دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > العقيدة الواسطية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 22 ذو الحجة 1429هـ/20-12-2008م, 07:07 PM
فاطمة فاطمة غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 758
افتراضي التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد

( ومِن الإِيمانِ باللهِ وكُتُبِهِ الإِيمانُ بأَنَّ القرآنَ: كَلامُ اللهِ، مُنَزَّلٌ، غَيْرُ مَخْلوقٍ.(145)
منهُ بَدَأَ، وإِليهِ يَعودُ.(146)
وأَنَّ اللهَ تَكَلَّمَ بِهِ حَقيقةً.(147)
وأَنَّ هذا القرآنَ الَّذي أَنْزَلَهُ على محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُو كلامُ اللهِ حقيقةً، لا كَلامَ غيرِهِ.
ولا يجوزُ إِطلاقُ القَوْلِ بأَنَّهُ حِكايةٌ عَنْ كلامِ اللهِ، أَو عِبارَةٌ،(148)
بلْ إِذا قَرَأَهُ النَّاسُ أَوْ كَتَبُوهُ في المصاحِفِ؛ لمْ يخْرُجْ بذلك عنْ أَنْ يَكونَ كَلامَ اللهِ تعالى حَقيقةً، فإِنَّ الكلامَ إِنَّما يُضَافُ حقيقةً إِلى مَنْ قالَهُ مُبْتَدِئاً، لا إِلى مَن قالَهُ مُبَلِّغاً مُؤدِّياً.(149)
وهُوَ كَلامُ اللهِ؛ حُروفُهُ، ومَعانيهِ (150).
ليسَ كَلامُ اللهِ الحُروفَ دُونَ المَعاني، ولا المَعانِيَ دُونَ الحُروفِ ).(151)
فصل: ( وقَدْ دَخَلَ أَيضاً فيما ذَكَرْناهُ مِن الإِيمانِ بهِ وبِكُتُبِهِ وبملائِكَتِهِ وبِرُسُلِهِ: الإِيمانُ بأَنَّ المؤمِنينَ يَرَوْنَهُ يَوْمَ القِيامَةِ عياناً بأَبصارِهِمْ كَمَا يَرَوْنَ الشَّمْسَ صحواً ليسَ [ بها ] سحابٌ، وكَما يَرَوْنَ القَمَرَ ليلَةَ البَدْرِ لا يضامونَ في رُؤيَتِهِ.(152)
يَرَوْنَهُ سُبْحانَهُ وهُمْ في عَرَصَاتِ القِيامَةِ، ثُمَّ يَرَوْنَهُ بعْدَ دُخولِ الجَنَّةِ؛ (153)
كَمَا يَشاءُ اللهُ تَعالى).(154)

