القارئ: النوع الحادي عشر: المعضل
وهو ما سقط من إسناده اثنان فصاعدًا,ومنه ما يرسله تابعو التابعين.
قال ابن الصلاح: ومنه قول المصنفين من الفقهاء: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وقد سماه الخطيب في بعض مصنفاته مرسلًا، وذلك على مذهب من يسمي كل ما لا يتصل إسناده مرسلًا.
قال ابن الصلاح: وقد روى الأعمش عن الشعبي,قال: ((ويقال للرجل يوم القيامة: عملت كذا وكذا. فيقول: لا.فيختم على فيه)) الحديثَ.
قال: فقد أعضله الأعمش؛لأن الشعبي يرويه عن أنس,عن النبي صلى الله عليه وسلم,قال: فقد أسقط منه الأعمش أنسًا,والنبي صلى الله عليه وسلم، فناسب أن يسمى معضلًا.
قال: وقد حاول بعضهم أن يطلق على الإسناد المعنعن اسم الإرسال,أو الانقطاع.
قال: والصحيح الذي عليه العمل,أنه متصل محمول على السماع,إذا تعاصروا مع البراءة من وصمة التدليس.
الشيخ: لحظة (شوي). فهذا مبحث آخر,الحقيقة كان الأولى أن يفرد بعنوان: الحديث المعنعن والمؤنن؛ لأنه لا يدخل في المعضل بالذات، وإنما هذا من أنواع السقط,عموما (طيب) إلى هنا يكون انتهى الكلام عن الحديث المعضل، الحديث المعضل قبل أن نشرحه ونبينه ينبغي أن نعرفه بتعريف جامع مانع.
فنستطيع أن نعرفه بالتعريف الآتي,وهو أحسن مما ذكر عندكم في الكتاب,فنقول: المعضل: هو ما سقط من وسط إسناده راويان فأكثر على التوالي.
بهذا التعريف نستطيع أن نفرق بين المعضل والمعلق والمرسل أيضًا,فما وجدنا فيه سقطًا من آخر الإسناد,أي: من جهة الصحابي,وإن كان بأكثر من اثنين,ولكن بشرط: أن يكون التابعي هو الذي يضيفه إلى النبي صلى الله عليه وسلم,سميناه مرسلًا، فإن أردنا أن نتكلم على شدة ضعفه,قلنا: إنه في هذه الحال يعتبر معضلًا؛لأجل أن الساقط فيه أكثر من واحد، ولكنه من حيث الاصطلاح يسمى مرسلًا؛لأن التابعي يضيفه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان السقط من أول الإسناد من جهة صاحب الكتاب,وكان بأكثر من واحد,مثل ما لو تصورنا أن البخاري يقول عن الحديث الذي ذكرته لكم اليوم: قال يحيى بن سعيد الأنصاري,فحذف منه شيخه الحميدي وشيخ شيخه، وهو سفيان بن عيينة,فأصبح السقط ههناكم؟
أصبح السقط اثنين على التوالي، يعني: وراء بعض، لكن السقط من أول الإسناد,فهذا نسميه معلقًا,ولا نسميه معضلًا، مع العلم أن هناك تساهل كثير من أهل العلم في التمييز بين هذه الأنواع الثلاثة؛ فأحيانًا يجعلون بين المعضل والمرسل تداخلًا,وذلك إذا كان الساقط فيمن بعد التابعي أكثر من واحد، وأحيانًا يسمون المعلق معضلًا,وكذلك العكس أيضًا: قد يسمونه معلقًا وقد يسمونه معضلًا، وذلك إذا كان الساقط من أول الإسناد أكثر من واحد.
ولكن يفترق بناء على مفهوم هؤلاء العلماء,يفترق المعضل عن المعلق,ويفترق المعضل عن المرسل بالآتي,هذا بناء على قولهم,ثم نذكر إن شاء الله ما يمكن أن يميز كلا منها عن الآخر:
فإذا كان السقط من جهة الصحابي بواحد فقط,فهذا يقال له: مرسل,ولا يقال له: معضل؛بناء على كلام هؤلاء العلماء، أما إذا كان السقط من جهة الصحابي باثنين,أو أكثر,فهذا يسمونه مرسلًا ومعضلًا في آن واحد,فقد يشتركان وقد يفترقان.
وإذا كان السقط من وسط السند باثنين أو أكثر على التوالي، يعني: وراء بعض,فهذا يكون معضلًا,ولا يكون مرسلًا,كما أنه أيضًا لا يكون معلقًا، وإذا كان السقط من أول الإسناد بواحد فقط,فهو يكون معلقًا,ولا يكون معضلا.
فعرفنا أنه عندهم قد يلتقي مع المعلق وقد يفترق، وقد يلتقي مع المرسل، وقد يفترق، لكن إذا أردنا أن نتمشى بموجب هذا التعريف الذي ذكرته لكم,فهو يخرج المعلق والمرسل، ويبقي له الصورة المحدودة عندكم في هذا التعريف ما سقط من وسط الإسناد.
فبهذا القيد يخرج المعلق الذي هو من أول الإسناد,ويخرج المسند الذي هو من آخر الإسناد، ما سقط من وسط إسناده اثنان أو أكثر على التوالي, فقولنا: على التوالي يخرج ماذا؟ (هه؟) (غير مسموع) يخرج المنقطع؛ لأن المنقطع لا على التوالي.
فبهذه الصورة الآن يصبح للمعضل تعريف محدود,لا يشترك معه غيره فيه، وأنا أرى أن هذا هو الصواب إن شاء الله تعالى، أما كون هناك من يسميه أو يسمي غيره من أنواع السقط مرسلًا، فهذه مسألة تكررت معنا,أنهم أحيانًا يتجوزون فيعبرون عن أي سقط في الإسناد بأنه مرسل,وأحيانًا يعبرون عنه بأنه منقطع، لكن هذا فيه تجوز، ونحن الآن نتكلم عن التسمية الاصطلاحية الفنية التي ينبغي أن تحد كل نوع بحد يميزه عنها.
