فصلٌ: وأصْلُ صاحِبِ الحالِ التعريفُ([1]) ويقَعُ نَكِرةً بمُسَوِّغٍ([2])؛كأنْ يَتقَدَّمَ عليه الحالُ, نحوَ: "في الدارِ جَالِساً رَجُلٌ", وقولِه:
269- لِمَيَّةَ مُوحِشاً طَلَلُ([3]) أو يَكونَ مَخْصوصاً إمَّا بوصفٍ؛ كقراءةِ بعضِهم: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقاً)([4]) وقولِ الشاعرِ:
270- نَجَّيْتَ يَا رَبِّ نُوحاً وَاسْتَجَبْتَ لَهُ = فِي فُلُكٍ مَاخِرٍ في اليَمِّ مَشْحُوناً([5]) وليسَ منه: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا}([6])؛خلافاً للناظِمِ وابنِه, أو بإضافةٍ نحوَ: {فِي أَرْبَعَةِ أيَّامٍ سَوَاءً}([7]) أو بمعمولٍ نحوُ: "عَجِبْتُ مِن ضَرْبٍ أَخُوكَ شَدِيداً", أو مسبوقاً بنفيٍ نحوَ: {وَمَا أهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ}([8]) أو نَهْيٍ نحوَ:
لا يَبْغِ امْرُؤٌ عَلَى امْرِئٍ مُسْتَسْهِلاً([9]) وقولِه:
271- لا يَرْكَنَنْ أحَدٌ إِلَى الإجْحَامِ = يَوْمَ الوَغَى مُتَخَوِّفاً لحِمَامِ([10]) أو استفهامٍ كقولِه:
272- يَا صَاحِ هَلْ حُمَّ عَيْشٌ بَاقِياً فَتَرَى([11]) وقدْ يقَعُ([12]) نكرةً بغيرِ مُسَوِّغٍ؛ كقولِهم: "عليهِ مِائةٌ بِيضاً"([13]) وفي الحديثِ: "وَصَلَّى وَرَاءَهُ رِجَالٌ قِياماً"([14]).
([1]) أنت تعلَمُ أنَّ الحالَ تُشْبِهُ الخبرَ وتُشْبِهُ النعْتَ، ولشَبَهِها بالخبرِ كانتْ كالحُكْمِ على صاحبِها، ولشَبَهِها بالنعْتِ تراهم يقولونَ: الحالُ وَصْفٌ لصاحبِها قَيْدٌ في عامِلِها، ومن أجلِ شَبَهِها بالخبرِ التزموا أنْ يكُونَ صاحبُها معرفةً؛ لأنَّها حُكْمٌ عليه، والحُكْمُ على المجهولِ- وهو النَّكِرَةُ- لا يُفِيدُ، كما التزموا ذلك في المبتدأِ معَ الخبرِ لنفسِ هذا السببِ، وشيءٌ آخَرُ اقْتَضَى أنْ تكُونَ الحالُ نَكِرةً وأنْ يكُونَ صَاحِبُها معرفةً؛ وذلك أنَّها لو كانتْ مُماثِلَةً لصاحبِها فكانا مَعْرِفتيْنِ أو كانا نَكِرتيْنِ؛ لتَوَهَّمَ السامِعُ أنَّهما نعتٌ ومنعوتٌ، فالتزموا التخالف بينهما، لينتفي عن ذهن السامع من أول وهلة كونهما صفة وموصوفا، وإنما ينتفي هذا الوهم لأن الصفة والموصوف يجب اتفاقهما تعريفا وتنكيرا، وكان صاحبها هو المعرفة، لأنه كما سمعت محكوم عليه، وكانت هي النكرة لكونها حكما، ولهذا تجد المسوغات التي يذكرها النحاة لمجيء صاحب الحال نكرة المدار فيها على أن تنفي عن السامع توهم كون الحال صفة، انظر مثلا إلى تقدم الحال على صاحبها النكرة فإن السر في هذا هو أنَّ النعتَ لكونِه تابعاً لا يَجوزُ أنْ يَتقَدَّمَ على المنعوتِ، فإذا تَقدَّمَ ما قد يُظَنُّ نَعْتاً, زَالَ بتقدُّمِه هذا التوَهُّمُ لهذا السببِ، وهكذا.
والذي أُرِيدُ أنْ أُنَبِّهَكَ إليهِ هو أنَّ النكرةَ أشدُّ احتياجاً إلى النعتِ منها إلى الحالِ؛ ذلك لأنَّ النعتَ يُخَصِّصُ النكرةَ ويُبَيِّنُها نوعَ بيانٍ، فإذا قُلْتَ: "لَقِيتُ رَجُلاً شُجَاعاً" تَبَادَرَ إلى ذِهْنِ سامِعِكَ أنَّ (شُجاعاً) نعتٌ، فإنْ كُنْتَ بَنَيْتَ كلامَك على أنه حالٌ, فقد أوقعْتَ السامعَ في لَبْسٍ، وإنَّه محظورٌ.
