دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > ثلاثة الأصول وأدلتها

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 28 شوال 1429هـ/28-10-2008م, 07:42 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي مرتبة الإيمان

الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ:
الإِيمَانُ : وَهُوَ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أعْلاَهَا قَوْلُ لاَ إِلهَ إِلا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَن الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ.
وَأَرْكَانُهُ سِتَّةٌ:
أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ؛ كُلُّهُ مِنَ اللَّهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذِهِ الأَرْكَانِ السِّتَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} الآية .
وَدَلِيلُ الْقَدَرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} .


  #2  
قديم 16 ذو القعدة 1429هـ/14-11-2008م, 05:39 PM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
افتراضي شرح ثلاثة الأصول لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله ابن باز

(1) الإيمانُ: هوَ ما يَتَعَلَّقُ بالقلوبِ، منَ التصديقِ باللَّهِ، وأنَّهُ ربُّ العالمينَ وأنَّهُ هوَ المستحقُّ للعبادةِ، والتصديقِ بالملائكةِ وبالكتبِ وبالرسلِ وبالبعثِ بعدَ الموتِ والجنةِ والنارِ وبالقدرِ خيرِهِ وشرِّهِ، كلُّ هذا يتعلقُ بالقلوبِ، فهوَ أصلٌ منَ الأصولِ التي لا بدَّ منها، فلا إسلامَ إلاَّ بإيمانٍ، ولاَ إيمانَ إلاَّ بإسلامٍ، فلاَ بدَّ منْ هذا وهذا، لا بدَّ منْ إسلامِ الجوارحِ، ولا بدَّ مِنْ إسلامِ القلوبِ وإيمانِها، ولهذا جمعَ اللَّهُ بينَ الأمرَيْنِ في كتابِهِ العظيمِ، وهكذا الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ذكَرَها جميعًا.

فالإسلامُ:هوَ الانقيادُ الظاهرُ بطاعةِ اللَّهِ وتركِ معصيتهِ.
والإيمانُ يشملُ الأعمالَ الباطنةَ ممَّا يتعلَّقُ بالقلوبِ وتصديقِها، ويُطْلَقُ الإسلامُ على الإيمانِ ويُطْلَقُ الإيمانُ على الإسلامِ.
فإذا قيلَ: الإيمانُ، عَمَّ الجميعَ، وإذا قيلَ: الإسلامُ، عَمَّ الجميعَ، قالَ تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإسْلاَمُ} فَيَعُمُّ ما يتعلَّقُ بالباطنِ والظاهرِ.
وهكذا الإيمانُ إذا أُطلِقَ عَمَّ الجميعَ، لقولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديثِ الصحيحِ: ((الإِيمانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُها قَوْلُ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ))فالإيمانُ هنا يَعُمُّ الجميعَ فيعمُّ أركانَ الإسلامِ، ويعمُّ جميعَ الأعمالِ الظاهرةِ، كما يعمُّ الباطنةَ، كما أنَّهُ يشملُ الإحسانَ.


  #3  
قديم 17 صفر 1430هـ/12-02-2009م, 11:22 AM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
افتراضي شرح ثلاثة الأصول للشيخ: محمد بن صالح العثيمين

(1)أيْ: منْ مراتبِ الدينِ.

(2)الإيمانُ في اللغةِ: التصديقُ.
وفي الشرعِ:اعتقادٌ بالقلبِ، وقولٌ باللسانِ، وعملٌ بالجوارحِ، وهُوَ بِضْعٌ وسبعونَ شُعْبَةً.
(3)البِضْعُ بِكَسْرِ الباءِ: من الثلاثةِ إلى التسعةِ.
(4)الشُّعْبَةُ: الجزءُ من الشيءِ.
(5)أيْ: إزالةُ الأَذَى: وهُوَ ما يُؤْذِي المَارَّةَ منْ أحجارٍ، وأشْوَاكٍ، وَنُفَايَاتٍ، وَقُمَامَةٍ، وَمَا لهُ رائحةٌ كريهةٌ، ونحوِ ذلكَ.
(6)الحياءُ: صفةٌ انفعاليَّةٌ تَحْدُثُ عندَ الخجلِ، وتَحْجِزُ المَرْءَ عنْ فعلِ ما يُخَالِفُ المُرُوءَةَ.
والجَمْعُ بينَ ما تَضَمَّنَهُ كلامُ المُؤَلِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ مِنْ أنَّ الإيمانَ بضعٌ وسبعونَ شعبةً، وأنَّ الإيمانَ أركانُهُ سِتَّةٌ، أنْ نَقُولَ: الإيمانُ الَّذِي هوَ العقيدةُ أُصُولُهُ سِتَّةٌ، وهيَ المذكورةُ في حديثِ جبريلَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ حِينَمَا سَأَلَ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الإيمانِ، فقالَ: ((الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ))، مُتَّفَقٌ عليهِ.

وأمَّا الإيمانُ الَّذِي يَشْمَلُ الأعمالَ وَأَنْوَاعَهَا وَأَجْنَاسَهَا؛ فهوَ بضعٌ وسبعونَ شعبةً. ولهذا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الصلاةَ إيمانًا في قولِهِ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}.

قالَ المُفَسِّرُونَ:يعنِي صَلاَتَكُم إلى بيتِ المقدسِ؛ لأنَّ الصحابةَ كانوا قَبْلَ أنْ يُؤْمَرُوا بالتَّوَجُّهِ إلى الكعبةِ يُصَلُّونَ إلى بيتِ المقدسِ.



(7) الإيمانُ باللَّهِ يَتَضَمَّنُ أربعةَ أُمُورٍ:

الأَوَّلُ:الإيمانُ بوجودِ اللَّهِ تَعَالَى، وقدْ دَلَّ على وجودِهِ تَعَالَى: الفطرةُ، والعقلُ، والشرعُ، والحِسُّ.



1- أمَّا دلالةُ الفطرةِ على وجودِهِ؛فإنَّ كلَّ مخلوقٍ قدْ فُطِرَ على الإيمانِ بخالقِهِ منْ غيرِ سبقِ تفكيرٍ أوْ تعليمٍ، ولا يَنْصَرِفُ عنْ مُقْتَضَى هذهِ الفطرةِ إلاَّ مَنْ طَرَأَ على قلبِهِ ما يَصْرِفُهُ عنها؛ لقولِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا مِنْ مَوْلُودٍ إلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ)) رَوَاهُ البخاريُّ.
2- وأمَّا دلالةُ العقلِ على وجودِ اللَّهِ تَعَالَى؛فَلأَِنَّ هذهِ المخلوقاتِ سَابِقَهَا ولاحِقَهَا لا بُدَّ لها منْ خالقٍ أَوْجَدَهَا؛ إذْ لا يُمْكِنُ أنْ تُوجِدَ نفسَهَا بنفسِهَا، ولا يُمْكِنُ أنْ تُوجَدَ صُدْفَةً.
لا يُمْكِنُ أنْ تُوجِدَ نَفْسَهَا بنفسِهَا؛ لأنَّ الشيءَ لا يَخْلُقُ نفسَهُ؛ لأنَّهُ قبلَ وُجُودِهِ معدومٌ، فكيفَ يكونُ خالِقًا؟!
ولا يُمْكِنُ أنْ تُوجَدَ صُدْفَةً؛ لأنَّ كلَّ حادثٍ لا بُدَّ لهُ منْ مُحْدِثٍ؛ ولأنَّ وُجُودَهَا على هذا النظامِ البديعِ، والتناسقِ المُتَآلِفِ، والارتباطِ المُلْتَحِمِ بينَ الأسبابِ وَمُسَبَّبَاتِهَا، وبينَ الكائناتِ بعضِهَا معَ بعضٍ، يَمْنَعُ مَنْعًا بَاتًّا أنْ يكونَ وجودُهَا صدفةً؛ إذ الموجودُ صدفةً ليسَ على نظامٍ في أصلِ وجودِهِ، فَكَيْفَ يكونُ مُنْتَظِمًا حالَ بقائِهِ وتَطَوُّرِهِ؟!
وإذا لمْ يُمْكِنْ أنْ تُوجِدَ هذهِ المخلوقاتُ نَفْسَهَا بِنَفْسِهَا، ولا أنْ تُوجَدَ صُدْفَةً، تَعَيَّنَ أنْ يكونَ لها مُوجِدٌ، وهُوَ اللَّهُ ربُّ العالمينَ.
وقدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هذا الدليلَ العقليَّ، والبرهانَ القطعيَّ في سورةِ الطُّورِ، حيثُ قالَ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} يعني: أنَّهُم لم يُخْلَقُوا منْ غيرِ خالقٍ، ولا هم الذينَ خَلَقُوا أنفسَهُم، فَتَعَيَّنَ أنْ يكونَ خَالِقُهُم هوَ اللَّهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى، ولهذا لَمَّا سَمِعَ جُبَيْرُ بنُ مُطْعِمٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ سورةَ الطورِ، فَبَلَغَ هذهِ الآياتِ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لاَ يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} وكانَ جُبَيْرٌيومئذٍ مُشْرِكًا، قالَ: (كَادَ قَلْبِي أنْ يَطِيرَ، وذلكَ أَوَّلَ مَا وَقَرَ الإيمانُ في قلبِي) رَوَاهُ البخاريُّ مُفَرَّقًا.
ولنَضْرِبْ مثلاً يُوَضِّحُ ذلكَ، فإنَّهُ لوْ حَدَّثَكَ شخصٌ عنْ قَصْرٍ مَشِيدٍ، أَحَاطَتْ بهِ الحدائقُ، وَجَرَتْ بَيْنَهَا الأنهارُ، ومُلِئَ بالفُرُشِ والأَسِرَّةِ، وزُيِّنَ بأنواعِ الزينةِ منْ مُقَوِّمَاتِهِ وَمُكَمِّلاَتِهِ، وقالَ لكَ: إنَّ هذا القصرَ وما فيهِ منْ كمالٍ قدْ أَوْجَدَ نفسَهُ، أوْ وُجِدَ هكذا صُدْفَةً بدونِ مُوجِدٍ، لَبَادَرْتَ إلى إنكارِ ذلكَ وتَكْذِيبِهِ، وَعَدَدْتَ حديثَهُ سَفَهًا من القولِ.
أَفَيَجُوزُ بعدَ ذلكَ أنْ يكونَ هذا الكونُ الواسعُ بأرضِهِ وسمائِهِ وأفلاكِهِ وأحوالِهِ ونظامِهِ البديعِ الباهرِ، قدْ أَوْجَدَ نفسَهُ، أوْ وُجِدَ صدفةً بدونِ مُوجِدٍ؟!
3-وأمَّا دلالةُ الشرعِ على وجودِ اللَّهِ تَعَالَى؛فَلأَِنَّ الكُتُبَ السماويَّةَ كُلَّها تَنْطِقُ بذلكَ، وما جَاءَتْ بهِ من الأحكامِ المُتَضَمِّنَةِ لمصالحِ الخلقِ دليلٌ على أنَّها منْ رَبٍّ حكيمٍ عليمٍ بمصالحِ خَلْقِهِ، وما جاءَتْ بهِ من الأخبارِ الكونيَّةِ التي شَهِدَ الواقعُ بِصِدْقِهَا دليلٌ على أنَّها منْ رَبٍّ قادرٍ على إِيجَادِ ما أَخْبَرَ بهِ.
4- وأمَّا أَدِلَّةُ الحسِّ على وجودِ اللَّهِ؛ فمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أنَّنَا نَسْمَعُ وَنُشَاهِدُ منْ إجابةِ الدَّاعِينَ، وغَوْثِ المَكْرُوبِينَ، ما يَدُلُّ دلالةً قاطعةً على وجودِهِ تَعَالَى، قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ}، وقالَ تَعَالَى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ}.
وفي (صحيحِ البخاريِّ) عنْ أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أنَّ أَعْرابِيًّا دَخَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَالنَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَقَال: ( يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَ المَالُ، وَجَاعَ العِيالُ، فَادْعُ اللَّهَ لنَا)، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَدَعَا، فَثَارَ السَّحَابُ أَمْثَالَ الجِبَالِ، فَلَمْ يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأَيْتُ المَطَرَ يَتَحَادَرُ عَلَى لِحْيَتِهِ.
وفِي الجُمُعةِ الثَّانِيَةِ قَامَ ذَلِكَ الأَعْرَابيُّ أَوْ غَيْرُهُ فَقالَ: ( يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَهَدَّمَ البِنَاءُ، وَغَرِقَ المَالُ، فَادْعُ اللَّهَ لنَا)، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: ((اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا، فَمَا يُشِيرُ إِلَى نَاحِيَةٍ إِلاَّ انْفَرَجَتْ)).
وما زَالَتْ إجابةُ الداعِينَ أَمْرًا مَشْهُودًا إلى يَوْمِنَا هذا، لِمَنْ صَدَقَ اللُّجُوءَ إلى اللَّهِ تَعَالَى وَأَتَى بشرائطِ الإجابةِ.
الوجهُ الثاني: أنَّ آياتِ الأنبياءِ التي تُسَمَّى المُعْجِزَاتِ، وَيُشَاهِدُهَا النَّاسُ أوْ يَسْمَعُونَ بها، بُرْهَانٌ قاطعٌ على وجودِ مُرْسِلِهِم، وهُوَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لأنَّها أُمُورٌ خارجةٌ عنْ نِطَاقِ البشرِ، يُجْرِيهَا اللَّهُ تَعَالَى تَأْيِيدًا لِرُسُلِهِ وَنَصْرًا لهم.

مثالُ ذلكَ:آيَةُ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينَ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أنْ يَضْرِبَ بِعَصَاهُ البحرَ، فَضَرَبَهُ فَانْفَلَقَ اثْنَيْ عَشَرَ طَرِيقًا يَابِسًا، والماءُ بينَها كَالْجِبَالِ، قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ}.

ومثالٌ ثانٍ:آيَةُ عيسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ حيثُ كانَ يُحْيِي الموتَى، وَيُخْرِجُهُم منْ قُبُورِهِم بإذنِ اللَّهِ، قالَ اللَّهُ تَعَالَى عنهُ: {وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ}، وقالَ: {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي}.

ومثالٌ ثالثٌ: لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينَ طَلَبَتْ منهُ قُرَيْشٌ آيَةً، فَأَشَارَ إلى الْقَمَرِ فَانْفَلَقَ فِرْقَتَيْنِ، فَرَآهُ النَّاسُ، وفي ذلكَ قولُهُ تَعَالَى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ}.
فهذهِ الآياتُ المحسوسةُ التي يُجْرِيهَا اللَّهُ تَعَالَى تَأْيِيدًا لِرُسُلِهِ، وَنَصْرًا لهم، تَدُلُّ دلالةً قطعيَّةً على وجودِهِ تَعَالَى.

الثاني: الإيمانُ بِرُبُوبِيَّتِهِ. أيْ: بأنَّهُ وَحْدَهُ الربُّ لا شَرِيكَ لهُ ولا مُعِينَ.



والرَّبُّ:مَنْ لهُ الخَلْقُ والمُلْكُ والأمرُ، فلا خَالِقَ إلاَّ اللَّهُ، ولا مالِكَ إلاَّ هوَ، ولا أَمْرَ إلاَّ لهُ، قالَ تَعَالَى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ}، وقالَ: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ}.

ولمْ يُعْلَمْ أنَّ أَحَدًا مِن الخَلْقِ أَنْكَرَ رُبُوبِيَّةَ اللَّهِ سبحانَهُ، إلاَّ أنْ يَكُونَ مُكَابِرًا غيرَ مُعْتَقِدٍ بما يقولُ، كما حَصَلَ منْ فرعونَ حينَ قالَ لقومِهِ: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى}.

وقالَ: {يَا أَيُّهَا الْمَلأَُ مَاعَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}، لكنَّ ذلكَ ليسَ عنْ عقيدةٍ، قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}.
وقالَ موسى لِفرعونَفيما حَكَى اللَّهُ عنهُ: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاَءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأََظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا}.
ولهذا كانَ المشركونَ يُقِرُّونَ بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، معَ إشراكِهِم بهِ في الألوهيَّةِ:
- قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}.



- وقالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}.

- وقالَ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} .

وَأَمْرُ الربِّ سبحانَهُ شامِلٌ للأمرِ الكَوْنِيِّ والشَّرْعِيِّ، فَكَمَا أنَّهُ مُدَبِّرُ الكونِ القاضِي فيهِ بما يُرِيدُ حَسَبَ ما تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ، فهوَ كذلكَ الحاكمُ فيهِ بشرعِ العباداتِ وأحكامِ المعاملاتِ حَسْبَمَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ، فمَن اتَّخَذَ معَ اللَّهِ تَعَالَى مُشَرِّعًا في العباداتِ، أوْ حَاكِمًا في المعاملاتِ؛ فقدْ أَشْرَكَ بهِ ولمْ يُحَقِّق الإيمانَ.

الثالثُ:الإيمانُ بألوهيَّتِهِ. أيْ: بأنَّهُ وَحْدَهُ الإلهُ الحقُّ لا شَرِيكَ لهُ، و(الإلهُ) بمعنى (المَأْلُوهِ) أي: (المعبودِ) حُبًّا وتَعْظِيمًا:



-وقالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلهَ إلاَّ هُوَ الرَّحمَنُ الرَّحِيمُ}.

-وقالَ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.

وكُلُّ مَا اتُّخِذَ إِلَهًا معَ اللَّهِ يُعْبَدُ منْ دونِهِ فَأُلُوهِيَّتُهُ باطلةٌ، قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} .

وَتَسْمِيَتُهَا آلهةً لا يُعْطِيهَا حَقَّ الألوهيَّةِ:
-قالَ اللَّهُ تَعَالَى في (اللاَّتِ والعُزَّى وَمَنَاةَ): {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}.



-وقالَ عنْ هُودٍ: إِنَّهُ قالَ لقومِهِ: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}.

-وقالَ عنْ يوسفَ: إنَّهُ قالَ لِصَاحِبَي السِّجْنِ: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}.

ولهذا كانت الرُّسُلُ عليهم الصلاةُ والسلامُ يَقُولُونَ لأقوامِهِم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، ولكنْ أَبَى ذلكَ المشركونَ، وَاتَّخَذُوا منْ دونِ اللَّهِ آلهةً يَعْبُدُونَهُم معَ اللَّهِ سبحانَهُ وتَعَالَى، وَيَسْتَنْصِرُونَ بهم وَيَسْتَغِيثُونَ.