(145) فَصلٌ
قولُه: (ومِنَ الإيمانِ باللَّهِ وكُتُبهِ الإيمانُ بأنَّ القرآنَ كلامُ اللَّهِ) فمَن لم يُؤمِنْ بأنَّ القرآنَ كلامُ اللَّهِ لم يؤمِنْ باللَّهِ وكُتُبه. قال عبدُ اللَّهِ بنُ المبارَكِ: (مَن كَفَرَ بحرفٍ مِن القرآنِ فقد كفَرَ بالقرآنِ، ومَن قال لا أؤمِنُ بهَذَا الكلامِ فقد كَفَرَ).
قولُه: (كلامُ اللَّهِ) قال تعالى: (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ). وقال: (يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ اللَّهِ) الآيةَ. وعن جابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- كان يَعرْضُ نَفْسَه في الموْسِمِ فيقولُ: ((أَلاَ رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إِلَى قَوْمِهِ لأُبَلِّغَ كَلاَمَ رَبِّي)). رواه أبو داودَ. فاتَّضحَ بهَذَا أنَّ القرآنَ كلامُ اللَّهِ لا كلامُ غيرِه، فمَن زعم أنَّه كلامُ غيرِه فهُوَ كافرٌ باللَّهِ العظيمِ.
وقال غيرُ واحدٍ مِن السَّلَفِ: مَن أنْكَرَ أنْ يكونَ اللَّهُ متكلِّماً أو يكونَ القرآنُ كَلامَه فقد أَنكَرَ رسالةَ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، بل ورسالةَ جميعِ الرُّسلِ التي حقيقَتُها: تبليغُ كلامِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فإذا لم يكُنْ ثَمَّ كلامٌ فماذا يُبلِّغُ الرَّسولُ، بل كَيْفَ يُعقلُ كونُه رسولا؟ ولهَذَا قال مُنكِروا رسالَتِه عن القرآنِ: (إنْ هَذَا إلاَّ قولُ البَشَرِ) فمَن قال: إنَّ اللَّهَ لم يتكلَّمْ به – أي: القرآنِ – فقد ضاهَى قولُه قولَهم – تعالى اللَّهُ عمَّا يقولون عُلُواًّ كبيرًا.
قولُه: (مُنَزَّلٌ) هَذَا ردٌّ لكلامِ الجهميَّةِ والمعتزِلةِ ممَّن يقولُ: إنَّه لم يُنَزَّلْ مِنه، فبيَّنَ في غيرِ موضعٍ أنَّه مُنَزَّلٌ مِن اللَّهِ، فمَن قال إنَّه مُنَزَّلٌ مِن بعضِ المخلوقاتِ كاللَّوْحِ والهواءِ فهُوَ مُفترٍ على اللَّهِ مكذِّبٌ لكتابِه، قال تعالى: (تَنـزِيلٌ مَّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ). وقال: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ) وروحُ القُدُسِ جبريلُ، وهُوَ الرُّوحُ الأمينُ المذكورُ في قولِه: (نَزَلَ بِهِ الرُوحُ الأَمِينُ) فجبريلُ -عليه السَّلامُ- سَمِعَه مِن اللَّهِ، والنَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- سَمِعَه مِن جبريلَ، ولم يَقُلْ أحدٌ مِن السَّلَفِ إنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- سَمِعَه مِن اللَّهِ، وإنَّما قاله بعضُ المتأخِّرين، والآيةُ صريحةٌ في الردِّ عليهم، وصريحةٌ في أنَّه المتكلِّمُ به، وأنَّه مِنه نزَلَ، ومنه بَدَأ, وهُوَ الذي تكلَّمَ به، ومنِ هنا قال السَّلَفُ مِن اللَّهِ بدأَ، فأخبرَ في الآياتِ المتقدِّمةِ أنَّه مُنَزَّلٌ مِن اللَّهِ ولم يُخبِرْ عن شيءٍ أنَّه منَزَّلٌ مِن اللَّهِ إلا كلامَه، بخلافِ نُزولِ الملائكةِ والمطرِ والحديدِ وغيرِ ذَلِكَ، وقد تَقدَّمَ ذِكرُ أقسامِ الإنزالِ في الكلامِ على الآياتِ.
قولُه: (غير مخلوقٍ). هَذَا ردٌّ لكلامِ الجهميَّةِ والمعتزِلةِ وغيرِهم ممَّن يقولُ: كلامُ اللَّهِ مخلوقٌ، فالجهميَّة يقولون: إنَّ اللَّهَ لا يتكلَّمُ، بل خَلقَ كلاماً في غيرِه وجَعلَ غيرَه يُعبِّرُ عنه، وما جاء مِن الأدلَّة أنَّ اللَّهَ تكلَّم أو يُكلِّمُ أو نادى أو نحوَ ذَلِكَ، قالوا هَذَا مجازٌ، وأمَّا المعتزِلةُ فيقولون: إنَّ اللَّهَ متكَلِّمٌ حقيقةً لكنْ معنى ذَلِكَ أنَّه خَلقَ الكلامَ في غيرِه، فمذَهبُهم ومَذهبُ الجهميَّةِ في المعنى سواءٌ، وحقيقةُ قولِ الطَّائفتَيْنِ أنَّه غيرُ متكلِّمٍ، وهَذَا باطلٌ مخالفٌ لقولِ السَّلَفِ والأئمَّةِ ومخالفٌ للأدلَّةِ العقليَّةِ والسَّمعِيَّة، فإنَّه لا يُعْقَلُ متكلِّمٌ إلاَّ مَن قامَ به الكلامُ، ولا مُريدٌ إلاَّ مَن قامتْ به الإرادةُ، ولا محِبٌّ ولا راضٍ إلاَّ مَن قام به ذَلِكَ، ولأنَّ كلامَ اللَّهِ -سُبْحَانَهُ- مِن صفاتِه -سُبْحَانَهُ- غيرُ مخلوقةٍ، كما في الصَّحيحِ عن خَوْلةَ بنتِ حكيمٍ أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((مَنْ نَزَلَ مَنْزِلاً فَقَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْحَلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ)) فاستدلَّ العلماءُ بِذَلِكَ على أنَّ كلامَ اللَّهِ غيرُ مخلوقٍ. قالوا لأنَّ الاستعاذةَ بالمخلوقِ شِركٌ، وقال اللَّهُ -سُبْحَانَهُ وتعالى-: (وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) الآيةَ، فهَذَا دليلٌ على أنَّ كلامَ اللَّهِ غيرُ مخلوقٍ؛ لأنَّ كُلَّ مخلوقٍ يَنْفَدُ ويَبِيدُ، وكلماتُه لا تَنفَدُ ولا تَبيدُ، وهَذَا الوصفُ لا يكونُ لمخلوقٍ، فالقُرآنُ كلامُ اللَّهِ ووحْيُه وتنَزْيلُه، فهُوَ غيرُ مخلوقٍ، فمَن زَعَم أنَّ القرآنَ مخلوقٌ فهُوَ كافرٌ باللَّهِ العظيمِ، كما رُوِيَ ذَلِكَ عن السَّلَفِ.
وذَكَرَ الشَّيخُ أبو الحسَنِ مُحَمَّدُ بنُ عبدِ المَلِكِ الكرخيُّ في كتابِه (الأُصولُ) قال: سمعتُ الإمامَ أبا منصورٍ مُحَمَّدَ بنَ أحمدَ، يقولُ: سمعتُ أبا حامدٍ الإسْفرَايينيَّ، يقولُ: ومذهبي ومذهبُ الشَّافعيِّ وفقهاءِ الأمصارِ: أنَّ القرآنَ كلامُ اللَّهِ غيرُ مخلوقٍ، ومَن قال: مخلوقٌ فهُوَ كافرٌ، والقرآنُ حَمَلَهُ جبريلُ مسموعًا مِن اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- والنَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- سَمِعَه مِن جبريلَ، والصَّحابةُ سَمِعوه مِن رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، وهُوَ الذي نَتلُوه بألْسِنَتِنا، وفيما بين الدَّفتَيْنِ، وما في صُدورِنا مسموعًا ومَكتوبًا ومحفوظًا، وكُلُّ حرفٍ منه كالباءِ والتَّاءِ كُلُّه كلامُ اللَّهِ غيرُ مخلوقٍ، ومَن قال مخلوقٌ فهُوَ كافرٌ عليه لعائِنُ اللَّهِ والنَّاسِ أجمعينَ.
وقال الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ولم يَقُلْ أحدٌ مِن السَّلَفِ: إنَّ القرآنَ مخلوقٌ أو قديمٌ، بل الآثارُ متواتِرةٌ عنهم بأنَّهم يقولون: القرآنُ كلامُ اللَّهِ، ولمَّا ظَهَرَ مَن قال: إنَّه مخلوقٌ، قالوا رداًّ لكلامِه: إنَّه غيرُ مخلوقٍ، وأوَّلُ مَن عُرِفَ أنَّه قال: القرآنُ مخلوقٌ الجعدُ بنُ دِرْهمٍ، وصاحِبُه الجهمُ بنُ صفوانَ، وأوَّلُ مَن عُرِفَ أنَّه قال: إنَّه قديمٌ هُوَ عبدُ اللَّهِ بنُ سعيدِ بنِ كِلابٍ. انتهى.
وأمَّا أفعالُ العِبادِ كأصواتِهم ومِدادِهم الذي يَكتُبون به القرآنَ، والوَرَقِ الذي يَكتُبون عليه، فإنَّ ذَلِكَ مِن جُملةِ المخلوقِ، ولذَلِكَ يقولونَ: الكلامُ كلامُ البارِئِ والصَّوتُ صوتُ القَارِئِ، وفي الحديثِ: ((زَيِّنُوا الْقُرَآنَ بَأَصْوَاتِكُمْ)). قال ابنُ القيِّمِ في (النُّونيَّةِ):
وَكَذَلِكَ القرآنُ عينُ كلامِه الْـ مسموعِ مِنه حقيقةً بَبَيانِ
هُوَ قولُ ربِّي كُلُّه لا بَعْضُه لفظاً ومعنًى ما هُما خَلْقانِ
تَنْزيلُ رَبِّ العالَمِينَ وقولُه اللَّفظُ والمعنى بِلا رَوَغانِ
لكنَّ أصواتَ العِبادِ وفِعلَهم كمِدادِهِم والرَّقِّ مخلوقانِ
فالصَّوتُ للقَاري ولكنَّ الكَلا م كلامُ ربِّ العرشِ ذي الإحسانِ

(146) قولُه: (منه بَدَا) أي: ظَهَر وخَرجَ منه -سُبْحَانَهُ- أي: هُوَ المتكلِّمُ به، وهُوَ الذي أنْزَلَه مِن لَدُنْه، فمَن قال: إنَّه مخلوقٌ يقولُ: إنَّه خُلِقَ في بعضِ المخلوقاتِ القائمةِ بنَفْسِها، فمْن ذَلِكَ المخلوقِ نَزَلَ وبَدَأَ، ولم يَنْزِلْ مِن اللَّهِ، فإخبارُ اللَّهِ أنَّه مَنَزَّلٌ مِن اللَّهِ يُناقِضُ أنْ يكونَ قد نَزَلَ مِن غيرِه، قال تعالى: (وَلَـكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنَّي) وقال: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ).
وروى أحمدُ وغيرُه عن جُبيرِ بنِ نُفيرٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((إِنَّكُمْ لَنْ تَرْجِعُوا إِلَى اللَّهِ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِمَّا خَرَجَ مِنْهُ)) وقال خبَّابُ بنُ الأرتِّ: يا هِنتاه، تَقرَّبْ إلى اللَّهِ بما استطعْتَ فلن تَتَقرَّبَ إلى اللَّهِ بشيءٍ أحَبَّ إليه مما خَرجَ منه وقال أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ لأصحابِ مسيلمةَ الكذَّابِ لمَّا سَمِعَ قرآنَ مسيلِمةَ: ويحكم أَيْنَ يذهبُ بعُقولِكم إنَّ هَذَا كلامٌ لم يَخُرجْ مِن إلْ، أيْ: مِن ربٍّ. وقال أحمدُ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: كلامُ اللَّهِ مِن اللَّهِ ليس بِبايِنٍ منه، وهَذَا معنى قولِ السَّلَفِ: ((القرآنُ كلامُ اللَّهِ منه بَدا وإليه يعودُ)). ومقصودُ السَّلَفِ الرَّدُّ على الجهميَّةِ، فإنَّهم زَعَموا أنَّ القرآنَ خَلقَهُ اللَّهُ في غيرِه، فيكونُ قد بدا وخَرجَ مِن ذَلِكَ المَحلِّ الذي خُلِقَ فيه لا مِن اللَّهِ، كما يقولونَ كَلامُه لمُوسى خَرَجَ مِن الشَّجرةِ، فبيَّنَ السَّلَفُ والأئمَّةُ أنَّ القرآنَ مِن اللَّهِ بدا وخَرجَ، وذكروا قولَه سُبْحَانَهُ: (وَلَـكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنَّي) فأخبَرَ أنَّ القولَ منه لا مِن غيرِه مِن المخلوقاتِ، و (مِن) لابتداءِ الغايةِ، فإنْ كان المجرورُ بها عَيْناً يقومُ بنَفْسِه لم يكنْ صفةَ اللَّهِ، كقولِه: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّنْهُ). وأمَّا إذا كان المجرورُ بها صفةً ولم يُذكَرْ لها مَحلٌّ كان صفةً لِلَّهِ، كقولِه: (وَلَـكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنَّي).
قولُه: (وإليه يعودُ) أي: يَرجِعُ، بأنْ يُسْرَى به في آخرِ الزَّمانِ، ويُرفَعُ فلا يَبْقى في الصُّدورِ مِنه ولا في المصاحِفِ منه آيةٌ، كما جاء ذَلِكَ في عِدَّةِ آثارٍ، وهُوَ أحدُ أشراطِ السَّاعةِ الكِبارِ، كما في حديثِ ابنِ مسعودٍ وغيرِه أنَّه قال: "يُسْرَى على القرآنِ فلا يبقى في المصاحفِ منه آيةٌ ولا في الصُّدورِ آيةٌ". أخْرَجه الطَّبرانيُّ وأخْرَجه ابنُ ماجهْ عن حُذيفةَ وأخْرَجه الدَّيلميُّ عن مُعاذٍ.

(147) قولُه: (وإنَّ اللَّهَ تكلَّمَ به حقيقةً) قال تعالى: (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ) والآياتُ والأحاديثُ - في إثباتِ كلامِه -سُبْحَانَهُ- وأنَّه تكلَّمَ بالقرآنِ - كثيرةٌ جِداًّ، وكُلُّها دالَّةٌ على أنَّه -سُبْحَانَهُ- تكلَّمَ حقيقةً لا مجازًا، بل حقيقةُ الإرسالِ تَبليغُ كلامِ المُرسَلِ، وإذا انْتَفَتْ عنه حقيقةُ الكلامِ، انْتَفَتْ عنه حقيقةُ الرِّسالةِ والنُّبوَّةِ، والرَّبُّ يَخلُقُ بقولِه وكلامِه، فإذا انتفَتْ عنه حقيقةُ الكلامِ انتفى عنه الخلقُ، وقد عابَ اللَّهُ آلهةَ المشركِين بأنَّها لا تتكلَّمُ ولا تُكلِّمُ عابدِيها، والجهميَّةُ وَصَفوا الرَّبَ بصفةِ هَذِهِ الآلهةِ، وقد تكاثَرَت الأدلَّةُ على أنَّ اللَّهَ نادَى وناجَى وأمَرَ ونَهى، وكُلُّ هَذَا دالٌّ أنَّه تكلَّمَ حقيقةً لا مجازًا، فاتَّضح بما ذكرناه أنَّ اللَّهَ يتكلَّمُ حقيقةً، وأمَّا مَن ادَّعى المجازَ بعدَ هَذَا البيانِ فقد شاقَّ اللَّهَ ورسولَه والمؤمنين، فالقرآنُ كلامُ اللَّهِ حُروفُه ومعانيه، هَذَا قولُ السَّلَفِ.
وفي قولِه: (حقيقةً) رَدٌّ على مَن زعم أنَّ كلامَه -سُبْحَانَهُ- معنى واحدٌ قام بذاتِ الباري لم يُسمَعْ منه، وإنَّما هُوَ الكلامُ النَّفْسانِيُّ ولم يتكلَّمْ بِهِ حقيقةً؛ لأنْ لا يُقالَ لمَن قامَ بِهِ الكلامُ النَّفْسانيُّ ولم يَتكلَّمْ بِهِ إنَّ هَذَا كلامٌ حقيقةً، وإلاَّ يلْزَمُ أنْ يكونَ الأخرسُ متكلِّما، ولَزِمَ أنْ لا يكونَ الذي في المصحَفِ عندَ الإطلاقِ هُوَ القرآنُ، ولا كلامُ اللَّهِ، ولكنَّه عبارةٌ عنه، ليست كلامَ اللَّهِ، كما لو أشار إلى شخصٍ بإشارةٍ مفهومةٍ فكَتَب ذَلِكَ الشَّخصُ عبارةً عن المعنى الذي أَوحاهُ إليه ذَلِكَ الأخرسُ، فالمكتوبُ هُوَ عبارةُ ذَلِكَ الشَّخصِ عن ذَلِكَ المعنى، فعندهم أنَّ المَلَكَ فَهِمَ منه معنى قائِماً بنَفْسِه، لم يَسمَعْ منه حرفاً ولا صوتاً، بل فَهِمَ معنًى مجرَّدا ثم عبَّرَ عنه، فهُوَ الذي أحْدَثَ نَظْمَ القرآنِ وتأليفَه، وقد تَقدَّمَ الكلامُ في الرَّدِّ على مَن زَعَم أنَّ كلامَ اللَّهِ المعنى النَّفْسيُّ، وأنَّ الشَّيخَ تقيَّ الدِّينِ ردَّ ذَلِكَ مِن تِسعين وجهًا، كُلُّ واحدٍ يَدلُّ على بطلانِه بأدلَّةٍ نَقْلِيَّةٍ وعقليَّةٍ، وقال ابنُ القيِّمِ في (النُّونيَّةِ)

