دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > الرسالة التدمرية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م, 06:27 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التوضيحات الأثرية للشيخ: فخر الدين بن الزبير المحسِّي


ذِكْرُ طوائفَ انْحَرَفَتْ في تقريرِ التوحيدِ.

أوَّلاً: التوحيدُ عندَ المُتَكَلِّمينَ.
قولُه: ( وبهذا وغيرِه يُعْرَفُ ما وَقَعَ من الغَلَطِ في مُسَمَّى" التوحيدِ"؛فإنَّ عامَّةَ المُتَكَلِّمينَ الذين يُقَدِّرُونَ التوحيدَ في كُتُبِ الكلامِ والنظَرِ غايتُهمأن يَجْعَلوا التوحيدَ ثلاثةَ أنواعٍ، فيقولون: هو واحدٌ في ذاتِه لا قَسيمَ له، وواحدٌ في صفاتِه لا شَبيهَ له،وواحدٌ في أفعالِه لا شَريكَ له.

وأَشْهَرُ الأنواعِ الثلاثةِ عندَهم هو الثالثُ، وهو توحيدُ الأفعالِ، وهو أنَّ خالِقَ العالَمِ واحدٌ، وهم يَحْتَجُّونَ على ذلك بما يَذْكُرونه من دَلالةِ التمانُعِ وغيرِها، ويَظُنُّونَ أنَّ هذا هو التوحيدُ المطلوبُ، وأنَّ هذا هو معنى قولِنا:" لا إلهَ إلا اللهُ".حتى قد يَجْعَلُون معنى الإلهيَّةِ القُدْرةَ على الاختراعِ).

التوضيحُ

غايةُ أهلِ الكلامِ الْمُقَرِّرِينَ للتوحيدِ أنهم يَجْعَلُون التوحيدَ ثلاثةَ أنواعٍ،وهي:
(توحيدُ الذاتِ) وهو أنه واحدٌ في ذاتِه،لا قَسيمَ له.
(توحيدُ الصِّفاتِ) وهو أنه واحدٌ في صِفاتِه،لا شَبيهَ له.
(توحيدُ الأفعالِ) وهو أنه واحدٌ في أفعالِه،لا شَريكَ له.
وأَشْهَرُ الأنواعِ عندَهم هو توحيدُ الأفعالِ، أي:أنَّ خالِقَ العالَمِ واحدٌ،ويَحْتَجُّون له بدليلِ التمانُعِ،ويَظُنُّونَ أنه المطلوبُ،وأنه معنى " لا إلهَ إلا اللهُ"، ويَجعلون معنى الإلهيَّةِ القُدْرةَ على الاختراعِ.
ومعنى دليلِ التمانُعِ عندَهم:
استحالةُ وجودِ خالِقَيْنَ متكافِئَيْنِ،وذلك لو فَرَضْنَا أنَّ هناك جِسْمًا،وأَرادَ أحدُهما تَسْكِينَه والآخَرُ تحريكَه في وقتٍ واحدٍ فلا يَخْلُو الحالُ من أحدِ ثلاثةِ أمُورٍ:

أن يَحْصُلَ مُرادُهما معًا: وهذا مُحالٌ؛لأنه جَمَعَ بينَ النَّقِيضَيْنِ.

أن لا يَحْصُلَ مرادُهما، وهذا مُحالٌ؛لأنه خُلُوٌّ عن النقيضينِ،ولأنه يُؤَدِّي إلى عَجْزِهما وعَدَمِ كونِهما إِلَهًا.

أن يَحْصُلَ مرادُ أحدِهما فيَصيرُ الثاني عاجزًا،فلا يكونُ إلَهًا، فثَبَتَ أنَّ الإلهَ واحدٌ.

ويَستَدِلُّون عليه بقولِه تعالى: { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا} فهم يَغْلَطُون من وَجْهَيْنِ:
أنهم يَظُنُّون أنَّ هذا غايةُ التوحيدِ مع إهمالِهم لتوحيدِ الأُلُوهِيَّةِ الذي جاءتْ به الرسُلُ.
وأنهم يَستَدِلُّونَ بالآيةِ السابقةِ ( على الربوبيَّةِ ) مع أنها في تقريرِ الأُلوهيَّةِ فإنها ذَكَرَت السماواتِ والأرضَ،فكانت موجودةً مَخلوقةً،وقد قالَ: { لَفَسَدَتَا } وهذا الفَسادُ بعدَ الوجودِ، والتمانُعُ يَمْنَعُ وُجودَ المفعولِ،ولا يُوجِبُ فَسادَه بعدَ وُجودِه، وقالَ أيضًا:{ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ } ولم يَقُلْ أَرْبَابًا فدَلَّ على أنَّ الْمُرادَ بالآيةِ الإلهُ المعبودُ،لا الربُّ الخالِقُ، والمعنى لو كان في السماواتِ والأرضِ إلهٌ مَعبودٌ إلا اللهُ لَفَسَدَ نِظامُ العالَمِ؛لأنه قامَ بالعَدْلِ،والشرْكُ أظْلَمُ الظلْمِ.

بيانُ غَلَطِ المُتَكَلِّمينَ

أوَّلاً: غَلَطُهُم في توحيدِ الأفعالِ
قولُه: ( ومَعلومٌ أنَّ الْمُشركينَ من العَرَبِ الذين بُعِثَ إليهم مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوَّلاً لم يكونوا يُخالِفُونَه في هذا، بل كانوا يُقِرُّونَ بأنَّ اللهَ خالِقُ كلِّ شيءٍ، حتى إنهم كانوا يُقِرُّونَ بالقَدَرِ أيضًا، وهم مع هذا مُشرِكونَ.
فقد تَبَيَّنَ أن ليس في العالَمِ مَن يُنَازِعُ في أصْلِ هذا الشِّرْكِ، ولكنَّ غايةَ ما يُقالُ: إنَّ من الناسِ مَن جَعَلَ بعضَ الموجوداتِ خَلْقًا لغيرِ اللهِ كالقَدَرِيَّةِ وغيرِهم، لكنَّ هؤلاءِ يُقِرُّونَ بأنَّ اللهَ خالقُ العِبادِ وخَالِقُ قُدْرَتِهِمْ، وإن قالوا: إنهم خالِقُو أفعالِهم.

وكذلك أهْلُ الفَلسفةِ والطبْعِ والنجومِ الذين يَجعلونَ بعضَ المخلوقاتِ مُبْدِعَةً لبعضِ الأمورِ، هم مع الإقرارِ بالصانِعِ يَجعلون هذه الفاعلاتِ مَصنوعةً مَخلوقةً،لا يقولون إنها غَنِيَّةٌ عن الخالِقِ،مشارِكةٌ له في الخلْقِ. فأمَّا مَن أَنْكَرَ الصانِعَ فذاك جاحِدٌ مُعَطِّلٌ للصانِعِ كالقولِ الذي أظْهَرَه فرْعَوْنُ.

والكلامُ الآنَ مع الْمُشرِكِينَ باللهِ،الْمُقِرِّينَ بوجودِه، فإذا هذا التوحيدُ الذي قَرَّرُوه لا يُنازِعُهم فيه هؤلاءِ الْمُشْرِكُونَ بل يُقِرُّونَ به، مع أنهم مُشْرِكون كما ثَبَتَ بالكتابِ والسنَّةِ والإجماعِ، وكما عُلِمَ بالاضطرارِ من دِينِ الإسلامِ ).

