القارئ: النوع السابع عشر: في زيادة الثقة
إذا تفرد الراوي بزيادة في الحديث عن بقية الرواة عن شيخ لهم,وهذا الذي يعبر عنه بزيادة الثقة، فهل هي مقبولة أم لا؟
فيه خلاف مشهور؛ فحكى الخطيب عن أكثر الفقهاء قبولها,وردها أكثر المحدثين، ومن الناس من قال: إن اتحد مجلس السماع لم تقبل,وإن تعدد قبلت.
ومنهم من قال: تقبل الزيادة إذا كانت من غير الراوي,بخلاف ما إذا نشط فرواها تارة وأسقطها أخرى.
ومنهم من قال: إن كانت مخالفة في الحكم لما رواه الباقون,لم تقبل,وإلا قبلت، كما لو تفرد بالحديث كله؛فإنه يقبل تفرده به إن كان ثقة ضابطاً أو حافظاً.
وقد حكى الخطيب على ذلك الإجماع.
وقد مثل الشيخ أبو عمرو زيادة الثقة بحديث مالك,عن نافع,عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان على كل حر أو عبد,ذكر أو أنثى من المسلمين.
فقوله:"من المسلمين" من زيادات مالك عن نافع، وقد زعم الترمذي أن مالكا تفرد بها,وسكت أبو عمرو على ذلك، ولم يتفرد بها مالك، فقد رواها مسلم من طريق الضحاك بن عثمان,عن نافع,كما رواها مالك، وكذا رواها البخاري، وأبو داود,والنسائي من طريق عمر بن نافع عن أبيه كمالك.
قال: ومن أمثلة ذلك حديث: ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)). تفرد أبو مالك سعد بن طارق الأشجعي بزيادة: ((وتربتها طهوراً)) عن ربعي بن حراش,عن حذيفة,عن النبي صلى الله عليه وسلم,رواه مسلم وابن خزيمة وأبو عوانة الإسفرائيني في صحاحهم من حديثه، وذكر أن الخلاف في الوصل والإرسال بخلاف قبول زيادة الثقة.
الشيخ: هذا المبحث أيها الإخوة أيضاً من أهم.. بل حقيقة يعتبر أهم مباحث علم المصطلح من حيث الخلاف الجاري بين العلماء في مثله، ولا نستطيع في الحقيقة أن نوفي هذا المبحث حقه في هذا اليوم؛لضيق الوقت الآن، لكن نأخذ بعض ما يتعلق به,ونكمل الباقي إن شاء الله في صباح يوم غد إن شاء الله.
أهمية هذا المبحث تكمن في هذا الخلاف الدائر بين العلماء، فالمحدثون والفقهاء,فالقاعدة الأغلب عند الفقهاء,أو عند كثير من الفقهاء قبول الزيادة، وأما المحدثون فمنهم من يقبل الزيادة ومنهم من يردها,ومنهم من تجد عنده أحياناً القبول وأحياناً الرد.
وذلك بناء على قرائن وأشياء تختلج في نفس المحدث,فربما قبل أحياناً وربما رد أحياناً,وأنا أذكر في هذا بأن هذه الزيادة التي ترد تكون أحياناً في السند وأحياناً في المتن,وكلامنا كله سينصب عليهما جميعاً، على الزيادة في المتن وعلى الزيادة في السند، وإن كان الفقهاء يعنون بالزيادة في المتن أكثر من عنايتهم في الزيادة في السند,ولكن المحدثين يجعلون السند هو الأصل للمتن، فربما كان الخلاف الذي حصل في زيادة متنية بسبب ذلك السند.
على كل حال هناك الآن,أيها الإخوة,كما تعرفون بعض طلبة العلم الذين اجتهدوا في هذه الأنواع من أنواع علوم الحديث,وبالذات مبحث زيادة الثقة,ونظروا إلى صنيع بعض المحدثين في ردهم لزيادة الثقة، سواء كانت الزيادة متنية أو إسنادية,وهذا مثل ما يصنعه الدارقطني رحمه الله تعالى,وأضافوا لذلك الكلام في مبحث التفرد وغير ذلك من المباحث كالجهالة والتدليس ونحوها، فقالوا: إن طلبة علم الحديث الذين في هذه الأزمان يأخذون بما استقر عليه الاصطلاح بعدما جاء ابن الصلاح,ثم من بعده كالذهبي وابن كثير والعراقي وابن حجر والسخاوي والسيوطي وأمثالهم,فيسمون منهج هؤلاء الأئمة,أي: بعد أن استقر الاصطلاح,وقعدوا هذه القواعد، يسمون هذا منهج المتأخرين,ويعتبرون أن للمتقدمين منهجاً يخالف منهج هؤلاء المتأخرين، وأن المتقدمين لا يصححون الأحاديث بهذه الصورة، بل ينظرون في مسألة التفرد وفي مسائل أخرى..
ومن جملة ذلك,ويركزون عليه تركيزا شديداً مبحث زيادة الثقة، بل تجد معظم الاستدلالات التي يستدلون بها كلها تتعلق بهذا المبحث,ففيما سبق يوم أمس أو اليوم الصباح، أن الحافظ ابن كثير أدرج في مبحث الحديث المعنعن والمؤنأن مسألة اختلاف الوصل والإرسال,وربطها بذلك المبحث.
وقلت لكم: إنه ينبغي إرجاؤها إلى أن يأتينا مبحث الشذوذ والنكارة وزيادة الثقة,فالكلام عنها ينبغي أن يكون في هذا الموضع؛ لأن هذا الاختلاف الذي يرد بين الرواة في وصل الحديث وإرساله نجد الرواية المرسلة رواية ناقصة,والرواية الموصولة رواية زائدة زادت راويا في الإسناد,فهذه تعتبر زيادة، وكذلك في المتن مثل زيادة((من المسلمين)) التي زادها الإمام مالك، هذه تعتبر زيادة في المتن, فالزيادة التي في الإسناد,والزيادة التي في المتن,إما أن يكون الذي زادها راويا ثقة من الثقات,ولكنه خالف باقي الثقات الآخرين.
فمثلاً: الثقات الآخرون يروون الحديث مرسلاً عن الزهري مثلاً، ويأتي الإمام مالك مثلاً فيخالفهم ويرويه موصولاً,فيقال: إن مالكاً زاد في الإسناد ذكر الصحابي والرواة الآخرون رووه مرسلاً,أو يأتي الرواة الآخرون فيروون الحديث باللفظ المذكور أمامهم: ((فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر على الذكر والأنثى,والحر والعبد صاعاً عن تمر)),المهم: ((من المسلمين)), ((فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعاً من تمر أو صاعا من شعير على الذكر والأنثى والحر والعبد من المسلمين)),زيادة: ((من المسلمين)) هذه الرواة الآخرون الذين شاركوا مالكاً في روايتها عن نافع ذكروا ذلك الحديث بدون هذه الزيادة:((من المسلمين)) فزادها مالك,فما حكم هذه الزيادة؟
قلت لكم: إن منهج الفقهاء والأصوليين قبول هذه الزيادة,وأما المحدثون فينظرون فيها باعتبارات كثيرة,ونحن سنأخذ هذه الضوابط وسنتكلم عنها إن شاء الله بما ييسر الله,لكن لنعلم أنه مهما قلنا,ومهما تكلمنا,فلا تطمعوا أن تجدوا ضابطاً يضبط هذه المسائل مائة بالمائة، وإنما كل حديث يمكن أن ينزل في منزلته، فكل رواية تجد فيها من القرائن ما ليس في الرواية الأخرى، بل ربما وجدت المحدث الواحد يختلف اجتهاده في بعض الأحيان، فربما اعتبر ذلك من زيادة الثقة في هذا اليوم، وربما اعتبر ذلك من الشذوذ.
ولنعرف أن زيادة الثقة وثيقة الصلة بالشاذ؛ لأنك إن لم تحكم على هذه الزيادة بأنها زيادة مقبولة من زيادات الثقة,فإنك ستحكم عليها بالشذوذ,فهذا المبحث لصيق بذلك المبحث,فالتداخل بين مبحث الشاذ وما بين مبحث زيادة الثقة حاصل وجار، والخلاف فيه قوي, ولكني أشير إلى أن من زعم من طلبة العلم أن هذا منهج المتقدمين,فإن زعمه خاطئ,فليس هذا بمنهج المتقدمين عموماً؛لأن المتقدمين اختلفوا؛فمن المتقدمين أناس من الفقهاء يقبلون هذه الزيادة,وهم متقدمون سناً,قبل ثلاثمائة للهجرة، فمن حيث التاريخ هم متقدمون بناء على قواعد هؤلاء الإخوة، ومن حيث أيضاً أئمة الحديث أنفسهم فإنهم يختلفون؛فمنهم من منهجه قبول الزيادة، وهذا نجده مثلاً عند ابن حبان وعند الحاكم,بل وعند من قبلهم.
وسنمثل إن شاء الله على ذلك ببعض الأمثلة.
ومنهم من منهجه رد الزيادة,وهو متأخر عن ابن حبان كالدارقطني، فابن حبان متوفى سنة ثلاثمائة وأربع وخمسين,والدارقطني متوفى سنه ثلاثمائة وخمسة وثمانين، بل الدارقطني من تلاميذ ابن حبان,ومنهم من تجده أحياناً يقبل الزيادة,وأحياناً يردها بناء على قرائن معينة.
لذلك لو قالوا: الخلاف جار بين منهج المحدثين,أو منهج جمهور المحدثين ومنهج الفقهاء ومن وافقهم من بعض المحدثين لعذرناهم,فهذا تقسيم صحيح، أما جعل هناك منهج للمتقدمين ومنهج للمتأخرين فلا كل المتقدمين أخذوا بهذا المنهج,ولا كل المتأخرين أخذوا بالمنهج الآخر، فمن المتأخرين من يجري على مجرى أهل الحديث تماماً,كابن عبد الهادي مثلاً، بل من المتأخرين في هذه الأزمان كالمعلمي رحمه الله فإنه أيضاً يجري على هذا المجرى.
وهذا الكلام الذي نجده في كتب المصطلح,نجد أنه تفصيل جيد وممتع,وإن كان بعضهم قد يجري مجرى الفقهاء,كالنووي رحمه الله,ويقرب منه أيضاً ابن الصلاح نوعاً ما,وإن كانت عبارة ابن الصلاح أحسن من عبارة النووي.
الشيخ: الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد.
فريثما يجتمع الإخوة نجاوب عن بعض الأسئلة التي كانت وردت.
سؤال: يقول السائل: ما تفرد به ركين وليس له مخالف. فلماذا لا يسمى حديثاً ضعيفا؟ لأن المنكر يكون عن مخالفة؟!
جواب: إذا كان الراوي سواء كان ركين أو غيره, إذا كان ممن لا يقبل حديثه, ولا يحتج به, فلا يكون صحيحًا ولا حسنًا, فما تفرد به فهو ضعيف, وقد يطلق عليه المنكر كما ذكرنا بعض الأمثلة بالأمس.
سؤال: قال ابن حجر في طبقات المدلسين: إنما كان في الطبقة الأولى والثانية فروايتهم وإن عنعنوا صحيحة متصلة؟
جواب: (طيب) ما وجه الإشكال؟! أنا ذكرت هذا, لكن أن الغالب الذين ذكرهم ابن حجر في الطبقة الأولى لا يثبت عنهم أنهم من المدلسين, وأما الذين في الطبقة الثانية فهم من احتمل الأئمة تدليسهم, فما دام محتمل تدليس الطبقة الثانية فالطبقة الأولى لو ثبت عنهم التدليس من باب أولى أن يكون قد احتملوه.
سؤال: كيف نعرف الزيادة في أي رجال السند، نرجو التوضيح؟
جواب: يأتي إن شاء الله هذا اليوم.
سؤال: أخذنا في تعريف الشاذ: أنه ما يخالف به المقبول من هو أولى منه, وهنا سؤلان: ما معنى يخالف؟ وما معنى أولى منه؟
جواب: أقول: يا أخي, معنى المخالفة: رواية الحديث على غير ما رواه الثقات الذين شاركوه في الرواية, وأنت تعرف المخالفة اللغوية, لو قال غيرك قول, وقلت قولًا يخالفه فتعتبر أنت مخالفاً لذلك الغير.
فمقصود أئمة الحديث بالمخالفة مخالفة من يمكن أن ترد مخالفته؛ لأنه يخالف من هو أضبط منه وأولى منه بالقبول, أو من هو أكثر عدداً منه, ولعل بالمثال يتضح لك مرادك من السؤال, إذا كان هناك حديث يرويه الأعمش.. يرويه شعبة عن الأعمش, عن أبي صالح,عن أبي هريرة, وجميع الراوة الثقاة من أصحاب شعبة رووه هكذا بهذه الصورة, فجاء مثلا بقية بن الوليد ورواه عن شعبة, عن الأعمش, عن أبي هريرة, ولم يذكر فيه أبا صالح, فيعتبر بَقِيَّةُ خالف بقيةَ أصحابِ شعبة, فهذا هو المقصود بالمخالفة.
أما المقصود من هو أولى منه؟ فيوضحه قولي قبل قليل: من هو أحفظ منه أو أكثر عدداً, فإذا كان بقية خالف جميع أصحاب شعبة كعبد الله بن المبارك, ومحمد بن جعفر غندر, وعبد الرحمن بن مهدي, وغيرهم من الأئمة, فهم أكثر عدداً منه, فصاروا أولى منه, أي: أولى منه في القبول, أو قد تكون المخالفة لمن هو أوثق منه, فلو لم يخالف بقية إلا محمد بن جعفر غندر في روايته عن شعبة لقلنا: إن بقية خالف من هو أولى منه, وهو غندر؛ لأنه أوثق في شعبة منه, هذا هو المقصود بأولى منه.
سؤال: يقول: ذكرتم أن المنكر:هو ما يرويه الضعيف مخالفًا من هو أولى منه, ومعلوم أن هذا الأولى قد يكون أولى من الضعيف المخالف, وهو ضعيف, فيكون ضعيفاً خالف من هو أخف منه ضعفًا, فهل يستقيم هذا؟
جواب: أقول: نعم هذا الذي قصدته أنا, الضعف على درجات, فلو كان هناك من ضعفه ضعف محتمل, وخالفه من هو أشد ضعفًا منه, فتعتبر رواية ذلك الأشد ضعفًا منكرًا.
سؤال: يقول: نرجو ذكر درجة كل راوي وحاله عند ذكر الأمثلة؟
جواب: نسأل الله التيسير لذلك.
سؤال: إذا كان هذا الحديث الذي ورد فيما يقال بعد الوضوء منكراً فهل هناك حديث صحيح ورد في دعاء يقال بعد الوضوء؟وهل يعني أنه لا ينبغي أن يقال الدعاء السابق بعد الوضوء لنكارة الحديث؟
جواب: لعل الأخ يقصد المثال الذي مثلت به بالأمس في مسألة التفرد فيما رواه المسور بن مورع الأعمش, وهو حديث ثوبان -رضي الله عنه- في الدعاء عقب الوضوء:((اللهم اجعلني من التوابين, واجعلني من المتطهرين )).
هذا الدعاء زاده الترمذي في روايته, وأصل الحديث عند مسلم, وهو حديث عمر بن الخطابرضي الله تعالى عنه، وتلك الزيادة التي عند الترمذي أعلها نفس الترمذي وضعفها, فهي زيادة ضعيفة: ((اللهم اجعلني من التوابين, واجعلني من المتطهرين)).
ولم تأت طريق أخرى نرى أنه تصلح للاعتبار, وتصلح لأن يستشهد بها لتقوي ضعف هذه الراوية, ومع ذلك فضعف هذه الرواية لا يتقوى؛ لأن المخالفة التي فيه واضح فيها الخطأ, فعلى كل حال هذه أو هذا الذكر ضعيف, ولا ينبغي لطالب العلم أو غيره أن يعمل به, لكن هناك ذكر وهو:((سبحانك اللهم وبحمدك, أشهد ألا إله إلا أنت, أستغفرك وأتوب إليك)). الذي رواه النسائي في عمل اليوم والليلة, لكن اختلف في وقفه ورفعه, هو من حديث أبي سعيد الخدري, والصواب أنه موقوف على أبي سعيد الخدري.
فمن يرى من الأئمة أن هذا الذكر الذي جاء عن أبي سعيد الخدري من قوله هو لا يمكن أن يقوله أبو سعيد الخدري إلا وقد أخذه من النبي صلى الله عليه وسلم, وأنا أرى أن هذا هو الصواب, ولذلك أرى أن العمل بهذا الذكر -إن شاء الله- فيه خير كثير, وهو أقرب إلى السنة.
سؤال: ما معنى قولهم: هذا الرجل ثقة تجاوز القنطرة؟
جواب: المقصود به أنه بلغ من درجات الثقة الحد الأعلى, تجاوز القنطرة, أي: لا ينبغي أن يسأل عنه, تجاوز مسألة السؤال ومرحلة السؤال عنه.
سؤال: ما رأيي في كتاب التقريب الذي طبع أخيرًا بتحقيق الشيخ أبي الأشبال؟
جواب: أقول: هي طبعة إن شاء الله جيدة.
سؤال: الأخ يسأل عن مسألة التسوية وتدليس التسوية؟
جواب: وأقول: رأيي هو نفس رأيي الذي ذكرته بالأمس, وهو أنه لا فرق بين تسوية وتدليس تسوية, فالكل يقال له: تدليس التسوية, فمن أسقط من الإسناد رجلًا بين شيخين أو بين راويين لقي أحدهما الآخر؛ فإن هذا يعد من تدليس التسوية.
سؤال: أحد الإخوة يسأل عن مسألة العمل بالحديث الضعيف, وما كنت ذكرته عن الإمام أحمد من عمله بالحديث الضعيف ويطلب التفصيل والسؤال طويل؟
جواب: فنقول للأخ: انتظر,إن شاء الله عما قريب سيأتي التفصيل في الكلام على الحديث الضعيف والعمل به, وحينذاك يمكنك أن تسأل عما أشكل إن لم يكن قد استوفي في الكلام.
سؤال: الأخ يسأل قول السيوطي في تدريب الراوي: بأن مظان الحديث المعضل والمرسل والمنقطع سنن سعيد بن منصور, ومؤلفات ابن أبي الدنيا؟
جواب: أقول: هذه المسألة كنت تكلمت عنها في مقدمة تحقيقي لسنن سعيد بن منصور, وبينت أن السيوطي قد أخطأ في استنتاجه هذا, أو تخصيص سنن سعيد بن منصور بهذا الأمر الذي ذكره, وقلت: إن سنن سعيد بن منصور هي مثل مصنف ابن أبي شيبة, ومصنف عبد الرزاق تماماً, وموطأ مالك, وهذه الكتب معروف بأنهم يروون فيها الحديث المرسل, فالحديث المرسل يوجد فيها, ولكن لا تختص سعيد بن منصور بمزيد خصيصة على هذه الكتب التي ذكرت, أما المعضل فأندر من النادر أن يوجد في سنن سعيد بن منصور, إلا إذا كان يريد بالمعضل ما سقط منه من بعد التابعي, فهذا يقال له: المرسل, كما كنا بيناه قبل ذلك.
سؤال: هل يختص الشاهد بما كان من المتون القريبة من المتن الأصل, أم هو أعم من ذلك كالآيات القرآنية والأحاديث التي تدل عليه؟
جواب: أقول: مسألة الشاهد لا بد أن يكون المعنى هو المعنى, واللفظ قريب من ذلك, أما الاستدلال في مسألة من المسائل بآية وبأحاديث لا صلة لها بذلك الحديث, وإن كانت تدل على معنى إما في جزئية من جزئياتها أو في كلياتها, فتسوية ذلك شاهدا في النفس منه شيء, لكن يمكن حينما يأتي حديث ضعيف ونجد آية من القرآن تضمنت نفس المعنى أن نقول: هذا المعنى صحيح لأجل قول الله جل وعلا كذا وكذا, ثم إثبات الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم والحكم عليه بالصحة عنه فهذا هو الذي ينبغي أن يحظر منه.
سؤال: ألا ترون أن التفرد عن إمام حافظ مكثر لا يتعجب منه لكثرت روايته, بل يتعجب ممن قَلَّتْ روايته وضبط وجَمَعَ حفاظٌ حديثه, ثم يجيء فرد وينفرد عنه بحديث, أما البحر فلا يتعجب؛لأن الملاحين لم يطوفوا أرجاءه؟
جواب: وما هي المخالفة يا أخي في كلامك لما كنت ذكرته, وهل نحن ذكرنا بأن الإمام المكثر من الرواية كالإمام مالك يرد تفرده؟! ألا ترى أننا حينما تكلمنا عن تفرد الإمام مالك -رحمه الله- بذلك الحديث عن الزهري, لم نقدح فيه, بل قلنا: إنه مخرج الصحيح, هذا هو الحق الذي نراه إن شاء الله.
فالإمام المكثر لا يستنكر عليه أن يتفرد عن شيخه بحديث, ولكن الكلام كله منصب على من لا يحتمل تفرده حينما يأتي لإمام مشهور فينفرد عنه بذلك الحديث, والمسألة واضحة وبينة إن شاء الله تعالى.
(طيب) نبدأ الآن الكلام على مبحث زيادة الثقة الذي كنا قرأناه بالأمس, وتكلمنا عنه ببعض الكلام, زيادات الثقات أيها الإخوة, نجد أنها تأتي في السند, وتأتي في المتن, فهل القول فيها في السند يختلف عن القول في المتن؟ أو هما بمعنى واحد؟ لعلكم ترون أن العبارة الأخيرة التي جاءت في هذا المبحث وهي قوله:"وذكر أن الخلاف في الوصل والإرسال كالخلاف في قبول زيادة الثقة, وجاء في بعض،النسخ عندكم: بخلاف (بخلاف ماذا؟) بخلاف قبول زيادة الثقة, فهذا الكلام متناقض؛ لأن الذي عندي في النسخة وتجدون أن المحقق أشار إليه, أو الشيخ أحمد شاكر هو الذي أشار إليه, أو المحقق أشار إلى أن في بعض النسخ كالخلاف, ولم يرجح بين المسألتين.
فالذي يظهر أن هو ما موجود عندي في النسخة أصوب, وهو قوله: وذكر أن الخلاف في الوصل والإرسال كالخلاف في قبول زيادة الثقة, كالخلاف.
وأما قوله:"بخلاف" فهذا يدل على معنى عكسي, فيقول: إن الكلام في الزيادة في المتن أو في السند والزيادة في السند تكاد تكون منحصرة, إما لرفع ما هو موقوف أو بوصل ما هو مرسل, ويدخل في وصل ما هو مرسل ما كان سيأتي في مبحث المزيد في متصل الأسانيد, أي: إذا وجد إسناد فيه زيادة رجل عما هوفي إسناد آخر وإن لم يكن ذلك الرجل صحابيًا, أي: ليس هو بالمرسل الجلي الواضح البين, ولكن يأتي في ثنايا السند, فهذا يدخل في مسألة الإرسال, فعرفنا أنه يكون في السند بأحد هذين الأمرين: إما برفع الموقوف, أو بوصل المرسل.
فالكلام في هذا كالكلام تماماً في الزيادة المتنية, إذًا نعرف أن الزيادة زيادات الثقات تكون في السند, وتكون في المتن,فما هو حكمها يا ترى, أشرت بالأمس إلى أن هناك خلافاً بين الفقهاء والأصوليين, أو جمهور الفقهاء والأصوليين وبين جمهور المحدثين, وإنما لم يطلق القول على الفقهاء والأصوليين أو على المحدثين جميعاً؛ لأن هناك من خالف من الفقهاء والأصوليين ما ذهب إليه جمهورهم.
وهناك من خالف من المحدثين ما ذهب إليه جمهورهم, ولكن نقول: أغلب المحدثين على هذه القاعدة, وأغلب الفقهاء والأصوليين على تلك القاعدة؛ وذلك أن زيادة الثقة ينظر إليه المحدثون نظرة غير نظرة الفقهاء, ولكن هناك من حاول أن يتوسط في هذه المسألة كابن الصلاح, وتبعه النووي بعد ذلك, وهذا التوسط بتقسيمهم الزيادة إلى ثلاثة أقسام؛ القسم الأول: الزيادة التي ليس فيها منافاة لما رواه الثقات, فهذه حكموا عليها بالقبول, والقسم الثاني: الزيادة التي فيها منافاة لما رواه الثقات,قهذه حكموا عليها بالرد, والقسم الثالث: الزيادة التي فيها نوع منافاة, وهذه المنافاة أو وهذا النوع من المنافاة إما أن يكون بتخصيص عام أو بتقييد مطلق.
فابن الصلاح توقف عن هذا القسم الثالث, فلم يرجح أحد طرفيه, وأما النووي فرجح القبول أيضاً, وقال: الراجح أن هذا مقبول, أو أن هذه الزيادة أيضاً تعتبر مقبولة, ويكاد يكون الكلام بناء على هذا التقسيم منحصراً في الزيادة في المتن, ولعل بالأمثلة التي أوردوها يتضح مرادهم منها, ثم نعرج على مسألة السند, فبالنسبة للزيادة التي ليس فيها منافاة مثلوا لها بما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث علي بن مسهر, عن سليمان بن مهران الأعمش, عن أبي رزين وأبي صالح, عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه, في حديث: ولوغ الكلب في إناء أحدنا, وفيه:((فليغسله سبع مرات)).
في هذا الحديث جاءت زيادة: فليرقه, وهذه الزيادة زيادة متنية, أي: فليرق الماء إذا ولغ الكلب في الإناء,((فليرقه ثم ليغسله سبع مرات)). هذا هو المراد بمعنى هذا الماء الذي..يعني: الخلاف يمكن أن يكون هكذا.
هل الماء الذي في ذلك الإناء يمكن أن يستعمل في تطهيره أولا؟ فهذه الزيادة تضمنت حكما, وهو أنه لا يجوز استعماله, بل ينبغي له أن يريقه, ثم بعد ذلك يغسل الغسلات السبع المذكورة في الحديث, جميع الرواة الذين رووا هذا الحديث عن الأعمش لم يذكروا هذه الزيادة سوى علي بن مسهر, وهو ثقة, فهل تقبل هذه الزيادة أولا تقبل؟ بناء على تقسيم ابن الصلاح والنووي قالوا: هذه الزيادة ليس فيها منافاة, وهي كالحديث المستقل, فتعتبر مقبولة.
وهذا هو الذي ذهب إليه أيضا ابن حزم, ونصره بقوة وبشدة وبالذات في كتابه (إحكام الأحكام) وألزم المخالف بأنه يلزمه على هذا أن يرد الأحاديث الأفراد التي لا تأتي إلا من طريق, ثم بين أن هذه بدعة أحدثها المعتزلة, وأن من رد الزيادة التي بهذه الصورة فيعتبر جارى المعتزلة في كلامهم, هذا كلامه, وهذا ما ذهب إليه, ولعلكم تجدون نقل الشيخ أحمد شاكر عنه بهذه الصورة, ومال إلى ذلك أيضاً الشيخ أحمد شاكر وأيده.
ولكن لعلكم تلحظون أن الحديث الذي يتفرد به ثقة ولا يرويه غيره يختلف عن حديث يشاركه فيه ثقات آخرون, ومخرج الحديث واحد, الشيخ الذي دار عليه الحديث واحد كالأعمش, فالأعمش هو شيخهم, يرويه باقي التلاميذ عنه بدون هذه الزيادة: فليرقه, ويأتي علي بن مسهر ويروي حديث عن نفس الشيخ, وهو الأعمش, فيزيد هذه الزيادة, ولعل بهذا المثال الذي أذكرهلكم يتضح مدى الفرق بين ما ذهب إليه ابن حزم, أو ما ألزم به المخالف, وبين ما يذهب إليه العلماء النقاد من الأئمة العارفين بعلل الأحاديث.
فأنا الآن أمامكم في هذا المجلس لو قلت كلاما, وقام مثلا عشرة من هذا المجلس فذهبوا ونقلوا نفس الكلام الذي قلته, وكل نقلهم عني يعتبر نقل متحداً, ثم جاء واحد آخر ونقل نفس الكلام وزاد فيه زيادة لم يذكرها أولئك, فهل يمكن أن نتصور أن هؤلاء العشرة كلهم لم يحفظوا تلك الزيادة التي جاء بها هذا الواحد؟ هذا لا يتصور عقلا, والمسألة واضح الفرق فيها, بينما هذا سبيله, وبينما يتكلم عنه ابن حزم ويلزم به المخالف.
فنحن لا نخالف في أن الأحاديث الأفراد إذا جاءت من طرق مفاريد بأنها تقبل وتصح إذا توفرت فيها شروط الصحة المذكورة, وليس ذلك من هذا السبيل, وأما حديث يشارك فيه هذا الراوي رواة آخرون, فيروونه بنقص عما رواه هو أو باختلاف يسير في بعض لفظه, فنعرف تماماً أن هذا الراوي لم يضبط, وأن الذين اتفقوا على إيراد الحديث بلفظ واحد أو بمعنى واحد هم الذين ضبطوا وأتقنوا هذا الحديث.
بالنسبة للقسم الثاني: ومثاله وهو الزيادة التي فيها منافاة, مثلوا لذلك بحديث رواه موسى بن عُلي بن رباح, عن أبيه, ونسيت صحابي الحديث, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم عرفة ويوم العيد.. أو يوم عرفة ويوم الأضحى وأيام التشريق:((عيدنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب)). قالوا: هذا الحديث خالف فيه موسى بن عُلي هذا جميع الرواة, فيبدو أن الرواة الآخرين رووه عن والده عُلي بن رباح بدون زيادة يوم عرفة, وقد يقول قائل: ما الفرق بين هذا الحديث وذلك الحديث السابق؟
فنقول: الفرق بينهما أن هذا الحديث تتضمن حكما, وهو أن يوم عرفة يكون يوم أكل وشرب, ونحن نعرف أنه جاء في بعض الأحاديث الحث على صيام يوم عرفة, وأنه إن صامه؛ فإنه يكفر السنة الماضية, فهذا الحكم مخالف للحكم الثابت في ذلك الحديث الصحيح, فمن هذه الحيثية اعتبروا هذه الزيادة منافية لما يرويه الثقات فردوها, فهذا مثال يقابل ذلك المثال الذي في القسم الأول.
أما القسم الثالث: وهو الذي يقال فيه: إن الزيادة التي تأتي في المتن فيها نوع منافاة, وليست منافية منافاة تامة, ولا هي أيضاً بالتي ليس فيها منافاة, وهذا قلنا: إنهم قالوا: إنه منحصر في تخصيص العام وتقييد المطلق, ومثلوا لذلك بما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث حذيفة -رضي الله تعالى عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في تطهير الأرض: ((وجعلت تربتها لنا طهورا)).
وباقي الرواة يروون.. هذه الرواية زادها أظن ربعي بن حراش, وباقي الرواة يذكرون هذا الحديث بدون ذكر التربة:((وجعلت لنا الأرض مسجداً وطهوراً)). فقالوا: زيادة التربة هذه يستفاد منها ماذا؟ تخصيص العام أو تقييد المطلق؟ (هه) لا, تقييد الإطلاق, فالتربة هنا مطلقة.. الأرض مطلقة, فيمكن أن يشمل الصخر وغير ذلك من مكونات الأرض.
أما بالنسبة لهذا الحديث فقيد ذلك الإطلاق وحصره في التربة فقط, فهذا التقييد اعتبروه نوع منافاة, والخلاف دائر في هذه المسألة بالذات بين الحنفية وغيرهم من الفقهاء, والحنفية بالغوا في مسألة التخصيص والتقييد, فاعتبروها نسخاً وبالذات فيما يأتي من السنة النبوية مبينًا للقرآن, فهم يردون تلك السنة, ويأخذون بالقرآن فقط؛ لأنهم يظنون أن التخصيص والتقييد عبارة عن نسخ ولهم في هذا، أقوال كثيرة وأمثلة كثيرة, لعل من أوضحها في مسألة التطهر قول الله جل وعلا: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغلسوا وجوهكم}.
فالحنفية قالوا: هذه الآية وصفة الطهور الذي يجب على المصلي فعله أو التطهر الذي يجب على المصلي فعله هو أنه إذا قام إلى الصلاة يبتدأ بغسل الوجه واليدين, فلم يشترطوا المضمضة والاستنشاق, وتابعهم على هذا آخرون, لكن الأهم من مسألة المضمضة والاستنشاق مسألة النية, قالوا: لا يشترط في الوضوء نية, ومن اشترط النية فقد أتى بحكم زائد على ما في كتاب الله جل وعلا, ونسخ كتاب الله, فالله جل وعلا إنما قال: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} ولم يقل: انووا. قبل ذلك ففهمهم لمسألة البيان إما بتخصيص العام أو تقييد المطلق, جعلهم يقعون في هذه المزالق الخطيرة التي ترتب عليها إهدار جزء من سنة النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الدعاوى التي تنم عن خلاف لما عليه الجمهور في فهم هذه النصوص الشرعية.
على كل حال لو كانت المسألة بهذه الصورة التي أوضحتها لقلنا: إن الزيادة في هذه الحال ينبغي أن تكون مقبولة, ولكن المحدثين ينظرون نظرة أخرى, سأعرج عليها -إن شاء الله- فيما بعد ذلك, ولكني أحببت أن أعرض ما ذكره ابن الصلاح والنووي بهذه الصورة.
ننتقل للمسألة الإسنادية ثم نبين بعد ذلك أن الحكم في قبول الزيادة وردها متحد عن المحدثين, سواء في السند أو في المتن, والقاعدة عندهم واحدة, حصروا مسألة الزيادة في المتن كما قلت لكم في وصل المرسل ورفع الموقوف, وقالوا: إن للعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال: القول الأول: رد الزيادة مطلقاً, فيؤخذ بالمرسل, ويؤخذ بالموقوف إذا ورد هناك تعارض بين الوصل والإرسال والرفع والوقف, قالوا: الحكم لمن وقف, والحكم لمن أرسل, ولكن أنا لا أذكر في الحقيقة, وإن كان هذا مذكورًا في بعض كتب المصطلح, لكني لا أذكر إمامًا بعينه أطلق القول بهذه الصورة التي ذكرت.
فعلى كل حال إن وجد فهو قول ليس بصحيح, القول الثاني يخالفه تماماً, وهو قبول الزيادة مطلقاً, فالحكم لمن وصل,والحكم لمن رفع,وهذا عليه جمهور الفقهاء والأصوليين وبعض من المحدثين الذين جروا على مجرى الفقهاء والأصوليين, فهذا أيضاً قول ليس بصحيح. والقول الثالث: التفصيل, فقالوا: ينظر للأكثر والأحفظ, فإن كان الأكثر أو الأحفظ وصلوا الحديث المرسل, فالحكم لمن وصل, وإن كان الأكثر والأحفظ هم الذين أرسلوا ما وصله غيرهم, فالحكم لمن أرسل, وكذلك في مسألة الرفع والوقف إن كان الأكثر أو الأحفظ هم الذين رفعوا الموقوف الذي وقفه غيرهم, فالحكم لمن رفع, وإن كان الأكثر والأحفظ هم الذين أوقفوا ما رفعه غيرهم, فالحكم لمن وقف.
وهذا التفصيل هو الصحيح, لكن مع تفصيل أذكره وأبينه بالآتي, نقول: إن هذه المسألة كما ذكرت لكم بالأمس تعتبر من أدق مباحث علم المصطلح, وتختلف فيها الاجتهادات بين الأئمة وهي مسألة يسع فيها الخلاف, ولا يمكن بحال من الأحوال أن يوضع فيها كما قلت لكم بالأمس, لا تطمعوا أن تجدوا فيها حدا فاصلًا, بحيث لا يمكن تجاوزه بحال من الأحوال, بل هي مسألة اجتهادية, وقد يطرأ على الإنسان ما يغير اجتهاده الذي ذهب إليه بالأمس, وقد يكون بين إمامين منهجهما متحد خلاف في قبول زيادة في حديث أوردها, وبعضهم مثلا ينسب لمسلم بن الحجاج -رحمه الله- أنه ممن يقبل الزيادة, وهذا ليس بصحيح.
فالذي نسب هذا الكلام لمسلم بن الحجاج لا يعرف من هو مسلم بن الحجاج, ولا يعرف كتب مسلم بن الحجاج, ولعله يراجع على الأقل كتاب (التمييز) له, فكتاب (التمييز) لمسلم بن الحجاج شبيه لكتاب (العلل) للدارقطني, ولكن مسلم بن الحجاج ألفه لا لقصد تتبع الأحاديث المعلولة وبيان عللها وإنما أراد بيان المنهج الذي يسير عليه المحدث في قبول الزيادة وردها, وغيرهاأيضا من الأمور التي تهم المتخصصين في علم الحديث, فيعتبر هذا الكتاب كالمعلم, لم أراد أن يتفقه في هذه المسائل الحديثية, فلو راجعتم إليه لوجدتم براعة الإمام مسلم -رحمه الله- في ذكر أحاديث واستنباط عللها واستخراجها بشكل لا يطرأ على بال.
ومن نظر في كلامه عرف أنه لا يقول بقبول زيادة الثقة, ولكن منهجه منهج باقي المحدثين الذين أحياناً يردون, وأحياناً يقبلون, فمسلم -رحمه الله- ربما قبل الزيادة أحياناً, وربما ردها,ولعل الذي يحفظ منكم بلوغ المرام للحافظ ابن حجر يجده ذكر في حديث فاطمة بنت أبي حبيش الذي اتفق على إخراجه البخاري ومسلم, يجد أن البخاري -رحمه الله- أخرج الزيادة التي جاءت في ذلك الحديث, وهي قوله عليه الصلاة والسلام: ((وتوضئي لكل صلاة)). وذكر الحافظ ابن حجر أن مسلما أشار إلى أنه حذفها عمداً لماذا؟ لأنه يرى أنها زيادة غير مقبولة, زيادة شاذة.
فاختلف الآن الحال بين البخاري وتلميذه مسلم بن الحجاج مع العلم أن منهجهما واحد في هذه المسائل, لذلك قلت لكم: إنها مما يسع فيها الخلاف, ولا ينبغي أن تحد بحد, لا يتجاوزه أحد, ينظر المحدثون في مثل هذه القضايا في قرائن متعددة, من جملتها ما أشار إليه الحافظ ابن كثير في مسألة اتحاد المجلس, فإذا كان هناك حديث من الأحاديث رواه جمع من الرواة عن محدث واحد عن شيخ واحد وليكن مثلا الأعمش, رووه بسياق معين إما بنقص في متنه مثل عدم زيادة:((فليرقه)) أو بوصله أو برفعه, وخالفهم إنسان آخر, فجاء بالحديث بتلك الزيادة مثلا زيادة:((فليرقه)) أو نقص فيه, كأن يكون أرسله أو وقفه أو العكس.
كل هذه متصور, فإنهم ينظرون في طريقة التحمل لهذاالحديث عن الأعمش هل هؤلاء الرواة الكثر أخذوا هذا الحديث في نقس المجلس الذي أخذه ذلك الراوي أولا؟ فإن كان المجلس متحداً حكموا على ذلك الراوي بأنه شذ وأخطأ في تلك الزيادة أو في تلك المخالفة أو النقص, فالعبرة عنده في هذه الحال بقبول رواية الأكثر؛ لأنه لا يتصور أن يخطأ هذا الجمع, ويصيب واحد ومجلسهم متحد, ومعلوم بأن الشيخ إنما قال كذا أو كذا, فإذا رووا الحديث مثلا مرسلاً ورواه هذا موصولًا فمعنى ذلك أنه.. أننا لو قبلنا وصله لحكمنا على الجمع بأنهم أخطأوا في إرسال الحديث, ونحن لا نتصور أن يخطأ هذا الجمع ويصيب رجل واحد.
وكذلك القول في مسألة الوقف والرفع, يعني: ينبغي ألا أطيل الكلام في التجزئة, فالكلام فيها واحد, فهذا في مسألة اتحاد المجلس، إذًا لو كانت هناك قرينة تدل على أن المجلس متحد, فينبغي أن يعامل الحديث بهذه المعاملة, لو كان هناك قرينة تدل على أن المجلس مختلف فهذا الإمام أو هذا الشيخ حدث هؤلاء الجمع بهذا الحديث في مجلس واحد, وحدث به ذلك الثقة في مجلس آخر, فجاء ذلك الثقة بزيادة لم يذكرها أولئك, ولتكن تلك الزيادة مثلًا زيادة متنية, أو زيادة إسنادية, الزيادة المتنية مثل: قد يرقه, أو زيادة إسنادية بوصل المرسل, فهم يحملون في هذه الحال رواية هذا الجمع على أنها رواية واحد, فمعنى ذلك أنه واحد في مقابل واحد آخر, يقولون: لأن تحملهم تحمل واحد في مجلس واحد, فهم كرواية الواحد تمامًا, وذلك حينما اختلف مجلسه يعتبر تحمله تحملًا مغايرًا لذلك التحمل, ففي هذا الحال يقبلون الزيادة, إذا كان الراوي لها ثقة,إذا كان الذي زادها ثقة فهم يقبلونها في حال اختلاف المجلس, أما الزيادة المتنية فالأمر فيها واضح, فإن المحدث قد لا يورد الحديث بتمامه فينقص منه ويورده لشخص آخر بتمامه, فيرويه على الوجه الأتم والأكمل.
وأما الاختلاف في الوصل والإرسال فإنهم عرفوا أن بعض المحدثين يكسلون أحياناً فيرسلون الحديث الموصول, وينشطون أحياناً فيوصلون ذلك الحديث المرسل, فإذا حدث بهذا الحديث هذا المحدث في مجالس مختلفة فإننا نحمل هذا الاختلاف عليه هو, وترجع هذه القضية إلى مبحث أشير إليه عندكم, وهو إذا كان.. إذا كانت المخالفة جاءت من الراوي نفسه, أو جاءت من الراوي عنه, فبعضهم قال: إذا جاءت من الراوي عنه ففي هذه الحال تعتبر الزيادة مقبولة, كما هو المنهج الذي أشار إليه ابن الصلاح وتبعه النووي, إذا لم يكن فيه مخالفة, ولكننا نقول: إنها مقبولة.
إذا اختلف المجلس مثلا وكان المخالف الراوي عن ذلك الشيخ, قالوا: وأما إن كانت المخالفة من الشيخ نفسه فأحياناً يصل المرسل وأحياناً يرسله؛ فإنه في هذه الحال قد اضطرب في هذا الحديث, ولكن بعض المحدثين يحملون هذا على أنه ليس اضطرابا وليس اختلافا منه, ولكن إما لأنه نشط فوصله, وكسل فأرسله, أو لأنه كان أرسله بناء على شك لحقه, ثم بعد ذلك تحقق من أنه فعلاً أخذ هذا الحديث موصولاً, فحدث به على الوجه الصحيح, وهذا يحدث أحياناً, فإذا كان مثلا شك في حديث هل رواه عن ذلك الشيخ مرسلاً أو موصولا؟ فخشي إن وصله أن يكون في ذلك عتب عليه في دينه؛ فإنه يسلك المسلك الأحوط ما هو؟
يرسل الموصول, وكان هذا صنيع لبعض الأئمة, وأظن من ذلك حماد بن زيد أو حماد بن زيد هو الذي كان لا يحدث بالحديث إطلاقا إذا شك فيه, فالحاصل أن الشك قد يلحق المحدث, فإذا شك أخذ بالحد الأدنى, فأوقف المرفوع, أو أرسل الموصول, ثم بعد ذلك ربما ذكر به بعض الذين كانوا معه في نفس المجلس, فرأى ما يغلب جانب أحد الشكين, غلب عنده جانب الوصل فتأكد لديه بأن هذا الحديث رواه شيخه في ذلك المجلس موصولًا, فانتفى عنه ذلك الشك, ورجع إلى الصواب, فحدث به في وقت آخر في مجلس آخر على الوجه الصحيح.
لأجل هذا الاحتمال الممكن رأينا أنه لا ينبغي أن يحمل على محدث بأنه اضطرب في ذلك الحديث إذا رواه مرة هكذا ومرة هكذا, وإنما يحمل على هذه المحامل الصحيحة, نعم إذا كثر هذا من المحدث أو كان هناك ما يدل فعلاً على أنه كان يضطرب في هذا الحديث وغيره من الأحاديث, مما يدل على رداءة حفظه, قدَحَ ذلك فيه.
(الوجـه الثانـي)
على رداءة حفظه قدح ذلك فيه, وأما بهذه الصورة التي أشرنا إليها فلا, بل يحتمل هذا منه ويقبل إنشاء الله تعالى، بعضهم جاء بمرجح غير ذلك المرجح, فقال: نحن ننظر, فإن كان الذي جاء بالزيادة فقيهًا قبلنا زيادته, وإن كان الذي لم يجئ بها محدثًا ليس بفقيه رددنا نقصه,أو اعتبرنا نقصه غير مؤثر في زيادة ذلك الراوي الذي زاد تلك الزيادة, ما السبب؟ قالوا: لأن الفقهاء يفطنون ويهتمون بها, ويولونها عناية شديدة؛ لأنها هي الثمرة التي يريدون التوصل إليها.
فلا يتصور من إنسان - يعني: بالمتون- أن يخطأ في زيادة في متن, بل الأعم الأغلب أنه يحفظ المتن أكثر من حفظ المحدث له, وهذه مسألة وإن كانت في أصلها صحيحة, لكنها تخضع أيضًا لنفس القواعد التي ذكرناها, فلو كان هناك مثلا جملة من المحدثين رووا الحديث بدون تلك الزيادة, وجاء محدث فقيه وروى الحديث بتلك الزيادة والمجلس متحد, فيعتبر هذا الواحد خالف أولئك الجمع, فنحن لا نتصور في هذه الحال أن يكون هذا الواحد هو الذي حفظ, أولئك الجمع هم الذين أخطاؤوا, فلم يذكروا هذه الزيادة, هذا يمكن أن يتصور فيما بين راويين, ولذلك نحن ننبه على أن الترجيح بالأحفظ أضعف من الترجيح بالأكثر, الترجيح بالأكثر هو الأقوى وهو الأعم والأغلب.
أما الترجيح بالأحفظ فهذه مسألة لا ينبغي أن يقدم عليها طالب العلم إلا بعد بينة مثل ماذا؟ مثل ما لو اختلف شعبة والثوري في حديث من الأحاديث, فكثير من العلماء يرون أن الثوري أحفظ من شعبة, وبالذات إذا روى متنًا من المتون فيه زيادة, قالوا: لأن سفيان الثوري يعتبر من فقهاء المحدثين بخلاف شعية؛ فإنه لم يؤثر عنه الفقه, فإذا جاء سفيان الثوري بزيادة في المتن اعتبرناها هي المقبولة ورجحناها على رواية شعبة,واعتبرنا رواية شعبة في هذه الحال مثلاً شاذة, نقول: لا, لا ينبغي أن يؤخذ الأمر بهذه الصورة.
فالترجيح بين اثنين ليس كالترجيح بين عدد كثير وواحد, الأمر يختلف؛ لأن الترجيح بالأحفظ لا يلزم منه أن من هو أكمل حفظًا أن يكون حفظ فعلًا أكثر من ذلك الذي هو أقل حفظًا منه, وهو في الأصل ثقة ضابط, فيمكن أن تقبل الزيادة ولا تؤثر في الرواية الناقصة, ولذلك لو نظرنا في حديث من الأحاديث اختلف فيه شعبة والثوري وشيخهما واحد وهو علقمة بن مرثد كلاهما يروي هذا الحديث عن علقمة بن مرثد, عن سعد بن عبيدة, عن أبي عبد الرحمن السلمي, عن عثمان بن عفان رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)). هذه الزيادة إسنادية, وليست متنية, فالثوري لا يذكر فيه سعد بن عبيدة, فيجعل الحديث من رواية.. يجعل الحديث عن علقمة, عن أبي عبد الرحمن السلمي, عن عثمان, ولا يذكر فيه سعد بن عبيدة, أما شعبة فيرويه عن علقمة, عن سعد بن عبيدة,عن أبي عبد الرحمن السلمي, عن عثمان... إلى آخره.
فالبخاري -رحمه الله- أخرج تلك الروايتين رواية سفيان ورواية شعبة, ولم يعتبر واحدة منهما خطأ, وإنما اعتبرها هذا من قبيل المزيد في متصل الأسانيد, فهذه الرواية صحيحة, وهذه الرواية صحيحة, فلم يرجح رواية أحدهما على الآخر؛ لأن الترجيح في هذه الحال من الصعوبة بمكان, لكن هل معنى هذا أنه لا يلتفت للأحفظ؟
نقول: بلى, يلتفت للأحفظ, لكن في حال الضرورة إلى الترجيح, فلو نظرنا إلى حديث مثلاً من الأحاديث يرويه شعبة بن الحجاج, ورواه عن شعبة اثنان: بقية بن الوليد, وغندر, فغندر يرويه عن شعبة على أنه مرسل, وبقية بن الوليد يرويه على أنه موصول, ففي هذه الحال لا نتردد إطلاقاً في ترجيح رواية غندر على رواية بقية بن الوليد؛ لأن بقية لا يوازي ولا يداني غندراً في حفظه وإتقانه, وبالذات لأحاديث شعبة؛ فإنه كان صاحب كتاب عنه, وكان ملازمًا له ملازمة طويلة, فنرجح في هذه الحال الرواية المرسلة, ونرد الرواية المزيدة.
أما مثلاً الفقهاء فلا يلتفتون لمثل هذا الذي نذكره, فيقولون: بقية لعله قال: أنه صدوق. فمعنى ذلك أن حديثه لو انفرد به مقبول, إذا توفرت فيه باقي شروط الصحة, وحينما نقول: إن حديثه مقبول فمعنى ذلك أن زيادته مقبولة, فيمشونها بهذا التصور,وهذا تصور ليس بصحيح, والتصور الصحيح هو ما يذهب إليه جمهور المحدثين؛ فإنهم ينظرون إلى هذا الاختلاف على شعبة, فيرون أنه لا يمكن أن يحفظ بقية ما غفل عليه عنه غندر, وهو طويل الملازمة لشعبة وصاحب كتاب, وكان ربيبًا لشعبة.
فهذه المسألة بهذا التصور يتضح معها أن التفصيل في قبول الزيادة أو ردها هو الصحيح, وأن ما يذهب إليه بعض من إطلاق القول بقبول الزيادة مطلقا مثلا أو غير ذلك فهذا القول ليس بصحيح, فكل حديث إذًا ينزل بمنزلته مع التأكيد على ضرورة مراجعة أحكام الأئمة على تلك الأحاديث التي يرد فيها ذلك الاختلاف في زيادة أو نقص في المتن أو السند على حد سواء, فننظر هل علماء الحديث قبلوا تلك الزيادة أو ردوها؟ وبالذات الأئمة العارفين بعلل الحديث كعلي بن المديني, ويحيى بن معين, وقبلهم عبد الرحمن بن مهدي, ويحيى القطان, ثم الإمام أحمد, وأبو حاتم, وأبو زرعة, والبخاري, ومسلم, والترمذي, والدارقطني, والنسائي, وأمثال هؤلاء الذين عرفوا باستخراج علل الأحاديث وبيانها.
فإذا وجدنا له كلاما في هذا الحديث فإما أن يكون هذا الكلام متفقا, فإذا اتفق فلا يجوز لطالب العلم أن يتخلف عن الأخذ بذلك القول إذا اتفق, كما أنه لا يجوز لإنسان متفقه أن يقبل تلك الزيادة, فتعتبر تلك الزيادة كالأحاديث الضعيفة أو الموضوعة؛ لأنها لا تصح ولا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم, أما إذا وجد بينهم اختلاف فذلك الاختلاف يسوغ لطالب العلم أن يأخذ بأحد الأمرين بدليل علمي بمرجح, لا عن هوى وشهوة, وأما إن لم يوجد إلا كلام لواحد أو اثنين, ولم يؤثر عن أحد ما يخالف ما ذهب إليه, فهذه أيضاً يمكن أن يصار إليها, اللهم لو تبين للناظر في ذلك الحديث أن تلك الطرق التي حكم بموجبها ذلك الإمام أو غيره أن تلك الطرق لا تسعف فيما توصل إليه من الحكم على تلك الزيادة بالقبول أو الرد, بل اطلع على مزيد مرجحات أخرى, ففوق كل ذي علم عليم.
ولكن هذا في الحقيقة يبدو أنه لا يتصور كثيراً بالنسبة لمثل من في زماننا, ولمثل من في زمانهم؛ فإن الطرق التي كانت عندهم كانت أكثر من الطرق التي عندنا, والكتب والأجزاء الحديثية وغيرها من دواوين الإسلام كانت أوفى وأشمل مما هو موجود عندنا في هذه الأعصار, فيبعد في الحقيقة أن نجد حديثًا له طرق لا توجد عند أولئك الأئمة المتقدمين, لكننا لا ننفي وجود ذلك مطلقًا, بل نقول: قد يوجد. فإن وجد فالمرجح هو القواعد الحديثية التي نتكلم عنها في هذا المبحث وغيره من المباحث, هذا بالنسبة للكلام على زيادات الثقات من وجهة نظر المحدثين مع مقارنتها بوجهة نظر الآخرين المخالفين لهم.
بالنسبة لهذا المثال الذي أورد في هذا المبحث, وهو زيادة الإمام مالك -رحمه الله- من المسلمين في حديث زكاة الفطر, لا يصلح أن يكون شاهدًا أو مثالًا في مبحثنا هذا؛ لأن هذه الزيادة التي جاء بها الإمام مالك قد توبع عليها, وما دام أنه توبع فلا يقال في هذه الحال: إن هذا من زيادات الثقات التي يمكن أن يمثل بها في هذا المبحث الذي نتكلم عنه, وإنما يمكن أن يورد ذلك المثال الذي أوردته قبل قليل, وهو زيادة علي بن مسهر, زيادة:((فليرقه)), في ذلك الحديث الذي رواه عن الأعمش, ولم يروه غيره.
كما أننا نلاحظ أن هناك زيادة شبيهة بهذه, ولكن المحدثين اتفقوا على ردها, ولم يقبلها إلا ابن حزم ومن سار على منهجه في أن الأصل قبول زيادة الثقة مهما كانت تلك الزيادات, ذلك الحديث الذي أمثل به هو ما رواه عبد الواحد بن زياد, وهو ثقة عن الأعمش, عن أبي صالح, عن أبي هريرة, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على شقه الأيمن)). هذا الحديث اعتبر العلماء أن عبد الواحد بن زياد قد أخطأ فيه, فجعله من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم, وباقي رواة الثقات الذين رووا هذا الحديث عن الأعمش يروونه عنه على أنه من فعل النبي عليه الصلاة والسلام.
فكان عليه الصلاة والسلام إذا صلى ركعتي الفجر اضجع على شقه الأيمن حتى يأتيه بلال, فيأذنه بالصلاة, فحكموا على عبد الواحد بن زياد بالخطأ في هذا الحديث, أما ابن حزم فشنع على من حكم عليه بالخطأ, وقبل هذا الحديث, وبنى عليه حكماً, وهو وجوب الاضطجاع على الشق الأيمن بعد أداء ركعتي الفجر, فيتضح من مثل هذا المثال خطأ ما ذهب إليه ابن حزم؛ فإننا لا نتصور في هذه الحال أن الأعمش يكون حدث بهذا الحديث بهذين اللفظين ولم يحفظه عنه إلا عبد الواحد بن زياد.
قالوا: مخرج الحديث واحد, وإذا اتحد مخرج الحديث فسياقه يكون واحدا, فأولئك الرواة الثقات الذين رووا هذا الحديث عن الأعمش على أنه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم هم الذين حفظوا وضبطوا, وأما عبد الواحد بن زياد فهو وإن كان ثقة فالثقة قد يخطئ, ليس هناك أحد مبرأ من الخطأ, وكم عثر على بعض الثقات من الأخطاء! ولكنها أخطاء -ولله الحمد- لا تدل على دخول شيء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم, ليس منها, فلا نتصور إطلاقًا أن الثقات قد يجمعون على خطأ, أو يجمعون على رد حديث, هذا لا يتصور؛ فإنه لو أخطأ ثقة من الثقات لجاء الرواية الأخرى ما يبين هذا الخطأ, وينفي أن يكون دخل في سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس منها.
أما بالنسبة لحديث: ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)). فتكلمنا عنه وقلنا: إن هذه الزيادة وهي الزيادة التي فيها التخصيص يمكن أن تكون زيادة مقبولة, وهي التي رواها أبو مالك سعد بن طارق الأشجعي عن ربعي بن حراش؛ لأن هذه الزيادة زيادة التربة جاءت في أحاديث أخرى, وإن لم تكن من حديث حذيفة بن اليمان -رضي الله تعالى عنه- ومع ذلك فظاهر القرآن يؤيد هذه الزيادة:{تيمموا صعيدًا طيبًا}, فالصعيد: هو الذي يستخدم في التيمم, والصعيد هو التربة.
وأما لو أخذ الحديث على عمومه: ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)). فمعنى ذلك أنه يمكن أن يتيمم على الأشجار والأحجار وما إلى ذلك, وهذا يخالف ظاهر الآية, ويخالف بعض الأحاديث التي جاءت مقيدةً لهذا الإطلاق آخر الكلام, وذكر أن الخلاف في الوصل والإرسال كالخلاف في قبول الزيادة, قلت لكم: إن هذه اللفظة هي الأصوب كالخلاف أي: كلامنا في المتن ككلامنا في السند على حد سواء, كما رأيتم من خلال هذا العرض الذي ذكرته لكم, لعلنا نبدأ الآن في الكلام على الحديث المعلل.