أما هذا المثال الذي أورده فهو مثال لا يصلح؛ لأن الساقط من بعد الشعبي إنما هو راو واحد فقط،
وهو: أنس,أما النبي صلى الله عليه وسلم فلا يعتبر في هذه الحال من أنواع السقط في الإسناد، لكن هذا الحديث بهذه الصورة حينما يقول الأعمش عن الشعبي أنه قال: ((ويقال للرجل يوم القيامة: عملت كذا وكذا)) ماذا يسمى هذا؟ (هه؟) يا جماعة (غير مسموع) (أيوه) أحسنت نعم، أخذنا اليوم أن هذا من كلام التابعي، فهذا يقال له: مقطوع، فلا يقال له: لا مرسل ولا معضل، هذا من كلام الشعبي، التابعي أحيانًا قد يروي الحديث وكذلك الصحابي أحيانًا قد يروي الحديث فيفتي بموجبه إن كان الحديث مما يدل على فتوى معينة، فلا يقال في هذه الحال: إن هذا يعتبر معضلًا.
وقد يذكر التابعي أو الصحابي الحديث من باب الوعظ والإرشاد,والبيان لمعنى معين، فكل هذا يقال له: موقوف؛ لأنه جاء من كلام التابعي نفسه، فهذا لا يعتبر معضلًا في حقيقة الأمر,وإنما هذا يعتبر موقوفًا على الشعبي رحمه الله تعالى.
الآن عندنا مبحث الإسناد المعنعن، فهل تنشطون لأن (نمشي) فيه؟ يمكن يأخذ منا على الأقل ربع ساعة أو أكثر, أو نتركه ليوم غد؟ (هه؟) خلاص نتركه ليوم غد إن شاء الله؛ لأن هذا فيه الكلام على مذهب البخاري ومذهب مسلم رحمهما الله تعالى.
ردًا على سؤال غير مسموع: إي, مقطوع,أو نقول: موقوف على الشعبي.
نحن قلنا:إنه يجوز أن يطلق الوقف لكن مع التقييد.نعم.
ردًا على سؤال غير مسموع: يرد عليه الكلام الذي ذكرناه في مسألة المرفوع، يكون له حكم الرفع (هه) إذا كان الشعبي ما يأخذ مثلًا عن أحد من أهل الكتاب فيكون (إيش) مرسلًا.
ردًا على سؤال غير مسموع: (هه؟) لا هو المشكلة ما هي بإسقاط أنس؛المشكلة إسقاط النبي صلى الله عليه وسلم,فيصبح الكلام موهمًا في هذه الحال: هل هو ما تلقاه عن أهل الكتاب (ولا) لا؟
سؤال: أحد الإخوة يقول: صغار الصحابة الذين هم لهم رؤية,وليس لهم رواية,هل يعتبرون ثقات عدولًا؟
- يا جماعة الإخوة (اللي بيمشون) جزاهم الله خيرًا يخفضون الأصوات - هل يعتبرون ثقات عدولا؟
جواب: أقول: هذه مسألة الحقيقة أنا في قلبي,أو عندي شيء,فيها نوع من التوقف,في بعض الأحيان وليس في كل الأحيان، فالغالب نعم أنهم يعتبرون عدولًا، لكننا وجدنا منهم من خاض في بعض الفتن التي شانتهم,مثل من؟
مثل محمد بن أبي بكر الصديق,رضي الله عن أبيه؛فمحمد بن أبي بكر بن الصديق هذا ولد قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر حين انصرف النبي عليه الصلاة والسلام من حجة الوداع في الطريق,وجيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبال في حجره,وكان ممن شارك في قتل عثمان رضي الله عنه، فلذلك بقي في القلب شيء عليه، فهل يعتبر في هذه الحال من العدول؟
حقيقة أنا ما وجدت من أهل السنة, ويمكن أني قصرت في البحث,لكنني ما وجدت من يوثقه ويثني عليه، بل كأنهم يعتبرون ما أصابه من العقوبة؛لأنه قتل وجعل في جلد حمار وأحرق، فتن,والله المستعان,ينبغي أن تطوى ولا تروى,فمثل هذا له رؤية للنبي صلى الله عليه وسلم,فهل يعتبر في هذه الحال عدلا؟
هذا أمر مرده إلى الله, والعلم عند الله جل وعلا.
سؤال: هل هذه القاعدة صحيحة كل دليل تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال يقال: إنها أخذت عن الشافعي؟
جواب: أقول: هي صحيحة,لكن بناء على الفهم الصحيح,أما من يستخدمها لضرب نصوص الشرع,وتكلف الاحتمالات,فهذا لا، لكن إذا كان هناك احتمال قوي,لا مناص عنه,فنعم، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة)).
تطرق الاحتمال لهذا الدليل,ولذلك الصحابة اختلفوا في فهمه,فمنهم من صلى في الطريق,ومنهم من لم يصل إلا في بني قريظة,فمثل هذا هو الاحتمال السائغ.
سؤال: إبهام الصحابي هل يؤثر في السند,مع احتمال أن يكون الصحابي من صغار الصحابة الذين لم يرووا عن النبي صلى الله عليه وسلم؟
جواب: أقول: هذه مسألة أخرى,لذلك اعتبر البيهقي رحمه الله الأحاديث التي بالصورة المذكورة من الأحاديث المرسلة,وكأنه لحظ أيضًا هذا الملحظ، لكن يبقى الإشكال,وأنا أشكر الأخ على سؤاله.
يبقى الإشكال فيما لو قال التابعي: حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهل في هذه الحال نشترط أن يقول هذا الصحابي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كذا,أو نكتفي بقوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذا، إذا اكتفينا بقوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذا, وكان هذا من صغار الصحابة الذين رأوا النبي صلى الله عليه وسلم,ولم يرووا عنه,فهل يكون مقبولًا في هذه الحال؟والله هذه محل نظر,ولعلي أنظر فيها,والحقيقة أنه يبدو أنها من مشكلات المسائل؟
سؤال: ألا يكون ما ذكر عن الشعبي رحمه الله من المرسل حكمًا؟
جواب: بلى,يكون من المرسل حكمًا بعد ماذا؟ بعد أن نتأكد أن الشعبي رحمه الله لم يأخذ عن أهل الكتاب، أما لو كان هناك احتمال أن يكون أخذ عن أهل الكتاب فقد يحتمل أن يكون هذا من حكاية بني إسرائيل، ولا يكون له حكم المرسل؛ لأننا لم يغلب على ظننا أنه نسبه للنبي صلى الله عليه وسلم.
سؤال: ما قولكم من موطأ مالك وكثرة المراسيل التي فيه ؟ وهل ابن عبد البر وصل كل أحاديث الموطأ؟
جواب: يبدو أن الأخ ما كان سمعنا قبل ذلك.
على كل حال المراسيل التي في موطأ الإمام مالك هي بناء على أصل مذهبه الذي أشرنا إليه قبل قليل,من أنه يحتج بالحديث المرسل، وأما كون ابن عبد البر وصلها فلا,ابن عبد البر لم يتصد لوصل المراسيل وإنما تصدى لوصل البلاغات,ففرق بين المراسيل وفرق بين البلاغات,فابن عبد البر وصل كل بلاغات الموطأ إلا أربعة أحاديث,هي التي لم يصلها. نعم؟ المراسيل (إيش؟)
ـ..................
ـ لا,المراسيل التي في موطأ مالك ما تصدى لها أحد؛لأنهم يرون أن هذه المراسيل جاءت بناء على أصل الإمام مالك رحمه الله,وهو أنه يرى الاحتجاج بالمرسل,فالمرسل والموصول عنده بمعنى واحد,لا يختلف هذا عن ذاك.
سؤال: هل الاحتجاج بالحديث المرسل الذي كان بعض الأئمة الأربعة ومن وافقهم عليه,هل هو جارٍ إلى عصرنا اليوم؟
جواب: ما أدري ما مقصود الأخ بهل هو جارٍ؟ يعني: هل يمكن قبول المرسل الذي يرسله أحدنا في هذا الزمان؟ إن كان هذا المفهوم فلا,ولا أظن أن الأخ يقصد هذا المفهوم,لكن لعله يقصد أننا لو وجدنا حديثًا مرسلًا، فهل يقبل بناءً على قواعد العلماء السابقين في مثل هذا الزمان؟
نقول: أصلًا المراسيل التي جاءت لا بد أن تجدهم تكلموا عليها,فكل إمام نصر رأيه ونصر مذهبه بما وجده من أحاديث مراسيل أو غير مراسيل، ولو فتحت على كتب الفقه وكتب الخلاف,ستجد الأدلة التي استدلوا بها لابد أن يكون متكلما عنها,فأنت اضرب مثالًا على هذا ونحن نعطيك الجواب.
سؤال: يقول: نرجو أن تعيد تعريف المنقطع؟
جواب: تعريف المنقطع: هو ما سقط من وسط إسناده راوٍ أو أكثر,لا على التوالي,أي: لابد أن يكون بينهما فاصل.
الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، الحمد لله رب العالمين,وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد..,
وكان أحد الإخوة بالأمس سأل سؤالا فيما يتعلق بمستدرك الحاكم,وهي جزئية أغفلتها؛لعدم ورودها في الكتاب,ولأنا محتاجون للوقت؛لكي نقطع هذا المشوار الطويل,لكن ريثما يجتمع الإخوة لا بأس من الحديث عنها إن شاء الله تعالى,وذلك فيما يتعلق بشرط الشيخين.
ما المقصود بشرط الشيخين؟ وهل مجرد كون الإسناد مرويا لرجال من رجال الشيخين يكفي هذا في الحكم على حديث في خارج الصحيحين بأنه صحيح على شرط الشيخين,أو على شرط أحدهما؟
أقول: هذا لا يكفي,بل إذا أردنا أن نحكم على حديث بأنه على شرط الشيخين,أو بأنه على شرط البخاري أو مسلم,فنص العلماء على أنه لا بد من توفر شرطين:
الشرط الأول: أن يكون الرجال من رجال من حكمتَ على الحديث بالصحة على شرطه إما على شرط الشيخين أو شرط البخاري أو شرط مسلم.
والشرط الثاني: أن يكونوا على صفة الاجتماع,يعني: هؤلاء الرجال يكونون على صفة الاجتماع,فما المقصود بصفة الاجتماع؟
المقصود بصفة الاجتماع: أن يكون كل راو أخذ عن شيخه هذا,في من حكمت على حديثهم بالصحة على شرطه.
فإذا جاءك حديث مثلا من رواية سماك بن حرب,عن عكرمة,عن ابن عباس,فلا يليق والحالة هذه أن تحكم على هذا الإسناد بأنه صحيح على شرط الشيخين؛لأننا لو نظرنا في هذا الإسناد لوجدناه مركباً من شرط مسلم ومن شرط البخاري,ولوجدنا فيه علة تَمنع أن يكون هذا الحديث صحيحاً,فضلاً عن أن نحكم عليه بالصحة على شرطِ أحدِ الشيخيْنِ, وتوجدُ فيه علة تبين لنا أن الشيخين أو أحدهما لم يحكمْ على هذا الحديث بالصحَّةِ بهذه الصورة؛وذلك أن هذا الإسناد فيه سماك بن حرب,وهو ممن احتج به مسلم ولم يحتج به البخاري,وفيه عكرمةُ مولَى ابن عباس,وهو ممن احتج به البخاري ولم يحتج به مسلم,فأصبح هذا الإسناد مركباً من شرط.. أو من رجل من رجال مسلم ومن رجل من رجال البخاري.
فهذا التلفيق لا يصلح, لذلك قالوا: لابد أن يكون الرجال على صفة الاجتماع,كلهم من رجال مَن حكمت على حديثي بالصحة على شرطه,وأن يكون كل واحد منهم قد أخذ عن الآخر.
فحتى تتضح هذه الصورة الثانية -أن يكون كل واحد منهماقد أخذ عن الآخر - ننظر في المثال الآخر, بعدأن نبين بأن المثال السابق,وهي رواية سماك بن حرب عن عكرمة متكلم فيها عند العلماء,فبعضهم يعدها رواية منكرة.
ولذلك قلت: إنها لا تصح,فضلاً عن أن تكون على شرط الشيخين أو أحدِهِما.
أما المثال الآخر: فعندنا داود بن الحصين ممن أخرج له البخاري,وعكرمة مولى ابن عباس ممن أخرج له البخاري, فإذا جاءنا حديث من رواية داود بن الحصين,عن عكرمة,عن ابن عباس,قد يغتر الناظر في هذا الإسناد فيقول: هذا الإسناد على شرط البخاري؛لكون داود بن الحصين وعكرمة مولى ابن عباس ممن أخرج لهم البخاري؛فإذن لا بأس من تصحيح الحديث على شرط البخاري.
نقول: لا بد أن تنظر نظرة أخرى,وهي التي قلنا فيها: لا بد أن يكونوا على صفة الاجتماع,فهل وجدتَ في صحيح البخاريِّ أن داود بن الحصين يروي عن عكرمة؟
إذا وجدت حديثا بهذه الصورة فنعم يصح لك أن تحكم على الحديث بالصحة على شرط البخاري,لكن فتِّشْ,لو طالعت صحيح البخاري ورقة ورقة لما وجدت لداود بن الحصين رواية عن عكرمة في صحيح البخاري.
والسبب أن روايته عنه منكرة,فلذلك التقاها البخاري وأخرج لداود بن الحصين من روايته عن شيوخ غير عكرمة,وأخرج لعكرمة من رواية تلاميذ عنه غير داود بن الحصين,فلا بد أن يوضع هذا في الحسبان.
كذلك أيضاً لو أردت أن تحدث في الصحيح حديثاً على شرط الشيخين,فتعلم أن الزهري ممن احتج به الشيخانِ,وأن هشيم بن البشير ممن احتج به أيضاً البخاري ومسلم,فيأتيك حديث من رواية هشيم بن بشير عن الزهري,فتقول: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين؛لكونهما أخرجا لكل من هشيم والزهري,ولكن هل وجدتَ أن الشيخين قد احتجا برواية هشيم بن بشير عن الزهري,فتش ثم انظر؛فإنك لا تجد رواية بهذه الصورة.
والسبب أنهم أعرضوا عن روايات هشيم بن بشير عن الزهري؛لكونها متكلما فيها,فتبين بهذا أنه لا بد أن تجد أن الراوي قد أخذ عن شيخه؛إما في الصحيحين كليهما,أو في أحدهما؛ حتى تستطيع أن تحكم على الحديث بهذا الحكم الذي تريده.
فلعل بهذا إنشاء الله يكون اتضح المقصود. (طيب) نكمل ما وقفنا عليه في يوم أمس.
القارئ: الحمد لله وكفى,والصلاة والسلام على النبي المصطفَى,وآلِه وصحبه ومن اقتفى,أما بعد..,
قال المصنف رحمه الله تبارك وتعالى,ونفعنا بعلمه وبعلم شيخنا,وأجزل لهما المثوبة في الدارين,قال:
وقد حاول بعضهم أن يطلق على الإسناد المعنعن اسم الإرسال أو الانقطاع.
قال: والصحيح الذي عليه العمل,أنه متصل محمول على السماع إذا تعاصروا,مع البراءة من وصمة التدليس.
وقد ادعى الشيخ أبو عمرو الداني المقرئ إجماع أهل النقل على ذلك,وكاد ابن عبد البر أن يدعي ذلك أيضاً.
قال: قلت: وهذا هو الذي اعتمده مسلم في صحيحه,وشنع في خطبته على من يشترط مع المعاصرة اللقي,حتى قيل: إنه يريد البخاري.
والظاهر أنه يريد علي بن المديني؛فإنه يشترط ذلك في أصل صحة الحديث,وأما البخاري فإنه لا يشترطه في أصل الصحة,ولكن التزم ذلك في كتابه الصحيح.
وقد اشترط أبو المظفر السمعاني مع اللقاء طول الصحابة.
وقال أبو عمرو الداني: إن كان معروفاً بالرواية عنه,قبلت العنعنة.
وقال القادسي: إن أدركه إدراكا بينا.
وقد اختلف الأئمة فيما إذا قال الراوي:"أن فلانا قال" هل هو مثل قوله:"عن فلان" فيكون محمولا على الاتصال حتى يثبت خلافه, أو يكون قوله:"أن فلاناً قال" دون قوله:"عن فلان".
كما فرق بينهما أحمد بن حنبل,ويعقوب بن شيبة,وأبو بكر البرديجي,فجعلوا "عن" صيغة اتصال,وقوله: "أن فلانا قال كذا" في حكم الانقطاع حتى يثبت خلافه.
وذهب الجمهور إلى أنهما سواء في كونهما متصلين.قاله ابن عبد البر.
وممن نص على ذلك مالك بن أنس,وقد حكى ابن عبد البر الإجماع على أن الإسناد المتصل بالصحابي سواء فيه أن يقول:"عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" أو:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" أو: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وبحث الشيخ أبو عمرو هنا فيما إذا أسند الراوي ما أرسله غيره,فمنهم من قدح في عدالته بسبب ذلك إذا كان المخالف له أحفظ منه,أو أكثر عدداً,ومنهم من رجح بالكثرة أو الحفظ,ومنهم من قبل المسند مطلقاً إذا كان عدلا ضابطاً.
وصححه الخطيب وابن الصلاح وعزاه إلى الفقهاء والأصوليين,وحكى عن البخاري أنه قال: الزيادة من الثقة مقبولة.
الشيخ: بعد الحمد لله,والصلاة والسلام على رسول الله..,
هذا المبحث كما رأيتم ألحقه المصنِّف تبعاً لابنِ الصلاحِ بمبحثِالحديثِ المعضَل,وكما قلت بالأمس:
إن الأولى أن يوضع له عنوان مستقل؛لكونه لا يختص بالمعضل,وإنما هذا يُعَنْوَنُ له أحياناً في بعض كتب المصطلحِ بمبحث الحديث المعنعن والمؤنن.
والمقصود به الحديث الذي لا يصرح الراوي فيه بسماعِه ذلك الحديث من شيخِه مباشرةً,وإنما يأتي بصيغةٍ محتمِلة للسماع وعدمه,كأن يقول: عن فلان,فكلمة "عن"هي التي اصطلحوا عليها فيما بعد بأنها العنعنة.
وأحياناً يقول: إن فلانا قال كذا وكذا,فهذا يقال له: المؤنن.
إنما حصل الاختلاف في هذه الصيغة؛لأنه وجد من المحدثين مَن يُسقِط واسطة بينه وبين من روى هذا الحديث عنه,وقد يُسقِط واسطة واحدة,وقد يسقط أكثر من واحد,لذلك وجدُوا أن التعبيرَ بما يدل على تلقيه ذلك الحديث صراحةً من شيخه,كـ: سمعت,وأخبرني,وحدثني,وما في حكمها, التعبير بهذا أبعد عن وجود العلة,وأسلم للحديث,لكن هذا التمني وهذا الترجي لا يسعفه الواقع الذي صار عليه بعض المحدثين؛فإنهم أحياناً يأتون بهذه الصيغة,فلما كثرت في الحديث النبوي وجد العلماء أنفسهم مضطرين إلى مناقشة هذه القضية مناقشة تتكفل لنا بحفظ السنة النبوية من أن يدخل فيها ما ليس منها,ومن حفظها أيضاً من أن يرد جزء كبير منها.
وهو في الأصل مقبول؛ففي بداية النزاع في هذه القضية كان هناك طائفة من العلماء يردون الحديث المعنعن,ولا يقبلون إلا ما صرح فيه بالسماع,ولكن هذا المذهب قد انقرض وانتهى,وأحياناً ينسب إلى أناس كالإمام أحمد لا نجد ذلك واضحا في استدلالاته بالحديث,أو في رواياته التي يخرجها أو يصححها؛ لذلك فإن نسبة هذا القول إلى بعض الأئمة تحتاج أيضاً إلى مزيد من التحفظ.
ولعلكم تعرفون أن هذه المسألة مِن المسائِلِ التي دارَ الخلافُ فيها بينَ مسلمٍ ومخالِفِيه,وقد نصَّ عليها مسلم في مقدمة صحيحه,ونصرها وشنع على المخالف,لذلك هناك من اغتر بأسلوب مسلم,وظن أن رأيه هو رأي الجمهورِ؛لأنه نصَّ في المقدمة على أن هذا المخالف قد خالف الإجماع أو كلمة نحو هذا, فظنَّ المطلع على هذا الكلام بأن ما ذهَب إليه مسلم هو مذهب الجمهورِ,فرأوا الاكتفاء بالمعاصرة.
وهذا كله في حالِ الإسناد المعنعن؛لأن الخلافَ الذي جاء بين مسلم ومَن خالفه,ولا بأس أن نحدد بعض المخالفين كعليِّ بن المديني والبخاري,الخلاف بينهم إنما يجري في الإسناد المعنعن.
أما لو جاءنا الحديثُ وفيه التصريح بالسماع,أو بما يقوم مقامه,فهذا لا إشكال فيه,ولا نزاع,ولكن بقِيَ أن ننظر في الإسناد الذي يأتينا وفيه بين الراوي,وبينَ شيخِه التعبير بصيغة "عن" فهل يُقبل أو يُرد أو فيه تفصيل؟
قلتُ: إن القول برد هذا الإسناد قد انقرض وانتهى,أما مسألةُ القبولِ فإنها هي الأصل,لكن وِفق شروط سنذكرها:
فمن هذه الشروط أنهم ينظرون في الراوي: إن كان مدلِّساً,فهذا يتحفظ عن قبول عنعنته,ودعونا الآن نأخذ هذه القضية بهذه الصورة,أي: بردِّ عنعنة المدلِّس,أما التفصيل فيها فنتركه إلى ما بعد قليل -إن شاء الله- حينما نتكلم عن الحديث المدلَّس,لكن الآن حتى تسلسل الأفكار في مثل هذا المبحث نقول:
إن كان الحديث جاء بصيغة "عن" والراوي مِمن وُصف بالتدليس,فإن عنعنته ترد في هذه الحال,لكن الإشكال وقع فيمن لم يعرف بتدليس:
فالبخاريُّ ومسلم ينظرون: إن كان هذا الراوي ممن عرف بتلقيه عن ذلك الشيخ؛ إما لطول ملازمته له أو عرف معرفة تامة بأنه ممن تتلمذ عليه,
وإن لم تطل الملازمة,أو عرف بأنه لقيه ولو مرة مجرد لقاء,فهذا كافٍ عندَهم بما يُشْبِهُ الإجماعَ في قبولِ العنعنةِ,عدا من خالف كأبي المظفر السمعاني وغيره,وهو خلاف قليل جدًّا.
لكن نستطيع أن نقول: إن رأي الجمهور قاطبة كلُّه متوافر على قبول العنعنة ممن عرف عنه أنه لقي شيخه,أما لو طالت ملازمتُه لشيخه وعرف بالأخذ عنه,فهذا هو قول علماء الحديث وغيرهم أيضاً بالإجماع في قبول عنعنة من كان بهذه الصفة:ليس بالمدلس,وطالت ملازمته لشيخه.
لكننا نناقش الآن قضية اللقاء فقط,الاكتفاء به ولو مرة واحدة,فمسلم لا يخالف في أن الحديث الذي بهذه الصورة لا شك أن العنعنة فيه محمولة على الاتصال,فشرط البخاري داخل في شرط مسلم من باب أولى,لكن المشكلة العكس: شرط مسلم هل يقبله البخاري وهو الحد الأدنى؟
الجواب: لا؛ فإن مسلما رحمه الله توسع في الشرط فقال: لا يلزم من ذلك اللقاء بين الراوي وبين شيخه لو لم يتحقق اللقاء,ولكن أمكن اللقاء,فإن كان اللقاء مع وجود المعاصرة,أي: أن يكون الراوي عاش فترةً كافية في السماع من حياة شيخه,كأن يكون التلميذ وُلد سنة ثمانين للهجرة,والشيخ تُوفِي سنة عشر ومائة للهجرة,فكم تكون المعاصرة بينهما؟
ثلاثين سنة, ثلاثون سنة كافية في أن يكونَ التلميذ قد سَمِع من ذلك الشيخ,لكن هذه العبارة التي استخدمت: مع إمكان اللقاء.ما المقصود بها؟
كأني أفهم من شرط مسلم من خلال التطبيق,أن المقصود بإمكان اللقاء,أي: أن لا يثبت خلافه,أي: لا يثبت خلاف اللقاء,وهو الانقطاع,فلو نُصَّ على أن هذا الراوي لم يسمع من شيخه فإن هذا يخرج عن شرط مسلم.
لكن هل مسألة إمكان اللقاء عند مسلم بالشرط الذي سأوضحه,
وأقول: إنه يمكن أن يكون منهجا وسطاً بين ما ذهب إليه البخاري وما ذهب إليه مسلم,أنا لم أجد هذا في الأحاديث التي يحكم عليها مسلم ويكتفي بالمعاصرة, لكن يمكن أن يجري مجرى التنصيص على عدم سماع الراوي من شيخه,أن يكون ذلك التلميذ وذلك الشيخ ممن غلب على الظن عدم تلاقيهما,كأن يكون التلميذ في بلدٍ والشيخ في بلد, فالفترة التي عاشها ذلك التلميذ في بلدِهِ عُرِفَ أنه لم يرحلْ فيها,ولم يرحل إلا بعد وفاة شيخه.
فإذا جئنا بالمثال الذي قبل قليل: راو وُلد سنة ثمانين للهجرة,والشيخ توفي سنة عشر ومائة للهجرة,فما بين ثمانين إلى عشر ومائة هل يكون ذلك التلميذ قد رحل من بلده خراسان مثلاً إلى بلاد شتى وشيخه في مصر ؟ فإن وجد أنه رحل فعند مسلم يكفي هذا؛لأن إمكان اللقاء مظنون في هذه الحال.
لكن إن تحقق من أنه لم يرحل إلا في سنة إحدى عشرة ومائة,فمعنى ذلك أنه لم يرحل إلا بعد وفاة شيخه,والشيخ لم يعرف عنه أنه ذهب إلى خراسان,فإمكان اللقاء إذًا في هذه الحال غير موجود,فجميع هذه اللفتات نجد أن المحدثين يراعونها لو قرأتم في كتب التراجم ونظرتم كيف أنه يمكن أن يحكم على راو بأنه لم يسمع من شيخ وما إلى ذلك, السبب في هذا كله مراعاتهم لمثل هذه المسألة.
ولذلك أفردوا بعض أنواع علوم الحديث مما يتعلق بهذه المسألة بالتصنيف,مثل معرفة بلدان الرواة وأوطانهم ووفياتهم وتواريخهم ومواليدهم,كل هذه المسائل تعين,فعلوم الحديث مشتبك بعضها ببعض,أحياناً في المسألة الواحدة تكون محتاجا لتطبيق أنواع كثيرة من أنواع علوم الحديث لأجل حديث واحد.
بقي أن نقول: ما هو الرأي الراجح؟ هل هو ما ذهب إليه مسلم أو ما ذهب إليه البخاري؟
أقول: إن من اغتر بعبارة مسلم,وظن أن رأي الجمهورهو هذا,قد يذهب إلى هذا المذهب,ولكنَّ الدعاوى لا بد من إقامة الدليل عليها,فإقامة الدليل على ما ذهب إليه مسلم لا تسعفها أقوال الأئمة,وإنما أقوال الأئمةِ كلها متوافرة على نصرة ما ذهب إليه البخاري رحمه الله,وليس أدلَّ على هذا من أنكم لو نظرتم في كتاب ( المراسيل ) لابن أبي حاتم,لوجدتم النقولَ الكثيرةَ عن الإمام أحمدَ,ويحيى بن معين,وعلي بن المديني,وعبد الرحمن بن مهدي,ويحيى بن سعيد القطان,وشعبة,والثوري,وغيرهم قديماًوأخيراً كمثل أبي زرعة,وأبي حاتم الرازي,وأبي داود,والترمذي,وغير هؤلاء من العلماء.
كل هؤلاء نجدهم إذا جاؤوا لرواية الراوي عن شيخ من الشيوخ بدؤوا يدققون فيها,هل سمع منه أو لم يسمع؟ مع العلم أن المعاصرة موجودة,مثل رواية سفيان الثوري عن الزهري, سفيان الثوري أدرك حياة طويلة من حياة الزهري,ولكنه لم يسمع منه,فالمعاصرة موجودة بالدرجة الأولى,بل إن مَنهو أصغر سناً من الثوري سمع من الزهْري أحاديث كثيرة,مثل: سفيان بن عيينة,فوفاة الثوري كانت في سنة إحدى وستين ومائة,ووفاة سفيان بن عيينة كانت سنة ثمان وتسعين ومائة,فسفيان بن عيينة أصغر من الثوري بكثير,ومع ذلك سفيان بن عيينة من كبار تلاميذ الزهري,وأما سفيان الثوري فلم يسمع من الزهري.
فذلك إذا جاءك يا طالب العلم حديث من الأحاديث: سفيان عن الزهري فتحقق من هو سفيان هذا؟ إن كان سفيان الثوري فالإسناد منقطع,وإن كان ابن عيينة فإسناده متصل,بل إن التدقيق كان أكثر في حال التابعين ورواياتهم عن الصحابة,فتجد الخلاف يجري: هل سمع فلان من فلان أو لا؟.
مثل مسألة سماع الحسن البصري من سمرة,فإمكان اللقي موجود,ولكن هناك من حكم على رواية الحسن البصري عن سمرة بالانقطاع, فلما اتضح وتبين أنه نص في حديث العقيقة على أنه سمعه من سمرة بدؤوا بعد ذلك ينظرون: هل سمع منه غير حديث العقيقة؛ لأن الشك كان يساورهم في مسألةِ تلقِّي الحسن البصري عن سمرة أصلا,ثم لما تبين ما يخرم هذا الأصل بدؤوا يناقشون؛إذ قد لا يكون سمع منه إلا هذا الحديث.
فلما وُجِدَ أنه سمع منه غير حديث العقيقة,كثر الاختلاف أيضاً في مثل حالِ هذا الراوي,لذلك فالبخاري رحمه الله فضَّ النزاع,فبمجرد كون الحسن البصري لقي الحسن ولو مرةً في حديث العقيقة والنص على سماعه منه اكتفى البخاري بهذا,ولم يطلب مزيداً عليه.
لذلك حكم البخاري على أن رواية الحسن البصري عن سمرة كلها متصلة,إلا أن يتبين ما يخدش ذلك الاتصال.
لهذا أنا أقول: إن ما ذهب إليه البخاري هو المذهب الأقوى,وهو رأي الجمهور,ومنشاء التفصيل وإقامة الأدلة واضحة وبينة,فليراجع كلام ابن رجب الحنبلي رحمه الله في شرحه لـ علل الترمذي؛فإنه أسهب في هذه المسألة وأطال فيها,وذكر الأدلة التي تؤيد ما ذهَبَ إليه البخاري رحمه الله تعالى.
لكن مسألة إمكان اللقي التي قلنا: إن مسلماً يشترطها في اكتفائِهِ بالمعاصرةِ,نستطيع أن نلحقها بما رجحناه مما ذهب إليه البخاري,وهذا أمر ذكرته لكم قبل ذلك,ولا بأس بإعادته لأهميته,فأقول:
إذا كان هناك ما يغلب الظن على سماع هذا الراوي من ذلك الشيخ,أو على الأقل لقيه له,كأن يكونا تعاصرا فترة كافية في اللقاء, وكانا في بلد واحدٍ,حتى ولو لم ينص على أن فلانا لقي فلانا, لكن الدواعي متوافرة على أن أهل العلم دائماً يتواصلون,وبالذات في مثل المجاميع التي تجمعهم,كصلاة الجمعة,ونحن نعرف أن بلدانهم في الماضي ليست متسعة كبلداننا الآن,بحيث إن المدينة الواحدة الآن يمكن أن تكون عبارة عن مدن وقرى متفرقة في أزمان ماضية,فالأحياء الآن يعتبرُ كل حي عبارة عن مدينةٍ أو على الأقل قرية من القرَى,لكن في الماضي كانت بيوتهم متشابكةًوصغيرة ومتعددة الأدوار,بحيث إن الموضع الواحد الذي يمكن أن يكون لبيت واحد الآن قد تضع فيه في ذلك الزمن عشرة أو عشرين بيتًا وربما أكثر,وهذا يختلف بحسب البيوت الآن سعة وضيقا.
فعلى كل حال ما دامت المدينة الواحدة محصورة,وفي معظم الأحيانِ أنه يجمعهم إما مسجدٌ واحد,أو لو كان هناك مساجد فإنها قليلة,والتواصل بينهم,وبخاصة في الطلب على شيوخ معينين محتمل جداً,لذلك نحن نقول: إذا كان الراوي هو وشيخه من موطن واحد, من بلدة واحدة,والمعاصرة موجودة,فإن هذا يغلب على الظن أن كل واحد منهما سمع من الآخر,فهذا يمكن أن يلحق بشرط البخاري.
أما مَن أطلقَ على الحديث المعنعن اسم الإرسال,أو الانقطاع,فهذا قلت: إنه مذهب انقرَضَ وانتهى,والصحيح أنه محمول على الاتصال بالشرطين المذكورينِ:
الشرط الأول: براءة الراوي من وصمة التدليس.
والشرط الثاني: اللقاء وما في حكمه,أو على مذهب مسلم ومن يذهب إليه وجود المعاصرة مع إمكان اللقاء.
أما دعوى أبي عمرو الداني إجماع أهل النقل على ما ذهب إليه مسلم,فهذه دعوى تفتقر إلى الدليل,والدليل بخلافها,كما أشرت إليه.
وأما كون ابن عبد البر رحمه الله كاد أن يدعي ذلك أيضاً, فهذا الكلام موهم؛ موهم في أن ابن عبد البر رحمه الله كادَ أن يدعي إجماع أهل النقل على الاكتفاء بالمعاصرة,والذي جاء عن ابن عبد البر التأكيدُ على أن العنعنةَ محمولةٌ على الاتصالِ مع وجود اللقاء.
وهذا لعلكم تجدونه فيما نقله عن.. الأخ علي حسن عبد الحميد وفقه الله,مع الإحالة إلى موضعِه في مقدمةِ التمهيد.
فابن عبد البر إذًا لم يذكر ما ذكره أبو عمرو الداني,فأصبح في العبارة شيء من الإطلاق الموهِم,ولكن إذا ما فهمنا أن ابن عبد البر لم يتكلم عن المعاصرة,انتهى هذا الإشكال.
أما كون مسلم رحمه الله حينما اعتمد هذا في صحيحِه,وشنع في خطبته في مقدمة الصحيح على من اشترط المعاصرة مع اللقاء,فهذه قيل: إنه يريد بها البخاري,وقيل: إنه يريد علي بن المديني,ولكن من أدب مسلم رحمه الله أنه لم يحدد شخصاً,فلذلك لا يليق في هذه الحال أن نذهب لننزل كلامه على شخص بعينِه؛لأنه قد يكون تكلم,وإن كان الكلام يُظهر أنه يتكلم عن شخص,لكن يمكن أن يكون في هذا التعبير الذي استخدمه مسلم إيماء إلى أن هناك من قال بهذا القول,مع عدم تحديده لمن قال ذلك القول,ولكنه يتكلم عن الجنس, جنس من قال بهذا القول.
فتنزيله على أناس بأعيانهم لا يليق؛ حتى لا يكون هناك شيء من الظنِّ بأن مسلما رحمه الله أساء الأدب مع شيخه البخاري,وقد عُرِف هو بتبجيله وتقديره واحترامه له.
وحتى علي بن المديني, هو من الأئمة الذين لا يظن أن مسلما قد يتكلم عنهم بكلام جارح,ولذلك فكلامه يتجه إلى منهج معين,وهو منهج من اشترط اللقاء مع المعاصرة,فلا ينبغي أن ينزل على معين.
وأما كون مثل ابن كثير رحمه الله ههنا,ذكر أن كلام مسلم هذا يتنزل على علي بن المديني؛لأنه هو الذي اشترط اللقاء في أصل الصحَّة,وأما البخاري فإنما اشترطه في صحيحه فقط ولم يشترطه في أصل الصحة,فهذا كلام غير صحيح؛فإن البخاري رحمه الله تابع شيخه علي بن المديني على هذا الشرط,أي: في أصل الصحة.
والذي يقول: إن البخاري إنما اشترطهفقد في صحيحه عليه بإقامة الدليل على هذه المسألة؛لأن الدليل جاء بخلافه,فمن نظر في كتاب التاريخ الكبير للبخاري,وجد أنه يعنَى في هذا الكتاب بهذه المسألة: مسألة اللقاء,وإثبات السماع أحياناً,وهذا يعرِفُه أهل الاختصاص حينما يجدونه ينص: فلان روَى عن فلان مرسل,وإذا لم يذكر الإرسال معنى ذلك أنه يؤيد مسألة اللقاء,وإذا أعلَّ حديثا يرويه من طريق ذلك الشيخ,تجده يعله بهذه العلة,يقول: لا يدرى سمع من فلان أم لا.
فكل هذا يدلُّ على أنه رحمه الله يشترط هذا الشرط في أصل الصحةِ,وليس فقط في صحيحه,وما عداه فإنه يَجري على مجرى مسلم رحمه الله,فلنتنبه لهذه المسألة التي هي من دقائق هذا المبحث.
أما كون أبي المظفر السمعاني اشترط مع اللقاء طول الصحابة,أي: طول الصحبة, طول الصحبة بين الراوي وبين شيخه,فهذا شرط فيه تشدد وتكلف, ولو اشترطناه لذهب جزء كبير من سنة النبي صلى الله عليه وسلم,فهذا لا يلزم.
وكذلك من اشترط شرطا حول هذا,كأن يكون ذلك الراوي معروفاً بالرواية عن شيخِه,فكلمة: معروفا بالرواية عن شيخه,يمكن أن يكونَ مذهبا وسطا بينَ ما ذهب إليه أبو المظفر السمعاني,وما ذهب إليه البخاري,فلا يُشترط طول الصحبةِ,ولا يكتفي أيضاً بمجرد اللقاء,بل لا بد من تحقق السماع والمعرفة بأن هذا الراوي ممن أخذ عن ذلك الشيخ,وهو قريبٌ مما قاله القادسي,قال: إن أدركه إدراكا بينا . أي: واضحا.
وأما الإدراك غير البين,فيكون القادسي قد استثناه,مثل ماذا؟ مثل رواية الحسن البصري عن سمرة؛فإن إدراك الحسن البصري لسمرة يعتبر على مثل هذا المذهب إدراكا غير بيِّن,فكونه إنما عرِف بأخذه حديث العقيقة عن سمرة,وحديث في قتلِ العبدِ فيما أضافه بعض العلماء,وبعضهم قال: إنها وصلتإلى أربعة أحاديث,فلنفرض أنها وصلت إلى أربعة أحاديث,لكن ما سبيل الأحاديث الباقية؟
يكون على ما ذهب إليه القادسي أدركه إدراكا غير بين,فبعضهم يكتفي فقط بهذه الأحاديث التي نص العلماءُعلى أنه أخذها عنه,وما عدا ذلك فيعتبِرونه مرسلاً,وهذا إنما يكونُ في الرواة الذين يُتحقق مِن أنهم لم يسمعوا من أولئك الشيوخ سوى تلك الأحاديث, أما ما عدا ذلك فإِذا وجد اللقاء,فهو كاف بلا شك إن شاء الله تعالى.
وأما المسألة الأخرى,وهي مسألة الحديث المؤنن, فالحقيقة أنه لا فرق بين الحديث المؤنن والحديث المعنعن,وهذا الخلاف المذكور أمامكم حصَل بسبب لبس وقع في هذه المسألة,مثل نسبة هذا للإمام أحمد,كما يقولُ: كما فرق بينهما أحمد بن حنبل ويعقوب بن شيبة وأبو بكر البرديجي.
فالإمام أحمد رحمه الله لم يرد الحديث المؤنن,وهو الذي يقول فيه الراوي: إن فلانا قال؛لأن هذا والمعنعن سواء,فمن فرق بينهما فإنه يفرق بين المتماثلات؛فإن هذه الصيغة محتملة للسماع من عدمِه,وتلك الصيغة محتملة للسماع من عدمه أيضاً.
لكن الذي أوقعهم في هذا اللبس أن الإمام أحمد رحمه الله تكلم عن مسألة أخرى,وهي مثل ما لو قال عروة, وهو معروف بالرواية عن عائشة كثيراً رضي الله تعالى عنها,فيروي أحياناً عروة,عن عائشة,عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كذا,وكذا فهذا متصل بلا شك.
لكن لو قال عروة: إن عائشة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا, فهذه المسألة تختلف عما نحن بصددهالآن,هذه المسألة يتصور معها أن عروة صحابي,وأنه كان حاضراً حينما قالت عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم هذه المقولة,ورد عليها النبي صلى الله عليه وسلم بالقول الفلاني, فهذا يعتبر مرسلاً,فالفرق بين هذه الصيغة وبين عروة,أن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا, الفرق واضح وبين,فهنا عروة يروي عن عائشة,يقول: هي التي قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال,فما جاء بعد عائشة وضَّح أن عروة أخذ هذا عن عائشة.
أما تلك الصيغة الأولى عروة أن عائشة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم,فهذه لا تدل على أن عروة أخذ هذا عن عائشة,وإنما كأنه شاهد عائشة وهي تخاطب النبي صلى الله عليه وسلم ويخاطبها,فالفرق واضح بين الصورتين.
لذلك كلام الإمام أحمد على هذه الصورة الثانيةوالإرسال فيها واضح وجلي,أما الصورة الأولى فلم يردها الإمام أحمد,وليس له فيه كلام, فلنتنبه أيضاً إلى هذا النقل.
ولأني لم أجد أيضاً الأخ علي حسن عبد الحميد تكلم عنه في تعليقه, فيما يظهر, والعلم عند الله.
أما مسألة العنعنةِ فيما بين الصحابِي وبين النبي صلى الله عليه وسلم,وما في حكمها,فليسَت داخِلة في كلامِنا هذا؛لأن الصحابَة كما قلنا سابقاً: كلهم عدول,وما دام أنهم أصلا أخذوا عن النبي صلى الله عليه وسلم,فهذا كافٍ,فلا يُتوقف إطلاقاً في قبولِ قول الصحابي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا,أو: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا,ونحو هذه العبارات,فهذه خارجة عما نتكلم عنه؛ وإنما نتكلم عن العنعنة فيما بين الراوي وبين شيخه ما عدا الصحابي.
أُلْحِقَ بهذا المبحَث أمر آخر,لعلنا نُرجئ الكلام عنه إن شاء الله إلى مبحث الحديث الشاذ وزيادة الثقة؛ لأن هذا الكلام ينبغي أن يُنقل في ذلك الموضِع,وهو الاختلاف الذي يَجري بين بعض الرواة أحياناً,فبعضُهم يسند الحديث وبعضهم يرسله,أي: بعضهم يَجعل الحديث متصلاً,وهذا معنى: أسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم... سقط...