بابُ جمْعِ المغربِ والعشاءِ في مُزدَلِفةَ.
الْحَدِيثُ السادسُ والأرْبَعُونَ بعدَ الْمِائَتَيْنِ
عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرَ رضِيَ اللَّهُ عنهما قالَ: جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ المَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ، لكُلِّ وَاحِدَةٍ منْهُمَا إِقَامَةٌ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا، وَلاَ عَلَى أَثرِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا.(45)
______________________
( 45 ) الغريبُ:
( جَمْع ) بفتحِ الجيمِ، وسكُونِ الميمِ. هي ( مُزْدَلِفَةُ ) سُمِّيتْ جَمْعًا لاجتماعِ الناسِ فيهَا ليلةَ يومِ النَّحْرِ.
و ( الإزدلافُ ) التقرُّبُ، فسُمِّيتْ ( مُزْدَلِفَةَ ) أيضًا؛ لأنَّ الحُجَّاجَ يَتَزَلَّفونَ فيهَا من ( عرفةَ ) إلَى ( مِنًى ), وتُسمَّى ( المَشْعَرَ الْحَرَامَ )؛ لأنَّهَا في داخلِ حدودِ الحرمِ؛ لتُقَابِلَ تسميَةَ عرفةَ بالمَشْعَرِ الحلالِ؛ لأنَّهَا خارجَ الحرمِ.
لَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا: يُرادُ بالتسبيحِ - هنا - صلاةُ النافلةِ، كما جاءَ في بعضِ الأحاديثِ تسميَةُ صلاةِ الضُّحَى بـ ( سُبْحَةِ الضحَى) لاشتمالِ الصلاةِ علَى التسبيحِ من تسميَةِ الكلَّ باسمِ البعضِ.
المعنَى الإجماليُّ:
لمَّا غرَبَت الشمسُ من يومِ عرفةَ، والنبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ واقفٌ يُشاهَدُ فيهَا انصرَفَ منهَا إلَى ( مُزدلفةَ ), ولم يُصَلِّ المغرِبَ، فلمَّا وصلَ إلَى ( مزدلفةَ ) إذا بوقْتِ العشاءِ قد دخلَ، فصلَّى بهَا المغربَ والعشاءَ، جمْعَ تأخيرٍ، بإقامةٍ لكلِّ صلاةٍ، ولم يُصَلِّ نافلةً بينهما، تحقيقًا لمعنَى الجمعِ، ولا بعدَهُمَا، ليَأْخُذَ حظَّهُ من الراحةِ، استعدادًا لأذكارِ تلك الليلةِ، ومناسكِ غدٍ، من الوقوفِ عندَ المشعرِ الحرامِ، والدفْعِ إلَى ( مِنًى ) وأعمالِ ذلك اليومِ.
فإنَّ أداءَ تلك المناسكِ في وقْتِها، أفضلُ من نوافلِ العباداتِ التي ستُدرَكُ في غيرِ هذا الوقتِ.
ما يُؤخذُ من الحديثِ:
1- مشروعيَّةُ جمعِ التأخيرِ بين المغربِ والعشاءِ في ( مُزدلفةَ ) في ليلَتِهَا.
2- الحِكْمَةُ في هذا ـ واللَّهُ أعلمُ ـ التخفيفُ والتيسيرُ علَى الحاجِّ، فهم في مشقَّةٍ من التنقُّلِ، والقيامِ بمناسِكِهِمْ.
3- فيُؤخذُ منهُ يُسْرُ الشريعةِ وسهولَتُهَا، رحمةً من الشارعِ، الذي عَلِمَ قدرةَ الناسِ وطاقَتَهم وما يُلائمُهَا.
4- أنْ يُقامَ لكلِّ صلاةٍ من المغربِ والعشاءِ، إقامةٌ واحدةٌ.
5- لم يُذْكَرْ في هذا الحديثِ الأذانُ لهما، وقد صحَّ من حديثِ جابرٍ رضي اللَّهُ عنهُ أنَّهُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ( جمعَ بينهما بأذانٍ وإقامتيْنِ )، ومَن حفِظَ حُجَّةٌ علَى مَن لم يَحْفَظْ.
6- أنَّهُ لا يُشْرَعُ التنفُّلُ بين المجموعتيْنِ، ولا بعدَهما، وهو من بابِ التيسيرِ والتخفيفِ، والاستعدادِ للمناسكِ بنشاطٍ؛ لأنَّ هذهِ المناسكَ ليس لهَا وقْتٌ تُشْرَعُ فيهِ إلا هذا، فينبغِي التفرُّغُ لهَا، والاعتناءُ بهَا قبلَ فواتِهَا.
7- قال شيخُ الإسلامِ: والسُّنَّةُ أنْ يبيتَ بمزدلفةَ إلَى أنْ يَطْلُعَ الفجرُ، فيصلِّي بهَا الفجْرَ في أوَّلِ الوقتِ، ثم يقفُ بالمشعرِ الحرامِ إلَى أنْ يُسْفِرَ جدًّا قبلَ طلوعِ الشمسِ، فإنْ كانَ في الضَّعَفَةِ كالنساءِ والصبيانِ فإنَّهُ يتعجَّلُ في مزدلفةَ إلَى مِنًى إذا غابَ القمرُ، ولا ينبغِي لأهلِ القوَّةِ أنْ يَخْرُجُوا من مزدلفةَ حتَّى يَطْلُعَ الفجرُ.
اختلافُ العُلماءِ:
اختلَفَ العُلماءُ في سببِ الجمعِ بين المغربِ والعشاءِ في ( مزدلفةَ ). فبعضُهم يرَى أنَّهُ لعُذْرِ السفَرِ، وهم الشافعيَّةُ والحنابلةُ. وعلَى هذا، فلا يُباحُ لمَن لا يُباحُ لهُ الجمْعُ، كأهلِ مكَّةَ. والحنفيَّةُ والمالكيَّةُ، يرَوْنَ أنَّهُ لعُذْرِ النُّسُكِ، وهؤلاءِ يَسْتَحِبُّونَهُ لكلِّ أحدٍ، سواءٌ أكانَ مسافرًا لنُسُكِهِ أمْ لا.
والأَوْلَى اتِّباعُ السُّنَّةِ، وهو الجمْعُ لكلِّ حاجٍّ، سواءٌ أكانَ لهذا أم لغيرِهِ.
علَى أنَّهُ تقدَّمَ لنا أنَّ الصحيحَ أنَّ السفرَ لا يُقدَّرُ بمدَّةٍ ولا مسافةٍ، وإنَّما هو كلُّ سفرٍ حُمِلَ لهُ الزادُ والمَزادُ، فهو سفرٌ.
ولا شكَّ أنَّ الحاجَّ - سواءٌ أكانَ آفاقيًّا، أمْ مكيًّا - مُتَحَمِّلٌ في حجِّهِ ما يتحمَّلُهُ المسافرُ من المتاعبِ والمشاقِّ. واختلفُوا في الأذانِ والإقامةِ لهاتيْنِ الصلاتيْنِ.
فذهبَ بعضُهم - ومنهم سفيانُ - إلَى أنَّهما تُصَلَّيَانِ جميعًا، بإقامةٍ واحدةٍ.
وذهبَ بعضُهم - ومنهم مالكٌ - إلَى أنَّهما تُصلَّيانِ بأذانيْنِ وإقامتيْنِ.
وذهبَ بعضُهم - ومنهم إسحاقُ - إلَى أنَّهما تُصلَّيانِ بإقامتيْنِ فقطْ.
والصحيحُ ما ذهبَ إليهِ الإمامانِ: الشافعيُّ وأحمدُ، وغيرُهما، من أنَّهما تُصلَّيانِ بأذانٍ واحدٍ وإقامتيْنِ.
وحُجَّتُهم في ذلك ما ذكرَهُ جابرُ بنُ عبدِ اللَّهِ رضي اللَّهُ عنهما، في حديثِهِ الطويلِ، الذي وصفَ بِهِ حجَّةَ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ من أوَّلِها إلَى آخرِها؛ لأنَّهُ حرصَ علَى معرفةِ أحوالِهِ، وتتبُّعِ أقوالِهِ، وأفعالِهِ، فحفِظَ من هذهِ الحَجَّةِ ما لم يَحْفَظْ غيرُهُ.
أمَّا سببُ اختلافِ العُلماءِ في الأذانِ والإقامةِ، فهو تعدُّدُ الرواياتِ.
فقد صحَّ عن ابنِ عبَّاسٍ: ( أنَّ النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ صلَّى صلاتيْنِ بالمزدلفةِ بإقامةٍ واحدةٍ ).
ورُوِيَ عن ابنِ عمرَ ثلاثُ رواياتٍ، إحداهُنَّ: أنَّهُ جمعَ بينهما فقطْ، وهي حديثُ البابِ الذي معنا.
والثانيَةُ: أنَّهُ جمعَ بينهما بإقامةٍ واحدةٍ لهما.
والثالثةُ: أنَّهُ صلاَّهما بلا أذانٍ ولا إقامةٍ.
وكلُّهَا رواياتٌ صحيحةُ الإسنادِ، وبعضُهَا في الصحيحيْنِ، وبعضُهَا في السُّنَنِ.
بما أنَّ القضيَّةَ واحدةٌ، فلا يُمكنُ حمْلُ كلِّ روايةٍ علَى حالٍ، ولا يُمكنُ النسخُ، ولا الجمعُ بين الرواياتِ، فالأحسنُ الأخذُ بما تقدَّمَ من روايةِ جابرٍ الذي نقلَ حَجَّتَهُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ بلا اضْطِرابٍ، وَتُعَدُّ باقِي الرواياتِ مضطربةَ المتونِ، فتُطْرَحُ. وهذا رأيُ ( ابنِ القيِّمِ ) رحِمَهُ اللَّهُ تعالَى.