دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > خطة التأهيل العالي للمفسر > منتدى الامتياز

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 23 ذو الحجة 1437هـ/25-09-2016م, 10:55 AM
هيئة الإدارة هيئة الإدارة غير متواجد حالياً
 
تاريخ التسجيل: Dec 2008
المشاركات: 29,544
افتراضي تطبيقات على درس أسلوب الحجاج

تطبيقات على درس أسلوب الحجاج
الدرس (هنا)


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 24 ذو الحجة 1437هـ/26-09-2016م, 12:00 PM
نورة الأمير نورة الأمير غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - الامتياز - مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 749
افتراضي

أسلوب المحاجة في حوار إبراهيم - عليه السلام - مع قومه في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِين*إذ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ*قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ*قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ*قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ*قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ*وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ*فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ*قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ*قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ*قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ*قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ*قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ*فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ*ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ*قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ*أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ*قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ*قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}.

في هذه الآيات يتضح لنا جليا قوة الحجة لدى إبراهيم عليه السلام ، واستعماله لأسلوب الحوار الذكي في جداله مع قومه لدعوتهم ولا عجب فقد وصفه الله بالرشد في قوله:(ولقد ءاتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين) ، ففي البداية يسأل إبراهيم -عليه السلام- قومه سؤالا بريئا ، هذا السؤال أستطيع تسميته بالمدخل إلى الحوار ، ومحاولة استدراج قومه لخوض نقاش حول ما يعبدونه ، فيقول :(ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) وسؤاله منطقي جدا فوصفه لجلوسهم حولها بقوله (عاكفون) يعطيه الحق للسؤال حول ماهية أفعالهم وسببها ، فهم عاكفون والعكف يدل على الإقامة ، والمرء لا يقيم على أمر إلا لسبب يدعوه لذلك ، فكانت إجابتهم إجابة تدل على عدم تحكيم عقل وإنما مجرد تقليد واتباع للآباء فقالو: (وجدنا آباءنا لها عابدين) ، فأجابهم مباشرة بقوله :(لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين) فأقرهم بموجب فعلهم ثم جعل ذلك عليهم لا لهم ، فكأنه بذلك يقول لهم وإذا كان آباؤكم يفعلون ذلك فهل في ذلك دلالة على صلاحية ما تقومون به؟ ما أنتم إلا في ضلال أنتم وآباؤكم! فما كان ردهم حين شعروا بما خلف هذا الحوار من أهداف بأن قالوا : (أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين) لمعرفة هدفه من هذا الحوار ومدى جديته ، فجاوبهم عليه السلام إجابة واضحة وصريحة ولعلها تكون صادمة لهم وتحرك أذهانهم فقال :(بل ربكم رب السماوات والأرض الذي خلقهن وأنا على ذلكم من الشاهدين) وإجابته لوحدها فيها من قوة المحاجة والأساليب الذكية ما يستفاد منه الشيء الكثير ، أولا: باشرهم بعد أن لاحظ منهم جمود عقولهم بإجابة عقلية علها تحرك هذه العقول فقال (ربكم رب السماوات والأرض) فذكرهم بأعظم المخلوقات التي تحيطهم من فوقهم وتحتهم ، وكيف أن هذه الأصنام التي من صناعة أيديهم لا يعقل أن تكون سببا في خلق هذه السماوات والأرض فكيف تعبدونها؟ كما أن إضافة قوله (الذي خلقهن) فيه ذكر لسبب استحقاق الله للعبادة ، وهو من الأساليب الناجعة والعقلية في المحاجة فكأنه يقول : ما دام هو الذي خلق السماوات والأرض فإذن هو المستحق للعبودية (الاعتراف بربوبية الله يدعو للإقرار باستحقاقه للعبودية دون سواه) وهي قاعدة مهمة جدا اتخذها الله أيضا في محاججته لكفار قريش ، وهي أيضا أسلوب ناجح لمن يود إقناع خصم ابتلي بما ابتلوا به ، ثم يذكر إبراهيم -عليه السلام- جملة دالة على ثقته ووضوح رأيه وجانبه وهي (وأنا على ذلكم من الشاهدين) وهذه الصفة دلالة على ثقة المحاور برأيه واعتداده به ، وهي مما يؤثر في الخصم ويجعله يأخذ محاوره على محمل الجد ، ثم بعد ذلك يلجأ إبراهيم إلى الأسلوب التطبيقي لما رأى منهم عدم الاستفادة من الأسلوب النظري ، فلجأ لأسلوب أقوى وهذا الأسلوب مما يهز المجادل فإما يجعله يتأثر ويترك باطله ، أو يصب جام غضبه بعد شعوره بالخسارة على محاوره كما حصل هذا مع إبراهيم -عليه السلام- فلقد لجأ إلى تكسير أصنامهم وهم منشغلون في عيد من أعيادهم كما ذكر ذلك المفسرون ، وقد رتب مشهدا تمثيليا عبقريا من خلال تكسيره للأصنام ، مشهد يتحدث لهؤلاء القوم ويخاطب عقولهم ، فجعلهم جذاذا وقطعا إلا كبيرهم ، وقد ذكر المفسرون أنه وضع الفأس بيد هذا الكبير لعلهم يرجعون إلى دينه أو يرجعون إليه فيسألونه عما حدث وبالتالي يحدث ما خطط له من نقاش ، ويكون قد استدرجهم لنقاش آخر أعمق وأكبر أثرا ووضوحا ، وفيه مجابهة واضحة للباطل الذي هم عليه ، وهذا المشهد الذي قام بافتعاله لا يترك لعاقل مهربا من التفكير ،وهذا ذكاء منه عليه السلام فلعل هذا المشهد يحرك عقول البعض فيصحون من الغي الذي هم فيه ، وفعلا حدث ما أراده إبراهيم ، فلما عادوا ورأوا هذا المشهد المخيف حدث لأصنامهم تساءلوا عن الفاعل ، فذكر اسم إبراهيم كمشتبه به ، فأمر به فأحضر أمام العامة ، وهذا ما كان يريده إبراهيم ، أن يكون النقاش أمام الناس جميعا لعل فيهم رجل رشيد ، فلما سئل هل فعل هذا بآلهتهم ، أجاب إجابة ذكية أراد منها تفتيح عقولهم فقال: (بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانا ينطقون) ، وفي هذه الإجابة الذكية تتناثر أساليب المحاجة والإقناع ، ولعل مفهوم الموافقة ينطبق هنا على هذا المشهد فكونهم لا ينطقون ولا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم يدل على أنهم من باب أولى لا يستطيعون الدفاع عن غيرهم ، وهذا من أساليب الإقناع القوية ، فبسؤاله ينفض عقولهم بعدة أسئلة: كيف لم تدافع عن نفسها ؟ وإلى أي ضعف وصلت ؟ وكيف يعبد هذا الضعيف الذي لا يستطيع حماية نفسه حتى؟! ثم على الأقل هي حتى لا تستطيع الدفاع عن نفسها ولو بالحديث بمن فعل هذا بها ، فكيف لشيء بهذه المواصفات من الضعف والهوان يستحق للعبادة؟؟! هذه هي الأسئلة الخفية التي أراد إبراهيم -عليه السلام- إيصالها من خلال هذا المشهد ، وحدث بالفعل ما كان يرجوه ، فقد (رجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون) ظلموا أنفسهم بعبادة من لا يستحق ، وظلموا إبراهيم بسؤاله بدل سؤال الأصنام كما يقول بذلك المنطق ، ولكنهم (نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) ، فواجههم إبراهيم -عليه السلام- مباشرة بسؤال يصفع به عقولهم (أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم*أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون) إنه هنا يواجه عقولهم بكل أدوات الحجة والإقناع ، فيطرح أسئلة بدهية ، كيف يعبد من لا ينفع ولا يضر ؟ أفلا تعقلون حجم الظلم الذي وقعتم فيه ؟ ثم يستخدم أسلوب الإضراب وينتقل إلى التأفف منهم فيقول: (أف لكم) وهنا صرخة يعلنها (أف) وكأنه يقول نعم أنا لا أستحي من التأفف من أفعالكم المشينة التي يعي أي إنسان أوتي حظا من العقل أنها تدل على الغباء والسفاهة ، أف لكم أما آن لكم أن تعملوا هذه العقول؟؟ ولكنه الضلال قد أعمى عقولهم فما كان لهم كأي مجادل بالباطل حين يدمغ إلا اللجوء لقتله وتعذيبه ، وهي محاولة للهرب من هذا الجدال الذي أثبت فيه إبراهيم -عليه السلام- انتصاره ، فأمروا بحرقه لكن الله سبحانه جعل ذلك بردا وسلاما عليه.

وبعد أن حاولنا استخلاص أساليب الحجة من هذا المشهد سنحاول إيراد فوائد جليلة وسريعة مختصرة من المشهد أعلاه ، نذكر فيها أهم وسائل الحجة وأبجدياتها الواردة في الآيات:

1- القضايا الكبرى مثل العبودية والربوبية هي القضايا الأولى والأساس في المحاجة ، فلا يصح التطرق لقضايا ثانوية قبل النقاش حول هذه القضايا الأساسية والمصيرية ، والتي ينبغي أن تكون مطلوب الدعاة الأول.

2- لا بد من إيجاد أرضية للنقاش يبتدئ من خلالها المحاج حواره ، كأن يبدأ ذلك بسؤال بريء عن فاعلية ما يقوم به خصمه وسبب ذلك وغيره من الأسئلة البدهية التي تقود المرء في النهاية إلى ما يود النقاش حوله كما فعل ذلك إبراهيم -عليه السلام- في بداية حواره (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون).

3- (قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين) التبعية العمياء والتقليد للآباء وغيره هي من الحجج الواهية التي غالبا ما يتمسك بها الخصم والتي يجب معرفة كيفية دحضها لدى المحاج.

4- المصارحة أحيانا والمباشرة تأتي بثمارها عند المحاجة ، فأحيانا الخصم يحتاج لصفعة تشغل عقله وتعيد إليه صوابه (لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين) (أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم).

5- أسلوب السببية من الأساليب المهمة في الإقناع ، فوجود مسبب لخلق السماوات والأرض يدعونا للتفكر حول سبب خلقهما وعن مدى استحقاق خالقهما للعبادة ، وهو من الأساليب الناجعة في المحاجة (قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي خلقهن).

6- التذكير بنعم الله من الأساليب التي تؤثر في الخصم ، وتجعله يشعر بالخزي لعدم شكره ذلك من يستحق الشكر ، وصرفه العبادة لغيره (قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي خلقهن).

7- أحيانا يحتاج المرء في حجاجه إلى التخريب أو التعطيل وذلك ليس من باب التسلط والدعوة بالغصب ، وإنما لتبيان أمر والدعوة إلى تحكيم العقل كما فعل إبراهيم -عليه السلام- في مشهد تكسير الأصنام .

8- الدعوة عن طريق التطبيق وعن اختراع مشهد معين ووضع حوار وسيناريو قد تكون أجلى وأوضح من الكلام النظري ، وذلك كما في مشهد تكسير الأصنام ومخاطبة الناس عن عدم نفعها وضرها.

9- استخدام أسلوب التبكيت والتشنيع قد يكون حلا ، كما استخدمه إبراهيم مع قومه في نهاية حواره لما شعر باليأس منهم فقال : (أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون) لعل هذا الأسلوب يفيقهم من غفلتهم.

10- توجيه الأسئلة ما بين الفينة والأخرى في خطاب المحاور والدعوة إلى تحكيم العقل (أفلا تعقلون) من الأساليب المهمة حيث أنها تذكر الخصم بتشغيل عقله ، وإعادة النظر حول ما يدعو إليه ويؤمن به.

11- مفهوم الموافقة ورد في هذه الآيات وهو من أساليب الحجاج ، فذكر أمر يسير مثل (عدم استطاعة الأصنام الدفاع عن نفسها) يدل على أمر أعظم وأهم للمخاطب وهو (عدم استطاعة الأصنام أن تدافع عنه فهي بالتالي غير مستحقة للعبادة) وهو من الأساليب الذكية في الحجاج.

12- القول بالموجب من أساليب الحجاج التي وردت في هذه الآيات ، فحينما سألهم عن سبب عبادتهم للأصنام ذكروا بأن ذلك ما وجدوا عليه آباءهم ، فأقر بذلك ثم قال (لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين) فإقراره لحديثهم أتبعه بتضليل وتسفيه لهذا الفعل ، كأنه بذلك قلب إجابتهم عليهم فلم تعد في صفهم هذه الإجابة وهذا التبرير.

13-استخدام أسلوب المعارضة في قوله تعالى: {قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون} ؛ فأورد عليهم إيرادا عارَضَ به دعواهم في أصنامهم أنها آلهة؛ فإن زعموا أنَّ كبيرهم عاجزٌ عن ذلك تبيّن بطلان اعتقادهم فيه، وإن زعموا أنَّه من فعله أقروا بقبح الشرك؛ فإذا كان هذا الكبير لا يرضى أن يُشرك به؛ فكيف يظنّون أنَّ الله تعالى يرضى أن يُشرَك به! وهو أسلوب قوي في محاجة الخصم وإبطال حجته.

14- استخدام أسلوب المناقضة ، وذلك لما أورد أن هذه الأصنام لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا ، فكيف إذن تملك لغيرها؟ فقد أبطل دعوى استحقاقها للعبودية بإبطال مقدماتها وهي عدم امتلاكها لصفات الربوبية.

15- الثقة من أهم صفات المحاج ، كما أنها تشعر الخصم بقوته ، ويستطيع تبيان ذلك من خلال أسلوبه في المحاجة ومدى ركاكة قوله وضعفه.

16- أخيرا انتصار المحاور في محاجته لا يعني بالضرورة اقتناع الخصم ، فالقرآن والواقع مليء بالكثير من مشاهد الحوارات التي لا يسلم فيها الخصم ، وذلك أن الاعتراف بانتصار الخصم أمر صعب ، ولذا نجد الكثير من المجادلين بالباطل يكابرون ويلفون ويدورون ويقدمون ذلك على الاعتراف بأن خصمهم كان على حق ، لذا فعلى المحاج أن لا يهتم بثمرة محاجته فواجبه ينتهي بالتبليغ والتوضيح ، أما الهداية فهي بيد الله سبحانه.

من خلال هذه الآيات يتضح لنا جليا قدرة إبراهيم -عليه السلام- على الإقناع ، والحظ الذي أوتيه من أساليب الحجة ، بل وكل حوارات إبراهيم - عليه السلام- في القرآن تزخر بقوة أسلوبه في المحاجة ، وهي مما يجب أن يستفاد منه في محاجة أهل الباطل ودعوتهم ، رزقنا الله وإياكم رؤية الحق واتباعه ، وصلى الله وبارك على سيدنا محمد.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 26 ذو الحجة 1437هـ/28-09-2016م, 04:02 AM
سارة المشري سارة المشري غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - الامتياز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2015
المشاركات: 544
افتراضي

قال تعالى : ( فذكّر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون ( 29 ) أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون ( 30 ) قل تربّصوا فإني معكم من المتربصين ( 31 )
أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قومٌ طاغون ( 32 ) أم يقولون تقوّله بل لا يؤمنون ( 33 ) فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين ( 34 ) ) سورة الطور .

إن هذه الآيات القليلة العدد العظيمة الفوائد هي أصل من أصول الرد على منكري رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلى منكري حجية القرآن ، فقد أتت مستوفية لادّعاءاتهم مبطلة لها بأتم الحجج والبراهين ، ابتدأها الله تعالى بأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستمرار بالتذكير وإقرار نعمة الله تعالى عليه ، فما كان بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم يوماًَ من الأيام كاهناً ولا مجنوناً ولا شاعرا ، بل هو أكمل الخلق عقلاً وأكملهم خلقاً ، وأكملهم ديناً بفضل الله ونعمته ، وما جاء به وحيٌ من عند الله تعالى لم يسترقه شيطان ، ولا أصابه به مس شيطانٍ ، ولا نفثه في جوفه شيطان ، فقد نفى الله تعالى عنه ثلاث صفات قبيحة ليثبت مكانها ضدها ، أما الكهانة والجنون فقد نفاها صريحاً وأكد النفي بالباء ( فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون ) ،
والكاهن : هو الذي يأتيه الرئي من الجان بالكلمة يتلقاها من خبر السماء ، وأما المجنون : فهو فاقد العقل ، وقيل هو الذي يتخبطه الشيطان من المس .
وأما كونه شاعرا فقد نفاه ضمناً بأم المنقطعة لأنها تدل على الإضراب والإنكار المتضمن معنى النفي ، وعدل عن الإتيان بحرف ( بل ) مع أنه أشهر في الإضراب الانتقالي ، لقصد تضمن ( أم ) للاستفهام . والمعنى : بل أيقولون شاعر إلخ .
وجاء ( يقولون ) مضارعا للدلالة على تجدد ذلك القول منهم ، والتربص مبالغة في : الربص ، وهو الانتظار .
والمراد بريب المنون : ورد في معناها قولان :
القول الأول : قال مجاهد حوادث الدهر ، وقال الأصمعي : هما الليل والنهار وسميا بذلك لأنهما ينقصان الأعمار ويقطعان الآجال ، وقيل لأنه يذهب بمنّة الإنسان أي قوته ، وذلك من قولهم حبل منين أي ضعيف .
القول الثاني : قال قتادة والبخاري وغيرهم من العلماء هو الموت .
والقولان صحيحان ولا تعارض بينهما ، والمعنى ننتظر به قوارع الدهر حتى يصيبه منها الموت .
ماذكر في سبب نزول الآية :
روى الطبري عن قتادة قال قائلون من الناس : تربصوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - الموت يكفيكموه كما كفاكم شاعر بني فلان وشاعر بني فلان ، ولم يعينوا اسم الشاعر ولا أنه كان يهجو كفار قريش .
وعن الضحاك ومجاهد : أن قريشا اجتمعوا في دار الندوة فكثرت آراؤهم في محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال بنو عبد الدار : هو شاعر تربصوا به ريب المنون ، فسيهلك كما هلك زهير والنابغة والأعشى ، فافترقوا على هذه المقالة ، فنزلت هذه الآية فحكت مقالتهم كما قالوها .
إن مشركي قريش حين عجزوا عن إيقاف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عن دعوته ، أو حتى عن إثبات إدّعاءاتهم أعلنوا هزيمتهم بانتظارهم لصوارف الدهر أن تصيبه حتى يحدث له منها الموت ،
فأمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يجيبهم عن مقالتهم هذه بأن يقول : تربصوا فإني معكم من المتربصين ، وهو جواب منصف ، أي انتظروا ماتنتظرون فإني معكم منتظر أن يصيبكم العذاب ، وسترون من المنتصر ، ومن الصادق من الكاذب ، ومن تكون له العاقبة ، وقد أُصيبوا يوم بدر وهزموا شر هزيمة .
ثم ينتقل الله تعالى إلى أسلوب التعجب والمتضمن معنى التبكيت : قال تعالى : ( أم تأمرهم أحلامهم بهذا ) والأحلام هي العقول وسميت بذلك لأنها تضبط المرء فيصير كالبعير المعقول ،
وأم إضراب انتقال دعا إليه ما في الاستفهام الإِنكاري المقدّر بعد ( أم ) من معنى التعجيب من حالهم ، وكانت قريش يُدعون أهل الأحلام والنُهى فهل هذا ما تأمر به الأحلام ؟ وهل هذا صنيع من يملك العقل ؟ ومعنى إنكار أن تأمرهم أحلامهم بهذا أن الأحلام الراجحة لا تأمر بمثله ، وفيه تعريض بأنهم أضاعوا أحلامهم حين قالوا ذلك لأن الأحلام لا تأمر بمثله فهم كمن لا أحلام لهم وهذا تأويل ما روي أن الكافر لا عقل له .
وخلاصة القول أنهم إما أن تكون عقولهم قد أمرتهم بهذا الباطل فهي عقول فاسدة لم تنفعهم حين كانت لدنياهم ولم تكن لدينهم ، وإما أن يكون إضراب انتقال فيه استفهام إنكاري واستبعاد أن تأمر الأحلام بهذا فهم إذا كمن لا أحلام لهم ، وهذا هو الراجح لقوله تعالى بعده ( بل هم قوم طاغون ) .
والإِشارة في قوله : ( بهذا ) فيها ثلاثة أقوال :
القول الأول : أي المذكور من قولهم هو كاهن ، هو شاعر ، هو مجنون .
القول الثاني : أي بهذا الذي يظهر منهم قولا وفعلا حيث يعبدون الأصنام والأوثان ويقولون الهذيان من الكلام .
القول الثالث : هذا إشارة إلى التربص فإنهم لما قالوا نتربص قال الله تعالى أعقولهم تأمرهم بتربص هلاكهم فإن أحدا لم يتوقع هلاك نبيه إلا وهلك .
وهذه الأقوال متقاربة ولا تعارض بينها والأقرب والله تعالى أعلم هو القول الأول .
ثم ينتقل الله تعالى إلى بيان العلة الحقيقة وراء ردّهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وافتراؤهم عليه فيقول تعالى : ( أم هم قوم طاغون ) ، و( أم ) المنقطعة تفيد الاضراب عما قبلها وما بعدها والمعنى : بل هم قوم ضُلّال معاندون ، كفروا طغياناً وإن ظهر لهم الحق ، وهذا الذي يحملهم على ماقالوه فيك .
ثم يستمر الله تعالى بحكاية إنكارهم أن يكون هذا القرآن وحيا من الله فزعموا أنه صلى الله عليه وسلم تقوّله على الله ، والتقول : نسبة كلام إلى أحد لم يقله ، وابتدئ الرد عليهم بقوله بل لا يؤمنون لتعجيل تكذيبهم قبل الإدلاء بالحجة عليهم ، وليكون ورود الاستدلال مفرعا على قوله لا يؤمنون بمنزلة دليل ثان ، ومعنى لا يؤمنون : أن دلائل تنزيه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تقول القرآن بينة لديهم ولكن الزاعمين ذلك يأبون الإيمان فهم يبادرون إلى الطعن دون نظر ويلقون المعاذير سترا لمكابرتهم ، ونظراً لأن القرآن هو المعجزة القائمة إلى قيام الساعة فقد تولى الله بنفسه الدفاع عنه بشتى الحجج والبراهين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد ذلك ، فأجابهم بجواب مفحم يتضمن أمرين :
الأول : لوسلّمنا لكم أن محمداً صلى الله عليه وسلم جاء بهذا القرآن من عند نفسه ، أوليس هو بشر مثلكم ، وهو عربي مثلكم ، وفيكم من الفصحاء والبلغاء أقوام كثيرون ، فهلا اجتمعتم وأتيتم لنا بمثل هذا القرآن الذي أتى به فتثبتون بذلك كذبه وصدقكم .
الثاني : أن هذا القرآن معجز من عند الله تعالى ، ولايستطيع بشر أن يأتي بمثله ، ولا بسورة منه ، فتمتنع دعواكم وتقوم عليكم الحجة ويجب عليكم الإيمان به .
وقوله تعالى : ( فليأتوا ) الفاء للتعقيب، أي إذا كان كذلك فيجب عليهم أن يأتوا بمثل ما أتى به ليصحح كلامهم ويبطل كلامه ، وهذا أمر تعجيز .
قوله : إن كانوا صادقين ، أي : في زعمهم أنه تقوله ، أي : فإن لم يأتوا بكلام مثله فهم كاذبون ، وبعد تلك الإثارة والاستفزاز لم يستطيعوا أن يأتوا بسورة مثله ولن يستطيعوا لأنه الحق المبين كلام رب العالمين .

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 26 ذو الحجة 1437هـ/28-09-2016م, 11:39 AM
سها حطب سها حطب غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى السابع - مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 447
افتراضي

كنت قد اخترت الآيات وبدأت العمل عليها قبل أن أرى مشاركة الأخت سارة ، فأعتذر عن التكرار.

تفسير الآيات من 29 إلى 43 من سورة الطور

(فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ)
يأمر تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن اثبُت على ما أنت عليه من الوعظ وتذكير الناس، مسلمهم وكافرهم، لتقوم حجة الله على الظالمين، ويهتدي بتذكيره الموفقون، ثم قال تعالى مؤنسا ومسليا له - صلى الله عليه وسلم- : فما أنت بإنعام الله عليك و لطفه بك ( بكاهنٍ) له رئي ّمن الجن يخبر عنه قومه ما أخبره به يوهمهم بذلك أنه يعلم الغيب بدون وحي ( وَلا مجْنُونٍ) فاقد للعقل، بل أنت أكمل الناس عقلا وأبعدهم عن الشياطين، وأعظمهم صدقا، وأجلهم وأكملهم، ورسول الله، والله لا يخذلك.
وقد اكتفى في ابطال كونه كاهنا أو مجنونا بمجرد النفي دون استدلال عليه ، لأن مجرد التأمل في حال النبي صلى الله عليه وسلم كاف في تحقق انتفاؤ ذينك الوصفين ، فدليل نفيهما المشاهدة .
ثم شرعت الآيات ترد على المشركين مقالاتهم في إنكار نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وإنكار ما جاء به وتحاججهم أشد المحاجة وأبينها فقال تعالى:

( أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ )
وأم هنا بمعنى بل وهي للإضراب عن مقالتهم السابقة للانتقال إلى مقالة أخرى وهي قولهم ( شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُون).
و ريب الْمَنُونِ: صروف الدهر، والمعنى ننتظر به حوادث الأيام فيموت ويهلك كما مات غيره.
فأمر الله تعالى نبيه بالرد عليهم بما فيه وعيد لهم :( قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ )أي: انتظروا بي الموت،فإنّا نتربص بكم، أن يصيبكم الله بعذاب من عنده، أو بأيدينا.
وتاكيد الخبر بأنّ في : (فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) لانهم لغرورهم اقتصروا على أنهم يتربصون به ليروا هلاكه ، فكأنهم ينكرون أن يتربص بهم كما يتربصون.

( أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ)
إضراب انتقال دعا إليه ما في الاستفهام الإنكاري المقدر بعد أم من معنى التعجيب من حالهم ،كيف يقولون مثل ذلك القول السابق وهم يدّعون أنهم أهل عقول، فكيف أتأمرهم عقولهم بهذا الكلام المتناقض، فإنّ الكاهن مفرط في الفطنة والذكاء والدهاء، والمجنون: هو ذاهب العقل فضلا عن أن يكون له فطنة وذكاء،ومع انتقالهم لقولهم الثالث : ( شاعر ) اثبتوا تناقضهم وأبطلوا حجتهم بأنفسهم.
ثم بين تعالى العلة الحقيقية التي حملتهم على ما قالوا، وهي ظلمهم وطغيانهم فقال :( أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ) أي بل هم قوم طاغون.قد طغوا على ربهم، فتجاوزوا ما أذن لهم، وأمرهم به من الإيمان إلى الكفر به، فلا يستغرب من الطاغي المتجاوز الحد كل قول وفعل صدر منه.

(أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ)
ثم انتقل إلى شبهة أخرى أوردوها أن زعموا أنه صلى الله عليه وسلم تخلق القرآن من تلقاء نفسه، والتقول: تكلف القول، ولا يستعمل ذلك إلا في الكذب وليس الأمر كما زعموا، بل لا يؤمنون، بالقرآن استكبارا.
ثم أضرب سبحانه عن قولهم: تقوله وانتقل إلى ما هو أشد شناعة عليهم فقال: (بل لا يؤمنون) أي: سبب صدور هذه الأقوال. المتناقضة عنهم كونهم كفارا لا يؤمنون بالله، ولا يصدقون ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم، فلو آمنوا، لم يقولوا ما قالوا.
ثم تحداهم سبحانه وألزمهم الحجة فقال:

(فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ)أي مثل القرآن في نظمه وحسن بيانه، إن كانوا صادقين، أن محمدا تقوّله من تلقاء، فلو سلمنا أنه تقوله وهو واحد من العرب، وأنتم رؤوس العرب وفصحائهم فلزم عليكم أن تستطيعوا الاتيان بمثل هذا القرآن، فإذ لم تقدروا على معارضته والإتيان بمثله، فحينئذ أنتم بين أمرين: إما مؤمنون به، مهتدون بهديه، وإما معاندون متبعون لما علمتم من الباطل.

( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ)
إضراب انتقالي إلى إبطال ضرب آخر من شبهتهم في إنكارهم البعث، وفيه هذا، وفيه هذا استدلال عليهم، بأمر لا يمكنهم فيه إلا التسليم للحق، أو الخروج عن موجب العقل والدين، وبيان ذلك: أنهم منكرون لتوحيد الله، مكذبون لرسوله، وذلك مستلزم لإنكار أن الله خلقهم.
وقد تقرر في العقل مع الشرع، أن الأمر لا يخلو من أحد ثلاثة أمور:
إما أنهم خلقوا من غير شيء أي: لا خالق خلقهم، بل وجدوا من غير إيجاد ولا موجد، وهذا عين المحال.
أم هم الخالقون لأنفسهم، وهذا أيضا محال، فإنه لا يتصور أن يوجدوا أنفسهم .
فإذا بطل هذان الأمران، وبان استحالتهما، تعين القسم الثالث أن الله الذي خلقهم، وإذا تعين ذلك، علم أن الله تعالى هو المعبود وحده، الذي لا تنبغي العبادة ولا تصلح إلا له تعالى.

( أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ)
ثم خصص من الأشياء السماوات والأرض لعظمها وشرفها في المخلوقات وهم لا يدعون أنهم خالقوها فلزمتهم الحجة؛ ولهذا أضرب عن هذا وقال: ( بل لا يوقنون) إبطالا لمضمون الجملتين اللتين قبله، أي: ليسوا على يقين من الأمر،وليس عندهم علم تام، ويقين يوجب لهم الانتفاع بالأدلة الشرعية والعقلية. بل يخبطون في ظلمات الشك في وعد الله ووعيده .
فالذي خلق السماوات والأرض لا يعجزه إعادة الأجساد بعد الموت والفناء.

( أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ )
انتقال بالعود إلى رد جحودهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك غير أسلوب الإخبار فيه إلى مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم،
(خزائن ربك): قال عكرمة: يعني النبوة، و قال مقاتل: أبأيديهم مفاتيح ربك بالرسالة فيضعونها حيث شاؤوا؟
وكان الأصل الذي ركزوا عليه جحودهم توهم أن الله لو أرسل رسولا من البشر لكان الأحق بالرسالة رجلا عظيما من عظماء قومهم، وكأنهم الوكلاء المفوضون على خزائن رحمة الله، وهم أحقر وأذل من ذلك، فليس في أيديهم لأنفسهم نفع ولا ضر، ولا موت ولا حياة ولا نشور.
( أم هم المسيطرون) أي: المتسلطون على خلق الله وملكه، بالقهر والغلبة؟
ليس الأمر كذلك، بل هم العاجزون الفقراء ففي هذا إبطال أن يكون لهم تصرف في شؤون الربوبية فيجعلوا الأمور على مشيئتهم كالمالك في ملكه والمدبر فيما وكل عليه، فالاستفهام إنكاري بتنزيلهم في إبطال النبوة عمن لا يرضونه منزلة من عندهم خزائن الله يخلعون الخلع منها على من يشاؤون ويمنعون من يشاؤون.

( أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ)
لما نفى أن يكون لهم تصرف قوي أو ضعيف في مواهب الله تعالى على عباده أعقبه بنفي أن يكون لهم اطلاع على ما قدره الله لعباده اطلاعا يخولهم إنكار أن يرسل الله بشرا أو يوحي إليه ، أو أن يكون ما هم عليه حق بالوحي، فهم مستمسكون به لذلك.
وسلك في نفي علمهم بالغيب طريق التهكم بهم بإنكار أن يكون لهم سلم يرتقون به إلى السماء ليستمعوا ما يجري في العالم العلوي ، إذ من المعلوم أنه لا سلم يصل أهل الأرض بالسماء وهم يعلمون ذلك ويعلمه كل أحد.
فقال لهم بالأمر التعجيزي (فليأت مستمعهم بسلطان مبين)
مستمعهم : أي من استمع منهم لأجلهم.
والسلطان: الحجة، أي حجة على صدقهم في نفي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا تحد لهم بكذبهم، فأنى لهم أن يأتوا بسلطان ؟والله تعالى عالم الغيب والشهادة، فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول يخبره بما أراد من علمه.

( أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ )
لما نفى أن تكون لهم مطالعة الغيب من الملإ الأعلى إبطالا لمقالاتهم في شؤون الربوبية أعقب ذلك بإبطال نسبتهم لله بنات استقصاء لإبطال أوهامهم في المغيبات من العالم العلوي، فهذه الجملة معترض بين جملة( أم لهم سلم ) وجملة( أم تسئلهم أجرا ) ، والاستفهام إنكارا لأن يكون لله البنات، وسلك في إبطال هذا الكلام دليل إقناعي يتفطنون به إلى خطل رأيهم وهو قوله: ولكم البنون، فكيف تجعلون لله ما يكرهون ؟ وفيه إشعار بأن من كان هذا رأيه فهو بمحل سافل في الفهم والعقل، فلا يستبعد منه إنكار البعث وجحد التوحيد.

( أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ)
ثم رجع سبحانه إلى خطاب رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: أم تسئلهم أجرا أي: بل أتسألهم أجرا يدفعونه إليك على تبليغ الرسالة (فهم من مغرم) أي: من التزام غرامة تطلبها منهم
( مثقلون) أي: مجهودون بحملهم ذلك المغرم الثقيل، فمنعهم ذلك عن الإسلام.
والاستفهام استنكاري فليس الأمر كذلك، بل أنت الحريص على تعليمهم، تبرعا من غير شيء، بل تبذل لهم الأموال الجزيلة، على قبول رسالتك، والاستجابة لأمرك و دعوتك، وتعطي المؤلفة قلوبهم ليتمكن العلم والإيمان من قلوبهم .
و كل ذلك إبطال للأسباب التي تحملهم على زعم انتفاء النبوءة عن محمد صلى الله عليه وسلم فبعد أن أبطل وسائل اكتساب العلم بما زعموه عاد إلى إبطال الدواعي التي تحملهم على الإعراض عن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم.

( أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ )
هذا نظير الإضراب والاستفهام في قوله: ( أم عندهم خزائن ربك ) ، أي بل أعندهم الغيب فهم يبينون ذلك للناس سننا وشرعا يكتبونه وذلك عبادة الأوثان وتسييب السوائب وغير ذلك من سيرهم ؟! أي ما عندهم الغيب حتى يكتبوه، فبعد أن رد عليهم إنكارهم الإسلام بأنهم كالذين سألهم النبي صلى الله عليه وسلم أجرا على تبليغها أعقبه برد آخر بأنهم كالذين اطلعوا على أن عند الله ما يخالف ما ادعى الرسول صلى الله عليه وسلم إبلاغه عن الله فهم يكتبون ما اطلعوا عليه فيجدونه مخالفا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا كله إلزام لهم بالطرق العقلية والنقلية على فساد قولهم، وتصوير بطلانه بأحسن الطرق وأوضحها وأسلمها من الاعتراض.
قال قتادة: هذا جواب لقولهم: نتربص به ريب المنون يقول الله: أم عندهم الغيب حتى علموا أن محمدا يموت قبلهم فهم يكتبون.
قال ابن قتيبة: معنى يكتبون يحاكمون بما يقولون.قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ تَخَاصَمَا إِلَيْهِ: (أَقْضِي بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ).
أَيْ بِحُكْمِ اللَّهِ.
وحاصل المعنى: أنهم لا قبل لهم بإنكار ما جحدوه ولا بإثبات ما أثبتوه.

(أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ)
انتقال من نقض أقوالهم وإبطال مزاعمهم إلى إبطال نواياهم وعزائمهم من التبيت للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ولدعوة الإسلام من الإضرار والإخفاق وفي هذا كشف لسرائرهم ، وتنبيه للمؤمنين للحذر من كيدهم.
والكيد : المكر.
وهذا تهديد صريح لهم، ومن مظاهر هذا التهديد ما حل بهم يوم بدر على غير ترقب منهم ، وأذلهم في غير موطن، ومكر سبحانه بهم: (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين )

( أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ )
هذا آخر سهم في كنانة الرد عليهم وأشد رمي لشبح كفرهم، وهو شبح الإشراك وهو أجمع ضلال تنضوي تحته الضلالات وهو إشراكهم مع الله آلهة أخرى، فأتى بالاستفهام الإنكاري ونزه تعالى نفسه عما يشركون به من الأصنام والأوثان، فليس له شريك في الملك، ولا شريك في الوحدانية والعبادة، وهذا هو المقصود من الكلام الذي سيق لأجله، وهو بطلان عبادة ما سوى الله وبيان فسادها بتلك الأدلة القاطعة، وأن ما عليه المشركون هو الباطل، وأن الذي ينبغي أن يعبد ويصلى له ويسجد ويخلص له دعاء العبادة ودعاء المسألة، هو الله المألوه المعبود، كامل الأسماء والصفات، كثير النعوت الحسنة، والأفعال الجميلة، ذو الجلال والإكرام، والعز الذي لا يرام، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الكبير الحميد المجيد.


المراجع المعتمدة:
جامع البيان للطبري
معالم التنزيل للبغوي
المحرر الوجيز لابن عطية
فتح القدير للشوكاني
تيسير الرحمن للسعدي
التحرير والتنوير لابن عاشور

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 28 ذو الحجة 1437هـ/30-09-2016م, 08:41 PM
ضحى الحقيل ضحى الحقيل غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - الامتياز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2015
المشاركات: 666
افتراضي

قال تعالى في سورة هود:
{ ولَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) }

نوح عليه السلام، هو أول رسول إلى أهل الأرض بعد آدم عليه السلام، وقد لبث في قومه مدة طويلة، الف سنة إلا خمسين عاما، فحري بنا أن نتأمل كيف كانت دعوته لقومه، خاصة في هذه الآيات المباركة من سورة هود، والتي تضمنت وصفا بديعا لمجادلة نوح لقومه ومحاجته لهم.

تأمل كيف بدأ مع قومه بالأسلوب اللين، المباشر، الواضح.
{ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ}
- وضح دوره ووظيفته وأنه نذير ظاهر النذارة .
- بين أصل ما يدعو إليه وهو التوحيد .
- بين شفقته على قومه وأنه يخاف عليهم العذاب الأليم في الدنيا والآخرة إن استمروا على ما هم عليه من الشرك .

فاحتج عليه السادة والكبراء من قومه بقولهم:
{.. مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ}

فأوردوا عليه جملة من الشبه وهي:
- أنه بشر مثلهم، وليس ملك حتى يوحى إليه
- وأنه لم يتبعه إلا الضعفاء ولم يتبعه السادة والشرفاء.
- أن هؤلاء الضعفاء اتبعوه فور أن دعاهم دون تفكر، لذلك قال {بادي الرأي} أو أنهم اتبعوه ظاهرا وباطنهم خلاف ذلك.
- وأنهم لا يرون عليهم فضيلة في خَلق، ولا خُلق، ولا رزق، ولا حال.
وختموا ذلك باتهامه ومن اتبعه بالكذب فيما يدعونه.

تلى ذلك ذكر الله سبحانه لرد نوح عليه السلام على قومه، ومحاجتة لهم محاجة هادئة، ناصحة، تضمنت الرد على جميع ما أثاروه من شبه، ابتدأ فيه بالرد المجمل ثم انتقل إلى الرد المفصل:
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ(28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30)}

وهذا هو الرد المجمل على قولهم، فهم إن لم يروا فيه ما يحملهم على التصديق فهو لا يستطيع إرغامهم على الهدى، كما أنه لا يستطيع منع الضعفاء من متابعته والإيمان به.
- فتودد إليهم أولا بمناداتهم ب {يا قوم } ليكون ذلك أقرب إلى استجابتهم.
- ووصف ما آتاه الله من نبوة بأنه رحمة، وبأنه بين واضح، وفي هذا تزكية لما يدعوهم إليه وحث لهم على اتباعه.
- وصف ما آتاه الله من نبوة بأنه من عند الله، يؤتيه من يشاء، وفي ذلك رد على ((اعتراضهم بأنه بشر))، فالفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.
- كرر قوم نوح قولهم {ما نراك} فأجابهم بقوله { فعميت عليكم } فجعل عدم رؤيتهم من قبيل العمى.
- أشار إلى أن ما رآه من رحمة عمي عليهم وأخفي عنهم، وفي هذا نفي((لقولهم ما نرى لكم علينا من فضل ))
- استخدم ضمير الجمع في قوله {أنلزمكموها} ليكرم أتباعه الذين أراد قومه أن يحقروهم.
- ثم بين أنه لا يطمع في إكراههم على الإيمان وأن ذلك أمر غير ممكن، وهذا أسلوب تربوي فعال إن وضحت للخصم أنك لا تفكر في إرغامه على قناعاتك، وإنما أنت مشفق عليه ليس إلا، وتبذل جهدك لتوصل له المفهوم.
- في وصفه لقومه بأنهم كارهون لدعوته، تعريض بأنهم لو تأملوا فيها وقد خلت قلوبهم من الكره لرأوا الحق.
- كرر في هذه الآيات لفظ { يا قوم }ليثير انتباههم بالنداء، ويذكرهم بأنه منهم، لذلك لا يريد لهم إلا الخير .
- ووضح لهم أنه لا يطمع بأجر ولا مال، وبرأ نفسه من المتاجرة بما يدعوهم إليه، وهذا يقطع ما قد يخطر لهم من أنه إنما يحتال ليأخذ نصيبا من الدنيا، ويبقى أنه إنما يدعوهم للنجاة، مع اثبات أنه يرجو الثواب من الله.
- كما نفى أن يكره قومه على الإيمان، نفى أن يطرد من آمن من الضعفاء.
- بين أن هؤلاء الضعفاء الذين استحقروهم سيلاقون ربهم وإن كنتم تجهلون ذلك وتجهلون تبعته، وفي ذلك تعظيم لهم أنهم سيلاقون ربهم، وتخويف لمن يظلمهم بأنهم سيخاصمونه
- وصف من اتبعه بالإيمان تكريما لهم وخلافا لوصف الكفار لهم بالأراذل.
- ذكر خوفه من الله إن طردهم، وحث قومه على التذكر والخوف من الله

ثم جاءت الآية التي فصل فيها الرد على ما أوردوه من شبه، بعد أن أجمل في الآيات السابقة الرد عليهم، فقد استدل قومه على نفي نبوته بأنهم لا يرون له فضل عليهم، فقرر ذلك بأن لا يدعي فضلا عليهم غير النبوة والوحي ، ولعله هنا استخدم اسلوب القول بالموجب.
فقال: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)}
- فنفى أن يكون ادعى ملك خزائن الأرض، أو أنه يعلم الغيب.
- ونفى عن نفسه أنه ادّعى أنه ملك، وفي هذا رد على قولهم {ما نراك إلا بشرا مثلنا}
- أما شبهة اتباع الضعفاء من الناس، فقد أبطلها بأن ضعفهم لَيْسَ بِحَائِلٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْخَيْرِ مِنَ اللَّهِ إِذْ لَا ارْتِبَاطَ بَيْنَ الضَّعْفِ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ ، وبين الوصول إلى الحق في الأمور الدينية، بمعنى أنه أبطل شبهتهم ببيان خطأ قولهم.
- ذكر أن الله أعلم بما في أنفس هؤلاء الضعفاء، فهو الذي هداهم، وأمرهم موكول إليه، وفي هذا إشارة إلى أن العبرة بما في القلوب وليس بما يظهر من قوة في الأجساد أو كثرة في الأموال، وهو رد على قولهم { وما نرى لكم علينا من فضل}، كما أن فيه رد على قولهم { بادي الرأي} على القول بأن المعنى أن اتبعهم فيما يبدو ويظهر وليس في الحقيقة فبين بأن أمرهم وأمر ما في أنفسهم موكول لربهم، وليس له.
- ختم قوله بأن الحكم على الضعفاء بأن الله لن يؤتيهم خيرا، من الظلم لهم بالقضاء عليهم بغير علم، ومن الظلم لنفسه بالقول بما لا يعلم، وفي هذا توجيه لالتزام قول الحق والبعد عن الظلم، وإشارة إلى أن الذين رموا المؤمنين بأنهم أراذل قد ظلموهم.

فلما سئم قوم نوح من إثبات حجتهم، أرادوا أن يختموا الجدل بينهم وبينه فقالوا:
{.. يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) }

فرد عليهم نوح بأن ما طلبوه من العذاب، وهم منكرون له مستبعدون لوقوعه إنما هو بيد الله القوي القادر، يأتيهم من عنده متى شاء، وأنهم لن ينجوا منه ولن يفلتوا.

{قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33)}
ثم قال:
{ وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)}

مشيرا إلى أن مهمته هي نصحهم ودعوتهم، وأن الأمر بيد الله إن شاء هداهم وإن شاء تركهم في غوايتهم، ولن يثنيه ذلك عن أداء مهمته التي كلف بها، وخوفهم وهددهم بأن الله ربهم وإليه مرجعهم.

فسبحان الله كيف لم تفلح هذه الحجج البينة في رد قوم نوح عن شركهم وما ذلك إلا لشدة كفرهم وإعراضهم وما كتب الله عليهم من هلاك

اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.
والحمد لله رب العالمين

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 28 ذو الحجة 1437هـ/30-09-2016م, 10:39 PM
منيرة خليفة أبوعنقة منيرة خليفة أبوعنقة غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Jan 2015
المشاركات: 618
افتراضي

وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17)أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) الزخرف

يوبخ الله الكفار على قولهم أن لله بناتاً وهم الملائكة -جل ثناؤه- والانسان دائم النكران والجحود للنعم، فمع أنهم لا يرضون لأنفسهم انجاب البنات ويستكرهونهم ،رضوا بأن يلقوا ذلك الوصف على الله -جل في علاة سبحانه عما يصفون -فهنا جاء أسلوب الحجاج بإعمال الجواب نفسه ضد الخصم فوصفه بأنه يلد ويولد:يرجع لكم ،وعدُّ البنات مقبول لله: فهو مستكره من عندكم، فكيف يكون لائق بالله -تعالى وعز وجل شأنه- وقوله:" أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وأصفاكم بالبنين" وهذا استفهام توبيخ وإِنكار ، وفيه أسلوب حجاج بتشنيع قول الخصوم وتقبيح مقالهم وتهكم عليهم ،وهو نظير قوله : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا..) فهم حين يبشر أحد بأنثى لا يستبشر بما بُشر به ، وهي في حد ذاتها من المستضعفين نبتت منبت حب الزينة، وليس لها سبيل وسلطة بأخذٍ القول منها بين الخصوم،قال قتادة: "قلَّما تتكلَّم امرأة بحُجَّتها إلاّ تكلَّمتْ بالحُجَّة عليها". فالمرأة تتربى في الحلية، وحبب لها الترف والزينة ،وإذا احتيج لتقرير دعوى أو إقامة حجة كانت في الخصام غير مبينة ولا مثبتة ،فهي غير قادرة لضعف حجتها فشهادتها باثنتين فنسبتهم لله الولد مع أدنى الجنسين في نظرهم يمحق التعظيم والاجلال لله ومع كل هذا زعمتم لله البنات! .(1)
وفي قوله (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ)
قال بعضهم: عُنِي بذلك الجواري والنساء.
وقال آخرون: عُنِي بذلك أوثانهم التي كانوا يعبدونها من دون الله.
وذكر الطبري "أن أولى القولين هو الجواري والنساء، لأن ذلك عقيب خبر الله عن إضافة المشركين إليه ما يكرهونه لأنفسهم من البنات، وقلة معرفتهم بحقه، وتحليتهم إياه من الصفات والبخل، وهو خالقهم ومالكهم ورازقهم، والمنعم عليهم النعم التي عددها في أول هذه السورة ما لا يرضونه لأنفسهم، فاتباع ذلك من الكلام ما كان نظيرا له أشبه وأولى من اتباعه ما لم يجر له ذكر".
وكما هو ملاحظ فالآية التي عقبتها قول الله تعالى :وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وهم لم يشهدوا خلق الملائكة أويحضروه حتى علموا أنهم خلقوا إناثا؟ فقد ذكرها الله تعالى: أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون . وبين الله تعالى أنه لم يشهد الكفار خلق شيء في قوله: ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم .(2)

وقد ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أربع مسائل: الأولى: أن الكفار افتروا على الملائكة أنهم إناث، زاعمين أنهم بنات الله.
الثانية: أنه وبخهم على ذلك توبيخا شديدا وأنكر عليهم ذلك في قوله: أشهدوا خلقهم يعني هل حضروا خلق الله لهم فعاينوهم إناثا.
الثالثة: أن شهادتهم الكاذبة بذلك ستكتب عليهم.
الرابعة: أنهم يسألون عنها يوم القيامة.(3)
وفي الآية عدة أوجه في بطلان القول بأن لله إناثاً:
منها: أن الخلق كلهم عباده، والعبودية تنافي الولادة.
ومنها: أن الولد جزء من والده، والله تعالى بائن من خلقه، مباين لهم في صفاته ونعوت جلاله، والولد جزء من الوالد، فمحال أن يكون لله تعالى ولد.
ومنها: أنهم يزعمون أن الملائكة بنات الله، ومن المعلوم أن البنات أدون الصنفين، فكيف يكون لله البنات، ويصطفيهم بالبنين، ويفضلهم بها؟! فإذا يكونون أفضل من الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
ومنها: أن الصنف الذي نسبوه لله، وهو البنات، أدون الصنفين، وأكرههما لهم، حتى إنهم من كراهتهم لذلك {إِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} من كراهته وشدة بغضه، فكيف يجعلون لله ما يكرهون؟
ومنها: أن الأنثى ناقصة في وصفها، وفي منطقها وبيانها، ولهذا قال تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} أي: يجمل فيها، لنقص جماله، فيجمل بأمر خارج عنه؟ {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ} أي: عند الخصام الموجب لإظهار ما عند الشخص من الكلام، {غَيْرُ مُبِينٍ} أي: غير مبين لحجته، ولا مفصح عما احتوى عليه ضميره، فكيف ينسبونهن لله تعالى؟
ومنها: أنهم جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الله إِنَاثًا، فتجرأوا على الملائكة، العباد المقربين، ورقوهم عن مرتبة العبادة والذل، إلى مرتبة المشاركة لله، في شيء من خواصه، ثم نزلوا بهم عن مرتبة الذكورية إلى مرتبة الأنوثية، فسبحان من أظهر تناقض من كذب عليه وعاند رسله.
ومنها: أن الله رد عليهم بأنهم لم يشهدوا خلق الله لملائكته، فكيف يتكلمون بأمر من المعلوم عند كل أحد، أنه ليس لهم به علم؟! ولكن لا بد أن يسألوا عن هذه الشهادة، وستكتب عليهم، ويعاقبون عليها.(4)



(1) الطبري 21/ 547 ،زاد المسير في علم التفسير 4 / 74 ،أوضح التفاسير1 / 600
(2)الطبري 21/ 547
(3)أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 7/ 92
(4)السعدي 1 / 763

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 2 محرم 1438هـ/3-10-2016م, 08:54 AM
الصورة الرمزية أم أسامة بنت يوسف
أم أسامة بنت يوسف أم أسامة بنت يوسف غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المتابعة الذاتية
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
المشاركات: 613
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم
رسالة تفسيرية في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [سورة العنكبوت]

هذه الآيات الكريمات تدحض افتراءات المشركين من كفار قريش ومن أهل الكتاب، في إنكارهم لنزول القرآن من عند الله تبارك وتعالى ونسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم و للمفسرين رحمهم الله في خطاب الآية القولين، سأعتمد في رسالتي هذه أن الخطاب للمشركين، وبياني في ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فإن الآلة الإعلامية منذ قرون الدعوة الأولى، بل منذ بعثة أول الرسل سيدنا نوح عليه السلام تعتمد الافتراء والكذب لصرف الناس على الحق، وفعلهم هذا سبقهم إليه إبليس حين أقسم لأبينا آدم عليه السلام ليغويه فقال: {ألا أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} {وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين}. والتالي لكتاب الله جل وعلا حين يمر بأحوال الأنبياء عليهم السلام مع أقوامهم يرى ذلك جليا، فهاهم قوم نوح -عليه السلام- يفترون {إنا لنراك في ضلال مبين} وتلك عاد يفترون على هود عليه السلام {إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين} وثمود تتصنع ثوب الناصح الأمين {أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه} والأدهى قوم لوط يشككون المرء في مقاييس الحسن الفطرية فيصيغون المدح في أسلوب ذم {إنهم أناس يتطهرون} قال قتادة رحمه الله: (عابوهم بغير عيب، وذموهم بغير ذم) والحاصل: أن تلك سلسلة طويلة من الافتراءات والكذب منذ بدء الخليقة بين حزب الشيطان يقودهم إبليس وبين حزب الله يتولاهم الله بمعيته ويؤيدهم بروح منه. ومن عظيم رحمة الله ولطفه أنه يرد على سفه هؤلاء ويدحض حججهم، فيزداد بذلك يقين المؤمن، ويهدى بعض الشاكين، ويخزى الكافر المبطل الظالم.
وقد سار كفار قريش على نهج أعداء الله المعتاد، فتعددت أباطيلهم على نبينا صلى الله عليه وسلم وعلى كتاب الله الموحى إليه القرآن الكريم، وفي هذه الرسالة -إن شاء الله تعالى- نرى كيف رد الله تعالى على فرية من غثائهم.

يقول الله تعالى: {وكذلك أنزلنا إليك الكتاب} فهذه بداية المحاجة، يقول الطبري رحمه الله: (كما أنزلنا الكتب على من قبلك يا محمد من الرسل {كذلك أنزلنا إليك} هذا الكتاب)
فهذا هو الإفحام الأول، كقوله تعالى: {قل ما كنت بدعا من الرسل..} فلست أول من يأتي برسالة من السماء، وهؤلاء فارس والروم الذين فاقوا قريش في علوم الدنيا وكانوا في نظرهم (الأمة المتطورة المتقدمة) التي يكنون لها الاحترام، أهل كتاب يؤمنون برسل وكتب أنزلت على الرسل، فمالكم كيف تحكمون! كما أنزل على أولئك الرسل عليهم السلام، أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب، قال الرازي: (وهذا قياس). فبين سبحانه وتعالى، أن تلك سنة من معهودة مذ بدأت حياة البشرية على الأرض؛ إرسال الرسل وإنزال الكتب والصحف عليهم.

ثم كان الإفحام الثاني: {فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به} تلك الأمة المتطورة يؤمنون برسلهم، وأن تلك الكتب من عند الله تبارك وتعالى، بل ويؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم ووصفه في كتبهم، وهذا سلمان وصهيب -رضي الله عنهما- دونكم فسلوهما.
والثالث: {ومن هؤلاء من يؤمن به} انظروا إلى عقلائكم، من لم تتهمونهم يوما في حكمتهم أبو بكر وعثمان -رضي الله عنهما- وأمثالهم ممن كانت تكن لهم قريش الاحترام والتقدير ويحبونهم {ومن هؤلاء من يؤمن به}، بل هو ذا عليه الصلاة والسلام تقولون له: (ما جربنا عليك كذبا) واشتهر بينكم بالصادق الأمين، أفيكذب على الله من لم يكذب على الناس!.
ثم وردت الرابعة زجرا وبيان للحقيقة البينة التي لا تخفى وإن حاولوا {وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون} فإنما تعلوا أصواتهم محاولين إسكات الحق الظاهر في قلوبهم وإظهار الثقة من نفوس مزعزعة، قال قتادة رحمه الله: (إنما يكون الجحود بعد المعرفة).
فكانت تلك حجج أربعة مقدمة لا تبقي ولا تذر، فيها ذكر سنة وحقيقة مألوفة وتاريخ معهود وزجر للنفس التي اعتادت التأسي، فذكرها بخير من يتأسون بهم من قومهم ومن غير قومهم، ثم كان بيان مدى السفه والبطلان وقلة العقل في حججهم، فعرض خامسا لشبهتهم التي تنوعت في ألفاظها وحاصلها واحد: أساطير الأولين، افتراه، إنما يعلمه بشر.. الخ.
ادعاء أن الكتاب من لفظ الصادق الأمين!
فقال الله تعالى: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك} فمن أين جئت به إذا! فلا أنت تعرف القراءة ولا الكتابة ولا خالطت أهل الكتاب فلا سبيل لك إلى العلم بنفسك، قال النحاس رحمه الله: (دليلا على نبوته لقريش، لأنه لا يقرأ ولا يكتب ولا يخالط أهل الكتاب ولم يكن بمكة أهل الكتاب فجاءهم بأخبار الأنبياء والأمم وزالت الريبة والشك).
وانظر كيف جاء تركيب هذه الألفاظ وما فيها من توكيد وتأكيد:
فأولها: البيان أنها ما كان يقرأ عليه الصلاة والسلام {ما كنت تتلو}.
وثانيها: تأكيد النفي كما قال ابن كثير رحمه الله: {مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} لتأكيد النفي.
ثم ثالثها: زيادة في تصوير النفي بقوله تعالى: {ولا تخطه بيمينك} واليمين خرجت مخرج الغالب كما قال ابن كثير رحمه الله، وبالمثال يتضح المقال، قال الزمخشري: (فإن قلت: ما فائدة قوله بيمينك؟ قلت ذكر اليمين وهي الجارحة التي يزاول بها الخط: زيادة تصوير لما نفى عنه من كونه كاتبا. ألا ترى أنك إذا قلت في الإثبات، رأيت الأمير يخط هذا الكتاب بيمينه، كان أشد لإثباتك أنه تولى كتبته).
يقول الله تعالى: {إذا لارتاب المبطلون} قال البيضاوي رحمه الله: (وسماهم مبطلين لأن ارتيابهم على تقدير أنه -صلى الله عليه وسلم- يقرأ ويكتب ظلم منهم لظهور نزاهته ووضوح معجزاته)
{إذا} أي: لكان لكم وجه إن كان يقرأ ويكتب لهذا الادعاء، وإنه لمردود إن كان أصلا، قال ابن عطية رحمه الله: (فإنه لو كان ممن يقرأ {لارتاب المبطلون} وكان لهم في ارتيابهم متعلق، وأما ارتيابهم مع وضوح هذه الحجة فظاهر فساده). ولو سلمنا فـقد أجابهم القرآن: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ}

قال الرازي: (فيه معنى لطيف، وهو أن النبي إذا كان قارئا كاتبا ما كان يوجب كون هذا الكلام كلامه، فإن جميع كتبة الأرض وقرائها لا يقدرون عليه ، لكن على ذلك التقدير يكون للمبطل وجه ارتياب، وعلى ما هو عليه لا وجه لارتيابه فهو أدخل في الإبطال)
فقدم في هذه الآيات الكريمات البيان ثم ذكر شبهتهم وردها، وفي آيات أخر ذكر افترائهم ثم كان البيان، كما في خواتيم الحاقة: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} بل وزاد على ذلك بمحاججة ترينا شيء من آثار رحمة الله وصبره ولطفه وإمهاله، فجاراهم القرآن وتحداهم: لو سلمنا أنه كما تقولون فأتوا بمثله أو بعشر سور أو بسورة! إن كان من عند بشر فأنتم بشر فقولوا كقوله!
وهذا المعنى الذي سبق وألمح إليه الرازي رحمه الله، قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير آية يونس: (فإنه تعالى تحداهم ودعاهم إن كانوا صادقين في دعواهم أنه من عند محمد [صلى الله عليه وسلم] فلتعارضوه بنظير ما جاء به وحده، واستعينوا بمن شئتم. وأخبر أنهم لا يقدرون على ذلك ولا سبيل لهم إليه، فقال تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} ثم تقاصر معهم إلى عشر سور منه، فقال في أول سورة هود : {أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين}، ثم تنازل إلى سورة فقال في هذه السورة: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين} وكذا في سورة البقرة -وهي مدنية- تحداهم بسورة منه ، وأخبر أنهم لا يستطيعون ذلك أبدا).
بل ولم يحاولوا أصلا إلا ما نقل لنا من محاولة مضحكة مبكية لمسيلمة الكذاب، فقدت كل وجه لجمال الكلم فيها، فلم يأت أصلا بمفيد ولا بليغ.
وقد ورد في هذه الآيات الكريمات من الحجاج أساليب عدة؛ فرأينا المنع والتسليم ورأينا براعة التعليل ورأينا المعارضة بالتحدي ورأينا الإلزام، كذلك التبكيت والتشنيع، فسماهم كافرون ثم مبطلون ثم ظالمون. والحمد لله رب العالمين.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 9 محرم 1438هـ/10-10-2016م, 03:54 PM
علاء عبد الفتاح محمد علاء عبد الفتاح محمد غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - الامتياز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2015
المشاركات: 599
افتراضي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

تفسير الآيات [21-23] سورة الأنبياء.
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23) الأنبياء


في هذه الآيات رد قوي على المشركين الذين جعلوا لله شريكاً في حقه بأن عبدوا معه ءالهتهم الباطلة التي لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً فضلاً عن أن تملك ذلك لهم أو لغيرهم،
وقد بين الله سبحانه بطلان دعواهم من وجوه منها:

- الوجه الأول: في قوله " أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ "
فأورد عليهم بطريقة المعارضة ما يتوقفوا معه عن الجواب ولا يستطيعوا الكلام ولا يسعهم إلا السكوت والتسليم حيث أورد عليهم سؤالاً لا يستطيعون جوابه لأنهم يعلمون يقيناً بأنهم لا تعيد الأموات للحياة مرة أخرى ولم ينتظر الله منهم الجواب بل بادرهم بالإنكار بإيراد هذا الاستفهام الاستنكاري.

- الوجه الثاني: قوله: "من الأرض"
فيه دليل لصاحب العقل المتأمل بأن هذه الآلهة باطلة فهي من الأرض مصنوعة بأيدي من يعبدها من الأخشاب أو الحجارة، لم تخلق شيئاً بل هم من أوجدها وهذا كقول إبراهيم عليه السلام لقومه: " أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ فِي [الصَّافَّاتِ: 95] ".

- الوجه الثالث: أنه بطريقة السبر والتقسيم في هذه الآية
وبالتقسيم نجد أن فيها احتمالان:
=أحدهما: أن ءالهتهم التي في الأرض هي آلهة حقة.
=الآخر: أن هناك إله آخر هو الحق وآلهتهم باطلة.
والسبر فيها: أن الأول قد بين الله بطلانه من وجهين:
أحدهما بالاستفهام الاستنكاري الذي يمنع من وجود هذه الآلهة، والآخر في بيان أنها لا تملك صفات الربوبية التي من أظهرها الإحياء بعد الموت.
فياله من تقرير بديع لإثبات أن الله هو الإله الحق المستحق أن يفرد بالعبادة وأن ما سواه من الآلهة كلها باطلة لا تملك شيئاً ولا تستحق من الألوهية شيئاً.

- الوجه الرابع: أنهم إن كانوا قد خلقوا هذه الآلهة بأيديهم فإنها كانت معدومة من قبل وهذه ينافي كونها الإله الحق.

- الوجه الخامس: في قوله:" لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا" تعليل يفهمه كل ذو بصر وعقل وهو أنه لو كان في السماوات والأرض آلهة مع الله لفسدتا لتعدد التدابير فيهما وتعارضها واختلافها، وهذا شيء معروف لدي الناس، فإنه لو لا يمكن أن يتفقوا جميعاً في كل التدابير والأوامر والنواهي، ولو أراد أحدهم شيء ولم يرده الآخر فلا يمكن الجمع بين مراديهما، ولو أمر أحدهما مراده دل ذلك على عجز الآخر وهذا لا يكون في حق إله فهذا يعد دليل قطعي على تفرد الله سبحانه لأننا نري استقامة السماوات والأرض وانتظامها.

- الوجه السادس: تنزيه الله سبحانه وتعالى عما قالوه مما يدل على بطلانه وعلى تفرد الله بالربوبية والألوهية فهو واحد ولا يقبل معه شريك ولهذا ذكر الله دليل التمانع في موضع آخر في قوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}.

- الوجه السابع: اثبات اسم إضافي لله وهو "رب العرش" فالله هو الإله الحق الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى.

- الوجه الثامن: أن العرش هو أعظم المخلوقات فمن كان رباً له فهو ربٌ لمن دونه من المخلوقات من باب أولى.

- الوجه التاسع: في قوله: "لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ" تقرير تفرد الله سبحانه بالألوهية والربوبية ومن دلائل ذلك أنه لا يُسئل عما يفعل؛ فإنه يتصرف فيما يملك سبحانه بحكمة وعدل ورحمة وتدبير ليس له مثيل.

- الوجه العاشر: في قوله: "وَهُمْ يُسْئَلُونَ" ففيه بيان لعجز المخلوقين وعدم تملكهم لشيء فهم يسئلون عن كل ما يفعلون ويحاسبون على أفعالهم ويجازون عليها.

نسأل الله أن يهدينا إلى الصراط المستقيم.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 25 محرم 1438هـ/26-10-2016م, 12:13 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي

تقويم التطبيق الرابع


أحسنتم جميعا بارك الله فيكم، وقد كتبتم رسائل حسنة تدلّ على حسن فهم وجودة بيان ، وتكشف عن ملكة حسنة تحتاج إلى عناية وصقل لتؤتي ثمارها بإذن الله تعالى.


نورة الأمير: أ+
- أحسنت بارك الله فيك ونفع بك.
- تنبيه: وصف ما قام به إبراهيم عليه السلام بأنه تخريب ( من غير تقييد ) لا يصح.
سارة المشري: أ
- أحسنت بارك الله فيك
- رسالتك قيمة، وتوظيفك لأدوات الاحتجاج جيد.
سها حطب: أ
- أحسنت بارك الله فيك
- رسالتك قيمة ،
ضحى الحقيل: أ+
- أسلوبك يمتاز بالوضوح والمباشرة وحسن الاختصار، حاولي أن توظّفي أدوات الحجاج في رسالتك فهي تزيدها قوّة وحسناً.
تنبيه: قولك: (فسبحان الله كيف لم تفلح هذه الحجج البينة في رد قوم نوح عن شركهم) نسبة عدم الفلاح إلى الحجج لا يحسن وإن أردت معنى صحيحاً،
فلو استبدلت هذه العبارة بما هو أليق بمقام تمجيد الله تعالى والثناء على حججه البيّنة وتنسبي عدم الفلاح إليهم لكان أقوم وأحسن، فهو في حقيقة الأمر لم يفلحوا في الانتفاع بحجج الله تعالى، وما حرمهم إلا كبرهم وإعراضهم.

منيرة أبو عنقة: أ
- أحسنت بارك الله فيك.
- واصلي التمرن على استعمال أدوات الحِجاج.
- انسبي أقوال المفسرين التي تذكرينها في رسالتك إلى قائليها.

أم أسامة: أ+
- أحسنت بارك الله فيك.
- أسلوبك في الحجاج ممتاز، ولديك اقتدار حسن على التعبير، لكن لا بد من مراجعة الرسالة لغويا قبل النشر لاجتناب ظهور الأخطاء التي يمكن تلافيها
وإشارتك لأدوات الحجاج في آخر الرسالة ينقصه التمثيل والتبيين.

علاء عبد الفتاح: ب+
- أحسنت بارك الله فيك
- واصل التمرّن على استعمال أدوات الحجاج، فقد فاتك التنبيه على بعض ما استعمل في هذه الآيات، ومن ذلك: التبكيت والتشنيع، والإضراب، ونقض العلة.
طريقة تطبيق السبر والتقسيم التي ذكرتها فيها نظر
والصواب أن يقال:
إن الآيات في إشارة إلى ثلاثة أقسام: قسمان باطلان وقسم صحيح.
القسم الأول: أن تكون آلهتهم لها سلطان مطلق في الأرض وفي السماء.
والقسم الثاني: أن يكون في السماء إله وفي الأرض إله.
واقسم الثالث: أن يكون الإله الحق واحداً لا شريك له، له ما في السموات وما في الأرض.
فالقسم الأول أبطله بقوله: {أم اتخذوا آلهة من الأرض} ؛ فإنها لو كانت آلهة حقا لما كانت في الأرض واختارت السفل على العلو؛ فإنّ الإله الحقّ هو العليّ الذي لا يرضى بالدون ولا بالسفل.
والقسم الثاني: أبطله بقوله: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا}
فتعيّن القسم الثالث وهو الحق.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 27 محرم 1438هـ/28-10-2016م, 01:57 PM
هدى مخاشن هدى مخاشن غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المتابعة الذاتية
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 240
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم وبعد:
فإن الصراع بين الحق والباطل صراع قديم، ودائماً ما يلقي أعداء الحق الشبهات في طريق سالكيه، ومهما علا الباطل فإن حجته داحضة، وهو كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، ومن تلك الشبهات الشبهة المذكورة في قوله تعالى
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ۖ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ ۖ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۚ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)}
فهذه الشبة مبعث القول فيها ثلاثة أسباب على الإجمال/
1- المبالغة في تعظيم اليهود لعزير وتعظيم النصارى لعيسى وإطراءهم لهم؛ فعزير كان حافظا للتوراة أو كان حافظا لأكثرها وأملاها عليهم من حفظه واستنسخوها بعد أن سلط الله الملوك على بني إسرائيل، ومزقوهم كل ممزق، وقتلوا حَمَلَةَ التوراة‏، وعيسى عليه السلاملأنه خلق من غير أب ولأنه كلمة الله التي ألقاها إلى مريم وروح منه فعظموهم وأطروهم حتى قالوا تلك المقولات الشنيعة.
2- جهل النصارى، وخبث اليهود وشرهم المعهود، وتجرأهم على الله وكراهيتهم لدين الإسلام، فلا غرابة في الأمر فإنما هي سوءة من سوءاتهم الكثيرة.
3- تسويل الشيطان لهم واتباعهم له، واتخاذ الأحبار والرهبان أرباب يُحِلُّون لهم ما حرم اللّه فيحلونه، ويحرمون لهم ما أحل اللّه فيحرمونه، ويشرعون لهم من الشرائع والأقوال المنافية لدين الرسل فيتبعونهم عليها‏.‏
والرد يكون عليهم من وجوه عدة:
- الأول/ {وقالت اليهود} أن هذا القول خاص؛ خرج بالعموم وأريد به الخصوص وهذا أسلوب قرآني معروف كقوله {الذين قال لهم الناس} ولم يقل كل الناس،فليس هذا هو قول كل يهودي، بل إن هذه المقولة لم تكن عند اليهود قديما إنما هي طارئة وليست من معتقداتهم ،يضاهئون بها قول الذين كفروا من قبل، فبهذا يتناقض إجماعهم، وهذا يدل على بطلان قولهم. بعكس ما جاءت به رسل الله حيث أجمعت وتوافقت على توحيد الله بالألوهية والربوبية
- الثاني/ تضاد مقولاتهم فمرة يقولون أنّه إله، وتارة أخرى يقولون ابن الله، وتارة {ثالث ثلاثة } {وقالت النصارى المسيح ابن الله} {إن الله هو المسيح ابن مريم} وهذا يدل على كذبهم وافتراءهم وأن ليس هناك دليل يقوم عليه القول.
- الثالث/ {وقالت اليهود} {وقالت النصارى} هي عطف على قوله {ولا يدينون دين الحق} فهذا تشنيع لهم فإنهم بلغوا في الكفر غايته حتى ساووا المشركين.
- الرابع/ ضمير الهاء في {ذلك قَولُهم} يعود على اليهود والنصارى فالقول مجرد قول منهم والمعروف أن الفريقين كلاهما ضال ولا مؤيد لقولهم.
- الخامس/ {ذلك قولهم بأفواههم} ولم يقل في كتبهم ولكن قال بأفواههم وذلك بمعنى أن الادعاء لم يتعدى الشفهية فهو قول كاذب وهذه النقطة وحدها كفيلة بالرد عليهم، فهو قول ساذج لا بيان له ولا برهان، مبني على مشابهة قول الكفار في قولهم: ‏الملائكة بنات اللّه‏وهو مجرد نَفَس لا معنى صحيح تحته، ولا هو موجود في عالم الحقيقة، قال أهل المعاني: إن الله سبحانه لم يذكر قولا مقرونا بذكر الأفواه والألسن إلا وكان قولا زورا، كقوله: يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم وكبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ويقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم.
- السادس/ قول اليهود هو قول ليس له أصالة قديما بل هو قول طارئ بدليل قوله تعالى {يضاهئون قول الذين كفروا من قبل} فاليهود الذين كانوا من قبل لم يقولوا بقولهم.
- السابع/ {يضاهئون قول الذين كفروا من قبل} ما شابه الباطل فهو باطل فهم بمقولتهم هذه يشابهون الذين وصفهم الله بالكفر ومن لا يبالي بما يقول لا يأخذ بقوله فإنه لا دين ولا قول يحجزه عن قول أي شيء فكيف تكون تلك المقولة صحيحة؟!
- الثامن/ الآلة المستخدمة في القول والدفاع واحده وهي الأفواه، فقولهم بأفواههم ضعيف لا يسنده حجه، ودفاعهم عن قولهم ضعيف كمن يريد أن يطفئ شعاع الشمس، أو نور القمر بنفخه، وهذا عبث لا سبيل إليه، ودليله إضافة النور إلى اسم الجلالة،فضعْف دفاعهم ناتج عن افتقار القول للحجة والبرهان فهو مجرد افتراء وقول قالوه.
- التاسع/ الشدة في تبكيت الله لهم {أنى يؤفكون} فيما قالوه إذ القرآن في غالب وحيه أنه إذا كان القول حق إما يؤيده أو يسكت عنه، وإذا كانت المقولة باطلة ردها ببطلانها كما هو هنا فقال قاتلهم الله واستخدم صيغة المفاعلة التي تدل على المبالغة فيكون المعنى لعنهم الله لعنا شديدا، لأن الملعون كالمقتول وذلك تعجبا من مقولتهم.
- العاشر/ أنهم اتخذوا علماءهم وعبادهم أرباب من دون الله وهؤلاء العلماء والعباد يحلون الحرام ويحرمون الحلال فكيف ينتج عنهم مقولة صدق وحق؟!
- الحادي عشر/ الحق واحد ولا يتعدد وهو دين الإسلام الذي هو قائم على توحيد الله فقال: {وما أمروا إلا ليعبدوا إله واحدا} فكل الشرائع تقيم هذا الأمر، وخصت الآية الملتين بمرجع ضمير واو الجماعة لأن وصايا كتب الملتين طافحة بالتحذير من الإشراك وعبادة المخلوقين، والإله المعبود بحق لا يكون إلا واحد ليس له شريك في أمره وخلقه وإلا فسد أمر السماء والأرض فتقرر عدم الإشراك به وبيان أنه المتفرد الذي ليس معه صاحبة ولا ولدا وأنه الصمد الذي لا يحتاج إلى شيء والكل محتاجون إليه.{َوما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً}
- الثاني عشر/ امضاء الله أمره، واتمام نوره دهرا طويلا بلا انقطاع، ولو اجتمعوا جميع الخلق على إطفائه لن يطفئوه، ولو كثر المعادين وسعوا في رده وإبطاله، فسعيهم لا يضر الحق شيئًا‏، فقد تكفل الله بحفظه من كل من يريده بسوء، وفي مقابل هذا نرى اندثار قول اليهود والنصارى وهذا دليل على بطلان أقوالهم وإثبات تنزه الله عنه، فالحق يعلو ولا يعلى عليه، ولهذا قال‏:‏ {‏وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ‏}
- الثالث عشر/ يستوجب وجود الولد أمور يتنزه الله ويتعالى عنها فالله خالق كل شيء ولا يحتاج إلى شيء بل كل ما في الكون محتاجون إليه {قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أم تقولون على الله ما لا تعلمون}
- الرابع عشر/ تحقق كفرهم بتعدد ما يدل عليه في الآيات كقوله {الكافرون} و{اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} وقوله {يشركون} و{ يضاهئون قول الذين كفروا من قبل} ومن تشبه بقوم فهو منهم.
- الخامس عشر/ يلزم من اتباع القول التزام طريق يسلكه المتبع ولأن مقولتهم باطلة كاذبة ليس لها حجة ولا برهان عدلت بصاحبها من سلوك الطريق المعلوم إلى المكان المجهول الذي من شأنه أن يُسأل عنه فقال الله متعجبا منهم مستفهما أنى يؤفكون؟ أنى يصرفون؟ فحاجّهم بأسلوب مناسب لقولهم لأن الإفك بمعنى الانصراف عن الشيء والابتعاد عنه فهم انصرفوا من الحق الواضح إلى الباطل المظلم، وبمعنى الكذب فهم كذبوا وصرفوا السامع عن الصدق. وأما المتبعون للإسلام فهم في يسلكون طريقا واضحا وهو طريق الحق والهدى.
- السادس عشر/ لو كان الله متخذا ولدا لانتقاه وأوجده على غير مثال سابق، فعزير مخلوق كغيره من المخلوقات، وهذا واضح للمتأمل، وعيسى ابن مريم كمثل آدم خلقه من تراب، بل إن خلق آدم أغرب من خلق عيسى عليهما السلام حيث خُلق من غير ذكر أو أنثى، وحواء أغرب من خلق عيسى لأنها خلقت من ضلع آدم أما عيسى عليه السلام فخلق في بطن أمه الصديقة عليهما السلام ثم لو كان الله متخذا من رسله ولدا فإن الله قد فضل بعض الرسل على بعض كمحمد وإبراهيم عليهما السلام، فهم أولى من غيرهم في الاتخاذ إن كان الله فاعلا ولكن الله لم يتخذ ولد ولا ينبغي له أن يتخذ ولدا، قال الله تعالى: {لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار}
بعد أن ثبتت الأقوال على صاحبيها وتقررت بأفواههم وصريح كلامهم، وتبين بطلانها والرد عليها يحذر الله عباده من الوقوع في مثل هذه الأمور بأسلوب التشهير زيادة في التشنيع، وسدّا لباب التنصل فيقول{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ۖ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ ۖ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۚ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (30)}
هذا والله أعلم ..

رد مع اقتباس
  #11  
قديم 29 محرم 1438هـ/30-10-2016م, 03:47 PM
ماهر القسي ماهر القسي غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى السابع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2015
المشاركات: 467
افتراضي الطالب ماهر غازي القسي

إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ۙ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ ۚ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) سورة غافر
آيات الله : هي حججه وبراهينه وأدلته
الجدال : هنا هو الخصام بالباطل والمماراة بغير الحق
وفي الآية مسائل :
- منها : أن الذين يخاصمون في آيات الله هو جدال بغير الحق جدال في الباطل .

- منها : نسب الله سبحانه الآيات إليه لتدل على عظمة هذه الآيات وأنها من عنده فلا يتطرق إليها شك او ريب حتى يكون فيها جدال ومماراة .

- ومنها أيضاً : أن هذا الجدال ليس فيه أي دليل يستحق أن ينظر فيه وإنما هي دعاوى باطلة وكاذبة .

- وفي هذه الآية أداة علمية مهمة من أدوات الجدل والمناظرة آلا وهي براعة التعليل وهي أن تأتي قول المناظر وتستخرج علة قوله والدافع إلى اعتقاده ذلك وتنقضه وتزيف الحامل له على هذا الاعتقاد , فالتعرف على العلة الحقيقية يفيد تركيز القول على ما تعالج به هذه لعلة فهنا تشير الآية إلى أن الدافع للجدال في آيات الله ليس عن علم علموه أو فهم فهموه أو دليل عرفوه وإنما هو الكبر وغمص الحق والاستعلاء على الانقياد للحق الخالص الذي ليس فيه ادنى شبهة , ويتكبرون عن اتباعك أيها النبي صلى الله عليه وسلم وقبول الحق الذي أتيتهم به حسدا منهم على الفضل الذي آتاك الله ، والكرامة التي أكرمك بها من النبوّة , وهم يريدون أيضاً إرادة التقدّم والرياسة، وأن لا يكون أحد فوقهم، ولذلك عادوك ودفعوا آياتك خيفة أن تتقدّمهم ويكونوا تحت يدك وأمرك ونهيك، لأن النبوة تحتها كل ملك ورياسة. أو إرادة أن تكون لهم النبوّة دونك حسدا وبغيا, كما قال تعالى ( وجحدوا بها واستيقنتها انفسهم ظلماً وعلواً) وقوله تعالى أيضاً ويدل عليه قوله تعالى ( لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ ) .

- كل هذا الذي في قلوبهم من إرادة الرياسة والتقدم وحسد النبي صلى الله عليه وسلم وحمل الناس على الكفر بهذا الدين الحنيف , ما هم ببالغيه ولن يصلوا إليه ولو بذلوا في سبيله كل غالٍ ونفيس , وهذا حالهم وديدنهم إلى يوم القيامة سوف يبقون على الحسد لهذه الأمة ويحاولون بترها وسحقها في سبيل رياستهم ولن يبلغوها أبداً ما دامت السماوات والأرض , وأيضاً لن يبلغوا دفع هذه الآيات ومنع البشر من الإيمان بهذا الدين العظيم .

- وقيل إن المجادلون هم اليهود لأنهم يؤملون خروج المسيح الدجال وقالوا بأنه سَيَخْرُجُ عَنْ قَرِيبٍ فَيَرُدُّ الْمُلْكَ إِلَيْنَا، وَتَسِيرُ مَعَهُ الْأَنْهَارُ، وَهُوَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ فَذَلِكَ كبر لا يبلغونه وقيل وَقِيلَ: كُلُّ مَنْ كَفَرَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا حَسَنٌ، لِأَنَّهُ يَعُمُّ .

- الآية تخاطب النبي صلى الله عليه وسلم وتعلمه بمكنونات أنفس الكافرين وفيها تعليم لمن بعده بحال من كفر وهذه أغلب أحاول الدافعة لهم على الكفر .

- وفي الآية فائدة عظيمة في دلالتها لنا على سبب كفر الكافرين وذلك لانك بمعرفة العلة يسهل عليك الدفاع عن الحق فلو كان عندهم ادنى شبهة لجاهدناهم بالقرآن على دحض هذه الشبهة ولكن لما نعلم أنه الكبر والتكبر والاستعلاء علمنا ضعف موقفهم وسخف اعتقادهم .

- لذلك أمر الله نبيه أن يستعذ به من شر فتنة الكافرين و قِيلَ: مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ الْآيَةَ نزلت في اليهود. وعلى القول الآخر من شر الكفار. و قيل: مِنْ مِثْلِ مَا ابْتُلُوا بِهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْكِبْرِ

- (إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) يقول: إن الله هو السميع لما يقول هؤلاء المجادلون في آيات الله وغيرهم من قول البصير بما تمله جوارحهم، لا يخفى عليه شيء من ذلك و وفي هذه الآية أمر بالصبر والتوكل على الله , والتوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم. وهو من أقوى الأسباب في ذلك. فإن الله حسبه، أي كافيه , كما قال تعالى : وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ

- وفي الآية الصبر على مجادلة الكفار حتى توقن نفوسهم وتلين إلى قول الحق فأمره بالاستعاذة به من شرهم ورد كيدهم عن انفسهم وعن نفس النبي صلى الله عليه وسلم فمن اتقى الله تولّى الله حفظه، ولم يكله إلى غيره , كما قال تعالى وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً
, فلم يأمره بقتلهم والحال أن المانع لهم من الإيمان هو الكفر وليس شبهة وجدوها , وطالما أن المانع هو الكفر فممكن أن ينفع معهم الصبر ومع الوقت تلين نفوسهم إلى قبول الحق الذي لا مراء فيه , فالحق لا يعلوه شيء ولو غطته مشاعر الحقد والحسد .
كما قال ابن القيم رحمه الله ( لصبر على عدوه، وأن لا يقاتله ولا يشكوه، ولا يحدث نفسه بأذاه أصلا. فما نصر على حاسده وعدوه بمثل الصبر عليه، والتوكل على الله ولا يستطل تأخيره وبغيه. فإنه كلما بغى عليه كان بغيه جندا وقوة للمبغى عليه المحسود، يقاتل به الباغي نفسه. وهو لا يشعر. فبغيه سهام يرميها من نفسه إلى نفسه. ولو رأى المبغى عليه ذلك لسرّه بغيه عليه.
ولكن لضعف بصيرته لا يرى إلا صورة البغي، دون آخره ومآله. وقد قال تعالى: 22: 60 وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ ) .
مصادر التفسير
ابن كثير
ابن القيم
الكشاف
الطبري

رد مع اقتباس
  #12  
قديم 16 صفر 1438هـ/16-11-2016م, 01:53 PM
الصورة الرمزية ابتهال عبدالمحسن
ابتهال عبدالمحسن ابتهال عبدالمحسن غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى الخامس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2015
المشاركات: 399
افتراضي

تفسيرقوله تعالى: { أءُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنظُرُ هَؤُلَاء إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ (15) } ص .


قد أقام الله سبحانه وتعالى في القرآن الحجج والبراهين على رسالته لمحمد صلى الله عليه وسلم ، فمرة أتهمه كفار قريش أن افتراه على الله ، ومرة قالوا إن هو شعر وتارة إن هو لمجنون ، فقد رد الله أقوالهم الباطنة في القرآن ومن تلك الأقوال ذكرت هذه الآيات في صورة ص ،
{ أءُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا} أي : مالذي فضله علينا من بين بيننا ، فليس بأكبرنا سنا ولا أشرفنا ،مثل قولهم في الآية :{ لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ(31)}الزخرف ، فقد دلت على قلة جهلهم واستبعادهم في نزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنكارهم أن يتفضل الله علي من يشاء من عباده بما شاء ،فرد الله تعالى على قولهم الباطل وبين الأسباب الذي دعاهم لقولهم ، فقال :
{ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي}، فتكون بل إضرابا إبطالياوتكذيبا، أي إنما قصدهم في التكذيب :
-أن إنعام الله على عباده على من يشاء.
- في وحي الله تعالى ،وفي هذا القرآن الذي أنزلناه من عندنا .
- أنهم أهملوا الأدلة الدالة على أنه حق منزل من عند الله .
وإضافة الذكر إِلى ضمِيرِ المتكلمِ وهو الله تعالى إِضافة تشرِيفٍ ولِتحقِيقِ كونِهِ مِن عِندِ اللهِ.
أتبع ذلِك الإِضراب بِإِضرابٍ آخر، فقال سبحانه وتعالى:
{بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8)} ، أي بيّن جرأتهم على ذلك القول أنهم لم يذوقوا عذاب الله تعالى ونقمته ، وعندها سيعلمون ماقالوا وماكذبوا به
{ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا(13)} الطور.


وقوله تعالى :{أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9)} ، أَم منقطعة وهي إضراب انتقالي ، فإن أَم مشعرة بِاستفهام بعدها هو للإنكار و التوبيخ ، إنكارا لقولهم : { أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا} ، وتقديم الظرف للاهتمام لأنه مناط الإنكار كقوله تعالى :{ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ } الزخرف ، فبين سبحانه تعالى أنه المتصرف في ملكه الفعال لما يشاء الذي يعطي من يشاء ما يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء ويهدي من يشاء ويضل من يشاء وينزل الروح من أمرِه على من يشاء من عباده ويختم على قلب من يشاء فلا يهديه أحد من بعد اللَّه، وإن العباد لا يملكون شيئا من الأَمر وليس إليهم من التصرف في الملك ولا مثقال ذرة وما يملكون من قطمير.
{الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ } فأجرى سبحانه صفة الرب العزيز الذي لا يرام جنابه لإبطال تدخلهم في تصرفاته ، و الْوَهَّابِ الذي يعطي ما يريد لمن يريد، لإِبطال جعلهم الحرمان من الخير تابعا لرغباتهم دون موادة الله تعالى.
فالنبوة رحمة عظيمة لا يستحق عطاءها إلا شديد العزة وافر الموهبة.

{أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10)}
وهنا إضراب انتقالي إلى رد يأتي على جميع مازعموا وينقض كلامهم بكلمة جامعة ، فبدأها بأم التهكمية وليس الإنكارية : أي ألهم ملك السماوات والأرض ومابينهما فكان لهم شيء منها فليصعدوا إلى أسباب السماء ،قال مجاهد وقتادة: أَراد بالأَسباب: أَبْوَابَ السَّمَاءِ وَطُرُقَهَا مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، وَكُلُّ مَا يُوَصِّلُكَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ بَابٍ أَوْ طَرِيقٍ فَهُوَ سَبَبُهُ، وَهَذَا أَمْرُ تَوْبِيخٍ وَتَعْجِيزٍ،فيطلعوا على حقائق الأشياء فيتكلموا عن علم في الإله وصفاته،وعن البعث وعدمه ، وصدق رسول الله صلى عليه وسلم ، فعلم أنهم لا يملكون ذرة من الملك فقد خسرت حجتهم وادعاؤهم الكاذب، فكيف يتكلمون، وهم أعجز خلق الله وأضعفهم بما تكلموا به؟! أم قصدهم التحزب والتجند، والتعاون على نصر الباطل وخذلان الحق؟ وهو الواقع فإن هذا المقصود لا يتم لهم، بل سعيهم خائب، وجندهم مهزوم، ولهذا قال:
{جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأحْزَابِ} ، أَي: هؤلاء الجند المكذبون الذين هم في عزة وشقاق سيهزمون ويغلبون ويكبتون كما كبِت الذين من قبلهم من الأحزاب المكذبين وهم أحزاب إبليس وأتباعه ، وهذه الآية كقوله تعالى في غزوة بدر:{ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44)سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (43)} القمر ، واختلف أهل التأويل في الإشارة ب (هنالك) ماهي :
القول الأول : أشار إل الارتقاء في الأسباب، أي هؤلاء القوم إن راموا ذلك جند مهزوم، وهذا قوي.
القول الثاني : الإشارة ب هُنالِكَ إلى حماية الأصنام وعضدها، أي هؤلاء القوم حند مهزوم في هذه السبيل.
القول الثالث : الإشارة ب هُنالِكَ، إلى يوم بدر ،وكان غيب أعلم الله به على لسان رسوله، أي جند المشركين يهزمون، فخرج في بدر، وهو قول مجاهد وقتادة .
القول الرابع : الإشارة إلى حصر عام الخندق بالمدينة.
على اختلاف التأويل فهذه الآية تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتثبيتا وبشارة أن دينه سيظهر عليهم ويغلبون .

وقوله تعالى :{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13)}
لما كان قوله تعالى :{ جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأحْزَابِ } بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم ووعدا له بالنصر ،فهذه الآية وعيد لهم وتحذير أن يصير مصيرهم عند تكذيبهم ماحل بالأحزاب السابقة ، ومن هؤلاء {قوم نوح }،{وعاد }وهم قوم هود ،{وفرعون ذو الأوتاد} والمقصود بالأوتاد أى: الجنود العظيمة، والقوة الهائلة، {وثمود } وهم قوم صالح، {وقوم لوط} ، {وأصحاب الأيكة} وهم قوم شعيب ، {أُولَئِكَ الأحْزَابُ} هنا تعريض بتخويف مشركي العرب من أن ينزل عليهم عذابا مثل الأقوام السابقة وقد كانوا أَكثر منكم وأَشد قوة وأكثر أموالا وأولادا فما دفع ذلك عنهم من عذاب اللَّه من شيء لما جاء أَمر ربك ولهذا قال عز وجل:
{إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ} ، وهي مؤكدة للآية السابقة {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} إِلى قَوْله:{وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ} ، أي أن كل هؤلاء الأحزاب كذبوا رسلهم فحق عليهم عذاب الله تعالى ، ومعنى حق أي وجب وثبت ، فما الذي يزكي ويطهر من كذّب برسول الله صلـى الله عليه وسلم وبذكر الله وآياته أن يصيبهم ماأصاب الأقوام السابقة !

فلينتظروا {صَيْحَةً وَاحِدَةً} وتعني الصيحة الواحدة إما : النفخة الأولى في الصور، أو بشارة للرسول صلى الله عليه وسلم بأن معانديه سيهزمون بالسيف يوم بدر فتكون صيحة القتال ، { مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} أي: من رجوع ورد، تهلكهم وتستأصلهم إن أقاموا على ما هم عليه، وقد أسند لهم الانتظار في حين هم غافلون ومكذبون فهو إسناد مجازي على طريقة المجاز العقلي فإِنهم ينتظر بِهِم ذلك المسلمون الموعودون بِالنصرِ، أو ينتظر بِهِم الملائكة الموكلون بِحشرِهم عند النفخة.

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
تطبيقات, على

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 04:07 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir