(2) فِي (الصَّحيحِ) عَن ابنِ مسْعودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قالَ: كُنَّا إِذا كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في الصَّلاةِ قُلْنا: السَّلامُ عَلى اللهِ مِنْ عِبادِهِ، السَّلامُ على فُلانٍ وفلانٍ، فَقالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((لاَ تَقُولُوا: السَّلاَمُ عَلَى اللهِ؛ فَإِنَّ اللهَ هُوَ السَّلاَمُ)).
هذا الحديثُ رواهُ البخاريُّ ومسلِمٌ وأبو دَاوُدَ والنَّسَائِيُّ وابنُ مَاجَهْ منْ حديثِ شَقيقِ بنِ سَلَمَةَ، عنْ عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: (كُنَّا إِذا جَلَسْنا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصَّلاةِ قُلنا: السَّلامُ عَلَى اللهِ قَبْلَ عِبَادِهِ، والسَّلامُ عَلَى فُلانٍ وَفُلانٍ) الحديثَ.
وفي آخِرِهِ ذِكْرُ التَّشَهُّدِ الأخيرِ.
ورواهُ التِّرمذيُّ منْ حديثِ الأسودِ بنِ يَزِيدَ، عن ابنِ مَسعودٍ، وذَكَرَ في الحديثِ سَبَبَ النهيِ عنْ ذلكَ بقَوْلِهِ: ((فَإِنَّ اللهَ هُوَ السَّلاَمُ، وَمِنْهُ السَّلاَمُ)).
وقدْ كانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا انْصَرَفَ من الصلاةِ الْمَكتوبةِ اسْتَغْفَرَ ثَلاَثًا وقالَ:
((اللهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ، وَمِنْكَ السَّلاَمُ، تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ)).
وفي الحديثِ: ((إِنَّ هَذَا هُوَ تَحِيَّةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِرَبِّهِمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى)) وفي التنزيلِ ما يَدُلُّ على أنَّ الربَّ تَبارَكَ وتَعَالَى يُسَلِّمُ عليهم في الْجَنَّةِ، كما قالَ تعالى: {سَلاَمٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ}[يس:58].
ومعنى قولِهِ: (إِنَّ اللهَ هُوَ السَّلاَمُ) أنَّهُ تَعَالَى سالِمٌ منْ كُلِّ نَقْصٍ ومِنْ كلِّ تَمثيلٍ، فهوَ الموصوفُ بكلِّ كَمالٍ، الْمُنَزَّهُ عنْ كلِّ عَيْبٍ ونَقْصٍ.
قالَ في (البَدَائِعِ): (السلامُ اسمُ مَصْدَر، وهوَ مِنْ أَلفاظِ الدُّعاءِ، يَتَضَمَّنُ الإِنشاءَ والإِخبار، فجِهَةُ الْخَبَرِيَّةِ فيهِ لا تُنَاقِضُ الْجِهَةَ الإِنشائيَّةَ، وهوَ معنى السلامِ الْمطلوبِ عندَ التَّحِيَّةِ).
وفيهِ قَولانِ مَشْهُورَانِ:
الأَوَّلُ: أنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وهوَ السَّلاَمُ.
ومعنى الكلامِ: نَزَلَتْ بَرَكَتُهُ عليكُمْ، ونحوُ هذا، فاخْتِيرَ في هذا المعنى منْ أسمائِهِ عَزَّ وجَلَّ اسمُ السلامِ دُونَ غيرِهِ من الأسماءِ.
الثاني: أنَّ السلامَ مَصدَرٌ بمعنى السلامةِ.
وهوَ الْمَطلوبُ الْمَدْعُوُّ بهِ عندَ التَّحِيَّةِ، ومِنْ حُجَّةِ أصحابِ هذا القوْلِ أنَّهُ يَأْتِي مُنَكَّرًا، فيقولُ الْمُسَلِّمُ: سَلامٌ عَلَيكُمْ، ولوْ كانَ اسمًا منْ أسماءِ اللهِ لمْ يُستَعْمَلْ كذلكَ.
ومِنْ حُجَّتِهم أنَّهُ ليسَ المقصودُ من السلامِ هذا المعنى؛ وإنَّمَا المقصودُ منهُ الإيذانُ بالسلامةِ خَبَرًا ودُعاءً.
قالَ العَلاَّمَةُ ابنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ:
(وفصْلُ الْخِطابِ أنْ يُقالَ: الحقُّ في مجموعِ القولَيْنِ، فَكُلٌّ منهما بَعْضُ الْحَقِّ، والصوابُ في مَجموعِهما، وإنَّمَا يَتَبَيَّنُ ذلكَ بقَاعدةٍ، وهيَ: أنَّ حَقَّ مَنْ دَعَا اللهَ بأسمائِهِ الْحُسْنَى أنْ يَسألَ في كلِّ مَطلوبٍ ويَتَوَسَّلَ بالاسمِ الْمُقْتَضِي لذلكَ المطلوبِ الْمُنَاسِبِ لِحُصولِهِ، حتَّى إنَّ الدَّاعِيَ مُتَشفِّعٌ إلى اللهِ تعالى مُتَوَسِّلٌ إليهِ بهِ، فإذا قالَ: رَبِّ اغْفِرْ لي وَتُبْ عَلَيَّ إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الغفورُ، فقدْ سألَهُ أَمْرَيْنِ وتَوَسَّلَ إليهِ باسمَيْنِ منْ أسمائِهِ مُقْتَضِيَيْنِ لحُصولِ مَطلوبِهِ، وقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي بكرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وقدْ سألَهُ ما يَدْعُو بهِ ((قُلِ: اللهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مَغفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ؛ وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)).
فالْمَقامُ لَمَّا كانَ مَقامَ طَلَبِ السلامةِ التي هيَ أَهمُّ عندَ الرَّجُلِ، أتى بلَفْظِهَا بصيغةِ اسمٍ منْ أسماءِ اللهِ وهوَ (السلامُ) الذي تُطلَبُ منهُ السلامةُ،
فتَضَمَّنَ لفظُ السلامِ مَعْنَيَيْنِ:
أحدُهما: ذِكْرُ اللهِ.
والثَّانِي: طَلَبُ السلامةِ، وهوَ مَقصودُ الْمُسلِّمِ.
فقدْ تَضَمَّنَ (سَلامٌ عليكُمْ) اسْمًا منْ أسماءِ اللهِ تعالى وطَلَبَ السلامةِ منهُ، فتَأَمَّلْ هذهِ الفائدةَ. وحَقيقَتُهُ: الْبَراءةُ والْخَلاصُ والنجاةُ من الشَّرِّ والعُيوبِ، وعلى هذا المعنى تَدُورُ تَصاريفُهُ.
فمِنْ ذلكَ قولُكَ: سلَّمَكَ اللهُ، ومنهُ دُعاءُ المؤمنينَ على الصراطِ (رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ)، ومنهُ سَلِمَ الشيءُ لفُلانٍ؛ أيْ: خَلَصَ لهُ وَحْدَهُ، قالَ تعالى: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِرَجُلٍ}[الزمر:29]؛ أيْ: خالصًا لهُ وَحْدَهُ لا يَمْلِكُهُ معهُ غيرُهُ.
ومنهُ السِّلْمُ ضِدُّ الْحَرْبِ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ من الْمُتَحَارِبَيْنِ يَخْلُصُ ويَسْلَمُ مِنْ أَذَى الآخَرِ؛ ولهذا بُنِيَ فيهِ على الْمُفَاعَلَةِ، فقيلَ: الْمُسالَمَةُ مثلُ الْمُشارَكَةِ.
ومنهُ: القلبُ السليمُ، وهوَ النَّقِيُّ من الدَّغَلِ والعَيْبِ.
وحَقيقتُهُ الذي قدْ سَلِمَ للهِ وَحْدَهُ فخَلَصَ منْ دَغَلِ الشِّرْكِ وغِلِّهِ، ودَغَلِ الذُّنُوبِ والْمُخالَفاتِ، بلْ هوَ المُستقيمُ على صِدْقِ حُبِّهِ وحُسْنِ مُعامَلَتِهِ، وهذا هوَ الذي ضَمِنَ لهُ النجاةَ منْ عذابِ اللهِ، والفوزَ بكَرامتِهِ.
ومنهُ أُخِذَ الإسلامُ؛ فإنَّهُ مِنْ هذهِ الْمَادَّةِ؛ لأنَّهُ الاستسلامُ والانقيادُ للهِ والتخَلُّصُ منْ شَوائبِ الشِّرْكِ، فسَلِمَ لرَبِّهِ وخَلَصَ لهُ، كالعبدِ الذي سَلِمَ لِمَولاهُ ليسَ لهُ فيهِ شُركاءُ مُتشاكِسونَ. ولهذا ضَرَبَ سُبحانَهُ هذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ للمسلِمِ الخالِصِ لرَبِّهِ وللمُشْرِكِ به).