أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
السورة مكية على قول الجمهور؛ وقيل هي مدينة وهو قول قتادة ابن عباس
وقال هبة الله المفسر: نزل نصفها بمكة في العاص بن وائل ونصفها بالمدينة في عبد الله بن أبي المنافق..ذكره ابن الجوزي
سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ «سُورَةَ الْمَاعُونِ» لِوُرُودِ لَفْظِ الْمَاعُونِ فِيهَا دُونَ غَيْرِهَا.
{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ }
والرؤية في قوله أَرَأَيْتَ يحتمل أن تكون بصرية، فتتعدى لواحد هو الاسم الموصول، والمعنى : أأبصرت أسوأ وأعجب من هذا المكذب بيوم الدين.
ويحتمل أن تكون علمية، فتتعدى لاثنين، أولهما: الاسم الموصول والثاني: محذوف، والتقدير: أعرفت الذي يكذب بالدين من هو؟
واستِخدام المضارع (يكذب) يُوحِي بأنَّ ذلك دَيْدَنُه وسُلوكُه، فشأنه التكذيب، ينتقلُ من تكذيبٍ إلى تكذيبٍ، ومن صَدٍّ إلى صَدٍّ،
والدين هو الجزاء والمراد به الحساب والعقاب و الجزاء يوم القيام
أو هو المراد بالدين هو دين الإسلام.
والاستفهام لقصد التعجيب من حال (الذي يكذب بالدين)؛ ...أجاءك مَن كذَّب الدِّين؟ وهل عرفت سُلوكيَّاته؟ هل أدرَكت صِفاته وأوْصافه؟
في هذا بيان لمقصد عظيم من مقاصد إرسال الأنبياء و بعثة الرسل: وهو ترسيخ عقيدة الإيمان باليوم الآخر وذم شديد وتوعد عظيم لمن كذب به.
قال البقاعي: مقصودها التنبيه على أن التكذيب بالبعث لأجل الجزاء أبو الخبائث. اهـ
وفيه أيضا التحذير من الكفر..
{فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)}
" فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ " ؛ وهذا من أعجب الأجوبة... المتوقع أن تكون صفات المكذب الدين صفات متعلقة بعقيدته؛ كالكافر الذي لا يؤمن بوجود الله أو الذي لا يؤمن بالرسول ؛ أو تكون صفاته متعلقة بأركان الدين ...لا يُصلِّي، ولا يصومُ، ولا يُزكِّي، ولا يحجُّ،أو تكون ممن يستهزأ بشعائر الدين..لكن لم يكن الجواب كذلك...بل كان جاء الجوابُ مفاجئًا بأنه الذي يرتب آثاما اجتماعية .. من دع اليتيم ....و الدع هو الدفع بشدة وقوة وعنف كما قال تعالى :{يوم يدعون إلى نار جهنم دعا} } وفي ذلك كناية عن قسوة القلب وانعدام الرأفة ..وصيغة المضارع في "يدع" توضع أن ذلك صار شأنا له ؛و عملا دائما له ....واليتيم : من مات أبوه ولم يبلغ الحلم..وفيه إشارة إلى خسة نفس هذا المكذب و..وانطواءه على الكبر لأن هذا اليتيم لا يوجد من يدافع عنه و يسترد حقوق
وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ : والحض هو الحث لكنه أبلغ منه..وهو كنايةٌ عن صفة، هي البُخل الشديد حتى في الكلمة؛ فإن كان لا يحظ غيره على طعام المسكين من باب أولى أنه هو لا يطعم المسكين؛ لأنه إذا لم يحض غيره بخلا ؛ فلأن يتركه فعلا أولى و أحرى .
من مقاصد الآتين
فيه إشارة إلى مقصد من مقاصد الشريعة وهو الحث على التكافل الاجتماعي ؛ والتعاون الناس فيما بينهم؛ و نشر الخير وتعميمه في المجتمع ؛ومساعدة الضعفاء والمحتاجين والسعي على قضاء حوائجهم .
قال تعالى { وتعاونوا على البر و التقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}[ المائدة2 ]
و جاء في الحديث
عن أبي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: {" إنَّ الْمُؤْمِنَ للمُؤْمِنِ كَالْبُنيانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضَاً " وَشَبَّكَ بَيْنَ أصَابِعِهِ.} رواه البخاري
و الحديث : عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا))، وأشار بالسبَّابة والوسطى، وفرَّج بينهما شيئًا؛ أخرجه البخاري.
و فيه أيضا ذم الشح والبخل....وقد نبذت الشريعة البخل و بينت أنه لا يوقه إلا المفلح.. . قال تعالى :{ من يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } و سعت الشريعة لمحاربة هدا الخلق الدميم بطرق شتى ..بيان عظم أجر المنفقين..... أن الله هو الذي يخلف على من أنفق .....أن المالك الحقيقي لمال هو الله والعبد ما هو إلا مستخلف عليه.
وفيه أيضا بيان علاج للأمراض والأمراض الاجتماعيَّة الساقطة الدَّنيئة.
وفيه أيضا بيان : أن إنكار البعث هو أعظم ما ينشأ منه سوء الخلق والكبر و الطغيان ؛ والمخالفة الصريحة للدين ...بمعنى أن الإيمان بالبعث والجزاء و الحساب هو الوازع الحق الذي يغرس في النفس جذور الإقبال على الأعمال الصالحة
قال تعالى :{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ } (24 إبراهيم) ؛ فالشجرة الطيبة هي شجرة الإيمان التي فروعها وهى الأعمال الصالحة تصعد إلى السماء
وَفِي ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ تَحْذِيرِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الِاقْتِرَابِ مِنْ إِحْدَى هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ بِأَنَّهُمَا مِنْ صِفَاتِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْجَزَاءِ.
{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6)}
ثم توعد الله المصلين الذين يتهاونون في صلاتهم بحيث لا يؤدونها على وقتها أو لا يقيمونها على الوجه الصحيح ؛أو يخرجونها عن وقتها ؛ وهم المنافقون الذين يرقبون رؤية الناس في كل أعمالهم.. ومن كان لغيرهم نصيب من هذه الرؤية كان له حظ من الرياء.
-ذم النفاق وأهله..وتحذير المؤمنين أن يتصفوا بصفات المنافقين فيكون لهم حظ من النفاق
-الحث على مراعاة الصلاة و المحافظة عليها و القيام بها على النحو الصحيح..و الصلاة الركن الثاني من أركان الإسلام ؛وهو عمود الدين و هو من مقاصد هذه الشريعة السمحة
-الحث على الإخلاص في جميع الأعمال. وهو المقصد الأسمى لبعثة الرسل وهو إفراد الله بالعبادة.. و الإسلام يركز على النية في تقويم الأعمال . لذلك ورد عن رسول اللّه( صلى الله عليه وآله وسلم )قال : «إنّما الأعمال بالنيات ، ولكل امرىء ما نوى)
{ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)}
والماعون الشيء القليل من المعْن، وهو القلَّة، تقول العرب: "ما له مَعنَة، ولا سَعنَة"؛ أي: ما له قليلٌ ولا كثيرٌ من المال، قال المبرِّد والزجاج: "الماعون كلُّ ما فيه مَنفعَةٌ؛ كالفَأس والقِدر والدَّلو، وغير ذلك ممَّا يَنتفِعُ به الناس" ...المراد أنهم يمنعون ما يجد فيه الإنسان عونا على ما يلمّ به من حاجة وعوز....وفيه كناية عن صفة راسخة فيهم وهى بخلهم وانحصار خيرهم ومنع الناس منافع ما عندهم
الحث على التعاون مع الناس و فعل المعروف ببذل الأموال الخفيفة كالعارية و الإناء و الدلو الكتاب..وغيرها فإن البخل بها هو نهاية البخل و هو مخل بالمروءة...
ومن المقاصد الحث على التعاون مع الناس
في السورة أيضا توجيه رباني للمؤمن...يعلمه فيه..أن الإيمان له حقيقة إذا رسخت في القلب لا بد أن تظهر على الجوارح من الأعمال الصالحة و الإحسان في عبادته لربه والإحسان للخلق و بالعطاء و البذل.....أما من ادعى الإيمان وهو مقارف لبعض هذه الصفات المذمومة .فحري به أن يراجع إيمانه..
لأن فقدان العمل والإحسان في العبادة للرب العالمين والإحسان إلى خلق مؤشر خطير على ضعف نور الإيمان في قلب العبد...وقد يزداد ضعفا حتى ينعدم
المراجع :
- جامع البيان في تأويل القرآن لابن جرير الطبري ( 310 هـ )
- النكت والعيون للماوردي ( 450 هـ)
- - المحرر الوجيز لابن عطية ( 541 هـ )
- زاد المسير في علوم التفسير لابن الجوزي ( 597 هـ)
- تفسير القرآن العظيم لابن كثير ( 774 هـ )
- نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي ( 885 هـ )
- روح المعاني للألوسي ( 1270 هـ )
- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي ( 1376 هـ)
- في ظلال القرآن لسيد قطب ( 1386 هـ)
- التحرير والتنوير للطاهر ابن عاشور ( 1393 هـ )
-: صفوة التفاسير محمد علي الصابوني