أقسامُ الإيجازِ(1)
الإيجازُ(2) إما أن يكونَ(3) بتضمُّنِ(4) العبارةِ القصيرةِ(5) معانيَ كثيرةً(6) وهو(7) مركزُ عنايةِ البُلَغَاءِ، وبه تَتفاوتُ أقدارُهم(8)، ويُسمَّى إيجازَ قِصَرٍ(9)، نحوُ قولِه تعالى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ(10) حَيَاةٌ(11)}.
وإما أن يكونَ(1) بحذفِ كلمةٍ(2) أو(3) جملةٍ(4) أو(5) أكثرَ(6) مع قرينةٍ تُعَيِّنُ المحذوفَ(7)، ويُسمَّى إيجازَ حذفٍ.
فحذفُ الكلمةِ(1) كحذفِ (لا)(2) في قولِ امرِئِ القيسِ :
فقلتُ يمينَ اللهِ أَبْرَحُ قاعداً(3) ولو قَطَعُوا رأسي لدَيكِ وأَوْصَالِي(4)
وحذفُ الجملةِ(5) ، كقولِه تعالى: ( وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكِ)(6) أي: فَتَأَسَّ واصْبِرْ(7).
وحذفُ الأكثرِ(8) نحوَ قولِه تعالى(9): ( فَأَرْسِلُونِ . يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ)(10).
أي: أرسِلونيِ إلى يوسُفَ لأَسْتَعْبِرَه الرؤيا. ففَعَلوا فأتاه وقالَ له: يا يوسفُ(1)
______________________
(1) أقسامُ الإيجازِ.
لم يذكُـرْ هنا إلا قسمين فالجمْـعُ مرادٌ به أقلُّه, وهو اثنان
(2) (الإيجازُ) من حيث هو نوعان إيجازُ القصرِ وإيجازُ الحذْفِ، قال البهاءُ السبكِىُّ: والفرْقُ بينَهما أنَّ الكلامَ القليلَ إن كان بعضاً من كلامٍ أطولَ منه فهو إيجازُ حذفٍ, وإن كان كلاماً يُعطِي معنًى أطولَ منه فهو إيجازُ قِصَرٍ انتهى.
وذلك لأنَّه
(3) (إما أن يكونَ) الإيجازُ حاصلاً.
(4) (بِتضمُّنِ) أي: باقتضاءِ.
(5) (العبارةِ القصيرةِ) أي: القليلةِ.
(6) (معانيَ كثيرةً) بدَلالةِ الالتزامِ أو التضمُّنِ من غيرِ أن يكونَ في نفْسِ التركيبِ حذْفٌ يَتَوقَّفُ عليه أصلُ المعنى المرادِ.
(7) (وهو) أي: هذا النوعُ من الإيجازِ.
(8) (مركزُ عنايةِ البُلَغاءِ وبه تَتفاوتُ أقدارُهم, أي: مراتبُهم في البلاغةِ. قال صاحبُ الكَشَّافِ: كما أنه يَجِبُ على البليغِ في مَظَانِّ الإجمالِ أن يُجْمِلَ ويُوجِزَ فكذلك الواجبُ في مواردِ التفصيلِ أن يُفصِّلَ ويُشْبِعَ.
(9) (ويُسمَّى إيجازَ قِصَرٍ) بكسرِ القافِ على وزْنِ عِنَبٍ لوجودِ الاقتصارِ في العبارةِ مع كثرةِ المعنى, وأَطلقَ عليه صاحبُ الإيضاحِ اسمَ الإيجازِ بقيدٍ فقط, وقد قسَّمَه الطِّيـبِيُّ إلى قسمين؛ الأوَّلُ إيجازُ التقديرِ وهو أن يُقدَّرَ معنًى زائدٌ على المنطوقِ. وسَمَّاه البدْرُ بنُ مالكٍ في المصباحِ بالتضييقِ؛ لأنه نَقَصَ من الكلامِ ما صارَ لفظُه أضيقَ من قدْرِ معناه، نحوُ قولِه تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} أي: خطاياه غُفِرَتْ فهي له, لا عليه، ونحوُ قولِه تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} أي: الضالِّين الصائرين بعدَ الضلالِ إلى التقوى. القسمُ الثاني: الإيجازُ الجامعُ وهو أن يَحْتوِيَ اللفظُ على معانٍ متعدِّدةٍ.
(10) نحوُ قولِه تعالى:{وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ} أي: في نفسِ القتلِ بالقتلِ عندَ وجودِ شروطِه.
(11){حَيَا
ةٌ} وهذا من أبلغِ الإيجازِ؛ لأن لفظَه يسيرٌ ومعناه كثيرٌ؛ لأنه لَمَّا دلَّ دَلالةً مُطَابِقيَّةً على أنَّ القِصاصَ فيه الحياةُ للناسِ استُفيدَ منه بدَلالةِ الالتزامِ أن الإنسانَ إذا عَلِمَ أنه متى قَتَلَ قُتِلَ وحدَه, ولا يُقتَلُ غيرُه لم يَترخَّصْ في أن يَفعلَ ما يُتلِفُ به نفسَه فحينئذٍ يَنْكَفُّ عن القتلِ ولا يُقْدِمُ عليه، وفي ذلك حياتُه, وتَحصُلُ معه للذي يَعزِمُ على قتلِه، ثم هذا المعنى يَستوي فيه جميعُ العقلاءِ, فيَعُمُّ ثبوتُ الحياةِ جميعَ الناسِ، وقد نَطَقَت العربُ بكلامٍ موجَزٍ قَصَدوا به إفادةَ المعنى المستفادِ من هذه الآيةِ وهو قولُهم {القتلُ أَنْفَى للقتلِ} إلا أن الآيةَ تَفْضُلُ عليه بعشرين وجهاً أو أكثرَ منها: أنها أقلُّ حروفاً؛ إذ حروفُها عشرةٌ وحروفُ قولِهم أربعةَ عشرَ، ومنها أن نفيَ القتلِ لا يَستلزِمُ الحياةَ, والآيةُ ناصَّةٌ على ثبوتِها الذي هو الغرضُ المطلوبُ. ومنها أن الآيةَ مطَّرِدَةٌ بخلافِ قولِهم فإنه ليس كلُّ قتلٍ, أَنْفَى للقتلِ بل قد يكونُ أدْعَى له, وهو القتلُ ظُلماً، وإنما يَنفيه قتلٌ خاصٌّ, وهو القِصاصُ.
(تنبيهٌ) ذكَرَ ابنُ الأثيرِ وصاحبُ عروسِ الأفراحِ أنَّ من أنواعِ إيجازِ القِصَرِ بابَ الحصْرِ؛ لأنَّ الجملةَ فيه نابَتْ مَنَابَ جملتين، وبابَ العطْفِ؛ لأن حرفَه وُضِعَ للإغناءِ عن إعادةِ العاملِ، وبابَ النائبِ عن الفاعلِ، لأنه دَلَّ على الفاعلِ بإعطائِه حكْمَه وعلى المفعولِ بوضْعِه، وبابَ الضميرِ؛ لأنه وُضِعَ للاستغناءِ به عن الظاهرِ اختصاراً. وبابَ عَلِمْتُ أنك قائمٌ؛ لأنه مُتَحَمِّلٌ لاسمٍ واحدٍ سدَّ مَسَدَّ المفعولين من غيرِ حذْفٍ، وبابَ التنازُعِ إذا لم نَقَدِّرْ على رأيِ الفرَّاءِ، ومنها طرْحُ المفعولِ اقتصاراً على جعْلِ المتَعَدِّي كاللازمِ, وجميعَ أدواتِ الاستفهامِ والشرطِ والألفاظَ اللازمةَ للعمومِ كأحدٍ ولفظَ التثنيةِ والجمْعِ.
(1) (وإما أن يكونَ) الإيجازُ حاصلاً
(2) (بحذْفِ كلمةٍ) أي: بسببِ حذْفِ كلمةٍ, سواءٌ كانت اسماً أو فِعلاً أو حرفاً، قالَ ابنُ جِنِّي في المحتَسِبِ: أخبرَنا أبو عليٍّ قالَ: قالَ أبو بكرٍ: حذْفُ الحرفِ ليسَ بقياسٍ؛ لأن الحروفَ إنما دخَلَت الكلامَ لضرْبٍ من الاختصارِ, فلو ذهبْتَ تَحْذِفُها لكنتَ مختصِراً لها أيضاً, واختصارُ المختَصَرِ إجحافٌ به ا هـ أي: بل هو سماعيٌّ, وسواءٌ كانت عُمْدَةً كالمبتدأِ والخبرِ والفاعلِ، أو فَضْلةً كالمفعولِ. والمرادُ بحذفِ الكلمةِ ما يَشْمَلُ حذفَ جُزئِها كحذفِ النونِ في لم يَكُ؛ فإنها حُذِفتْ للتخفيفِ, وحذْفِ الياءِ في {والليلِ إذا يَسْرِ} فإنها حُذِفتْ للتخفيفِ ورعايةِ الفاصِلةِ.
(3) (أو ) بسببِ حذفِ
(4) (جملةٍ) المرادُ بها خلافُ الكلمةِ فيَشملُ حذفَ فِعلِ الشرطِ وحدَه وحذْفَه مع أداتِه وحذفَ جوابِ الشرطِ.
(5) (أو) بسببِ حذْفِ.
(6) (أكثرَ) أي: من كلمةٍ واحدةٍ كحذْفِ المضافَين أو جملةٍ واحدةٍ.
(7) (مع قرينةٍ تُعَيِّنُ المحذوفَ) وهي كثيرةٌ لفظيَّةً أو معنويَّةً, وكثرتُها من حيثُ الدَّلالةُ على تعيُّنِه, وأما دليلُ الحذفِ فشيءٌ واحدٌ وهو العقلُ ويُسمَّى إيجازَ حذْفٍ (تنبيهٌ) اعلمْ أنَّ الاحتياجَ إلى القرينةِ حيثُ لا يُقامُ شيءٌ مَقامَ المحذوفِ بخلافِ ما إذا أُقيمَ شيءٌ مُقامَه مما يَدُلُّ عليه كعِلَّةٍ وسببٍ فلا حاجةَ إليها نحوُ آيةِ: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} فإن تكذيبَ الرسُلِ سببٌ لمضمونِ الجوابِ المحذوفِ أُقيمَ مُقامَه, أي: فلا تَحْزَنْ؛ لأنه قد كُذِّبَتْ رسُلٌ من قبلِك فتدبَّرْ.
(1) (فحذفُ الكلمةِ) الواحدةِ
(2) (كحذفِ لا) النافيةِ فإنه يَطَّرِدُ بشروطِه المشارِ إليها في قولِ بعضِهم: ويُحْذَفُ نافٍ مع شروطٍ ثلاثةٍ إذا كانَ لا قبلَ المضارِعِ في قَسَمٍ.
(3) (في قولِ امرِئِ القيسِ: فقلتُ يمينَ اللهِ أبْرَحُ قاعداً) أي: لا أَبرحُ قاعداً.
(4) (ولو قَطَعوا رأسي لديكِ وأَوصالِي) أي: وأجزاءَ جِسمي. وقد وَرَدَ حذفُها مع فقدِ الشروطِ، نحوُ قولِه تعالى: { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} أي: لا يُطيقونَه.
(5) (وحذفُ الجملةِ) الواحدةِ كقولِه تعالى:
(6) {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} فإن قولَه فقد كُذِّبَتْ إلخ ليسَ جوابَ الشرطِ؛ لأن الجوابَ يَترتَّبُ مضمونُه على مضمونِ الشرطِ هنا وإنما هو قائمٌ مقامَ الجوابِ لدَلالتِه عليه لكونِه سبباً لمضمونِه.
(7) (أي: فَتَأَسَّ واصبِرْ) فإن التأسِّيَ والصبرَ المحذوفَ هو الجوابُ, وتكذيبَ الرسلِ المذكورَ سببُه, فكأنه قيلَ: فتَأَسَّ واصبِرْ؛ لأنه قد كُذِّبَتْ رسلٌ من قبلِك وأنت مساوٍ لهم في الرسالةِ فَلك بهم أُسوةٌ.
(8) (وحذْفُ الأكثرِ) أي: من جملةٍ واحدةٍ.
(9) نحوُ قولِه تعالى حكايةً عن أحدِ الفتَيَيْنِ الذي أَرسلَه العزيزُ إلى يوسُفَ ليَسْتَعْبِرَه ما رآه ا هـ.
(10) (فَأَرْسِلُونِ. يُوسُفَ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) فإن هذا الكلامَ حُذِفَ فيه أكثرُ من جملةٍ واحدةٍ, وهي خمسُ جُمَلٍ مع ما لها من المتعلِّقاتِ, لا يَستقيمُ المعنى إلا بها.
(1) (أيْ أَرسِلُوني إلى يوسُفَ لأَسْتَعْبِرَه الرؤيا ففَعَلوا فأتاه, وقالَ له: يا يوسُفُ) فالجملةُ الأُولى لأستعْبِرَه الرؤيا, أي: لأطلبَ منه تعبيرَها وتفسيرَها, والثانيةُ: ففَعَلوا, أي: فأرسَلُوه والثالثةُ فأتاه والرابعةُ وقال له والخامسةُ يا. فإنها نائبةٌ منابَ جملةِ أَدْعو, وأما قولُه إلى يوسفَ فهو متعلِّقُ الجملةِ المذكورةِ أعني أَرْسِلونِ وقولُه يوسفَ الذي هو المنادَى هو المذكورُ والقرينةُ على حذْفِ هذه الجُمَلِ ظاهرةٌ, وهي أن نداءَ يوسفَ يَقتضِي أنه وَصَلَ إليه وهو متوقِّفٌ على فعْلِ الإرسالِ والإتيانِ إليه, ثم النداءُ محكِيٌّ بالقولِ، والإرسالُ معلومٌ أنه إنما طُلِبَ للاستعبارِ فحُذِفَ كلُّ ذلك إيجازاً للعلْمِ به؛ لئلاَّ يكونَ ذكْرُه تطويلاً لعدَمِ ظهورِ الفائدةِ في ذكْرِه مع العلْمِ به.