تِسعونَ وَجْهًا بَيَّنَتْ بُطلانَه أَعْنِي كلامَ النَّفْسِ ذا البُطلانِ


(148) قولُه: (وأنَّ هَذَا القرآنَ) إلخ، قال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ) الآيةَ. وقال: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) وقال: (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ) والأدلَّةُ على إثباتِ صفةِ الكلامِ كثيرةٌ لا تَنحصِرُ، والوصفُ بالتكلُّمِ مِن أوصافِ الكمالِ، وضِدُّهُ مِن أوصافِ النَّقْصِ، قال تعالى: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) الآيةَ. فعُلمَ أنَّ عَدمَ التَّكلُّم نقصٌ يُستدلُّ بِهِ على عَدمِ ألوهيةِ العِجلِ.
قال البخاريُّ في صحيحِه: ((بابُ كلامِ الرَّبِّ تبارَك وتعالى مع أهلِ الجَنَّةِ)) وساقَ فيه عدَّةَ أحاديثَ، فأفضلُ نعيمِ الجَنَّةِ رُؤيةُ وجْهِه -سُبْحَانَهُ- وتكليمُه، وكم في الكِتابِ والسُّنَّةِ مِن دليلٍ على تكلُّمِ اللَّهِ لأهلِ الجَنَّةِ وغيرِهم، قال تعالى: (سَلاَمٌ قَوْلاً مَّن رَّبَّ رَّحِيمٍ) وعن جابرٍ -رضي اللَّهُ عنه- قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((بَيْنَمَا أَهْلُ الجَنَّة فِي نَعِيمِهِمْ إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ فَرَفَعُوا أَبْصَارَهُمْ فَإِذَا الرَّبُّ -جَلَّ جَلاَلُهُ- قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الجَنَّةِ)). وهُوَ قولُه -سُبْحَانَهُ-: (سَلاَمٌ قَوْلاً مَّن رَّبَّ رَّحِيمٍ) الحديثَ، ويأتي إنْ شاءَ اللَّهُ.
ققولُه: (ولا يجوزُ إطلاقُ القولِ بأنَّه حكايةٌ عن كلامِ اللَّهِ أو عبارةٌ) كما تقولُه الأشاعرةُ والكلابيَّةُ، فالأشاعرةُ يقولون: إنَّ هَذَا الموجودَ المقروءَ عبارةٌ عن كلامِ اللَّهِ، والكلابيَّةُ يقولون: حكايةٌ عن كلامِ اللَّهِ، وبعضُ هؤلاء يقولُ: الخلافُ لفظيٌّ لا طائلَ تحتَه، فالأشاعرةُ والكلابيَّةُ يقولون: القرآنُ نوعانِ ألفاظٌ ومعاني، فالألفاظُ مخلوقةٌ وَهِيَ هَذِهِ الألفاظُ الموجودةُ، والمعاني قديمةٌ قائمةٌ بالنَّفْسِ، وَهِيَ معنى واحدٌ لا تَبَعُّضَ فيه ولا تَعدُّدَ، إنْ عُبِّرَ عنه بالعربيَّةِ كان قرآنا، وإنْ عُبِّرَ عنه بالعبرانيَّةِ كان توراةً، أو بالسُّرْيانيَّةِ كان إنجيلاً، وهَذَا القولُ تصوُّرُهُ كافٍ بمعرفةِ بُطلانِه، وليس لهم دليلٌ ولا شبهةٌ إلا بيتٌ يُنسَبُ للأخطلِ النَّصرانيِّ وهُوَ قولُه:

إنَّ الكلامَ لَفِي الفُؤادِ وإنَّما جُعِلَ اللِّسانُ على الفؤادِ دَليلا

وهَذَا البيتُ إنْ ثَبَتَ فمعناه: إنَّ الكلامَ يَخرجُ مِن القلبِ ويُعَبِّرُ عنه اللِّسانُ، وأمَّا الكلامُ الذي في اللِّسانِ فقط فهُوَ يُشبِهُ كلامَ النائمِ والهاذي ونحوِهما، وأدلَّةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ تَرُدُّ هَذَا القولَ، والذي يَعقلُه العقلاءُ أنَّ الكلامَ صفةُ المتكلِّمِ المسموعِ منه، وأنَّ ما في النَّفْسِ لا يُسمَّى كلامًا بوجهٍ مِن الوجوهِ، كما في حديثِ: ((عُفِيَ لأُمَّتِي عَنِ الخَطَأِ، وَالنِّسْيَانِ، وَمَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لم تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَتَكَلَّمْ)) فهَذَا صريحٌ بأنَّ ما حَدَّثَتْ بِهِ أنْفُسَها ليس بكلامٍ.
إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأدلَّةِ الدَّالَّةِ على بطلانِه، وأيضًا فإنَّ الحكايةَ تُماثِلُ المَحْكِيَّ، فمَن قال: إنَّ القرآنَ حكايةُ كلامِ اللَّهِ بهَذَا المعنى فقد ضَلَّ ضلالاً مُبِينًا، فإنَّ القرآنَ لا يَقدِرُ أحدٌ على أنْ يأتيَ بمِثلِه، ولا يَقدِرُ أحدٌ أنْ يأتيَ بما يَحكِيه، وأوَّلُ مَن قال إنَّه حكايةٌ عن كلامِ اللَّهِ عبدُ اللَّهِ بنُ سعيدِ بنِ كِلابٍ. وأمَّا القولُ: بأنَّه عبارةٌ عن كلامِ اللَّهِ كما هُوَ قولُ الأشاعرةِ فإنَّه يَلزَمُ عليه أنَّ كُلَّ تالٍ مُعبِّرا عمَّا في نَفْسِ اللَّهِ، والمعبِّرُ عن غيرِه هُوَ المُنْشِئ للعبارةِ، فيكونُ كُلُّ قارئٍ هُوَ المُنْشِئُ لعبارةِ القرآنِ، وهَذَا معلومُ الفسادِ بالضَّرورةِ.
قال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في "الصَّواعقِ" وهَذَا المذهبُ مبنيٌّ على مسألةِ إنكارِ قيامِ الأفعالِ الاختياريَّةِ باللَّهِ، ويُسمُّونَها مسألةَ حلولِ الحوادثِ، وحقيقتُها إنكارُ أفعالِه -سبحانَهُ وتعالَى- ورُبُوبِيَّتِه ومَشيئَتِه. انتهى. وأوَّلُ مَن قال بالعبارةِ هُوَ الأشعريٌّ، وهُوَ قولٌ باطلٌ كالقولِ بالحكايةِ، فإنَّ الأدلَّةَ دلَّتْ على أنَّ القرآنَ لفظُه ومعناه كلامُ اللَّهِ.
وأمَّا القولُ بأنَّ القرآنَ عبارةٌ عن كلامِ اللَّهِ أو حكايةٌ فهُوَ قولٌ مبتدَعٌ باطلٌ تَردُّهُ الأدلَّةُ، ولم يَقُلْ أحدٌ مِن السَّلَفِ بِذَلِكَ. قال الإمامُ أحمدُ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: القرآنُ كَيْفَ تُصُرِّفَ فيه، فهُوَ غيرُ مخلوقٍ ولا نرى القولَ بالحكايةِ والعبارةِ، وغَلَّطَ مَن قال بهما وجَهَّلَه، وقال: هَذِهِ بدعةٌ لم يَقُلْ بها السَّلَفُ.
قال الحافظُ ابنُ حجَرٍ العسقلانيُّ في "الفتحِ" المنقولُ عن السَّلَفِ اتِّفاقُهم على أنَّ القرآنَ كلامُ اللَّهِ غيرُ مخلوقٍ، تَلقَّاهُ جبريلُ عن اللَّهِ وبلَّغهُ جبريلُ إلى مُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وبلَّغَه مُحَمَّدٌ إلى أُمَّتِه، انتهى. قال اللَّهُ -سُبْحَانَهُ-: (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ) ولم يَقُلْ ما هُوَ عبارةٌ عن كلامِ اللَّهِ والأصلُ الحقيقةُ، ومَن قال إنَّ المكتوبَ في الصُّحفِ عبارةٌ عن كلامِ اللَّهِ أو حكايةٌ عن كلامِ اللَّهِ وليس فيها كلامُ اللَّهِ، فقد خالَفَ الكِتابَ والسُّنَّةَ وسلَفَ الأمَّةِ، وكفى بِذَلِكَ ضلالاً. قال ابنُ القيِّمِ في (النُّونيَّةِ)

زَعَمُوا القُرآنَ عبارةً وحكايةً قُلنا كما زَعَموه قرآنانِ


هَذَا الذي نَتلُوه مخلوقٌ كما قال الوليدُ وبعدَه الفِئَتانِ


والآخرُ المعنى القديمُ فقائمٌ بالنَّفسِ لم يُسمعْ مِن الدَّيَّانِ


ودَليلُهم في ذَاكَ بيتٌ قالَه فيما يُقالُ الأخطلُ النَّصراني.