وقدْ أَبْطَلَ اللَّهُ تَعَالَى اتِّخَاذَ المشركينَ هذهِ الآلهةَ بِبُرْهَانَيْنِ عَقْلِيَّيْنِ:
الأَوَّلُ:أنَّهُ ليسَ في هذهِ الآلهةِ التي اتَّخَذُوهَا شيءٌ منْ خصائصِ الألوهيَّةِ، فهيَ مخلوقةٌ لا تَخْلُقُ، ولا تَجْلُبُ نَفْعًا لِعَابِدِيهَا، ولا تَدْفَعُ عنهم ضَرَرًا، ولا تَمْلِكُ لهم حَيَاةً ولا مَوْتًا، ولا يَمْلِكُونَ شَيْئًا من السماواتِ، ولا يُشَارِكُونَ فيهِ:



-قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَِنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُورًا}.

-وقالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}.

-وقالَ: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ}.

وإذا كانتْ هذهِ حالَ تلكَ الآلهةِ؛ فإنَّ اتِّخَاذَهَا آلهةً منْ أَسْفَهِ السَّفَهِ، وأَبْطَلِ الباطلِ.

الثَّانِي: أنَّ هؤلاءِ المشركينَ كَانُوا يُقِرُّونَ بأنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَحْدَهُ الربُّ الخالقُ، الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كلِّ شيءٍ، وهُوَ يُجِيرُ ولا يُجَارُ عليهِ.



وهذا يَسْتَلْزِمُ أنْ يُوَحِّدُوهُ بالألوهيَّةِ كما وَحَّدُوهُ بالربوبيَّة:

-كما قالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.



-وقالَ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}.

-وقالَ: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}.

الرابعُ: الإيمانُ بأسمائِهِ وصفاتِهِ؛ أيْ: إِثْبَاتُ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ في كتابِهِ، أوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأسماءِ والصفاتِ، على الوجهِ اللائقِ بهِ منْ غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ولا تكييفٍ ولا تمثيلٍ:

- قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.

-وقالَ: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
-وقالَ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
وقدْ ضَلَّ في هذا الأمرِ طَائِفَتَانِ:

إحدَاهُمَا: (المُعَطِّلَةُ) الذينَ أَنْكَرُوا الأسماءَ والصفاتِ، أوْ بَعْضَهَا، زَاعِمِينَ أنَّ إِثْبَاتَهَا لِلَّهِ يَسْتَلْزِمُ التشبيهَ؛ أيْ: تَشْبِيهَ اللَّهِ تَعَالَى بِخَلْقِهِ.
وهذا الزعمُ باطلٌ لوجوهٍ؛ منها:

الأَوَّلُ: أنَّهُ يَسْتَلْزِمُ لوازمَ باطلةً ، كالتَّنَاقُضِ في كلامِ اللَّهِ سبحانَهُ؛ وذلكَ أنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ لنفسِهِ الأسماءَ والصفاتِ، وَنَفَى أنْ يكونَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، ولوْ كانَ إِثْبَاتُهَا يَسْتَلْزِمُ التشبيهَ لَزِمَ التناقضُ في كلامِ اللَّهِ، وَتَكْذِيبُ بَعْضِهِ بَعْضًا.
الثانِي: أنَّهُ لا يَلْزَمُ من اتِّفَاقِ الشيئَيْنِ في اسمٍ أوْ صفةٍ أنْ يَكُونَا مُتَمَاثِلَيْنِ، فأنْتَ تَرَى الشخصَيْنِ يَتَّفِقَانِ في أنَّ كُلاًّ منهما إنسانٌ سميعٌ بصيرٌ مُتَكَلِّمٌ، ولا يَلْزَمُ منْ ذلكَ أنْ يَتَمَاثَلاَ في المعاني الإنسانيَّةِ؛ السَّمْعِ والبصرِ والكلامِ.
وَتَرَى الحيواناتِ لَهَا أَيْدٍ وَأَرْجُلٌ وَأَعْيُنٌ، ولا يَلْزَمُ من اتِّفَاقِهَا هذا أنْ تكونَ أَيْدِيهَا وَأَرْجُلُهَا وَأَعْيُنُهَا مُتَمَاثِلَةً.
فإذا ظَهَرَ التَّبَايُنُ بينَ المخلوقاتِ فيما تَتَّفِقُ فيهِ منْ أسماءٍ أوْ صفاتٍ، فالتَّبَايُنُ بينَ الخالقِ والمخلوقِ أَبْيَنُ وَأَعْظَمُ.
الطائفةُ الثانيَةُ:(المُشَبِّهَةُ) الذينَ أَثْبَتُوا الأسماءَ أو الصفاتِ معَ تَشْبِيهِ اللَّهِ تَعَالَى بِخَلْقِهِ، زَاعِمِينَ أنَّ هذا مُقْتَضَى دلالةِ النصوصِ؛ لأنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُخَاطِبُ العبادَ بما يَفْهَمُونَ. وهذا الزعمُ باطلٌ لوجوهٍ؛ منها:



الأَوَّلُ: أنَّ مُشَابَهَةَ اللَّهِ تَعَالَى لِخَلْقِهِ أَمْرٌ باطلٌ يُبْطِلُهُ العقلُ والشرعُ، ولا يُمْكِنُ أنْ يكونَ مُقْتَضَى نصوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ أَمْرًا بَاطِلاً.

الثاني: أنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ العِبَادَ بما يَفْهَمُونَ منْ حيثُ أصلُ المعنَى، أمَّا الحقيقةُ والكُنْهُ الَّذِي عليهِ ذلكَ المعنَى فهوَ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ فيما يَتَعَلَّقُ بذاتِهِ وصفاتِهِ.
فإذا أَثْبَتَ اللَّهُ لنفسِهِ أنَّهُ سَمِيعٌ؛ فإنَّ السمعَ معلومٌ منْ حيثُ أصلُ المعنَى، وهوَ إدراكُ الأصواتِ، لكنَّ حقيقةَ ذلكَ بالنسبةِ إلى سَمْعِ اللَّهِ تَعَالَى غيرُ مَعْلُومَةٍ؛ لأنَّ حقيقةَ السمعِ تَتَبَايَنُ حتَّى في المخلوقاتِ، فالتَّبَايُنُ فيها بينَ الخالقِ والمخلوقِ أَبْيَنُ وأعظمُ.
وإذا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عنْ نَفْسِهِ أنَّهُ اسْتَوَى على عَرْشِهِ؛ فإنَّ الاستواءَ منْ حيثُ أصلُ المعنى معلومٌ، لكنَّ حقيقةَ الاستواءِ الذي هوَ عليهِ غيرُ معلومةٍ بالنسبةِ إلى استواءِ اللَّهِ على عرشِهِ؛ لأنَّ حقيقةَ الاستواءِ تَتَبَايَنُ في حقِّ المخلوقِ، فليسَ الاستواءُ على كُرْسِيٍّ مُسْتَقِرٍّ كالاستواءِ على رَحْلِ بَعِيرٍ صَعْبٍ نَفُورٍ، فإذا تَبَايَنَتْ في حَقِّ المخلوقِ، فالتَّبَايُنُ فيها بينَ الخالقِ والمخلوقِ أَبْيَنُ وَأعْظَمُ.
والإيمانُ باللَّهِ تَعَالَى على ما وَصَفْنَا يُثْمِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ ثَمَرَاتٍ جَلِيلَةً؛ منها:
الأُولَى: تَحْقِيقُ توحيدِ اللَّهِ تَعَالَى بحيثُ لا يَتَعَلَّقُ بغيرِهِ رَجَاءً ولا خَوْفًا، ولا يَعْبُدُ غيرَهُ.



الثَّانِيَةُ:كمالُ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَعْظِيمِهِ بِمُقْتَضَى أسمائِهِ الحُسْنَى وصفاتِهِ العُلْيَا.

الثالثةُ:تَحْقِيقُ عبادتِهِ بِفِعْلِ ما أَمَرَ بهِ، وَاجْتِنَابِ ما نَهَى عنهُ.


(8) الملائكةُ: عالَمٌ غَيْبِيٌّ، مَخْلُوقُونَ، عَابِدُونَ للَّهِ تَعَالَى، وليسَ لهم منْ خصائصِ الربوبيَّةِ والألوهيَّةِ شيءٌ، خَلَقَهُم اللَّهُ تَعَالَى منْ نورٍ، وَمَنَحَهُم الانقيادَ التامَّ لأمرِهِ، والقُوَّةَ على تنفيذِهِ.
قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ}.
وهمْ عددٌ كثيرٌ لا يُحْصِيهِم إلاَّ اللَّهُ تَعَالَى، وقدْ ثَبَتَ في (الصحيحَيْنِ) منْ حديثِ أنسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في قِصَّةِ المِعْرَاجِ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُفِعَ لهُ البيتُ المعمورُ في السَّماءِ، يُصَلِّي فيهِ كلَّ يومٍ سبعونَ ألفَ مَلَكٍ، إذا خَرَجُوا لم يَعُودُوا إليهِ آخِرَ ما عَلَيْهِم.
والإيمانُ بالملائكةِ يَتَضَمَّنُ أربعةَ أُمُورٍ:
الأوَّلُ:الإيمانُ بوجودِهِم.

الثاني:الإيمانُ بِمَنْ عَلِمْنَا اسمَهُ منهم بِاسْمِهِ، (كِجِبْريلَ) ومَنْ لم نَعْلَم اسمَهُ نُؤْمِنُ بهم إِجْمَالاً.

الثالثُ:الإيمانُ بما عَلِمْنَا منْ صفاتِهِم،كصِفَةِ جبريلَ؛ فَقَدْ أَخْبَرَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ رَآهُ على صِفَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عليها، ولهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، قدْ سَدَّ الأُفُقَ.

وقدْ يَتَحَوَّلُ المَلَكُ بأمْرِ اللَّهِ تَعَالَى إلى هيئةِ رجلٍ، كما حَصَلَ لجبريلَ حينَ أَرْسَلَهُ تَعَالَى إلى مريمَ فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا، وحينَ جاءَ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جالسٌ في أصحابِهِ، جاءَهُ بِصِفَةِ رجلٍ شديدِ بياضِ الثيابِ، شديدِ سوادِ الشعرِ، لا يُرَى عليهِ أَثَرُ السفرِ، ولا يَعْرِفُهُ أحدٌ من الصحابةِ، فَجَلَسَ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إلى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَع كَفَّيْهِ على فَخِذَيْهِ، وَسَأَلَ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الإسلامِ والإيمانِ والإحسانِ والساعةِ وَأَمَارَاتِهَا، فَأَجَابَهُ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلَقَ، ثُمَّ قالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وكذلكَ الملائكةُ الذينَ أَرْسَلَهُم اللَّهُ تَعَالَى إلى إبراهيمَ وَلُوطٍ كانوا في صورةِ رجالٍ.
الرابعُ: الإيمانُ بما عَلِمْنَا منْ أعمالِهِم التي يَقُومُونَ بها بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، كَتَسْبِيحِهِ والتَّعَبُّدِ لهُ ليلاً ونهارًا بدونِ مَلَلٍ ولا فُتُورٍ.



وقدْ يَكُونُ لِبَعْضِهِم أعمالٌ خاصَّةٌ، مثلُ جبريلَ الأمينِ على وَحْيِ اللَّهِ تَعَالَى، يُرْسِلُهُ اللَّهُ بهِ إلى الأنبياءِ والرُّسُلِ، ومِثْلُ ميكائيلَ المُوَكَّلِ بِالْقَطْرِ؛ أيْ: بالمطرِ والنباتِ، ومثلُ إسرافيلَ المُوَكَّلِ بالنَّفْخِ في الصُّورِ عندَ قيامِ الساعةِ وبَعْثِ الخَلْقِ، ومثلُ مَلَكِ الموتِ المُوَكَّلِ بِقَبْضِ الأرواحِ عندَ الموتِ، ومثلُ المَلَكِ المُوَكَّلِ بالنارِ، وهُوَ خازِنُ النَّارِ، ومثلُ الملائكةِ المُوَكَّلِينَ بالأَجِنَّةِ في الأرحامِ؛ إذا تَمَّ للإنسانِ أربعةُ أشهرٍ في بطنِ أُمِّهِ بَعَثَ اللَّهُ إليهِ مَلَكًا، وَأَمَرَهُ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أمْ سَعِيدٌ، ومثلُ الملائكةِ المُوَكَّلِينَ بحفظِ أعمالِ بَنِي آدمَ وَكِتَابَتِهَا لكلِّ شخصٍ؛ مَلَكَانِ: أَحَدُهُمَا عن اليمينِ، والثاني عن الشمالِ، ومثلُ الملائكةِ المُوَكَّلِينَ بسؤالِ المَيِّتِ إذا وُضِعَ في قبرِهِ، يَأْتِيهِ مَلَكَانِ يَسْأَلاَنِهِ عنْ ربِّهِ وَدِينِهِ وَنَبِيِّهِ.

والإيمانُ بالملائكةِ يُثْمِرُ ثَمَرَاتٍ جليلةً؛ منها:
الأُولَى:العلمُ بِعَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُوَّتِهِ وسُلْطَانِهِ؛ فإنَّ عَظَمَةَ المخلوقِ منْ عظمةِ الخالقِ.



الثَّانيَةُ:شُكْرُ اللَّهِ تَعَالَى على عِنَايَتِهِ بِبَنِي آدمَ، حيثُ وَكَّلَ منْ هؤلاءِ الملائكةِ مَنْ يَقُومُ بِحِفْظِهِم، وكتابةِ أعمالِهِم، وغيرِ ذلكَ منْ مصالِحِهِم.

الثَّالثةُ:مَحَبَّةُ الملائكةِ على ما قَامُوا بهِ منْ عبادةِ اللَّهِ تَعَالَى.

وقدْ أَنْكَرَ قومٌ من الزائِغِينَ كَوْنَ الملائكةِ أَجْسَامًا، وقالُوا: إِنَّهُم عبارةٌ عنْ قُوَى الخيرِ الكامنةِ في المخلوقاتِ، وهذا تَكْذِيبٌ لكتابِ اللَّهِ تَعَالَى، وسُنَّةِ رسولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإجماعِ المسلمينَ:

-قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ}.
-وقالَ: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}.
-وقالَ: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ}.

-وقالَ: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}.

-وقالَ في أهلِ الجنَّةِ: {وَالْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}.
وفي (صحيحِ البخاريِّ) عنْ أبي هريرةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الأَرْضِ)).
وفيهِ أيضًا عنهُ قالَ: قالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ كَانَ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوابِ الْمَسْجِدِ الْمَلاَئِكَةُ يَكْتُبُونَ الأَوَّلَ فَالأَوَّلَ، فَإِذَا جَلَسَ الإِمَامُ طَوَوُا الصُّحُفَ، وَجَاءُوا يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ)).
وهذهِ النصوصُ صريحةٌ في أنَّ الملائكةَ أجسامٌ لا قُوًى معنويَّةٌ كما قالَ الزَّائِغُونَ. وعلى مُقْتَضَى هذهِ النصوصِ أَجْمَعَ المسلمونَ.

(9)الكُتُبُ: جَمْعُ (كِتَابٍ) بِمَعْنَى (مَكْتُوبٍ).
والمرادُ بها هنا: الكُتُبُ التي أَنْزَلَهَا تَعَالَى على رُسُلِهِ؛ رَحْمَةً للخلقِ وهدايَةً لهم، لِيَصِلُوا بها إلى سعادتِهِم في الدنيا والآخرةِ.
والإيمانُ بالكُتُبِ يَتَضَمَّنُ أربعةَ أُمُورٍ:
الأوَّلُ:الإيمانُ بأنَّ نُزُولَهَا منْ عندِ اللَّهِ حَقٌّ.

الثَّاني:الإيمانُ بما عَلِمْنَا اسمَهُ منها باسمِهِ، كالقرآنِ الَّذِي نَزَلَ على مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والتوراةِ التي أُنْزِلَتْ على موسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والإنجيلِ الَّذِي أُنْزِلَ على عيسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والزَّبُورِ الَّذِي أُوتِيَهُ دَاوُدُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأمَّا ما لمْ نَعْلَم اسمَهُ فَنُؤْمِنُ بهِ إِجْمَالاً.

الثَّالثُ:تَصْدِيقُ ما صَحَّ منْ أخبارِهَا، كأخبارِ القرآنِ، وَأَخْبَارِ ما لمْ يُبَدَّلْ أوْ يُحَرَّفْ من الكُتُبِ السابقةِ.

الرَّابعُ:العملُ بأحكامِ ما لمْ يُنْسَخْ منها، والرِّضَا والتسليمُ بهِ، سواءٌ فَهِمْنَا حِكْمَتَهُ أمْ لم نَفْهَمْهَا. وجميعُ الكُتُبِ السابقةِ مَنْسُوخَةٌ بالقرآنِ العظيمِ، قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}؛ أيْ: حَاكِمًا عليهِ.

وعلى هذا؛ فلا يَجُوزُ العملُ بأيِّ حُكْمٍ منْ أحكامِ الكُتُبِ السابقةِ، إلاَّ ما صَحَّ منها وَأَقَرَّهُ القُرْآنُ.

والإيمانُ بالكُتُبِ يُثْمِرُ ثَمَرَاتٍ جليلةً؛ منها:
الأُولَى:العلمُ بعنايَةِ اللَّهِ تَعَالَى بعبادِهِ؛ حيثُ أَنْزَلَ لكلِّ قومٍ كتابًا يَهْدِيهِم بهِ.

الثَّانِيَةُ:العلمُ بِحِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى في شَرْعِهِ، حيثُ شَرَعَ لكلِّ قومٍ ما يُنَاسِبُ أحوالَهُم، كما قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}.
(10) الرُّسُلُ: جَمْعُ (رَسُولٍ) بِمَعْنَى (مُرْسَلٍ) أيْ: (مَبْعُوثٍ) بِإِبْلاَغِ شيءٍ.
والمرادُ هنا: مَنْ أُوحِيَ إليهِ من البشرِ بِشَرْعٍ وأُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ.
وأَوَّلُ الرُّسُلِ نوحٌ، وآخِرُهُم مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ}.
وفي (صحيحِ البخاريِّ) عنْ أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في حديثِ الشفاعةِ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ أنَّ النَّاسَ يَأْتُونَ إلى آدَمَ لِيَشْفَعَ لهمْ، فَيَعْتَذِرُ إليهم وَيَقُولُ: ائْتُوا نُوحًا أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ... وَذَكَرَ تَمَامَ الحديثِ.
وقالَ اللَّهُ تَعَالَى في مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}.
ولمْ تَخْلُ أُمَّةٌ منْ رسولٍ يَبْعَثُهُ اللَّهُ تَعَالَى بِشَرِيعَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ إلى قَوْمِهِ، أوْ نَبِيٍّ يُوحَى إليهِ بِشَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَهُ لِيُجَدِّدَهَا:
-قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}.

-وقالَ تَعَالَى: {وَإِن مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ}.

-وقالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا}.

والرُّسُلُ بَشَرٌ مَخْلُوقُونَ، ليسَ لهم منْ خصائصِ الربوبيَّةِ والألوهيَّةِ شيءٌ، قالَ اللَّهُ تَعَالَى عنْ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهُوَ سَيِّدُ الرُّسُلِ وَأَعْظَمُهُم جَاهًا عندَ اللَّهِ:

-{قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.



-وقالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا}.

وَتَلْحَقُهُم خصائصُ البشريَّةِ من المَرَضِ والموتِ والحاجةِ إلى الطعامِ والشرابِ، وغيرِ ذلكَ، قالَ اللَّهُ تَعَالَى عنْ إبراهيمَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ في وَصْفِهِ لِرَبِّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ}، وقالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي)).

وقدْ وَصَفَهُم اللَّهُ تَعَالَى بالعبوديَّةِ لهُ في أَعْلَى مَقَامَاتِهِم، وفي سياقِ الثناءِ عليهم:
-فقالَ تَعَالَى في نُوحٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}.



-وقالَ في مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}.

-وقالَ في إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ صلَّى اللَّهُ عليْهِم وَسَلَّمَ: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ}.

-وقالَ في عيسَى ابنِ مريمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ}.

والإيمانُ بالرُّسُلِ يَتَضَمَّنُ أربعةَ أمورٍ:

الأَوَّلُ: الإيمانُ بأنَّ رِسَالَتَهُم حَقٌّ من اللَّهِ تَعَالَى، فَمَنْ كَفَرَ بِرِسَالَةِ واحدٍ منهم فقدْ كَفَرَ بالجميعِ، كَمَا قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ}.



فَجَعَلَهُم اللَّهُ مُكَذِّبِينَ لجميعِ الرُّسُلِ، معَ أنَّهُ لم يَكُنْ رسولٌ غيرُهُ حينَ كَذَّبُوهُ. وعلى هذا فالنَّصَارَى الذينَ كَذَّبُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَتَّبِعُوهُ هم مُكَذِّبُونَ للمسيحِ ابنِ مريمَ غيرُ مُتَّبِعِينَ لهُ أيضًا، لا سِيَّمَا وأنَّهُ قدْ بَشَّرَهُم بمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا مَعْنَى لِبِشَارَتِهِم بهِ إلاَّ أنَّهُ رسولٌ إليهم يُنْقِذُهُم اللَّهُ بهِ من الضلالةِ، وَيَهْدِيهِم إلى صراطٍ مستقيمٍ.

الثَّاني:الإيمانُ بِمَنْ عَلِمْنَا اسمَهُ منهم بِاسْمِهِ، مثلُ مُحَمَّدٍ وإبراهيمَ وموسى وعيسى ونوحٍ عليهم الصلاةُ والسلامُ. وَهَؤُلاءِ الخمسةُ هم أُولُو العَزْمِ من الرُّسُلِ، وقدْ ذَكَرَهُم اللَّهُ تَعَالَى في مَوْضِعَيْنِ من القرآنِ:



في سورةِ الأحزابِ في قولِهِ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}.

وفي سورةِ الشُّورَى في قولِهِ: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}.
وأمَّا مَنْ لمْ نَعْلَم اسْمَهُ منهم فَنُؤْمِنُ بهِ إجمالاً، قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ}.
الثَّالِثُ:تَصْدِيقُ مَا صَحَّ عنهم منْ أخبارِهِم.


الرَّابِعُ:العَمَلُ بشريعةِ مَنْ أُرْسِلَ إلينا منْهُم، وهُوَ خَاتَمُهُم مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المُرْسَلُ إلى جميعِ النَّاسِ، قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.

وللإيمانِ بالرُّسُلِ ثَمَرَاتٌ جليلةٌ؛ منها:

الأُولَى:العلمُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِنَايَتِهِ بعبادِهِ، حيثُ أَرْسَلَ إليهم الرُّسُلَ؛ لِيَهْدُوهُم إلى صراطِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُبَيِّنُوا لهمْ كَيْفَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ؛ لأنَّ العقلَ البَشَرِيَّ لا يَسْتَقِلُّ بمعرفةِ ذلكَ.



الثَّانيَةُ:شُكْرُهُ تَعَالَى على هذهِ النعمةِ الكُبْرَى.

الثَّالثةُ:مَحَبَّةُ الرُّسُلِ عليهم الصلاةُ والسلامُ وَتَعْظِيمُهُم، والثناءُ عليهم بِمَا يَلِيقُ بهم؛ لأنَّهُم رُسُلُ اللَّهِ تَعَالَى، ولأنَّهُم قامُوا بعبادتِهِ، وَتَبْلِيغِ رِسَالَتِهِ، وَالنُّصْحِ لعبادِهِ.

وقدْ كَذَّبَ المُعَانِدُونَ رُسُلَهُمْ زَاعِمِينَ أنَّ رُسُلَ اللَّهِ تَعَالَى لا يَكُونُونَ من البشرِ، وقدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هذا الزعمَ وأَبْطَلَهُ بقولِهِ: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولاً (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلاَئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولاً}.

فَأَبْطَلَ اللَّهُ تَعَالَى هذا الزعمَ بأنَّهُ لا بُدَّ أنْ يكونَ الرسولُ بَشَرًا؛ لأنَّهُ مُرْسَلٌ إلى أهلِ الأَرْضِ، وهمْ بَشَرٌ، ولوْ كانَ أهلُ الأرضِ ملائكةً لَنَزَّلَ اللَّهُ عليهم من السماءِ مَلَكًا رَسُولاً؛ ليكونَ مِثْلَهُم.
وهكذا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عن المُكَذِّبِينَ للرسلِ أنَّهُم قالُوا: {إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَنْ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ}.

(11) اليومُ الآخِرُ: يومُ القيامةِ، الَّذِي يُبْعَثُ النَّاسُ فيهِ للحسابِ والجزاءِ.
وَسُمِّيَ بذلكَ لأنَّهُ لا يَوْمَ بعدَهُ، حيثُ يَسْتَقِرُّ أهلُ الجنَّةِ في مَنَازِلِهِم، وأهلُ النَّارِ في مَنَازِلِهِم.
والإيمانُ باليومِ الآخرِ يَتَضَمَّنُ ثلاثةَ أمورٍ:
الأَوَّلُ:




الإيمانُ بالبعثِ؛ وهُوَ إحياءُ المَوْتَى حينَ يُنْفَخُ في الصُّورِ النفخةُ الثانيَةُ، فَيَقُومُ النَّاسُ لربِّ العالمينَ حُفَاةً غيرَ مُنْتَعِلِينَ، عُرَاةً غيرَ مُسْتَتِرِينَ، غُرْلاً غيرَ مُخْتَتِنِينَ، قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}.

والْبَعْثُ حَقٌّ ثابتٌ دلَّ عليهِ الكتابُ والسُّنَّةُ وإجماعُ المسلمينَ.

قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ}.
وقالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً)) مُتَّفَقٌ عليهِ.
وَأَجْمَعَ المسلمونَ على ثُبُوتِهِ، وهُوَ مُقْتَضَى الحكمةِ؛ حيثُ تَقْتَضِي أنْ يَجْعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لهذهِ الخليقةِ مَعادًا يُجَازِيهِم فيهِ على ما كَلَّفَهُم بهِ على أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ}، وقالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}.
الثاني:الإيمانُ بالحسابِ والجزاءِ، يُحَاسَبُ العبدُ على عَمَلِهِ ويُجَازَى عليهِ، وقدْ دَلَّ على ذلكَ الكتابُ والسُّنَّةُ وإجماعُ المسلمينَ:

-قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}.
-وقالَ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}.
-وقالَ: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}.
وعن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، أَيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ قَالَ: قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيُنَادَى بِهِمْ عَلَى رُؤُوسِ الْخَلاَئِقِ، هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ، أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)) مُتَّفَقٌ عليهِ.

وَصَحَّ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ((مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَأَنَّ مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً)).
وقدْ أَجْمَعَ المسلمونَ على إثباتِ الحسابِ والجزاءِ على الأعمالِ،

وهُوَ مُقْتَضَى الحكمةِ؛ فإنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الكُتُبَ، وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ، وَفَرَضَ على العبادِ قَبُولَ ما جَاءُوا بهِ، والعَمَلَ بما يَجِبُ العملُ بهِ منهُ، وَأَوْجَبَ قتالَ المعارضِينَ لهُ، وَأَحَلَّ دِمَاءَهُم وَذُرِّيَّاتِهِم ونساءَهُم وَأَمْوَالَهُم.
فلوْ لم يَكُنْ حِسَابٌ ولا جزاءٌ لكانَ هذا من العَبَثِ الَّذِي يُنَزَّهُ الرَّبُّ الحكيمُ عنهُ، وقدْ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إلى ذلكَ بقولِهِ: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ}.

الثالثُ:الإيمانُ بِالْجَنَّةِ والنارِ، وَأَنَّهُمَا المَآلُ الأَبَدِيُّ للخلقِ؛ فالجنَّةُ دارُ النعيمِ التي أَعَدَّهَا اللَّهُ تَعَالَى للمؤمنينَ المُتَّقِينَ، الذينَ آمَنُوا بما أَوْجَبَ اللَّهُ عليهم الإيمانَ بهِ، وقامُوا بطاعةِ اللَّهِ ورسولِهِ مُخْلِصِينَ للَّهِ مُتَّبِعِينَ لِرَسُولِهِ، فيها منْ أنواعِ النعيمِ ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ:

-قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}.
-وقالَ تَعَالَى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
وأمَّا النَّارُ؛ فَهِيَ دارُ العذابِ التي أَعَدَّهَا اللَّهُ تَعَالَى للكافرينَ الظالمينَ، الذينَ كَفَرُوا بهِ وَعَصَوْا رُسُلَهُ، فيها منْ أنواعِ العذابِ والنَّكَالِ مَا لا يَخْطُرُ على البالِ:

-قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}.
-وقالَ: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا}.
-وقالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لاَ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ}.
وَيَلْتَحِقُ بالإيمانِ باليومِ الآخرِ
الإيمانُ بكلِّ ما يكونُ بعدَ الموتِ، مثلِ:
أ- فِتْنَةِ القبرِ:
وهيَ سؤالُ المَيِّتِ بعدَ دَفْنِهِ عنْ رَبِّهِ وَدِينِهِ ونَبِيِّهِ، فَيُثَبِّتُ اللَّهُ الذينَ آمَنُوا بالقولِ الثابتِ، فيقولُ: (رَبِّيَ اللَّهُ، ودِينِيَ الإسلامُ، وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).

وَيُضِلُّ اللَّهُ الظالمِينَ، فيقولُ الكافرُ: (هَاهْ هَاهْ، لا أَدْرِي).

وَيَقُولُ المُنَافِقُ أو المُرْتَابُ: (لا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يقولونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ).
ب- عَذَابِ القبرِ ونعيمِهِ:




فيكونُ العذابُ للظالمينَ من المنافقينَ والكافرينَ:

- قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}.

-وقالَ تَعَالَى في آلِ فِرْعَونَ: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}.
وفي (صحيحِ مسلمٍ) منْ حديثِ زيدِ بنِ ثابتٍ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((فَلَوْلاَ أَنْ لاَ تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ))، ثُمَّ أَقْبَلَ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: ((تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِن عَذَابِ النَّارِ))، قَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، فَقَالَ: ((تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ))، قَالوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، قالَ: ((تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْها وَمَا بَطَنَ))، قَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ من الفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْها وَمَا بَطَنَ، قَالَ: ((تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ))، قَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ منْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ).

وأمَّا نَعِيمُ القبرِ فللمؤمنينَ الصادقِينَ:
-




قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَنْ لاَ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}.

-


وقالَ تَعَالَى: {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لاَ تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلاَ إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} إلى آخرِ السورةِ.

وعن البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ في المؤمنِ إذا أَجَابَ الْمَلَكَيْنِ في قبرِهِ: ((يُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ صَدَقَ عَبْدِي، فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ))، قَالَ: ((فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ))، رَوَاهُ أَحْمَدُ وأبو داوُدَ في حديثٍ طويلٍ.

وللإيمانِ باليومِ الآخرِ ثَمَرَاتٌ جليلةٌ؛ منها:
الأُولَى:




الرغبةُ في فعلِ الطاعةِ، والحرصُ عليها؛ رجاءً لثوابِ ذلكَ اليومِ.

الثانيَةُ:


الرَّهْبَةُ عندَ فِعْلِ المعصيَةِ، والرِّضَى بها؛ خَوْفًا منْ عقابِ ذلكَ اليومِ.

الثالثةُ:


تَسْلِيَةُ المؤمنِ عَمَّا يَفُوتُهُ من الدنيا بِمَا يَرْجُوهُ منْ نعيمِ الآخرةِ وَثَوَابِهَا.

وقدْ أَنْكَرَ الكافرونَ البعثَ بعدَ الموتِ، زَاعِمِينَ أنَّ ذلكَ غيرُ مُمْكِنٍ.

وهذا الزعمُ باطلٌ، دَلَّ على بطلانِهِ الشرعُ والحِسُّ والعَقْلُ.
أمَّا مِن الشرعِ؛




فقدْ قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}.

وقد اتَّفَقَتْ جميعُ الكُتُبِ السماويَّةِ عليهِ.

وأمَّا الحِسُّ؛




فقدْ أَرَى اللَّهُ عِبَادَهُ إحياءَ الموتَى في هذهِ الدنيا، وفي سورةِ البقرةِ خَمْسَةُ أمثلةٍ على ذلكَ؛ وهيَ:

المثالُ الأَوَّلُ:


قومُموسى حينَ قالُوا لهُ: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً}، فَأَمَاتَهُم اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ أَحْيَاهُم، وفي ذلكَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى مُخَاطِبًا بَنِي إسرائيلَ: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
المثالُ الثاني:

في قِصَّةِ الْقَتِيلِ الَّذِي اخْتَصَمَ فيهِ بَنُو إسرائيلَ،فَأَمَرَهُم اللَّهُ تَعَالَى أنْ يَذْبَحُوا بقرةً فَيَضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا؛ لِيُخْبِرَهُم بمَنْ قَتَلَهُ.
وفي ذلكَ يقولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.
المثالُ الثالثُ:

في قِصَّةِ القومِ الذينَ خَرَجُوا منْ ديارِهِم فِرَارًا من الموتِ وهمْ أُلُوفٌ،فَأَمَاتَهُم اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ أَحْيَاهُم.
وفي ذلكَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ}.
المثالُ الرابعُ:

في قِصَّةِ الَّذِي مَرَّ على قريَةٍ مَيْتَةٍ، فَاسْتَبْعَدَ أنْ يُحْيِيَهَا اللَّهُ تَعَالَى، فَأَمَاتَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِائَةَ سنةٍ ثُمَّ أَحْيَاهُ.

وفي ذلكَ يقولُ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

المثالُ الخامسُ:




في قِصَّةِ إبراهيمَ الخليلِ حينَ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أنْ يُرِيَهُ كيفَ يُحْيِي الموتَى، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أنْ يَذْبَحَ أَرْبَعَةً من الطيرِ وَيُفَرِّقَهُنَّ أَجْزَاءً على الجبالِ التي حَوْلَهُ، ثُمَّ يُنَادِيَهُنَّ فَتَلْتَئِمُ الأجزاءُ بَعْضُهَا إلى بَعْضٍ، وَيَأْتِينَ إلى إبراهيمَ سَعْيًا.

وفي ذلكَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.

فهذهِ أمثلةٌ حسِّيَّةٌ واقعيَّةٌ تَدُلُّ على إمكانيَّةِ إحياءِ الموتَى، وقدْ سَبَقَت الإشارةُ إلى ما جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى منْ آياتِ عِيسَى ابنِ مَرْيمَ؛ منْ إحياءِ الموتَى وَإِخْرَاجِهِم منْ قُبُورِهِم بإذنِ اللَّهِ تَعَالَى.
وأمَّا دَلاَلَةُ العقلِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أحدُهُمَـا:




أنَّ اللَّهَ تَعَالَى فاطرُ السمواتِ والأَرْضِ وما فيهما، خالِقُهُمَا ابتداءً، والقادرُ على ابتداءِ الخَلْقِ، لا يَعْجَزُ عنْ إعادتِهِ:

-قالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}.

-وقالَ تَعَالَى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}.

-


وقالَ آمِرًا بالرَّدِّ على مَنْ أَنْكَرَ إحياءَ العظامِ وهيَ رَمِيمٌ: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}.

الثَّاني:


أنَّ الأَرْضَ تكونُ مَيْتَةً هامدةً،ليسَ فيها شَجَرَةٌ خضراءُ، فَيَنْزِلُ عليها المطرُ، فَتَهْتَزُّ خضراءَ حَيَّةً، فيها منْ كلِّ زوجٍ بهيجٍ.
والقادرُ على إِحْيَائِهَا بعدَ مَوْتِهَا قادِرٌ على إحياءِ الأمواتِ:
-

قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

-


وقالَ تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ}.

وقدْ ضَلَّ قَوْمٌ منْ أهلِ الزَّيْغِ فَأَنْكَرُوا عذابَ القبرِ وَنَعِيمَهُ، زَاعِمِينَ أنَّ ذلكَ غيرُ مُمْكِنٍ لمخالفةِ الواقعِ، قالوا: فإنَّهُ لوْ كُشِفَ عن المَيِّتِ في قَبْرِهِ لَوُجِدَ كما كانَ عليهِ، والقبرُ لم يَتَغَيَّرْ بِسَعَةٍ ولا ضِيقٍ.

وهذا الزعمُ باطلٌ بالشرعِ والحِسِّ والعقلِ:
أمَّا الشرعُ:




فقدْ سَبَقَت النصوصُ الدَّالَّةُ على ثبوتِ عذابِ القبرِ ونعيمِهِ في فقرةِ (ب) مِمَّا يَلْتَحِقُ بالإيمانِ باليومِ الآخرِ.

وفي (صحيحِ البخاريِّ) منْ حديثِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قالَ: (خَرَجَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منْ بَعْضِ حِيطَانِ المَدِينَةِ، فَسَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا... ) وَذَكَرَ الحديثَ، وفيهِ: ((أَنَّ أَحَدَهُمَا كَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِن البَوْلِ)) وفي روايَةٍ: ((مِنْ بَوْلِهِ)) ((وأنَّ الآخَرَ كانَ يَمْشِي بالنَّمِيمَةِ)).

وأمَّا الحِسُّ:




فإنَّ النائِمَ يَرَى في مَنَامِهِ أنَّهُ كانَ في مكانٍ فسيحٍ بَهِيجٍ يَتَنَعَّمُ فيهِ، أوْ أنَّهُ كانَ في مكانٍ ضَيِّقٍ مُوحِشٍ يَتَأَلَّمُ منهُ، وَرُبَّمَا يَسْتَيْقِظُ أَحْيَانًا مِمَّا رَأَى، ومعَ ذلكَ فهوَ على فِرَاشِهِ في حُجْرَتِهِ على ما هوَ عليهِ.

والنومُ أَخُو الموتِ؛ ولهذا سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَفَاةً، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}.

وأمَّا العقلُ:




فإنَّ النَّائمَ في مَنَامِهِ يَرَى الرُّؤْيَا الحقَّ المطابقةَ للواقعِ، وَرُبَّمَا رَأَى النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على صِفَتِهِ، ومَنْ رَآهُ على صِفَتِهِ فقدْ رَآهُ حَقًّا، ومعَ ذلكَ فالنَّائِمُ في حُجْرَتِهِ على فراشِهِ بعيدٌ عَمَّا رَأَى، فإذا كانَ هذا مُمْكِنًا في أحوالِ الدنيا، أَفَلاَ يَكُونُ مُمْكِنًا في أحوالِ الآخرةِ؟!

وأمَّا اعْتِمَادُهُم فيما زَعَمُوهُ على أنَّهُ لوْ كُشِفَ عن المَيِّتِ في قبرِهِ لَوُجِدَ كما كانَ عليهِ، والقبرُ لم يَتَغَيَّرْ بِسَعَةٍ ولا ضيقٍ، فَجَوَابُهُ منْ وجوهٍ؛ منها:

الأَوَّلُ:




أنَّهُ لا تَجُوزُ مُعَارَضَةُ ما جاءَ بهِ الشرعُ بمثلِ هذهِ الشُّبُهَاتِ الدَّاحِضَةِ، التي لوْ تَأَمَّلَ المُعَارِضُ بها ما جاءَ بهِ الشرعُ حَقَّ التَّأَمُّلِ لَعَلِمَ بُطْلاَنَ هذهِ الشُّبُهَاتِ.

وقدْ قِيلَ:


وكمْ مِنْ عَائِـبٍ قَوْلاً صَحِيحًا وَآفَتُهُ مِن الفَهْمِ السَّقِيمِ


الثاني:


أنَّ أحوالَ البَرْزَخِ منْ أُمُورِ الغَيْبِ التي لا يُدْرِكُهَا الحِسُّ، ولوْ كانتْ تُدْرَكُ بالحسِّ لَفَاتَتْ فائدةُ الإيمانِ بالغيبِ، ولَتَسَاوَى المؤمنونَ بالغَيْبِ والجاحدونَ في التصديقِ بها.

الثالثُ:


أنَّ العذابَ والنعيمَ وَسَعَةَ القبرِ وَضِيقَهُ، إنَّما يُدْرِكُهَا المَيِّتُ دُونَ غَيْرِهِ، وهذا كما يَرَى النائمُ في منامِهِ أنَّهُ في مكانٍ ضَيِّقٍ مُوحِشٍ، أوْ في مكانٍ واسعٍ بَهِيجٍ، وهُوَ بالنسبةِ لغيرِهِ لمْ يَتَغَيَّرْ مَنَامُهُ هوَ في حُجْرَتِهِ وَبَيْنَ فِرَاشِهِ وغطائِهِ.

ولقدْ كانَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوحَى إليهِ وهُوَ بينَ أصحابِهِ فَيَسْمَعُ الوحْيَ، ولا يَسْمَعُهُ الصحابةُ، وَرُبَّمَا يَتَمَثَّلُ لهُ المَلَكُ رَجُلاً فَيُكَلِّمُهُ، والصحابةُ لا يَرَوْنَ المَلَكَ ولا يَسْمَعُونَهُ.

الرابعُ:




أنَّ إِدْرَاكَ الخَلْقِ محدودٌ بما مَكَّنَهُم اللَّهُ تَعَالَى منْ إِدْرَاكِهِ، ولا يُمْكِنُ أنْ يُدْرِكُوا كلَّ موجودٍ، فالسَّمَاواتُ السبعُ والأَرْضُ ومَنْ فِيهِنَّ، وَكُلُّ شيءٍ يُسَبِّحُ بحمدِ اللَّهِ تَسْبِيحًا حَقِيقِيًّا، يُسْمِعُهُ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ شاءَ منْ خَلْقِهِ أَحْيَانًا، ومعَ ذلكَ هوَ مَحْجُوبٌ عنَّا.

وفي ذلكَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}.

وهكذا الشياطينُ والجِنُّ يَسْعَوْنَ في الأَرْضِ ذهَابًا وإِيَابًا، وقدْ حَضَرَت الجنُّ إلى رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واسْتَمَعُوا لقراءتِهِ وَأَنْصَتُوا، وَوَلَّوْا إلى قَوْمِهِم مُنْذِرِينَ، ومعَ هذا فهم مَحْجُوبُونَ عَنَّا.
وفي ذلكَ يقولُ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ للَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}.
وإذا كانَ الخلقُ لا يُدْرِكُونَ كلَّ موجودٍ، فإنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يُنْكِرُوا ما ثَبَتَ منْ أُمُورِ الْغَيْبِ ولم يُدْرِكُوهُ.
(12) القَدَرُ بِفَتْحِ الدَّالِ: تَقْدِيرُ اللَّهِ تَعَالَى للكائناتِ حَسْبَمَا سَبَقَ عِلْمُهُ، وَاقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ.
والإيمانُ بالقَدَرِ يَتَضَمَّنُ أَرْبَعَةَ أُمُورٍ:
الأَوَّلُ:




الإيمانُ بأنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ بكلِّ شيءٍ جُمْلَةً وتَفْصِيلاً، أَزَلاً وَأَبَدًا، سَوَاءٌ كانَ ذلكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بأفعالِهِ أوْ بأفعالِ عبادِهِ.

الثاني:


الإيمانُ بأنَّ اللَّهَ كَتَبَ ذلكَ في اللَّوْحِ المحفوظِ.

وفي هَذَيْنِ الأمريْنِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}.

وفي (صحيحِ مسلمٍ) عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلاَئِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)).
الثالثُ:




الإيمانُ بأنَّ جميعَ الكائناتِ لا تَكُونُ إلاَّ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، سواءٌ كانتْ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِ أمْ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بفعلِ المخلوقِينَ، قالَ اللَّهُ تَعَالَى فيما يَتَعَلَّقُ بفعلِهِ:

-


{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ}.

-


وقالَ: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}.

-


وقالَ: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ}.

وقالَ تَعَالَى فيمَا يَتَعَلَّقُ بفعلِ المَخْلُوقِينَ:

-




{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ}.

-


وقالَ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}.

الرابعُ:


الإيمانُ بأنَّ جميعَ الكائناتِ مَخْلُوقَةٌ للَّهِ تَعَالَى بِذَوَاتِهَا وصفاتِهَا وَحَرَكَاتِهَا:

-


قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}.
- وقالَ: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}.


-


وقالَ عنْ نَبِيِّ اللَّهِ إبراهيمَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: أنَّهُ قالَ لقومِهِ: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}.

والإيمانُ بالقَدَرِ على ما وَصَفْنَا لا يُنَافِي أنْ يكونَ للعبدِ مَشِيئَةٌ في أفعالِهِ الاخْتِيَارِيَّةِ وقُدْرَةٌ عليها؛ لأنَّ الشرعَ والواقعَ دَالاَّنِ على إثباتِ ذلكَ لَهُ.

أمَّا الشَّرْعُ؛




فقدْ قالَ اللَّهُ تَعَالَى في المَشِيئَةِ: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا}، وقالَ: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}.

وقالَ في القُدْرَةِ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا}، وقالَ: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}.

وأمَّا الواقعُ؛




فإنَّ كلَّ إنسانٍ يَعْلَمُ أنَّ لَهُ مشيئةً وقدرةً بِهِمَا يَفْعَلُ، وبهما يَتْرُكُ، وَيُفَرِّقُ بينَ ما يَقَعُ بإرادَتِهِ كالمَشْيِ، وما يَقَعُ بغيرِ إرادَتِهِ كالارْتِعَاشِ.

لكنَّ مَشِيئَةَ العبدِ وقدرتَهُ وَاقِعَتَانِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وقدرتِهِ؛ لقولِ اللَّهِ تَعَالَى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}، ولأنَّ الكونَ كُلَّهُ مِلْكٌ للَّهِ تَعَالَى، فلا يَكُونُ في مُلْكِهِ شَيْءٌ بدونِ عِلْمِهِ وَمَشِيئَتِهِ.

والإيمانُ بالقَدَرِ على ما وَصَفْنَا لا يَمْنَحُ العبدَ حُجَّةً على ما تَرَكَ من الواجباتِ، أوْ فَعَلَ من المعاصِي. وعلى هذا فَاحْتِجَاجُهُ بهِ باطلٌ منْ وجوهٍ:
الأَوَّلُ:




قولُهُ تَعَالَى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ}.

ولوْ كانَ لهم حُجَّةٌ بالقَدَرِ ما أَذَاقَهُم اللَّهُ بَأْسَهُ.

الثاني:




قولُهُ تَعَالَى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ للنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}.

ولوْ كانَ القَدَرُ حُجَّةً للمخالفينَ لم تَنْتَفِ بإرسالِ الرُّسُلِ؛ لأنَّ المخالفةَ بعدَ إِرْسَالِهِم واقعةٌ بقَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى.

الثالثُ:




ما رَوَاهُ البخاريُّ ومسلمٌ - واللَّفْظُ للبُخَارِيِّ - عنْ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ قَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ أَوْ مِنَ الْجَنَّةِ))، فَقَالَ رَجُلٌ مِن القَوْمِ: أَلاَ نَتَّكِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ((لاَ، اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ))، ثُمَّ قَرَأَ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الآيَةَ.

وفي لفظٍ لِمُسْلِمٍ: ((فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ)).

فَأَمَرَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعملِ، وَنَهَى عن الاتِّكَالِ على القَدَرِ.
الرابعُ:




إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ العبدَ وَنَهَاهُ، ولم يُكَلِّفْهُ إلاَّ ما يَسْتَطِيعُ،قالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، وقالَ: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}.
ولوْ كانَ العبدُ مُجْبَرًا على الفعلِ لكانَ مُكَلَّفًا بما لا يَسْتَطِيعُ الخلاصَ منهُ، وهذا باطلٌ، ولذلكَ إذا وَقَعَتْ منهُ المعصيَةُ بِجَهْلٍ أوْ نسيانٍ أوْ إكراهٍ فلا إِثْمَ عليهِ؛ لأنَّهُ مَعْذُورٌ.
الخامسُ:

أنَّ قَدَرَ اللَّهِ تَعَالَى سِرٌّ مَكْتُومٌ، لا يُعْلَمُ بهِ إلاَّ بعدَ وقوعِ المَقْدُورِ، وإرادةُ العبدِ لِمَا يَفْعَلُهُ سابقةٌ على فِعْلِهِ، فتكونُ إرادتُهُ الفعلَ غيرَ مَبْنِيَّةٍ على عِلْمٍ منهُ بِقَدَرِ اللَّهِ، وحينئذٍ تَنْتَفِي حُجَّتُهُ بالقدرِ؛ إذْ لا حُجَّةَ للمرءِ فيما لا يَعْلَمُهُ.

السادسُ:


أنَّنَا نَرَى الإنسانَ يَحْرِصُ على ما يُلاَئِمُهُ منْ أمورِ دُنْيَاهُ حتَّى يُدْرِكَهُ، ولا يَعْدِلُ عنهُ إلى ما لا يُلاَئِمُهُ، ثُمَّ يَحْتَجُّ على عُدُولِهِ بالقَدَرِ، فلماذا يَعْدِلُ عَمَّا يَنْفَعُهُ في أمورِ دِينِهِ إلى ما يَضُرُّهُ ثُمَّ يَحْتَجُّ بالقدرِ؟! أَفَلَيْسَ شَأْنُ الأمرَيْنِ واحدًا؟!
وَإِلَيْكَ مِثَالاً يُوَضِّحُ ذلكَ:

لوْ كانَ بينَ يَدَي الإنسانِ طَرِيقَانِ؛ أَحَدُهُمَا يَنْتَهِي بهِ إلى بلدٍ كُلُّهُ فَوْضَى وَقَتْلٌ وَنَهْبٌ وَانْتِهَاكٌ للأعراضِ وخوفٌ وجُوعٌ، والثاني: يَنْتَهِي بهِ إلى بَلَدٍ كُلُّهُ نظامٌ وأمْنٌ مُسْتَتِبٌّ وَعَيْشٌ رَغِيدٌ واحترامٌ للنفوسِ والأعراضِ والأموالِ، فأيَّ الطريقَيْنِ يَسْلُكُ؟

إنَّهُ سَيَسْلُكُ الطريقَ الثانيَ الَّذِي يَنْتَهِي بهِ إلى بلدِ النظامِ والأمنِ، ولا يُمْكِنُ لأَِيِّ عاقلٍ أَبَدًا أنْ يَسْلُكَ طريقَ بلدِ الفَوْضَى والخوفِ ويَحْتَجَّ بالقَدَرِ، فلماذا يَسْلُكُ في أمرِ الآخرةِ طريقَ النَّارِ دونَ الجنَّةِ وَيَحْتَجُّ بالقدرِ؟!

مثالٌ آخَرُ:




نَرَى المريضَ يُؤْمَرُ بالدواءِ فَيَشْرَبُهُ، وَنَفْسُهُ لا تَشْتَهِيهِ، وَيُنْهَى عن الطعامِ الَّذِي يَضُرُّهُ فَيَتْرُكُهُ، وَنَفْسُهُ تَشْتَهِيهِ، كُلُّ ذلكَ طَلَبًا للشفاءِ والسلامةِ، ولا يُمْكِنُ أنْ يَمْتَنِعَ عنْ شُرْبِ الدواءِ، أوْ يَأْكُلَ الطعامَ الَّذِي يَضُرُّهُ، وَيَحْتَجَّ بالقدرِ، فَلِمَاذَا يَتْرُكُ الإنسانُ ما أَمَرَ اللَّهُ ورسولُهُ، أوْ يَفْعَلُ ما نَهَى اللَّهُ ورسولُهُ ثُمَّ يَحْتَجُّ بالقدرِ؟!

السابعُ:


أنَّ الْمُحْتَجَّ بالقدرِ على ما تَرَكَهُ من الواجباتِ أوْ فَعَلَهُ من المعاصِي،لو اعْتَدَى عليهِ شخصٌ فَأَخَذَ مالَهُ أو انْتَهَكَ حُرْمَتَهُ ثُمَّ احْتَجَّ بالقدرِ وقالَ: لا تَلُمْنِي؛ فإنَّ اعْتِدَائِي كانَ بِقَدَرِ اللَّهِ. لم يَقْبَلْ حُجَّتَهُ، فكيفَ لا يَقْبَلُ الاحتجاجَ بالقَدَرِ في اعتداءِ غيرِهِ عليهِ، وَيَحْتَجُّ بهِ لنفسِهِ في اعتدائِهِ على حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى؟!
وَيُذْكَرُ أنَّ أميرَ المؤمنينَ عمرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رُفِعَ إليهِ سارقٌ اسْتَحَقَّ القَطْعَ، فَأَمَرَ بقَطْعِ يَدِهِ، فقالَ: مَهْلاً يا أميرَ المؤمنينَ، فإنَّما سَرَقْتُ بِقَدَرِ اللَّهِ، فَقَالَ عُمَرُ: (ونحنُ إنَّما نَقْطَعُ بِقَدَرِ اللَّهِ).
وللإيمانِ بالقدرِ ثَمَرَاتٌ جليلةٌ؛ منها:
الأُولَى:

الاعتمادُ على اللَّهِ تَعَالَى عندَ فِعْلِ الأسبابِ، بحيثُ لا يَعْتَمِدُ على السببِ نَفْسِهِ؛ لأنَّ كلَّ شيءٍ بِقَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى.

الثانيَةُ:


أنْ لا يُعْجَبَ المرءُ بِنَفْسِهِ عندَ حُصُولِ مُرَادِهِ؛ لأنَّ حصولَهُ نعمةٌ من اللَّهِ تَعَالَى، بما قَدَّرَهُ منْ أسبابِ الخيرِ والنجاحِ، وإعجابُهُ بنفسِهِ يُنْسِيهِ شُكْرَ هذهِ النعمةِ.

الثالثةُ:


الطُّمَأْنِينَةُ والراحةُ النفسيَّةُ بما يُجْرَى عليهِ منْ أقدارِ اللَّهِ تَعَالَى، فلا يَقْلَقُ بِفَوَاتِ محبوبٍ، أوْ حُصُولِ مَكْرُوهٍ؛ لأنَّ ذلكَ بِقَدَرِ اللَّهِ الَّذِي لهُ مُلْكُ السمواتِ والأَرْضِ، وهُوَ كائنٌ لا محالةَ.

وفي ذلكَ يقولُ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}، ويقولُ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((عَجَبًا لأَِمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَِحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَقَدْ ضَلَّ في الْقَدَرِ طَائِفَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا:




الجَبْرِيَّةُ الذينَ قالُوا: إنَّ العبدَ مُجْبَرٌ على عملِهِ، وليسَ لهُ فيهِ إرادةٌ ولا قُدْرَةٌ.

الثانيَةُ:


القَدَرِيَّةُ الذينَ قالوا: إنَّ العبدَ مُسْتَقِلٌّ بعملِهِ في الإرادةِ والقدرةِ، وليسَ لمشيئةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ فيهِ أَثَرٌ.

والرَّدُّ على الطائفةِ الأولى (الجَبْرِيَّةِ) بالشرعِ والواقعِ:

أمَّا الشرعُ؛




فإنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ للعبدِ إرادةً ومشيئةً، وَأَضَافَ العملَ إليهِ:

-


قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ}.

-


وقالَ: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا}.

-


وقالَ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ}.

وأمَّا الواقعُ؛


فإنَّ كلَّ إنسانٍ يَعْلَمُ الفرقَ بينَ أفعالِهِ الاختياريَّةِ التي يَفْعَلُهَا بإرادتِهِ؛ كالأَكْلِ والشُّرْبِ والبيعِ والشراءِ، وَبَيْنَ ما يَقَعُ عليهِ بغيرِ إرادتِهِ؛ كالارْتِعَاشِ من الحُمَّى، والسقوطِ من السطحِ. فهوَ في الأَوَّلِ فاعلٌ مُخْتَارٌ بإرادتِهِ منْ غيرِ جبرٍ، وفي الثاني غيرُ مُخْتَارٍ ولا مُرِيدٍ لِمَا وَقَعَ عليهِ.

والرَّدُّ على الطائفةِ الثانيَةِ (القَدَرِيَّةِ) بالشرعِ والعقلِ:

أمَّا الشرعُ؛




فإنَّ اللَّهَ تَعَالَى خالِقُ كلِّ شيءٍ، وكلُّ شيءٍ كَائِنٌ بِمَشِيئَتِهِ، وقدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى في كتابِهِ أنَّ أفعالَ العبادِ تَقَعُ بِمَشِيئَتِهِ:

-


فقالَ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}.

-


وقالَ تَعَالَى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأََمْلأََنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}.

وأمَّا العقلُ؛فإنَّ الكَوْنَ كُلَّهُ مَمْلُوكٌ للَّهِ تَعَالَى، والإنسانُ مِنْ هذا الكونِ، فهوَ مَمْلُوكٌ للَّهِ تَعَالَى، ولا يُمْكِنُ للمملوكِ أنْ يَتَصَرَّفَ في مِلْكِ المَالِكِ إلاَّ بِإِذْنِهِ وَمَشِيئَتِهِ.


  #4  
قديم 17 صفر 1430هـ/12-02-2009م, 11:38 AM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
افتراضي حاشية ثلاثة الأصول للشيخ: عبد الرحمن بن محمد ابن قاسم

المتن :


الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ:

الإِيمَانُ(1)
وَهُوَ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً(2)، أعْلاَهَا قَوْلُ لاَ إِلهَ إِلا اللَّهُ(3)، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَن الطَّرِيقِ(4)، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ(5).
وَأَرْكَانُهُ سِتَّة


ٌ(6): أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ(7)، وَمَلاَئِكَتِهِ(8)، وَكُتُبِهِ(9)، وَرُسُلِهِ(10)، وَالْيَوْمِ الآخِرِ(11)، وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ(12)؛ كُلُّهُ مِنَ اللَّهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذِهِ الأَرْكَانِ السِّتَّةِ(13) قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ(14) وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ(15) وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ(16)} الآية [البقرة: 177].
وَدَلِيلُ الْقَدَرِ(17) قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}(18) [القمر: 49].




الحاشية :
(1)

قَدَّمَ المَرْتَبَةَ الأُولَى، وهي: الإِسْلاَمُ، وثَنَّى بِمَرْتَبَةِ الإيمَانِ، وهي: أَعَمُّ مِن مَرْتَبَةِ الإِسْلاَمِ، مِن جِهَةِ نَفْسِهِا، وأَخَصُّ مِن جِهَةِ أصْحَابِهَا، وأَهْلُه هم خَوَاصُّ أَهْلِ الإِسْلاَم.

وأَهْلُ الإِسْلاَمِ: أَكْثَرُ مِن أَهْلِ الإِيمَانِ، بِخِلافِ العَكْسِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} فإِنَّ مَن حَكَمَتْ لَهُ النُّصُوصُ أنَّه مُؤْمِنٌ، فإنَّه مُسْلِمٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
فإنَّ الإيمانَ وصْفٌ أَعْلَى مِن وَصْفِ الإِسْلاَمِ؛ لأَِنَّه مُشْتَقٌّ مِن الأَمْنِ، فهو مِن الأُمُورِ البَاطِنَةِ الذي يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ، ويَكُونُ خِفْيَةً؛ والإِسْلاَمُ مِن الأُمُورِ المُدْرَكَةِ المَحْسُوسَةِ في الظَّاهِرِ، مُشْتَقٌّ مِن التَّسْلِيمِ، أو المُسَالَمَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.
فإذا أُطْلِقَ الإيمَانُ في النُّصُوصِ:


دَخَلَ فيه الإِسْلاَمُ، وإِذَا أُطْلِقَ الإِسْلاَمُ: لَمْ يَدْخُلْ فيه الإيمانُ، ومَن أُثْبِتَ لَهُ الإِيمَانُ فِي النُّصُوصِ، فإنَّه ثَابِتٌ له الإِسْلاَمُ.
والمُسْلِمُ لاَ بُدَّ أنْ يكونَ مَعَه إِيمَانٌ يُصَحِّحُ إِسْلاَمَه، وإلاَّ كَانَ مُنَافِقًا، ولكنْ لاَ يَسْتَحِقُّ أنْ يُمْدَحَ بِهِ ويُثْنَى عَلَيهِ، بل إِيمَانُه نَاقِصٌ، ويَأْتِي تَمْثِيلُه.
والإيمانُ الشَّرْعِيُّ:


قَوْلٌ وعَمَلٌ، قَوْلُ القَلْبِ واللِّسانِ، وعَمَلُ القَلْبِ واللِّسانِ والجَوَارِحِ، ويَزِيدُ بالطَّاعَةِ ويَنْقُصُ بالمَعْصِيَةِ، فدَخَلَ فيه جَمِيعُ المَأْمُورَاتِ، سَوَاءٌ كَانَ مِن الوَاجِبَاتِ، أو المُسْتَحَبَّاتِ، ودَخَلَ فيه تَرْكُ جَمِيعِ المَنْهِيَّاتِ، سَواءٌ كَانَ ذلك المَنْهِيُّ يُنَافِي أُصُولَ الدِّينِ بالكُلِّيَّةِ أو لاَ، فَإِنَّ تَعْرِيفَهُ المَذْكُورَ يَشْمَلُ ذلك، فَمَا مِن خَصْلَةٍ مِن خِصَالِ الطَّاعَاتِ، إلاَّ وهي مِن الإِيمَانِ، ولاَ تَرْكِ مُحَرَّمٍ مِن المُحَرَّمَاتِ، إلاَّ وهي مِن الإِيمَانِ.
(2)
البِضْعُ - بِكَسْرِ البَاءِ - مِن الثَّلاَثَةِ إلى التِّسْعَةِ، والشُّعْبَةُ: الطَّائِفَةُ مِن الشَّيْءِ، والقِطْعَةُ منه، والشُّعْبَةُ مِن شُعَبِ الإيمَانِ، يَدْخُلُ تَحْتَها أَفْرَادٌ مِن الخِصَالِ، فهي مِن حَيْثُ هذا العَدَدُ، يكونُ تَحْتَها أَفْرادٌ مِن الخِصَالِ.
(3)
أيْ: فأَعْلَى شُعَبِ الإيمَانِ، قَوْلُ العَبْدِ: (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللَّهُ) فهي كَلِمَةُ الإِخْلاَصِ، وكَلِمَةُ الإِسْلاَمِ، وهي العُرْوَةُ الوُثْقَى، وكَلِمَةُ التَّقْوَى، وأَسَاسُ المِلَّةِ، ومِفْتاحُ الجَنَّةِ.
(4)
أيْ: وأَصْغَرُ شُعَبِ الإيمانِ، إِزَالَةُ الأَذَى عَن الطَّرِيقِ، مِن شَوْكٍ وحَجَرٍ ونَحْوِ ذلك، مِمَّا يَتَأَذَّى الْمَارُّ به.
(5)
أيْ: بَعْضٌ منه، وإنَّمَا جَعَلَه بَعْضَهُ؛ لأَِنَّ المُسْتَحِيَ يَنْقَطِعُ بِحَيائِهِ عن المَعَاصِي، ولأَِنَّ الإيمانَ يَنْقَسِمُ إلى ائْتِمَارٍ وانْتِهَاءٍ، فإذا حَصَلَ الانْتِهاءُ بالْحَياءِ، كانَ بَعْضَ الإيمانِ، والحَيَاءُ مِن أَفْضَلِ الأَخْلاَقِ، وأَجَلِّهَا وأَعْظَمِها قَدْرًا، بل هو خَاصَّةُ الإِنْسَانِيَّةِ، وفي الحَدِيثِ: ((إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ)) وهو غَرِيزَةٌ، يَحْمِلُ المَرْءَ عَلَى فِعْلِ مَا يُجَمِّلُ ويُزَيِّنُ، ويَمْنَعُه مِن فِعْلِ ما يُدَنِّسُ ويَشِينُ.
(6)
أيْ: أُصُولُ الإيمانِ التي تَرَكَّبَ مِنْها، والتي يَزُولُ بِزَوالِهَا سِتَّةُ أركانٍ، ويكونُ بِزَوالِ الوَاحِدِ مِن تلك السِّتَّةِ كَافِرًا كُفْرًا يُخْرِجُ مِن المِلَّةِ، ومَا عَدَاها لاَ يَزُولُ بِزَوالِه، لكنَّ منها مَا يَزُولُ بزَوالِهِ كَمَالُ الإيمانِ الوَاجِبِ، ومنها مَا يَزُولُ بِزَوالِهِ كَمَالُ الإيمانِ المَنْدُوبِ.
(7)
هذا أعْظَمُ أرْكانِ الإيمانِ، وهو أَصْلُ الأُصُولِ، ومَعْنَاهُ: الإِيمانُ بوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وتَفَرُّدِه بأَسْمَائِهِ وصِفَاتِهِ، والإيمانُ بأَنَّه الإِلَهُ الحَقُّ، وأَنَّ مَن عُبِدَ مِن دونِه فعِبَادَتُه أَبْطَلُ البَاطِلِ، وأَضَلُّ الضَّلاَلِ.
(8)
يعني: وأنْ تُؤْمِنَ بِجَمِيعِ مَلاَئِكَتِه، وهم الجِنْسُ المَعْرُوفُ مِن خَلْقِ اللَّهِ، بتَعْرِيفِ النُّصُوصِ، عِبَادٌ مُكْرَمُونَ، خُلِقُوا مِن نُورٍ، يُؤْمِنُ بِهِم إِجْمَالاً في الإِجْمَالِيِّ، وتَفْصِيلاً في التَّفْصِيليِّ، وتَعْيينًا في التَّعْيينِ، مثلَ مَا وَرَدَ في الكِتَابِ العَزِيزِ، والسُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ، كجَبْرَائِيلَ ومِيكَائِيلَ وإِسْرَافِيلَ، ومَالِكٍ ورِضْوانَ وغيرِهم.
(9)
المُنَزَّلَةُ عَلَى الأَنْبِياءِ مِن السَّمَاءِ، إِجْمَالاً في الإِجْمَالِيِّ، وتَفْصِيلاً في التَّفْصِيلِيِّ، ويُفَصَّلُ: بالإيمانِ بالقرآنِ، والزَّبُورِ، والتَّوْرَاةِ، والإِنْجِيلِ إلى آخِرِ الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ.
(10)
أيْ: وكَذَا الإيمانُ بِجَميعِ رُسُلِه إِجْمَالاً في الإِجْمَالِيِّ، وتَفْصِيلاً في التَّفْصِيلِيِّ، فيُؤْمِنُ بِمَن جَاءَ تَفْصِيلُهم، في الكِتَابِ والسُّنَّةِ عَلَى التَّعْيينِ، وأَعْظَمُ ذلك الإيمانُ بنَبِيِّنا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومِمَّن يُؤْمِنُ بِهِمْ تَفْصِيلاً: أُولُوا العَزْمِ مِن الرُّسُلِ؛ نُوحٌ وإِبْرَاهِيمُ، ومُوسَى وعِيسَى، ومُحَمَّدٌ عَلَيْهِم أَفْضَلُ الصَّلاَةِ والسَّلاَمِ.
ويُؤْمِنُ بغَيْرِهِم مِمَّن سَمَّى اللَّهُ في كِتَابِهِ، أو عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، في السُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ، ومَن لَمْ يُسَمَّ في النُّصُوصِ، يُؤْمِنُ بِهِم إِجْمَالاً {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} والإيمانُ بِهِم فَرْضٌ، وهو التَّصْدِيقُ بأنَّهم رُسُلُ اللَّهِ إلى عِبَادِه، صَادِقُونَ فيمَا أَخْبَروا بِهِ عن اللَّهِ تَعَالَى.
(11)
أيْ: بِمَا يكونُ بعدَ المَوْتِ في البَرْزَخِ، وبالحِسَابِ، والمِيزَانِ، والجَنَّةِ والنَّارِ، والإيمانِ بعذابِ القَبْرِ، ونَعِيمِه، وأَكْبَرُ ذلك وأَعْظَمُه: الإيمانُ بِبَعْثِ هذه الأَجْسَادِ، وإِعَادَتِها كَمَا كَانَتْ أَجْسَادًا، بِعظَامِها وأَعْصَابِهَا، حتَّى يَقَعَ الثَّوَابُ عَلَى هذَا الجَسَدِ والرُّوحِ جَمِيعًا، عَلَى مَا فَعَلاَ مِن طَاعَةِ اللَّهِ، أو يُعَاقَبَا عَلَى المَعَاصِي التي صَدَرتْ مِنْهُما جَمِيعًا، فإنَّ الطَّاعَةَ والمَعْصِيَةَ صَدَرَتْ منهما جَمِيعًا، فَلاَ بُدَّ أنْ يُثَابا عَلَى مَا فَعَلاَ، أو يُعَاقَبَا عَلَى مَا تَرَكَا، فَتُؤْمِنُ: أنَّ الذي أَوْجَدَ هذا الجَسَدَ، وانْفَردَ بِخَلْقِهِ، يَبْعَثُه حَيًّا، ويُعِيدُه كَمَا كَانَ.
(12)
أيْ: بِمَا قَدَّرَه اللَّهُ، يَعْنِي كَتَبَه مِن خَيْرٍ وشَرّ.
والإيمانُ بالقَدَرِ: يَتَضَمَّنُ الإيمانَ بأَرْبَعَةِ أَشْياءَ:
-


الإيمانُ بعِلْمِ اللَّهِ القَدِيمِ، فإِنَّ الرَّبَّ تَعَالَى عَلِمَ بعِلْمِه القَدِيمِ ما هو كَائِنٌ.
-


والإيمانُ بأنَّ اللَّهَ كَتَبَ مَا عَلِمَ أنَّه كَائِنٌ مِن العِبَادِ.
-


والإيمانُ بأَنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَما لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وأَنَّه مَا في السَّمَاواتِ، ومَا في الأرْضِ من حَرَكَةٍ ولاَ سُكُونٍ، إلاَّ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
-


وأنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَدَ جَمِيعَ الخَلْقِ، وأَنَّ مَا في الكَوْنِ بتَقْدِيرِ اللَّهِ وإِيجَادِه، فَلاَ يَصِيرُ المَرْءُ مُؤْمِنًا بالقَدَرِ، إلاَّ بالإيمانِ بِهَذه الأَرْبَعَةِ الأَشْيَاءِ؛ وأَنْ يَعْلَمَ أنَّ مَا أَصَابَه، لَمْ يَكُنْ ليُخْطِئَهُ، ومَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ ليُصِيبَه، وفي الأَثَرِ: ((مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بالقَدَرِ خَيْرِه وشَرِّه، أَحْرَقَه اللَّهُ بالنَّارِ)).
(13)
أيْ: أنَّها أَرْكانٌ للإيمانِ، لاَ يَسْتَقِيمُ إيمانُ العَبْدِ إلاَّ بِهَا جَمِيعِها، وأَنَّه مَتَى انْتَفَى واحِدٌ مِنْها، لَمْ يَكُن المَرْءُ مُؤْمِنًا.
(14)
قَد اشْتَمَلَتْ هذه الآيةُ عَلَى جُمَلٍ عَظِيمَةٍ، وعَقِيدَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ، ورُوِيَ: أَنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عن الإيمانِ، فَتَلاَ هذه الآيةَ: {لَيْسَ البِرَّ} وهو كُلُّ عَمَلِ خَيْرٍ، يُفْضِي بِصَاحِبِه إلى الجَنَّةِ {أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ} أيْ: لَيْسَ البرَّ كلَّه أَنْ تُصَلُّوا إلى بَيْتِ المَقْدِسِ، إنْ لَمْ يكنْ أَمْرَ اللَّهِ وشَرْعَه، وذلك لَمَّا حُوِّلُوا إِلَى الكَعْبَةِ.
(15)
أيْ: ولكنَّ البرَّ امْتِثَالُ أَوَامِرِ اللَّهِ، واتِّبَاعُ مَا شَرَعَ، وأَعْظَمُهُ ما ذُكِرَ في هذه الآيةِ؛ أو هذه أَنْواعُ البِرِّ كلُّها.
وبَدَأَ بالإيمانِ،


أيْ: ولكنَّ البِرَّ الإيمانُ باللَّهِ، أو: ولكنَّ البِرَّ بِرُّ مَن آمَنَ باللَّهِ، أو ذَا البِرَّ برُّ مَن آمَنَ باللَّهِ؛ أيْ: بتَفَرُّدِه جَلَّ وعَلاَ، بالرُّبُوبِيَّةِ والإِلَهِيَّةِ، والأَسْمَاءِ الحُسْنَى والصِّفَاتِ العُلْيا؛ إذ هو أَصْلُ الأُصُولِ.
والإيمانُ باليَوْمِ الآخِرِ،


وهو: البَعْثُ بعدَ المَوْتِ، يَنْقَضِي بِقَضَاءِ الخَلْقِ في الدُّنيا، ويَمُوتُ كلُّ مَن فيها، ثُمَّ يُحْيِي اللَّهُ المَوْتَى، ويُعِيدُ الأَجْسَادَ كَمَا كانَتْ، ويَرُدُّ إليها الأَرْواحَ كَمَا كَانَتْ، ويَجْمَعُ الأَوَّلِينَ والآخِرِينَ، فيُوَفِّي كُلَّ عَامِلٍ عَمَلَه.
(16)
أيْ: وصَدَّقَ بوجُودِ المَلاَئِكَةِ كُلِّهم، وأَشْرَفُهُم: السَّفَرَةُ بَيْنَ اللَّهِ ورُسُلِه، وآمَنَ بالكِتَابِ، وهو اسْمُ جِنْسٍ، يَشْمَلُ الكُتُبَ المُنَزَّلَةَ مِن السَّماءِ عَلَى الأَنْبِياءِ، عَلَيْهِم الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، حَتَّى خَتَمَها بالكِتَابِ العَزِيزِ، وهو القُرْآنُ الكَرِيمُ المُهَيْمِنُ عَلَى ما قبلَه مِن الكُتُبِ، وجَاءَ أَنَّها مِائَةُ كِتَابٍ، وأَرْبَعَةُ كُتُبٍ، وآمَنَ بأنبياءِ اللَّهِ كُلِّهِم، مِن أَوَّلِهِم إلى آخِرِهِم، خَاتَمُهم مُحَمَّدٌ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلاَمُه عَلَيْهِ وعَلَيْهِم أَجْمَعِينَ.
(17)
وأَنَّه: رُكْنٌ مِن أَرْكَانِ الإيمانِ، لاَ يَسْتَقِيمُ الإيمانُ إلاَّ بِهِ.
(18)
أيْ: مَا خَلَقْنَاه فمَقْدُورٌ، مَكْتُوبٌ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ، وفي الحَدِيثِ: ((كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ، حَتَّى العَجْزُ وَالكَيْسُ)).


  #5  
قديم 17 صفر 1430هـ/12-02-2009م, 11:40 AM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
افتراضي حصول المأمول لفضيلة الشيخ: عبد الله بن صالح الفوزان

(1)قولُ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ (الْمَرتَبَةُ الثانيَةُ): يعني: مِنْ مَراتِبِ الدِّينِ (الإيمانُ).

(2)والإيمانُ: هوَ التصديقُ الجازِمُ بجَميعِ ما أَمَرَ اللهُ ورسولُهُ بالتصديقِ بهِ، الْمُتَضَمِّنُ للعملِ الذي هوَ الإسلامُ.

فالإيمانُ يَجْمَعُ التصديقَ لجميعِ ما أَمَرَ اللهُ سُبحانَهُ وتعالَى بهِ، إضافةً إلَى الأعمالِ التي هيَ أَركانُ الإسلامِ، وسَأَذْكُرُ - إن شاءَ اللهُ - الفرْقَ بينَ الإسلامِ والإيمانِ عندَ الكلامِ علَى حديثِ جِبريلَ عليهِ السلامُ لَمَّا سألَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.

(3)قولُهُ: (وهوَ بِضْعٌ وسبعونَ شُعبةً) (البِضْعُ) - بكسْرِ الباءِ -: اسمٌ مِنْ أسماءِ العددِ، يُطْلَقُ علَى العَددِ مِن الثلاثةِ إلَى التسعةِ.


وقولُهُ: (وهوَ بِضْعٌ وسبعون شُعبةً، فأعلاها قولُ: لا إلهَ إلاَّ اللهُ، وأدناها إماطةُ الأَذَى عنِ الطريقِ، والْحَياءُ شُعبةٌ مِن الإيمانِ) هذا لَفْظُ الحديثِ الذي رواهُ مسلِمٌ في (صحيحِهِ)، ورواهُ البخاريُّ بلَفْظِ: ((بِضْعٌ وَستُّونَ))، وقدْ وَرَدَ عندَ مُسْلِمٍ بروايَةٍ أُخرَى بالشَّكِّ: ((بِضْعٌ وسِتُّونَ أوْ بِضْعٌ وسَبعونَ)).
قالَ الحافِظُ ابنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ: (إنَّ الْمُعَوَّلَ علَى الْمُتَيَقَّنِ وهوَ الأقَلُّ، وهوَ بِضعٌ وسِتُّونَ) ا. هـ.
فإنْ قيلَ: بِضْعٌ وسَبعونَ زَيادةٌ مِنْ ثِقَةٍ، والزيادةُ مِن الثقَةِ مَقبولةٌ.


قيلَ:لكنه لم يُجْزِمْ بها.

فنقولُ:إنَّ روايَةَ: ((بِضْعٌ وَسِتُّونَ)) أَرْجَحُ، لكن قدْ يُشْكِلُ علَى هذا أنَّ مُسْلِمًا روَى الحديثَ علَى رِوايتينِ، مَرَّةً ليسَ فيها شَكٌّ: ((بِضْعٌ وَسَبْعُونَ))، ومَرَّةً فيها شَكٌّ: ((بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ)) ولهذا رَجَّحَ القاضي عِياضٌ، والإمامُ أبو عبدِ اللهِ الحليميُّ، والنوويُّ رِوايَةَ: ((بِضْعٌ وَسَبْعُونَ)).

وقولُهُ: (شُعْبَةً) أيْ: خَصْلَةً، وأصلُهُ مِن الشُّعْبَةِ، بمعنَى: الْقِطْعَةِ.
وهذا الحديثُ يَدُلُّ علَى أنَّ شُعَبَ الإيمانِ مُتفاوِتَةٌ؛ لأنَّ الرسولَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ذَكَرَ أَعلاها، وذَكَرَ أَدْنَاها، وتَرَكَ ما بينَ ذلكَ، ولم يَرِدْ في السُّنَّةِ نصٌّ يُحَدِّدُ هذه الشُّعَبَ.
وقد اجْتَهَدَ جَمْعٌ مِنْ أهلِ الْعِلْمِ في عَدِّها وفي حَصْرِها، فمِنهم مَنْ وَصَلَ إلَى هذا العَدَدِ؛ فجَمَعَ أوامِرَ الشريعةِ ومَكارِمَ الأخلاقِ وكلَّ ما هوَ مِنْ بابِ الْبِرِّ؛ فوَصَلَ إلَى هذا العددِ، ومِنهم مَنْ قارَبَ هذا العَددَ، ويَكْفِي أنْ نَعْلَمَ أنَّ كُلَّ خَصْلَةٍ مِنْ خِصالِ الخيرِ هيَ مِنْ شُعَبِ الإيمانِ.
(4)


وقولُهُ: (فأعلاها قولُ: لا إلهَ إلاَّ اللهُ) هذه أعلَى الشُّعَبِ، وهيَ كَلمةُ الإخلاصِ، وكلمةُ الإسلامِ، وهيَ كلمةُ التقوَى، وهيَ أساسُ الْمِلَّةِ، وفي هذا دَليلٌ لِمَنْ قالَ: إنَّ هذه الكلمةَ أَفْضَلُ الكلامِ مُطْلقًا، وإنَّها أَفْضَلُ مِنْ كلمةِ (الحمدُ للهِ ربِّ العالَمينَ)، وفي المسألةِ خِلافٌ بَسَطَهُ وذَكَرَ أدِلَّتَهُ الحافِظُ ابنُ عبدِ البَرِّ في (التمهيدِ).

(5)وقولُهُ: (أَدْنَاها) يعني: أَقَلُّ شُعبةٍ مِنْ شُعَبِ الإيمانِ.

(6)(إماطةُ الأَذَى عن الطريقِ) أيْ: تَنْحِيَةُ الأَذَى عنْ طَريقِ الناسِ مِنْ: حَجَرٍ، أوْ شَوْكٍ، أوْ نحوِ هذا.

وإذا كانَ إماطةُ الأَذَى عن الطريقِ مِنْ شُعَبِ الإيمانِ؛ فعَدَمُ وَضْعِ الأَذَى في الطريقِ - أيضًا - مِنْ شُعَبِ الإيمانِ.
فلا يُخْرِجُ الإنسانُ مِنْ بَيْتِهِ أشياءَ تُؤْذِي الْمَارَّةَ مِنْ: رائحةٍ، أوْ حَجْرٍ، أوْ شَوكٍ يَجْرَحُ أقدامَهم إذا مَشَوْا عليها، أوْ تكونُ سَبَبًا في أَذِيَّتِهِم، أوْ نحوِ ذلكَ.
(7)


وقولُهُ: (والحياءُ شُعبةٌ مِن الإيمانِ)

(الحياءُ)


- بالْمَدِّ -: هوَ خُلُقٌ رَفيعٌ يَبْعَثُ علَى فِعْلِ الخيرِ واجتنابِ القبيحِ، وهوَ مِنْ أَفْضَلِ الأخلاقِ وأَعْظَمِها قَدْرًا، وإنَّمَا كانَ الحياءُ بَعْضًا مِن الإيمانِ؛ لأنَّ الإيمانَ ائْتِمَارٌ وانتهاءٌ، والْمُسْتَحْيِي يَنْقَطِعُ بِحَيائِهِ عن الْمَعاصِي.

وقدْ دَلَّ علَى ذلكَ قولُ المصطَفَى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ)).
وهذا أمْرُ تهديدٍ، ومعناهُ: الخبَرُ؛ أيْ: مَنْ لم يَسْتَحِ صَنَعَ ما شاءَ، وقيلَ: إنَّهُ أَمْرُ إباحةٍ؛ أي: انْظُرْ إلَى الفعْلِ الذي تُريدُ أن تَفعلَهُ، فإن كانَ مِمَّا لا يُسْتَحَى مِنه فافْعَلْهُ، والأوَّلُ أَصَحُّ وهوَ قولُ الأكثرينَ.
(8)


قولُهُ: (وأركانُهُ سِتَّةٌ) لا مُنافاةَ بينَ أركانِ الإيمانِ وشُعَبِ الإيمانِ؛ لأنَّ المقصودَ أنَّ الإيمانَ إذا كانَ بمعنَى الاعتقادِ فهوَ الأركانُ السِّتَّةُ؛ لأنَّ كلَّ الأركانِ الستَّةِ اعتقادٌ.

وأمَّا إذا قلنا: إنَّ الإيمانَ يَشتمِلُ علَى الأعمالِ وأنواعِها وأَجناسِها فهوَ بِضْعٌ وسَبعونَ.
فحديثُ الأركانِ مُرادٌ بهِ الأمورُ الاعتقاديَّةُ، وهيَ الأساسيَّاتُ في الإيمانِ، وأمَّا حديثُ: ((بِضْعٌ وسَبْعُونَ)) فهذا مُرَادٌ بهِ: بيانُ خِصالِ الخيرِ التي هيَ الأعمالُ.
(9)


قولُهُ: (أنْ تُؤمِنَ باللهِ) فهذا الرُّكْنُ الأَوَّلُ.

والإيمانُ باللهِ


يَتَضَمَّنُ أربعةَ أمورٍ:

الأول:


الإيمانُ بوُجودِ اللهِ تعالَى.

الثاني: الإيمانُ برُبوبيَّتِهِ.
الثالث: الإيمانُ بأُلوهيَّتِهِ، وقدْ تَقَدَّمَ ذلكَ.
الرابعُ: الإيمانُ بأسمائِهِ وصِفاتِهِ، ومعناهُ: إثباتُ ما أَثْبَتَهُ اللهُ تعالَى لنفْسِهِ في كِتابِهِ أوْ سُنَّةِ رَسولِهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مِن الأسماءِ والصفاتِ علَى ما يَليقُ بجَلالِهِ وعَظمتِهِ، مِنْ غيرِ تَحريفٍ ولا تَعطيلٍ، ولا تَكييفٍ ولا تَمثيلٍ، قالَ تعالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
(10)


قولُهُ: (وملائكتِهِ) هذا الركْنُ الثاني، وهوَ الإيمانُ بالملائكةِ.

والملائكةُ: عالَمٌ غَيْبِيٌّ خَلَقَهم اللهُ تعالَى مِنْ نُورٍ، عابِدونَ للهِ تعالَى، لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهم ويَفعلونَ ما يُؤْمَرُون.
ولا يَعْلَمُ عددَهم إلاَّ اللهُ سُبحانَهُ وتعالَى، قالَ تعالَى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ}، وممَّا يَدُلُّ علَى كَثرةِ عددِهم وأنَّهُ لا يُحصيهم إلاَّ اللهُ سُبحانَهُ وتعالَى، ما وَرَدَ في الحديثِ الذي صَحَّ إسنادُهُ فيما يَتَعَلَّقُ بالبيتِ المعمورِ، أنَّ الرسولَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قالَ:((إِنَّ الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ حِيَالَ الْكَعْبَةِ، يَزُورُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لاَ يَعُودُونَ إِلَيْهِ))، وهذا دليلٌ علَى أنَّ عددَ الملائكةِ لا يُحصيهم إلاَّ اللهُ.
والإيمانُ بالملائكةِ لا يَتِمُّ إلاَّ إذا تَحَقَّقَ فيهِ أربعةُ أمورٍ:
الأوَّلُ:


الإيمانُ بوُجودِهم، وأنَّهُم مَخلوقون عابِدون للهِ، قائمونَ بما أُمِرُوا بهِ.

والأمْرُ الثاني:


الإيمانُ بِمَنْ عَلِمْنَا اسمَهُ باسمِهِ،
ومَنْ لم يُعْلَم اسمُهُ فالإيمانُ بهِ إجمالاً.

وقدْ عُلِمَ مِن النُّصوصِ في الكتابِ والسُّنَّةِ أسماءُ بعضِ الملائكةِ، كجِبريلَ: الْمُوَكَّلِ بالوحيِ، ومِيكائيلَ: الْمُوَكَّلِ بالقَطْرِ والنباتِ، وإسرافيلَ: الْمُوَكَّلِ بالنَّفْخِ في الصُّورِ، ومَلَكِ الموتِ: الْمُوَكَّلِ بقَبْضِ الأرواحِ.
فهؤلاءِ الملائكةُ نَعْرِفُ أسماءَهم فنُؤْمِنُ بهم، أمَّا البَقِيَّةُ الذينَ لا نَعْرِفُ أسماءَهم فهؤلاءِ نُؤْمِنُ بهم إِجْمالاً، ومَلَكُ الموتِ يَرِدُ في بعضِ الآثارِ أنَّهُ (عِزرائيلُ) وهذا لم يَثْبُتْ، فاسمُهُ الصحيحُ مَلَكُ الموتِ، كما قالَ تعالَى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ}.
الثالثُ:


نُؤْمِنُ بما عَلِمْنا مِنْ صِفاتِهم وهَيئاتِهم.

ومِنْ ذلكَ ما رواهُ الإمامُ أحمدُ في مُسْنَدِهِ، عنْ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ قالَ: (رأَى رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ جِبريلَ في صُورتِهِ ولهُ سِتُّمِائَةِ جَناحٍ، كلُّ جَناحٍ مِنها قدْ سَدَّ الأُفُقَ، يَسْقُطُ مِنْ جَناحِهِ مِن التهاويلِ والدُّرِّ والياقوتِ ما اللهُ بهِ عَليمٌ).
والْمُرَادُ بالتهاويلِ: الأشياءُ المختلِفةُ الألوانِ.
فهذا يَدُلُّ علَى قُدرةِ الخالِقِ جَلَّ وعلا، ويَدُلُّ علَى صِفةِ جَبرائيلَ عليهِ السلامُ، وأنَّ لهُ سِتَّمِائَةِ جَناحٍ، الْجَناحُ الواحدُ يَسُدُّ الأُفُقَ، ولا يُقالُ: إنَّ الرسولَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كيفَ يَرَى سِتَّمِائَةِ جَناحٍ؟ وكيفَ عدَّ الرسولُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الستَّمائةِ معَ أنَّ الْجَناحَ الواحدَ قدْ سَدَّ الأُفُقَ؟
قلنا: ما دامَ أنَّهُ قدْ وَرَدَ الحديثُ وصَحَّحَ الْعُلَمَاءُ إسنادَهُ فلا نَبْحَثُ في الكَيْفِيَّةِ؛ لأنَّ اللهَ جلَّ وعلا قادِرٌ علَى أنْ يُرِيَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ما لا نَتَصَوَّرُهُ نحن ولا تَتَحَمَّلُهُ عُقُولُنا.
الأمرُ الرابعُ الذي لا بدَّ مِنه في موضوعِ الإيمانِ بالملائكةِ: الإيمانُ بما عَلِمْنا مِنْ أعمالِهم ووَظائفِهم التي دَلَّتْ عليها النصوصُ.
فجِبريلُ عليهِ السلامُ مُوَكَّلٌ بالوحيِ، ومَلَكُ الموتِ مُوَكَّلٌ بوظيفةِ قَبْضِ الأرواحِ، وهناكَ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بالجنينِ في بطنِ أُمِّهِ، يَكتُبُ رِزْقَهُ وأَجَلَهُ، وهناكَ مَلائكةٌ مُوَكَّلونَ ببنِي آدَمَ {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ}.
وهناكَ ملائكةٌ مُوَكَّلُونَ بكَتْبِ أسماءِ الناسِ يومَ الجُمُعَةِ قَبلَ دُخولِ الخطيبِ، إلَى غيرِ ذلكَ مِمَّا تَدُلُّ عليهِ النصوصُ.
(11)


قولُ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ: (وكُتُبِهِ) هذا الرُّكْنُ الثالثُ، وهوَ الإيمانُ بالكُتُبِ.

والْمُرَادُ بالكُتُبِ هيَ:


الكُتُبُ السماويَّةُ التي أَنْزَلَها اللهُ تعالَى علَى رُسُلِهِ؛ هِدايَةً للبَشريَّةِ ورَحمةً بهم، ليَصِلُوا إلَى سَعادةِ الدارينِ.

والإيمانُ بالكُتُبِ لا يَتِمُّ إلاَّ بأربعةِ أُمورٍ:
أوَّلاً:


الإيمانُ بأنَّها مُنَزَّلَةٌ مِنْ عنْدِ اللهِ حَقًّا.

والثاني:


الإيمانُ بما عَلِمْنا اسْمَهُ مِنها
، كالقرآنِ، والتوراةِ، والإنجيلِ، والزَّبورِ، وأمَّا مَا لا نَعْرِفُهُ مِنها فنُؤْمِنُ بهِ إجمالاً.

والأمرُ الثالثُ:


التصديقُ بما صَحَّ مِنْ أخبارِها،
كأخبارِ القرآنِ، وأَخبارِ ما لم يُحَرَّفْ وما لم يُبَدَّلْ مِنْ أَخبارِ الكُتُبِ السابقةِ، مِثلَ الرَّجْمِ، فإنَّهُ مِن الأخبارِ التي لم تُحَرَّفْ فيما حُرِّفَ مِن التوراةِ.

الرابعُ:


العملُ بأحكامِ ما لم يُنْسَخْ،
وهذا بالنِّسبةِ لكتابِنا وهوَ القرآنُ، وما لم يُنْسَخْ مِنْ أخبارِ الكُتُبِ السابقةِ مِثلَ الرجْمِ فإنَّ الرجْمَ ثَبَتَ في شَريعَتِنا وهذا دليلٌ علَى أنَّهُ لم يُنْسَخْ.

والكُتُبُ السابقةُ كلُّها نُسِخَتْ بالقرآنِ العظيمِ الذي تَكَفَّلَ اللهُ بحِفْظِهِ؛ لأنَّهُ سيَبْقَى حُجَّةً علَى الْخَلْقِ أجمعينَ إلَى يومِ القِيامةِ.
ويَتَرَتَّبُ علَى ذلكَ أنَّهُ لا يَجوزُ التحاكُمُ إلَى شيءٍ مِنها بِحَالٍ مِن الأحوالِ، كما قالَ تعالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}.
(12)


قولُهُ: (ورُسُلِهِ) هذا الرُّكْنُ الرابعُ، وهوَ الإيمانُ بالرُّسُلِ.

و (الرُّسُلُ) جَمْعُ: رَسولٍ، وهوَ: مَنْ بَعَثَهُ اللهُ إلَى قَوْمٍ، وأَنْزَلَ عليهِ كِتَابًا أوْ لم يُنْزِلْ عليهِ كِتابًا، لكن أَوْحَى إليهِ بِحُكْمٍ لم يكنْ في شَريعةِ مَنْ قَبْلَهُ.
وأمَّا النبيُّ فهوَ: مَنْ أَمَرَهُ اللهُ أن يَدْعُوَ إلَى شريعةٍ سابقةٍ دُونَ أن يُنْزِلَ عليهِ كِتابًا، أوْ يُوحِيَ إليهِ بِحُكْمٍ جَديدٍ ناسخٍ أوْ غيرِ ناسخٍ.
وعلَى ذلكَ فكلُّ رسولٍ نَبِيٌّ وليسَ العكسُ، وقيلَ: هما مُترَادِفانِ، والأوَّلُ أَصَحُّ، بدليلِ قولِ اللهِ تعالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} فذَكَرَ اللهُ تعالَى أنَّ أنبياءَ بني إسرائيلَ يَحكمونَ بالتوراةِ معَ أنَّ التوراةَ أُنْزِلَتْ علَى أوَّلِ نَبِيٍّ مِنهم، وهوَ موسَى عليهِ الصلاةُ والسلامُ.
والإيمانُ بالرُّسُلِ يَتَضَمَّنُ أربعةَ أمورٍ:
الأوَّلُ:


الإيمانُ بأنَّ رسالتَهم حقٌّ مِنْ عندِ اللهِ تعالَى
، وأنَّهُم لا يَأتونَ بشَيءٍ مِنْ عندِ أنفُسِهم، كما قالَ تعالَى عنْ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى}.

الثاني:


الإيمانُ بِمَنْ عَلِمْنا اسمَهُ مِنهم، وأنَّ هناكَ رُسُلاً نُؤمِنُ بهم إجمالاً
ولا نَعْرِفُ أسماءَهم؛ لأنَّهُ لم يُذْكَرْ مِنْ أسمائِهم لا القليلُ.

الثالثُ: تصديقُ ما صَحَّ عنهم مِنْ أخبارِهم.
الرابعُ:


العملُ بشريعة مَنْ أُرْسِلَ إلينا مِنهم
وهوَ خاتَمُهم مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.

(13)


قولُهُ: (واليومِ الآخِرِ) هذا الرُّكْنُ الخامسُ، وهوَ الإيمانُ باليومِ الآخِرِ.

والْمُرَادُ بهِ:


يومُ القِيامةِ الذي يَبْعَثُ اللهُ فيهِ الْخَلْقَ للحِسابِ والجزاءِ.

وسُمِّيَ باليومِ الآخِرِ؛ لأنَّهُ لا يَومَ بَعْدَهُ،


حيثُ يَسْتَقِرُّ أهلُ الْجَنَّةِ في الْجَنَّةِ، وأهلُ النارِ في النارِ.

والإيمانُ باليومِ الآخِرِ لا يَتِمُّ إلاَّ بثلاثةِ أمورٍ:
الأوَّلُ:


الإيمانُ بالبَعْثِ.

الثاني:


الإيمانُ بالحسابِ والجزاءِ.

الثالثُ:


الإيمانُ بالْجَنَّةِ والنارِ.

وسيأتي الكلامُ علَى البَعْثِ إن شاءَ اللهُ.
(14)


قولُهُ: (وبالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ) هذا الرُّكْنُ السادسُ.

والْمُرَادُ بالقَدَرِ: تَقديرُ اللهِ تعالَى لِمَا سَيكونُ حَسَبَ ما سَبَقَ بهِ عِلْمُهُ، واقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ سُبحانَهُ وتعالَى.
والإيمانُ بالقَدَرِ لا يَتِمُّ إلاَّ بأربعةِ أمورٍ:
الأوَّلُ:


الإيمانُ بعِلْمِ اللهِ تعالَى،
وأنَّهُ عالِمٌ بما كانَ، وما يكونُ، وكيفَ يكونُ.

الثاني:


الإيمانُ بالكتابةِ،
وأنَّ اللهَ كَتَبَ ما عَلِمَ أنَّهُ كائنٌ إلَى يومِ القِيامةِ.

والثالثُ:


الإيمانُ بأنَّهُ لا يَحْصُلُ في هذا الكونِ إلاَّ ما شاءَ اللهُ.

والرابعُ:


الإيمانُ بأنَّ اللهَ جَلَّ وعلا خَلَقَ الْخَلْقَ وأعمالَهم وأفعالَهم.

قالَ الناظِمُ في هذه الأمورِ:


عِلْمٌ كتابةُ مَولانا مشيئتُهُ وخَلْقُهُ وهوَ إيجادٌ وتَكوينُ


(15)


قولُهُ: (والدليلُ علَى هذه الأركانِ السِّتَّةِ قولُهُ تعالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ}) فهذه الآيَةُ اشْتَمَلَتْ علَى خَمسةٍ مِنْ أَركانِ الإيمانِ.

قالَ تعالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} يعني: ليسَ الْبِرُّ في التوَجُّهِ إلَى جِهةِ الْمَشرِقِ أو الْمَغْرِبِ، ولكنَّ البِرَّ الحقيقيَّ في الإيمانِ وتَوابعِ الإيمانِ مِن الأعمالِ الصالحةِ.
أمَّا مُجَرَّدُ الاتِّجاهِ فهذا لا يَدُلُّ علَى المقصودِ، وإلاَّ فقدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أنَّ اليهودَ يَتَّجِهونَ إلَى الْمَغرِبِ، والنصارَى يَتَّجِهُون إلَى الْمَشْرِقِ، ولكنَّ اللهَ نَفَى أنْ يكونَ هذا هوَ الْبِرَّ؛ لأنَّهُم لم يُحَقِّقُوا الإيمانَ باللهِ والملائكةِ والكتابِ والنبِيِّينَ… إلخ؛ فلهذا نَفَى اللهُ تعالَى الْبِرَّ عنْ عَمَلِهم هذا وقالَ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ}.
و{الْبِرَّ} - بالنصْبِ - خَبَرٌ مُقَدَّمٌ لـ{ليسَ}، و{أنْ} وما دَخَلَتْ عليهِ في تأويلِ مَصدرٍ اسْمُها مُؤَخَّرٌ، والتقديرُ: (ليسَ الْبِرَّ تَوليَةُ وُجوهِكم).
والْبِرُّ: اسمٌ جامعٌ لكلِّ عملٍ مِنْ أعمالِ الخيرِ مِن العقائدِ والأعمالِ


.

وقدْ نَقَلَ ابنُ كثيرٍ في تفسيرِهِ، عنْ سُفيانَ الثوريِّ أنَّهُ قالَ: (هذه أنواعُ الْبِرِّ كُلُّها)، وقالَ ابنُ كثيرٍ: (مَن اتَّصَفَ بهذه الآيَةِ فقدْ دَخَلَ في عُرَى الإسلامِ كلِّها وأَخَذَ بِمَجامِعِ الخيرِ كُلِّهِ).
(16)


قولُهُ: (ودليلُ القدَرِ قولُهُ تعالَى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}) أيْ: إنَّا خَلَقْنا كلَّ شيءٍ مِن المخلوقاتِ العُلويَّةِ والسُّفليَّةِ بتقديرٍ سابِقٍ لِخَلْقِنا لهُ، وذلكَ بكتابتِهِ في اللوحِ المحفوظِ، فهوَ يَقَعُ كما كُتِبَ بوقتِهِ وقَدْرِهِ، وجميعِ ما اشْتَمَلَ عليهِ مِن الصفاتِ، قالَ تعالَى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}.

وعنْ عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ - رَضِيَ اللهُ عنهُما - قالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يقولُ: ((كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلاَئِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)).
وعنْ طاوُوسٍ رَحِمَهُ اللهُ قالَ: (أَدْرَكْتُ نَاسًا مِنْ أصحابِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يقولُون: كلُّ شيءٍ بقَدَرٍ، قالَ: وسَمِعْتُ عبدَ اللهِ بنَ عُمرَ يقولُ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ، حَتَّى الْعَجْزُ وَالْكَيْسُ أَو الكَيْسُ وَالْعَجْزُ))).
قالَ ابنُ كثيرٍ رَحِمَهُ اللهُ: (يَسْتَدِلُّ بهذه الآيَةِ الكريمةِ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ علَى إثباتِ قَدَرِ اللهِ السابقِ لِخَلْقِهِ، وهوَ عِلْمُهُ الأشياءَ قبلَ كَوْنِها، وكِتابتُهُ لها قَبْلَ بَرْئِها، ورَدُّوا بهذه الآيَةِ - وبما شَاكَلَها مِن الآياتِ، وما وَرَدَ في معناها مِن الأحاديثِ الثابتةِ - علَى الفِرقةِ القَدَرِيَّةِ الذينَ نَبَغُوا في أَواخِرِ عَصْرِ الصحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهُم...).


  #6  
قديم 17 صفر 1430هـ/12-02-2009م, 11:42 AM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
افتراضي شرح معالي الشيخ :صالح بن عبدالعزيزبن محمد آل الشيخ (مفرغ)


[قوله: (المرتبة الثانية: الإيمان)]
ثم قال - رحمه الله -: (المرتبة الثانية: الإيمان، وهو بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان.

وأركانه ستة:
أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره.

والدليل على هذه الأركان الستة قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ}.

ودليل القدر قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}) انتهى كلامه رحمه الله.
هذه المرتبة الثانية هي مرتبة الإيمان.
[بيان معنى الإيمان]
والإيمان: أصله في اللغة:




هو التصديق الجازم، فهو تصديق وجزم.

وفي الشرع:


الإيمان: قول وعمل واعتقاد.

أو نقول: الإيمان في الشرع: قول وعمل؛ لأن القول هو قول اللسان وقول القلب، والعمل عمل القلب وعمل الجوارح، فإذا قال من قال من أهل السنة: إن الإيمان قول وعمل، فهو بمعنى من يقول: قول وعمل واعتقاد؛ لأن القول ينقسم إلى:

-




قول اللسان.

-


وقول القلب.

- قول اللسان: هو النطق والإقرار ظاهراً بنطقه.

- وقول القلب: النية.
- وعمل القلب.
- وعمل الجوارح.
عمل القلب أقسامه كثيرة:
منها: أنواع الاعتقادات.
ومنها: أنواع العبادات القلبية، الخشية والخوف والرجاء، فالعلم أنواع العلميات هذه من أعمال القلب، وكذلك عبادات القلب المتنوعة هذه أعمال قلبية، وكذلك عمل الجوارح، وهذا بمعنى قول من قال: إن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان يزيد بطاعة الرحمن وينقص بطاعة الشيطان.
قال أهل العلم: إن هذا الإيمان الشرعي هو الذي حصل الابتلاء به، فهو من الأسماء التي نقلت من اللغة إلى الشرع فصارت حقيقتها الشرعية هو ما وصفت لك، من أن الإيمان يشتمل على قول اللسان والعمل بالأركان والاعتقاد وأنه يزيد وينقص.
الإيمان كثيراً ما يأتي في القرآن ويراد به اللغوي، وكثيراً ما يأتي في القرآن ويراد به الشرعي، من مثل الألفاظ الأخرى، كالصلاة، فإنها تأتي ويراد بها اللغوي، الصلاة اللغوية، وهي الدعاء والثناء، وتأتي ويراد بها الصلاة المعروفة.
ومما ذكره بعض أهل العلم من ذوي التحقيق أن الإيمان اللغوي في القرآن كثيراً ما يُعدَّى باللام، كقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ}، وكقوله: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} ونحو ذلك من الأمثلة - كما سبق أن ذكرت لكم - والإيمان الشرعي المنقول عن أصله اللغوي الذي يراد به القول والعمل والاعتقاد هذا يُعدَّى كثيراً بالباء: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ...} إلى آخر الآية، قال: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} ونحو ذلك من الآيات، وكقوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً}.
هذا الإيمان قول وعمل واعتقاد، ويراد به تارة الاعتقادات الباطنة، وهو الذي يناسب المرتبة الثانية؛ لأن المرتبة الأولى هي الإسلام وهي ما يشمل العمل الظاهر، كما جاء في حديث جبريل فقد جاء في بعض طرقه أنه ذكر عليه الصلاة والسلام لجبريل أن من الإسلام بعد الحج أن منه: الغسل من الجنابة، ومنه الذِّكر، ونحو ذلك مما هو من جنس الأعمال الظاهرة.
وأما الإيمان فهو العقائد الباطنة: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر.
الشيخ -رحمه الله تعالى- هنا قال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة) وهذا يَعني به اسم الإيمان العام، الذي يدخل فيه الإسلام؛ لأن الإيمان أوسع من الإسلام، والإسلام بعض الإيمان، وأهل الإيمان أخص مرتبة من أهل الإسلام، لهذا: الإيمان يشمل الإسلام وزيادة.
[شرح قوله: (وهو بضع وسبعون شعبة...)]
بهذا المعنى، ولهذا المعنى قال الشيخ -رحمه الله -: (وهو بضع وسبعون شعبة فأعلاها قول لا إله إلا الله) ومن المعلوم أن قول لا إله إلا الله أنه أول أركان الإسلام، الشهادة لله بالتوحيد بقول لا إله إلا الله، مع توابع ذلك هذا الركن الأول، فهنا عدَّ قول لا إله إلا الله أعلى شعب الإيمان، وهذا لأن الإيمان يشمل الإسلام وزيادة، وهذا قد جاء مبيناً في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((الإيمان بضع وستون أو قال: بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان)) فذكر أن أعلى شعب الإيمان لا إله إلا الله.
وقوله (شعب) هذا تمثيل للإيمان بالشجرة التي لها شعب ولها فروع، وقد مثل عليه الصلاة والسلام بأعلى الشعب وبأدنى الشعب، ومثل بشعبة من الشعب، وهذه الثلاث التي ذكرها عليه الصلاة والسلام متنوعة، فالأول - وهو أعلاها - قول (قول لا إله إلا الله)، (وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) هذا عمل، (والحياءُ شعبة من الإيمان) الحياءُ عملُ القلب.
فذكر في هذا قول لا إله إلا الله، وهذا قول باللسان، ولا شك أنه يتبعه اعتقاد بالجنان، وذكر الحياء أيضاً وهو عمل القلب، وذكر إماطة الأذى عن الطريق وهو عمل الجوارح.
فتمثيله عليه الصلاة والسلام بذلك؛ لأجل أن يُستدَل بكل شعبة من هذه الثلاث شعب على نظائرها، فيستدل بكلمة التوحيد - بقول لا إله إلا الله - على الشعب القولية.
ويستدل بإماطة الأذى عن الطريق بالشعب العملية عمل الجوارح،




ويستدل بذكره الحياء على الشعب القلبية، وهذا من أبلغ ما يكون من التشبيه والتمثيل؛ وذلك لأن التنويع كما نوع عليه الصلاة والسلام، يجعل الناظر يُعدي هذا الذي ذكر إلى أنواع تماثلها كثيرة.

ولهذا العلماء اختلفوا في شعب الإيمان، في عدِّها، عدَّها جماعة وصنفوا فيها مصنفات، كما صنّف الحَلِيمي كتابه - شيخ البيهقي - كتابه (المنهاج في شعب الإيمان) وهو مطبوع، وتلاهُ على ترتيبه وعلى نسقه البيهقي موسعاً داعماً لها بالأدلة في كتابه (شعب الإيمان) ونحو ذلك، عدُّوها على اجتهاد منهم، وهذا الاجتهاد يختلف فيه العلماء، بعضهم يعدُّ خصالاً من شعب الإيمان وبعضهم يعد أخرى، وسبب ذلك اجتهادهم في قياس ما لم يذكر على ما ذكر فيجعلون بعضاً منها قولية، ويجعلون بعضاً منها عملية، ويجعلون بعضاً منها لعبادات القلب.

وهم يقسمونها في الغالب أثلاثاً فيجعلون للقوليات نحواً من خمسٍ وعشرين شعبة، ويجعلون للعمليات نحواً من خمس وعشرين شعبة، ويجعلون لأعمال القلوب نحواً من سبع وعشرين أو خمس وعشرين شعبة، يزيدون وينقصون، المقصود: أن هذا اجتهاد من العلماء، لكن هذا التمثيل يدل على ما ذكرت لك من استيعابه للأقوال، وأعمال الجوارح، وأعمال القلوب.
إذاً: فيدخل في هذه الشعب شعب الإسلام:




إقام الصلاة، إيتاء الزكاة، صوم رمضان، الحج، الجهاد، الغسل، الطهارة، ونحو ذلك.

يدخل فيها: الأعمال الاجتماعية التي أُمر بها:


صلة الأرحام، بر الوالدين، إلى آخره.

يدخل فيها أعمال القلوب من الخشية، والإنابة، والحياء، والمحبة، والرجاء، والخوف، والرغب والرهب إلى آخرهذه الأمثلة، فكل هذه من الإيمان ودليل ذلك الحديث الصحيح الذي جاء في الصحيحين.

[شرح قوله: (وأركانه ستة...)]
قال - رحمة الله تعالى -: (وأركانه ستة: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره) أوضحت لكم في شرح (الأربعين النووية) تفصيل شرح هذه الأركان، لكن أذكر ذلك باقتضاب ليكمل الشرح لهذا الكتاب.
[شرح الركن الأول: (هو الإيمان بالله تعالى)]
الإيمان بالله يشمل:
-




الإيمان بوجود الله.

- بأن الله واحدٌ في ربوبيته.

- وأنه واحدٌ في إلهيته - في استحقاقه العبادة -.
- أنه واحد في أسمائه وصفاته - يعني ليس كمثله شيء في أسمائه، وليس كمثله شيء في صفاته - كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فبيان قوله (أن تؤمن بالله) هو شرح التوحيد كله.
[الركن الثاني: (وهو الإيمان بالملائكة)]
(أن تؤمن بالله وملائكته)




والملائكة جمع مَلَك وهو المُرسَل؛ لأن أصلها مأْلَك من أَلَك، يعني أرسل رسالة خاصة، ألك يألك ألوكة والمرسَل مألك أو ملأك، وأصلها مألك من ألك، فيصبح خففت الهمزة - كما تخفف كثيراً - فصارت (مَلَك)، وجمعها ملائكة، لهذا ظهر في الجمع الهمز؛ لأنه أصله في المفرد موجود، قال: ملك جمعه ملائكة ظهر الهمز، ومفرد الملائكة ملأك إلى آخره، يعني المرسلون الموكلون بما وكلهم الله -جل وعلا- به.

هذا الركن من أركان الإيمان تحقيقه يكون:

-




بأن يؤمن المسلم بأن لله -جل وعلا- ملائكة، خَلْق من خلقه جل وعلا، جعلهم موكلين بتصريف هذا العالم، يأمرهم فينفذون، عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

فمن أيقن أن هذا الجنس من خلق الله موجود، وآمن بذلك، وأن منهم من ينزل بالوحي إلى الرسل يبلغهم رسالات الله، فقد حقق هذا الركن من أركان الإيمان.

-




ثم بعد ذلك يكون الإيمان التفصيلي - على نحو ما فصلت لكم في شرح الأربعين - وهذا يختلف فيه الناس بحسب العلم، لكن المقصود هنا: أن تحقيق هذا الركن من أركان الإيمان يكون بتحقيق ما ذكرت.

وبعد ذلك الإيمان بكل ما جاء في الكتاب والسنة من أوصاف الملائكة، ومن أحوالهم، صفة خلقهم، ومقامهم عند ربهم، وأنواع أعمالهم، وأنواع ما وُكِّلوا به، هذا كله من الإيمان التفصيلي، من عَلِم شيئاً من النصوص في ذلك وجب عليه الإيمان، لكن تحقيق الركن يكون بالمعنى الأول.

[شرح الركن الثالث: (وهو الإيمان بالكتب)]
(وكتبه ورسله):
-




الإيمان بالكتب أيضاً إيمان إجمالي، يتحقق الإيمان بهذا الركن: بأن يؤمن العبد بأن الله جل وعلا أنزل كتباً مع رسله إلى خلقه، جعل في هذه الكتب الهدى والنور والبينات وما به يصلح العباد، وأن هذه الكتب التي أُنزلت مع الرسل أن كلها حق؛ لأنها من عند الله جل وعلا، والله جل وعلا هو الحق المبين، وما كان من جهة الحق فهو حقٌ، ويوقن بذلك يقيناً تاماً.

-


ثم يوقن ويؤمن إيماناً خاصاً بآخر هذه الكتب ألا وهو القرآن.

فكما أنه يؤمن بالكتب السابقة التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وصحف موسى ونحو ذلك، يؤمن بها إيماناً عاماً على ما أنزله الله -جل وعلا- على أنبيائه ورسله، فإنه يؤمن إيماناً خاصاً بهذا القرآن، وأنه كلام الله منه بدأ وإليه يعود، وأنه حجة الله على الناس إلى قيام الساعة، وأنه به نُسخت جميع الرسالات وجميع الكتب من قبل، وأنه حجة الله الباقية على الناس، وأن هذا الكتاب مهيمن على جميع الكتب، وما فيه مهيمنٌ على جميع ما سبق، كما قال جل وعلا في وصف كتابه: {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} وأن ما فيه من الأخبار يجب تصديقها، وما فيه من الأحكام يجب امتثالها، وأن من حكم بغيره فقد حكم بهواه ولم يحكم بما أنزل الله.

[شرح الركن الرابع: (وهو الإيمان بالرسل)]
كذلك الإيمان بالرسل:
-




إذا آمن المسلم بأن الله جل وعلا أرسل رسُلاً بعثهم بالتوحيد، يدعون أقوامهم إلى التوحيد، وأنهم بلغوا ما أُمروا به، وأيدهم الله بالمعجزات، بالبراهين والآيات الدالة على صدقهم، وأنهم كانوا أتقياء بررة، بلَّغوا الأمانة وأدَّوا الرسالة، بهذا يكون آمن بالرسل جميعا.

ثم يؤمن إيماناً خاصاً بمحمد صلى الله عليه وسلم بأنه خاتم الرسل، وأن الله -جل وعلا- بعثه بالحنيفية السمحة، بعثه بدين الإسلام الذي جعله خاتَم الأديان وآخر الرسالات.

القسم الثاني:




الإيمان التفصيلي بالرسل
على نحو ما أوضحت لكم فيه مقامات كثيرة في ذلك يتبع العلم التفصيلي بأحوال الرسل، وأسمائهم، وأحوالهم مع أقوامهم، ومع ما دعوا إليه وكتبهم ونحو ذلك.

[شرح الركن الخامس: (وهو الإيمان باليوم الآخر)]

(واليوم الآخر)




وهذا هو الركن الخامس، الإيمان باليوم الآخر، يعني الإيمان بيوم القيامة، وتحقيق هذا الركن:

-


يكون بأن يوقن العبد، يؤمن من غير امتراءٍ ولا شكٍ بأنه ثمَّ يوم يعود الناس إليه، يبعثون فيه وإليه، يحاسبون فيه، وأن كل إنسان مجزيٌ بما فعل؛ لأن الأمر ليس منتهياً بالموت، بل ثَم يوم يجتمع فيه الناس، فيُقتص للمظلوم من الظالم، ويحاسب الناس على أعمالهم، كما قال تعالى: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} إذا آمن بهذا القَدر، وأن هناك يوماً سيكون، وأننا سنُبعث من جديد، فإنه قد حقق هذا الركن.

-


بعد ذلك الإيمان التفصيلي باليوم الآخر: هذا يتبع العلم بما جاء في الكتاب والسنة من أحوال يوم القيامة:

- من أحوال القبور.

- أحوال ما يكون يوم القيامة، الإيمان بالحوض، بالميزان، الإيمان بالصحف، الإيمان بالصراط، الإيمان بأحوال الناس في العرصات، أحوال الناس بعد أن يجوزوا الصراط، يعني المؤمنين الذين يدخلون الجنة، وما يكون بعد جوز الصراط، ومن يدخل الجنة أولاً، وأحوال الناس في النار، ونحو ذلك، أحوال الظُّلمة، أحوال الجسر.
هذه كلها أمور تفصيلية لا يجب الإيمان بها على كل أحدٍ إلا من سمعها في النصوص، فإنه يجب عليه الإيمان بما سمع، لكن لو قال قائل: أنا لا أعلم، ما أدري هل ثمَّ حوض أم لا ؟ لا أدري هل ثم ميزان أم لا ؟ ونحو ذلك.
يُعرَّف بالنصوص فإن عُرِّف فأنكر وكذب فيكون مكذباً بالقرآن وبالسنة.
أما تحقيق هذا المقام الذي هو اليوم الآخر، أن يؤمن بأن ثم يوم يعود فيه الناس ،فيجازى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، فلو سألت أحداً قلت له: هل ثم يوم آخر يعود فيه الناس ؟ قال: بلا شك هناك يوم القيامة نبعث فيه ويحاسب الناس فيه، فيه أهوال وسكت، بهذا حقق الركن وهو الإيمان باليوم الآخر.
إذا سألته: هل تؤمن بالحوض ؟ وقال: وما الحوض ؟ أنا ما أعرف هذا الحوض، هل تؤمن بالميزان ؟ أنا ما أعرف، يُعرَّف النصوص الدالة على ذلك؛ لأن هذا من العلم التفصيلي، الذي إنما يجب العلم به بعد إخباره بما جاء في النصوص عليه.
[شرح الركن السادس: (وهو الإيمان بالقدر خيره وشره)]
السادس قال: (وبالقدر خيره وشره):
الإيمان بالقدر:




تحقيق هذا الركن، أن يعلم ويعتقد، يؤمن بأن كل شيء يحدث في هذا الملكوت في خلق الله قد سبق به قدر، وأن الله جل وعلا عالم بهذه الأحوال وتفصيلاتها في خلقه قبل أن يخلقهم وكتب ذلك، وإذا آمن أن كل شيءٍ قد سبق به قدر الله، فيكون حقق هذا الركن.

والإيمان بالقدر - الإيمان الواجب - يكون على مرتبتين:

المرتبة الأولى:




الإيمان بالقدر السابق لوقوع المقدر، وهذا يشمل درجتين:

- الأولى: العلم السابق، فإن الله جل وعلا يعلم ما كان، وما سيكون، وما يكون وما هو كائن، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، علم الله السابق بكل شيء بالكليات وبالجزئيات، بجلائل الأمور وبتفصيلات الأمور، هذا العلم السابق، كما قال جل وعلا في آخر سورة الحج: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}، وقال جل وعلا: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} فبين جل وعلا أن علمه بالأشياء سابق، وأنه يعلم كل شيء، الكليات والجزئيات، الأمور الجليلة وتفاصيل الأمور، هذا العلم الأول، وهذا العلم لم يزل الله جل وعلا عالماً به، علمه جل وعلا بهذه الأشياء بجميع تفاصيل خلقه - علمه بها أول - يعني ليس له بداية.

- الدرجة الثانية: الكتابة، أن يؤمن العبد أن الله جل وعلا كتب ما الخلق عاملون، كتب أحوال الخلق، وتفصيلات ذلك، قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وذلك عنده في كتاب جعله في اللوح المحفوظ، كما قال جل وعلا: {وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} فأثبت أنه في كتاب، وقال جل وعلا: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} يعني: قد سُطِّر وكتب في اللوح المحفوظ
وقال جل وعلا: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} بَيَّن أن كل شيء يكون إنما هو في كتاب، وهذا قد جاء أيضاً في (صحيح الإمام مسلم) من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قدر الله مقادير الخلائق - يعني بالكتابة- قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة)) هاتان الدرجتان في المرتبة الأولى، المرتبة الأولى تسبق وقوع المقدر، هذه المرتبة الأولى تحوي درجتين.
المرتبة الثانية




: أيضاً تحوي درجتين، وهي تواكب أو تقارن وقوع المقدر.

- أولى الدرجتين: الإيمان بأن مشيئة الله جل وعلا نافذة، وأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لا يكون، فليس ثمَّ شيء يحدث ويحصل في ملكوت الله -جل وعلا- إلا وقد شاءه الله جل وعلا، وقد أراده الله -جل وعلا- كوناً، سواءٌ في ذلك طاعات المطيعين، أو عصيان العاصين، سواءٌ في ذلك إيمان المؤمنين، أو كفر الكافرين.

فكل شيء يحصل في ملكوت الله إنما هو بإذنه ومشيئته وإرادته الكونية؛ لأن المشيئة لا تنقسم، الذي ينقسم الإرادة.
ومشيئة الله إذا أطلقت يُعنى بها الإرادة الكونية.
الإرادة تنقسم إلى إرادة:
-




كونية

-


وشرعية.

أما المشيئة فهي مشيئة الله جل وعلا في كونه، هذه الدرجة الأولى هذه تواكب وقوع المقدر، فلا يمكن أن يعمل العبد شيئاً يكون مقدراً عليه من الله -جل وعلا- إلا وهذا الشيء قد شاءه الله جل وعلا.

- الدرجة الثانية: أن يؤمن بأن الله -جل وعلا- خالق كل شيء، كلُّ شيء مخلوق فالله -جل وعلا- خالقه، أعمال العباد، أحوال العباد، السماوات، الأرض، من في السماوات ومن في الأرض، ما في السماوات وما في الأرض، الجميع الذي خلقه هو الله جل وعلا، فإذا أراد العبد أن يعمل شيئاً فإنه لا يكون إلا إذا شاءه الله جل وعلا، وخَلَق الله جل وعلا ذلك الشيء.
طاعات المطيعين خلقها الله جل وعلا، عصيان العاصين خلقه الله جل وعلا.
إذا توجه العبد بإرادته إلى أن يفعل شيئاً إذا شاءه الله كوناً وقع بعد خلقه له، إذا لم يشأه ولو أراده العبد لم يقع، كما قال جل وعلا: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}، وقال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} مرتبة الخلق عامة.
إذاً هذا الإيمان الواجب يصح أن نقول: إنه إيمانٌ تفصيلي، مرتبة قبل وقوع المقدر، العلم الأزلي، العلم الأول، والكتابة التي هي قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ثم ما يواكب وقوع المقدر، وهو أن العبد عنده إرادة وعنده قُدرة، إذا اجتمعت الإرادة الجازمة والقدرة التامة، توجهت إلى الفعل حصل منك الفعل، لكن لا يحصل منك إلا بعد أن يشاء الله -جل وعلا- ذلك منك، وإلا بعد أن يخلق الله -جل وعلا- ذلك الفعل منك، الفعل فعل العبد حقيقة، لكن الخالق لهذا الفعل هو الله جل وعلا، لِمَ ؟ لأن الفعل من العبد لا يكون إلا بإرادة جازمة وبقدرة تامة، والإرادة والقدرة قد خلقها الله جل وعلا.
فالله جل وعلا خلق ما به يكون الفعل، ويخلق الفعل نفسه إذا توجه إليه العبد، فحصل بهذا الإيمان التفصيلي الواجب في القدر.
وبهذا البيان يتضح لك أركان الإيمان الستة: الإيمان بالله وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره.
[شرح قوله تعالى:




{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ}]

قال الشيخ بعد ذلك - رحمه الله -: (والدليل على هذه الأركان الستة قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ} - يعني الذي يمدح أصحابه - {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ}، (النبيين) يعني الرسل، وهنا ذكر الخمسة هذه، آمن بالله، واليوم الآخر، والملائكة، والكتاب، والنبيين، فهذه الآية دليل على خمسةٍ من أركان الإيمان، وكثير ما تأتي هذه الخمسة مقترنة:

- كقوله جل وعلا في آخر سورة البقرة: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} - ذكر الأربعة - {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}.
- وكقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً}.
- وكقوله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} ونحو ذلك من الآيات.
[تفسير قوله تعالى:




{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}]

بقي القدر، القدر أدلته في القرآن أدلة عامة بذكر القدر، وأدلة مفصلة لكل مرتبة من مراتب القدر.

فمن الأدلة العامة:




ما ذكره الشيخ رحمه الله تعالى وهو قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} وجه الاستدلال: مجيء {كُلِّ شَيْءٍ} قال جل وعلا: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} يعني ليس ثمَّ مخلوق من مخلوقات الله إلا وقد خُلق بقدرٍ سابق من الله جل وعلا، لا يخرج شيء عن هذه الكلية: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} و(كل) من ألفاظ الظهور في العموم، ومنه قوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً}.

وكل دليل فيه ذكر مرتبة من المراتب التي ذَكَرْتُ يصلح دليلاً على القدر؛ لأنه دليل لبعضه.

هذا ما ذكره الشيخ رحمه الله تعالى في بيان المرتبة الثانية من المراتب ألا وهي مرتبة الإيمان.


  #7  
قديم 17 صفر 1430هـ/12-02-2009م, 11:44 AM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
افتراضي العناصر

بيان المرتبة الثانية

- بيان معنى الإيمان
- بيان شُعب الإيمان
- بيان معنى الشعبة
- بيان معنى البضع
- ذكر الروايات الواردة في قوله عيه الصلاة والسلام:( بضع وسبعون )
- بيان عدم تحديد الشعب وحصرها
- بيان أعلى شعب الإيمان
- بيان أدنى شعب الإيمان
- بيان معنى إماطة الأذى عن الطريق
- بيان أن عدم وضع الأذى في الطريق من شعب الإيمان
- بيان معنى الحياء
- بيان فضل الحياء
بيان أركان الإيمان
- بيان عدم المنافاة بين أركان الإيمان وشعبه
- ذكر أدلة أركان الإيمان
- الفرق بين الإسلام والإيمان
- لا إسلام بلا إيمان
تفسير قوله تعالى (ليس البر أن تولوا وجوهكم...) إلى قوله تعالى(والنبيين)
تفسير قوله تعالى (إنا كل شيء خلقناه بقدر)
بيان ما يتضمنه الإيمان بالله تعالى
- أدلة وجود الله تعالى
- بطلان عبادة غير الله تعالى
- الفرق التي ضلت في باب الأسماء والصفات
- ثمرات الإيمان بالله تعالى
بيان معنى الإيمان بالملائكة
- تعريف الملائكة
- بيان عدم حصر عدد الملائكة
- ما يتضمنه الإيمان بالملائكة
- ثمرات الإيمان بالملائكة
بيان معنى الإيمان بالكتب
- بيان المراد بالكتب
- ما يتضمنه الإيمان بالكتب
- ثمرات الإيمان بالكتب
بيان معنى الإيمان بالرسل
- تعريف الرسل
- تعريف النبي
- الفرق بين النبي والرسول
- ما يتضمنه الإيمان بالرسل
- ثمرات الإيمان بالرسل
بيان معنى الإيمان باليوم الآخر
- المراد باليوم الآخر وسبب تسميته بذلك
- ما يتضمنه الإيمان باليوم الآخر
- بيان ما يلتحق بالإيمان باليوم الآخر
- ثمرات الإيمان باليوم الآخر
- الرد على منكري البعث
- الرد على من أنكر عذاب القبر ونعيمه
بيان معنى الإيمان بالقدر
- بيان معنى القدر
- ما يتضمنه الإيمان بالقدر
- الإيمان بالقدر لا ينافي اختيار العبد
- بطلان الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي
- ثمرات الإيمان بالقدر
- ذكر الفرق التي ضلت في باب القدر
- الرد على الجبرية
- الرد على القدرية
- معنى البر

  #8  
قديم 17 صفر 1430هـ/12-02-2009م, 11:47 AM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
افتراضي الأسئله

الأسئلة
س1: ما معنى الإيمان لغة وشرعاً ؟
س2: عدد أركان الإيمان، مع الاستدلال .
س3: ما الفرق بين الإيمان والإسلام ؟
س4: ما معنى الكلمات التالية : بضع ، شعبة ، إماطة الأذى ، الملائكة ؟
س5: ما الفرق بين شعب الإيمان وأركانه ؟
س6: يتضمن الإيمان بالله تعالى أربعة أمور، اذكرها.
س7: اذكر دلالة الشرع والعقل والحس والفطرة على وجود الله تعالى.
س8: ما الفرق بين الربوبية والألوهية ؟
س9: استدل على بطلان عبادة غير الله تعالى من النقل والعقل.
س10: ما معنى الإيمان بأسماء الله وصفاته ؟
س11: ضل في باب الأسماء والصفات طائفتان. اذكرهما، وبين بطلان قولهما باختصار.
س12: اذكر بعض ثمرات الإيمان بالله تعالى.
س13: اذكر ما يتضمنه الإيمان بالملائكة.
س14: اذكر بعض ثمرات الإيمان بالملائكة.
س15: اذكر ما يتضمنه الإيمان بالكتب.
س16: اذكر بعض ثمرات الإيمان بالكتب.
س17: اذكر ما يتضمنه الإيمان بالرسل.
س18: اذكر بعض ثمرات الإيمان بالرسل.
س19: اذكر ما يتضمنه الإيمان باليوم الآخر.
س20: اذكر بعض ثمرات الإيمان باليوم الآخر.
س21: بيِّن دلالة الشرع والعقل والحس على ثبوت البعث.
س22: بيِّن دلالة الشرع والعقل والحس على ثبوت عذاب القبر ونعيمه.
س23: اذكر ما يتضمنه الإيمان بالقدر.
س24: الاحتجاج بالقدر على فعل المعصية باطل. بيِّن ذلك.
س25: اذكر بعض ثمرات الإيمان بالقدر.
س26: ضلَّ في باب القدر طائفتان. اذكرهما، وبيِّن بطلان مذهبهما باختصار.
س27: فسر باختصار الآيتين التاليتين:-
أ. {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب} الآية .
ب. {إنَّا كل شيء خلقناه بقدر} .


موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
مرتبة, الإيمان

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:13 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir