بابُ الجمعِ بين الصَّلاتيْنِ في السفَرِ
لمَّا كانَ السفرُ مظنَّةَ المشقَّةِ، رخَّصَ فيه الشارعُ بعضَ الرُّخصِ في العباداتِ، تيسيراً على عبادِهِ، ورحمةً بهم.
ومن تلك الرخصِ: إباحةُ الجمعِ للمسافرِ الذي ربَّما أدركَهُ وقتُ الصَّلاةِ وهو جادٌّ في سفرِهِ.
فأُبيحَ له أنْ يجمعَ بين صلاتيِ الظهرِ والعصرِ في وقتِ إحداهما، وبين صلاتيِ المغربِ والعشاءِ في وقتِ إحداهما أيضاً.
وهذا كلُّه من سماحةِ الشريعةِ المحمَّديَّةِ ويُسرِها، وهو فضلٌ من اللَّهِ تعالى، لِئَلاَّ يجعلَ علينا في الدِّينِ من حَرجٍ.
***
الحديثُ الثامنُ والعشرونَ بعدَ المائةِ
128- عن عبدِ اللَّهِ بنِ عباسٍ رضيَ اللَّهُ عنهُما قالَ: كانَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ صَلاَةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، إِذَا كانَ عَلَى ظَهْرِ سَيْرٍ، وَيَجْمَعُ بَيْنَ المَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ “ .
(128) المعنَى الإجماليُّ:
كان مِنْ عادةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سافرَ وجَدَّ بِهِ السيرُ في سفرٍ، الجمعُ بينَ الظُّهْرِ والعصرِ، إمَّا تَقديماً أو تأخيراً، والجمعُ بينَ المغربِ والْعِشَاءِ، إمَّا تقديماً أو تأخيراً، يُراعِي في ذلك الأرفقَ بِهِ وبمَن معه مِنَ المُسافرينَ، فيكونُ سَفرُه سَبباً في جَمْعِهِ الصَّلاَتينِ، في وَقْتِ إحداهما؛ لأنَّ الوَقْتَ صار وَقْتاً للصَلاَتينِ كِلَيْهِما.
اختلافُ الْعُلَمَاءِ:
اختلفَ الْعُلَمَاءُ في الجمْعِ. فذهبَ كثيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ والتابعينَ إلَى جوازِ الجمْعِ تَقديماً أو تأخيراً وهو مذْهَبُ الشَّافعيِّ، وأحمدَ، والثَّوريِّ، مُسْتَدِلِّينَ بأحاديثَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وابْنِ عُمَرَ، ومنهَا حَدِيثُ مُعاذٍ، " أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا ارْتحلَ قبلَ أنْ تَزيغَ الشَّمْسُ أخَّرَ صَلاَةَ الظُّهْرِ حتَّى يَجْمَعَهَا إلَى العصرِ، يُصلِّيهما جَميعاً، وإذا ارتحلَ بعدَ زَيْغِ الشَّمْسِ، صَلَّى الظُّهْرَ والعصرَ جميعاً ثُم سارَ. وكان إذا ارتحلَ قبلَ المغربِ، أخَّرَ المغربَ حتَّى يُصلِّيَهَا مع الْعِشَاءِ، وإذا ارتحلَ بعدَ المغربِ يُعجِّلُ الْعِشَاءَ فصَلاَّهَا مع المغربِ " رواه أحمدُ، وأبو داودَ، والترمذيُّ.
وقد صَحَّحَ بعضُ الأَئِمَّةِ هذا الْحَدِيثَ، وتَكلَّم فِيهِ بعضُهم الآخرُ، وأصْلُه في مُسْلِمٍ بدونِ جَمْعِ التَّقديمِ.
وذهبَ أبو حنيفةَ وصاحِباه، والحسنُ، والنَّخَعِيُّ: إلَى عدمِ جوازِ الجَمْعِ. فَتأوَّلوا أحاديثَ الجمعِ بأنَّه جَمعٌ صُورِيٌّ.
وصِفتُهُ ـ عندهم ـ أنْ يُؤخِّرَ الظُّهْرَ إلَى آخرِ وَقْتِهَا فَيصلِّيهَا، ثم يُصَلِّي بَعْدَهَا العصرَ في أَوَّلِ وَقْتِهَا، وكذلك المغربُ والْعِشَاءُ.
وهذا تَعسُّفٌ وخلافُ المفهومِ مِنْ لفظِ الجمْعِ، الذي معناه جَعْلُ الصَّلاَتينِ في وَقْتِ إحداهما، ويُعكِّرُ عَلَيْهِ أيضاً ثبوتُ جمعِ التقديمِ وهو يُنافِي هذهِ الطُّرقَ في التأويلِ. ذَكَر الخَطَّابِيُّ وابنُ عبدِ البرِّ أنَّ الجمعَ رُخصةٌ، والإتيانَ بالصَّلاَتينِ إحداهما في آخرِ وَقْتِهَا والثانيةَ في أَوَّلِ وَقْتِهَا، فِيهِ ضِيقٌ إذْ لا يُدركُه أكثرُ الخاصَّةِ، فما بَالُكَ بالعامَّةِ!.
وذهبَ ابنُ حزمٍ، وروايةٌ عَنْ مالكٍ: أنَّه يجوزُ جمعُ التأخيرِ دونَ التقديمِ.
وأجابوا عَنِ الأحاديثِ، بما قَالَهُ بعضُ الْعُلَمَاءِ مِنَ المَقالِ فيهَا.
واخْْتَلَفُوا أيضاً في حُكمِ الجمعِ.
فذهبَ الشَّافعيُّ وأحمدُ والْجُمْهُورُ، إلَى أنَّ السَّفرَ سببٌ في جمعِ التقديمِ والتأخيرِ، وهو روايةٌ عَنْ مالكٍ.
وذهبَ مالكٌ في المشهورِ عَنْهُ إلَى اختصاصِ الجمعِ في بوَقْتِ الحاجةِ، وهي إذا جَدَّ بِهِ السَّيرُ، واختارهَا شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ وقوَّى ذلك ابنُ القيِّمِ في ِ[الهَدْيِ] قَالَ: البَاجِيُّ: كراهةُ مالكٍ للجمْعِ؛ خَشيةَ أنْ يَفعلَهُ مَنْ يقدرُ عَلَيْهِ دونَ مَشَقَّةٍ , وأما إباحتُهُ إذا جَدَّ بِهِ السفرُ فلحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ.
وذهبَ أبو حنيفةَ إلَى عدمِ جوازِ الجَمْعِ إلا في عَرفةَ ومُزدلِفةَ للنُّسكِ لا للسَّفرِ.
واستدلَّ الْجُمْهُورُ بأحاديثِ الجمعِ الْمُطْلَقةِ عَنْ تَقييدِ السَّفرِ بِنازلٍ أو جَادٍّ في السَّيرِ، ومنهَا ما جاءَ في المُوطَّأِ عَنْ مُعاذِ بْنِ جبلٍ مِنْ أنَّ النَّبِيَّ ُصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخَّرَ الصَّلاَةَ يوماً في غزوةِ تَبُوكَ، ثم خرَجَ فصَلَّى الظُّهْرَ والعصرَ جميعاً، ثم دخلَ ثم خرجَ فصَلَّى المغربَ والْعِشَاءَ. قَالَ ابْنُ عبدِ البَرِّ: هذا الْحَدِيثُ ثابتُ الإسنادِ، وذَكرَ الشَّافعيُّ في الأمّ ,ِ وابنُ عبدِ البَرِّ , والباجِيُّ , أنَّ دخولَهُ وخروجَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يكونُ إلا وهو نازِلٌ غيرُ جادٍّ في السفرِ, وفي هذا رَدٌّ قَاطِعٌ عَلَى مَنْ قَالَ: لا يَجمعُ إلا مَنْ جَدَّ بِهِ السفرُ.
أما دليلُ الإمامِ مالكٍ، وشيخِ الإسلامِ، وابنِ القيِّمِ، فحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أنَّه كانَ إذا جَدَّ بِهِ السَّيرُ، جمَعَ بينَ المغربِ والْعِشَاءِ ويقولُ: " إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ إذا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا ".
ولكنْ عندَ الْجُمْهُورِ زيادةُ دلالةٍ في أحاديثِهَا يَحْسنُ قَبولُهَا.
ولأنَّ السَّفرَ مَوطنُ مَشَقَّةٍ في النزولِ والسَّيرِ، ولأنَّ رُخصةَ الجَمْعِ ما جُعِلَتْ إلا للتسهيلِ فِيهِ.
وابنُ القيِّمِ في ِ[الهَدْيِ] جَعلَ حَدِيثَ مُعاذٍ ونحوِه مِنْ أدِلَّتِهِ، علَى أنَّ رُخصةَ الجمعِ لا تكونُ إلا في وَقْتِ الجَدِّ في السَّيرِ.
أما رَأْيُ أبي حنيفةَ فمَردودٌ بالسُّنَنِ الصحيحةِ الصريحةِ.
فوائدُ:
الأولَى: ما ذَكره المؤلِّفُ في الجمعِ لأجلِ السَّفرِ
وهناك أعْذَارٌ غيرُ السفرِ تُبيحُ الجمعَ:
منهَا: المطرُ، فقد روَى البُخاريُّ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " جَمَعَ بينَ المغربِ والْعِشَاءِ في ليلةٍ مَطيرةٍ ". وخَصَّ الجمعَ هنا بالمغربِ والْعِشَاءِ فقطْ دونَ الظُّهْرِ والعصرِ، وجوَّزَه جماعةٌ منهم الإمامُ أحمدُ وأصحابُهُ.
وكذلك المَرضُ، فقد روَى مُسْلِمٌ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " جَمَعَ بينَ الظُّهْر والعصرِ والمغربِ والْعِشَاءِ، مِنْ غيرِ خوفٍ ولا مطرٍ " وفي روايةٍ " مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلاَ سَفَرٍ ".
وليس هناك إلا المرضُ. وقد جَوَّزه كثيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، منهم مالكٌ , وأحمدُ , وإسحاقُ , والحسنُ. وقالَ بِهِ جماعةٌ مِنَ الشَّافعيَّةِ، فمنهم: الخَطَّابِيُّ، واختارَه النوويُّ في صحيحِ مُسْلِمٍ، وذكرَ ابنُ تيميَّةَ أنَّ الإمامَ أحمدَ نَصَّ علَى جوازِ الجمعِ للحَرجِ وللشًُّغلِ بحَدِيثٍ رُوِي في ذلك.
وقد ثَبتَ جَوازُ الجمعِ للمُستحاضةِ، وهو نوعٌ مِنَ المرضِ.
الفائدةُ الثانيةُ:
أنَّ السفرَ الذي يُباحُ فِيهِ الجمعُ، قد اختلفَ الْعُلَمَاءُ في تحَدِيدِهِ. فَجعله: الإمامانِ، والشَّافعيُّ، وأحمدُ، يومَينِ قاصِدَيْنِ، يعنِي: ستَّةَ عَشَرَ فَرسخاً.
واختارَ الشيخُ تَقِيُّ الدينِ أنَّ كلَّ ما يُسمَّى سَفراً، طالَ أو قَصُرَ، أُبيحَ فِيهِ الجمعُ، وأنه لا يَتقدَّرُ بمُدَّةٍ، وقالَ: إنَّ نصوصَ الكتابِ والسُّنةِ ليس فيهَا تفريقٌ بينَ سفرٍ طويلٍ وسفرٍ قصيرٍ، فمَنْ فَرَّق بينَ هذا وهذا فقد فَرَّق بينَ ما جَمع اللَّهُ بينه فَرْقاً لا أصلَ لَهُ.
وما ذهبَ إِلَيْهِ شيخُ الإسلامِ هو مذْهَبُ الظاهريَّةِ. ونَصَره صاحبُ المُغْنِي.
وقالَ ابنُ القيِّمِ في ِ[الْهَدْيِ]: وأما ما يُروَى عَنْهُ مِنَ التحَدِيدِ باليومِ، أو اليومَينِ، أو الثلاثةِ، فلم يصِحَّ عَنْهُ منهَا شيءٌ ألبَتَّة.
الفائدةُ الثالثةُ:
عندَ جمهورِ الْعُلَمَاءِ، أنَّ تَرْكَ الجمعِ أَفْضَلُ مِنَ الجمعِ، إلا في جَمْعَيْ عَرفةَ ومُزدلفةَ؛ لما في ذلك مِنَ المَصلَحةِ.
ما يُؤخذُ مِنَ الْحَدِيثِ:
1ـ جوازُ الجمعِ بينَ صَلاَتيِ الظُّهْرِ والعصرِ، وبين صَلاَتي المغربِ والْعِشَاءِ.
2ـ عمومُ الْحَدِيثِ يُفيدُ جوازَ جمعِ التقديمِ والتأخيرِ، بينَ الصَّلاَتينِ، وقد دَلَّت عَلَيْهِ الأدلَّةُ كما تقدَّمَ.
3ـ ظاهِرُه أنَّه خاصٌّ بما إذا جَدَّ بِهِ السَّيرُ، وتقدَّم الخلافُ في ذلك وأدلَّةُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ. قَالَ ابْنُ دقيقِ العيدِ: الْحَدِيثُ يدلُّ علَى الجمْعِ إذا كانَ علَى ظَهْرِ سَيرٍ، ولولا وُرودُ غَيرِه مِنَ الأحاديثِ بالجمعِ في غيرِ هذهِ الحالةِ لكان الدليلُ يقتضي امتناعَ الجمعِ في غيرِهِ، فجوازُ الجمعِ في هذا الْحَدِيثِ قد عُلِّق بصفةٍ لم يكن ليجوزَ إلغَاؤهَا، لكن إذا صحَّ الجمعُ في حالةِ النُّزولِ فالعملُ بِهِ أولَى؛ لقيامِ دليلٍ آخرَ علَى الجوازِ في غيرِ هذهِ الصورةِ، أعني السَّيرَ، وقيامُ ذلك الدليلِ يدلُّ علَى إلغاءِ اعتبارِ هذا الوصفِ، ولا يُمكنُ أنْ يُعارَضَ ذلك الدليلُ بالمفهومِ مِنْ هذا الْحَدِيثِ؛ لأنَّ دَلالةَ ذلك المنطوقِ علَى الجوازِ في تلكِ الصورةِ بخصوصِهَا أرجحُ اه.
4ـ يدلُّ الْحَدِيثُ وغيرُه مِنَ الأحاديثِ أنَّ الجمعَ يَختَصُّ بالظُّهْرِ مع العصرِ، والمغربِ مع الْعِشَاءِ، وأنَّ الفجرَ لا تُجمعُ إلَى شيءٍ منهَا.