قال الله تعالى :{قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) }الجمعة
في الآية إقامة البرهان على صدق النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صحة نبوته وإلزام الحجة على اليهود .وبيان كذبهم لما ادعوه..من أنهم أفضل الناس وأنهم أحباء لله ..وأن لهم منزلة و مكانة عند ربهم..وغيرها من الدعوى .فكانوا يفتخرون على الناس بذلك .فأبطل الله قولهم. .بأمور
{ قُلْ يأيها الَّذِينَ هَادُوا}
1-النداء فيه تهكم
هَادُوا هُمُ الْيَهُودُ ؛ كما أنهم تسمية أخرى في القران وهى بني إسرائيل..ونودوا في الآية بيهود دون بني إسرائيل لأن المقام مقام تهمك....
قال ابن عاشور : فَنُودُوا بِهِ هُنَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ لِأَنَّ الْمَقَامَ لَيْسَ مَقَامَ ثَنَاءٍ عَلَيْهِمْ أَوْ هُوَ تَهَكُّمٌ.
{ إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ}
2- استعمال "إن" الشرطية الدالة على عدم الجزم بتحقق الشرط
إن: بحرف الشرط يفيد عدم الجزم بتحقق الشرط.. وفيه استبعاد وقوع زعمهم لأنه باطل...
3- تسمية دعواهم زعما
.زعمتم : الزَّعْمُ وَالزَّعَمُ لُغَتَانِ:
يقال زعم فلان...في القول الذي لا يتحقق أو يضعف فيه التحقق و تتقوى فيه شبه الإبطال
قَالَ اللَّيْثُ:
أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ يَقُولُونَ زَعَمَ فُلَانٌ إِذَا شَكُّوا فِيهِ فَلَمْ يَعْرِفُوا أَكَذَبَ أَوْ صَدَقَ....ذكره الرازي
وبهذا يتبين أن ادعائهم ولاية و قرب المنزلة.وأنهم أفضل الخلق.. .أمر لا يستند إلى برهان ولا حجة.
{فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
4- إلجاءهم إلى نقض دعواهم..أو الشك فيها.
تمنوا أمر للتعجيز والمعنى اطلبوا الموت لأنفسكم.إن كنتم صادقين في زعمكم .. لتصيروا إلى ما تزعمونه من الكرامة والسعادة ورفعة المنزلة لأن من شأن الولي أن يؤثر الآخرة ونعيمها وراحتها .والموت خير له من الدنيا . ومبدأ ذلك النعيم وطريقه هو الموت ..لا طريق له غيره..فإن كان الرفعة في الدارة الآخرة مطلوبة لكم فليكن الموت مطلوبا لكم.. لأن ما يتوقف عليه المطلوب وجب أن يكون مطلوبا...فإن لم تطلبوا الموت دل ذلك أنكم كاذبون في زعمكم.
قال الرازي: "لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْخَصْمِ إِنْ كَانَ كَذَا وَكَذَا فَافْعَلْ كَذَا إِلَّا وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُهُ لِيَصِحَّ إِلْزَامُ الثَّانِي عَلَيْهِ.".
وليس لهم بعد الإلجاء والضيق إلا أحد أمرين
- إما أن يؤمنوا بالله ورسوله.
- وإما أن يتمنوا الموت ..
فامتنعوا من ذلك.؛ فظهر عيانا للجميع كذبهم وبهتهم وبغيهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم..وظهرت حجة رسول صلى الله عليه وسلم
5-تعليق الأمر على شرط مفقود دليل على عدم تحققه ووجوده
علق طلبهم الموت بشرط صدقهم..وصدقهم منتف مفقود لأن اليهود من شأنهم الكذب والافتراء..فإذا فقد و انعدم الشرط كان ذلك موجبا إلى انعدام المشروط وعدم تحققه.
{ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ }
6-الحكم عليهم أنهم لن يتمنوه أبدا
لن ولا يتمنوه أبدا....خبر قاطع على أنه لا يقطع ذلك أبدا في المستقبل؛ وفيه تحد عظيم لليهود..ذلك أنهم لما يسمعوا هذه الآية " وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا" فهم بأحد حالين
إما أن يتمنوا الموت فيظهر بذلك كذب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله "" وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا" وعليه تبطل نبوته ورسالته ؛ وهم كانوا حرصين أشد الحرص على تكذيبه؛ و إلحاق التهم إليه.
وإما أن لا يتمنوا الموت فيظهر بذلك صدق النبي الله عليه وسلم فليزمهم أن الدار الآخرة ليست لهم.
فلم يقدروا على تجاوز هذا الحد رغم أن الطلب هذا سهلا الإتيان به ودواعي تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم قائمة.. فأبان الله بهذا كذبهم و تعنهم
وفي الآية دليل من دلائل النبوة وصحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم
..لأن قوله " وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا " خبر غيبي ؛ وقع كما أخبر.. لم يقدروا على نقضه رغم أن الأمر كان في وسعهم.فدل ذلك أنه وحى من عند الله.
قال ابن عاشور: وَقَدْ عُدَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي دَلَائِلِ نُبُوَّةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهَا نَفَتْ صُدُورَ تَمَنِّي الْمَوْتِ مَعَ حِرْصِهِمْ عَلَى أَنْ يُظْهِرُوا تَكْذِيبَ هَذِهِ الْآيَةِ.
وقال .. وَهِيَ أَيْضًا مِنْ أَعْظَمِ الدَّلَائِلِ عِنْدَ أُولَئِكَ الْيَهُودِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَيْقَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَا يَتَمَنَّى الْمَوْتَ وَأَيْقَنَ أَنَّ بَقِيَّةَ قَوْمِهِ لَا يَتَمَنَّوْنَهُ لِأَنَّهُ لَوْ تَمَنَّاهُ أَحَدٌ لَأَعْلَنَ بِذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ بِحِرْصِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى إِبْطَالِ حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَيُفِيدُ بِذَلِكَ إِعْجَازًا عَامًا عَلَى تَعَاقُبِ الْأَجْيَالِ كَمَا أَفَادَ عَجْزَ الْعَرَبِ عَنِ الْمُعَارَضَةِ علم جَمِيعُ الْبَاحِثِينَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. .
"بما قدمت أيديهم" : فلا يتمنون الموت بما قدمت أيديهم من المعاصي والآثام و الذنوب على اختلاف أنواعها من ذلك تحريف التوراة وتبديلها وتغيير نعت مُحَمَّد عليه الصلاة والسلام؛ وقتل الأنبياء .
قال ابن جرير: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن اليهود وكراهتهم الموت، وامتناعهم عن الإجابة إلى ما دعوا إليه من تمني الموت، لعلمهم بأنهم إن فعلوا ذلك فالوعيد بهم نازل، والموت بهم حال؛ ولمعرفتهم بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه رسول من الله إليهم مرسل، وهم به مكذبون، وأنه لم يخبرهم خبرا إلا كان حقا كما أخبر. فهم يحذرون أن يتمنوا الموت، خوفا أن يحل بهم عقاب الله بما كسبت أيديهم من الذنوب.
{ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}
7-تهديد له ووعيد
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ" زجر لهم وتهديد لأنه إذا كان عالما بالظالمين فهو قادر عليهم لا يعجزونه ولا يفوتونه سيعاقبهم على ظلمهم.
المراجع