س: حرّر القول في معنى قول الله تعالى: {ليسوا سواء}.
ذكر في معنى الآية أقوال:
الأول: ليس اليهود كلهم سواء، بل فيهم من هو قائم بأمر الله. وهو قول ابن عباس, وقتادة, وابن جريج. ذكره ابن عطية, وابن كثير.
الثاني: ليس أهل الكتاب وأمة محمّدٍ القائمة بحقّ اللّه سواءً عند اللّه. وهو قول ابن مسعود, والسدي. ذكره ابن عطية, وابن كثير.
التخريج:
- قول ابن عباس: أخرجه ابن جرير في تفسيره, وابن أبي حاتم في تفسيره, والهيثمي في مجمع الزوائد, والطبراني في الكبير, والبيهقي في الدلائل, وابن عساكر في تاريخه من طرق عنه, قال: لمّا أسلم عبد اللّه بن سلامٍ، وثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيدٍ، ومن أسلم من يهود معهم، فآمنوا وصدّقوا ورغبوا في الإسلام وتنحوا فيه، قالت أحبار يهود وأهل الكفر منهم: ما آمن بمحمّدٍ ولا تبعه إلاّ أشرارنا، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم، وذهبوا إلى غيره، فأنزل اللّه عزّ وجلّ في ذلك من قولهم: {ليسوا سواءً من أهل الكتاب أمّةٌ قائمةٌ يتلون آيات اللّه} إلى قوله: {وأولئك من الصّالحين}.
- قول قتادة: أخرجه ابن جرير في تفسيره عن بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: {ليسوا سواءً من أهل الكتاب أمّةٌ قائمةٌ} الآية، يقول: ليس كلّ القوم هلك، قد كان للّه فيهم بقيّةٌ.
- قول ابن جريج: أخرجه ابن جرير في تفسيره عن القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌّ، قال: قال ابن جريجٍ: {أمّةٌ قائمةٌ} عبد اللّه بن سلامٍ، وثعلبة بن سلامٍ أخوه، وسعية، ومبشّرٌ، وأسيدٌ وأسدٌ ابنا كعبٍ.
- قول ابن مسعود: أخرجه ابن جرير في تفسيره, وابن أبي حاتم في تفسيره, وابن المنذر في تفسيره, والطبراني في الكبير عن الحسن بن يزيد العجليّ، عن عبد اللّه بن مسعودٍ، أنّه كان يقول في قوله: {ليسوا سواءً من أهل الكتاب أمّةٌ قائمةٌ} قال: لا يستوي أهل الكتاب، وأمّة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم.
- قول السدي: أخرجه ابن جرير في تفسيره عن محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن المفضّل، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {ليسوا سواءً من أهل الكتاب أمّةٌ قائمةٌ} الآية، يقول: ليس هؤلاء اليهود كمثل هذه الأمّة الّتي هي قائمةٌ.
توجيه الأقوال:
القول الأول مبناه على أمرين:
1 - سبب نزول الآية وهو ما روي عن ابن عباس قال: لمّا أسلم عبد اللّه بن سلامٍ، وثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيدٍ، ومن أسلم من يهود معهم، فآمنوا وصدّقوا ورغبوا في الإسلام وتنحوا فيه، قالت أحبار يهود وأهل الكفر منهم: ما آمن بمحمّدٍ ولا تبعه إلاّ أشرارنا، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم، وذهبوا إلى غيره، فأنزل اللّه عزّ وجلّ في ذلك من قولهم: {ليسوا سواءً من أهل الكتاب أمّةٌ قائمةٌ يتلون آيات اللّه} إلى قوله: {وأولئك من الصّالحين}.
2 - مرجع الضمير في "ليسوا", وأنه عائد على أهل الكتاب.
القول الثاني: مبناه على مرجع الضمير في "ليسوا", وأنه عائد على اليهود وعلى هذ الأمة؛ إذ تقدم ذكرهما في قوله تعالى: (كنتم خير أمة).
الدراسة:
اختلف أهل العلم في معنى قوله تعالى: (ليسوا سواء) إلى قولين الأول منهم: أن المراد به اليهود, وأن مرجع الضمير في (ليسوا) راجع إلى أهل الكتاب من اليهود وأنهم ليسوا سواء فمنهم القائم بأمر الله تعالى وهم المؤمنون ومنهم الكافر, وأن الوقف على ليسوا سواء وقف تام؛كما ذكر ذلك ابن جرير فقال: يعني بقوله جلّ ثناؤه: {ليسوا سواءً} ليس فريقا أهل الكتاب، أهل الإيمان منهم والكفر سواءً، يعني بذلك: أنّهم غير متساوين، يقول: ليسوا متعادلين، ولكنّهم متفاوتون في الصّلاح والفساد والخير والشّرّ.
وإنّما قيل: ليسوا سواءً؛ لأنّ فيه ذكر الفريقين من أهل الكتاب اللّذين ذكرهما اللّه في قوله: {ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرًا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون}، ثمّ أخبر جلّ ثناؤه عن حال الفريقين، عنده، المؤمنة منهما والكافرة، فقال: {ليسوا سواءً} أي ليس هؤلاء سواءً، المؤمنون منهم والكافرون، ثمّ ابتدأ الخبر جلّ ثناؤه عن صفة الفرقة المؤمنة من أهل الكتاب ومدحهم وأثنى عليهم بعدما وصف الفرقة الفاسقة منهم بما وصفها به من الهلع ونخب الجنان، ومحالفة الذّلّ والصّغار، وملازمة الفاقة والمسكنة، وتحمّل خزي الدّنيا وفضيحة الآخرة، فقال: {من أهل الكتاب أمّةٌ قائمةٌ يتلون آيات اللّه آناء اللّيل وهم يسجدون} الآيات الثّلاث، إلى قوله: {واللّه عليمٌ بالمتّقين}.
وقال ابي حيان: والواو في ليسوا هي لأهل الكتاب السابق ذكرهم في قوله : (وَلَوْ ءامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ).
والثاني: أن المراد هم أهل الكتاب وأمة محمد صلى الله عليه وسلم, وأن مرجع الضمير في (ليسوا) راجع إليهما إذ تقدم ذكرهما في الآيات قبل.
الراجح:
والراجح هو القول الأول أن المراد هم أهل الكتاب كما ذكر ذلك ابن جرير فقال: أولى القولين بالصّواب في ذلك قول من قال: قد تمّت القصّة عند قوله: {ليسوا سواءً} عن إخبار اللّه بأمر مؤمني أهل الكتاب، وأهل الكفر منهم، وأنّ قوله: {من أهل الكتاب أمّةٌ قائمةٌ} خبرٌ مبتدأٌ عن مدح مؤمنيهم، ووصفهم بصفتهم، على ما قاله ابن عبّاسٍ، وقتادة، وابن جريجٍ.
وقال ابو حيان: والأصح أن الواو ضمير عائد على أهل الكتاب ، وسواء خبر ليس . والمعنى : ليس أهل الكتاب مستوين ، بل منهم من آمن بكتابه وبالقرآن ممن أدرك شريعة الإسلام ، أو كان على استقامة فمات قبل أن يدركها .
وقال: والظاهر عود الضمير على أهل الكتاب المذكورين في قوله : (وَلَوْ ءامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ) لتوالي الضمائر عائدة عليهم فكذلك ضمير ليسوا .
وقال السمين الحلبي: قوله تعالى: {لَيْسُواْ سَوَآءً} : الظاهرُ في هذه الآية أن الوقف على «سواء» تامٌ، فإنَّ الواوَ اسمُ «ليس» ، و «سواءً» خبر، والواو تعودُ على أهل الكتاب المتقدِّم ذكرُهم، والمعنى: أنهم منقسمون إلى مؤمن وكافر لقولِهِ: {مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون} [آل عمران: 110] فانتفى استواؤُهم. و «سواء» في الأصلِ مصدرٌ فلذلك وُحِّد.
المراجع:
- تفسير ابن جرير.
- معاني القرآن للزجاج.
- تفسير ابن أبي حاتم.
- تفسير ابن أبي حاتم.
- مجمع الزوائد للهيثمي.
- المحرر الوجيز لابن عطية.
- الكبير للطبراني.
- الدلائل للبيهقي.
- التاريخ الكبير لابن عساكر.
- البحر المحيط لأبي حيان.
- تفسير القرآن العظيم لابن كثير.
- الدر المصون للسمين الحلبي.
والله أعلم