ولو كان ما في المصحفِ عبارةً عن كلامِ اللَّهِ، وليس هُوَ كلامَ اللَّهِ لِمَا حُرِّمَ على الجُنُبِ والمُحْدِثِ مَسُّهُ؟ ولو كان ما يَقرأُ القارئُ ليس هُوَ كلامَ اللَّهِ لَمَا حُرِّمَ على الجُنُبِ؟ بل القرآنُ كلامُ اللَّهِ محفوظٌ في الصُّدورِ، ومقروءٌ بالألسُنِ، مكتوبٌ في المصاحِفِ كما قال أبو حنيفةَ في "الفِقهِ الأكبرِ" وغيرُه: وهُوَ في هَذِهِ المواضِع كُلِّها حقيقةٌ لا يَصِحُّ نفيُه، والمجازُ يَصِحُّ نفْيُه، فلا يجوزُ أنْ يُقالَ ليس في المصحفِ كلامُ اللَّهِ ولا ما قَرأَ القارئُ كلامَ اللَّهِ.

(149) قولُه: (بل إذا قرأه النَّاسُ) إلخ. قال تعالى: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ)، وقال تعالى: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ) وقال تعالى: (يَتْلُو صُحُفًا مَّطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) وفي حديثِ ابنِ عمرَ قال: نَهى رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أنْ يُسافَرَ بالقرآنِ إلى أرضِ العدوِّ مخافةَ أنْ يُنالَ بِسُوءٍ، وهَذَا الحديثُ رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ، إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأدلَّةِ الدَّالَّةِ على أنَّ القرآنَ كلامُ اللَّهِ حقاًّ حَيْثُ تَلاهُ التَّالُونَ أو حَفِظَهُ الحافِظون أو كتَبَه الكاتِبونَ، وهُوَ المعجزةُ بلَفْظِه ومعناه.
قولُه: (فانَّ الكلامَ إنما يُضافُ) إلخ. قال تعالى: (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ) أي: مِن مُبَلِّغِه، فسماعُ كلامِ الرَّبِ وغيرِه يَنقسِمُ إلى قسمَيْنِ: مُطلَقٌ ومَقيَّدٌ. فالمُطلَقُ ما كان بغيرِ واسطةٍ، كما سَمِعَ موسى بنُ عِمرانَ كلامَ الرَّبِّ، وكما يَسمعُ جبريلُ وغيرُه كلامَه -سُبْحَانَهُ- وتكلِيمَه، ومنه قولُ الرَّسولِ: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ)).
وأمَّا المُقيَّدُ: فالسَّمعُ بواسطةِ المبلِّغِ كسَماعِ الصَّحابةِ، وسماعِنا لكلامِ اللَّهِ حقيقةً بواسطةِ المبلِّغِ عنه، ومنه قولُه: (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ) وكما في الحديثِ المتقدِّمِ أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((أَلاَ رَجُلٌ يَحْمِلُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ كَلامَ رَبِّي)) وكما قال أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ لَمَّا خَرجَ على قريشٍ فقرأَ: (الـم * غُلِبَتِ الرُّومُ) الآيةَ، فقالوا: هَذَا كلامُكَ أو كلامُ صاحبِكَ، فقال: ليس بكلامِي ولا بكلامِ صاحِبي، وإنما هُوَ كلامُ اللَّهِ، فبَيَّنَ أنَّ ما يُبلِّغُه ويتلوهُ هُوَ كلامُ اللَّهِ، وإنْ كان يبلِّغُه بأفعالِه وصَوتِه، والنَّاسُ إذا سمعوا مَن يروي قصيدةً أو كلاماً أو قرآناً قالوا: هَذَا كلامُ فلانٍ.

(150) قولُه: (وهُوَ كلامُ اللَّهِ) لأنَّه هُوَ الذي ألَّفَه وأنشأَهُ، وأمَّا قولُه: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) الآيةَ، فإضافَتُه إليه إضافةُ تبليغٍ لا إضافةُ إنشاءٍ وابتداءٍ، فإنَّه قال: قولُ رَسولٍ، ولم يَقُلْ: قَولُ مَلَكٍ ولا نَبيٍّ، فإنَّ الرَّسولَ يُبلِّغُ كلامَ مُرسِلِه، وأيضًا فقولُه: أمينٌ دليلٌ على أنَّه لا يَزيدُ ولا يُنقِصُ، بل هُوَ أمينٌ على ما أُرِسلَ بِهِ يبلِّغُه عن مُرسِلِه، وأيضًا فإنَّ اللَّهَ كفَّرَ مَن جعَلَه قولَ البَشَرِ، ومُحَمَّدٌ بَشرٌ، فمَن جعَلَه قولَ مُحَمَّدٍ بمعنى أنَّ مُحَمَّداً أو غيرَه أنشأَهُ فقد كفَرَ، وما ذَكَرَ اللَّهُ في القرآنِ عن موسى -عليه السَّلامُ- وغيرِه وعن فرعونَ وإبليسَ، فإنَّ ذَلِكَ الكلامَ كلامُ اللَّهِ إخباراً عنهم، وكلامُ موسى وغيرِه مِن المخلوقينَ مخلوقٌ، والقرآنُ كلامُ اللَّهِ لا كلامُهم.
قولُه: (وهُوَ كلامُ اللَّهِ حُروفُه ومعانِيه) ليس شَيْءٌ مِنه كلاماً لغيرِه، لا لجبريلَ، ولا لمُحَمَّدٍ، ولا لغيرِهما، بل قد كفَّرَ اللَّهُ مَن جعَلَه قولَ البَشرِ، ولم يَقُلْ أحدٌ مِن السَّلَفِ إنَّ جبريلَ أَحْدَثَ ألفاظَه، ولا مُحَمَّدٌ، ولا أنَّ اللَّهَ خلَقَها في الهواءِ أو غيرِه مِن المخلوقاتِ، ولا أنَّ جبريلَ أخَذَها مِن اللَّوحِ المحفوظِ إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأقوالِ المبتدَعةِ، بل أهلُ السُّنَّةِ يقولون: إنَّ القرآنَ عينُ كلامِ اللَّهِ، حُروفُه ومعانِيهِ، ليس كلامُ اللَّهِ الحروفَ دُونَ المعاني، ولا المعاني دُونَ الحروفِ، عَكْسُ ما عليه أهلُ البِدَعِ مِن المعتزِلةِ والأشاعرةِ والكلابِيَّةِ وغيرِهم؛ لأنَّ كلامَ المتكلِّم هُوَ عبارةٌ عن ألفاظِه ومعانيه، وعامَّةُ ما يُوجَدُ في الكِتابِ والسُّنَّةِ وكلامِ السَّلَفِ فإنَّه عندَ إطلاقِه يَتناوَلُ اللَّفظَ والمعنى جميعًا لِشُمولِه لهما، فلفظُ القولِ والكلامِ وما تَصرَّفَ منهما مِن فِعلٍ ماضٍ ومضارعٍ وأمْرٍ ونحوِ ذَلِكَ إنَّما يُعرَفُ في القرآنِ وسائرِ كلامِ العربِ إذا كان لَفظًا ومعنًى.
قالَ الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: والصَّوابُ الذي عليه السَّلَفُ والأئمَّةُ: أنَّ الكلامَ حقيقةٌ في اللَّفظِ والمعنى، كما أنَّ الإنسانَ حقيقةٌ في البَدنِ والرُّوحِ، فالنِّزاعُ في النَّاطِقِ كالنِّزاعِ في مَنطِقِه. انتهى. والدَّليلُ على أنَّه حروفٌ حديثُ ابنِ مسعودٍ أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((مَنْ قَرَأَ الْقُرَآنَ فَأَعْرَبَهُ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ)) وقال النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((اقْرَؤوا القرآنَ قَبلَ أَنْ يَأْتِيَ قَوْمٌ يُقِيمُونَ حُرُوفَهُ إِقَامَةَ السَّهْمِ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يَتَعَجَّلُونَ آخِرَهُ وَلاَ يَتَأَجَّلُونَهُ)) رواهُ بنحوِه أحمدُ، وأبو داودَ، والبيهقيُّ في "سُننِه" والضياءُ المقدسيُّ في "المختارةِ عن جابرٍ" وقال أبو بكرٍ وعمرُ -رضي اللَّهُ عنهما-: إعرابُ القرآنِ أحبُّ إلينا مِن حِفظِ بعضِ حُروفِه، وقال عليٌّ -رضي اللَّهُ عنه-: مَن كفَرَ بحرفٍ منه فقد كفَرَ بِهِ كُلِّهِ، واتَّفقَ المسلمونُ على عددِ سُورِ القُرآنِ وآياتِه وكلماتِه وحروفِه، ولا خلافَ بين المسلِمِينَ في أنَّ مَن جحَدَ مِن القرآنِ سورةً أو آيةً أو كلمةً أو حرفاً، مُتَّفَقٌ عليه أنَّه كافرٌ، وفي هَذَا حُجَّةٌ قاطعةٌ على أنَّه حروفٌ. انتهى.

(151) قولُه: (ليس كلامُ اللَّهِ الحروفُ) إلخ. فالقرآنُ كلامُ اللَّهِ، حروفُه ومعانِيه، ليس كلامُ اللَّهِ الحُروفَ دُون المعاني كما يقولُه بعضُ المعتزِلَةِ، ولا المعاني فقط دُونَ الحروفِ، كما هُوَ قولُ الأشاعرةِ ومَن شابَهَهُم، وكِلا القولَيْنِ باطلٌ مخالفٌ للكتابِ والسُّنَّةِ وما عليه سَلَفُ الأُمَّةِ، فإنَّ الأدلَّةَ دَلَّتْ على أنَّ القرآنَ العزيزَ الذي هُوَ سُوَرٌ وآياتٌ وحروفٌ وكلماتٌ عَينُ كلامِه -سُبْحَانَهُ- لا تَألِيفَ مَلَكٍ ولا بَشَرٍ، وأنَّ القرآنَ جميعَه حروفَه ومَعانِيَهُ نَفْسُ كلامِه، والذي تكلَّمَ به، وليس بمخلوقٍ ولا بعضِه قديمٌ وهُوَ المعنى وبعضُه مخلوقٌ وهُوَ الكلماتُ والحروفُ، بل القرآنُ جميعُه حروفُه ومعانِيه تكلَّمَ اللَّهُ بِهِ حقيقةً، والقرآنُ اسمٌ لهَذَا النَّظْمِ العربيِّ الذي بلَّغَه الرَّسولُ عن جبريلَ عن رَبِّ العالَمِين، قال تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) وإنَّما يَقرأُ القرآنَ العربيَّ لا يَقرأُ معانيَه المحدَّدَةَ، وقال تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) الآيةَ، فأَبْطلَ -سُبْحَانَهُ- قولَ الكفَّارِ بأنَّ لسانَ الذي يُلْحِدونَ إليه أعجميٌّ والقرآنُ لسانٌ عربيٌّ مُبِينٌ، فلو كان الكفارُ قالوا يعلِّمُه معانِيه فقط لم يكُنْ هَذَا رداًّ لقولِهم، فإنَّ الإنسانَ قد يتعلمُ من الأعجميِّ شيئاً بِلُغةِ ذلك العجميِّ ويُعبِّرُ عنه بِعباراتِهِ، وإذا كان الكفَّارُ جعلوا الذي يُعلِّمُه بَشرٌ؛ فأبطلَ اللَّهُ ذَلِكَ بأنَّ لسانَ ذَلِكَ أعجميٌّ، وهَذَا لسانٌ عربيٌّ مُبِينٌ على أنَّ رُوحَ القُدُسِ نَزَلَ باللِّسانِ العربيِّ المُبِينِ وأنَّ محمَّداً لم يؤَلِّفْ نَظْمَ القرآنِ، بل سَمِعَه مِن رُوحِ القُدُسِ، وإذا كان رُوحُ القُدُسِ نَزَلَ مِن اللَّهِ عُلِمَ أنَّه سَمِعَه ولم يؤَلِّفْه هو. انتهى.

(152) فصلٌ: قولُه: (وقد دخَلَ فيما ذكرناه) إلخ. أي قد دَخلَ في الإيمانِ باللَّهِ وبكتُبِه وملائكِتِه ورُسلِه الإيمانُ بأنَّ المؤمنينَ يَرَوْنَه -سُبْحَانَهُ- يومَ القيامةِ، فمَن لم يُؤمِنْ بأنَّه -سُبْحَانَهُ- يُرى يومَ القيامةِ فقد ردَّ أدلَّةَ الكِتابِ والسُّنَّةِ، وخالَفَ ما عليه سَلَفُ الأمَّةِ وأئمَّتُها، ولم يؤمِنْ باللَّهِ وملائكتِه وكتُبِه ورُسلِه.
قال أحمدُ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: مَن لم يَقُلْ بالرُّؤيةِ فهُوَ جهميٌّ، وقال أبو داودَ: سمعتُ الإمامَ أحمدَ -رَحِمَهُ اللَّهُ- يقولُ: مَن قال: إنَّ اللَّهَ لا يُرى في الآخرةِ فهُوَ كافرٌ، وقال: مَن زَعَم أنَّ اللَّهَ لا يُرى في الآخرةِ فقد كفَرَ باللَّهِ وكذَّبَ بالقرآنِ، وردَّ على اللَّهِ أمْرَه يُستتابُ، فإنْ تابَ وإلاَّ قُتِلَ، وقال ابنُ خزيمةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: إنَّ المؤمنينَ يَرَوْنَ ربَّهم خالَقهم يومَ المَعادِ، ومَن أَنكَرَ ذَلِكَ فليس بمؤمنٍ عندَ المؤمنين.
وقال ابنُ القيِّم -رَحِمَهُ اللَّهُ-: دلَّ الكِتابُ والسُّنَّةُ المتواتِرةُ وإجماعُ الصَّحابةِ وأئمَّةِ أهلِ الإسلامِ والحديثِ على أنَّ اللَّهَ يُرى يومَ القيامةِ بالأبصارِ عِياناً كما يُرى القمرُ ليلةَ البدْرِ، وكما تُرى الشَّمسُ صَحْوًا، فإنْ كان لِمَا أخبَرَ اللَّهُ بِهِ ورسولُه حقيقةً – وأنَّ له واللَّهِ حقُّ الحقيقةِ – فلا يُمْكِنُ أنْ يَرَوْهُ إلاَّ مِن فَوقِها لاستحالةِ أنْ يَرَوْهُ مِن أسفلَ منهم أو وراءَهم أو قُدَّامَهم ونحوُ ذَلِكَ، ولا يجتمعُ في قلبِ عبدٍ اطَّلعَ على هَذِهِ الأحاديثِ وفَهِمَ معناها إنكارُها والشَّهادةُ بأنَّ محمَّداً رسولُ اللَّهِ أبدًا، ا.هـ.
قولُه: (بأنَّ المؤمنينَ يَرَوْنَه) كما تواترتْ بِذَلِكَ الأدِلَّةُ، وهَذَا بخلافِ الكفارِ، فإنَّهم لا يَرَوْنَه –سُبْحَانَهُ- قال تعالى: (كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبَّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ) قال الشَّافعيُّ –رَحِمَهُ اللَّهُ-: لمَّا أنْ حُجِبَ هؤلاء في السَّخَطِ كان في هَذَا دَليلٌ على أنَّ أولياءَه يَرَوْنَه في حالِ الرِّضا، قال ابنُ كثيرٍ –رَحِمَهُ اللَّهُ-: وهَذَا الذي قالَه الإمامُ الشَّافِعيُّ في غايةِ الحُسْن، وهُوَ استدلالٌ بمفهومِ هَذِهِ الآيةِ، كما دَلَّ عليه منطوقُ قولِه تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) وكما دَلَّتْ على ذَلِكَ الأحاديثُ المتواتِرةُ في رؤيةِ المؤمنينَ لِربِّهم في الدَّارِ الآخرةِ بالأبصارِ في عَرَصاتِ القيامةِ، وفي رَوضاتِ الجنَّاتِ الفاخِرةِ. ا. هـ.
قولُه: (يومَ القيامةِ) إشارةٌ للرَّدِّ على مَن زَعَم أنَّه –سُبْحَانَهُ- يُرى في الدُّنْيَا، كما يقولُه بعضُ المتَصوِّفةِ، وهَذَا باطلٌ تَردُّه الأدِلَّةُ كما في صحيحِ مسلمٍ مِن حديثِ أبي ذَرٍّ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّه سألَ النَّبيَّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: هل رأى رَبَّهُ؟ فقال: ((نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ)) أيْ: حالتْ بيني وبينَ رؤيَتِه الأنوارُ، وقالتْ عائشةُ -رضي اللَّهُ عنها: مَنْ حدَّثَكَ أنَّ محمَّدا رأى ربَّه فقد كَذَبَ، وفي صحيحِ مسلمٍ مرفوعًا: ((وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَرَوْ رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا)) وقال الشَّيخُ تقيُّ الدِّين -رَحِمَهُ اللَّهُ-: أهلُ السُّنَّةِ متَّفِقونَ على أنَّ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ- لا يَراهُ أحدٌ بعينهِ في الدُّنْيَا، لا نَبِيٌّ ولا غيرُ نَبِيٍّ، وإنَّما يُروى ذَلِكَ بإسنادٍ موضوعٍ باتِّفاقِ أهلِ المعرفةِ.
قولُه: (عِيانًا بأبصارِهم)، كما في حديثِ جريرٍ وغيرِه، وقولُه: (عِياناً) بكَسْرِ العَينِ مِن قولِكَ: عايَنْتُ الشَّيءَ عِيانا، إذا رأَيْتَه بعينَيْكَ، أيْ: تَرَوْنَه رؤيةً محققَّةً لا خفاءَ فيها، قال ابنُ القَيِّمِ: وقولُه (عيانًا) تحقيقًا للرُّؤيةِ ونَفْيا لتَوهُّمِ المجازِ الذي يَظُنُّه المعطِّلون. ا. هـ.
قولُه: (كما يَرَوْنَ الشَّمَس صَحْوًا) إلخ. كما في الصَّحيحَيْنِ مِن حديثِ أبي هريرةَ أنَّ أناسًا قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، هل نَرى ربَّنا يومَ القيامةِ؟ فقال رسولُ اللَّهِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟)) قالوا: لا يا رسولَ اللَّهِ، قال: ((هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسَ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟)) قالوا: لا، قال: ((فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كذَلِكَ)) وتَقدَّمَ حديثُ جريرٍ، إلى غيرِ هَذِهِ الأحاديثِ التي بَلَغَتْ حَدَّ التَّواتُرِ، والتي يَجزِمُ مَن أحاطَ بها عِلماً أنَّ الرَّسولَ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قالها، فَهِذِهِ الأحاديثُ فيها إثباتُ الرُّؤْيةِ، وَالرَّدُّ على الأشاعرةِ والقائِلينَ بأنَّه -سُبْحَانَهُ- يُرى مِن غيرِ مُواجَهةٍ ومعايَنةٍ.
قال الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وهَذَا قولٌ انفَرَدوا بِهِ دُون سائرِ طوائفِ الأمَّةِ وجمهورِ العُقلاءِ على أنَّ فسادَ هَذَا معلومٌ بالضَّرورةِ.
وقولُه: (صَحْواً) أي: ذاتُ صَحْوٍ، أيْ: انْقْشَعَ عنها الغَيْمُ.
وقولُه: (كما تَرَوْن) إلخ، هَذَا تَشبيهٌ للرُّؤْيَةِ بالرُّؤيةِ، فإنَّ الكافَ حرفُ تشبيهٍ دخَلَ على الرُّؤْيَةِ ولم يُشَبِّه المَرْئيَّ، فإنَّه -سُبْحَانَهُ- لا شَبِيهَ له ولا مَثِيلَ ولا نَظِيرَ.
وقولُه: (لا تُضَارُّونَ في رُؤْيَتِه) قال في النِّهايةِ: يُروى بالتَّشديدِ والتَّخفيفِ، فالتَّشديدُ معناه لا يَنْضَمُّ بعضُكم إلى بعضٍ، وتتزاحَمُون وقتَ النَّظرِ إليه، ويجوزُ ضَمُّ التَّاِء وفتْحُها، ومعنى التَّخفيفِ لا يَنالُكمْ ضَيمٌ في رُؤْيَتِه، فيَراهُ بعضُكم دُونَ بعضٍ، والضَّيْمُ الظُّلمُ، وأمَّا مَن زَعَم أنَّ الخبرَ يدلُّ على أنَّهم يَرَوْنَه لا في جهةٍ، هَذَا تفسيرٌ باطلٌ لم يَقُلْه أحدٌ مِن أئمَّةِ أهلِ العِلمِ، بل هُوَ تفسيرٌ منكَرٌ، فإنَّ الحديثَ يدلُّ صراحةً على أنَّه -سُبْحَانَهُ- يَتجلَّى تجليًا ظاهرًا، فيَرَوْنه كما تُرى الشَّمسُ والقمرُ بلا ضَيمٍ يَلْحقُهم في رُؤيتِه على هَذِهِ الرِّوايةِ، وعلى الرِّوايةِ الأخرى معناه لا يَنْضمُّ بعضُكم إلى بعضٍ، كما يَتضامُّ النَّاسُ عندَ رُؤيةِ الشَّيءِ الخفيِّ كالهلالِ. انتهى مِن كلامِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَةَ.

(153) قولُه: (يَرَوْنَه في عَرَصاتِ القيامةِ) كما في الصَّحيحَيْنِ مِن حديثِ أبي سعيدٍ الخُدريِّ، وأبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنهما-، وفي أفرادِ مسلمٍ عن جابرٍ في حديثِه: ((إنَّ اللَّهَ يَتَجَلَّى لِلْمُؤْمِنِينَ)) يعني في العَرَصاتِ.
قولُه: (العَرَصاتِ) جَمْعُ عَرَصةٍ، وَهِيَ كُلُّ موضعٍ واسعٍ لا بناءَ فيه، وعَرَصةُ الدَّارِ وسَطُها، وعَرَصاتُ القيامةِ مواقِفُ الحسابِ والعَرْضِ وغيرِ ذَلِكَ، ويَرَوْنه بعد دُخولِ الجَنَّةِ، كما في حديثِ جابرٍ -رضي اللَّهُ عنه- قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((بَيْنَا أَهْلُ الجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ فَرَفَعُوا أَبْصَارَهُمْ فَإِذَا الرَّبُّ -جَلَّ جَلاَلُهُ- قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الجَنَّةِ)) وهُوَ قولُ اللَّهِ -سُبْحَانَهُ-: (سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ) فلا يَلتفِتون إلى شيءٍ ممَّا هُم فيه مِن النَّعيمِ ما دامُوا يَنظُرون إليه حتى يَحتجِبَ عنهم، وتَبْقى بركتُه ونُورُه، رواه ابنُ ماجهْ وغيرُه، قال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ففي هَذَا الحديثِ إثباتُ صفةِ الكلامِ، وإثباتُ الرُّؤْيةِ، وإثباتُ العُلُوِّ، والمُعطِّلةُ تُنكِرُ هَذِهِ الثَّلاثةَ وتكفِّرُ القائلَ بها، ا. هـ.
وأمَّا ما استدَلَّ بِهِ المعتزِلةُ وغيرُهم مِن نُفاةِ الرُّؤْيَةِ مِن قولِه –سُبْحَانَهُ وتعالى-: (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)، وقولِه لموسى: (لَنْ تَرَانِي) فالجوابُ: أنَّ الآيةَ الأُولى هي على جوازِ الرُّؤْيَةِ أَدَلُّ منها على امتناعِها، فإنَّ اللَّهَ –سُبْحَانَهُ- إنَّما ذَكَرَها في سياقِ التَّمدُّحِ، ومعلومٌ أنَّ المدحَ إنَّما يكونُ بالأوصافِ الثُّبوتِيَّةِ، وأمَّا العدَمُ المحْضُ فليس بكمالٍ ولا يُمدَحُ به، فلو كان المرادُ بكونِه: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) أنَّه لا يُرى بحالٍ لم يَكُنْ في ذَلِكَ مدحٌ ولا كمالٌ لمُشاركةِ المعدومِ له في ذَلِكَ، فإنَّ العدَمَ الصِّرْفَ لا يُرى ولا تُدرِكُه الأبصارُ، والرَّبُّ –سبحانَهُ وتعالَى- جَلَّ جَلالُهُ- يتعالى أنْ يُمدَحَ بما يُشارِكُه فيه العَدمُ المحضُ، فإذًا المعنى أنَّه يُرى ولا يُدْرَكُ ولا يُحاطُ، فقولُه: (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) يَدلُّ على غايةِ عظمَتِه، وأنَّه أكبرُ مِن كُلِّ شيءٍ، وأنَّه لعظَمَتِه لا يُدْرَكُ بحَيْثُ يُحاطُ به، فإنَّ الإدْراكَ هُوَ الإحاطةُ بالشيءِ، وهُوَ قَدْرٌ زائدٌ على الرُّؤْيَةِ، كما قال تعالى: (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ) فلَمْ يَنْفِ موسى الرُّؤْيَةَ، ولم يُريدوا بقولِهم: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) إنَّا لمرئِيُّونَ، فإنَّ موسى -عليه السَّلامُ- نَفَى إدراكَهُم إيَّاهُم بقولِه: كلاَّ، وأخبَرَ أنَّه لا يخافُ دَركَهُم بقولِه (لاَ تَخَافُ دَرَكًا وَلاَ تَخْشَى) فالرُّؤْيَةُ والإدراكُ كُلٌّ منهما يُوجَدُ مع الآخَرِ وبدُونه، فالرَّبُّ يُرى ولا يُدركُ، كما يُعلمُ ولا يُحاطُ به، وهَذَا الذي فَهِمَه الصَّحابةُ والأئمَّةُ مِن الآيةِ. قال ابنُ عباسٍ: (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) لا تُحيطُ به، وقال قتادةُ: هُوَ أَعْظمُ مِن أنْ تُدرِكَه الأبصارُ. انتهى. مُلخَّصاً، مِن حادى الأرواحِ.
وأجابَ بعضُهم بقولِه: (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) أي: في الدُّنْيَا، وبأنَّ نفْيَ الإدراكِ لا يَستلزِمُ نَفْيَ الرُّؤْيَةِ، لإمكانِ رُؤيةِ الشَّيءِ مِن غيرِ إحاطةٍ بحقيقَتِه، والجوابُ عن الاستدلالِ بقولِه لموسى: (لَنْ تَرَانِي) استدلالٌ فاسدٌ، والآيةُ حُجَّةٌ عليهم، فإنَّها دالَّةٌ على الرُّؤْيَةِ مِن وجوهٍ (أحدُها) أنَّه لا يُظَنُّ بموسى -عليه السَّلامُ- أنْ يسألَ ربَّه مَا لا يجوزُ عليه. (الثَّاني) أنَّه لم يُنكِرْ عليه سؤالَه، ولو كان مُحالاً لأنكَره عليه. (الثَّالثُ) أنَّه أجابَه بقولِه: (لَن تَرَانِي) ولم يَقُلْ إنِّي لا أُرَى، أو لا تَجوزُ رُؤيتي، فهَذَا يدلُّ على أنَّه يُرى ولكنَّ موسى لا تَحتمِلُ قُواه رُؤيتَه في هَذِهِ الدَّارِ لِضَعْفِ قوَّةِ البَشرِ فيها عن رُؤيتِه تعالى، إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الوجوهِ الدَّالَّةِ على أنَّ الآيةَ فيها إثباتُ الرُّؤْيَةِ، وليست دالَّةً على نَفْيِها، كما يقولُه المعتزِلةُ وأشباهُهم في إثباتِ الرُّؤيةِ، هَذَا مع ما جاء من الأحاديث الدَّالَّةِ على إثباتِ الرُّؤْيَةِ، والتي تلقَّاها المسلمون بالقَبولِ مِن لَدُن الصَّحابةِ والتَّابِعينَ، حتى حَدَثَ مَن أَنكَرَ الرُّؤْيَةَ وخَالَفَ السَّلَفَ.

(154) قولُه: (كما يشاءُ اللَّهُ) أي: مِن غيرِ إحاطةٍ ولا تَكييفٍ، كما نَطَقَ بِذَلِكَ الكتابُ وفسَّرَتْه السُّنَّةُ على ما أرادَ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- وعَلِمَه، وكُلُّ ما جاءَ في الكِتابِ والسُّنَّةِ فهُوَ كما قال معناه على ما أراد، ولا نَدخُلُ في ذَلِكَ متأوِّلِيَن بآرائِنا، ولا مُتَوَهِّمِينَ بأهوائِنا، كما قال الإمامُ الشَّافِعيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: آمنتُ باللَّهِ على ما جاءَ مِن عندِ اللَّهِ على مُرادِ اللَّهِ، وآمنتُ برسولِ اللَّهِ وبما جاءَ عن رسولِ اللَّهِ على مُرادِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-.


موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
من, الإيمان

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 09:38 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir