع الوصول إلى أماكن المياه ولا يستطيع أيضًا غسل أعضاءه لشدة المرض , فله أن يتيمم , فإذا كان على سرير والسرير عليه فراش نظيف ليس فيه غبار فيمكن إحضار تراب له مثلاً في طست أو في إناء ليضرب عليه , فإذا لم يتيسر كبعض المستشفيات التي يمنع فيها إحضار التراب ونحوه , فإنه إن استطاع أن يضرب على الفراش ولو بدون غبار فعل وإلا صلى على حسب حاله ولو بدون تيمم أو بدون تراب.
والحاصل أن التيمم فسر في هذا بأنه من الصعيد ((عليك بالصعيد ؛ فإنه يكفيك)) وكما في الآية: {فتيمموا صعيدًا طيبًا فامسحوا بوجوهكم} فإذا لم يتيسر صلى على حسب حاله.
وفي هذا الحديث , الحديث الثاني أيضًا الدلالة على أنه يكون من الحدث الأكبر ؛ فإن عمار بن ياسر لما أجنب يعني احتلم وكان في سفر وليس عنده ماء وقد عرف أن الوضوء يرتفع أو يقوم بدله مسح الوجه ومسح اليدين - اعتقد أن الغسل لابد أن يمسح البدن كله فتمرغ في الصعيد وتقلب فيه كما تفعل الدابة التي تتمرغ يعني تمسح جنبها ثم تنقلب وتمرغ جنبها الثاني , تمرغ فيه يعني تقلب فيه , حتى يمسح جسده كله , وظن أن ذلك يقوم مقام الغسل وهذا من باب القياس , ولكن بين لـه النبي صلى الله عليه وسلم أن الآية ليس فيها إلا مسح الوجه واليدين مع ذكر الحدث الأكبر بقوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} فبين لـه النبي عليه السلام أن التيمم أن يضرب الأرض بيديه وأن يمسح بهما وجهه ويمسح كفيه .
وقد اختلف في عدد الضربات, وهذا الحديث ليس فيه إلا ضربة واحدة ..حديث عمار , وهو أصح من غيره , لكن ورد في أحاديث فيها مقال: ((التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة للكفين.. أو لليدين)) . فإن اقتصر على ضربة واحدة مسح وجهه براحته ومسح كفيه بأصابعه وخلل أصابعه , أدخل بعضها في بعض , حتى يكون قد عم الغبار الذي على الراحتين , يمسح به وجهه , والغبار الذي على الأصابع يمسح به ظاهر الكفين وباطنهما وداخل الأصابع , وإن ضرب ضربتين فلا بأس , ضربة يمسح بهما وجهه وضربة يديه .
واختلف في حد اليدين , الآية فيها الإطلاق {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} ولم يقل إلى الكوع ولم يقل إلى المرفق ولم يقل إلى المنكب , أطلق , فجاء في بعض الروايات ((التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين)) فذهبت الشافعية وغيرهم إلى أنه يمسح يديه إلى المرافق .
المرفق: هو المفصل الذي بين الذراع والعضد.
ا هـ .

شرح عمدة الأحكام
شريط (9) للشيخ: ابن جبرين
...فجاء في بعض الروايات التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين , فذهبت الشافعية وغيرهم إلى أنه يمسح يديه إلى المرافق . المرفق: هو المفصل الذي بين الذراع والعضد الذي يغسل إليه في الوضوء .
ولكن في حديثك عمار أنه اقتصر على مسح الكفين , والكف: هو الراحة والأصابع وما اتصل بها إلى المفصل , وفي بعض الروايات تحديده إلى الكوع , والكوع: هو المفصل الذي بين الكف والذراع ويسمى كوعاً , وقد يقال : إن الكوع هو طرف المفصل مما يلي الإبهام , والقرصوع: طرف المفصل مما يلي الخنصر , والمفصل يسمى مفصل , يعني إلى الكوعين أي إلى هذا المفصل , هذا هو الراجح , في حديث عمار أنه مسح يديه أي كفيه , اقتصر عليهما , وهذا هو الذي اختاره الإمام أحمد أنه يمسح وجهه ويمسح كفيه .
وبكل حال لابد من النية كما تقدم , ولابد من وجود التمسح , لابد أن يكون هناك مسح , ولهذا يقول العلماء: لو أن إنساناً صمد بوجهه أمام الريح وسفت في وجهه الريح تراباً ما كفى ذلك ولو مسح به ؛ لأنه ما أخذه من وجه الأرض , الله يقول: {فتيمموا صعيداً طيباً } اقصدوا فامسحوا , فلابد أن يقصد ضرب الأرض ويستعمل التمسح الذي أمر الله تعالى به , ويكون المسح مرةً واحدةً , ما ورد فيه التكرار كما ورد في الوضوء بل يقتصر على مرة واحدة ؛ وذلك لأن القصد منه التعبد, والطهارة به طهارة معنوية ليست طهارة حسية كالطهارة بالماء , إنما هي طهارةٌ معنوية , فينوي الإنسان , فلابد من النية حتى يتم الامتثال .
القارئ: قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:
عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرتُ بالرعب مسيرة شهر , وجعلت لي الأرض مسجداً وطهورا , فأيما رجلٌ من أمتي أدركته الصلاة فليصل , وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي , وأعطيت الشفاعة , وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة)).
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم , الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه .
وهذا الحديث أورده المؤلف في باب التيمم , حيث ذكر فيه التيمم بتراب الأرض , ويعتبر هذا الحديث دالا على ميزةٍ وفضلٍ وشرف لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم , وفيه ذكر الخصائص التي اختصه الله بها , وفي هذا الحديث أنها خمس , ولكن لا يدل ذلك على الحصر بل لـه خصائص أخرى , سواء اختص بها عن الأنبياء قبله أو اختص بها عن أفراد الأمة وتميز بها .
ذكر العلماء من خصائصة الشيء الكثير , وسرد ذلك البيهقي في أول كتاب (النكاح) حيث أن مما اختص به أشياء في النكاح مما أحله الله لـه لقوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} , ولكن هذه الخصال دالةٌ على ما فضله الله به على الأنبياء قبله , منها الخصلة الأولى قوله: ((أُعطيتُ خمسًا لم يعطهن أحدٌ قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر)) .
الرعب: هو الخوف الذي يكون أو ينزل في قلوب الناس إذا توجه إليهم , أي الأعداء الذين يتوجه إليهم ويغزوهم , يجعل اللهُ في قلوبهم رعبًا منه وخوفًا وفرقًا بحيث أنهم لا يقدمون على قتاله ولا يصبرون على مواجهته , بل يتفرقون وينخذلون وينهزمون ويتبعثر جمعهم , وذلك نصرٌ من الله تعالى وتأييدٌ لـه حتى يتم أمر الله ويعلوا دينه ؛ لأن الله تعالى قد وعده بإظهار هذا الدين في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}.
فلما وعده بإظهار هذا الدين عرف بأن للدين أعداء وله مقاومون وله حسدةٌ يحسدونه على ظهوره ؛ وذلك لأنهم يفارقون مألوفاتهم إذا اعتنقوه ويتركون دين أسلافهم وآبائهم وعقائد أجدادهم , فيفرق بينهم وبين ما هم عليه , فلما كان كذلك كان ولابد أن يُوجد من يعادي هذا الإسلام ويحول بينه وبين انتشاره .
فإذا هم النبي عليه الصلاة والسلام بغزو أولئك الأعداء قذف الله في قلوبهم الرعب وألقى عليهم الخوف والفرق , فتفرقوا وذهبوا أيادي سبع ولم يصمدوا للقائه ولا لمقاتلته , قد أخبر الله عز وجل بشيء من ذلك كما في قصة بني النضير في قول الله تعالى: {هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فآتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب} أي الخوف والفزع , فلم يطمئنوا حتى هربوا وفارقوا ديارهم ومألوفاتهم ؛ وذلك لأثر هذا الرعب .
وهكذا لما تحزبت الأحزاب وأحدقوا بالمدينة بسنة خمس بقيادة أبي سفيان ومن معه من قريش ومن غطفان ومن سائر المشركين , فلما أنهم اشتد حصارهم قذف الله تعالى في قلوبهم الرعب وكذلك في قلوب من ناوأهم فقال تعالى: {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} إلى قوله: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} كل ذلك من آثار هذا الرعب .
والصحيح عند العلماء أن هذا الرعب باقٍ في قلوب أعداء الإسلام سواءً كان الذي يقاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم أو صحابته أو من هو على دينه , فمتى صمد المسلمون لقتال عدوهم ومتى حققوا إسلامهم ومعتقدهم ومتى صححوا عقيدتهم وسلموا من الدخل ومن الاضطراب في المعتقد وحققوا دينهم وعملوا به - فإن الله تعالى سيُلقي في قلوب أعدائهم الرعب والخوف , تحقيقًا لما نصر الله تعالى به نبيه ((نصرت بالرعب مسيرة شهر)) مسيرة شهر , يعني إذا هم بغزو قومٍ وكان بينه وبينهم مسيرة شهر , يعني مسير شهر على الأقدام أو على الرواحل - فإن أولئك الأعداء يخافونه ولو بينهم وبينه هذه المسافة ولا يصبرون على مقابلته , وكذلك يكون حالهم مع أتباعه .
الخصلة الثانية: وهي الشاهد للباب قوله: ((وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورا)) الأرض: يعني: وجه الأرض .
والمسجد: يعني: الموضع الصالح للسجود عليه والصلاة عليه .
والطهور: معناه: ما يتطهر به .
يعني أن الله تعالى فضل هذه الأمة ونبيها بأن أباح لهم أن يصلوا إذا أدركتهم الصلاة في أي بقعة .
قد كان الأمم قبلهم لا يصلون إلا في كنائسهم وصوامعهم وبيعهم ومتعبداتهم , وأديارهم , لا يصلي أحدهم إلا في ديره الخاص به أو نحو ذلك , ولكن الله تعالى وسع على هذه الأمة , فالمسافر إذا أدركته الصلاة فلا يؤخرها بل يصليها في أي بقعة من الأرض طاهرة ليس فيها شيء مما نُهي عن الصلاة فيه , كل بقعة من الأرض تصلح أن تكون مصلى إذا أدركته .
سمعتُ أن بعض الناس يحتج بهذا الحديث عن الصلاة في البيوت وفي الأسواق , ولكن ليس هذا حجة , إنما الحديث حجة في أن المصلي إذا أدركته الصلاة وليس هناك موضع مخصص لها فإنه يصلي في تلك البقعة , أما إذا كان هناك مواضع للصلاة كالمساجد المبنية المهيئة لها , فإن المساجد إنما بنيت لأجل عمارتها بطاعة الله تعالى . والكلام على هذا ليس الآن موضعه .
وأما كون الأرض طهورًا فمعناه أن من فقد الماء فإنه يتطهر بالتراب كما في آية التطهر به وهي قول الله تعالى: {فلم تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} إلى قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} سمى النبي صلى الله عليه وسلم الأرض طهوراً ؛ لأنها ترفع الأحداث , يعني التيمم بها يرفع الحدث .
والحدث: هو ما يقوم بالبدن عند وجود ناقض من النواقض .
فإذا انتقض وضوء الإنسان ولم يجد ماء جاز لـه أن يتمسح بالتراب , أن يتيمم به ويقوم ذلك مقام الماء ؛ توسعة من الله تعالى . وليس كذلك الأمم قبلنا فإنهم لا يرفع حدثهم إلا الماء , لا يُباح لهم أن يتيمموا بالتراب , فعلم الله المشقة التي تنال الأمة لأجل فقد الماء فأباح لهم أن يتيمموا وأن يحبسوا ما معهم من الماء لشفاههم ولطعامهم وشرابهم.
ولكن لا ينبغي التساهل في هذا غاية التساهل ؛ فإن كثيراً من الناس يتيممون والماء قريب أو الماء معهم , فالماء إنما جعل ليُطهر البدن طهارةً ظاهرة .
الماء لاشك أنه يرفع الأحداث ويزيل الأخباث ويطهر النجاسات . والتراب إنما هو مُبيحٌ للصلاة ورافع للحدث رفعا مؤقتًا وبشرط ألا يوجد ماء لقوله تعالى في الآية الكريمة: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} فإذن لا يُباح التيمم مع وجود الماء أو مع القرب منه أو مع توفره وتيسره.
ذكر لي كثيرٌ من الإخوان أنهم خرجوا مع أنُاس والماء معهم كثير , معهم مياه في سيارات محملة بالماء أو في درامات أو نحوها ملأى بالماء ومع ذلك يتيممون , ولا يجوز لهم والحال هذه ؛ لأن التيمم إنما شرع عند فقد الماء , وهؤلاء معهم الماء , معهم هذه السيارات ومعهم هذه المياه التي فيها هذه الأواني الكثيرة , ولو كانوا سيجلسون مثلاً أربعة أيام أو خمسة أيام ليسوا على ماء , ولكن ما دام معهم هذا الماء بهذه الكثرة فلا يحل لهم التيمم .
وذكرَ أنهم يغسلون الأواني غسلاً بليغًا , إذا أكلوا مثلاً أو شربوا في إناء فإنهم يغسلونه وينظفونه ويصبون عليه ماءً كثير , وإذا أكل أحدهم وغسل يديه غسلهما بماءٍ كثير أكثر مما يتوضأ به الإنسان أو يغتسل به , ومع ذلك يتيممون إذا حضر وقت الصلاة.
لاشك أن هذا خطأ وأنه توسع في شيء ليس فيه هذا التوسع , كما ذكر أيضاً أن معهم عدد من السيارات وأن البلاد قد تكون قريبة منهم , المياه أو البلاد التي حولها قد تبعد عن أحدهم نصف ساعة أو ساعة عن السيارة أو ما أشبه ذلك, وأنهم متى بدا لأحدهم غرضٌ , متى بدا له شراء شيءٍ كنعل مثلاً أو ملح أو مثلاً كبريت أو ما أشبهه أقاموا لأجله السيارة , إذا كان كذلك فهم في استطاعتهم إذا قل الماء أن يرسلوا سيارة ويأتوا بماء في درماتهم وفي براميلهم ولا يكون عليهم حينئذٍ نقصٌ ولو غابت السيارة يومًا للإتيان بالماء ؛ فإذن لا يجوز لهم ذلك .
قد كنا نعرف.. أدركنا مثلاً بعضًا من المسافرين يحملون معهم الماء ويتوضأون إذا كان في إمكانهم أن يصل الماء بعد ثلاث ساعات , مع أنهم يسيرون على الأقدام أو على الرواحل , وأدركنا أيضًا بعض البوادي يرسلون إلى الماء لأجل الوضوء يومًا ذهابًا ويومًا إيابًا , يرسلون الراوي يرتوي لهم يومين , يغيب عنهم , والماء في ذلك الوقت في غاية الصعوبة وإنما يُؤتى به في القِرب , ومع ذلك لا يتيممون لاستطاعتهم الحصول على الماء ولو مع هذه المشقة , إذا كانوا مقيمين .
فإذن لا ينبغي التوسع في مثل هذا , بل إذا خرج أهل النزهة وخرج معهم بهذه الماء فليستعملها في الوضوء ولا يتيممون والماء معهم بهذه الكثرة أو بهذا القرب , أما إذا كانت المسافة طويلة أو أنه فيه صعوبة , صعوبة يعني في تحصيله أو يوجد بثمن رفيع فحينئذ لا بأس أن يعدلوا إلى التيمم ؛ لأنهم معذورون بذلك.
أما الخصلة الثالثة: قوله: ((وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي)).
الغنائم: يعني غنائم المقاتلين , إذا قاتل المقاتلون تقاتلوا ثم انتصروا على الأعداء وهرب الأعداء وتركوا أموالهم وغنائمهم من دواب ومن أمتعة ومن مدخرات ونحو ذلك , غنمها المسلمون واستولوا عليها وتقاسموها بينهم , أباحها الله تعالى لهم في قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} وفي قوله: {واعلموا أنما غنمتم} , {أنما غنتم} يعني اعلموا أن ما استوليتم عليه من الغنائم {فأن لله خمسه وللرسول}.
فعُرف بذلك أن الغنيمة كانت محرمةً على الأمم قبلنا , كيف كانوا يفعلون بها ؟ إذا غنِموا وجمعوا الغنيمة ونزلت عليها نارٌ فأحرقتها , أما هذه الأمة فإن الله علم ضعفها فأباح لها التمتع بها والتملك لها .
أما الخصلةُ الرابعةُ: قوله: ((وأعطيت الشفاعة)) , الشفاعة هنا المراد بها نوع من أنواع الشفاعة وهي الشفاعة الكبرى , وقد..وسيأتينا في التوحيد في العقيدة هذه أقسام الشفاعة , وأن النبي صلى الله عليه وسلم له عدة شفاعات , ولكن أكبرها هي الشفاعة التي يتخلى عنها أولوا العزم حتى تصل إليه صلى الله عليه وسلم , أي شفاعته في إراحة الناس من طول الموقف , عندما يطول بالناس الموقفُ يشفعون إلى الأنبياء فيقولون: ائتوا آدم , فيقولون: يا آدم اشفع لنا إلى ربك ؛ ألا ترى إلى ما بلغنا , ألا ترى ما نحن فيه , ثم يأتون نوحًا عندما يعتذر آدم فيقولون لـه كذلك , ثم يأتون إبراهيم ثم موسى ثم عيسى , فهؤلاء هم أولوا العزم .
ثم يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: ((أنا لها)) فهذه الشفاعة هي الشفاعةُ العظمى , وفسرت بالمقام المحمود , أو فسر بها في قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} ولاشك أنها ميزة وفضيلة له في يوم القيامة .
الوجه الثانى:
ولاشك أنها ميزة وفضيلة له في يوم القيامة عندما يحمده به الأولون والآخرون , فهذه خصلة من الخصال التي ميزه الله تعالى بها وفضَّلَه على غيره .
وأما الخصلة الخامسة والأخيرة وهي قوله صلى الله عليه وسلم: ((وكان النبي يبعث إلى قومه خاصةً وبعثت إلى الناس عامة)) يعني أن كل نبي بعثته إلى قومه , إنما يبعث إلى قومه , قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} , وقال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً}أخاهم يعني في النسب , {وإلى ثمود أخاهم صالحا} يعني في النسب , {وإلى مدين أخاهم شعيبًا} يعني في النسب , ولذلك كل واحد منهم يدعُوهمُ فيقول: يا قومي كما في قول هود في قول الله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} فدعاهم بقومه فدل على أن رسالته خاصة بقومه , أما نبينا عليه الصلاة والسلام فقد فضل:
أولاً: بعموم رسالته .
وثانياً: ببقائها .
عمومها أنه بُعث إلى الأسود والأحمر , بُعث إلى القاصي والداني , قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} , وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} , يعني أرسلناك للناس كافة , لكل الناس , وقال تعالى: { لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} أي: ومن بلغه القرآن فإنه مُرسل إليه , وأخبر عليه الصلاة والسلام عن عموم رسالته بقوله: ((والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يهوديا أو نصرانيا ثم لا يؤمن بي إلا أدخله الله النار)) أو كما قال , فهذه خصوصية .
ومن خصوصياته أيضًا بقاء شريعته , بقاؤها واستمرارها إلى يوم القيامة ؛ حيث أنه خاتم الرسل وآخر الأنبياء . والشاهد من هذا الحديث ما بينه في الخصلة الثانية وهو كونه فضل بأن جعلت لـه الأرض مسجدًا وطهورًا , يعني يتطهر بها كما يتطهر بالماء , يعني التراب .
وقد فصل العلماء أو بينوا أن هذا العموم قد يُستثنى منه بعض الأشياء ؛ وذلك لأنه روي في بعض الآثار ..بعض روايات الحديث ((وجُعلت تُربتها لي طهورًا)) فخص التربة فقالوا: إذن لا يتيمم إلا بالتربة يعني بالتراب .
ولكن الصحيح أيضًا أنه يتيمم بالرمل ولو لم يكن له غُبار , معلوم أن الرمل لا غبار له ولكنه يعلق باليد , فكل شيء يعلق باليد إما غُبار وإما رمل فإنه يُتيمم به , وأما وجه الأرض على ما قاله بعضهم فلا , يعني كونه يُتيمم بكل ما تصاعد على وجه الأرض أخذًا من قوله: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً} فإنه لو كان مثلاً على جبل لم يتيمم على صخرة إلا إذا لم يجد غيرها , إذا كان في إمكانه أن ينزل ويجد ترابًا فإن عليه أن يتيمم منه .
واشتراط بعضُهم التراب ؛ لأن الله قال: {فتيمموا صعيدًا طيبًا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} قالوا: كلمة {منه} تدل على التبعيض , فدل على أنه لابد أن يعلق باليد شيء منه حتى يمسح به . واستثنوا ما كان نجسًا , فلا يجوز أن يتيمم بالأرض النجسة ؛ لأن الله اشترط طيبها في قوله: {فتيمموا صعيدًا طيبًا} فإذا كانت نجسة فليست صعيدًا طيبًا . وكذلك إذا كانت محترقة كالرماد مثلاً لا يتيمم به لأنه لا يوصف بأنه طيب , وكل شيء محرق كالنورة وما أشبهها , وهكذا أيضًا ما ليس بتراب كدقيق الحنطة وما أشبهه ولو كان على وجه الأرض ؛ لأنه لا يصلح أن يكون ترابًا ولا أنه مما على وجه الأرض ولا من الصعيد .
فإذًا التيمم خاص بما كان على وجه الأرض مما هو من أجزائها , ومما هو ملتصق بها . وفي هذا القدر كفاية يعني معرفة ما أباح الله تعالى التيمم به ومعرفة الحكمة والعلة التي لأجلها أبيح التيمم .


  #9  
قديم 24 رجب 1430هـ/16-07-2009م, 08:00 AM
أم مجاهد أم مجاهد غير متواجد حالياً
المستوى الأول - الدورة الأولى
 
تاريخ التسجيل: Dec 2008
المشاركات: 137
افتراضي الشرح الصوتي لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله






موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
التيمم, باب

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:23 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir