دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > مجموعة المتابعة الذاتية > منتدى المستوى السابع (المجموعة الثانية)

 
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #2  
قديم 25 ذو القعدة 1442هـ/4-07-2021م, 05:25 PM
سارة عبدالله سارة عبدالله غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى السابع
 
تاريخ التسجيل: Jul 2016
المشاركات: 438
افتراضي

التفسير في اللغة:
التفسير مصدر فسر بتشديد السين وفسر بالتخفيف. والفسر الإبانة والكشف لمدلول كلام أو لفظ بكلام آخر هو أوضح لمعنى المفسر عند السامع.
- الفرق بين الفعل بالتخفيف والفعل بالتشديد:
ثم قيل المصدران والفعلان متساويان في المعنى، وقيل يختص المضاعف بإبانة المعقولات
وعزا شهاب الدين أن فرق بالتشديد، فجعلوا الأول للمعاني والثاني للأجسام بناء على أن كثرة الحروف تقتضي زيادة المعنى أو قوته، والمعاني لطيفة يناسبها المخفف، والأجسام كثيفة يناسبها التشديد.
-الرد على تفريق شهاب الدين بين الفعل المضاعف والمخفف:
واستشكله هو بعدم اطراده، وهو ليس من التحرير بالمحل اللائق، بل هو أشبه باللطائف منه بالحقائق، إذ لم يراع العرب في هذا الاستعمال معقولا ولا محسوسا وإنما راعوا الكثرة الحقيقية أو المجازية كما قررنا، ودل عليه استعمال القرآن، ألا ترى أن الاستعمالين ثابتان في الموضع الواحد، كقوله تعالى {وقرآنا فرقناه} قرئ بالتشديد والتخفيف، وقال تعالى حكاية لقول المؤمنين: {لا نفرق بين أحد من رسله} .
- التفسير في الاصطلاح:
اسم للعلم الباحث عن بيان معاني ألفاظ القرآن وما يستفاد منها باختصار أو توسع. والمناسبة بين المعنى الأصلي والمعنى المنقول إليه لا يحتاج إلى تطويل.
- موضوع التفسير:
وموضوع التفسير: ألفاظ القرآن من حيث البحث عن معانيه، وما يستنبط منه وبهذه الحيثية خالف علم القراءات لأن تمايز العلوم-كما يقولون-بتمايز الموضوعات، وحيثيات الموضوعات.
- هل التفسير يعد علما:
هذا وفي عد التفسير علما تسامح؛ إذ العلم إذا أطلق، إما أن يراد به نفس الإدراك، نحو قول أهل المنطق، العلم إما تصور وإما تصديق، وإما أن يراد به الملكة المسماة بالعقل وإما أن يراد به التصديق الجازم وهو مقابل الجهل وهذا غير مراد في عد العلوم وإما أن يراد بالعلم المسائل المعلومات وهي مطلوبات خبرية يبرهن عليها في ذلك العلم وهي قضايا كلية، ومباحث هذا العلم ليست بقضايا يبرهن عليها فما هي بكلية، بل هي تصورات جزئية غالبا لأنه تفسير ألفاظ أو استنباط معان. فأما تفسير الألفاظ فهو من قبيل التعريف اللفظي وأما الاستنباط فمن دلالة الالتزام وليس ذلك من القضية.
فإذ قلنا إن يوم الدين في قوله تعالى: {مالك يوم الدين} هو يوم الجزاء، وإذا قلنا إن قوله تعالى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} مع قوله: {وفصاله في عامين} يؤخذ منه أن أقل الحمل ستة أشهر عند من قال ذلك، لم يكن شيء من ذلك قضية، بل الأول تعريف لفظي، والثاني من دلالة الالتزام .
- سبب اطلاق العلماء على التفسير بأنه علم:
لواحد من وجوه ستة:
الأول: أن مباحثه لكونها تؤدي إلى استنباط علوم كثيرة وقواعد كلية، نزلت منزلة القواعد الكلية لأنها مبدأ لها، ومنشأ، تنزيلا للشيء منزلة ما هو شديد الشبه به بقاعدة ما قارب الشيء يعطى حكمه، ولا شك أن ما تستخرج منه القواعد الكلية والعلوم أجدر بأن يعد علما من عد فروعه علما، وهم قد عدوا تدوين الشعر علما لما فى حفظه من استخراج نكت بلاغية وقواعد لغوية.
والثاني أن نقول: إن اشتراط كون مسائل العلم قضايا كلية يبرهن عليها في العلم خاص بالعلوم المعقولة، لأن هذا اشتراط ذكره الحكماء في تقسيم العلوم، أما العلوم الشرعية والأدبية فلا يشترط فيها ذلك، بل يكفي أن تكون مباحثها مفيدة كمالا علميا لمزاولها، والتفسير أعلاها في ذلك.
الثالث: التعاريف اللفظية تصديقات على رأي بعض المحققين فهي تؤول إلى قضايا، وتفرع المعاني الجمة عنها نزلها منزلة الكلية، والاحتجاج عليها بشعر العرب وغيره يقوم مقام البرهان على المسألة، وهذا الوجه يشترك مع الوجه الأول في تنزيل مباحث التفسير منزلة المسائل، إلا أن وجه التنزيل في الأول راجع إلى ما يتفرع عنها، وهنا راجع إلى ذاتها مع أن التنزيل في الوجه الأول في جميع الشروط الثلاثة وهنا في شرطين، لأن كونها قضايا إنما يجيء على مذهب بعض المنطقيين.
الرابع أن نقول: إن علم التفسير لا يخلو من قواعد كلية في أثنائه مثل تقرير قواعد النسخ عند تفسير {ما ننسخ من آية} وتقرير قواعد التأويل عند تقرير {وما يعلم تأويله} وقواعد المحكم عند تقرير {منه آيات محكمات} فسمي مجموع ذلك وما معه علما تغليبا، وقد اعتنى العلماء بإحصاء كليات تتعلق بالقرآن، وجمعها ابن فارس، وذكرها عنه في الإتقان وعنى بها أبو البقاء الكفوي في كلياته، فلا بدع أن تزاد تلك في وجوه شبه مسائل التفسير بالقواعد الكلية.
الخامس: أن حق التفسير أن يشتمل على بيان أصول التشريع وكلياته فكان بذلك حقيقا بأن يسمى علما ولكن المفسرين ابتدأوا بتقصي معاني القرآن فطفحت عليهم وحسرت دون كثرتها قواهم، فانصرفوا عن الاشتغال بانتزاع كليات التشريع إلا في مواضع قليلة.
السادس وهو الفصل: أن التفسير كان أول ما اشتغل به علماء الإسلام قبل الاشتغال بتدوين بقية العلوم، وفيه كثرت مناظراتهم. وكان يحصل من مزاولته والدربة فيه لصاحبه ملكة يدرك بها أساليب القرآن ودقائق نظمه، فكان بذلك مفيدا علوما كلية لها مزيد اختصاص بالقرآن المجيد، فمن أجل ذلك سمي علما.
- مكانة التفسير بين العلوم الشرعية:
والتفسير أول العلوم الإسلامية ظهورا، إذ قد ظهر الخوض فيه في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، إذ كان بعض أصحابه قد سأل عن بعض معاني القرآن كما سأله عمر رضي الله عنه عن الكلالة، ثم اشتهر فيه بعد من الصحابة علي وابن عباس وهما أكثر الصحابة قولا في التفسير، وزيد بن ثابت وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم، وكثر الخوض فيه، حين دخل في الإسلام من لم يكن عربي السجية، فلزم التصدي لبيان معاني القرآن لهم، وشاع عن التابعين وأشهرهم في ذلك مجاهد وابن جبير، وهو أيضا أشرف العلوم الإسلامية ورأسها على التحقيق.
- أول من صنف في التفسير:
وأما تصنيفه فأول من صنف فيه عبد الملك بن جريج المكي المولود سنة 80 هـ والمتوفى سنة 149 هـ صنف كتابه في تفسير آيات كثيرة وجمع فيه آثارا وغيرها وأكثر روايته عن أصحاب ابن عباس مثل عطاء ومجاهد، وصنفت تفاسير ونسبت روايتها إلى ابن عباس، لكن أهل الأثر تكلموا فيها وهي "تفسير محمد بن السائب الكلبي" المتوفى سنة 146 هـ عن أبي صالح عن ابن عباس، وقد رمي أبو صالح بالكذب حتى لقب بكلمة دروغدت بالفارسية بمعنى الكذاب وهي أوهى الروايات فإذا انضم إليها رواية محمد بن مروان السدي عن الكلبي فهي سلسلة الكذب.
- روايات التفسير:
وهنالك رواية مقاتل ورواية الضحاك، ورواية علي بن أبي طلحة الهاشمي كلها عن ابن عباس، وأصحها رواية علي بن أبي طلحة، وهي التي اعتمدها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه فيما يصدر به من تفسير المفردات على طريقة التعليق، وقد خرج في الإتقان، جميع ما ذكره البخاري من تفسير المفردات، عن ابن أبي طلحة عن ابن عباس مرتبة على سور القرآن. والحاصل أن الرواية عن ابن عباس، قد اتخذها الوضاعون والمدلسون ملجأ لتصحيح ما يروونه كدأب الناس في نسبة كل أمر مجهول من الأخبار والنوادر، لأشهر الناس في ذلك المقصد.
وهنالك روايات تسند لعلي رضي الله عنه، أكثرها من الموضوعات، إلا ما روي بسند صحيح، مثل ما في صحيح البخاري ونحوه، لأن لعلي أفهاما في القرآن كما ورد في صحيح البخاري، عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي هل عندكم شيء من الوحي ليس في كتاب الله? فقال: لا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، ما أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن ثم تلاحق العلماء في تفسير القرآن وسلك كل فريق مسلكا يأوي إليه وذوقا يعتمد عليه.
- مناهج المفسرين:
فمنهم من سلك مسلك نقل ما يؤثر عن السلف، وأول من صنف في هذا المعنى، مالك ابن أنس، وكذلك الداودي تلميذ السيوطي في طبقات المفسرين، وذكره عياض في المدارك إجمالا. وأشهر أهل هذه الطريقة فيما هو بأيدي الناس محمد بن جرير الطبري.
ومنهم من سلك مسلك النظر كأبي إسحاق الزجاج وأبي علي الفارسي، وشغف كثير بنقل القصص عن الإسرائيليات، فكثرت في كتبهم الموضوعات.
- مكانة تفسير الزمخشري وابن عطية:
إلى أن جاء في عصر واحد عالمان جليلان أحدهما بالمشرق، وهو العلامة أبو القاسم محمود الزمخشري، صاحب "الكشاف"، والآخر بالمغرب بالأندلس وهو الشيخ عبد الحق بن عطية، فألف تفسيره المسمى بـ"المحرر الوجيز". كلاهما يغوص على معاني الآيات، ويأتي بشواهدها من كلام العرب ويذكر كلام المفسرين إلا أن منحى البلاغة والعربية بالزمخشري أخص، ومنحى الشريعة على ابن عطية أغلب، وكلاهما عضادتا الباب، ومرجع من بعدهما من أولي الألباب.
- معنى التأويل:
1- من العلماء من جعلهما متساويين، وإلى ذلك ذهب ثعلب وابن الأعرابي وأبو عبيدة، وهو ظاهر كلام الراغب.
2- ومنهم من جعل التفسير للمعنى الظاهر والتأويل للمتشابه.
3- ومنهم من قال: التأويل صرف اللفظ عن ظاهر معناه إلى معنى آخر محتمل لدليل فيكون هنا بالمعنى الأصولي، فإذا فسر قوله تعالى: {يخرج الحي من الميت} بإخراج الطير من البيضة، فهو التفسير، أو بإخراج المسلم من الكافر فهو التأويل.
- معنى التأويل في اللغة :
التأويل مصدر أوله إذا أرجعه إلى الغاية المقصودة، والغاية المقصودة من اللفظ هو معناه وما أراده منه المتكلم به من المعاني، فساوى التفسير، على أنه لا يطلق إلا على ما فيه تفصيل معنى خفي معقول.
- الأدلة على التأويل:
قال الله تعالى: {هل ينظرون إلا تأويله} أي ينتظرون إلا بيانه الذي هو المراد منه، وقال صلى الله عليه وسلم في دعائه لابن عباس: ((اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل))، أي فهم معاني القرآن، وفي حديث عائشة رضي الله عنها كان صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه: ((سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي)) يتأول القرآن أي يعمل بقوله تعالى: {فسبح بحمد ربك واستغفره} فلذلك جمع في دعائه التسبيح والحمد وذكر لفظ الرب وطلب المغفرة فقولها: "يتأول"، صريح في أنه فسر الآية بالظاهر منها ولم يحملها على ما تشير إليه من انتهاء مدة الرسالة وقرب انتقاله صلى الله عليه وسلم، الذي فهمه منها عمر وابن عباس رضي الله عنهما.


- معنى استمداد علم التفسير:

استمداد العلم يراد به توقفه على معلومات سابق وجودها على وجود ذلك العلم عند مدونيه لتكون عونا لهم على إتقان تدوين ذلك العلم.
- الاستمداد لغة:
وسمي ذلك في الاصطلاح بالاستمداد عن تشبيه احتياج العلم لتلك المعلومات بطلب المدد، والمدد العون والغواث، فقرنوا الفعل بحرفي الطلب وهما السين والتاء.
- المراد بالعربية:
معرفة مقاصد العرب من كلامهم وأدب لغتهم سواء حصلت تلك المعرفة، بالسجية والسليقة، كالمعرفة الحاصلة للعرب الذين نزل القرآن بين ظهرانيهم، أم حصلت بالتلقي والتعلم كالمعرفة الحاصلة للمولدين الذين شافهوا بقية العرب ومارسوهم، والمولدين الذين درسوا علوم اللسان ودونوها.
-علاقة العربية بفهم القرآن:
إن القرآن كلام عربي فكانت قواعد العربية طريقا لفهم معانيه، وبدون ذلك يقع الغلط وسوء الفهم، لمن ليس بعربي بالسليقة.
- المقصود بقواعد العربية وعلاقتها بالتفسير:
مجموع علوم اللسان العربي، وهي: متن اللغة، والتصريف، والنحو، والمعاني، والبيان. ومن وراء ذلك استعمال العرب المتبع من أساليبهم في خطبهم وأشعارهم وتراكيب بلغائهم، ويدخل في ذلك ما يجري مجرى التمثيل والاستئناس للتفسير من أفهام أهل اللسان أنفسهم لمعاني آيات غير واضحة الدلالة عند المولدين، قال في الكشاف: ومن حق مفسر كتاب الله الباهر، وكلامه المعجز أن يتعاهد في مذاهبه بقاء النظم على حسنه والبلاغة على كمالها، وما وقع به التحدي سليما من القادح، فإذا لم يتعاهد أوضاع اللغة فهو من تعاهد النظم والبلاغة على مراحل" .
- علاقة علم البيان والبلاغة بالتفسير:
ولعلمي البيان والمعاني مزيد اختصاص بعلم التفسير لأنهما وسيلة لإظهار خصائص البلاغة القرآنية، وما تشتمل عليه الآيات من تفاصيل المعاني وإظهار وجه الإعجاز ولذلك كان هذان العلمان يسميان في القديم علم دلائل الإعجاز.
- نقولات للعلماء في بيان أهمية علمي البيان والمعاني للمفسر:
قال في الكشاف: علم التفسير الذي لا يتم لتعاطيه وإجالة النظر فيه كل ذي علم، فالفقيه وإن برز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام، والمتكلم وإن برز أهل الدنيا في صناعة الكلام، وحافظ القصص والأخبار وإن كان من ابن القرية أحفظ، والواعظ وإن كان من الحسن البصري أوعظ، والنحوي وإن كان أنحى من سيبويه، واللغوي وإن علك اللغات بقوة لحييه، لا يتصدى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق، إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن وهما علما البيان والمعاني اهـ".
وقال في آخر فن البيان من "المفتاح": "لا أعلم في باب التفسير بعد علم الأصول أقرأ على المرء لمراد الله من كلامه، من علمي المعاني والبيان، ولا أعون على تعاطي تأويل متشابهاته، ولا أنفع في درك لطائف نكته وأسراره، ولا أكشف للقناع عن وجه إعجازه، ولكم آية من آيات القرآن تراها قد ضيمت حقها واستلبت ماءها ورونقها أن وقعت إلى من ليسوا من أهل هذا العلم، فأخذوا بها في مآخذ مردودة، وحملوها على محامل غير مقصودة إلخ".
وقال الشيخ عبد القاهر في "دلائل الإعجاز". في آخر فصل المجاز الحكمي: "ومن عادة قوم ممن يتعاطى التفسير بغير علم، أن يتوهموا ألباب الألفاظ الموضوعة على المجاز والتمثيل أنها على ظواهرها "أي على الحقيقة"، فيفسدوا المعنى بذلك ويبطلوا الغرض ويمنعوا أنفسهم والسامع منهم العلم بموضع البلاغة وبمكان الشرف، وناهيك بهم إذا أخذوا في ذكر الوجوه وجعلوا يكثرون في غير طائل، هنالك ترى ما شئت من باب جهل قد فتحوه، وزند ضلالة قد قدحوا به".
وأما استعمال العرب، فهو التملي من أساليبهم في خطبهم وأشعارهم وأمثالهم وعوائدهم ومحادثاتهم، ليحصل بذلك لممارسة المولد ذوق يقوم عنده مقام السليقة والسجية عند العربي القح والذوق كيفية للنفس بها تدرك الخواص والمزايا التي للكلام البليغ قال شيخنا الجد الوزير: "وهي ناشئة عن تتبع استعمال البلغاء فتحصل لغير العربي بتتبع موارد الاستعمال والتدبر في الكلام المقطوع ببلوغه غاية البلاغة، فدعوى معرفة الذوق لا تقبل إلا من الخاصة وهو يضعف ويقوى بحسب مثافنة ذلك التدبر" اهـ.
-أهمية ديوان العرب في التفسير:
روى أئمة الأدب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ على المنبر قوله تعالى: {أو يأخذهم على تخوف} ثم قال: ما تقولون فيها? أي في معنى التخوف، فقام شيخ من هذيل فقال: هذه لغتنا، التخوف التنقص، فقال عمر: وهل تعرف العرب ذلك في كلامها? قال: نعم. قال: أبو كبير الهذلي:
تخوف الرحل منها تامكا قردا = كما تخوف عود النبعة السفن
فقال عمر: "عليكم بديوانكم لا تضلوا، هو شعر العرب فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم" وعن ابن عباس: الشعر ديوان العرب فإذا خفي علينا الحرف من القرآن، الذي أنزله الله بلغتهم رجعنا إلى ديوانهم فالتمسنا معرفة ذلك منه وكان كثيرا ما ينشد الشعر إذا سئل عن بعض حروف القرآن.
- هل النبي صلى الله عليه وسلم فسر القرآن:
ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، من بيان المراد من بعض القرآن في مواضع الإشكال والإجمال، وذلك شيء قليل. قال ابن عطية عن عائشة ما كان رسول الله يفسر من القرآن إلا آيات معدودات علمه إياهن جبريل، قال معناه في مغيبات القرآن وتفسير مجمله مما لا سبيل إليه إلا بتوقيف.
- أسباب النزول من التفسيرالتوقيفي :
قلت: أو كان تفسير لا توقيف فيه، كما بين لعدي بن حاتم أن الخيط الأبيض والخيط الأسود هما سواد الليل وبياض النهار، وقال له: ((إنك لعريض الوسادة))، وفي رواية ((إنك لعريض القفا))، وما نقل عن الصحابة الذين شاهدوا نزول الوحي من بيان سبب النزول، وناسخ ومنسوخ، وتفسير مبهم، وتوضيح واقعة من كل ما طريقهم فيه الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم، دون الرأي وذلك مثل كون المراد من المغضوب عليهم اليهود ومن الضالين النصارى، ومثل كون المراد من قوله تعالى: {ذرني ومن خلقت وحيدا} الوليد بن المغيرة المخزومي أبا خالد بن الوليد، وكون المراد من قوله تعالى: {أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا} الآية، العاصي بن وائل السهمي في خصومته بينه وبين خباب بن الأرت كما في صحيح البخاري في تفسير سورة المدثر.
قال ابن عباس مكثت سنين أريد أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يمنعني إلا مهابته، ثم سألته فقال: هما حفصة وعائشة.
- العبرة في سبب النزول بعموم اللفظ لا بخصوص السبب":
ومعنى كون أسباب النزول من مادة التفسير، أنها تعين على تفسير المراد، وليس المراد أن لفظ الآية يقصر عليها؛ لأن سبب النزول لا يخصص، قال تقي الدين السبكي: وكما أن سبب النزول لا يخصص، كذلك خصوص غرض الكلام لا يخصص، كأن يرد خاص ثم يعقبه عام للمناسبة فلا يقتضي تخصيص العام، نحو: {فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير}. وقد يكون المروي في سبب النزول مبينا ومؤولا لظاهر غير مقصود، فقد توهم قدامة بن مظعون من قوله تعالى: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا} فاعتذر بها لعمر بن الخطاب في شرب قدامة خمرا، روي أن عمر استعمل قدامة بن مظعون على البحرين فقدم الجارود على عمر فقال: إن قدامة شرب فسكر، فقال عمر: من يشهد على ما تقول? قال الجارود: أبو هريرة يشهد على ما أقول وذكر الحديث، فقال عمر: يا قدامة إني جالدك، قال: والله لو شربت كما يقولون ما كان لك أن تجلدني، قال عمر: ولم? قال لأن الله يقول: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح} إلخ، فقال عمر: إنك أخطأت التأويل يا قدامة، إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله. وفي رواية فقال: لم تجلدني بيني وبينك كتاب الله، فقال عمر: وأي كتاب الله تجد أن لا أجلدك? قال: إن الله يقول في كتابه {ليس على الذين آمنوا} إلى آخر الآية فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وأحسنوا، شهدت مع رسول الله بدرا وأحدا والخندق والمشاهد، فقال عمر: ألا تردون عليه قوله فقال ابن عباس: إن هؤلاء الآيات أنزلن عذرا للماضين وحجة على الباقين، فعذر الماضين بأنهم لقوا الله قبل أن تحرم عليهم الخمر، وحجة على الباقين لأن الله يقول: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر} ثم قرأ إلى آخر الآية الأخرى، فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا وأحسنوا فإن الله قد نهى أن يشرب الخمر، قال عمر: صدقت الحديث.
- الاجماع في التفسير:
وتشمل الآثار إجماع الأمة على تفسير معنى، إذ لا يكون إلا عن مستند كإجماعهم على أن المراد من الأخت في آية الكلالة الأولى هي الأخت للأم، وأن المراد من الصلاة في سورة الجمعة هي صلاة الجمعة، وكذلك المعلومات بالضرورة كلها ككون الصلاة مرادا منها الهيئة المخصوصة دون الدعاء، والزكاة المال المخصوص المدفوع.
- القراءات وحاجة التفسير إليها:
وأما القراءات فلا يحتاج إليها إلا في حين الاستدلال بالقراءة على تفسير غيرها، وإنما يكون في معنى الترجيح لأحد المعاني القائمة من الآية أو لاستظهار على المعنى، فذكر القراءة كذكر الشاهد من كلام العرب؛ لأنها إن كانت مشهورة، فلا جرم أنها تكون حجة لغوية، وإن كانت شاذة فحجتها لا من حيث الرواية، لأنها لا تكون صحيحة الرواية، ولكن من حيث إن قارئها ما قرأ بها إلا استنادا لاستعمال عربي صحيح، إذ لا يكون القارئ معتدا به إلا إذا عرفت سلامة عربيته، كما احتجوا على أن أصل {الحمد لله} أنه منصوب على المفعول المطلق بقراءة هارون العتكي (الحمدَ لله) بالنصب كما في الكشاف، وبذلك يظهر أن القراءة لا تعد تفسيرا من حيث هي طريق في أداء ألفاظ القرآن، بل من حيث أنها شاهد لغوي فرجعت إلى علم اللغة.
- أخبار العرب هل نحتاجها في التفسير؟
وأما أخبار العرب فهي من جملة أدبهم. وإنما خصصتها بالذكر تنبيها لمن يتوهم أن الاشتغال بها من اللغو فهي يستعان بها على فهم ما أوجزه القرآن في سوقها لأن القرآن إنما يذكر القصص والأخبار للموعظة والاعتبار، لا لأن يتحادث بها الناس في الأسمار، فبمعرفة الأخبار يعرف ما أشارت له الآيات من دقائق المعاني، فنحو قوله تعالى: {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا} وقوله: {قتل أصحاب الأخدود} يتوقف على معرفة أخبارهم عند العرب.
- علاقة أصول الفقه بالتفسير:
وأما أصول الفقه فلم يكونوا يعدونه من مادة التفسير، ولكنهم يذكرون أحكام الأوامر والنواهي والعموم وهي من أصول الفقه، فتحصل أن بعضه يكون مادة للتفسير، وذلك من جهتين: إحداهما أن علم الأصول قد أودعت فيه مسائل كثيرة هي من طرق استعمال كلام العرب وفهم موارد اللغة أهمل التنبيه عليها علماء العربية مثل مسائل الفحوى ومفهوم المخالفة، وقد عد الغزالي علم الأصول من جملة العلوم التي تتعلق بالقرآن وبأحكامه فلا جرم أن يكون مادة للتفسير.
الجهة الثانية: أن علم الأصول يضبط قواعد الاستنباط ويفصح عنها فهو آلة للمفسر في استنباط المعاني الشرعية من آياتها.
- هل علم الكلام يحتاجه المفسر؟
وقال الآلوسي لتوقف فهم ما يجوز على الله ويستحيل على الكلام يعني من آيات التشابه في الصفات مثل {الرحمن على العرش استوى}، وهذا التوجيه أقرب من توجيه عبد الحكيم، وهو مأخوذ من كلام السيد الجرجاني في شرح المفتاح، وكلاهما اشتباه لأن كون القرآن كلام الله قد تقرر عند سلف الأمة قبل علم الكلام، ولا أثر له في التفسير، وأما معرفة ما يجوز وما يستحيل فكذلك، ولا يحتاج لعلم الكلام إلا في التوسع في إقامة الأدلة على استحالة بعض المعاني، وقد أبنت أن ما يحتاج إليه المتوسع لا يصير مادة للتفسير.
-هل المفسر يحتاج الفقه؟
ولم نعد الفقه من مادة علم التفسير كما فعل السيوطي، لعدم توقف فهم القرآن، على مسائل الفقه، فإن علم الفقه متأخر عن التفسير وفرع عنه، وإنما يحتاج المفسر إلى مسائل الفقه، عند قصد التوسع في تفسيره، للتوسع في طرق الاستنباط وتفصيل المعاني تشريعا وآدابا وعلوما، ولذلك لا يكاد يحصر ما يحتاجه المتبحر في ذلك من العلوم، ويوشك أن يكون المفسر المتوسع محتاجا إلى الإلمام بكل العلوم وهذا المقام هو الذي أشار له البيضاوي بقوله: "لا يليق لتعاطيه، والتصدي للتكلم فيه، إلا من برع في العلوم الدينية كلها أصولها وفروعها وفي الصناعات العربية والفنون الأدبية بأنواعها".
- الخلاصة في استمداد علم التفسير:
تنبيه: اعلم أنه لا يعد من استمداد علم التفسير، الآثار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير آيات، ولا ما يروى عن الصحابة في ذلك لأن ذلك من التفسير لا من مدده، ولا يعد أيضا من استمداد التفسير ما في بعض آي القرآن من معنى يفسر بعضا آخر منها، لأن ذلك من قبيل حمل بعض الكلام على بعض، كتخصيص العموم وتقييد المطلق وبيان المجمل وتأويل الظاهر ودلالة الاقتضاء وفحوى الخطاب ولحن الخطاب، ومفهوم المخالفة.
ذكر ابن هشام، في مغني اللبيب، في حرف لا، عن أبي علي الفارسي، أن القرآن كله كالسورة الواحدة، ولهذا يذكر الشيء في سورة وجوابه في سورة أخرى، نحو: {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} وجوابه {ما أنت بنعمة ربك بمجنون} اهـ.
وهذا كلام لا يحسن إطلاقه، لأن القرآن قد يحمل بعض آياته على بعض وقد يستقل بعضها عن بعض، إذ ليس يتعين أن يكون المعنى المقصود في بعض الآيات مقصودا في جميع نظائرها، بله ما يقارب غرضها.
واعلم أن استمداد علم التفسير، من هذه المواد لا ينافي كونه رأس العلوم الإسلامية كما تقدم، لأن كونه رأس العلوم الإسلامية، معناه أنه أصل لعلوم الإسلام على وجه الإجمال، فأما استمداده من بعض العلوم الإسلامية، فذلك استمداد لقصد تفصيل التفسير على وجه أتم من الإجمال، وهو أصل لما استمد منه باختلاف الاعتبار على ما حققه عبد الحكيم.

- حذرالصحابة من التفسير بالرأي:
إن قلت: أتراك بما عددت من علوم التفسير تثبت أن تفسيرا كثيرا للقرآن لم يستند إلى مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، وتبيح لمن استجمع من تلك العلوم حظا كافيا وذوقا ينفتح له بهما من معاني القرآن ما ينفتح عليه، أن يفسر من آي القرآن بما لم يؤثر عن هؤلاء، فيفسر بمعان تقتضيها العلوم التي يستمد منها علم التفسير، وكيف حال التحذير الواقع في الحديث الذي رواه الترمذي عن ابن عباس أن رسول الله قال: ((من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار))، وفي رواية: ((من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار)). والحديث الذي رواه أبو داود والترمذي والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ" وكيف محمل ما روي من تحاشي بعض السلف عن التفسير بغير توقيف?
هل التفسير مقتصرا على التفسير بالمأثورة فحسب؟
فقد روي عن أبي بكر الصديق أنه سئل عن تفسير الأب في قوله {وفاكهة وأبا }. فقال: "أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني إذا قلت في القرآن برأيي". ويروى عن سعيد بن المسيب والشعبي إحجامهما عن ذلك.
قلت: أراني كما حسبت أثبت ذلك وأبيحه، وهل اتسعت التفاسير وتفننت مستنبطات معاني القرآن إلا بما رزقه الذين أوتوا العلم من فهم في كتاب الله. وهل يتحقق قول علمائنا: إن القرآن لا تنقضي عجائبه إلا بازدياد المعاني باتساع التفسير? ولولا ذلك لكان تفسير القرآن مختصرا في ورقات قليلة. وقد قالت عائشة: ما كان رسول الله يفسر من كتاب الله إلا آيات معدودات علمه جبريل إياهن كما تقدم في المقدمة الثانية.
ثم لو كان التفسير مقصورا على بيان معاني مفردات القرآن من جهة العربية لكان التفسير نزرا، ونحن نشاهد كثرة أقوال السلف من الصحابة، فمن يليهم في تفسير آيات القرآن وما أكثر ذلك الاستنباط برأيهم وعلمهم.
-
قال الغزالي والقرطبي: لا يصح أن يكون كل ما قاله الصحابة في التفسير مسموعا من النبي صلى الله عليه وسلم لوجهين: أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه من التفسير إلا تفسير آيات قليلة وهي ما تقدم عن عائشة. الثاني أنهم اختلفوا في التفسير على وجوه مختلفة لا يمكن الجمع بينها. وسماع جميعها من رسول الله محال، ولو كان بعضها مسموعا لترك الآخر، أي لو كان بعضها مسموعا لقال قائله: إنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع إليه من خالفه.
- هل فسر الصحابة القرآن الكريم؟
فتبين على القطع أن كل مفسر قال في معنى الآية بما ظهر له باستنباطه. روى البخاري في صحيحه عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله? قال: "لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لا أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن" إلخ وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس فقال: ((اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)) واتفق العلماء على أن المراد بالتأويل تأويل القرآن، وقد ذكر فقهاؤنا في آداب قراءة القرآن أن التفهم مع قلة القراءة أفضل من كثرة القراءة بلا تفهم، قال الغزالي في الإحياء: "التدبر في قراءته إعادة النظر في الآية والتفهم أن يستوضح من كل آية ما يليق بها كي تتكشف له من الأسرار معان مكنونة لا تتكشف إلا للموفقين قال: ومن موانع الفهم أن يكون قد قرأ تفسيرا واعتقد أن لا معنى لكلمات القرآن إلا ما تناوله النقل عن ابن عباس وابن مجاهد، وأن ما وراء ذلك تفسير بالرأي فهذا من الحجب العظيمة".
- هل يجوز التفسير بالرأي؟
وقال فخر الدين في تفسير قوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} في سورة النساء وقد ثبت في أصول الفقه أن المتقدمين إذا ذكروا وجها في تفسير الآية فذلك لا يمنع المتأخرين من استخراج وجه آخر في تفسيرها وإلا لصارت الدقائق التي يستنبطها المتأخرون في التفسير مردودة، وذلك لا يقوله إلا مقلد خلف بضم الخاء ا هـ. وقال سفيان بن عيينة في قوله تعالى: {ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون} هي تسلية للمظلوم وتهديد للظالم، فقيل له: من قال هذا? فغضب وقال: إنما قاله من علمه يريد نفسه، وقال أبو بكر ابن العربي في العواصم إنه أملى على سورة نوح خمسمائة مسألة وعلى قصة موسى ثمانمائة مسألة.
وهل استنباط الأحكام التشريعية من القرآن في خلال القرون الثلاثة الأولى من قرون الإسلام إلا من قبيل التفسير لآيات القرآن بما لم يسبق تفسيرها به قبل ذلك? وهذا الإمام الشافعي يقول: تطلبت دليلا على حجية الإجماع فظفرت به في قوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا}.
قال شرف الدين الطيبي في شرح الكشاف في سورة الشعراء: شرط التفسير الصحيح أن يكون مطابقا للفظ من حيث الاستعمال، سليما من التكلف عريا من التعسف، وصاحب الكشاف يسمي ما كان على خلاف ذلك بدع التفاسير.

- الجواب عن الشبهة التي نشأت من الآثار المروية في التحذير من تفسير القرآن بالرأي :
مرجعه إلى أحد خمسة وجوه:
أولها: أن المراد بالرأي هو القول عن مجرد خاطر دون استناد إلى نظر في أدلة العربية ومقاصد الشريعة وتصاريفها، وما لا بد منه من معرفة الناسخ والمنسوخ وسبب النزول، فهذا لا محالة إن أصاب فقد أخطأ في تصوره بلا علم، لأنه لم يكن مضمون الصواب كقول المثل: "رمية من غير رام" وهذا كمن فسر {الم} إن الله أنزل جبريل على محمد بالقرآن فإنه لا مستند لذلك.
- الرد على أن مقولة الصديق "أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني إذا قلت في القرآن برأيي"
أن ذلك من الورع خشية الوقوع في الخطأ في كل ما لم يقم له فيه دليل أو في مواضع لم تدع الحاجة إلى التفسير فيها، ألم تر أنه سئل عن الكلالة في آية النساء فقال: أقول فيها برأي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان إلخ. وعلى هذا المحمل ما روي عن الشعبي وسعيد أي أنهما تباعدا عما يوقع في ذلك ولو على احتمال بعيد مبالغة في الورع ودفعا للاحتمال الضعيف، وإلا فإن الله تعالى ما تعبدنا في مثل هذا إلا ببذل الوسع مع ظن الإصابة.
ثانيها: أن لا يتدبر القرآن حق تدبره فيفسره بما يخطر له من بادئ الرأي دون إحاطة بجوانب الآية ومواد التفسير مقتصرا على بعض الأدلة دون بعض كأن يعتمد على ما يبدو من وجه في العربية فقط، كمن يفسر قوله تعالى: {ما أصابك من حسنة فمن الله} الآية على ظاهر معناها يقول، إن الخير من الله والشر من فعل الإنسان بقطع النظر على الأدلة الشرعية التي تقتضي أن لا يقع إلا ما أراد الله غافلا عما سبق من قوله تعالى: {قل كل من عند الله} أو بما يبدو من ظاهر اللغة دون استعمال العرب كمن يقول في قوله تعالى: {وآتينا ثمود الناقة مبصرة} فيفسر مبصرة بأنها ذات بصر لم تكن عمياء، فهذا من الرأي المذموم لفساده.
ثالثها: أن يكون له ميل إلى نزعة أو مذهب أو نحلة فيتأول القرآن على وفق رأيه ويصرفه عن المراد , كمن يتأول آيات الصفات.
رابعها: أن يفسر القرآن برأي مستند إلى ما يقتضيه اللفظ ثم يزعم أن ذلك هو المراد دون غيره لما في ذلك من التضييق على المتأولين.
خامسها: أن يكون القصد من التحذير أخذ الحيطة في التدبر والتأويل ونبذ التسرع إلى ذلك، وهذا مقام تفاوت العلماء فيه واشتد الغلو في الورع ببعضهم حتى كان لا يذكر تفسير شيء غير عازيه إلى غيره.
- اختلاف رأي العلماء في التفسير بالرأي:
أما الذين جمدوا على القول بأن تفسير القرآن يجب أن لا يعدو ما هو مأثور فهم رموا هذه الكلمة على عواهنها ولم يضبطوا مرادهم من المأثور عمن يؤثر، فإن أرادوا به ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من تفسير بعض آيات إن كان مرويا بسند مقبول من صحيح أو حسن، فإذا التزموا هذا الظن بهم فقد ضيقوا سعة معاني القرآن وينابيع ما يستنبط من علومه، وناقضوا أنفسهم فيما دونوه من التفاسير، وغلطوا سلفهم فيما تأولوه، إذ لا ملجأ لهم من الاعتراف بأن أئمة المسلمين من الصحابة فمن بعدهم لم يقصروا أنفسهم على أن يرووا ما بلغهم من تفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد سأل عمر بن الخطاب أهل العلم عن معاني آيات كثيرة ولم يشترط عليهم أن يرووا له ما بلغهم في تفسيرها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن أرادوا بالمأثور ما روي عن النبي وعن الصحابة خاصة وهو ما يظهر من صنيع السيوطي في تفسيره الدر المنثور، لم يتسع ذلك المضيق إلا قليلا ولم يغن عن أهل التفسير فتيلا، لأن أكثر الصحابة لا يؤثر عنهم في التفسير إلا شيء قليل سوى ما يروى عن علي بن أبي طالب على ما فيه من صحيح وضعيف وموضوع، وقد ثبت عنه أنه قال: ما عندي مما ليس في كتاب الله شيء إلا فهما يؤتيه الله. وما يروى عن ابن مسعود وعبد الله بن عمر وأنس وأبي هريرة. وأما ابن عباس فكان أكثر ما يروى عنه قولا برأيه على تفاوت بين رواته. وإن أرادوا بالمأثور ما كان مرويا قبل تدوين التفاسير الأول مثل ما يروى عن أصحاب ابن عباس وأصحاب ابن مسعود، فقد أخذوا يفتحون الباب من شقه، ويقربون ما بعد من الشقة، إذ لا محيص لهم من الاعتراف بأن التابعين قالوا أقوالا في معاني القرآن لم يسندوها ولا ادعوا أنها محذوفة الأسانيد، وقد اختلفت أقوالهم في معاني آيات كثيرة اختلافا ينبئ إنباء واضحا بأنهم إنما تأولوا تلك الآيات من أفهامهم كما يعلمه من له علم بأقوالهم، وهي ثابتة في تفسير الطبري ونظرائه، وقد التزم الطبري في تفسيره أن يقتصر على ما هو مروي عن الصحابة والتابعين، لكنه لا يلبث في كل آية أن يتخطى ذلك إلى اختياره منها وترجيح بعضها على بعض بشواهد من كلام العرب، وحسبه بذلك تجاوزا لما حدده من الاقتصار على التفسير بالمأثور وذلك طريق ليس بنهج، وقد سبقه إليه بقي بن مخلد ولم نقف على تفسيره، وشاكل الطبري فيه معاصروه، مثل ابن حاتم[وابن مردويه والحاكم، فلله در الذين لم يحبسوا أنفسهم في تفسير القرآن على ما هو مأثور مثل الفراء وأبي عبيدة من الأولين، والزجاج والرماني ممن بعدهم، ثم الذين سلكوا طريقهم مثل الزمخشري وابن عطية.
- طائفة الباطنية:
طائفة التزمت تفسير القرآن بما يوافق هواها، وصرفوا ألفاظ القرآن عن ظواهرها بما سموه الباطن، وزعموا أن القرآن إنما نزل متضمنا لكنايات ورموز عن أغراض، وأصل هؤلاء طائفة من غلاة الشيعة عرفوا عند أهل العلم بالباطنية فلقبوهم بالوصف الذي عرفوهم به، وهم يعرفون عند المؤرخين بالإسماعيلية لأنهم ينسبون مذهبهم إلى جعفر بن إسماعيل الصادق، ويعتقدون عصمته وإمامته بعد أبيه بالوصاية، ويرون أن لا بد للمسلمين من إمام هدى من آل البيت هو الذي يقيم الدين، ويبين مراد الله.
- سبب نشوء المذهب الباطني في التفسير:
ولما توقعوا أن يحاجهم العلماء بأدلة القرآن والسنة رأوا أن لا محيص لهم من تأويل تلك الحجج التي تقوم في وجه بدعتهم، وأنهم إن خصوها بالتأويل وصرف اللفظ إلى الباطن اتهمهم الناس بالتعصب والتحكم فرأوا صرف جميع القرآن عن ظاهره وبنوه على أن القرآن رموز لمعان خفية في صورة ألفاظ تفيد معاني ظاهرة ليشتغل بها عامة المسلمين، وزعموا أن ذلك شأن الحكماء.
- أصل المذهب الباطني:
فمذهبهم مبني على قواعد الحكمة الإشراقية ومذهب التناسخ والحلولية فهو خليط من ذلك، ومن طقوس الديانات اليهودية والنصرانية وبعض طرائق الفلسفة ودين زرادشت. وعندهم أن الله يحل في كل رسول وإمام وفي الأماكن المقدسة، وأنه يشبه الخلق تعالى وتقدس وكل علوي يحل فيه الإله. وتكلفوا لتفسير القرآن بما يساعد الأصول التي أسسوها.
-موقف العلماء من مذهب الباطنية:
وقد تصدى للرد عليهم الغزالي في كتابه الملقب بـ "المستظهري". وقال: إذا قلنا بالباطن فالباطن لا ضبط له بل تتعارض فيه الخواطر فيمكن تنزيل الآية على وجوه شتى اهـ. يعني والذي يتخذونه حجة لهم يمكن أن نقلبه عليهم وندعي أنه باطن القرآن لأن المعنى الظاهر هو الذي لا يمكن اختلاف الناس فيه لاستناده للغة الموضوعة من قبل. وأما الباطن فلا يقوم فهم أحد فيه حجة على غيره اللهم إلا إذا زعموا أنه لا يتلقى إلا من الإمام المعصوم ولا إخالهم إلا قائلين ذلك. ويؤيد هذا ما وقع في بعض قراطيسهم قالوا إنما ينتقل إلى البدل مع عدم الأصل، والنظر بدل من الخبر فإن كلام الله هو الأصل فهو خلق الإنسان وعلمه البيان والإمام هو خليفته ومع وجود الخليفة الذي يبين قوله فلا ينتقل إلى النظر اهـ وبين ابن العربي في كتاب العواصم شيئا من فضائح مذهبهم بما لا حاجة إلى التطويل به هنا.
- الرد على من زعم أن للباطن أصل في الأثر:
فإن قلت فما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن للقرآن ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا)). وعن ابن عباس أنه قال: إن للقرآن ظهرا وبطنا. قلت لم يصح ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، بله المروي عن ابن عباس فمن هو المتصدي لروايته عنه? على أنهم ذكروا من بقية كلام ابن عباس أنه قال فظهره التلاوة وبطنه التأويل فقد أوضح مراده إن صح عنه بأن الظهر هو اللفظ والبطن هو المعنى. ومن تفسير الباطنية تفسير القاشاني وكثير من أقوالهم مبثوث في "رسائل إخوان الصفاء. "
- الفرق بين الباطنية والصوفيه في التفسير:
أما ما يتكلم به أهل الإشارات من الصوفية في بعض آيات القرآن من معان لا تجري على ألفاظ القرآن ظاهرا ولكن بتأويل ونحوه فينبغي أن تعلموا أنهم ما كانوا يدعون أن كلامهم في ذلك تفسير للقرآن، بل يعنون أن الآية تصلح للتمثل بها في الغرض المتكلم فيه، وحسبكم في ذلك أنهم سموها إشارات ولم يسموها معاني، فبذلك فارق قولهم قول الباطنية. ولعلماء الحق فيها رأيان: فالغزالي يراها مقبولة، قال في كتاب من "الإحياء": إذا قلنا في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة)) فهذا ظاهره أو إشارته أن القلب بيت وهو مهبط الملائكة ومستقر آثارهم، والصفات الرديئة كالغضب والشهوة والحسد والحقد والعجب كلاب نابحة في القلب فلا تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب، ونور الله لا يقذفه في القلب إلا بواسطة الملائكة، فقلب كهذا لا يقذف فيه النور. وقال: ولست أقول إن المراد من الحديث بلفظ البيت القلب وبالكلب الصفة المذمومة ولكن أقول هو تنبيه عليه، وفرق بين تغيير الظاهر وبين التنبيه على البواطن من ذكر الظواهر اهـ. فبهذه الدقيقة فارق نزعة الباطنية. ومثل هذا قريب من تفسير لفظ عام في آية بخاص من جزئياته كما وقع في كتاب المغازي من صحيح البخاري عن عمرو بن عطاء في قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا} قال هم كفار قريش، ومحمد نعمة الله {وأحلوا قومهم دار البوار} قال يوم بدر.
-موقف العلماء من الصوفية والاشارات في التفسير:
وابن العربي في كتاب "العواصم" يرى إبطال هذه الإشارات كلها حتى أنه بعد أن ذكر نحلة الباطنية وذكر "رسائل إخوان الصفاء" أطلق القول في إبطال أن يكون للقرآن باطن غير ظاهره، وحتى أنه بعد ما نوه بالثناء على الغزالي في تصديه للرد على الباطنية والفلاسفة قال: "وقد كان أبو حامد بدرا في ظلمة الليالي، وعقدا في لبة المعالي، حتى أوغل في التصوف، وأكثر معهم التصرف، فخرج عن الحقيقة، وحاد في أكثر أقواله عن الطريقة" اهـ.
-انحاء الاشارة المقبولة في القرآن:
وعندي إن هذه الإشارات لا تعدو واحدا من ثلاثة أنحاء: الأول ما كان يجري فيه معنى الآية مجرى التمثيل لحال شبيه بذلك المعنى كما يقولون مثلا {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه} أنه إشارة للقلوب لأنها مواضع الخضوع لله تعالى إذ بها يعرف فتسجد له القلوب بفناء النفوس.
الثاني: ما كان من نحو التفاؤل فقد يكون للكلمة معنى يسبق من صورتها إلى السمع هو غير معناها المراد وذلك من باب انصراف ذهن السامع إلى ما هو المهم عنده، والذي يجول في خاطره .
الثالث: عبر ومواعظ وشأن أهل النفوس اليقظى أن ينتفعوا من كل شيء ويأخذوا الحكمة حيث وجدوها فما ظنك بهم إذا قرأوا القرآن وتدبروه فاتعظوا بمواعظه فإذا أخذوا من قوله تعالى: {فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا} اقتبسوا أن القلب الذي لم يمتثل رسول المعارف العليا تكون عاقبته وبالا.
- هل ينسب للقرآن المعنى الاشاري؟
فنسبة الإشارة إلى لفظ القرآن مجازية لأنها إنما تشير لمن استعدت عقولهم وتدبرهم في حال من الأحوال الثلاثة ولا ينتفع بها غير أولئك، فلما كانت آيات القرآن قد أنارت تدبرهم وأثارت اعتبارهم نسبوا تلك الإشارة للآية. فليست تلك الإشارة هي حق الدلالة اللفظية والاستعمالية حتى تكون من لوازم اللفظ وتوابعه كما قد تبين. وكل إشارة خرجت عن حد هذه الثلاثة الأحوال إلى ما عداها فهي تقترب إلى قول الباطنية رويدا رويدا إلى أن تبلغ عين مقالاتهم وقد بصرناكم بالحد الفارق بينهما، فإذا رأيتم اختلاطه فحققوا مناطه، وفي أيديكم فيصل الحق فدونكم اختراطه.
 هل دلالة الاشارة تتعلق بالمعنى الاشاري؟
وليس من الإشارة ما يعرف في الأصول بدلالة الإشارة، وفحوى الخطاب، وفهم الاستغراق من لام التعريف في المقام الخطابي، ودلالة التضمن والالتزام كما أخذ العلماء من تنبيهات القرآن استدلالا لمشروعية أشياء، كاستدلالهم على مشروعية الوكالة من قوله تعالى: {فابعثوا أحدكم بورقكم هذه} ومشروعية الضمان من قوله: {وأنا به زعيم}. ومشروعية القياس من قوله: {لتحكم بين الناس بما أراك الله} ولا بما هو بالمعنى المجازي نحو {يا جبال أوبي معه} {فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين} ولا ما هو من تنزيل الحال منزلة المقال نحو: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} لأن جميع هذا مما قامت فيه الدلالة العرفية مقام الوضعية واتحدت في إدراكه أفهام أهل العربية فكان من المدلولات التبعية.
قال في الكشاف: وكم من آية أنزلت في شأن الكافرين وفيها أوفر نصيب للمؤمنين تدبرا لها واعتبارا بموردها. يعني أنها في شأن الكافرين من دلالة العبارة وفي شأن المؤمنين من دلالة الإشارة.

 المقصد من انزال القرآن:
إن القرآن أنزله الله تعالى كتابا لصلاح أمر الناس كافة رحمة لهم لتبليغهم مراد الله منهم قال الله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} فكان المقصد الأعلى منه صلاح الأحوال الفردية، والجماعية، والعمرانية. فالصلاح الفردي يعتمد تهذيب النفس وتزكيتها، ورأس الأمر فيه صلاح الاعتقاد لأن الاعتقاد مصدر الآداب والتفكير، ثم صلاح السريرة الخاصة، وهي العبادات الظاهرة كالصلاة، والباطنة كالتخلق بترك الحسد والحقد والكبر. وأما الصلاح الجماعي فيحصل أولا من الصلاح الفردي إذ الأفراد أجزاء المجتمع، ولا يصلح الكل إلا بصلاح أجزائه، ومن شيء زائد على ذلك وهو ضبط تصرف الناس بعضهم مع بعض على وجه يعصمهم من مزاحمة الشهوات ومواثبة القوى النفسانية. وهذا هو علم المعاملات، ويعبر عنه عند الحكماء بالسياسة المدنية. وأما الصلاح العمراني فهو أوسع من ذلك إذ هو حفظ نظام العالم الإسلامي، وضبط تصرف الجماعات والأقاليم بعضهم مع بعض على وجه يحفظ مصالح الجميع، ورعي المصالح الكلية الإسلامية، وحفظ المصلحة الجامعة عند معارضة المصلحة القاصرة لها، ويسمى هذا بعلم العمران وعلم الاجتماع.
فمراد الله من كتابه هو بيان تصاريف ما يرجع إلى حفظ مقاصد الدين وقد أودع ذلك في ألفاظ القرآن التي خاطبنا بها خطابا بينا وتعبدنا بمعرفة مراده والاطلاع عليه فقال: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب}.
الحكمة من نزول القرآن باللسان العربي :
وقد اختار الله تعالى أن يكون اللسان العربي مظهرا لوحيه، ومستودعا لمراده، وأن يكون العرب هم المتلقين أولا لشرعه وإبلاغ مراده لحكمة علمها: منها كون لسانهم أفصح الألسن وأسهلها انتشارا، وأكثرها تحملا للمعاني مع إيجاز لفظه، ولتكون الأمة المتلقية للتشريع والناشرة له أمة قد سلمت من أفن الرأي عند المجادلة، ولم تقعد بها عن النهوض أغلال التكالب على الرفاهية، ولا عن تلقي الكمال الحقيقي إذ يسبب لها خلطه بما يجر إلى اضمحلاله فيجب أن تعلموا قطعا أن ليس المراد من خطاب العرب بالقرآن أن يكون التشريع قاصرا عليهم أو مراعيا لخاصة أحوالهم، بل إن عموم الشريعة ودوامها وكون القرآن معجزة دائمة مستمرة على تعاقب السنين ينافي ذلك، نعم إن مقاصده تصفية نفوس العرب الذين اختارهم كما قلنا لتلقي شريعته وبثها ونشرها، فهم المخاطبون ابتداء قبل بقية أمة الدعوة فكانت أحوالهم مرعية لا محالة، وكان كثير من القرآن مقصودا به خطابهم خاصة، وإصلاح أحوالهم قال تعالى: {ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا} وقال {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم} لكن ليس ذلك بوجه للاقتصار على أحوالهم كما سيأتي.
 المقاصد الأصلية التي جاء القرآن لتبيانها:
ثمانية أمور:
الأول: إصلاح الاعتقاد وتعليم العقد الصحيح. وهذا أعظم سبب لإصلاح الخلق، لأنه يزيل عن النفس عادة الإذعان لغير ما قام عليه الدليل، ويطهر القلب من الأوهام الناشئة عن الإشراك والدهرية وما بينهما، وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى: {فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب} فأسند لآلهتهم زيادة تتبيبهم، وليس هو من فعل الآلهة ولكنه من آثار الاعتقاد بالآلهة.
الثاني: تهذيب الأخلاق قال تعالى {وإنك لعلى خلق عظيم}.
وفسرت عائشة رضي الله تعالى عنها لما سئلت عن خلقه صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن. وفي الحديث الذي رواه مالك في الموطأ بلاغا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بعثت لأتمم مكارم حسن الأخلاق)) .
الثالث: التشريع وهو الأحكام خاصة وعامة. قال تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله.
الرابع: سياسة الأمة وهو باب عظيم في القرآن القصد منه صلاح الأمة وحفظ نظامها كالإرشاد إلى تكوين الجامعة بقوله: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها} .
الخامس: القصص وأخبار الأمم السالفة للتأسي بصالح أحوالهم قال: {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين}.
السادس: التعليم بما يناسب حالة عصر المخاطبين، وما يؤهلهم إلى تلقي الشريعة ونشرها وذلك علم الشرائع وعلم الأخبار وكان ذلك مبلغ علم مخالطي العرب من أهل الكتاب. وقد زاد القرآن على ذلك تعليم حكمة ميزان العقول وصحة الاستدلال في أفانين مجادلاته للضالين وفي دعوته إلى النظر، ثم نوه بشأن الحكمة فقال: {يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا} .
السابع: المواعظ والإنذار والتحذير والتبشير، وهذا يجمع جميع آيات الوعد والوعيد، وكذلك المحاجة والمجادلة للمعاندين، وهذا باب الترغيب والترهيب.
الثامن: الإعجاز بالقرآن ليكون آية دالة على صدق الرسول؛ إذ التصديق يتوقف على دلالة المعجزة بعد التحدي، والقرآن جمع كونه معجزة بلفظه ومتحدي لأجله بمعناه والتحدي وقع فيه {قل فأتوا بسورة مثله} ولمعرفة أسباب النزول مدخل في ظهور مقتضى الحال ووضوحه.
بيان غرض المفسر:
فغرض المفسر بيان ما يصل إليه أو ما يقصده من مراد الله تعالى في كتابه بأتم بيان يحتمله المعنى ولا يأباه اللفظ من كل ما يوضح المراد من مقاصد القرآن، أو ما يتوقف عليه فهمه أكمل فهم، أو يخدم المقصد تفصيلا وتفريعا ، مع إقامة الحجة على ذلك إن كان به خفاء، أو لتوقع مكابرة من معاند أو جاهل، فلا جرم كان رائد المفسر في ذلك أن يعرف على الإجمال مقاصد القرآن مما جاء لأجله، ويعرف اصطلاحه في إطلاق الألفاظ، وللتنزيل اصطلاح وعادات.
طرائق المفسرين للقرآن:
فطرائق المفسرين للقرآن ثلاث، إما الاقتصار على الظاهر من المعنى الأصلي للتركيب مع بيانه وإيضاحه وهذا هو الأصل. وإما استنباط معان من وراء الظاهر تقتضيها دلالة اللفظ أو المقام ولا يجافيها الاستعمال ولا مقصد القرآن، وتلك هي مستتبعات التراكيب وهي من خصائص اللغة العربية المبحوث فيها في علم البلاغة ككون التأكيد يدل على إنكار المخاطب أو تردده، وكفحوى الخطاب ودلالة الإشارة واحتمال المجاز مع الحقيقة، وإما أن يجلب المسائل ويبسطها لمناسبة بينها وبين المعنى، أو لأن زيادة فهم المعنى متوقفة عليها، أو للتوفيق بين المعنى القرآني وبين بعض العلوم مما له تعلق بمقصد من مقاصد التشريع لزيادة تنبيه إليه، أو لرد مطاعن من يزعم أنه ينافيه لا على أنها مما هو مراد الله من تلك الآية بل لقصد التوسع .
رأي العلماء في التوفيق بين المعنى القرآني وبين بعض العلوم مما له تعلق بمقصد من مقاصد التشريع :
- جماعة منهم فيرون من الحسن التوفيق بين العلوم غير الدينية وآلاتها وبين المعاني القرآنية، ويرون القرآن مشيرا إلى كثير منها. قال ابن رشد الحفيد في فصل المقال: أجمع المسلمون على أن ليس يجب أن تحمل ألفاظ الشرع كلها على ظاهرها، ولا أن تخرج كلها عن ظاهرها بالتأويل، والسبب في ورود الشرع بظاهر وباطن هو اختلاف نظر الناس. وتباين قرائحهم في التصديق وتخلص إلى القول بأن بين العلوم الشرعية والفلسفية اتصالا. ابن جني والزجاج وأبو حيان قد أشبعوا "تفاسيرهم" من الاستدلال على القواعد العربية، ولا شك أن الكلام الصادر عن علام الغيوب تعالى وتقدس لا تبنى معانيه على فهم طائفة واحدة ولكن معانيه تطابق الحقائق، وكل ما كان من الحقيقة في علم من العلوم وكانت الآية لها اعتلاق بذلك فالحقيقة العلمية مرادة بمقدار ما بلغت إليه أفهام البشر وبمقدار ما ستبلغ إليه. وذلك يختلف باختلاف المقامات ويبنى على توفر الفهم.


شرط التوفيق بين المعنى القرآني وبين بعض العلوم مما له تعلق بمقصد من مقاصد التشريع :

وشرطه أن لا يخرج عما يصلح له اللفظ عربية، ولا يبعد عن الظاهر إلا بدليل، ولا يكون تكلفا بينا ولا خروجا عن المعنى الأصلي حتى لا يكون في ذلك كتفاسير الباطنية.
- أبو إسحاق الشاطبي فقال في الفصل الثالث من المسألة الرابعة: لا يصح في مسلك الفهم والإفهام إلا ما يكون عاما لجميع العرب. فلا يتكلف فيه فوق ما يقدرون عليه وقال في المسألة الرابعة من النوع الثاني: "ما تقرر من أمية الشريعة وأنها جارية على مذاهب أهلها وهم العرب تنبني عليه قواعد، منها: أن كثيرا من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين من علوم الطبيعيات والتعاليم والمنطق وعلم الحروف وأشباهها وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح فإن السلف الصالح كانوا أعلم بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه، ولم يبلغنا أن أحدا منهم تكلم في شيء من هذا سوى ما ثبت فيه من أحكام التكاليف وأحكام الآخرة. نعم تضمن علوما من جنس علوم العرب وما هو على معهودها مما يتعجب منه أولو الألباب ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة" إلخ.

الرد عل من يرى أن القرآن يعتمد في مسلك فهمه وإفهامه على مقدرة العرب وطاقتهم، وأن الشريعة أمية.
هذا أساس واه لوجوه ستة: الأول أن ما بناه عليه يقتضي أن القرآن لم يقصد منه انتقال العرب من حال إلى حال وهذا باطل ، قال تعالى: {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا}.
الثاني أن مقاصد القرآن راجعة إلى عموم الدعوة وهو معجزة باقية فلا بد أن يكون فيه ما يصلح لأن تتناوله أفهام من يأتي من الناس في عصور انتشار العلوم في الأمة.
الثالث أن السلف قالوا: إن القرآن لا تنقضي عجائبه يعنون معانيه ولو كان كما قال الشاطبي لانقضت عجائبه بانحصار أنواع معانيه.
الرابع أن من تمام إعجازه أن يتضمن من المعاني مع إيجاز لفظه ما لم تف به الأسفار المتكاثرة.
الخامس أن مقدار أفهام المخاطبين به ابتداء لا يقضي إلا أن يكون المعنى الأصلي مفهوما لديهم فأما مازاد على المعاني الأساسية فقد يتهيأ لفهمه أقوام، وتحجب عنه أقوام، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه.
السادس أن عدم تكلم السلف عليها إن كان فيما ليس راجعا إلى مقاصده فنحن نساعد عليه، وإن كان فيما يرجع إليها فلا نسلم وقوفهم فيها عند ظواهر الآيات بل قد بينوا وفصلوا وفرعوا في علوم عنوا بها.

- ذهب ابن العربي في "العواصم" إلى إنكار التوفيق بين العلوم الفلسفية والمعاني القرآنية ولم يتكلم على غير هاته العلوم وذلك على عادته في تحقير الفلسفة لأجل ما خولطت به من الضلالات الاعتقادية وهو مفرط في ذلك مستخف بالحكماء.
رأي ابن عاشور في التوفيق بين المعنى القرآني وبين بعض العلوم مما له تعلق بمقصد من مقاصد التشريع :
وأنا أقول: إن علاقة العلوم بالقرآن على أربع مراتب:
الأولى: علوم تضمنها القرآن كأخبار الأنبياء والأمم، وتهذيب الأخلاق والفقه والتشريع والاعتقاد والأصول والعربية والبلاغة.
الثانية: علوم تزيد المفسر علما كالحكمة والهيئة وخواص المخلوقات.
الثالثة: علوم أشار إليها أو جاءت مؤيدة له كعلم طبقات الأرض والطب والمنطق.
الرابعة: علوم لا علاقة لها به إما لبطلانها كالزجر والعيافة والميثولوجيا، وإما لأنها لا تعين على خدمته كعلم العروض والقوافي.

- موقف بعض المفسرين من أسباب النزول:
أولع كثير من المفسرين بتطلب أسباب نزول آي القرآن، وهي حوادث يروى أن آيات من القرآن نزلت لأجلها لبيان حكمها أو لحكايتها أو إنكارها أو نحو ذلك، وأغربوا في ذلك وأكثروا حتى كاد بعضهم أن يوهم الناس أن كل آية من القرآن نزلت على سبب، وحتى رفعوا الثقة بما ذكروا. بيد أنا نجد في بعض آي القرآن إشارة إلى الأسباب التي دعت إلى نزولها ونجد لبعض الآي أسبابا ثبتت بالنقل دون احتمال أن يكون ذلك رأي الناقل، فكان أمر أسباب نزول القرآن دائرا بين القصد والإسراف، وكان في غض النظر عنه وإرسال حبله على غاربه خطر عظيم في فهم القرآن.
 اعتذار ابن عاشورللمؤلفين في أسباب النزول:
وأنا عاذر المتقدمين الذين ألفوا في أسباب النزول فاستكثروا منها، بأن كل من يتصدى لتأليف كتاب في موضوع غير مشبع تمتلكه محبة التوسع فيه فلا ينفك يستزيد من ملتقطاته ليذكي قبسه، ويمد نفسه، فيرضى بما يجد رضى الصب بالوعد، ويقول زدني من حديثك يا سعد. غير هياب لعاذل، ولا متطلب معذرة عاذر، وكذلك شأن الولع إذا امتلك القلب.
 رد ابن عاشور على الناقلين لأسباب النزول:
ولكني لا أعذر أساطين المفسرين الذين تلقفوا الروايات الضعيفة فأثبتوها في كتبهم ولم ينبهوا على مراتبها قوة وضعفا، حتى أوهموا كثيرا من الناس أن القرآن لا تنزل آياته إلا لأجل حوادث تدعو إليها، وبئس هذا الوهم فإن القرآن جاء هاديا إلى ما به صلاح الأمة في أصناف الصلاح فلا يتوقف نزوله على حدوث الحوادث الداعية إلى تشريع الأحكام. نعم إن العلماء توجسوا منها فقالوا: إن سبب النزول لا يخصص، إلا طائفة شاذة ادعت التخصيص بها، ولو أن أسباب النزول كانت كلها متعلقة بآيات عامة لما دخل من ذلك ضر على عمومها إذ قد أراحنا أئمة الأصول حين قالوا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ولكن أسبابا كثيرة رام رواتها تعيين مراد من تخصيص عام أو تقييد مطلق أو إلجاء إلى محمل، فتلك هي التي قد تقف عرضة أمام معاني التفسير قبل التنبيه على ضعفها أو تأويلها. وقد قال الواحدي في أول كتابه في أسباب النزول: "أما اليوم فكل أحد يخترع للآية سببا، ويختلق إفكا وكذبا، ملقيا زمامه إلى الجهالة، غير مفكر في الوعيد" وقال: "لا يحل القول في أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل" اهـ.
حاجة المفسر للعلم بأسباب النزول:
إن من أسباب النزول ما ليس المفسر بغنى عن علمه لأن فيها بيان مجمل أو إيضاح خفي وموجز، ومنها ما يكون وحده تفسيرا. ومنها ما يدل المفسر على طلب الأدلة التي بها تأويل الآية أو نحو ذلك. ففي صحيح البخاري أن مروان بن الحكم أرسل إلى ابن عباس يقول لئن كان كل امرئ فرح بما أتى، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون يشير إلى قوله تعالى: (لا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم) فأجاب ابن عباس قائلا: "إنما دعا النبي اليهود فسألهم على شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فأروه أنهم قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم وفرحوا بما أتوا من كتمانهم"، ثم قرأ ابن عباس: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون لا يحسبن الذين يفرحون) الآيات. وفي الموطأ عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه أنه قال: قلت لعائشة أم المؤمنين وأنا يومئذ حديث السن: أرأيت قول الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} فما على الرجل شيء ألا يطوف بهما، قالت عائشة: كلا، لو كان كما تقول لكانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله عن ذلك فأنزل الله تعالى {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} اهـ.
ومنها ما ينبه المفسر إلى إدراك خصوصيات بلاغية تتبع مقتضى المقامات فإن من أسباب النزول ما يعين على تصوير مقام الكلام.
 أقسام الأسانيد الصحيحة لأسباب النزول:
وقد تصفحت أسباب النزول التي صحت أسانيدها فوجدتها خمسة أقسام:
الأول: هو المقصود من الآية يتوقف فهم المراد منها على علمه فلابد من البحث عنه للمفسر، وهذا منه تفسير مبهمات القرآن مثل قوله تعالى {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} ونحو {يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا} ومثل بعض الآيات التي فيها {ومن الناس}.
والثاني: هو حوادث تسببت عليها تشريعات أحكام وصور تلك الحوادث لا تبين مجملا ولا تخالف مدلول الآية بوجه تخصيص أو تعميم أو تقييد، ولكنها إذا ذكرت أمثالها وجدت مساوية لمدلولات الآيات النازلة عند حدوثها، مثل حديث عويمر العجلاني الذي نزلت عنه آية اللعان، ومثل حديث كعب بن عجرة الذي نزلت عنه آية {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام} الآية فقد قال كعب بن عجرة: هي لي خاصة ولكم عامة، ومثل قول أم سلمة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: يغزو الرجال ولا نغزو، فنزل قوله تعالى {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض} الآية. وهذا القسم لا يفيد البحث فيه إلا زيادة تفهم في معنى الآية وتمثيلا لحكمها، ولا يخشى توهم تخصيص الحكم بتلك الحادثة، إذ قد اتفق العلماء أو كادوا على أن سبب النزول في مثل هذا لا يخصص، واتفقوا على أن أصل التشريع أن لا يكون خاصا.
والثالث: هو حوادث تكثر أمثالها تختص بشخص واحد فنزلت الآية لإعلانها وبيان أحكامها وزجر من يرتكبها، فكثيرا ما تجد المفسرين وغيرهم يقولون نزلت في كذا وكذا، وهم يريدون أن من الأحوال التي تشير إليها تلك الآية تلك الحالة الخاصة فكأنهم يريدون التمثيل. ففي كتاب الأيمان من صحيح البخاري في باب قول الله تعالى {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا} أن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله: ((من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان)) فأنزل الله تصديق ذلك {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا} الآية فدخل الأشعث بن قيس فقال: ما حدثكم أبو عبد الرحمن? فقالوا كذا وكذا، قال في أنزلت، لي بئر في أرض ابن عم لي الخ، فابن مسعود جعل الآية عامة لأنه جعلها تصديقا لحديث عام? والأشعث بن قيس ظنها خاصة به إذ قال: في أنزلت بصيغة الحصر.
وهذا القسم قد أكثر من ذكره أهل القصص وبعض المفسرين ولا فائدة في ذكره، على أن ذكره قد يوهم القاصرين قصر الآية على تلك الحادثة لعدم ظهور العموم من ألفاظ تلك الآيات.
والرابع: هو حوادث حدثت وفي القرآن آيات تناسب معانيها سابقة أو لاحقة فيقع في عبارات بعض السلف ما يوهم أن تلك الحوادث هي المقصود من تلك الآيات، مع أن المراد أنها مما يدخل في معنى الآية ويدل لهذا النوع وجود اختلاف كثير بين الصحابة في كثير من أسباب النزول .
وفي "صحيح البخاري" في سورة النساء أن ابن عباس قرأ قوله تعالى: {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا} بألف بعد لام السلام وقال: كان رجل في غنيمة له تصغير غنم فلحقه المسلمون فقال: السلام عليكم فقتلوه أي ظنوه مشركا يريد أن يتقي منهم بالسلام وأخذوا غنيمته فأنزل الله في ذلك {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام} الآية. فالقصة لا بد أن تكون قد وقعت لأن ابن عباس رواها لكن الآية ليست نازلة فيها بخصوصها ولكن نزلت في أحكام الجهاد بدليل ما قبلها وما بعدها فإن قبلها: {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا} وبعدها {فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل}.
قال السيوطي في "الإتقان" عن الزركشي قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال نزلت هذه الآية في كذا، فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم لا أن هذا كان السبب في نزولها.
والخامس: قسم يبين مجملات، ويدفع متشابهات مثل قوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} فإذا ظن أحد أن من للشرط أشكل عليه كيف يكون الجور في الحكم كفرا، ثم إذا علم أن سبب النزول هم النصارى علم أن من موصولة وعلم أن الذين تركوا الحكم بالإنجيل لا يتعجب منهم أن يكفروا بمحمد. وكذلك حديث عبد الله بن مسعود قال لما نزل قوله تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا أينا لم يلبس إيمانه بظلم ظنوا أن الظلم هو المعصية. فقال رسول الله: ((إنه ليس بذلك? ألا تسمع لقول لقمان لابنه {إن الشرك لظلم عظيم})).
 فوائد أسباب النزول:
هذا وإن القرآن كتاب جاء لهدي أمة والتشريع لها، وهذا الهدي قد يكون واردا قبل الحاجة، وقد يكون مخاطبا به قوم على وجه الزجر أو الثناء أو غيرهما، وقد يكون مخاطبا به جميع من يصلح لخطابه، وهو في جميع ذلك قد جاء بكليات تشريعية وتهذيبية، والحكمة في ذلك أن يكون وعي الأمة لدينها سهلا عليها، وليمكن تواتر الدين، وليكون لعلماء الأمة مزية الاستنباط، وإلا فإن الله قادر أن يجعل القرآن أضعاف هذا المنزل وأن يطيل عمر النبي صلى الله عليه وسلم للتشريع أكثر مما أطال عمر إبراهيم وموسى، ولذلك قال تعالى: {وأتممت عليكم نعمتي}، فكما لا يجوز حمل كلماته على خصوصيات جزئية لأن ذلك يبطل مراد الله، كذلك لا يجوز تعميم ما قصد منه الخصوص ولا إطلاق ما قصد منه التقييد؛ لأن ذلك قد يفضي إلى التخليط في المراد أو إلى إبطاله من أصله، وقد اغتر بعض الفرق بذلك. قال ابن سيرين في الخوارج: إنهم عمدوا إلى آيات الوعيد النازلة في المشركين فوضعوها على المسلمين فجاءوا ببدعة القول بالتكفير بالذنب، وقد قال الحرورية لعلي رضي الله عنه يوم التحكيم: {إن الحكم إلا لله} فقال علي كلمة حق أريد بها باطل وفسرها في خطبة له في "نهج البلاغة".
وثمة فائدة أخرى عظيمة لأسباب النزول وهي أن في نزول القرآن عند حدوث حوادث دلالة على إعجازه من ناحية الارتجال، وهي إحدى طريقتين لبلغاء العرب في أقوالهم، فنزوله على حوادث يقطع دعوى من ادعوا أنه أساطير الأولين.

حالات القراءات عند ابن عاشور:.
أرى أن للقراءات حالتين: إحداهما لا تعلق لها بالتفسير بحال، والثانية لها تعلق به من جهات متفاوتة.
أما الحالة الأولى فهي اختلاف القراء في وجوه النطق بالحروف والحركات كمقادير المد والإمالات والتخفيف والتسهيل والتحقيق والجهر والهمس والغنة، مثل {عذابيْ} بسكون الياء و(عذابيَ) بفتحها، وفي تعدد وجوه الإعراب مثل {حتى يقول الرسول} بفتح لام يقول وضمها. ونحو: {لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة} برفع الأسماء الثلاثة أو فتحها أو رفع بعض وفتح بعض،
 مزية الحالة الأولى:
ومزية القراءات من هذه الجهة عائدة إلى أنها حفظت على أبناء العربية ما لم يحفظه غيرها وهو تحديد كيفيات نطق العرب بالحروف في مخارجها وصفاتها وبيان اختلاف العرب في لهجات النطق بتلقي ذلك عن قراء القرآن من الصحابة بالأسانيد الصحيحة، وهذا غرض مهم جدا لكنه لا علاقة له بالتفسير لعدم تأثيره في اختلاف معاني الآي، ولم أر من عرف لفن القراءات حقه من هذه الجهة، وفيها أيضا سعة من بيان وجوه الإعراب في العربية، فهي لذلك مادة كبرى لعلوم اللغة العربية. فأئمة العربية لما قرأوا القرآن قرأوه بلهجات العرب الذين كانوا بين ظهرانيهم في الأمصار التي وزعت عليها المصاحف: المدينة، ومكة، والكوفة، والبصرة، والشام، قيل واليمن والبحرين، وكان في هذه الأمصار قراؤها من الصحابة قبل ورود مصحف عثمان إليهم فقرأ كل فريق بعربية قومه في وجوه الأداء، لا في زيادة الحروف ونقصها، ولا في اختلاف الإعراب دون مخالفته مصحف عثمان، ويحتمل أن يكون القارئ الواحد قد قرأ بوجهين ليري صحتهما في العربية قصدا لحفظ اللغة مع حفظ القرآن الذي أنزل بها، ولذلك يجوز أن يكون كثير من اختلاف القراء في هذه الناحية اختيارا، وعليه يحمل ما يقع في كتابي الزمخشري وابن العربي من نقد بعض طرق القراء، على أن في بعض نقدهم نظرا، وقد كره مالك رحمه الله القراءة بالإمالة مع ثبوتها عن القراء، وهي مروية عن مقرئ المدينة نافع من رواية ورش عنه وانفرد بروايته أهل مصر، فدلت كراهته على أنه يرى أن القارئ بها ما قرأ إلا بمجرد الاختيار، وفي تفسير القرطبي في سورة الشعراء عن أبي إسحاق الزجاج، يجوز أن يقرأ "طسين ميم" بفتح النون من "طسين" وضم الميم الأخيرة كما يقال هذا معد يكرب اهـ مع أنه لم يقرأ به أحد. قلت: ولا ضير في ذلك ما دامت كلمات القرآن وجمله محفوظة على نحو ما كتب في المصحف الذي أجمع عليه أصحاب رسوا الله إلا نفرا قليلا شذوا منهم، كان عبد الله بن مسعود منهم، فإن عثمان لما أمر بكتب المصحف على نحو ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأثبته كتاب المصحف، رأى أن يحمل الناس على اتباعه وترك قراءة ما خالفه، وجمع جميع المصاحف المخالفة له وأحرقها ووافقه جمهور الصحابة على ما فعله. قال شمس الدين الأصفهاني في المقدمة الخامسة من تفسيره. كان على طول أيامه يقرأ مصحف عثمان ويتخذه إماما. وقلت: إنما كان فعل عثمان إتماما لما فعله أبو بكر من جمعه القرآن الذي كان يقرأ في حياة الرسول، وأن عثمان نسخه في مصاحف لتوزع على الأمصار، فصار المصحف الذي كتب لعثمان قريبا من المجمع عليه وعلى كل قراءة توافقه وصار ما خالفه متروكا بما يقارب الإجماع.
قال الأصفهاني في تفسيره كانت قراءة أبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصار واحدة، وهي قراءة العامة التي قرأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل في العام الذي قبض فيه، ويقال إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي عرضها رسول الله على جبريل اهـ وبقي الذين قرأوا قراءات مخالفة لمصحف عثمان يقرأون بما رووه لا ينهاهم أحد عن قراءتهم ولكن يعدوهم شذاذا ولكنهم لم يكتبوا قراءتهم في مصاحف بعد أن أجمع الناس على مصحف عثمان، قال البغوي في تفسير قوله تعالى {وطلح منضود}.
بعض القراءات المخالفة لمصحف عثمان:
عن مجاهد وفي الكشاف والقرطبي- قرأ علي بن أبي طالب (وطلع منضود) بعين في موضع الحاء، وقرأ قارئ بين يديه {وطلح منضود} فقال: وما شأن الطلح? إنما هو (وطلع) وقرأ: {لها طلع نضيد} فقالوا أفلا نحولها? فقال إن آي القرآن لا تهاج اليوم ولا تحول، أي لا تغير حروفها ولا تحول عن مكانها فهو قد منع من تغيير المصحف، ومع ذلك لم يترك القراءة التي رواها، وممن نسبت إليهم قراءات مخالفة لمصحف عثمان، عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وسالم مولى أبي حذيفة، إلى أن ترك الناس ذلك تدريجا.
ذكر الفخر في تفسير قوله تعالى: {إذ تلقونه بألسنتكم} من سورة النور أن سفيان قال: سمعت أمي تقرأ: (إذ تثقفونه بألسنتكم) وكان أبوها يقرأ بقراءة ابن مسعود، ومع ذلك فقد شذت مصاحف بقيت مغفولا عنها بأيدي أصحابها، منها ما ذكره الزمخشري في الكشاف في سورة الفتح أن الحارث بن سويد صاحب عبد الله بن مسعود كان له مصحف دفنه في مدة الحجاج، قال في الكشاف لأنه كان مخالفا للمصحف الإمام، وقد أفرط الزمخشري في توهين بعض القراءات لمخالفتها لما اصطلح عليه النحاة وذلك من إعراضه عن معرفة الأسانيد.
شروط الرواية الصحيحة الشاذة التي لم تبلغ حد التواتر عند علماء القراءات :
من أجل ذلك اتفق علماء القراءات والفقهاء على أن كل قراءة وافقت وجها في العربية ووافقت خط المصحف أي مصحف عثمان وصح سند راويها؛ فهي قراءة صحيحة لا يجوز ردها، قال أبو بكر ابن العربي: ومعنى ذلك عندي أن تواترها تبع لتواتر المصحف الذي وافقته وما دون ذلك فهو شاذ، يعني وأن تواتر المصحف ناشئ عن تواتر الألفاظ التي كتبت فيه.
قلت- وهذه الشروط الثلاثة، هي شروط في قبول القراءة إذا كانت غير متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، بأن كانت صحيحة السند إلى النبي ولكنها لم تبلغ حد التواتر فهي بمنزلة الحديث الصحيح، وأما القراءة المتواترة فهي غنية عن هذه الشروط لأن تواترها يجعلها حجة في العربية، ويغنيها عن الاعتضاد بموافقة المصحف المجمع عليه، ألا ترى أن جمعا من أهل القراءات المتواترة قرأوا قوله تعالى: (وما هو على الغيب بظنين) بظاء مشالة أي: بمتهم، وقد كتبت في المصاحف كلها بالضاد الساقطة.
على أن أبا علي الفارسي صنف كتاب الحجة للقراءات، وهو معتمد عند المفسرين وقد رأيت نسخة منه في مكاتب الآستانة. فالقراءات من هذه الجهة لا تفيد في علم التفسير والمراد بموافقة خط المصحف موافقة أحد المصاحف الأئمة التي وجه بها عثمان بن عفان إلى أمصار الإسلام إذ قد يكون اختلاف يسير نادر بين بعضها، مثل زيادة الواو في {وسارعوا إلى مغفرة} في مصحف الكوفة ومثل زيادة الفاء في قوله: { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} في سورة الشورى {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا} - أو (إحسانا) فذلك اختلاف ناشئ عن القراءة بالوجهين بين الحفاظ من زمن الصحابة الذين تلقوا القرآن عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه قد أثبته ناسخو المصحف في زمن عثمان فلا ينافي التواتر إذ لا تعارض، إذا كان المنقول عنه قد نطق بما نقله عنه الناقلون في زمانين أو أزمنة، أو كان قد أذن للناقلين أن يقرأوا بأحد اللفظين أو الألفاظ.
 القراء العشرة:
وقد انحصر توفر الشروط في الروايات العشر للقراء وهم، نافع بن أبي نعيم المدني، وعبد الله بن كثير المكي، وأبو عمرو المازني البصري وعبد الله بن عامر الدمشقي، وعاصم بن أبي النجود الكوفي، وحمزة بن حبيب الكوفي، والكسائي علي بن حمزة الكوفي، ويعقوب بن إسحاق الحضرمي البصري، وأبو جعفر يزيد بن القعقاع المدني، وخلف البزار بزاي فألف فراء مهملة الكوفي، وهذا العاشر ليست له رواية خاصة، وإنما اختار لنفسه قراءة تناسب قراءات أئمة الكوفة، فلم يخرج عن قراءات قراء الكوفة إلا قليلا، وبعض العلماء يجعل قراءة ابن محيصن واليزيدي والحسن، والأعمش، مرتبة دون العشر، وقد عد الجمهور ما سوى ذلك شاذا لأنه لم ينقل بتواتر حفاظ القرآن.
حكم القراءة بما دون العشر:
والذي قاله مالك والشافعي، أن ما دون العشر لا تجوز القراءة به ولا أخذ حكم منه لمخالفته المصحف الذي كتب فيه ما تواتر، فكان ما خالفه غير متواتر فلا يكون قرآنا، وقد تروى قراءات عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد صحيحة في كتب الصحيح مثل صحيح البخاري ومسلم وأضرابهما إلا أنها لا يجوز لغير من سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم القراءة بها لأنها غير متواترة النقل فلا يترك المتواتر للآحاد وإذا كان راويها قد بلغته قراءة أخرى متواترة تخالف ما رواه وتحقق لديه التواتر وجب عليه أن يقرأ بالمروية تواترا، وقد اصطلح المفسرون على أن يطلقوا عليها قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، لأنها غير منتسبة إلى أحد من أئمة الرواية في القراءات، ويكثر ذكر هذا العنوان في تفسير محمد بن جرير الطبري وفي الكشاف وفي المحرر الوجيز لعبد الحق ابن عطية، وسبقهم إليه أبو الفتح ابن جني، فلا تحسبوا أنهم أرادوا بنسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أنها وحدها المأثورة عنه ولا ترجيحها على القراءات المشهورة لأن القراءات المشهورة قد رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد أقوى وهي متواترة على الجملة كما سنذكره، وما كان ينبغي إطلاق وصف قراءة النبي عليها لأنه يوهم من ليسوا من أهل الفهم الصحيح أن غيرها لم يقرأ به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يرجع إلى تبجح أصحاب الرواية بمروياتهم.
وأما الحالة الثانية: فهي اختلاف القراء في حروف الكلمات مثل {مالك يوم الدين} (ملك يوم الدين) و(ننشرها) و{ننشزها} و{وظنوا أنهم قد كذبوا} بتشديد الذال أو (قد كذبوا) بتخفيفه، وكذلك اختلاف الحركات الذي يختلف معه معنى الفعل كقوله {ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون} قرأ نافع بضم الصاد وقرأ حمزة بكسر الصاد، فالأولى بمعنى يصدون غيرهم عن الإيمان، والثانية بمعنى صدودهم في أنفسهم وكلا المعنيين حاصل منهم، وهي من هذه الجهة لها مزيد تعلق بالتفسير.
سبب تعلق الحالة الثانية بعلم التفسير:
لأن ثبوت أحد اللفظين في قراءة قد يبين المراد من نظيره في القراءة الأخرى، أو يثير معنى غيره، ولأن اختلاف القراءات في ألفاظ القرآن يكثر المعاني في الآية الواحدة نحو {حتى يطهرن} بفتح الطاء المشددة والهاء المشددة، وبسكون الطاء وضم الهاء مخففة، ونحو {لامستم النساء} و(لمستم النساء)، وقراءة (وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن إناثا) مع قراءة {الذين هم عباد الرحمن} والظن أن الوحي نزل بالوجهين وأكثر، تكثيرا للمعاني إذا جزمنا بأن جميع الوجوه في القراءات المشهورة هي مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، على أنه لا مانع من أن يكون مجيء ألفاظ القرآن على ما يحتمل تلك الوجوه مرادا لله تعالى ليقرأ القراء بوجوه فتكثر من جراء ذلك المعاني، فيكون وجود الوجهين فأكثر في مختلف القراءات مجزئا عن آيتين فأكثر، وهذا نظير التضمين في استعمال العرب، ونظير التورية والتوجيه في البديع، ونظير مستتبعات التراكيب في علم المعاني، وهو من زيادة ملاءمة بلاغة القرآن، ولذلك كان اختلاف القراء في اللفظ الواحد من القرآن قد يكون معه اختلاف المعنى؛ ولم يكن حمل أحد القراءتين على الأخرى متعينا ولا مرجحا، وإن كان قد يؤخذ من كلام أبي علي الفارسي في كتاب الحجة أنه يختار حمل معنى إحدى القراءتين على معنى الأخرى، ومثال هذا قوله في قراءة الجمهور قوله تعالى {فإن الله هو الغني الحميد} في سورة الحديد، وقراءة نافع وابن عامر (فإن الله الغني الحميد) بإسقاط هو أن من أثبت هو يحسن أن يعتبره ضمير فصل لا مبتدأ، لأنه لو كان مبتدأ لم يجز حذفه في قراءة نافع وابن عامر، قال أبو حيان: وما ذهب إليه ليس بشيء لأنه بنى ذلك على توافق القراءتين وليس كذلك، ألا ترى أنه قد يكون قراءتان في لفظ واحد لكل منهما توجيه يخالف الآخر، كقراءة {والله أعلم بما وضعت} بضم التاء أو سكونها.
وأنا أرى أن على المفسر أن يبين اختلاف القراءات المتواترة لأن في اختلافها توفيرا لمعاني الآية غالبا فيقوم تعدد القراءات مقام تعدد كلمات القرآن. وهذا يبين لنا أن اختلاف القراءات قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد في حديث عمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم بن حزام ففي صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ في الصلاة سورة الفرقان في حياة رسول الله فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله، فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم فلببته بردائه فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ? قال: أقرأنيها رسول الله، فقلت: كذبت فإن رسول الله أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله فقلت إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال رسول الله: ((اقرأ يا هشام)) فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله: ((كذلك أنزلت))، ثم قال: ((اقرأ يا عمر)) فقرأت القراءة التي أقرأني فقال رسول الله: ((كذلك أنزلت إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه)) اهـ.
رد الاشكال في حديث عمربن الخطاب وهشام بن حكيم:
وفي الحديث إشكال، وللعلماء في معناه أقوال يرجع إلى اعتبارين: أحدهما اعتبار الحديث منسوخا والآخر اعتباره محكما.
فأما الذين اعتبروا الحديث منسوخا وهو رأي جماعة منهم أبو بكر الباقلاني وابن عبد البر وأبو بكر بن العربي والطبري والطحاوي، وينسب إلى ابن عيينة وابن وهب قالوا كان ذلك رخصة في صدر الإسلام أباح الله للعرب أن يقرأوا القرآن بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها، ثم نسخ ذلك بحمل الناس على لغة قريش لأنها التي بها نزل القرآن وزال العذر لكثرة الحفظ وتيسير الكتابة، وقال ابن العربي: دامت الرخصة مدة حياة النبي عليه السلام، وظاهر كلامه أن ذلك نسخ بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإما نسخ بإجماع الصحابة أو بوصاية من النبي صلى الله عليه وسلم، واستدلوا على ذلك بقول عمر: إن القرآن نزل بلسان قريش، وبنهيه عبد الله بن مسعود أن يقرأ (فتول عنهم عتى حين) وهي لغة هذيل في حتى، وبقول عثمان لكتاب المصاحف فإذا اختلفتم في حرف فاكتبوه بلغة قريش فإنما نزل بلسانهم، يريد أن لسان قريش هو الغالب على القرآن، أو أراد أنه نزل بما نطقوا به من لغتهم وما غلب على لغتهم من لغات القبائل إذ كان عكاظ بأرض قريش وكانت مكة مهبط القبائل كلها.
معنى القرآن نزل على سبع أحرف:
ولهم في تحديد معنى الرخصة بسبعة أحرف ثلاثة أقوال: الأول أن المراد بالأحرف الكلمات المترادفة للمعنى الواحد، أي أنزل بتخيير قارئه أن يقرأه باللفظ الذي يحضره من المرادفات تسهيلا عليهم حتى يحيطوا بالمعنى. وعلى هذا الجواب فقيل المراد بالسبعة حقيقة العدد وهو قول الجمهور فيكون تحديدا للرخصة بأن لا يتجاوز سبعة مرادفات أو سبع لهجات أي من سبع لغات؛ إذ لا يستقيم غير ذلك لأنه لا يتأتى في كلمة من القرآن أن يكون لها ستة مرادفات أصلا، ولا في كلمة أن يكون فيها سبع لهجات إلا كلمات قليلة مثل {أف}– {وجبريل}– و{أرجه}.
وقد اختلفوا في تعيين اللغات السبع، فقال أبو عبيدة وابن عطية وأبو حاتم والباقلاني: هي من عموم لغات العرب وهم: قريش، وهذيل، وتيم الرباب، والأزد، وربيعة، وهوازن، وسعد بن بكر من هوازن، وبعضهم يعد قريشا، وبني دارم، والعليا من هوازن وهم سعد بن بكر، وجشم بن بكر، ونصر بن معاوية، وثقيف، قال أبو عمرو بن العلاء أفصح العرب عليا هوازن وسفلى تميم وهم بنو دارم. وبعضهم يعد خزاعة ويطرح تميما، وقال أبو علي الأهوازي، وابن عبد البر، وابن قتيبة هي لغات قبائل من مضر وهم قريش، وهذيل، وكنانة، وقيس، وضبة، وتيم الرباب، وأسد بن خزيمة، وكلها من مضر.
القول الثاني: لجماعة منهم عياض: أن العدد غير مراد به حقيقته، بل هو كناية عن التعدد والتوسع، وكذلك المرادفات ولو من لغة واحدة كقوله: {كالعهن المنفوش} وقرأ ابن مسعود (كالصوف المنفوش)، وقرأ أبي {كلما أضاء لهم مشوا فيه} "مروا فيه" "سعوا فيه"، وقرأ ابن مسعود {انظرونا نقتبس من نوركم} "أخرونا"، "أمهلونا"، وأقرأ ابن مسعود رجلا {إن شجرت الزقوم طعام الأثيم} فقال الرجل: (طعام اليتيم)، فأعاد له فلم يستطع أن يقول: {الأثيم} فقال له ابن مسعود: أتستطيع أن تقول طعام الفاجر? قال: نعم، قال: فاقرأ كذلك، وقد اختلف عمر وهشام بن حكيم ولغتهما واحدة.
القول الثالث: أن المراد التوسعة في نحو {كان الله سميعا عليما} أن يقرأ عليما حكيما ما لم يخرج عن المناسبة كذكره عقب آية عذاب أن يقول "وكان الله غفورا رحيما" أو عكسه وإلى هذا ذهب ابن عبد البر.
 السبع أحرف عند من يرون أن حديث عمر وهشام محكم:
وأما الذين اعتبروا الحديث محكما غير منسوخ فقد ذهبوا في تأويله مذاهب: فقال جماعة منهم البيهقي وأبو الفضل الرازي أن المراد من الأحرف أنواع أغراض القرآن كالأمر والنهي، والحلال والحرام، أو أنواع كلامه كالخبر والإنشاء، والحقيقة والمجاز: أو أنواع دلالته كالعموم والخصوص، والظاهر والمؤول. ولا يخفى أن كل ذلك لا يناسب سياق الحديث على اختلاف رواياته من قصد التوسعة والرخصة. وقد تكلف هؤلاء حصر ما زعموه من الأغراض ونحوها في سبعة فذكروا كلاما لا يسلم من النقض.
الرد على من قال أن الأحرف السبعة هي سبع لغات مبثوثة في القرآن:
وذهب جماعة منهم أبو عبيد وثعلب والأزهري وعزي لابن عباس أن المراد أنه أنزل مشتملا على سبع لغات من لغات العرب مبثوثة في آيات القرآن لكن لا على تخيير القارئ، وذهبوا في تعيينها إلى نحو ما ذهب إليه القائلون بالنسخ إلا أن الخلاف بين الفريقين في أن الأولين ذهبوا إلى تخيير القارئ في الكلمة الواحدة، وهؤلاء أرادوا أن القرآن مبثوثة فيه كلمات من تلك اللغات، لكن على وجه التعيين لا على وجه التخيير، وهذا كما قال أبو هريرة: ما سمعت السكين إلا في قوله تعالى: {وآتت كل واحدة منهن سكينا} ما كنا نقول إلا المدية، وفي البخاري: إلا من النبيء في قصة حكم سليمان بين المرأتين من قول سليمان: (ايتوني بالسكين أقطعه بينكما)، وهذا الجواب لا يلاقي مساق الحديث من التوسعة، ولا يستقيم من جهة العدد لأن المحققين ذكروا أن في القرآن كلمات كثيرة من لغات قبائل العرب، وأنهاها السيوطي نقلا عن أبي بكر الواسطي إلى خمسين لغة.
أفضل تفسير للأحرف السبعة:
وذهب جماعة أن المراد من الأحرف لهجات العرب في كيفيات النطق كالفتح والإمالة، والمد والقصر، والهمز والتخفيف، على معنى أن ذلك رخصة للعرب مع المحافظة على كلمات القرآن، وهذا أحسن الأجوبة لمن تقدمنا، وهنالك أجوبة أخرى ضعيفة لا ينبغي للعالم التعريج عليها وقد أنهى بعضهم جملة الأجوبة إلى خمسة وثلاثين جوابا.
وعندي أنه إن كان حديث عمر وهشام بن حكيم قد حسن إفصاح راويه عن مقصد عمر فيما حدث به بأن لا يكون مرويا بالمعنى مع إخلال بالمقصود أنه يحتمل أن يرجع إلى ترتيب آي السور بأن يكون هشام قرأ سورة الفرقان على غير الترتيب الذي قرأ به عمر فتكون تلك رخصة لهم في أن يحفظوا سور القرآن بدون تعيين ترتيب الآيات من السورة، وقد ذكر الباقلاني احتمال أن يكون ترتيب السور من اجتهاد الصحابة كما يأتي في المقدمة الثامنة. فعلى رأينا هذا تكون هذه رخصة. ثم لم يزل الناس يتوخون بقراءتهم موافقة قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان ترتيب المصحف في زمن أبي بكر على نحو العرضة الأخيرة التي عرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجمع الصحابة في عهد أبي بكر على ذلك لعلمهم بزوال موجب الرخصة.
هل الأحرف السبعة هي القراءات السبعة؟
ومن الناس من يظن المراد بالسبع في الحديث ما يطابق القراءات السبع التي اشتهرت بين أهل فن القراءات، وذلك غلط ولم يقله أحد من أهل العلم، وأجمع العلماء على خلافه كما قال أبو شامة: فإن انحصار القراءات في سبع لم يدل عليه دليل، ولكنه أمر حصل إما بدون قص د أو بقصد التيمن بعدد السبعة أو بقصد إيهام أن هذه السبعة هي المرادة من الحديث تنويها بشأنها بين العامة، ونقل السيوطي عن أبي العباس ابن عمار أنه قال: لقد فعل جاعل عدد القراءات سبعا ما لا ينبغي، وأشكل به الأمر على العامة إذ أوهمهم أن هذه السبعة هي المرادة في الحديث، وليت جامعها نقص عن السبعة أو زاد عليها.
قال السيوطي: وقد صنف ابن جبير المكي وهو قبل ابن مجاهد كتابا في القراءات فاقتصر على خمسة أئمة من كل مصر إماما، وإنما اقتصر على ذلك لأن المصاحف التي أرسلها عثمان إلى الأمصار كانت إلى خمسة أمصار.
قال ابن العربي في العواصم: أول من جمع القراءات في سبع ابن مجاهد غير أنه عد قراءة يعقوب سابعا ثم عوضها بقراءة الكسائي، قال السيوطي وذلك على رأس الثلاثمائة: وقد اتفق الأئمة على أن قراءة يعقوب من القراءات الصحيحة مثل بقية السبعة، وكذلك قراءة أبي جعفر وشيبة، وإذ قد كان الاختلاف بين القراء سابقا على تدوين المصحف الإمام في زمن عثمان وكان هو الداعي لجمع المسلمين على مصحف واحد تعين أن الاختلاف لم يكن ناشئا عن الاجتهاد في قراءة ألفاظ المصحف فيما عدا اللهجات.
وأما صحة السند الذي تروى به القراءة لتكون مقبولة فهو شرط لا محيد عنه إذ قد تكون القراءة موافقة لرسم المصحف وموافقة لوجوه العربية لكنها لا تكون مروية بسند صحيح، كما ذكر في المزهر أن حماد بن الزبرقان قرأ (إلا عن موعدة وعدها أباه) بالباء الموحدة وإنما هي {إياه} بتحتية، وقرأ (بل الذين كفروا في غرة) بغين معجمة وراء مهملة وإنما هي {عزة} بعين مهملة وزاي، وقرأ (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يعنيه) بعين مهملة، وإنما هي {يغنيه} بغين معجمة، ذلك أنه لم يقرأ القرآن على أحد وإنما حفظه من المصحف.
مراتب القراءات الصحيحة والترجيح بينها
قال أبو بكر بن العربي في كتاب العواصم: اتفق الأئمة على أن القراءات التي لا تخالف الألفاظ التي كتبت في مصحف عثمان هي متواترة وإن اختلفت في وجوه الأداء وكيفيات النطق ومعنى ذلك أن تواترها تبع لتواتر صورة كتابة المصحف، وما كان نطقه صالحا لرسم المصحف، واختلف فيه فهو مقبول، وما هو بمتواتر لأن وجود الاختلاف فيه مناف لدعوى التواتر، فخرج بذلك ما كان من القراءات مخالفا لمصحف عثمان، مثل ما نقل من قراءة ابن مسعود.
هل القراءات السبع متواترة؟
ولما قرأ المسلمون بهذه القراءات من عصر الصحابة ولم يغير عليهم، فقد صارت متواترة على التخيير، وإن كانت أسانيدها المعينة آحادا، وليس المراد ما يتوهمه بعض القراء من أن القراءات كلها بما فيها من طرائق أصحابها ورواياتهم متواترة وكيف وقد ذكروا أسانيدهم فيها فكانت أسانيد أحاد، وأقواها سندا ما كان له راويان عن الصحابة مثل قراءة نافع بن أبي نعيم وقد جزم ابن العربي، وابن عبد السلام التونسي، وأبو العباس بن إدريس فقيه بجاية من المالكية، والأبياري من الشافعية بأنها غير متواترة، وهو الحق لأن تلك الأسانيد لا تقتضي إلا أن فلانا قرأ كذا وأن فلانا قرأ بخلافه، وأما اللفظ المقروء فغير محتاج إلى تلك الأسانيد لأنه ثبت بالتواتر كما علمت آنفا، وإن اختلفت كيفيات النطق بحروفه فضلا عن كيفيات أدائه.
وقال إمام الحرمين في البرهان: هي متواترة ورده عليه الأبياري، وقال المازري في شرحه: هي متواترة عند القراء وليست متواترة عند عموم الأمة، وهذا توسط بين إمام الحرمين والأبياري، ووافق إمام الحرمين ابن سلامة الأنصاري من المالكية. وهذه مسألة مهمة جرى فيها حوار بين الشيخين ابن عرفة التونسي وابن لب الأندلسي ذكرها الونشريسي في المعيار.
 الصحابة اللذين تنتهي إليهم القراءات العشر:
وتنتهي أسانيد القراءات العشر إلى ثمانية من الصحابة وهم: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله من مسعود، وأبي بن كعب، وأبو الدرداء، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، فبعضها ينتهي إلى جميع الثمانية وبعضها إلى بعضهم وتفصيل ذلك في علم القرآن.
وجوه الاعراب في القرآن:
وأما وجوه الإعراب في القرآن فأكثرها متواتر إلا ما ساغ فيه إعرابان مع اتحاد المعاني نحو: {ولات حين مناص} بنصب حين ورفعه، ونحو {وزلزلوا حتى يقول الرسول} بنصب (يقول) ورفعه، ألا ترى أن الأمة أجمعت على رفع اسم الجلالة في قوله تعالى: {وكلم الله موسى تكليما} وقرأه بعض المعتزلة بنصب اسم الجلالة لئلا يثبتوا لله كلاما، وقرأ بعض الرافضة (وما كنت متخذ المضلين عضدا) بصيغة التثنية، وفسروها بأبي بكر وعمر حاشاهما، وقاتلهم الله.
وأما ما خالف الوجوه الصحيحة في العربية ففيه نظر قوي لأنا لا ثقة لنا بانحصار فصيح كلام العرب فيما صار إلى نحاة البصرة والكوفة، وبهذا نبطل كثيرا مما زيفه الزمخشري من القراءات المتواترة بعلة أنها جرت على وجوه ضعيفة في العربية لا سيما ما كان منه في قراءة مشهورة كقراءة عبد الله بن عامر قوله تعالى: (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم) ببناء "زين" للمفعول وبرفع (قتل)، ونصب (أولادهم) وخفض (شركاؤهم) ولو سلمنا أن ذلك وجه مرجوح، فهو لا يعدو أن يكون من الاختلاف في كيفية النطق التي لا تناكد التواتر كما قدمناه آنفا على ما في اختلاف الإعرابين من إفادة معنى غير الذي يفيده الآخر، لأن لإضافة المصدر إلى المفعول خصائص غير التي لإضافته إلى فاعله، ولأن لبناء الفعل للمجهول نكتا غير التي لبنائه للفاعل، على أن أبا علي الفارسي ألف كتابا سماه الحجة احتج فيه للقراءات المأثورة احتجاجا من جانب العربية.
ثم إن القراءات العشر الصحيحة المتواترة، قد تتفاوت بما يشتمل عليه بعضها من خصوصيات البلاغة أو الفصاحة أو كثرة المعاني أو الشهرة، وهو تمايز متقارب، وقل أن يكسب إحدى القراءات في تلك الآية رجحانا، على أن كثيرا من العلماء كان لا يرى مانعا من ترجيح قراءة على غيرها، ومن هؤلاء الإمام محمد بن جرير الطبري، والعلامة الزمخشري وفي أكثر ما رجح به نظر سنذكره في مواضعه، وقد سئل ابن رشد عما يقع في كتب المفسرين والمعربين من اختيار إحدى القراءتين المتواترتين وقولهم هذه القراءة أحسن: أذاك صحيح أم لا? فأجاب: أما ما سألت عنه مما يقع في كتب المفسرين والمعربين من تحسين بعض القراءات واختيارها على بعض لكونها أظهر من جهة الإعراب، وأصح في النقل، وأيسر في اللفظ فلا ينكر ذلك، كرواية ورش التي اختارها الشيوخ المتقدمون عندنا أي بالأندلس فكان الإمام في الجامع لا يقرأ إلا بها لما فيها من تسهيل النبرات وترك تحقيقها في جميع المواضع، وقد تؤول ذلك فيما روي عن مالك من كراهية النبر في القرآن في الصلاة.
القراءة بالنبر:
وفي كتاب الصلاة الأول من العتبية: سئل مالك عن النبر في القرآن فقال: إني لأكرهه وما يعجبني ذلك، قال ابن رشد في البيان يعني بالنبر ههنا إظهار الهمزة في كل موضع على الأصل فكره ذلك واستحب فيه التسهيل على رواية ورش، لما جاء من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن لغته الهمز أي إظهار الهمز في الكلمات المهموزة بل كان ينطق بالهمزة مسهلة إلى أحرف علة من جنس حركتها، مثل {ياجوج وماجوج} بالألف دون الهمز، ومثل الذيب في {الذئب} ومثل مومن في {مؤمن}. ثم قال: ولهذا المعنى كان العمل جاريا في قرطبة قديما أن لا يقرأ الإمام بالجامع في الصلاة إلا برواية ورش، وإنما تغير ذلك وتركت المحافظة عليه منذ زمن قريب، اهـ. وهذا خلف بن هشام البزار راوي حمزة، قد اختار لنفسه قراءة من بين قراءات الكوفيين، ومنهم شيخة حمزة بن حبيب وميزها قراءة خاصة فعدت عاشرة القراءات العشر وما هي إلا اختيار من قراءات الكوفيين، ولم يخرج عن قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر عن عاصم إلا في قراءة قوله تعالى: {وحرام على قرية} قرأها بالألف بعد الراء مثل حفص والجمهور.
 هل يفضي ترجيح بعض القراءات على بعض إلى أن تكون الراجحة أبلغ من المرجوحة فيفضي إلى أن المرجوحة أضعف في الإعجاز؟
قلت: حد الإعجاز مطابقة الكلام لجميع مقتضى الحال، وهو لا يقبل التفاوت، ويجوز مع ذلك أن يكون بعض الكلام المعجز مشتملا على لطائف وخصوصيات تتعلق بوجوه الحسن كالجناس والمبالغة، أو تتعلق بزيادة الفصاحة، أو بالتفنن مثل {أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير} على أنه يجوز أن تكون إحدى القراءات نشأت عن ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم للقارئ أن يقرأ بالمرادف تيسيرا على الناس كما يشعر به حديث تنازع عمر مع هشام بن حكيم، فتروى تلك القراءة للخلف فيكون تمييز غيرها عليها بسبب أن المتميزة هي البالغة غاية البلاغة وأن الأخرى توسعة ورخصة، ولا يعكر ذلك على كونها أيضا بالغة الطرف الأعلى من البلاغة وهو ما يقرب من حد الإعجاز.
 هل الاعجاز في كل آية من القرآن؟
وأما الإعجاز فلا يلزم أن يتحقق في كل آية من آي القرآن لأن التحدي إنما وقع بسورة مثل سور القرآن، وأقصر سورة ثلاث آيات فكل مقدار ينتظم من ثلاث آيات من القرآن يجب أن يكون مجموعه معجزا.
منهج ابن عاشور في التعرض للقراءات العشر في تفسيره:
تنبيه: أنا أقتصر في هذا التفسير على التعرض لاختلاف القراءات العشر المشهورة خاصة في أشهر روايات الراوين عن أصحابها لأنها متواترة، وإن كانت القراءات السبع قد امتازت على بقية القراءات بالشهرة بين المسلمين في أقطار الإسلام. وأبني أول التفسير على قراءة نافع برواية عيسى ابن مينا المدني الملقب بقالون لأنها القراءة المدنية إماما وراويا ولأنها التي يقرأ بها معظم أهل تونس، ثم أذكر خلاف بقية القراء العشرة خاصة. والقراءات التي يقرأ بها اليوم في بلاد الإسلام من هذه القراءات العشر، هي قراءة نافع برواية قالون في بعض القطر التونسي وبعض القطر المصري، وفي ليبيا وبرواية ورش في بعض القطر التونسي وبعض القطر المصري وفي جميع القطر الجزائري وجميع المغرب الأقصى، وما يتبعه من البلاد. والسودان.
وقراءة عاصم برواية حفص عنه في جميع الشرق من العراق والشام وغالب البلاد المصرية والهند وباكستان وتركيا والأفغان. وبلغني أن قراءة أبي عمرو البصري يقرأ بها في السودان المجاور مصر.

- التفسير في اللغة:
- الفرق بين الفعل بالتخفيف والفعل بالتشديد:
-الرد على تفريق شهاب الدين بين الفعل المضاعف والمخفف:
- التفسير في الاصطلاح:
- موضوع التفسير:
- هل التفسير يعد علما:
- سبب اطلاق العلماء على التفسير بأنه علم:
- مكانة التفسير بين العلوم الشرعية:
- أول من صنف في التفسير:
- روايات التفسير:
- مناهج المفسرين:
- مكانة تفسير الزمخشري وابن عطية:
- معنى التأويل:
- الأدلة على التأويل:
- معنى استمداد علم التفسير:
- الاستمداد لغة:
- المراد بالعربية:
-علاقة العربية بفهم القرآن:
- المقصود بقواعد العربية وعلاقتها بالتفسير:
- علاقة علم البيان والبلاغة بالتفسير:
- نقولات للعلماء في بيان أهمية علمي البيان والمعاني للمفسر:
-أهمية ديوان العرب في التفسير:
- هل النبي صلى الله عليه وسلم فسر القرآن:
- أسباب النزول من التفسيرالتوقيفي :
- العبرة في سبب النزول بعموم اللفظ لا بخصوص السبب":
- الاجماع في التفسير:
- القراءات وحاجة التفسير إليها:
- أخبار العرب هل نحتاجها في التفسير؟
- علاقة أصول الفقه بالتفسير:
- هل علم الكلام يحتاجه المفسر؟
-هل المفسر يحتاج الفقه؟
- الخلاصة في استمداد علم التفسير:
- حذرالصحابة من التفسير:
- هل التفسير مقصورا على تفسير النبي صلى الله عليه وسلم فحسب؟
- هل فسر الصحابة القرآن الكريم؟
- هل يجوز التفسير بالرأي؟
- الجواب عن الشبهة التي نشأت من الآثار المروية في التحذير من تفسير القرآن بالرأي :
- الرد على أن مقولة الصديق "أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني إذا قلت في القرآن برأيي"
- اختلاف رأي العلماء في التفسير بالرأي:
- طائفة الباطنية:
- سبب نشوء المذهب الباطني في التفسير:
- أصل المذهب الباطني:
-موقف العلماء من مذهب الباطنية:
- الفرق بين الباطنية والصوفيه في التفسير:
-انحاء الاشارة المقبولة في القرآن:
- هل ينسب للقرآن المعنى الاشاري؟
- هل دلالة الاشارة تتعلق بالمعنى الاشاري؟
 المقصد من انزال القرآن:
 الحكمة من نزول القرآن باللسان العربي :
 المقاصد الأصلية التي جاء القرآن لتبيانها:
 بيان غرض المفسر:
 طرائق المفسرين للقرآن:
 رأي العلماء في التوفيق بين المعنى القرآني وبين بعض العلوم مما له تعلق بمقصد من مقاصد التشريع :

-شرط التوفيق بين المعنى القرآني وبين بعض العلوم مما له تعلق بمقصد من مقاصد التشريع :

-الرد عل من يرى أن القرآن يعتمد في مسلك فهمه وإفهامه على مقدرة العرب وطاقتهم، وأن الشريعة أمية.
 رأي ابن عاشور في التوفيق بين المعنى القرآني وبين بعض العلوم مما له تعلق بمقصد من مقاصد التشريع :

- موقف بعض المفسرين من أسباب النزول:
 اعتذار ابن عاشورللمؤلفين في أسباب النزول:
 رد ابن عاشور على الناقلين لأسباب النزول:
 حاجة المفسر للعلم بأسباب النزول:
 أقسام الأسانيد الصحيحة لأسباب النزول:
 فوائد أسباب النزول:

 حالات القراءات عند ابن عاشور:.
 مزية الحالة الأولى:
 بعض القراءات المخالفة لمصحف عثمان:
 شروط الرواية الصحيحة الشاذة التي لم تبلغ حد التواتر عند علماء القراءات :
 القراء العشرة:
 حكم القراءة بما دون العشر:
 سبب تعلق الحالة الثانية بعلم التفسير:
 رد الاشكال في حديث عمربن الخطاب وهشام بن حكيم:
 معنى القرآن نزل على سبع أحرف:
 السبع أحرف عند من يرون أن حديث عمر وهشام محكم:
 الرد على من قال أن الأحرف السبعة هي سبع لغات مبثوثة في القرآن:
 أفضل تفسير للأحرف السبعة:
 هل الأحرف السبعة هي القراءات السبعة؟
 مراتب القراءات الصحيحة والترجيح بينها
 هل القراءات السبع متواترة؟
 الصحابة اللذين تنتهي إليهم القراءات العشر:
 وجوه الاعراب في القرآن:
 القراءة بالنبر:
 هل يفضي ترجيح بعض القراءات على بعض إلى أن تكون الراجحة أبلغ من المرجوحة فيفضي إلى أن المرجوحة أضعف في الإعجاز؟
 هل الاعجاز في كل آية من القرآن؟
 منهج ابن عاشور في التعرض للقراءات العشر:

رد مع اقتباس
 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
المجلس, السادس

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 08:04 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir