فَصْلٌ: تُحَوَّلُ([1]) صِيغَةُ فَاعِلٍ للمُبَالَغَةِ والتَّكْثِيرِ إلَى: فَعَّالٍ، أو فَعُولٍ، أو مِفْعَالٍ ـ بكَثْرَةٍ، وإلَى فَعِيلٍ أو فَعِلٍ، بقِلَّةٍ، فيَعْمَلُ عَمَلَهُ بشُرُوطِهِ، قالَ:
372- أَخَا الحَرْبِ لَبَّاساً إِلَيْهَا جِلاَلَهَا([2])
وقَالَ:
373- ضَرُوبٌ بِنَصْلِ السَّيْفِ سُوقَ سِمَانِهَا([3])
وحَكَى سِيبَوَيْهِ (إنَّهُ لمِنْحَارٌ بَوَائِكَهَا)، وقَالَ:
374- فَتَاتَانِ أَمَّا مِنْهُمَا فََشَبِيهَةٌ = هِلاَلاً ... ... ... ...([4])
وقَالَ:
375- أَتَانِي أَنَّهُمْ مَزِقُونَ عِرْضِي([5])
فَصْلٌ: تَثْنِيَةُ اسْمِ الفَاعِلِ وجَمْعُهُ وتَثْنِيَةُ أَمْثِلَةِ المُبَالَغَةِ وجَمْعُهَا كمُفْرَدِهِنَّ فِي العَمَلِ والشُّرُوطِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً}([6]) وقَالَ تَعَالَى: (هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتٌ ضُرَّهُ)=([7]) ، وقَالَ: {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ}([8]) ، وقَالَ الشَّاعِرُ:
376- وَالنَّاذِرَيْنِ إِذَا لَمَ الْقَهُمَا دَمِي([9])
وقالَ:
377- غُفُرٌ ذَنْبَهُمْ غَيْرُ فُخُرْ([10])
غُفُرٌ: جَمْعُ غَفُورٍ، وذَنْبَهُمْ: مَفْعُولُه.
فَصْلٌ: يَجُوزُ في الاسْمِ الفَضْلَةِ الذي يَتْلُو الوَصْفَ العَامِلَ أن يُنْصَبَ بهِ، وأَنْ يُخْفَضَ بإِضَافَتِهِ وقَدْ قُرِئَ {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ}(38) ، و {هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ}([11]) بالوَجْهَيْنِ، وأمَّا مَا عَدَا التَّالِيَ([12]) فيَجِبُ نَصْبُهُ، نَحْوُ: (خَلِيفَةً) مِن قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}([13]).
وإذَا أُتْبِعَ المَجْرُورُ فَالوَجْهُ جَرُّ التَّابِعِ علَى اللَّفْظِ؛ فتَقُولُ: (هَذَا ضَارِبُ زَيْدٍ وعَمْرٍو) ويَجُوزُ نَصْبُهُ بإِضْمَارِ وَصْفٍ مُنَوَّنٍ أو فِعْلٍ اتِّفَاقاً، وبالعَطْفِ علَى المَحَلِّ عِنْدَ بَعْضِهِم([14]) ، ويَتَعَيَّنُ إِضْمَارُ الفِعْلِ إن كانَ الوَصْفُ غَيْرَ عَامِلٍ؛ فنَصْبُ (الشَّمْسَ) فِي {وَجَاعِلُ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ}([15]) بإِضْمَارِ جَعَلَ لا غَيْرَ، إلاَّ إِنْ قُدِّرَ (جَاعِلُ) علَى حِكَايَةِ الحَالِ.
([1]) ذَكَرَ أَبُو حَيَّانَ أنَّ هذهِ الصِّيَغَ الخَمْسَةَ يَنْقَاسُ اشْتِقَاقُهَا مِن مَصْدَرِ كُلِّ فِعْلٍ ثُلاثِيٍّ مُتَعَدٍّ، نَحْوُ ضَرَبَ، يَجُوزُ لكَ أن تَقُولَ: ضَرَّابٌ، ومِضْرَابٌ، وضَرُوبٌ، وضَرِيبٌ، وضَرِبٌ.
وقَدْ وَرَدَت أَلْفَاظٌ على إِحْدَى هذهِ الصِّيَغِ معَ أنَّ الفِعْلَ المُسْتَعْمَلَ مَزِيدٌ علَى الثَّلاثَةِ، نَحْوُ: دَرَّاكٌ، ومِعْوَانٌ، ومِهْوَانٌ، ومِعْطَاءٌ، ونَذِيرٌ، وزَهُوقٌ.
([2]) 372-هذا الشَّاهِدُ مِن كَلامِ القُلاخِ – بضَمِّ القَافِ وآخِرُهُ خَاءٌ مُعْجَمَةٌ – ابْنِ حَزَنِ بْنِ جَنَابٍ، الذي يَقُولُ عَنْ نَفْسِهِ:
أَنَا القُلاخُ بْنُ جَنَابِ بْنِ جَلاَ = أَخُو خَنَاثِيرَ أَقُودُ الجَمَلاَ
وما ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ هنا صَدْرُ بَيْتٍ مِن الطَّوِيلِ، وعَجُزُهُ قَوْلُهُ:
*وَلَيْسَ بِوَلاَّجِ الخَوَالِفِ أَعْقَلاَ*
اللُّغَةُ: (أَخَا الحَرْبِ)؛ أي: مُعَالِجَهَا الذي يُلازِمُهَا ولا يَفِرُّ مِنْهَا، وذلك كما تَقُولُ: فُلانٌ أَخُو البِرِّ، وأَخُو الإِحْسَانِ، وأَخُو العَرَبِ. (جِلالَهَا) الجِلالُ – بكَسْرِ الجِيمِ – جَمْعُ جُلٍّ، بالضَّمِّ، وأَرَادَ بهِ مَا يُلْبَسُ في الحَرْبِ مِن الدُّرُوعِ ونَحْوِهَا. (وَلاَّجٍ) كَثِيرُ الوُلُوجِ؛ أي: الدُّخُولِ. (الخَوَالِفِ) جَمْعُ خَالِفَةٍ، وهي في الأصْلِ عَمُودُ الخَيْمَةِ، والمُرَادُ مِنْهُ هنا نَفْسُ الخَيْمَةِ، مِن إِطْلاقِ اسْمِ الجُزْءِ وإِرَادَةِ الكُلِّ. (الأَعْقَلُ) هو الذي تَصْطَكُّ رُكْبَتَاهُ مِن الفَزَعِ.
الإعْرَابُ: (أَخَا) حَالٌ مِن ضَمِيرِ مُتَكَلِّمٍ وَاقِعٍ في بَيْتٍ سَابِقٍ على بَيْتِ الشَّاهِدِ، وهو قَوْلُهُ:
فَإِنْ تَكُ فَاتَتْكَ السَّمَاءُ فَإِنَّنِي = بِأَرْفَعِ مَا حَوْلِي مِنَ الأَرْضِ أَطْوَلاَ
مَنْصُوبٌ بالألِفِ نِيَابَةً عَن الفَتْحَةِ؛ لأنَّهُ مِن الأسْمَاءِ السِّتَّةِ، وأَخَا: مُضَافٌ و(الحَرْبِ) مُضَافٌ إليْهِ مَجْرُورٌ بالكَسْرَةِ الظَّاهِرَةِ. (لَبَّاساً) حَالٌ ثَانِيَةٌ مِن ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ الذي ذَكَرْنَاهُ، مَنْصُوبٌ بالفَتْحَةِ الظَّاهِرَةِ، وفيهِ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ تَقْدِيرُهُ هو، وهو فَاعِلُهُ. (إِلَيْهَا) جَارٌّ ومَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بلَبَّاسٍ. (جِلالَهَا) جِلالَ: مَفْعُولٌ بهِ للَبَّاسٍ مَنْصُوبٌ بالفَتْحَةِ الظَّاهِرَةِ، ولَبَّاسَ: مُضَافٌ وضَمِيرُ الغَائِبَةِ العَائِدُ إلى الحَرْبِ مُضَافٌ إليهِ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ جَرٍّ. (وَلَيْسَ) الوَاوُ حَرْفُ عَطْفٍ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعْرَابِ، لَيْسَ: فِعْلٌ مَاضٍ نَاقِصٌ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعْرَابِ، واسْمُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جَوَازاً تَقْدِيرُهُ هو يَعُودُ إلى أَخِي الحَرْبِ. (بِوَلاَّجٍ) البَاءُ حَرْفُ جَرٍّ زَائِدٌ مَبْنِيٌّ على الكَسْرِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعْرَابِ، وَلاَّجٍ: خَبَرُ لَيْسَ مَنْصُوبٌ بفَتْحَةٍ مُقَدَّرَةٍ علَى آخِرِهِ مَنَعَ ظُهُورَهَا اشْتِغَالُ المَحَلِّ بحَرَكَةِ حَرْفِ الجَرِّ الزَّائِدِ، ووَلاَّجٍ: مُضَافٌ و(الخَوَالِفِ) مُضَافٌ إلَيْهِ مَجْرُورٌ بالكَسْرَةِ الظَّاهِرَةِ. (أَعْقَلاَ) يَجُوزُ أنْ يَكُونَ حَالاً مِن اسْمِ لَيْسَ فَهُوَ مَنْصُوبٌ بالفَتْحَةِ الظَّاهِرَةِ، ويَجُوزُ أن يَكُونَ خَبَراً ثَانِياً للَيْسَ، فهو أَيْضاً مَنْصُوبٌ بالفَتْحَةِ الظَّاهِرَةِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ نَعْتاً لوَلاَّجٍ أو مَعْطُوفاً علَيْهِ بحَرْفِ عَطْفٍ مُقَدَّرٍ، فهو مَجْرُورٌ بالفَتْحَةِ نِيَابةً عَنِ الكَسْرَةِ؛ لأنَّهُ لا يَنْصَرِفُ للوَصْفِيَّةِ ووَزْنِ الفِعْلِ، أو هو مَنْصُوبٌ بالفَتْحَةِ الظَّاهِرَةِ لأنَّ تَابِعَ خَبَرِ لَيْسَ المَجْرُورِ بالبَاءِ الزَّائِدَةِ يَجُوزُ فِيهِ الجَرُّ تَبَعاً للَفْظِ الخَبَرِ، ويَجُوزُ فيهِ النَّصْبُ تَبَعاً لمَوْضِعِهِ كما في قَوْلِ الشَّاعِرِ:
*فَلَسْنَا بِالجِبَالِ وَلاَ الحَدِيدَا*
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُهُ: (لَبَّاساً جِلالَهَا) حيثُ أَعْمَلَ صِيغَةَ المُبَالَغَةِ، وهي قَوْلُهُ: (لَبَّاساً) إِعْمَالَ الفِعْلِ واسْمِ الفَاعِلِ، فنَصَبَ بهِ المَفْعُولَ بهِ، وهو قَوْلُهُ: (جِلالَهَا) لاعْتِمَادِهِ على مَوْصُوفٍ مَذْكُورٍ هو قَوْلُهُ: أَخَا الحَرْبِ، ومِثْلُهُ قَوْلُ شَاعِرِ الحَمَاسَةِ:
فَيَا لَرِزَامِ رَشِّحُوا بِي مُقَدَّماً = إِلَى الحَرْبِ خَوَّاضاً إِلَيْهَا الكَتَائِبَا
خَوَّاضٌ: صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ لخَائِضٍ، وفيهِ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ يَعُودُ إلى مُقَدَّمٍ، والكَتَائِبُ: مَفْعُولٌ بهِ لخَوَّاضٍ بسَبَبِ كَوْنِهِ مُعْتَمِداً علَى مَوْصُوفٍ وهو قَوْلُهُ: (مُقَدَّماً).
([3]) 373- هذا الشَّاهِدُ مِن كَلامِ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ عَمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ، مِن كَلِمَةٍ رَثَى فِيهَا أَبَا أُمَيَّةَ بْنَ المُغِيرَةِ المَخْزُومِيِّ، وهو زَوْجُ عَاتِكَةَ بِنْتِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، والذِي ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ صَدْرُ بَيْتٍ مِن الطَّوِيلِ، وعَجُزُهُ قَوْلُهُ:
*إِذَا عَدِمُوا زَاداً فَإِنَّكَ عَاقِرُ*
اللُّغَةُ: (ضَرُوبٌ) صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ لضَارِبٍ. (نَصْلِ السَّيْفِ) حَدُّهُ وشَفْرَتُهُ، وقَدْ يُطْلَقُ النَّصْلُ على السَّيْفِ كُلِّهِ، ولكنَّهُ لا يُرَادُ هَهُنَا، لئَلاَّ تَلْزَمَ إِضَافَةُ الشَّيْءِ إلى نَفْسِهِ. (سُوقَ) جَمْعُ سَاقٍ. (سِمَانِهَا) جَمْعُ سَمِينَةٍ ضِدُّ الهَزِيلَةِ، والضَّمِيرُ البَارِزِ يَعُودُ إلى الإِبِلِ. (عَاقِرُ) اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ العَقْرِ، وهو الذَّبْحُ، ويُطْلَقُ على مَنْ يَقْطَعُ قَوَائِمَ البَعِيرِ ليَتَمَكَّنَ مِن ذَبْحِهِ.
المَعْنَى: يَصِفُ أَبَا أُمَيَّةَ الذي يَرْثِيهِ بالجُودِ والكَرَمِ في وَقْتِ العُسْرَةِ الذي تَبِينُ فيهِ الأنَانِيَّةُ في أَكْثَرِ النُّفُوسِ فتُمْسِكُ عَن مَعُونَةِ المُحْتَاجِينَ، وتَجْمُدُ الأَيْدِي فلا تَبِضُّ بقَطْرَةٍ، وذَكَرَ أنَّهُ لا يَكْتَفِي بالقَلِيلِ مِن الجُودِ، ولكنَّهُ يَبْذُلُ بأَوْسَعِ مَعَانِي البَذْلِ.
