الباب الثالث في المعاني والعلوم التي تضمنها القرآن ولنتكلم في ذلك على الجملة والتفصيل أما الجملة فاعلم أن المقصود بالقرآن دعوة الخلق إلى عبادة الله وإلى الدخول في دينه ثم إن هذا المقصد يقتضي أمرين لا بد منهما وإليهما ترجع معاني القرآن كله أحدهما بيان العبادة التي دعي الخلق إليها والأخرى ذكر بواعث تبعثهم على الدخول فيها وترددهم إليها فأما العبادة فتنقسم إلى نوعين وهما أصول العقائد وأحكام الأعمال وأما البواعث عليها فأمرين وهما الترغيب والترهيب وأما على التفصيل فاعلم أن معاني القرآن سبعة وهي علم الربوبية والنبوة والمعاد والأحكام والوعد والوعيد والقصص فأما علم الربوبية فمنه إثبات وجود الباري جل جلاله والاستدلال عليه بمخلوقاته فكل ما جاء في القرآن من التنبيه على المخلوقات والاعتبار في خلقة الأرض والسموات والحيوان والنبات والريح والأمطار والشمس والقمر والليل والنهار وغير ذلك من الموجودات فهو دليل على خالقه ومنه إثبات الوحدانية والرد على المشركين والتعريف بصفات الله من الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر وغير ذلك من أسمائه وصفاته والتنزيه عما لا يليق به وأما النبوة فإثبات نبوة الأنبياء عليهم السلام على العموم ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الخصوص وإثبات الكتب التي أنزلها الله عليهم ووجود الملائكة الذين كان منهم وسائط بين الله وبينهم والرد على من كفر بشيء من ذلك وينخرط في سلك هذا ما ورد في القرآن من تأنيس النبي صلى الله عليه وسلم وكرامته والثناء عليه وسائر الأنبياء صلى الله عليه وعليهم أجمعين وأما المعاد فإثبات الحشر وإقامة البراهين والرد على من خالف فيه وذكر ما في الدار الآخرة من الجنة والنار والحساب والميزان وصحائف الأعمال وكثرة الأهوال ونحو ذلك وأما الأحكام فهي الأوامر والنواهي وتنقسم خمسة أنواع واجب ومندوب وحرام ومكروه ومباح ومنها ما يتعلق بالأبدان كالصلاة والصيام وما يتعلق بالأموال كالزكاة وما يتعلق بالقلوب كالإخلاص والخوف والرجاء وغير ذلك وأما الوعد فمنه وعد بخير الدنيا من النصر والظهور وغير ذلك ومنه وعد بخير الآخرة وهو الأكثر كأوصاف الجنة ونعيمها وأما الوعيد فمنه تخويف بالعقاب في الدنيا ومنه تخويف بالعقاب في الآخرة وهو الأكثر كأوصاف جهنم وعذابها وأوصاف القيامة وأهوالها وتأمل القرآن تجد الوعد مقرونا بالوعيد قد ذكر أحدهما على أثر ذكر الآخر ليجمع بين الترغيب والترهيب وليتبين أحدهما بالآخر كما قيل فبضدها تتبين الأشياء.
وأما القصص فهو ذكر أخبار الأنبياء المتقدمين وغيرهم كقصة أصحاب الكهف وذي القرنين فإن قيل ما الحكمة في تكرار قصص الأنبياء في القرآن فالجواب من ثلاثة أوجه الأول أنه ربما ذكر في سورة من أخبار الأنبياء ما لم يذكره في سورة أخرى ففي كل واحدة منهما فائدة زائدة على الأخرى الثاني أنه ذكرت أخبار الأنبياء في مواضع على طريقة الإطناب وفي مواضع على طريقة الإيجاز لتظهر فصاحة القرآن في الطريقتين الثالث أن أخبار الأنبياء قصد بذكرها مقاصد فتعدد ذكرها بتعدد تلك المقاصد فمن المقاصد بها إثبات نبوة الأنبياء المتقدمين بذكر ما جرى على أيديهم من المعجزات وذكر إهلاك من كذبهم بأنواع من المهالك ومنها إثبات النبوة لمحمد صلى الله عليه وسلم لإخباره بتلك الأخبار من غير تعلم من أحد وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا} ومنها إثبات الوحدانية ألا ترى أنه لما ذكر إهلاك الأمم الكافرة قال: {فما أغنت عنهم آلهتهم اللاتي يدعون من دون الله من شيء} ومنها الاعتبار في قدرة الله وشدة عقابه لمن كفر ومنها تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيب قومه له بالتأسي بمن تقدم من الأنبياء كقوله: {ولقد كذبت رسل من قبلك} ومنها تسليته عليه السلام ووعده بالنصر كما نصر الأنبياء الذين من قبله ومنها تخويف الكفار بأن يعاقبوا كما عوقب الكفار الذين من قبلهم إلى غير ذلك مما احتوت عليه أخبار الأنبياء من العجائب والمواعظ واحتجاج الأنبياء وردهم على الكفار وغير ذلك فلما كانت أخبار الأنبياء تفيد فوائد كثيرة ذكرت في مواضع كثيرة ولكل مقام مقال.