النَّوْعُ الحَادِي وَالسِّتُّونَ: مَعْرِفَةُ الثِّقَاةِ وَالضُّعَفَاءِ مِنَ الرُّوَاةِ وَغَيْرِهِمْ
وَهَذَا الفَنُّ مِنْ أَهَمِّ العُلُومِ وَأَعْلَاهَا وَأَنْفَعِهَا, إِذْ بِهِ تُعْرَفُ صِحَّةُ سَنَدِ الحَدِيثِ مِنْ ضَعْفِهِ.
وَقَدْ صَنَّفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا كُتُبًا كَثِيرَةً. مِنْ أَنْفَعِهَا كِتَابُ ابْنِ حَاتِمٍ. وَلابْنِ حِبَّانَ كِتَابَانِ نَافِعَانِ. أَحَدُهُمَا فِي الثِّقَاةِ, وَالآخَرُ فِي الضُّعَفَاءِ. وَكِتَابُ الكَامِلِ لابْنِ عَدِيٍّ.
وَالتَّوَارِيخُ المَشْهُورَةُ, وَمِنْ أَجَلِّهَا تَارِيخُ بَغْدَادَ لِلحَافِظِ أَبِي بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الخَطِيبِ. وَتَارِيخُ دِمَشْقَ لِلحَافِظِ أَبِي القَاسِمِ بْنِ عَسَاكِرَ.
وَتَهْذِيبُ شَيْخِنَا الحافظِ أَبِي الحَجَّاجِ المِزِّيِّ، ومِيزانُ شَيْخِنَا الحافظِ أَبِي عَبْدِ اللهِ الذَّهَبِيِّ، وقد جَمَعْتُ بَيْنَهُمَا، وزِدْتُ في تَحْرِيرِ الجَرْحِ والتعديلِ عليهِما في كتابٍ، وسَمَّيْتُهُ (التَّكْمِيلَ في مَعْرِفَةِ الثقاتِ والضُّعَفَاءِ والمَجَاهِيلِ) وهو مِن أَنْفَعِ شَيْءٍ للفَقِيهِ البارِعِ، وكذلك للمُحَدِّثِ.
وليسَ الكلامُ في جَرْحِ الرجالِ على وَجْهِ النصيحةِ للهِ ولِرَسُولِهِ ولِكِتَابِهِ وللمؤمنينَ بغِيبَةٍ، بل يُثَابُ بتَعاطِي ذلك، إذا قُصِدَ به ذلك، وقد قِيلَ لِيَحْيَى بنِ سَعِيدٍ القَطَّانِ: (أَمَا تَخْشَى أَنْ يَكُونَ هَؤُلاءِ الَّذِينَ تَرَكْتَ حَدِيثَهُمْ، خُصَماءَكَ يَوْمَ القيامةِ؟) قالَ: (لَأَنْ يَكُونَ هَؤُلاءِ خُصَمائِي، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- خَصْمِي يَوْمَئِذٍ، يَقُولُ لِي: لِمَ لَمْ تَذُبَّ عَنْ حَدِيثِي؟).
وقد سَمِعَ أَبُو تُرابٍ النَّخْشَبِيُّ أَحْمَدَ بنَ حَنْبَلٍ، وهُوَ يَتَكَلَّمُ فِي بَعْضِ الرُّوَاةِ فَقَالَ له: (أَتَغْتَابُ العُلَمَاءَ؟!) فقالَ لَهُ: (وَيْحَكَ هَذِه نَصِيحَةٌ لَيْسَ هَذَا غِيبَةً). ويُقالُ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ تَصَدَّى للكلامِ في الرُّوَاةِ شُعْبَةُ بنُ حَجَّاجٍ، وتَبِعَهُ يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ القَطَّانُ، ثُمَّ تَلامِذَتُهُ: أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ، وعَلِيُّ بنُ المَدِينِيُّ، ويَحْيَى بنُ مَعِينٍ، وعَمْرُو بنُ الفَلَّاسِ وغَيْرُهُمْ، وقد تَكَلَّمَ في ذلك مَالِكٌ وهِشَامُ بنُ عُرْوَةَ، وجَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ، وقد قالَ -عليه الصلاةُ والسلامُ-: (الدِّينُ النَّصِيحَةُ).
وقد تَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ فِي غَيْرِهِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ؛ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ العَدَاوَةِ المَعْلُومَةِ.
وقد ذَكَرْنَا مِن أَمْثِلَةِ ذلك: كَلامَ مُحَمَّدِ بنِ إِسْحَاقَ فِي الإمامِ مَالِكٍ، وكذا كَلامُ مَالِكٍ فِيهِ، وقد وَسَّعَ السُّهَيْلِيُّ القَوْلَ فِي ذلك، وكذلك كَلامُ النَّسَائِيِّ في أَحْمَدَ بنِ صَالِحٍ المِصْرِيِّ، حينَ مَنَعَهُ مِنْ حُضُورِ مَجْلِسِهِ.