الإعْرَابُ: (ضَرُوبٌ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، والتَّقْدِيرُ: أنت ضَرُوبٌ، أو: هو ضَرُوبٌ، مَرْفُوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ. (بنَصْلِ) جَارٌّ ومَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بضَرُوبٍ، ونَصْلِ: مُضَافٌ و(السَّيْفِ) مُضَافٌ إليْهِ مَجْرُورٌ بالكَسْرَةِ الظَّاهِرَةِ. (سُوقَ) مَفْعُولٌ بهِ لضَرُوبٍ مَنْصُوبٌ بالفَتْحَةِ الظَّاهِرَةِ، وسُوقَ مُضَافٌ وسِمَانِ مِن (سِمَانِهَا) مُضَافٌ إليْهِ مَجْرُورٌ بالكَسْرَةِ الظَّاهِرَةِ، وسِمَانَ: مُضَافٌ وضَمِيرُ الغَائِبَةِ العَائِدُ إلى الإبِلِ مُضَافٌ إليْهِ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ جَرٍّ. (إذا) ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِن الزَّمَانِ خَافِضٌ لشَرْطِهِ مَنْصُوبٌ بجَوَابِهِ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ نَصْبٍ. (عَدِمُوا) عَدِمَ: فِعْلٌ مَاضٍ، ووَاوُ الجَمَاعَةِ فَاعِلُهُ. (زَاداً) مَفْعُولٌ بهِ لعَدِمَ مَنْصُوبٌ بالفَتْحَةِ الظَّاهِرَةِ، وجُمْلَةُ الفِعْلِ المَاضِي وفَاعِلِهِ ومَفْعُولِهِ في مَحَلِّ جَرٍّ بإِضَافَةِ (إِذَا) إِلَيْهَا. (فإِنَّكَ) الفَاءُ وَاقِعَةٌ في جَوَابِ إِذَا، إنَّ: حَرْفُ تَوْكِيدٍ ونَصْبٍ يَنْصِبُ الاسْمَ ويَرْفَعُ الخَبَرَ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعْرَابِ، وكَافُ المُخَاطَبِ اسْمُهُ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ في مَحَلِّ نَصْبٍ. (عَاقِرُ) خَبَرُ إِنَّ مَرْفُوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ، والجُمْلَةُ مِن إِنَّ واسْمِهِ وخَبَرِهِ لا مَحَلَّ [لَها] مِن الإعْرَابِ جَوَابُ إِذَا.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُهُ: (ضَرُوبٌ سُوقَ سِمَانِهَا) حَيْثُ أَعْمَلَ صِيغَةَ المُبَالَغَةِ، وهي قَوْلُهُ: (ضَرُوبٌ) إِعْمَالَ الفِعْلِ واسْمِ الفَاعِلِ، فنَصَبَ بهَا المَفْعُولَ بهِ وهو قَوْلُهُ: (سُوقَ سِمَانِهَا) واسْمُ المُبَالَغَةِ هُنَا مُعْتَمِدٌ على مُخْبَرٍ عَنْهُ مَحْذُوفٍ، فإِنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هو ضَرُوبٌ، أو نَحْوُهُ.
([4]) 374-هذَا الشَّاهِدُ مِن كَلامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ، ومَا ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ قِطْعَةٌ مِن بَيْتٍ مِن الطَّوِيلِ، والعُلَمَاءُ يَرْوُونَ البَيْتَ بتَمَامِهِ هكَذَا:
فَتَاتَانِ أَمَّا مِنْهُمَا فَشِبِيهَةٌ = هِلاَلاً، وَأُخْرَى مِنْهُمَا تُشْبِهُ البَدْرَا
وقدْ وَجَدْتُ فِي شِعْرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ هذَا البَيْتَ بِرَوِيٍّ آخَرَ، وأنا أَسُوقُهُ إلَيْكَ معَ بَيْتٍ آخَرَ لتُدْرِكَ أنَّ النُّحَاةَ غَيَّرُوا فيهِ بَعْضَ التَّغْيِيرِ:
فَتَاتَانِ أَمَّا مِنْهُمَا فَشَبِيهَةٌ = هِلاَلاً، وَأُخْرَى مِنْهُمَا تُشْبِهُ الشَّمْسَا
فَتَاتَانِ فِي سَعْدِ السُّعُودِ وُلِدْتُمَا = وَلَمْ تَلْقَيَا يَوْماً هَوَاناً وَلاَ نَحْسَا
اللُّغَةُ: (فَتَاتَانِ) تَثْنِيَةُ فَتَاةٍ، وهي الجَارِيَةُ الحَدِيثَةُ السِّنِّ، والغُلامُ فَتًى، وتُصَغَّرُ الفَتَاةُ علَى فُتَيَّةٍ، ويُصَغَّرُ الفَتَى علَى فُتَيٍّ، وتُجْمَعُ الفَتَاةُ علَى فَتَيَاتٍ، ويُجْمَعُ الفَتَى علَى فِتْيَانٍ، ومِنَ العَرَبِ مَن يَقُولُ: فِتْوَانٌ. والأصْلُ في هذهِ المَادَّةِ فَتَاءُ السِّنِّ، وهو الشَّبَابُ، يُقَالُ: قَدْ فَتِيَ يَفْتَى – مِثْلُ رَضِيَ يَرْضَى – فهو فَتِيُّ السِّنِّ بَيِّنُ الفَتَاءِ – بالفَتْحِ والمَدِّ – . (هِلاَلاً) الهِلالُ: اسْمٌ للقَمَرِ في لَيْلَتَيْنِ مِن أَوَّلِ الشَّهْرِ أو ثَلاثِ لَيَالٍ، سَمَّوْهُ بذلكَ؛ لأنَّ النَّاسَ يُهَلِّلُونَ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ؛ أي: يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُم بالدُّعَاءِ. (البَدْرَ) هو القَمَرُ لَيْلَةَ تَمِّهِ وكَمَالِهِ.
الإعْرَابُ: (فَتَاتَانِ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، والتَّقْدِيرُ: هما فتَاتانِ، أو أَنْتُمَا فَتَاتَانِ، مَرْفُوعٌ بالألفِ نِيَابةً عن الضَّمَّةِ؛ لأنَّهُ مُثَنًّى، والنُّونُ عِوَضٌ عن التَّنْوِينِ في الاسْمِ المُفْرَدِ. (أَمَّا) حَرْفُ شَرْطٍ وتَفْصِيلٍ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعْرَابِ. (مِنْهُمَا) جَارٌّ ومَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بمَحْذُوفٍ يَقَعُ صِفَةً لمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ يَقَعُ مُبْتَدَأً، وتَقْدِيرُ الكَلامِ: أَمَّا وَاحِدَةٌ كَائِنَةٌ مِنْهُمَا. (فَشَبِيهَةٌ) الفَاءُ زَائِدَةٌ وُجُوباً فِي خَبَرِ المُبْتَدَأِ، شَبِيهَةٌ: خَبَرُ المُبْتَدَأِ مَرْفُوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ، وفيهِ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ تَقْدِيرُهُ هي، وهو فَاعِلُهُ. (هِلاَلاً) مَفْعُولٌ به لشَبِيهَةٍ مَنْصُوبٌ بالفَتْحَةِ الظَّاهِرَةِ . (وأُخْرَى) الواوُ حَرْفُ عَطْفٍ، أُخْرَى: صِفَةٌ لمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ يَقَعُ مُبْتَدَأً، مَرْفُوعٌ بضَمَّةٍ مُقَدَّرَةٍ على الألفِ مَنَعَ مِن ظُهُورِهَا التَّعَذُّرُ. (مِنْهُمَا) جَارٌّ ومَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بمَحْذُوفٍ صِفَةٌ لأخْرَى. (تُشْبِهُ) فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ، وفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جَوَازاً تَقْدِيرُهُ هي. (البَدْرَا) مَفْعُولٌ به لتُشْبِهُ مَنْصُوبٌ بالفَتْحَةِ الظَّاهِرَةِ، والألفُ للإطْلاقِ، وجُمْلَةُ تُشْبِهُ وفَاعِلِهِ المُسْتَتِرِ فيهِ ومَفْعُولِهِ في مَحَلِّ رَفْعٍ خَبَرُ المُبْتَدَأِ الذي هو مَوْصُوفُ أُخْرَى، وتَقْدِيرُ الكَلامِ: ووَاحِدَةٌ مِنْهُمَا تُشْبِهُ البَدْرَ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُهُ: (فَشَبِيهَةٌ هِلاَلاً) حيثُ أَعْمَلَ صِيغَةَ المُبَالَغَةِ وهي قَوْلُهُ: (شَبِيهَةٌ) إِعْمَالَ الفِعْلِ واسْمِ الفَاعِلِ، فنَصَبَ بها المَفْعُولَ بهِ، وهو قَوْلُهُ: (هِلاَلاً)، واسْمُ المُبَالَغَةِ هُنَا مُعْتَمِدٌ علَى مُخْبَرٍ عنْهُ مَحْذُوفٍ، والتَّقْدِيرُ: أمَّا فَتَاةٌ مِنْهُمَا فهي شَبِيهَةٌ هِلاَلاً.
وقدْ أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ في هذا المَوْضِعِ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
حَتَّى شَآهَا كَلِيلٌ مَوْهِناً عَمِلٌ = بَاتَتْ طِرَاباً وبَاتَ اللَّيْلُ لَمْ يَنَمِ
جعَلَ قَوْلَهُ: (كَلِيلٌ) صِيغَةَ مُبَالَغَةٍ, وقَوْلَهُ: (مَوْهِناً) مَنْصُوباً بكَلِيلٍ، واعْتَرَضَهُ قَوْمٌ بأنَّ المَوْهِنَ ظَرْفُ زَمَانٍ، وادَّعَى ابْنُ هِشَامٍ لتَصْحِيحِ كَلامِ سِيبَوَيْهِ – معَ تَسْلِيمِهِ بأنَّهُ ظَرْفُ زَمَانٍ- أَنَّهُ مَفْعُولٌ بهِ علَى حَدِّ قَوْلِهِم: (أَتْعَبْتَ يَوْمَكَ).
([5]) 375- هذَا الشَّاهِدُ مِن كَلامِ زَيْدِ الخَيْلِ، وهو الذي سَمَّاهُ النَّبِيُّ صلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ زَيْدَ الخَيْرِ، ومَا ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ صَدْرُ بَيْتٍ مِن الوَافِرِ، وعَجُزُهُ قَوْلُهُ:
*جِحَاشُ الكِرْمِلَيْنِ لَهَا فَدِيدُ*
اللُّغَةُ: (مَزِقُونَ) جَمْعُ مَزِقٍ – بفَتْحٍ فكَسْرٍ – وهو صِيغَةُ المُبَالَغَةِ لمَازِقٍ الذي هو اسْمُ فَاعِلٍ مِن المَزْقِ، وأَصْلُهُ شَقُّ الثَّوْبِ ونَحْوُه، ويُسْتَعْمَلُ في مَزْقِ العِرْضِ على المَجَازِ. (الجِحَاشُ) جَمْعُ جَحْشٍ. (الكِرْمِلَيْنِ) تَثْنِيَةُ كِرْمِلٍ – بكَسْرَتَيْنِ بَيْنَهُمَا سُكُونٌ – وهو مَاءٌ بجَبَلٍ مِن جَبَلَيْ طَيِّئٍ. (الفَدِيدُ) الصَّوْتُ.
المَعْنَى: يَقُولُ عن قَوْمٍ تَوَعَّدُوهُ بالشَّرِّ: بَلَغَنِي أنَّهُم يَثْلِبُونَنِي ويَنَالُونَ مِنِّي، ويَقْطَعُونَ عِرْضِي شَتْماً وسِبَاباً، ثُمَّ [أَخْبَرَ] عَنْهُم أنَّهُم عِنْدَهُ [بمَنْزِلَةِ] حَمِيرِ مَوْضِعٍ بعَيْنِهِ سَمَّاهُ الكِرْمِلَيْنِ، وأنَّ حَدِيثَهُم عَنْهُ يُشْبِهُ ما تُحْدِثُهُ هذه الحَمِيرُ مِن الصِّيَاحِ والجَلَبَةِ عِنْدَ وُرُودِ المَاءِ.
الإعْرَابُ: (أَتَانِي) أَتَى: فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ على فَتْحٍ مُقَدَّرٍ على الألفِ مَنَعَ مِن ظُهُورِهِ التَّعَذُّرُ، والنُّونُ للوِقَايَةِ، ويَاءُ المُتَكَلِّمِ مَفْعُولٌ بهِ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ نَصْبٍ. (أنَّهُم) أنَّ: حَرْفُ تَوْكِيدٍ ونَصْبٍ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعْرَابِ، وضَمِيرُ الغَائِبِينَ اسْمُهُ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ نَصْبٍ. (مَزِقوُنَ) خَبَرُ أَنَّ مَرْفُوعٌ بالوَاوِ نِيَابَةً عَن الضَّمَّةِ؛ لأنَّهُ جَمْعُ مُذَكَّرٍ سَالِمٌ. (عِرْضِي) عِرْضِ: مَفْعُولٌ بهِ لمَزِقُونَ مَنْصُوبٌ بفَتْحَةٍ مُقَدَّرَةٍ علَى مَا قَبْلَ يَاءِ المُتَكَلِّمِ مَنَعَ مِن ظُهُورِهَا اشْتِغَالُ المَحَلِّ بحَرَكَةِ المُنَاسَبَةِ، وهو مُضَافٌ ويَاءُ المُتَكَلِّمِ مُضَافٌ إليْهِ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ جَرٍّ، وأنَّ ومَا دَخَلَت علَيْهِ في تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ مَرْفُوعٍ فَاعِلُ أَتَى. (جِحَاشُ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ والتَّقْدِيرُ: هُم جِحَاشُ، مَرْفُوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ، وجِحَاشُ: مُضَافٌ و(الكِرْمِلَيْنِ) مُضَافٌ إليهِ مَجْرُورٌ باليَاءِ نِيَابَةً عَن الكَسْرَةِ لأنَّهُ مُثَنًّى. (لها) جَارٌّ ومَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بمَحْذُوفٍ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ. (فَدِيدُ) مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ مَرْفُوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ، وجُمْلَةُ المُبْتَدَأِ المُؤَخَّرِ وخَبَرِهِ المُقَدَّمِ علَيْهِ في مَحَلِّ نَصْبٍ، حَالٌّ مِن جِحَاشِ الكِرْمِلَيْنِ، وتَقْدِيرُ الكَلامِ: أَتَانِي كَوْنُهُم مَزِقِينَ عِرْضِي، هُمْ جِحَاشُ الكِرْمِلَيْنِ حَالَ كَوْنِهَا ذَاتَ فَدِيدِ؛ أي: صَوْتٍ وصِيَاحٍ وجَلَبَةٍ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُهُ: (مَزِقُونَ عِرْضِي) حيثُ أَعْمَلَ جَمْعَ صِيغَةِ المُبَالَغَةِ وهو قَوْلُهُ: (مَزِقُونَ) فإنَّهُ جَمْعُ مَزِقٍ – بفَتْحٍ فكَسْرٍ – ومَزِقٌ هَذَا مُبَالَغَةُ اسْمِ الفَاعِلِ، وقَدْ أَعْمَلَ هذَا الجَمْعَ إِعْمَالَ مُفْرَدِهِ – وبالتَّالِي إِعْمَالَ الفِعْلِ واسْمِ الفَاعِلِ؛ِ فنَصَبَ بهِ المَفْعُولَ، وهو قَوْلُه: (عِرْضِي) واسْمُ المُبَالَغَةِ هنا مُعْتَمِدٌ على مُخْبَرٍ عَنْهُ وهو اسْمُ إِنَّ.
ومِن إِعْمَالِ فَعِلٍ – بفَتْحٍ فكَسْرٍ – قَولُ لُبَيْدِ بْنِ رَبِيعَةَ العَامِرِيِّ، وهو مِن شَوَاهِدِ سِيبَوَيْهِ (1/57):
أَوْ مِسْحَلٌ شَنِجٌ عِضَادَةَ سَمْحَجٍ = بِسَرَاتِهِ نَدَبٌ لَهَا وَكَلُومُ
فقَدْ نَصَبَ قَوْلَهُ: (عِضَادَةَ سَمْحَجٍ) بقَوْلِهِ: (شَنِجٌ) الذي هو صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ.
ومِن ذلك قَوْلُ الآخَرِ:
حَذِرٌ أُمُوراً لاَ تَضِيرُ وَآمِنٌ = مَا لَيْسَ مُنْجِيَهُ مِنَ المِقْدَارِ
ومِن تَعَدُّدِ الشَّوَاهِدِ الدَّالَّةِ علَى إِعْمَالِ (فَعِلٍ) بفَتْحٍ فكَسْرٍ- عَمَلَ الفِعْلِ تَعْلَمُ أنَّهُ لا يَضِيرُ سِيبَوَيْهِ أن يَكُونَ قد اسْتَشْهَدَ على هذا الإِعْمَالِ – أو مَثَّلَ له – بالبَيْتِ الأخِيرِ، وأنَّهُ قيلَ عَن هذا البَيْتِ: إنَّهُ مَصْنُوعٌ، فقَدْ ذَكَرَ مَعَهُ مِن الشَّوَاهِدِ مَا يُؤَيِّدُ رَأْيَهُ.
([6]) سُورَةُ (الأَحْزَابُ)، الآيَةُ: 35.
([7]) سُورَةُ (الزُّمَرُ)، الآيَةُ: 38.
([8]) سُورَةُ (القَمَرُ)، الآيَةُ: 7.
([9]) 376- هذا الشَّاهِدُ مِن كَلامِ عَنْتَرَةَ بْنِ شَدَّادٍ العَبْسِيِّ، مِن مُعَلَّقَتِهِ المَشْهُورَةِ، ومَا ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ عَجُزُ بَيْتٍ مِن الكَامِلِ، وصَدْرُهُ قَوْلُهُ:
*الشَّاتِمَيْ عِرْضِي وَلَمْ أَشْتُمْهُمَا*
اللُّغَةُ: (الشَّاتِمَيْ عِرْضِي) الشَّاتِمَيْ: مُثَنَّى شَاتِمٍ، وشَاتِمٌ: اسْمُ فَاعِلٍ فِعْلُهُ (شَتَمَ يَشْتُمُ شَتْماً) مِن بَابِ نَصَرَ، والشَّتْمُ: الرَّمْيُ بالمَكْرُوهِ مِن القَوْلِ، والعِرْضُ – بالكَسْرِ – مَا يَصُونُهُ المَرْءُ عَن أن تَتَنَاوَلَهُ الأَلْسُنُ. (والنَّاذِرَيْنِ)؛ أي: اللَّذَيْنِ أَوْجَبَا علَى أَنْفُسِهِمَا، يُرِيدُ أنَّهُمَا يَتَوَعَّدَانِهِ حينَ يَغِيبُ عَن وَجْهِهِمَا، فأمَّا إذَا حَضَرَ فلا جَرَاءَةَ لَهُمَا على ذلك.
الإعْرَابُ: (الشَّاتِمَيْ) نَعْتٌ لابْنَي ضَمْضَمٍ المَذْكُورِ في بَيْتٍ مُتَقَدِّمٍ على بَيْتِ الشَّاهِدِ، وهو قَوْلُهُ:
وَلَقَدْ خَشِيتُ بِأَنْ أَمُوتَ وَلَمْ تَدُرْ = لِلحَرْبِ دَائِرَةٌ عَلَى ابْنَيْ ضَمْضَمِ
مَجْرُورٌ باليَاءِ نِيَابَةً عن الكَسْرَةِ؛ لأنَّهُ مُثَنًّى، والشَّاتِمَيْ مُضَافٌ وعِرْضِ مِن (عِرْضِي) مُضَافٌ إليهِ مَجْرُورٌ بكَسْرَةٍ مُقَدَّرَةٍ على ما قَبْلَ يَاءِ المُتَكَلِّمِ مَنَعَ مِن ظُهُورِهَا اشْتِغَالُ المَحَلِّ بالحَرَكَةِ المُنَاسِبَةِ لليَاءِ، وعِرْضِ: مُضَافٌ ويَاءُ المُتَكَلِّمِ مُضَافٌ إليه مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ جَرٍّ. (وَلَمْ) الواوُ واوُ الحَالِ. لَمْ: حَرْفُ نَفْيٍ وجَزْمٍ وقَلْبٍ. (أَشْتُمْهُمَا) أَشْتُمْ: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ بلَمْ وعَلامَةُ جَزْمِهِ السُّكُونُ، وفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجُوباً تَقْدِيرُهُ أنا، وضَمِيرُ الغَائِبَيْنِ العَائِدُ إلَى ابْنَيْ ضَمْضَمٍ مَفْعُولٌ بهِ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ نَصْبٍ، والجُمْلَةُ مِن الفِعْلِ المُضَارِعِ وفَاعِلِهِ ومَفْعُولِهِ في مَحَلِّ نَصْبٍ حَالٌ. (والنَّاذِرَيْنِ) الواوُ حَرْفُ عَطْفٍ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعْرَابِ، النَّاذِرَيْنِ: مَعْطُوفٌ على الشَّاتِمَيْ، مَجْرُورٌ باليَاءِ نِيَابَةً عَنِ الكَسْرِ؛ لأنَّهُ مُثَنًّى، والنُّونُ عِوَضٌ عَن التَّنْوِينِ في الاسْمِ المُفْرَدِ. (إِذَا) ظَرْفٌ تَضَمَّن مَعْنَى الشَّرْطِ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ نَصْبٍ. (لَمَ) حَرْفُ نَفْيٍ وجَزْمٍ وقَلْبٍ (الْقَهُمَا) أَلْقَ: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ بلَمْ وعَلامَةُ جَزْمِهِ حَذْفُ الألِفِ، والفَتْحَةُ قَبْلَهَا دَلِيلٌ عَلَيْهَا، وفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجُوباً تَقْدِيرُهُ أنا، وضَمِيرُ الغَائِبَيْنِ العَائِدُ إلى ابْنَيْ ضَمْضَمٍ مَفْعُولٌ به مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ نَصْبٍ، وجَوَابُ إِذَا على هذا مَحْذُوفٌ، والأحْسَنُ أنْ تَجْعَلَهَا ظَرْفِيَّةً لا غَيْرَ، فَلا جَوَابَ لَهَا. (دَمِي) دَمِ: مَفْعُولٌ بهِ للنَّاذِرَيْنِ مَنْصُوبٌ بفَتْحَةٍ مُقَدَّرَةٍ على ما قَبْلَ يَاءِ المُتَكَلِّمِ مَنَعَ مِن ظُهُورِهَا اشْتِغَالُ المَحَلِّ بحَرَكَةِ المُنَاسَبَةِ، ودَمِ: مُضَافٌ ويَاءُ المُتَكَلِّمِ مُضَافٌ إليهِ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ جَرٍّ.
الشَّاهِدُ فيه: قَوْلُهُ: (والنَّاذِرَيْنِ دَمِي) حيثُ أَعْمَلَ مُثَنَّى اسْمِ الفَاعِلِ – وهو قَوْلُهُ: (النَّاذِرَيْنِ) – عَمَلَ المُفْرَدِ، فنَصَبَ بهِ المَفْعُولَ، وهو قَوْلُهُ: (دَمِي)، وهذا المُثَنَّى مُقْتَرِنٌ بأَلْ فلا حَاجَةَ بهِ إلى الاعْتِمَادِ علَى شَيْءٍ ممَّا ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ وأَوْضَحْنَاهُ في شَرْحِ الشَّوَاهِدِ السَّابِقَةِ.
([10]) 377- هذَا الشَّاهِدُ مِن كَلامِ طَرَفَة بْنِ العَبْدِ البَكْرِيِّ، ومَا أَنْشَدَهُ المُؤَلِّفُ عَجُزُ بَيْتٍ مِن الرَّمَلِ، وصَدْرُهُ قَوْلُهُ:
*ثُمَّ زَادُوا أَنَّهُمْ فِي قَوْمِهِمْ*
اللُّغَةُ: (ثُمَّ زَادُوا – البَيْتَ) وَصَفَ قَوْمَهُ قَبْلَ هذا البَيْتِ بالإقْدَامِ والجُرْأَةِ والصَّبْرِ على قِتَالِ الأَعْدَاءِ، وغَيْرِ ذَلكَ مِن أَفْعَالِ الشَّجَاعَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ لَهُم مَزِيداً علَى ذلك مِنْ خِلالِ المُرُوءَةِ، وذلك أنَّهُم يَأْخُذُونَ بالعَفْوِ عَن الزَّلاَّتِ والصَّفْحِ عَن الذُّنُوبِ، وأنَّهُم – معَ مَا لَهُم مِن خِصَالِ الشَّرَفِ – لا يَفْخَرُونَ؛ لأنَّ الفَخْرَ إِعْجَابٌ وخِفَّةٌ. وغُفُرُ – بضَمَّتَيْنِ – جَمْعُ غَفُورٍ الذي هو مُبَالَغَةُ غَافِرٍ، وفُخُرُ -بضَمَّتَيْنِ أَيْضاً – جَمْعُ فَخُورٍ الذي هو مُبَالَغَةُ فَاخِرٍ، ويُرْوَى (غَيْرُ فُجُرْ) بضَمِّ الفَاءِ والجِيمِ – مِن الفُجُورِ، والفُجُورُ: الكَذِبُ، أو هو اسْمٌ جَامِعٌ لكُلِّ خَصْلَةٍ مِن خِصَالِ الشَّرِّ، والرِّوَايَةُ الأُولَى أَشْهَرُ وأَعْرَفُ، وإِضَافَةُ الذَّنْبِ إلى ضَمِيرِهِم مِن الإضَافَةِ لأَدْنَى مُلابَسَةٍ؛ لأنَّهُم إنَّمَا يَغْفِرُونَ ذَنْبَ مَن يَذْهَبُ إلَيْهِم، أو هو على تَقْدِيرُ مُضَافٍ بَيْنَ المُتَضَايِفَيْنِ؛ أي: غُفُرٌ ذَنْبَ قَوْمِهِم.
الإعْرَابُ: (ثُمَّ) حَرْفُ عَطْفٍ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعْرَابِ. (زَادُوا) زَادَ: فِعْلٌ مَاضٍ، ووَاوُ الجَمَاعَةِ فَاعِلُهُ. (أَنَّهُمْ) أنَّ: حَرْفُ تَوْكِيدٍ ونَصْبٍ، وضَمِيرُ الغَائِبِينَ اسْمٌ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ نَصْبٍ. (فِي) حَرْفُ جَرٍّ. (قَوْمِهِمْ) قَوْمِ: مَجْرُورٌ بفي وعَلامَةُ جَرِّهِ الكَسْرَةُ الظَّاهِرَةُ، وقَوْمِ: مُضَافٌ وضَمِيرُ الغَائِبِينَ مُضَافٌ إليهِ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ جَرٍّ، والجَارُّ والمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بمَحْذُوفٍ حَالٌ مِن اسْمِ إِنَّ. وابْنُ هِشَامٍ اللَّخْمِيُّ جَعَلَ الجَارَّ والمَجْرُورَ مُتَعَلِّقاً بزَادُوا، بِنَاءً على ما ذَهَبَ إليه مِن أنَّ (فِي) الجَارَّةَ هنا بمَعْنَى عِنْدَ. (غُفُرٌ) خَبَرُ أَنَّ مَرْفُوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ. (ذَنْبَهُمُ) ذَنْبَ: مَفْعُولٌ بهِ لغُفُرٍ مَنْصُوبٌ بالفَتْحَةِ الظَّاهِرَةِ، وهو مُضَافٌ وضَمِيرُ الغَائِبِينَ مُضَافٌ إليهِ. (غَيْرُ) خَبَرٌ ثَانٌ لأنَّ مَرْفُوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ، وغَيْرُ: مُضَافٌ و(فُخُرْ) مُضَافٌ إليهِ مَجْرُورٌ بالكَسْرَةِ الظَّاهِرَةِ، وسَكَّنَهُ لأجْلِ الوَقْفِ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُهُ: (غُفُرٌ ذَنْبَهُمُ) حيثُ أَعْمَلَ جَمْعَ صِيغَةِ المُبَالَغَةِ، وهو قَوْلُهُ: (غُفُرٌ) فإنَّهُ جَمْعُ غَفُورٍ، وغَفُورٌ مُبَالَغَةُ غَافِرٍ، وقدْ أَعْمَلَ هذا الجَمْعَ إِعْمَالَ مُفْرَدِهِ، وبالتَّالِي إِعْمَالَ الفِعْلِ واسْمِ الفَاعِلِ، فنَصَبَ بهِ المَفْعُولَ وهو قَوْلُهُ: (ذَنْبَهُمُ) وصِيغَةُ المُبَالَغَةِ هنا مُعْتَمِدَةٌ على مُخْبَرٍ عَنْهُ مَذْكُورٍ وهو اسْمُ أَنَّ.
واعْلَمْ أنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ أن يَكُونَ جَمْعَ مُذَكَّرٍ سَالِماً أو جَمْعَ مُؤَنَّثٍ سَالِماً وأَنْ يَكُونَ جَمْعَ تَكْسِيرٍ، فمِن جَمْعِ اسْمِ الفَاعِلِ جَمْعَ التَّكْسِيرِ قَوْلُ أَبِي كَبِيرٍ الهُذَلِيِّ:
مِمَّنْ حَمَلْنَ بِهِ وَهُنَّ عَوَاقِدٌ = حُبُكَ النِّطَاقِ فَشَبَّ غَيْرَ مُهَبَّلِ
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُهُ: (عَوَاقِدٌ حُبُكَ النِّطَاقِ) فإنَّ عَوَاقِدَ جَمْعُ تَكْسِيرٍ مُفْرَدُهُ عَاقِدَةٌ، وقَدْ نَصَبَ بهذا الجَمْعِ قَوْلَهُ: (حُبُكَ النِّطَاقِ) ومِن إِعْمَالِ جَمْعِهِ جَمْعَ المُذَكَّرِ السَّالِمِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً} ومِن إِعْمَالِ جَمْعِهِ جَمْعَ المُؤَنَّثِ السَّالِمَ قَوْلُهُ تَبَارَكَت كَلِمَتُهُ: (هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتٌ ضُرَّهُ) فإنَّ كَاشِفَاتٍ جَمْعُ كَاشِفَةٍ جَمْعُ مُؤَنَّثٍ سَالِمٌ وقَدْ نَصَبَ بهِ ضُرَّهُ، وقَدِ اجْتَمَعَ إِعْمَالُ جَمْعِ المُؤَنَّثِ السَّالِمِ وجَمْعِ التَّكْسِيرِ في قَوْلِ العَجَّاجِ بْنِ رُؤْبَةَ:
وَرَبِّ هَذَا البَلَدِ المُحَرَّمِ = وَالقَاطِنَاتِ البَيْتَ غَيْرِ الرُّيَّمِ
*أَوَالِفاً مَكَّةَ مِنْ وُرْقِ الحِمَى*
القَاطِنَاتُ: جَمْعُ قَاطِنَةٍ جَمْعَ المُؤَنَّثِ السَّالِمَ، وقَدْ نَصَبَ بهِ البَيْتَ، وأَوَالِفُ: جَمْعُ آلِفَةٍ جَمْعَ التَّكْسِيرِ، وقَدْ نَصَبَ بهِ مَكَّةَ.
وأنت تَعْلَمُ أنَّ التَّثْنِيَةَ والجَمْعَ بأَنْوَاعِهِ – نَعْنِي سَوَاءٌ أَكَانَ جَمْعَ تَكْسِيرٍ أم كانَ جَمْعَ مُذَكَّرٍ سَالِماً أم كانَ جَمْعَ مُؤَنَّثٍ سَالِماً – مِن خَصَائِصِ الأسْمَاءِ، فكَانَ مِن حَقِّ المُثَنَّى والمَجْمُوعِ مِن أَسْمَاءِ الفَاعِلِينَ ألاَّ يَعْمَلَ؛ لأنَّهُ بالتَّثْنِيَةِ والجَمْعِ بَعُدَ شَبَهُهُ بِالفِعْلِ، لَكِنَّا لا نَعْلَمُ خِلافاً بَيْنَ النُّحَاةِ في جَوَازِ إِعْمَالِ المُثَنَّى والمَجْمُوعِ مِن أَسْمَاءِ الفَاعِلِينَ، وكَيْفَ يَخْتَلِفُونَ في جَوَازِ إِعْمَالِهِ معَ أنَّ إِعْمَالَهُ قَدْ وَرَدَ صَرِيحاً في أَفْصَحِ كَلامٍ وهو القُرْآنُ الكَرِيمُ، كما وَرَدَ فيمَا لا يُحْصَى مِن الأبْيَاتِ المَعْرُوفِ قَائِلُوهَا.
ونحنُ نَسْتَدِلُّ بجَوَازِ إِعْمَالِ المُثَنَّى والمَجْمُوعِ مِن أَسْمَاءِ الفَاعِلِينَ على أنَّ شَبَهَ الفِعْلِ الذي عَمِلَ بسَبَبِهِ هو شَبَهُهُ بهِ في المَعْنَى وهو الدَّلالَةُ على الحَدَثِ – ولَيْسَ شَبَهُهُ هو مَجِيئَهُ فِي الغَالِبِ على زِنَةِ المُضَارِعِ، ووَجْهُ الاسْتِدْلالِ بذلك على ما اخْتَرْنَاهُ هو أنَّ التَّثْنِيَةَ والجَمْعِ – وخُصُوصاً جَمْعَ التَّكْسِيرِ – يُبْعِدَانِ مُوَازَنَتَهُ للمُضَارِعِ، فلو كَانَت مُوَازَنَتُهُ للمُضَارِعِ هي المُعْتَبَرَةَ فِي وَجْهِ الشَّبَهِ لكانَت التَّثْنِيَةُ والجَمْعُ سَبَباً وَاضِحاً للقَوْلِ بعَدَمِ جَوَازِ الإعْمَالِ، لكنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ إلى ذلك أَحَدٌ، وممَّا يُؤَكِّدُ ما اخْتَرْنَاهُ مِن وَجْهِ الشَّبَهِ أنَّ أَمْثِلَةَ المُبَالَغَةِ عَمِلَت حَمْلاً علَى اسْمِ الفَاعِلِ معَ بُعْدِ زِنَتِهَا على زِنَةِ المُضَارِعِ.
ونُرِيدُ أن نَتَوَصَّلَ مِن هذا الكَلامِ إلى القَوْلِ بعَدَمِ صِحَّةِ اشْتِرَاطِ مَن اشْتَرَطَ لعَمَلِ اسْمِ الفَاعِلِ ألاَّ يَكُونَ مُصَغَّراً، وألا يَكُونَ مَوْصُوفاً؛ بحُجَّةِ أنَّ ذلك يُبْعِدُ شَبَهَهُ بالفِعْلِ؛ لأنَّ التَّصْغِيرَ والوَصْفَ لم يُزِيلاَ دَلالَتَهُ على الحَدَثِ.
وخُلاصَةُ القَوْلِ في اسْمِ الفَاعِلِ المُصَغَّرِ أنَّ للنُّحَاةِ في جَوَازِ إِعْمَالِهِ ثَلاثَةَ مَذَاهِبَ:
الأوَّلُ: وهو رَأْيُ جُمْهُورِ البَصْرِيِّينَ – أنَّهُ لا يَجُوزُ إِعْمَالُهُ مُطْلَقاً، نَعْنِي سَوَاءٌ أكَانَ مُكَبَّرُهُ قَدْ وَرَدَ عَن العَرَبِ أم لم يَكُنْ مُكَبَّرُهُ وَارِداً، مِثْلُ كُمَيْتٍ الذي هو مِن جِهَةِ القِيَاسِ تَصْغِيرُ أَكْمَتَ أو كَمْتَاءَ تَصْغِيرَ تَرْخِيمٍ، ولَمْ يُسْمَعِ الأَكْمَتُ ولا الكَمْتَاءُ.
والقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ إِعْمَالُ المُصَغَّرِ مُطْلَقاً، ويُنْسَبُ إلى الكِسَائِيِّ، ويُنْسَبُ إلَى جُمْهُورِ الكُوفِيِّينَ إلا الفَرَّاءَ، وقالَ بهِ النَحَّاسُ أَيْضاً – وتَمَسَّكَ الكُوفِيُّونَ بأنَّ السَّبَبَ الذي مِن أَجْلِهِ عَمِلَ اسْمُ الفَاعِلِ هو دَلالَتُهُ على الحَدَثِ، والتَّصْغِيرُ لَمْ يَذْهَبْ بهذه الدَّلالَةِ، وتَمَسَّكَ النَّحَّاسُ بقِيَاسِ المُصَغَّرِ على المَجْمُوعِ، وإذَا كُنَّا جَمِيعاً نُجِيزُ عَمَلَ المَجْمُوعِ والمُثَنَّى معَ قِيَامِ مَا هو مِن خَصَائِصِ الأسْمَاءِ فِيهِمَا وَجَبَ ألاَّ نُنْكِرَ عَمَلَ المُصَغَّرِ.
والثَّالِثُ: ويُنْسَبُ إلى المُتَأَخِّرِينَ- التَّفْصِيلُ، فإنْ كانَ المُصَغَّرُ لم يُسْتَعْمَلْ مُكَبَّرُهُ عَمِلَ، وإنْ سُمِعَ مُكَبَّرُهُ كضُوَيْرِبٍ وقُوَيْتِلٍ وسُوَيِّرٍ – تَصْغِيرُ ضَارِبٍ وقَاتِلٍ وسَائِرٍ – لَمْ يَعْمَلْ.
وخُلاصَةُ القَوْلِ في عَمَلِ اسْمِ الفَاعِلِ المَوْصُوفِ أنَّ للنُّحَاةِ في جَوَازِ إِعْمَالِهِ ثَلاثَةَ مَذَاهِبَ أَيْضاً:
المَذْهَبُ الأوَّلُ: وهو ما رَآهُ جُمْهُورُ البَصْرِيِّينَ مِن النُّحَاةِ – أنَّ اسْمَ الفَاعِلِ المَوْصُوفَ لا يَعْمَلُ مُطْلَقاً – نَعْنِي سَوَاءٌ أَذُكِرَ المَعْمُولُ في الكَلامِ بَعْدَ اسْمِ الفَاعِلِ وقَبْلَ الوَصْفِ، - وحَاصِلُهُ أن يَتَوَسَّطَ المَعْمُولُ بَيْنَ اسْمِ الفَاعِلِ ووَصْفِهِ – أم ذُكِرَ المَعْمُولُ بَعْدَهُمَا جَمِيعاً، أم ذُكِرَ المَعْمُولُ قَبْلَهُمَا جَمِيعاً – وهُم يُؤَوِّلُونَ ما وَرَدَ مِن كَلامِ العَرَبِ مُخَالِفاً لذلك بتَقْدِيرِ فِعْلٍ يَعْمَلُ فِيما يُظَنُّ أنَّهُ مَعْمُولٌ لاسْمِ الفَاعِلِ. وذلك تَكَلُّفٌ لا دَاعِيَ لهُ.
والمَذْهَبُ الثَّانِي: - ويُنْسَبُ إلى الكِسَائِيِّ وَحْدَهُ أَحْيَاناً، ويُنْسَبُ إليه وإلى سَائِرِ الكُوفِيِّينَ أَحْيَاناً أُخْرَى – وخُلاصَتُهُ أنَّ اسْمَ الفَاعِلِ المَوْصُوفَ يَعْمَلُ مُطْلَقاً – سَوَاءٌ أَتَقَدَّمَ المَعْمُولُ أم تَأَخَّرَ أم تَوَسَّطَ.
والقَوْلُ الثَّالِثُ:- ونَسَبَهُ ابْنُ مَالِكٍ بقَوْلِهِ: (وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا) ولم يُعَيِّنْهُ – وخُلاصَتُهُ أنَّهُ يَجُوزُ إِعْمَالُ اسْمِ الفَاعِلِ المَوْصُوفِ إذا تَقَدَّمَ المَعْمُولُ على الوَصْفِ، ولا يَجُوزُ إذا تَقَدَّمَ الوَصْفُ على المَعْمُولِ، وفي القُرْآنِ الكَرِيمِ {وَلاَ آمِّينَ البَيْتَ الحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً} وآمِّينَ: جَمْعُ آمٍّ – بتَشْدِيدِ المِيمِ – اسْمُ فَاعِلٍ، فِعْلُهُ (أَمَّ يَؤُمُّ) بمَعْنَى قَصَدَ، والبَيْتُ الحَرَامُ: مَفْعُولٌ بهِ لآمِّينَ، وجُمْلَةُ يَبْتَغُونَ فَضْلاً نَعْتٌ لآمِّينَ، فقَدْ عَمِلَ جَمْعُ اسْمِ الفَاعِلِ المَوْصُوفِ في المَفْعُولِ بهِ السَّابِقِ على الوَصْفِ، وادِّعَاءُ أنَّ لهذا المَعْمُولِ عَامِلاً مَحْذُوفاً يُفَسِّرُهُ آمِّينَ تَكَلُّفٌ لا دَاعِيَ لهُ.
([11]) سُورَةُ (الزُّمَرُ)، الآيَةُ: 38. وقدْ قُرِئَ فِي هذهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ برَفْعِ كَاشِفَاتٍ مِن غَيْرِ تَنْوِينٍ وإِضَافَتِهِ إلى ضُرِّهِ، كما قُرِئَ برَفْعِ كَاشِفَاتٍ مُنَوَّناً ونَصْبِ ضُرِّهِ على أنَّهُ مَفْعُولٌ بهِ لكَاشِفَاتٍ، وكَاشِفَاتٌ: جَمْعُ كَاشِفَةٍ الذي هو اسْمُ فَاعِلٍ مُؤَنَّثٌ، وهو مُجَرَّدٌ مِن أَلْ، وقَدِ اعْتَمَدَ على المُبْتَدَأِ الذي هو قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: هُنَّ.
([12]) غَيْرُ التَّالِي: يَشْمَلُ شَيْئَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: المَعْمُولُ المَفْصُولُ مِن اسْمِ الفَاعِلِ بالظَّرْفِ أو الجَارِّ والمَجْرُورِ، فالظَّرْفُ نَحْوُ قَوْلِكَ: (زَيْدٌ ضَارِبٌ اليَوْمَ بَكْراً)، والجَارُّ والمَجْرُورُ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}.
وثَانِيهُمَا المَفْعُولُ الثَّانِي والمَفْعُولُ الثَّالِثُ إذا كانَ فِعْلُ اسْمِ الفَاعِلِ يَنْصِبُ مَفْعُولَيْنِ أو ثَلاثَةً وأَضَفْتَهُ إلى الأوَّلِ مِنْهُمَا، نَحْوُ قَوْلِكَ: (هُو ظَانُّ زَيْدٍ قَائِماً) و(هذا مُعْطِي زَيْدٍ دِرْهَماً) و(هَذَا مُعْلِمُ زَيْدٍ بَكْراً قَائِماً). وقد اخْتَلَفَ النُّحَاةُ في نَاصِبِ هذا المَنْصُوبِ، فذَهَبَ الجُمْهُورُ إلى أنَّ نَاصِبَهُ فِعْلٌ مُضْمَرٌ يُفَسِّرُهُ اسْمُ الفَاعِلِ، وذَهَبَ أَبُو سَعِيدٍ السِّيرَافِيُّ إلى أنَّ نَاصِبَهُ اسْمُ الفَاعِلِ نَفْسُهُ، وهذا هو الذي يَدُلُّ عليْهِ ظَاهِرُ قَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ:
*وَهْوَ لِنَصْبِ مَا سِوَاهُ مُقْتَضِي*
كمَا اخْتَلَفُوا في الوَجْهِ الأَحْسَنِ بالنِّسْبَةِ للمَعْمُولِ التَّالِي للعَامِلِ، أهو الجَرُّ بالإضَافَةِ أم هو النَّصْبُ؟ فظَاهِرُ كَلامِ سِيبَوَيْهِ أنَّ النَّصْبَ أَعْلَى، وذَهَبَ الكِسَائِيُّ إلى أنَّ النَّصْبَ والجَرَّ سَوَاءٌ، وقِيلَ: الجَرُّ أَوْلَى؛ لأنَّهُ أَخَفُّ.
([13]) سُورَةُ (البَقَرَةُ)، الآيَةُ: 30. وقد تَقَدَّمَ بَيَانُ هذه الآيَةِ الكَرِيمَةِ في الكَلِمَةِ السَّابِقَةِ.
([14]) مِن مَجِيءِ التَّابِعِ مَنْصُوباً قَوْلُ رَجُلٍ مِن عَبْدِ القَيْسِ وهو مِن شَوَاهِدِ سِيبَوَيْهِ:
فَبَيْنَا نَحْنُ نَرْقُبُهُ أَتَانَا = مُعَلِّقَ وَفْضَةٍ وَزِنَادَ رَاعِي
فقَدْ نَصَبَ (زِنَادَ رَاعٍ) وهُو مَعْطُوفٌ علَى (وَفْضَةٍ) المَجْرُورِ بإِضَافَةِ (مُعَلِّقَ) إليهِ. ونَظِيرُهُ قَوْلُ الآخَرِ:
هَلْ أَنْتَ بَاعِثُ دِينَارٍ لِحَاجَتِنَا = أَوْ عَبْدَ عَمْرٍو أَخَا عَوْنِ بْنِ مِخْرَاقِ
فقَدْ نَصَبَ (عَبْدَ عَمْرٍو) وهو مَعْطُوفٌ بأو على (دِينَارٍ) المَجْرُورِ بإِضَافَةِ (بَاعِثُ) إليهِ.
([15]) سُورَةُ (الأَنْعَامُ)، الآيَةُ: 96.