فإنْ قُلْتَ: فأيُّ فرقٍ بينَ أنْ يَعتبِرَ السامعُ (شُجاعاً) نعتاً وأنْ يَعتبِرَه حالاً، وأنتم تَقولونَ: إنَّ الحالَ وَصْفٌ لصاحبِها؟
قُلْتُ: إنَّ بينَهما لَفرقاً عظيماً معَ هذا الذي نَقولُه؛ ذلك لأنَّ الحالَ وَصْفٌ لصاحبِها وقَيْدٌ في عاملِها، فمعنَى المثالِ على أنْ تَعتبِرَ شجاعاً نَعْتاً أنَّ الشجاعةَ وَصْفٌ لرجلٍ في وقتِ اللقاءِ وفي غيرِه، ومعنى هذا المثالِ على أنْ تَعتبِرَ شجاعاً حَالاً أنَّ الشجاعةَ وَصْفٌ له في وَقْتِ اللقاءِ دونَ غيرِه، وشَتَّانَ ما بينَ هذيْنِ المَعنييْنِ.
([2]) من المُسوِّغاتِ: أنْ تكُونَ الحالُ جملةً مَقْرونةً بالواوِ؛ وذلك لأنَّ وُجودَ الواوِ في صدرِ جملةِ الحالِ يَمنَعُ تَوَهُّمَ الجملةِ صِفَةً؛ لأنَّ النعتَ لا يُفصَلُ بينَه وبينَ منعوتِه بالواوِ، نحوُ قولِه تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا}. وقولِ الشاعرِ:
مَضَى زَمَنٌ والنَّاسُ يَسْتَشْفِعُونَ بِي = فَهَلْ لِي إِلَى لَيْلَى الغَدَاةَ شَفِيعُ
وقيلَ: إنَّ مَجِيءَ الحالِ من النكرةِ غيرِ الموصوفِ موقوفٌ على السماعِ، لا يُجاوِزُه, لا فيما ذُكِرَ من المُسَوِّغاتِ, ولا في غيرِه.
([3]) 269-يَحتمِلُ أنْ يكُونَ هذا الشاهدُ نِصْفَ بيتٍ من مجزوءِ الوافرِ، ويَحتمِلُ أنَّه قطعةٌ من بيتٍ من الوافرِ، وقدْ رُوِيَ على هذيْنِ الاحتماليْنِ، فرَوَى سِيبَوَيْهِ بَيْتاً, هذا الشاهدُ صَدْرُه، وعَجُزُه قولُه:
ونَسَبَه إلى كُثَيِّرِ عَزَّةَ، وروَى جماعةٌ بَيْتاً آخرَ, هذا الشاهدُ قِطْعَةٌ منه، وهو بتمامِه:
لِمَيَّةَ مُوحِشاً طَلَلٌ قَدِيمُ = عَفَاهُ كُلُّ أَسْحَمَ مُسْتَدِيمُ
واخْتَلفوا في نسبتِه، فنَسَبَه بعضُهم لكُثَيِّرِ عَزَّةَ، ونَسَبَه آخرونَ إلى ذِي الرُّمَّةِ.
اللغةُ: (مَيَّةَ) اسمُ امرأةٍ (مُوحِشاً) اسمُ فاعلٍ من مصدرِ قولِهم: أَوْحَشَ المَنْزِلُ. إذا خَلاَ من أهْلِه, (الطَّلَلُ) ما بَقِيَ شاخِصاً من آثارِ الديارِ، و "خِلَلُ" – بكسرِ الخاءِ وفتحِ اللامِ– جمعُ خِلَّةٍ – بكسرِ الخاءِ– وهي بِطَانَةٌ تُغْشَى بها أجْفَانُ السُّيوفِ، و"الأسْحَمُ" السَّحَابُ الأسودُ، و"المُستديمُ" الدائِمُ.
الإعرابُ: (لِمَيَّةَ) اللامُ حرفُ جَرٍّ مَبنِيٌّ على الكسرِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ، مَيَّةَ: مجرورٌ باللامِ, وعلامةُ جَرِّه الفتحةُ نِيابةً عن الكسرةِ؛ لأنَّه اسمٌ لا يَنصرِفُ للعلميَّةِ والتأنيثِ، والجارُّ والمجرورُ مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ, خَبرٌ مُقدَّمٌ (مُوحِشاً) حالٌ, يَقولُ العلماءُ: إِنَّ صَاحِبَه هو (طَلَلُ) الآتي، وهذا إنما يَجْرِي على مذهَبِ سِيبَوَيْهِ الذي يُجِيزُ مَجِيءَ الحالِ من المبتدأِ، فأمَّا الجمهورُ الذينَ يَمْنعونَه – بدَعْوَى أنَّ مِن المُقَرَّرِ عندَهم أنَّ العاملَ في الحالِ هو العاملُ في صاحبِها، فإذا كانَ صاحبُها مبتدأً كانَ العاملُ فيه عندَهم الابتداءَ، والابتداءُ عامِلٌ ضعيفٌ، والعامِلُ الضعيفُ لا يَقْوَى على العملِ في شيئيْنِ – فإِنَّهم يَجْعَلونَ صاحِبَ هذا الحالِ هو الضَّمِيرَ المُسْتَكِنَ في الجارِّ والمجرورِ الوَاقِعِ خَبَراً، وهذا الضميرُ عَائِدٌ على الطللِ، والجمهورُ على أنَّ الضميرَ معرفةً, سواءٌ أكانَ ضَمِيرَ غَيْبةٍ, أم كانَ ضَمِيرَ حُضورٍ، وسواءٌ في ضميرِ الغَيْبَةِ أكانَ مَرْجِعُه معرفةً أم نَكِرَةً، فإذا جَعَلْنا صَاحِبَ الحالِ هو الضميرَ المُسْتَكِنَ في الخبرِ, كانَ صاحِبُ الحالِ مَعرفةً عندَ جمهرةِ النحاةِ، فلم يكُنِ البيتُ شاهداً لمجيءِ الحالِ من النكرةِ بمُسَوِّغٍ, كما يَذْكُرُه النحاةُ، والكُوفِيُّونَ يذهَبونَإلى أنَّ ضميرَ الغَيبةِ بحَسَبِ مَرْجِعِه، فإنْ كانَ مَرجِعُه نَكِرَةً فهو نَكِرَةٌ، وإنْ كانَ مَرْجِعُه معرفةً فهو مَعْرِفَةٌ، وقدْ بَيَّنتُ هذه المذاهِبَ ههنا لِمَا سأذْكُرُه لكَ في بيانِ الاستشهادِ بالبيتِ.
(طَلَلُ) مبتدأٌ مُؤخَّرٌ مرفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ, "يَلُوحُ" فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ؛ لتَجَرُّدِه من الناصبِ والجازِمِ وعلامةُ رفعِه الضمَّةُ الظاهرةُ, وفاعِلُه ضميرٌ مُستتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه: هو, يعودُ إلى "طَلَلُ"، وجملةُ الفعلِ المضارعِ وفاعلِه في مَحلِّ رفعٍ, صِفَةٌ لـ"طَلَلُ","كأنَّه" كأنَّ: حَرْفُ تشبيهٍ ونَصْبٍ، وضميرُ الغَيْبَةِ العائِدِ إلى الطَّلَلِ اسمُ كأنَّ، مَبنِيٌّ على الضمِّ في مَحَلِّ نصبٍ, (خِلَلُ) خَبَرُ كأنَّ مرفوعٌ وعلامةُ رفعِه الضمَّةُ الظاهرةُ، والجملةُ مِن "كأنَّ" واسمِه وخَبَرِه في مَحلِّ نَصْبٍ, حالٌ من الضميرِ المُستتِرِ في "يَلُوحُ", الذي هو فَاعِلُه.
الشاهدُ فيه قولُه: (مُوحِشاً). فإنَّه حالٌ من قولِه: (طَلَلُ). وهو نَكِرَةٌ، والذي سَوَّغَ مَجِيءَ الحالِ من النَّكِرَةِ تَقدُّمُه عليها، وأمَّا في البيتِ الآخرِ فالمُسَوِّغُ غيرُ قاصرٍ على التقَدُّمِ، بل الوَصْفُ بقولِه: "قَدِيمُ". وبالجملةِ التي بعدَه.
قالَ أبو رجاءٍ عَفَا اللهُ عنه: هكذا قَالُوا، وفي كلامِهم قُصورٌ من وجهيْنِ:
الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّه لا يَتأتَّى الاستشهادُ بهذا البيتِ إلاَّ على أحدِ قَوْلَيْنِ:
أَوَّلُهما: قولُ سِيبَوَيْهِ: إِنَّ مَجِيءَ الحالِمن المبتدأِ جَائِزٌ، وثانيهما: قولُ الكُوفِيِّينَ: إنَّ الضميرَ الذي يَعودُ إلى النكرةِ نَكِرَةٌ مثلُها، فأمَّا على قولِ جمهورِ البصْرِيِّينَ: إنَّ الحالَ في مثلِ هذا البيتِ مِن الضميرِ المُستَكِنِ في الخبرِ, وإنَّ هذا الضميرَ مَعْرِفَةٌ, ولو أنَّ مَرْجِعَه – وهو المبتدأُ– نَكِرَةٌ؛ فإنَّه لا يَصِحُّ الاستشهادُ بهذا البيتِ.
الوَجْهُ الثاني: أنَّ النكرةَ– وهي (طَلَلُ) – في بيتِ سِيبَوَيْهِ موصوفةٌ بجملةِ"يَلُوحُ ... إلخ. فلَنا أنْ نَدَّعِيَ أنَّ المُسَوِّغَ هنا وَصْفُ النكرةِ، لا تَقَدُّمُ الحالِ عليها.
([4]) سورة البقرةِ، الآية: 101، والاستشهادُ بالآيةِ الكريمةِ مَبنِيٌّ على تقديرِ الجارِّ والمجرورِ مُتعَلِّقاً بمحذوفٍ صِفَةٌ لـ{كِتَابٌ}، فإنْ قدَّرْتَ الجارَّ والمجرورَ مُتعَلِّقاً بـ{جَاءَ}, كانَ {مُصَدِّقاً} حالاً من الضميرِ المُستكِنِ في الجارِّ والمجرورِ إنْ كانَ فيه ضَمِيرٌ حينَئذٍ، ويَجوزُ أيضاً على تقديرِ كَوْنِ الجارِّ والمجرورِ نَعْتاً لـ{كِتَابٌ} أنْ يكُونَ (مُصَدِّقاً) حَالاً من الضميرِ المُستَكِنِ في الجارِّ والمجرورِ, وعلى ذلك لا يَكونُ في الآيةِ شَاهِدٌ للمسألةِ، وهذهِ القراءةِ التي استشهَدَ المُؤلِّفُ بها شَاذَّةٌ.
([5]) 270-لم أقِفْ لهذا البيتِ على نِسْبَةٍ إلى قائِلٍ مُعيَّنٍ، وقدْ روَى شُرَّاحُ الشواهدِ بعدَ هذا البيتِ قولَه:
وعَاشَ يَدْعُو بآيَاتٍ مُبَيِّنةٍ = في قَوْمِهِ ألفِ عامٍ غَيْرَ خَمْسِينَا
ومنه تَتأكَّدُ أنَّ الروايةَ بنصْبِ قولِه: (مَشْحُوناً). الذي هو مَحَلُّ الشاهدِ في البيتِ.
اللغةُ: (نَجَّيْتَ) بتضعيفِ الجيمِ– أنقَذْتَ وخَلَّصْتَ, (نُوحاً) هو أبو البَشَرِ الثاني بعدَ آدَمَ، وهو نَبِيٌّ ورسولٌ مِن أنبياءِ اللهِ تعالى ورُسُلِه إلى خَلْقِه، وقالَ بعضُ العلماءِ: إِنَّ هذا الاسْمَ عَرَبِيٌّ مُشُتَقٌّ من النَّوْحِ وهو البُكاءُ, (اسْتَجَبْتَ له) قَبِلْتَ دُعاءَه وأجَبْتَه إلى ما طَلَبَه, (فُلُكٍ) بضَمِّ الفاءِ واللامِ جَمِيعاً– السفينةُ، ويُقالُ أيضاً فيهِ: فُلْكٍ – بزِنَةِ قُفْلٍ – وجمعُه فُلْكٌ, بضَمِّ الفاءِ وسكونِ اللامِ, مثلُ المُفْرَدِ في اللغةِ الثانيةِ, فيَسْتَوِي الواحدُ والجمْعُ في اللفظِ، فيُقَدَّرُ المُستعمَلُ في المفردِ بزِنَةِ قُفْلٍ, والمُستعمَلُ في الجمْعِ بزِنَةِ حُمْرٍ, (مَاخِرٍ) هو اسمُ الفاعلِ من قولِكَ: (مَخَرَتِ السَّفِينةُ): إذا شقَّتِ الماءَ فسَمِعْتَ لها صَوْتاً, (اليَمِّ) الماءُ.
الإعرابُ: (نَجَّيْتَ) فعلٌ وفاعلٌ, (يا) حرْفُ نداءٍ، مَبنِيٌّ على السُّكونِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ، رَبِّ: مُنادَى منصوبٌ بفتحةٍ مُقدَّرَةٍ على آخرِه منَعَ من ظُهورِها اشتغالُ المَحلِّ بحَرَكةِ المناسبةِ، وهو مُضافٌ, وياءُ المُتكلِّمِ المحذوفةُ اكتفاءً بكسرِ ما قبلَها مضافٌ إليه, (نُوحاً) مفعولٌ بهِ لنَجَّى منصوبٌ, وعلامةُ نصبِه الفتحةُ الظاهرةُ, (واسْتَجَبتَ) الواوُ حرفُ عطفٍ، واستجابَ: فعلٌ ماضٍ مَبنِيٌّ على فتحٍ مُقدَّرٍ لا مَحلَّ له من الإعرابِ، وتاءُ الخطابِ فَاعِلُه, (له) جارٌّ ومجرورٌ مُتعلِّقٌ باستجابَ, (في فُلُكٍ) جارٌّ ومجرورٌ مُتعلِّقٌ بنَجَّى, (مَاخِرٍ) صِفَةٌ لفُلُكٍ مجرورةٌ بالكسرةِ الظاهرةِ, (في اليَمِّ) جارٌّ ومجرورٌ مُتعلِّقٌ بمَاخِرٍ, (مَشْحُوناً) حالٌ من فُلُكٍ.
الشاهدُ فيه قولُه: (مَشْحوناً). فإنَّه حالٌ من النكرةِالتي هي فُلُكٌ، والذي سَوَّغَ مَجِيءَ الحالِ من النكرةِ هنا أنَّ هذه النكرةَ وُصِفَتْ قبلَ مَجيءِ الحالِ منها بقولِه: (مَاخِرٍ).
والسِّرُّ في ذلك أنَّ الحالَ يُشْبِهُ الحُكْمَ، والحُكْمَ على المجهولِ غَيْرُ مَيْسورٍ، ولكنَّ النكرةَ إذا وُصِفَتْ تَخَصَّصَتْ، فلم تُعَدَّ من الإبهامِ والشيوعِ بحيثُ تُعْتَبَرُ مجهولةً، فافْهَمْ ذلك وتَدبَّرْه.
([6]) سورة الدُّخَانِ، الآية: 4، والأمرُ الأولُ واحدُ الأمورِ, والثاني واحِدُ الأوامِرِ، ووَجْهُ تَخْطِئةِ المُؤلِّفِ للناظمِ وابنِه في التمثيلِ بهذهِ الآيةِ أنَّهما يذهبانِ إلى أنَّ الحالَ لا يَأْتِي من المضافِ إليهِ إلاَّ في ثلاثِ حَالاتٍ، وأمرُ المَجْرورِ الذي هو صَاحِبُ الحالِ مضافٌ إليه، وليسَ واحداً مِن هذه الحالاتِ؛ لأنَّ المضافَ ليسَ عَامِلاً في المضافِ إليه, ولا هو بعضُه, ولا مثلُ بِعْضِه في صِحَّةِ حَذْفِه وإقامةِالمضافِ إليه مقامَه، وفوقَ هذا فإنَّ أمراً المنصوبَ الذي جَعَلاهُ حَالاً, اسمٌ جَامِدٌ، والحالُ كما عَلِمْتَ لا يَكونُ إِلاَّ وَصْفاً.
هذا، ويَجوزُ لكَ في {أمْراً} المنصوبِ من وُجوهِ الإعرابِ أنْ تجعَلَه مَنْصوباً بفعلٍ مَحْذوفٍ، وتقديرُ الكلامِ: أَعْنِي أمْراً من عندِنا، نَصَّ عليهِ الزَّمَخْشَرِيُّ في (الكشَّافِ) قالَ: (أي: أعْنِي بذلك أمْراً كَائِناً مِن لَدُنَّا، وذلكَ تَفْخِيمٌ لشأنِه). ولك أنْ تجعَلَه مَفْعولاً لأجْلِه، وأنْ تجعَلَه مفعولاً مُطْلَقاً منصوباً بفعلٍ من معنَى "يُفْرَقُ"، وأنْ تجعَلَه حالاً مِن كُلِّ المضافِ، وسَوَّغَ – على هذا الوجْهِ – مَجِيءَ الحالِ مِن النكرةِ تَخْصِيصُها بإضافتِها إلى نكرةٍ، وأنْ تجعَلَه حالاً من الفاعلِ أو المفعولِ في{أنْزَلْنَاهُ}, فتقديرُه باسمِ فاعلٍ على الأوَّلِ، أي: آمَرِينَ به، وتقديرُه على الثاني باسْمِ مفعولِ، أي: مأموراً به.
([7]) سورة فُصِّلتْ، الآية: 10، {فَسَوَاءً}: حالٌ من {أرْبَعَةِ} المُضافِ إلى {أيَّامٍ}، وقد عَلِمْتَ أنَّ إضافةَ النكرةِ إلى النكرةِ تَخَصِّصُها وتُبَيِّنُها نوعَ بيانٍ.
([8]) سورة الحِجْرِ، الآية: 4, وفي هذه الآيةِ الكريمةِ ثلاثُ مُسَوِّغاتٍ لمجيءِ الحالِ من النكرةِ:
الأولُ: أنَّه تقدَّمَ على صاحبِ الحالِ فيها النفْيُ، والثاني: اقترانُ جملةِ الحالِ بالواوِ، والثالثُ: وُقُوعُ {إِلاَّ}الاستثنائيَّةِ قبلَها؛ لأنَّ الاستثناءَ المُفَرَّغَ لا يقَعُ في النُّعوتِ.
وذهَبَ جَارُ اللهِ الزمخشريِّ إلى أنَّ جملةَ: {لَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} صِفَةٌ لـ{قَرْيَةٍ}، وزعَمَ أنَّ الواوَ قبلَها زائدةٌ؛ لتَدُلَّ على شِدَّةِ لصوقِ الصفةِ بالموصوفِ، وارْتَضَى هذا الكلامَ ابنُ هِشَامٍ الخضراويِّ، لكنَّ ابنَ مَالِكٍ ردَّه مُنكِراً، وقالَ: ما ذهَبَ إليهِ جَارُ اللهِمِن تَوَسُّطِ الواوِ بينَ الصفةِ والموصوفِ فَاسِدٌ، ولا يُعْرَفُ نَحْويٌّ بَصْرِيٌّ أو كُوفِيٌّ ذهَبَ إليه، فوَجَبَ ألاَّ يُلْتَفَتَ إليه. وأيضاً فإنَّه قدْ علَّلَ كلامَه بتعليلٍ لا يُناسِبُه؛ وذلك أنَّ أصلَ الواوِ تَدُلُّ على الجمعِ بينَ ما قبلَها وما بعدَها، وذلك مُستلزِمٌ لتغايُرِهما، وذلك ضِدُّ ما يُرادُ من إفادةِ التوكيدِ، فلا يَجوزُ أنْ يُقالَ: إنَّ العاطفَ مُؤكِّدٌ. وأيضاً فإنَّ الواوَ فَصَلَتْ في اللفظِ بينَ الأولِ والثاني، ولولا الوَاوُ لَتَلاصَقَا، فكيفَ يُقالُ: إِنَّها أكَّدَتْ لُصوقَهما. اهـ. كلامُه باختصارٍ وإيضاحٍ.
([9]) من كلامِ ابنِ مالكٍ في الألفيَّةِ.
([10]) 271-هذا بيتٌ من الكاملِ، وهو مِن كلامِ أبي نَعامةَ قَطَرِيِّ بنِ الفُجَاءَةِ المازنيِّ الخارجيِّ، وهو أولُ أبياتٍ أربعةٍ رَوَاها أبو عَلِيٍّ القاليُّ في أماليهِ (2/190 الدار) ورَوَاها أبو تَمَّامٍ حَبِيبُ بنُ أَوْسٍ الطَّائِيُّ في ديوانِ الحماسةِ (التبريزي 1/130 بتحقيقِنا) وبعدَه:
فَلَقَدْ أَرَانِي للرِّمَاحِ دَرِيئَةً = مِن عَنْ يَمِينِي مَرَّةً وأمَامِي
حَتَّى خَضَبْتُ بمَا تَحَدَّرَ مِن دَمِي = أكْنَافَ سَرْجِي أو عِنَانَ لِجَامِي
ثُمَّ انْصَرَفْتُ وقَدْ أَصَبْتُ ولَم أُصِبْ = جَذَعَ البَصِيرَةِ قَارِحَ الإقدامِ
اللغةُ: (لا يَرْكَنَنْ) تقولُ: رَكَنَ فلانٌ إلى فلانٍ يَرْكَنُ – مثل دَخَلَ يَدْخُلُ، ومثلُ عَلِمَ يَعلَمُ, وهي أشْهَرُهما، ومثلُ فَتَحَ يَفْتَحُ بالتداخُلِ, على أنَّ المَاضِيَ من الأولى, والمضارعَ مِن الثانيةِ، ولا يُسَوَّغُ أنْ تكُونَ أصليَّةً؛ لأنَّ مِن شرطِ بابِ"فتَحَ" أنْ تكُونَ عَيْنُه أو لامُه حَرْفَ حَلْقٍ, (الإحجامِ) مصدرُ"أحْجَمَ الرجُلُ عن الشيءِ": إذا نَكَصَ عنه وتأخَّرَ ولم يُقْدِمْ عليه, (يَوْمَ الوَغَى) الوَغَى في الأصلِ: صَوْتُ النحْلِ وما أشبَهَهُ، ثم استُعْمِلَ في الصوتِ والجَلَبَةِ مطلقاً، ثم استُعْمِلَ في الحربِ لِمَا تَشتمِلُ عليه من جَلَبَةٍ وصياحٍ, (مُتَخَوِّفاً) خَائِفاً، أو هو الذي يخافُ شيئاً بعدَ شيءٍ، يعني يَخافُ المَرَّةَ بعدَ المَرَّةِ (لحِمَامِ) الحِمَامُ– بكسرِ الحاءِ المُهمَلَةِ – الموتُ, (دَرِيئَةً) أرادَ أرانِي غَرَضاً لأصحابِ الرماحِ يَدْفَعونَ بها إلِيَّ، وقدْ يكونُ معناه أنَّ أصحابَه يَسْتتِرونَ به ويَتَّقونَ به أعداءَهم, فيكونُ هو سُتْرةً لهم, (جَذَعَ البصيرةِ) أرادَ أنَّه فَتِيُّ الاستبصارِ قَوِيُّ الإدراكِ, (قَارِحَ الإقدامِ) أصلُ القارِحِ من الحيوانِ الذي بلَغَ النهايةَ من السنِّ، وهم لا يَعُدُّونَ سِنًّا بعدَ القارحِ، ومُرادُه: أنَّه لا يَحتاجُ إلى تهذيبٍ ولا تأديبٍ, كما لا يَحتاجُ الجَذَعُ إلى رياضةٍ وتذليلٍ، وأنَّ إقدامَه قد بلَغَ النهايةَ, كما أنَّ القارِحَ قد بلَغَ نهايةَ السِّنِّ.
الإعرابُ: (لا) حرفُ نَهْيٍ مَبنِيٌّ على السُّكونِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ, (يَرْكَنَنْ) يَرْكَنَ: فعلٌ مضارعٌ مَبنِيٌّ على الفتحِ؛ لاتِّصالِه بنونِ التوكيدِ الخَفيفةِ في مَحلِّ جَزْمٍ بلا الناهيةِ، ونونُ التوكيدِ الخفيفةُ حرفٌ مَبنِيٌّ على السُّكونِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ, (أحَدٌ) فاعلُ يَرْكَنَ, مَرْفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ, (إلَى) حرفُ جرٍّ مَبنِيٌّ على السُّكونِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ, (الإحجامِ) مجرورٌ بإِلَى، وعلامةُ جرِّه الكسرةُ الظاهرةُ، والجارُّ والمجرورُ مُتعلِّقٌ بيَرْكَنَ, (يَوْمَ) ظرفُ زمانٍ مَنْصوبٌ بقولِه: يَرْكَنَ. وعلامةُ نصبِه الفتحةُ الظاهرةُ، وهو مضافٌ، و(الوَغَى) مضافٌ إليه، مَجرورٌ بكسرةٍ مُقدَّرَةٍ على الألفِ منَعَ من ظُهورِها التعَذُّرُ, (مُتخَوِّفاً) حالٌ من قولِه: (أحَدٌ). الواقعِ فَاعِلاً ليَرْكَنَ, المعمولِ للا الناهيةِ، منصوبٌ, وعلامةُ نصبِه الفتحةُ الظاهرةُ, (لحِمَامِ) اللامُ حرفُ جَرٍّ، مَبنِيٌّ على الكسرِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ، وحِمَامٍ: مجرورٌ باللامِ وعلامةُ جَرِّه الكسرةُ الظاهرةُ, والجارُّ والمجرورُ مُتعَلِّقٌ بقولِه: (مُتَخَوِّفاً) الواقِعِ حَالاً.
الشاهدُ فيه قولُه: (مُتخَوِّفاً). فإنَّه حالٌ، وصاحبَه قولُه: (أحَدٌ). وهو نَكِرَةٌ، والذي سَوَّغَ مَجِيءَ الحالِ من النكرةِ وقوعُ هذه النكرةِ بعدَ النهْيِ الذي هو شَبِيهٌ بالنفْيِ.
([11]) 272-نسَبَ ابنُ مالكٍ هذا الشاهدَ إلى رجُلٍ من طَيِّئٍ، ولم يُسَمِّه، وهذا الذي أنشَدَه المُؤلِّفُ صَدْرُ بيتٍ من البسيطِ، وعَجُزُه قولُه:
*لنَفْسِكَ العُذْرَ فِي إبعادِها الأَمَلا*
اللغةُ: (يا صَاحِ) أصلُه يا صَاحِبِي، فرُخِّمَ بحذفِ آخرِه – وهو الباءُ– واكتَفَى بالكسرةِ للدلالةِ على ياءِ المتكلِّمِ, (حُمَّ) فعلٌ ماضٍ مَبنِيٌّ للمجهولِ – ومعناه: قُدِّرَ وقُضِيَ وهُيِّئَ سَبَبُه, (عَيْشٌ) أرادَ بالعيشِ هنا الحَيَاةُ, (بَاقِياً) أصْلُ الباقي الذي لا يَفْنَى ولا يَزُولُ ولا يَنْفَدُ، ويُطْلَقُ على ما يَطُولُ أمَدُه وتَتمادَى مُدَّتُه، وأرادَ ههنا المعنَى الأوَّلَ، أو أرادَ المُستقِرَّ الهادِئَ الذي لا يَشُوبُه كَدَرٌ ولا يَعتريهِ تَنْغيصٌ, (فتَرَى) هي هنا بمعنَى تَعْلَمَ,"العُذْرَ" بضَمٍّ فسُكونٍ– بمعنَى المَعْذرةِ، وهي كلُّ ما يُتعَلَّلُ بهِ,"الأمَلُ" هو تَرَقُّبُ الشيءِ وانتظارُه، وأرادَ بإبعادِ الأملِ شِدَّةَ حِرْصِه على الدنيا وعَمَلِه المُتواصِلِ لها دونَ أنْ يُفَكِّرَ في شأنِ الآخرةِ أو يعمَلَ لها.
المعنَى: يَسْتَفْهِمُ استفهاماً إنكارِيًّا عَمَّا إذا كانَ قد قُضِيَ لأحدٍ من الناسِ قبلَ المخاطَبِ أنْ تَدُومَ له الدنيا أو يَعِيشَ فيها عِيشةًمُستقِرَّةٍ لا يَشوبُها كَدَرٌ، فيَكونَ ذلك عُذْراً لمُخاطَبِه في أنْ يَتكالَبَ على حُطامِ الدنيا الفانِي.
الإعرابُ: (يا) حرفُ نداءٍ مَبنِيٌّ على السُّكونِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ, (صَاحِ) مُنادًى مُرَخَّمٌ، وأصلُه يا صَاحِبُ، فإنْ قَدَّرْناه مُنقطِعاً عن الإضافةِ فهو مَبنِيٌّ على ضَمِّ الحرفِ المحذوفِ لأجْلِ الترخيمِ في مَحَلِّ نَصْبٍ, (هل) حرفُ استفهامٍ مَبنِيٌّ على السُّكونِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ, (حُمَّ) فعلٌ ماضٍ مَبنِيٌّ للمجهولِ مَبنِيٌّ على الفتحِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ, (عَيْشٌ) نائِبُ فاعلِ حُمَّ مرفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ, (بَاقِياً) حالٌ من "عَيْشٌ" الواقعِ نَائِبَ فاعلٍ لحُمَّ التالي لحرفِ الاستفهامِ الإنكاريِّ الذي بمعنَى حرفِ النفْيِ, (فتَرَى) الفاءُ فاءُ السَّبَبِيَّةِ حرفٌ مَبنِيٌّ على الفتحِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ، تَرَى: فعلٌ مُضارعٌ مَنْصوبٌ بأنِ المُضمرةِ وُجوباً بعدَ فاءِ السببيَّةِ، وعلامةُ نصبِه فتحةٌ مُقدَّرَةٌ على الألفِ منَعَ من ظهورِها التعَذُّرُ، وفاعلُه ضَمِيرٌ مُستتِرٌ فيه وجوباً تَقديرُه: أنتَ,"لنفسِكَ" اللامُ حرفُ جرٍّ مَبنِيٌّ على الكسرِ لا مَحَلَّ من الإعرابِ، نفسِ: مَجْرورٌ باللامِ, وعلامةُ جَرِّه الكسرةُ الظاهرةُ، والجارُّ والمجرورُ مُتعلِّقٌ بتَرَى، و"نفسِ" مُضافٌ, وضميرُ المخاطَبِ مضافٌ إليه مَبنِيٌّ على الفتحِ في مَحَلِّ جَرٍّ, "العُذْرَ" مفعولٌ به لتَرَى منصوبٌ, وعلامةُ نصبِه الفتحةُ الظاهرةُ,"في"حرفُ جَرٍّ مَبنِيٌّ على السُّكونِ لا مَحَلَّ له من الإعرابِ,"إبعادِها" إبعادِ: مجرورٌ بـ"في", وعلامةُ جَرِّه الكسرةُ الظاهرةُ، والجارُّ والمجرورُ مُتعلِّقٌ بالعذرِ، و"إبعادِ" مضافٌ, وضميرُ الغائبةِ العائِدُ إلى النفسِ مضافٌ إليه مَبنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ جَرٍّ، وهو من إضافةِ المصدرِ إلى فاعلِه؛ فلهذا الضميرِ مَحَلاَّنِ: أحدُهما: جَرٌّ بالإضافةِ, وثانيهما: رفعٌ بالفاعِلِيَّةِ, "الأمَلاَ" مفعولٌ به للمَصْدَرِ منصوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ، والألفُ للإطلاقِ.
الشاهدُ فيه قولُه: (بَاقِياً). فإنَّه حالٌ, صاحبُه قولُه: (عَيْشٌ). وهو نَكِرَةٌ، والذي سَوَّغَ مجيءَ الحالِ من النكرةِ وُقوعُ هذهِ النكرةِ بعدَ الاستفهامِ الذي هو شَبِيهُ النفيِ.
([12]) ذهَبَ أبو حَيَّانَ إلى أنَّ مَجِيءَ الحالِ من النكرةِ كثيرٌ مَقِيسٌ، ونُقِلَ ذلك عن سِيبَوَيْهِ، والعلماءُ يَنْقُلُونَ القولَ بعدمِ جَوازِ القياسِ على ذلكَ عن الخليلِ ويُونُسَ.
([13]) بِيضٌ: جمعُ أبيضَ، وأرادَ أنَّ المائةَ دَراهِمُ، وليسَتْ فُلوساً ولا دَنانِيرَ؛ لأنَّ الدراهِمَ من الفِضَّةِ وهي بيضاءُ، والدنانيرَ من الذهَبِ وهو أصْفَرُ، والفُلُوسَ من النُّحَاسِ، وهذا مثالٌ رواهُ سِيبَوَيْهِ عن العربِ، و(بِيضاً) يَجِبُ أنْ يكُونَ حالاً من المائةِ، وهي نَكِرَةٌ، فدَلَّ على صِحَّةِ مجيءِ الحالِ من النكرةِ من غيرِ مُسوِّغٍ، في غيرِ الشعرِ، ولا يَجوزُ أنْ يكُونَ (بِيضاً) تَمْيِيزا ًلمائةٍ؛ لوجهيْنِ: أحَدُهما أنَّه جَمْعٌ منصوبٌ، وتَمْيِيزَ المائةِ يكونُ مُفْرداً مجروراً، نحوُ قولِكَ: "له عندي مائةُ دينارٍ".
والوجْهُ الثاني: أنَّكَ لو رَفعْتَ فقلتَ: (عَلَيْهِ مِائةٌ بِيضٌ) لكانَ نَعْتاً، وقد عَلِمْتَ أنَّ النعتَ والحالَ أخوانِ، فلَمَّا جاءَ منصوباً كانَ الأَوْلَى أنْ نَجْعَلَه حَالاً.
([14]) روَى هذا الحديثَ الإمامُ مَالِكُ بنُ أَنَسٍ في المُوَطَّأِ، وقد ترَكَ قومٌ الاستدلالَ به، كما تَرَكوا الاستدلالَ بالحديثِ عامَّةً، بدعْوَى أنَّ الرواةَ قد أجازوا الروايةَ بالمعنَى، فمن الجائزِ أنْ يكُونَ اللفظُ المرويُّ هو لفظَ راوي الحديثِ، وليسَ هو لفظَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وهذا رَأْيٌ خَاطِئٌ, لا نَرَى لكَ أنْ تَأْخُذَ به؛ فإنَّ النحاةَ قد احْتَجُّوا بشعرِ الشعراءِ إلى إبراهيمَ بنِ هَرْمَةَ، أو إلى بَشَّارِ بنِ بُرْدٍ، والذينَ رَوَوْا حديثَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كانوا أوثَقَ من رواةِ الشِّعْرِ، وأدَقَّ منهم تَحَرِّياً، وأوثَقَ منهم ضبطاً، وأكثرُهم عَرَبٌ يُحْتَجُّ بكلامشهم، فلو أنَّ أحدَهم بَدَّلَ لفظَ النبيِّ بلفظٍ مِن عندِه – معَ تَحرِّيهِ إصابةَ المعنَى بدِقَّةٍ – لم يَكُنْ من المُنْكَرِ أنْ تَحْتَجَّ بلفظِه هو.