(6) قولُهُ: (في الصحيحِ)؛ أي: (الصحيحَيْنِ).
قولُهُ: (لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ) هوَ بالْجَزْمِ على النَّهْيِ، والمرادُ أنْ يقولَ ذلكَ لمملوكِهِ أوْ مملوكِ غيرِهِ؛ فالكلُّ مَنْهِيٌّ عنهُ.
قولُهُ: (أَطْعِمْ رَبَّكَ) بفتحِ الهمزةِ من الإطعامِ.
قولُهُ: (وَضِّئْ رَبَّكَ) أَمْرٌ من الوضوءِ، وفيهما في هذا الحديثِ زيادةُ: (اسْقِ رَبَّكَ) وكأنَّ المُؤَلِّفَ اختصَرَهَا.
قالَ الْخَطَّابِيُّ: (وسببُ المنعِ أنَّ الإنسانَ مَرْبُوبٌ مُعَبَّدٌ بإخلاصِ التوحيدِ للهِ تعالى وتَرْكِ الإشراكِ بهِ، فَتَرَكَ المُضَاهَاةَ بالاسمِ لِئَلاَّ يَدْخُلَ في معنى الشركِ، ولا فَرْقَ في ذلكَ بينَ الحُرِّ والعبدِ، وأمَّا مَنْ لا تَعَبُّدَ عليهِ منْ سائرِ الحيواناتِ والجماداتِ، فلا يُكْرَهُ أنْ يُطْلَقَ ذلكَ عليهِ عندَ الإضافةِ، كقولِهِ: رَبُّ الدَّارِ والثَّوْبِ).
قالَ ابنُ مُفْلِحٍ في (الفُرُوعِ): (وظاهرُ النهيِ التحريمُ، وقدْ يَحْتَمِلُ أنَّهُ للكراهَةِ، وجزمَ بهِ غيرُ واحدٍ من العلماءِ).
فإنْ قُلْتَ: قدْ قالَ اللهُ تعالى حِكَايَةً عنْ يُوسُفَ عليهِ السلامُ: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ }[يوسف:42]، وقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أَشْرَاطِ الساعةِ: ((أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا)) فهذا يدلُّ على الجوازِ.
قيلَ: فأمَّا الآيَةُ ففيها جوابانِ:
أحدُهما: وهوَ الأظهرُ: أَنَّ هذا جائزٌ في شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا،وقدْ وردَ شَرْعُنا بخلافِهِ.
والثاني: أنَّهُ وردَ لبيانِ الجوازِ،والنهيُ للأدبِ والتنزيهِ دونَ التحريمِ.
وأمَّا الحديثُ؛ فليسَ منْ هذا البابِ للتأنيثِ، والنهيُ عنهُ أنْ يقولَ ذلكَ للذَّكَرِ لِمَا فيهِ منْ إيهامِ المشاركةِ، وهوَ معدومٌ في الأنثى.
أوْ يُقَالُ بِحَمْلِهِ على الكَرَاهَةِ في الأنثى أيضًا؛ لوُرُودِ الحديثِ بذلكَ دُونَ الذَّكَرِ؛ لأنَّهُ لم يَرِدْ فيهِ إلاَّ النهيُ.
ويُقَالُ، وهوَ أظهرُ: إنَّ هذا ليسَ فيهِ إلاَّ وَصْفُها بذلكَ لا دُعَاؤُهَا بهِ وتَسْمِيَتُها بهِ، وفَرْقٌ بينَ الدعاءِ والتسميَةِ وبينَ الوصفِ، كما تقولُ: زيدٌ فاضلٌ، فَتَصِفُهُ بذلكَ، ولا تُسَمِّهِ بهِ ولا تَدْعُهُ بهِ.
قولُهُ: (وَلْيَقُلْ: سَيِّدِي) قيلَ:إنَّ الفرقَ بينَ الربِّ والسيِّدِ، أنَّ الربَّ منْ أسماءِ اللهِ تعالى اتِّفَاقًا. واخْتُلِفَ في السيِّدِ، هلْ هوَ منْ أسماءِ اللهِ تعالى؟
ولمْ يَأْتِ في القرآنِ أنَّهُ منْ أسماءِ اللهِ، لكنْ في حديثِ عبدِ اللهِ بنِ الشِّخِّيرِ: ((السَيِّدُ اللهُ)) وسيأتي.
فإنْ قُلْنَا: ليسَ منْ أسماءِ اللهِ، فالفرقُ واضحٌ؛ إذْ لا التباسَ.
وإنْ قُلْنَا: إنَّهُ منْ أسماءِ اللهِ، فليسَ في الشُّهْرَةِ والاستعمالِ كلفظِ الربِّ، فيحصلُ الفرقُ.
وأمَّا منْ حيثُ اللُّغَةُ؛ فالسيِّدُ من السُّؤْدُدِ، وهوَ التقدُّمُ، يُقَالُ: سادَ قومَهُ إذا تقدَّمَهُم، ولا شُكْرَ في تقديمِ السيِّدِ على غُلامِهِ. فلمَّا حصلَ الافتراقُ جازَ الإطلاقُ.
قُلْتُ: وحديثُ ابنِ الشِّخِّيرِ لا ينفي إطلاقَ لفظِ السيِّدِ على غيرِ اللهِ، بل المرادُ أنَّ اللهَ هوَ الأحقُّ بهذا الاسمِ بأنواعِ العباراتِ، كما أنَّ غيرَهُ لا يُسَمَّى بهِ.
(وَمَوْلاَيَ) قالَ النَّوَوِيُّ: (المولى يُطْلَقُ على سِتَّةَ عَشَرَ معنًى؛ منها الناظرُ والمَوْلَى والمالكُ. وحينئذٍ فلا بأسَ أنْ يقولَ: مولايَ).
قالَ في (الفُرُوعِ): (ولا يَقُلْ: عَبْدِي وَأَمَتِي، كُلُّكُم عبيدُ اللهِ وَإِمَاءُ اللهِ، ولا يَقُل العبدُ لسَيِّدِهِ: رَبِّي).
وفي مسلمٍ أيضًا:((وَلاَ مَوْلاَيَ؛ فَمَوْلاَكُمُ اللهُ)) وظاهرُ النهيِ للتحريمِ، وقدْ يَحْتَمِلُ أنَّهُ للكراهةِ، وجَزَمَ بهِ غيرُ واحدٍ من العلماءِ كما في (شَرْحِ مُسْلِمٍ)). انتهى كلامُهُ.
قُلْتُ: فظاهرُ روايَةِ مُسْلِمٍ مُعَارِضَةٌ لحديثِ البابِ.
وأُجِيبَ بأنَّ مُسْلِمًا قدْ بَيَّنَ الاختلافَ فيهِ عن الأعمشِ، وأنَّ منهمْ مَنْ ذَكَرَ هذهِ الزيادةَ، ومنهم مَنْ حَذَفَها.
قالَ عِيَاضٌ: (وحَذْفُها أصحُّ، فَظَهَرَ أنَّ اللفظَ الأوَّلَ أَرْجَحُ، وإنَّما صِرْنَا للترجيحِ للتعارُضِ بيْنَهُما، والجمعُ مُتَعَذِّرٌ، والعلمُ بالتاريخِ مفقودٌ، فلمْ يَبْقَ إلاَّ الترجيحُ).
قُلْتُ: الجمعُ مُمْكِنٌ بِحَمْلِ النهيِ على الكراهةِ، أوْ على خلافِ الأَوْلَى.
قولُهُ: (وَلاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي وَأَمَتِي) لأنَّ حقيقةَ العُبُودِيَّةِ إنَّما يستَحِقُّها اللهُ تعالى، ولأنَّ فيها تعظيمًا لا يَلِيقُ بالمخلوقِ. وقدْ بَيَّنَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العِلَّةَ في ذلكَ، كما رواهُ أبو داودَ بإسنادٍ صحيحٍ عنْ أبي هريرةَ مرفوعًا: ((لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي وَأَمَتِي، وَلاَ يَقُولَنَّ المَمْلُوكُ: رَبِّي وَرَبَّتِي، وَلْيَقُلِ الْمَالِكُ: فَتَايَ وَفَتَاتِي، وَلْيَقُلِ الْمَمْلُوكُ: سَيِّدِي وَسَيِّدَتِي؛ فَإِنَّكُمُ الْمَمْلُوكُونَ، وَالرَّبُّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ)) ورواهُ أيضًا بإسنادٍ صحيحٍ موقوفًا، فهذهِ عِلَّةٌ لهُ.
وفي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: ((لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي؛ فَإِنَّ كُلَّكُمْ عَبِيدُ اللهِ)).
قالَ في (مصابيحِ الجامِعِ): (النهيُ إنَّما جاءَ مُتَوَجِّهًا إلى السيِّدِ؛ إذْ هوَ في مَظِنَّةِ الاستطالةِ. وأمَّا قولُ الْغَيْرِ: هذا عَبْدُ زَيْدٍ، وهذهِ أَمَةُ خالدٍ، فجائزٌ؛ لأنَّهُ يقولُ إخبارًا أوْ تعريفًا، وليسَ في مَظِنَّةِ الاستطالةِ).
قُلْتُ: وهوَ حَسَنٌ، وقدْ رُوِيَتْ أحاديثُ تدلُّ على ذلكَ.
وقالَ أبو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: (لا نَعْلَمُ بينَ العلماءِ خلافًا أنَّهُ لا ينْبَغِي لأحدٍ أنْ يقولَ لأحدٍ من المخلوقينَ: مولايَ، ولا يقولَ: عبدُكَ وعبْدِي، وإنْ كانَ مملوكًا، وقدْ حَظَرَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المملوكينَ، فكيفَ للأحرارِ؟)
قولُهُ: (وَلْيَقُلْ: فتايَ وفتاتِي وغُلامِي) أيْ: لأنَّها لَيْسَتْ دالَّةً على الْمِلْكِ كَدَلالَةِ عبْدِي وأَمَتِي.
فَأَرْشَدَ عليهِ السلامُ إلى ما يُؤَدِّي المعنى من السلامةِ من الإيهامِ والتَّعَاظُمِ، معَ أنَّها تُطْلَقُ على الحُرِّ والمملوكِ، لكنَّ إضافَتَهُ تَدُلُّ على الإخلاصِ.