فَصْلٌ في الصَّلاةِ على المَيِّتِ
تَسْقُطُ بمُكَلَّفٍ, وتُسَنُّ جَمَاعَةً, وأن لا تَنْقُصَ الصُّفُوفُ عَن ثَلاثَةٍ. (والسُّنَّةُ أن يَقُومَ الإمامُ عندَ صَدْرِه)؛ أي: صَدْرِ ذَكَرٍ, (وعندَ وَسَطِهَا)؛ أي: وَسَطِ أُنْثَى, والخُنْثَى بينَ ذلك.
والأَوْلَى بها وَصِيُّهُ العَدْلُ، فسَيِّدٌ برَقِيقِه، فالسُّلْطَانُ، فنَائِبُه الأميرُ، فالحَاكِمُ، فالأَوْلَى بغُسْلِ رَجُلٍ، فزَوْجٌ بعدَ ذَوِي الأَرْحَامِ، ومَن قَدَّمَهُ وَلِيٌّ بمَنْزِلَتِه, لا مَن قَدَّمَهُ وَصِيٌّ.
وإذا اجتَمَعَتْ جَنَائِزُ, قُدِّمَ إلى الإمَامِ أَفْضَلُهُم, وتَقَدَّمَ، فأَسَنُّ، فأَسْبَقُ، ويُقْرَعُ معَ التَّسَاوِي، وجَمْعُهُم بصَلاةٍ أَفْضَلُ، ويُجْعَلُ وَسَطُ أُنْثَى حِذَاءَ صَدْرِ ذَكَرٍ، وخُنْثَى بَيْنَهُما. (ويُكَبِّرُ أَرْبَعاً)؛ لتَكْبِيرِ النَّبِيِّ صلَّى اللَّهُ علَيْه وسَلَّمَ على النَّجَاشِيِّ أَرْبَعاً، مُتَّفَقٌ عليه.
(يَقْرَأُ في الأُولَى)؛ أي: بعدَ التَّكْبِيرَةِ الأُولَى وهي تَكْبِيرَةُ الإحرامِ (بعدَ التَّعَوُّذِ) والبَسْمَلَةِ- (الفَاتِحَةَ) سِرًّا, ولو لَيْلاً؛ لِمَا رَوَى ابنُ مَاجَهْ, عَن أُمِّ شَرِيكٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَتْ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيْه وسَلَّمَ أَنْ نَقْرَأَ عَلَى الجِنَازَةِ بفَاتِحَةِ الكِتَابِ, ولا نَسْتَفْتِحُ ولا نَقْرَأُ سُورَةً مَعَهَا.
(ويُصَلَّى على النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ) في؛ أي: بعدَ التَّكْبِيرَةِ (الثَّانِيَةِ كـ) الصَّلاةِ في (التَشَهُّدِ) الأخيرِ؛ لِمَا رَوَى الشَّافِعِيُّ, عَن أَبِي أُمَامَةَ بنِ سَهْلٍ, أَنَّهُ أَخْبَرَهُ رَجُلٌ مِن أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلَّى اللَّهُ علَيْه وسَلَّمَ أنَّ السُّنَّةَ في الصَّلاةِ على الجِنَازَةِ أنْ يُكَبِّرَ الإمامُ, ثُمَّ يَقْرَأُ بفَاتِحَةِ الكِتَابِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الأُولَى سِرًّا في نَفْسِه, ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلَّى اللَّهُ علَيْه وسَلَّمَ, ويُخْلِصُ الدُّعَاءَ للمَيِّتِ, ثُمَّ يُسَلِّمُ، (ويَدْعُو في الثَّالِثَةِ)؛ لِمَا تَقَدَّمَ, (فيَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لحَيِّنَا ومَيِّتِنَا, وشَاهِدِنَا وغَائِبِنَا, وصَغِيرِنَا وكَبِيرِنَا, وذَكَرِنَا وأُنْثَانَا, إِنَّكَ تَعْلَمُ مُنْقَلَبَنا ومَثْوَانَا, وأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ, اللَّهُمَّ مَن أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ علَى الإِسْلامِ والسُّنَّةِ, ومَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَيْهِمَا). رواهُ أَحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ وابنُ مَاجَهْ مِن حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، لكنْ زادَ فيهِ المُوَفَّقُ: (وأَنْتَ علَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). ولَفْظَةُ السُّنَّةِ: ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ, وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ, وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ -بضَمِّ الزَّايِ, وقد تُسَكَّنُ: وهو القِرَى- وأَوْسِعْ مَدْخَلَهُ -بفَتْحِ الميمِ: مَكَانُ الدُّخُولِ, وبضَمِّهَا: الإِدْخَالُ- واغْسِلْهُ بالمَاءِ والثَّلْجِ والبَرَدِ, ونَقِّهِ مِنَ الذُّنُوبِ وَالخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ, وَأَبْدِلْهُ دَاراً خَيْراً مِنْ دَارِه, وزَوْجاً خَيْراً مِنْ زَوْجِه, وأَدْخِلْهُ الجَنَّةَ, وأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ وعَذَابِ النَّارِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَن عَوْفِ بنِ مَالِكٍ, أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ علَيْه وسَلَّمَ يقولُ ذلكَ على جِنَازَةٍ حَتَّى تَمَنَّى أنْ يَكُونَ ذلكَ المَيِّتَ، وفيهِ: ((وأَبْدِلْهُ أَهْلاً خَيْراً مِنْ أَهْلِهِ, وَأَدْخِلْهُ الجَنَّةَ)). وزادَ المُوَفَّقُ لَفْظَ: ((مِنَ الذُّنُوبِ)).
(وأَفْسِحْ لَهُ في قَبْرِه, ونَوِّرْ لَهُ فيهِ)؛ لأنَّه لائقٌ بالمَحَلِّ، وإن كانَ المَيِّتُ أُنْثَى, أَنَّثَ الضَّمِيرَ، وإن كانَ خُنْثَى قالَ: هذا المَيِّتُ. ونَحْوَه, ولا بأسَ بالإشارةِ بالأُصْبَعِ حَالَ الدُّعَاءِ للمَيِّتِ.
(وإن كانَ) المَيِّتُ (صَغِيراً)؛ ذكراً أو أُنْثَى, أو بلَغَ مَجْنُوناً واستَمَرَّ, (قالَ) بعدُ: وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَيْهِمَا, (اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ ذُخْراً لوَالِدَيْهِ وفَرَطاً)؛ أي: سَابِقاً مُهَيَّئاً لمصَالِحِ وَالِدَيْهِ في الآخِرَةِ, سَوَاءٌ ماتَ في حياةِ أَبَوَيْهِ أو بَعْدَهُمَا، (وأَجْراً وشَفِيعاً مُجَاباً, اللَّهُمَّ ثَقِّلْ به مَوَازِينَهُمَا, وعَظِّمْ به أُجُورَهُمَا, وأَلْحِقْهُ بصَالِحِ سَلَفِ المُؤْمِنِينَ, واجْعَلْهُ في كَفَالَةِ إِبْرَاهِيمَ, وقِهِ برَحْمَتِكَ عَذَابَ الجَحِيمِ). ولا يَسْتَغْفِرُ له؛ لأنَّه شَافِعٌ غَيْرُ مَشْفُوعٍ فيه, ولا جَرَى عليهِ قَلَمٌ، وإذا لم يُعْرَفْ إِسْلامُ وَالِدَيْهِ, دَعَا لمَوَالِيهِ.
(ويَقِفُ بعدَ الرَّابِعَةِ قَلِيلاً), ولا يَدْعُو ولا يَتَشَهَّدُ ولا يُسَبِّحُ, (ويُسَلِّمُ) تَسْلِيمَةً (وَاحِدَةً عَن يَمِينِه), رَوَى الجُوزْجَانِيُّ, عَن عَطَاءِ بنِ السَّائِبِ, أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ علَيْه وسَلَّمَ, سَلَّمَ على الجِنَازَةِ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً. ويَجوزُ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، وثَانِيَةً.
وسُنَّ وقُوفُه حتَّى تُرْفَعَ, (ويَرْفَعُ يَدَيْهِ) نَدْباً (معَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ)؛ لِمَا تَقَدَّمَ في صَلاةِ العِيدَيْنِ.
(ووَاجِبُهَا)؛ أي: الوَاجِبُ في صلاةِ الجِنَازَةِ مِمَّا تَقَدَّمَ (القِيَامُ) في فَرْضِهَا, (وتَكْبِيرَاتٌ) أَرْبَعُ, (والفَاتِحَةُ), ويتَحَمَّلُهَا الإمامُ عَن المَأْمُومِ, (والصَّلاةُ على النَّبِيِّ صلَّى اللَّهُ علَيْه وسَلَّمَ, ودَعْوَةٌ للمَيِّتِ, والسَّلامُ).
ويُشْتَرَطُ لها النِّيَّةُ, فيَنْوِي الصَّلاةَ على المَيِّتِ, ولا يَضُرُّ جَهْلُه بالذَّكَرِ وغَيْرِه، فإن جَهِلَهُ نَوَى على مَن يُصَلِّي عليهِ الإمامُ، وإن نَوَى أَحَدَ المَوْتَى اعتُبِرَ تَعْيِينُه، وإنْ نَوَى على هذا الرَّجُلِ فبَانَ امْرَأَةً أو بالعَكْسِ, أَجْزَأَ؛ لقُوَّةِ التَّعْيِينِ، قالَهُ أبو المَعَالِي.
وإِسْلامُ المَيِّتِ، وطَهَارَتُه مِن الحَدَثِ والنَّجَسِ معَ القُدْرَةِ, وإلاَّ صلَّى عليه، والاستِقْبَالُ، والسُّتْرَةُ؛ كمَكْتُوبَةٍ، وحُضورُ المَيِّتِ بينَ يَدَيْهِ، فلا تَصِحُّ على جِنَازَةٍ مَحْمُولَةٍ ولا مِن وَرَاءِ جِدَارٍ.
(ومَن فَاتَهُ شَيْءٌ مِن التَّكْبِيرَةِ قَضَاهُ) نَدْباً (على صِفَتِه)؛ لأنَّ القَضَاءَ يَحْكِي الأَدَاءَ كسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، والمَقْضِيُّ أَوَّلُ صَلاتِه يَأْتِي فيهِ بحَسَبِ ذلكَ، وإن خَشِيَ رَفْعَها, تَابَعَ التَّكْبِيرَ, رُفِعَتْ أم لا، وإن سَلَّمَ معَ الإمامِ ولم يَقْضِه صَحَّتْ؛ لقَوْلِه عليهِ السَّلامُ لعَائِشَةَ:((مَا فَاتَكِ, لا قَضَاءَ عَلَيْكِ)).
(ومَن فَاتَتْهُ الصَّلاةُ عليهِ)؛ أي: على المَيِّتِ (صَلَّى على القبرِ) إلى شهرٍ مِن دَفْنِه؛ لِمَا في الصَّحِيحَيْنِ مِن حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وابنِ عَبَّاسٍ: (أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ علَيْه وسَلَّمَ صَلَّى عَلَى القَبْرِ).
وعَن سَعِيدِ بنِ المُسَيِّبِ,(أنَّ أُمَّ سَعْدٍ مَاتَتْ، والنَّبِيُّ صلَّى اللَّهُ علَيْه وسَلَّمَ غَائِبٌ, فلَمَّا قَدِمَ صَلَّى عَلَيْهَا وَقَدْ مَضَى لذلكَ شَهْرٌ)) رواهُ التِّرْمِذِيُّ ورُوَاتُهُ ثِقَاتٌ.
قالَ أَحْمَدُ: أَكْثَرُ مَا سَمِعْتُ هَذَا. وتَحْرُمُ بَعْدَهُ, ما لم تَكُنْ زِيَادَةً يَسِيرَةً. (و) يُصَلَّى (على غَائِبٍ) عَن البَلَدِ ولو دونَ مَسَافَةِ قَصْرٍ, فتَجُوزُ صلاةُ الإمامِ والآحادِ عليهِ (بالنِّيَّةِ إلى شَهْرٍ)؛ لصلاتِه عليهِ السَّلامُ على النَّجَاشِيِّ, كما في المُتَّفَقِ عليه عَن جَابِرٍ. وكذا غَرِيقٌ وأَسِيرٌ ونَحْوُهُما، وإن وُجِدَ بَعْضُ مَيِّتٍ لم يُصَلَّ عليهِ؛ فكَكُلُّه إلا الشَّعَرَ والظُّفُرَ والسِّنَّ، فيُغَسَّلُ ويُكَفَّنُ ويُصَلَّى عليه، ثُمَّ إن وُجِدَ البَاقِي فكذلك, ويُدْفَنُ بجَنْبِه، ولا يُصَلَّى على مَأْكُولٍ ببَطْنِ آكِلٍ, ولا مُستَحِيلٍ بإِحْرَاقٍ ونَحْوِه, ولا على بَعْضِ حَيٍّ مُدَّةَ حَيَاتِه. (ولا) يُسَنُّ أن (يُصَلِّيَ الإمامُ) الأعظَمُ ولا إمامُ كُلِّ قَرْيَةٍ- وهو وَالِيها في القَضَاءِ- على الغَالِّ، وهو مَن كَتَمَ شَيْئاً مِمَّا غَنِمَهُ؛ لِمَا رَوَى زَيْدُ بنُ خَالِدٍ قالَ: (تُوُفِّيَ رَجُلٌ مِن جُهَيْنَةَ يَوْمَ خَيْبَرَ, فذُكِرَ ذلكَ لرَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيْه وسَلَّمَ فقالَ: ((صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ)). فتَغَيَّرَتْ وُجُوهُ القَوْمِ, فلَمَّا رَأَى مَا بِهِم قالَ: ((إِنَّ صَاحِبَكُمْ غَلَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)). ففَتَّشْنَا مَتَاعَهُ, فوَجَدْنَا فيهِ خَرَزاً مِن خَرَزِ اليَهُودِ, ما يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ). رواه الخَمْسَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ واحتَجَّ به أَحْمَدُ.
(ولا على قَاتِلِ نَفْسِه) عَمْداً؛ لِمَا رَوَى جَابِرُ بنُ سَمُرَةَ, أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ علَيْه وسَلَّمَ جَاؤُوهُ برَجُلٍ قَد قَتَلَ نَفْسَهُ بمَشَاقِصَ, فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وغَيْرُه.
والمَشَاقِصُ جَمْعُ مِشْقَصٍ كمِنْبَرٍ: نَصْلٌ عَرِيضٌ, أو سَهْمٌ فيه ذلك، أو نَصْلٌ طَوِيلٌ, أو سَهْمٌ فيه ذلك, يُرْمَى به الوَحْشُ.
(ولا بأسَ بالصَّلاةِ عليه)؛ أي: على المَيِّتِ (في المَسْجِدِ) إن أُمِنَ تَلْوِيثُه؛ لقَوْلِ عَائِشَةَ: صلَّى رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيْه وسَلَّمَ على سَهْلِ بنِ بَيْضَاءَ في المَسْجِدِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
و(صُلِّيَ على أَبِي بَكْرٍ وعُمَرَ فيه) رواهُ سَعِيدٌ. وللمُصَلِّي قِيرَاطٌ, وهو أَمْرٌ مَعْلُومٌ عندَ اللَّهِ تعالَى، وله بتَمَامِ دَفْنِهَا آخَرُ, بشَرْطِ أن لا يُفَارِقَهَا مِن الصَّلاةِ حَتَّى تُدْفَنَ.