التوضيحُ

خُلاصَةُ هذه الفِقرةِ أنَّ غَلَطَ المُتَكَلِّمينَ يَظْهَرُ جَلِيًّا حينَما نَعْلَمُ أنه لم تَعْرِفْ طائفةٌ من الطوائفِ بإثباتِ خالِقَيْنِ متَمَاثِلَيْنِ، وهنا أمْثِلَةٌ لأرْبَعِ طوائفَ انْحَرَفَتْ في هذا البابِ مع أنها لم تَنْقُضْ أصلَه:
فمُشْرِكُو العرَبِ لم يكونوا يُخالِفونَهم في هذا كما مَرَّ قريبًا.
حتى مَن جَعَلَ بعضَ الأمورِ خَلْقًا لغيرِ اللهِ كالقدريَّةِ الذين يَجْعَلُونَ أفْعالَ العِبادِ خَلْقًا لهم، وغيرُهم يُقِرُّونَ أنَّ اللهَ خالِقُ العِبادِ وقُدراتِهِمْ.
وأَهْلُ الفلسفةِ والطبْعِ والنجومِ الذين يَجعلون بعضَ المخلوقاتِ مُبْدِعَةً لبعضِ الأمورِ يُقِرُّونَ بالخالِقِ،ويَجعلونَ هذه الفاعلاتِ مَخلوقةً،لا يقولون:إنها غَنِيَّةٌ عن الخالِقِ مُشَارِكَةٌ له.
وأمَّا مَن أَنْكَرَ الصانِعَ كفرعونَ فإنه جاحِدٌ، وكلامُنا الآنَ عن الْمُقِرِّينَ بوجودِه،ولكنهم يُشْرِكُونَ به.

فإذا هذا التوحيدُ الذي يُقَرِّرُه المُتَكَلِّمونَ لا يُنَازِعُهُمْ فيه الْمُشرِكون مع أنهم مُشْرِكون،فإنهم لم يُدْخِلُوا توحيدَ الأُلوهيَّةِ الذي من أَجْلِه خُلِقَ الخلْقُ،كما قالَ تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونَ } وبه أُرْسِلَ الرُّسُلُ كما قالَ تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ }.
ثانيًا: غَلَطُهُم في توحيدِ الصِّفاتِ
قولُه: ( وكذلك النوعُ الثاني، وهو قولُهم: لا شَبيهَ له في صِفاتِه فإنه ليس في الأُمَمِ مَن أَثْبَتَ قديمًا مُمَاثلاً له في ذاتِه سواءٌ قالَ: إنه يُشارِكُه، أو قالَ: إنه لا فِعْلَ له، بل مَن يُشَبِّهُ به شيئًا من مَخلوقاتِه فإنما يُشَبِّهُهُ به في بعضِ الأمورِ.
وقد عُلِمَ بالعقْلِ امتناعُ أن يكونَ له مِثْلٌ في المخلوقاتِ يُشارِكُه فيما يَجِبُ أو يَجوزُ أو يَمْتَنِعُ عليه، فإنَّ ذلك يَستلزِمُ الجمْعَ بينَ النقيضينِ - كما تَقَدَّمَ - وعُلِمَ أيضًا بالعَقْلِ أنَّ كُلَّ مَوْجُودَيْنِ قائمينِ بأنفسِهما فلا بُدَّ بينَهما من قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ كاتِّفاقِهما في مُسَمَّى الوجودِ، والقيامِ بالنفْسِ والذاتِ ونحوَ ذلك، وأنَّ مَن نَفَى ذلك يَقْتَضِي التعطيلَ الْمَحْضَ وأنه لا بُدَّ من إثباتِ خصائصِ الربوبيَّةِ، وقد تَقَدَّمَ الكلامُ على ذلك ).

التوضيحُ

وأيضًا القِسْمُ الثاني من التوحيدِ عندَ المُتَكَلِّمينَ وهو توحيدُ الصِّفاتِ، ويقولون فيه هو واحدٌ لا شَبيهَ له في صِفاتِه ويُدْخِلُونَ تَحتَه نَفْيَ الصفاتِ، وَجِهَةُ الغلَطِ عندَهم بالإضافةِ إلى نفيِهم للصفاتِ أو بعضِها أنه لم يُعْرَفْ من الأُمَمِ مَن أَثْبَتَ قديمًا شَبيهًا له في جميعِ الصفاتِ،بل مَن يُشَبِّهُهُ بمخلوقاتِه إنما يُشَبِّهُهُ في بعضِ الأُمورِ، لأنه كما سَبَقَ يَمتنِعُ عَقْلاً أن يُوجَدَ من مخلوقاتِه مَن يُماثِلُه في جميعِ الصفاتِ؛لأنه يَلْزَمُ من ذلك اجتماعُ النقيضينِ، لأنَّ المخلوقَ مُمْكِنٌ والخالِقَ واجبٌ فإنْ تَمَاثَلاَ لَزِمَ أن يكونَ المخلوقُ مُمْكِنًا واجبًا،والخالقُ واجبًا مُمْكِنًا كذلك. وهكذا في بقيَّةِ الصفاتِ التي يَخْتَصُّ بها الخالِقُ عن المخلوقِ مِمَّا يَجِبُ له ويَمْتَنِعُ عليه، هذا لتقريرِ عَدَمِ التمثيلِ، وأمَّا أنه لا بُدَّ أن يُوصَفَ بصفاتٍ قد يكونُ بينَها قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بينَ صِفاتِ المخلوقاتِ، فهذا واجبٌ عَقْلاً، ولا يَخْلُو موجودان من هذا الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ فإنَّ مُجَرَّدَ الوجودِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بينَ جميعِ الموجوداتِ، وكذلك القيامُ بالنفْسِ والذاتِ قَدْرٌ مشترَكٌ بينَ الخالِقِ وبعضِ المخلوقاتِ،وهذا لا يَقتضِي تَمْثِيلاً، بل نفيُ هذا القدْرِ يُعَدُّ تَعطيلاً، وقد سَبَقَ هذا مُسْتَوْفًى.

والحاصِلُ أنَّ هؤلاءِ فسَّرُوا توحيدَ الصِّفاتِ بما لا يُخالِفُهم فيه أحَدٌ،وإنما أَدْخَلُوا في هذا الأصْلِ نَفْيَ الصفاتِ وجَعَلُوه من تَمامِ التوحيدِ.
استطرادٌ في بيانِ فِرَقٍ ضَلَّتْ في هذا الأصْلِ

قولُه: ( ثم إنَّ الْجَهْمِيَّةَ من المُعتَزِلَةِ وغيرِهم أَدْرَجُوا نَفْيَ الصفاتِ في مُسَمَّى التوحيدِ، فصارَ مَن قالَ: إنَّ للهِ عِلْمًا أو قُدْرَةً أو أنه يَرَى، أو أنَّ القرآنَ كَلامُ اللهِ مُنَزَّلٌ غيرُ مخلوقٍ يقولون: إنه مُشَبِّهٌ ليس بموَحِّدٍ، وزادَ عليهم غُلاةُ الجهميَّةِ والفلاسفةُ، والقَرَامِطَةُ فنَفَوْا أسماءَه الْحُسْنى، وقالوا: مَن قالَ: إنَّ اللهَ عليمٌ قديرٌ، عزيزٌ حكيمٌ، فهو مُشَبِّهٌ ليس بموَحِّدٍ،وزادَ عليهم غُلاةُ القَرَامِطَةِ، وقالوا: لا يُوصَفُ بالنفيِ ولا بالإثباتِ، لأنَّ في كلٍّ منهما تَشبيهًا له، وهؤلاءِ وَقَعُوا من جِنْسِ التشبيهِ ما هو شَرٌّ مِمَّا فَرُّوا منه، فإنهم شَبَّهُوهُ بالمُمْتَنِعاتِ والْمَعدوماتِ والْجَماداتِ، فِرارًا من تَشبيهِهم إيَّاهُ بزَعْمِهم بالأحياءِ.
ومعلومٌ أنَّ هذه الصفاتِ الثابتةَ للهِ لا تَثْبُتُ له على حَدِّ ما ثَبَتَتْ لمخلوقٍ أصْلاً،وهو سبحانَه ليس كمِثْلِه شيءٌ،لا في ذاتِه،ولا في صِفاتِه،ولا في أفعالِه، فلا فَرْقَ بينَ إثباتِ الذاتِ، وإثباتِ الصِّفاتِ، فإذا لم يكنْ في إثباتِ الذاتِ إثباتُ مُمَاثَلَةِ الذواتِ لذاتِه لم يكنْ في إثباتِ الصفاتِ إثباتُ مُمَاثَلَةٍ له في ذلك. فصارَ هؤلاءِ الجهميَّةُ الْمُعَطِّلَةُ يَجْعَلُونَ هذا توحيدًا،ويَجْعَلون مقابِلَ ذلك التشبيهَ ويُسَمُّونَ أنفسَهم الْمُوَحِّدِينَ).

التوضيحُ

ذَكَرَ هنا فِرَقًا ضَلَّتْ في بابِ الصفاتِ، وقد سَبَقَتْ مذاهبُهم وشُبُهَاتُهُمْ والردُّ عليهم، وخُلاصتُهم هنا:

المُعتَزِلَةُ: أَدْخَلَتْ في مُسَمَّى التوحيدِ نَفْيَ الصفاتِ،فمَن أثْبَتَها قالوا عنه مُشَبِّهٌ وليس بِمُوَحِّدٍ.

والْجَهميَّةُ: نَفَوْا أسماءَه وصِفاتِه، فمَن قالَ: إنه سميعٌ بصيرٌ قالوا عنه مُشَبِّهٌ وليس بِمُوَحِّدٍ.

والباطنيَّةُ: قالوا: لا يُوصَفُ بالنفيِ ولا بالإثباتِ؛لأنَّ في كلٍّ منهما تَشبيهًا.

وهؤلاءِ وَقَعُوا في شَرٍّ من التشبيهِ الذي فَرُّوا منه، فإنَّ المُعتَزِلَةَ فَرَّتْ من تَشبيهِه بالأحياءِ فشَبَّهَتْه بالْجَماداتِ، والْجَهميَّةَ فرَّتْ من تَشبيهِه بالأجسامِ الموجودةِ فشَبَّهَتْهُ بالمعدوماتِ، والباطنيَّةَ فَرَّتْ من تَشبيهِه بالموجوداتِ والمعدوماتِ فشَبَّهَتْهُ بالمُمْتَنِعاتِ، ويُرَدُّ على الجميعِ بالقاعدةِ السلفيَّةِ السابقةِ،وهي: أنَّ القولَ في الصفاتِ كالقولِ في الذاتِ.
وبعدَ كلِّ هذا التعطيلِ يَجعلون ما ابْتَدَعُوه توحيدًا،ومُقابِلَه تَشبيهًا،ويُسَمُّونَ أنفسَهم بالموَحِّدِينَ.
قولُه: ( ثم إنَّ الْجَهْمِيَّةَ من المُعتَزِلَةِ وغيرِهم ) أَدْخَلَ المُعتَزِلَةَ هنا في مُسَمَّى الْجَهْمِيَّةِ بالإطلاقِ العامِّ، وهو مُجَرَّدُ نفيِ الصفاتِ، كما سَبَقَ.
ثالثًا: غَلَطُهُم في توحيدِ الذاتِ:
قولُه: ( وكذلك النوعُ الثالثُ، وهو قولُهم: هو واحدٌ لا قَسيمَ له في ذاتِه، أو لا جُزْءَ له، أو لا بَعْضَ له. لفْظٌ مُجْمَلٌ. فإنَّ اللهَ سبحانَه أحَدٌ صَمَدٌ لم يَلِدْ ولم يُولَدْ ولم يكنْ له كُفُوًا أحدٌ، فيَمْتَنِعُ عليه أن يَتَفَرَّقَ أو يَتَجَزَّأَ، أو يكونَ قد تَرَكَّبَ من أجزاءٍ، لكنَّهم يُريدُون من هذا اللفظِ نَفْيَ عُلُوِّهِ على عَرْشِه، ومُبايَنَتَه لِخَلْقِه وامتيازَه عنهم، ونحوَ ذلك من المعاني الْمُسْتَلْزَمَةِ لنفيِه وتعطيلِه. ويَجْعَلُونَ ذلك من التوحيدِ ).

التوضيحُ

قولُهم واحدٌ لا قَسيمَ له في ذاتِه،أو لا جُزْءَ له،أو لا بَعْضَ له قولٌ مُجْمَلٌ فيَجِبُ فيه الاستفصالُ.
فإن أَرَادُوا أنه أحَدٌ صَمَدٌ لم يَلِدْ ولم يُولَدْ ولم يكنْ له كُفُوًا أَحَدٌ،ويَمْتَنِعُ عليه أن يَتَفَرَّقَ أو يَتَجَزَّأَ،أو يكونَ قد رُكِّبَ من أجزاءٍ، فهذا صحيحٌ كما سَبَقَ في شُبْهَةِ التركيبِ.
ولكنَّهم يُدْرِجُونَ فيه نَفْيَ عُلُوِّهِ ومُبَايَنَتِه لِخَلْقِهِ ووَجْهِه ويدَيْهِ وغيرِها، فهذا باطِلٌ.

خُلاصَةُ ما في توحيدِ المُتَكَلِّمينَ.
قولُه: ( فقد تَبَيَّنَ أنَّ ما يُسَمُّونَه " توحيدا" فيه ما هو حَقٌّ،وفيه ما هو باطِلٌ، ولو كان جميعُه حقًّا؛فإنَّ الْمُشرِكينَ إذا أَقَرُّوا بذلك كلِّه لم يَخْرُجوا من الشرْكِ الذي وَصَفَهم اللهُ به في القرآنِ، وقاتَلَهُم عليه الرسولُ صَلَّىاللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،بل لا بُدَّ أن يُؤمِنُوا بأنه لا إلهَ إلا اللهُ ).

التوضيحُ

مِمَّا سَبَقَ يَتَبَيَّنُ أنَّ ما يُسَمِّيهِ المُتَكَلِّمونَ "توحيدًا" فيه ما هو حَقٌّ لا يُنَازِعُهُمْ فيه أحَدٌ،كقولِهم: إنه ليس للعالَمِ صانعان متكافئان، وليس للهِ شبيهٌ له في جميعِ صِفاتِه، وليس للهِ قَسيمٌ له في ذاتِه،ولا جُزءَ له، وفيه ما هو باطِلٌ كإهمالِهم للألوهيَّةِ وتعطيلِهم للصفاتِ، ولا يُمْكِنُ أن يكونَ جميعُه حقًّا؛لأنَّ الْمُشْرِكِينَ لو أَقَرُّوا بهذه المسائلِ لَمَا خَرَجُوا عن الشرْكِ الذي اسْتَحَقُّوا بِسَبِبِه العِقابَ في الدنيا والآخِرَةِ، فلا بُدَّ من التركيزِ على كلمةِ التوحيدِ التي هي أصْلُ الألوهيَّةِ، وبهذا يَتَبَيَّنُ الْخَلَلُ العظيمُ عندَ المُتَكَلِّمينَ في توحيدِهم للعزيزِ الحكيمِ.
معنى الإلهِ.
قولُه: ( وليس الْمُرادُ " بالإلهِ" هو القادرَ على الاختراعِ – كما ظَنَّهُ مَن ظَنَّهُ من أئِمَّةِ المُتَكَلِّمينَ – حيث ظَنَّ أنَّ الإلَهِيَّةَ هي القُدْرةُ على الاختراعِ، وأنَّ مَن أَقَرَّ بأنَّ اللهَ هو القادِرُ على الاختراعِ دونَ غيرِه فقد شَهِدَ أن لا إلهَ إلا اللهُ، فإنَّ المشرِكينَ كانوا يُقِرُّونَ بهذا، وهم مُشْرِكونَ، كما تَقَدَّمَ بيانُه،بل "الإلهُ " الْحَقُّ " هو الذي يَسْتَحِقُّ أن يُعْبَدَ، فهو إلهٌ بمعنى " مَأْلُوهٍ " لا بمعنى " آلِهٍ " والتوحيدُ أن تَعْبُدَ اللهَ وَحْدَه لا شريكَ له، والإشراكُ أن تَجْعَلَ مع اللهِ إِلَهًا آخَرَ ).

التوضيحُ

الإلهُ: مأخوذٌ من الفِعْلِ أَلَهَ أي:تَذَلَّلَ، فالإلهُ أي:الْمُتَذَلَّلُ له. ومنه قولُ الشاعِرِ:

أَلَهْتُ إليه في بَلايَا تَنُوبُنَا = فأَلْفَيْتُه فيها كريمًا مُمَجَّدًا

فيكونُ المعنى الصحيحُ للإلهِ هو المألوهَ باسمِ المفعولِ،أي:المعبودُ المتذلَّلُ له قالَ في القاموسِ:" إلاهٌ كفِعالٍ بمعنى مألوهٍ، وكلُّ ما اتُّخِذَ مَعبودًا إلهٌ عندَ مُتَّخِذِه،وقيلَ: مِن أَلِهَ وأَصْلُه وَلِهَ وهو التحيُّرُ؛لأنَّ الخلْقَ إذا تَفَكَّرُوا في صفاتِه تَحَيَّرُوا.
وقيلَ:مِن وَلِهَ وهو الْحُبُّ. وقيلَ:من لاهَ بمعنى اسْتَتَرَ، لأنَّ حقيقتَه مَحجوبةٌ عن الخلْقِ،كما قالَ تعالى: { لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}.
وقالَ الناظِمُ حَاكِيًا الأقوالَ في معنى الإلهِ.

أُلِهَ أي عُبِدَ أو من الأَلَهْ = وهو اعتمادُ الخلْقِ أو من الوَلَهْ
أو الْمُحَجَّبُ عن العِيانِ = مِن لاهَتِ العَرُوسُ في البُنيانِ
أو أَلِهَ الْحَيْرانُ من قولِ العَرَبْ = أو من أَلِهْتُ أي سَكَنْتُ لِلأَرَبْ

قالَ شيخُ الإسلامِ: " الإلهُ هو المألوهُ الذي تَأْلَهُهُ القلوبُ، وكونُه يَسْتَحِقُّ الإلهيَّةَ مُسْتَلْزِمًا لصفاتِ الكمالِ فلا يَستحِقُّ أن يكونَ مَعبودًا محبوبًا لذاتِه إلا هو ".
وقد غَلِطَ المُتَكَلِّمونَ في تفسيرِهم للإلهِ بِناءً على غَلْطَتِهم في تقريرِ التوحيدِ، فإنهم لَمَّا غَلَوْا في الربوبيَّةِ واعْتَقَدُوا أنه غايةُ التوحيدِ فَسَّرُوا الإلهَ بأنه القادِرُ على الاختراعِ، والألوهيَّةَ بالقُدْرَةِ على الاختراعِ،فجَعَلُوا الأُلوهيَّةَ بمعنى الربوبيَّةِ، وجَعَلوا الإلهَ بمعنى الخالِقِ باسمِ الفاعلِ، فخالَفُوا بذلك اللغةَ والشرْعَ، فإنَّ الإلهَ هو المعبودُ لغةً وشَرْعًا،كما سَبَقَ. وقد قالَ تعالى: { وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِم ضِدًّا } وقالَ تعالى: { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ }.

ومعنى قولِ شيخِ الإسلامِ هنا: " فهو إلهٌ بمعنى مَأْلُوهٍ،لا إلهٌ بمعنى آلِهٌ ". أي:أنه" إلهٌ " يُرادُ به اسمُ المفعولِ، وهو المعبودُ، لا اسمُ الفاعلِ،أي:القادِرُ، كما فَسَّرَهُ به المُتَكَلِّمونَ.

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
بيان, غلط

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 08:48 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir