الشيخ: ... نبدأ الآن في الكلام على الأنواع التي ذكرها الحافظ ابن كثير, وأولها مبحث الصحيح.
القارئ: قال: النوع الأول الصحيح: تقسيم الحديث إلى أنواعه صحة وضعفا:
قال : اعلم,علمك الله وإياي,أن الحديث عند أهله ينقسم إلى صحيح وحسن وضعيف.
قال : قلت: هذا التقسيم إن كان بالنسبة إلى ما في نفس الأمر فليس إلا صحيح أو ضعيف,وإن كان بالنسبة إلى اصطلاح المحدثين,فالحديث ينقسم عندهم إلى أكثر من ذلك كما قد ذكرت آنفا هو وغيره أيضا.تعريف...
الشيخ :أولا : بالنسبة لقوله ههنا : تقسيم الحديث إلى أنواعه صحة وضعفا,هذا العنوان كما تلاحظون أو هذه العبارة من زيادات الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى.
ولعلكم قرأتم مقدمته التي بين فيها السبب الذي جعله يكتب هذا الشرح على اختصار علوم الحديث لابن كثير,لذلك بعض الناس قد يغتر بالعناوين التي جاءت على طبعات هذا الكتاب فيظن أن كتاب ابن كثير هذا اسمه (الباعث الحثيث) والحقيقة أن هذه التسمية لم ترد عن ابن كثير,ولا نعرف من العلماء ذكر أن ابن كثير سمى كتابه بهذه التسمية,وإنما تسمية الكتاب هي : (اختصار علوم الحديث) التسمية هذه هي عبارة عن تسمية للشرح الذي جعله الشيخ أحمد شاكر على هذا الكتاب,فالشرح اسمه : (الباعث الحثيث)إذن الباعث الحثيث لمن ؟
لأحمد شاكر,وليس لابن كثير.
ثم ذكر أنه قد يضيف بعض الزيادات للإيضاح والبيان,مثل هذه الزيادة التي أمامنا,وما سيأتي من زيادات,كل ما هو موضوع بين هذين القوسين المعقوفين هو من الزيادات التي جعلها الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى.
ابن الصلاح ههنا لما ذكر أن الحديث ينقسم عند أهله إلى صحيح وحسن وضعيف,إنما قصد بكلامه هذا من حيث الحكم على الحديث, أما من حيث التنويع, فأنواع كثيرة, كما ذكرها سابقا, لكن تلك الأنواع مندرجة تحت هذا التقسيم ولا بد, فلو ألقينا الضوء مثلا على ما ذكر قبل ذلك مثلا حينما نأخذ قوله: شاذ, منكر, معلل,مضطرب,مدرج,هذه من أنواع الحديث الضعيف,وبعضها لا يتعلق بالحكم على الحديث, وإنما وصف لرواية ذلك الحديث, مثل قوله: مسند, متصل, مرفوع,هذا لا يدخل تحت هذا التقسيم الذي ذكره ابن الصلاح,فلا يلزمه ذكره في الأول أن يذكره ههنا.
لذلك تعقب ابن كثير في هذا الموضع,نرى أنه تعقب غير وجيه على ابن الصلاح حينما قال : "هذا التقسيم إن كان بالنسبة إلى ما في نفس الأمر فليس إلا صحيح أو ضعيف, وإن كان بالنسبة إلى اصطلاح المحدثين فالحديث ينقسم عندهم إلى أكثر من ذلك,كما قد ذكره آنفا هو وغيره أيضا".
نقول : هذا الكلام لا يلزم ابن الصلاح,بل ما ذكره ابن الصلاح هو عين الصواب من جعله الحديث ثلاثة أقسام : صحيح وحسن وضعيف,أما كون الحديث ينقسم عندهم إلى صحيح وضعيف, فهذا هو الواقع, لكن يمكن أن نقول : بدل كلمة صحيح مقبول , ينقسم عندهم إلى مقبول ومردود, نعم الحديث لا ينقسم إلا إلى هذين القسمين,إما مقبول وإما مردود,لكن المقبول منه ما تضمن أعلى صفات القبول,وهو الذي يعبر عنه العلماء بالصحيح,ومنه ما تضمن أدنى درجات القبول,وهو ما يعبر عنه بالحسن.
فإذن هذا تقسيم اصطلاحي فني,لا يعاتب عليه لا ابن الصلاح ولا غيره,وإنما قسموه هذا التقسيم,قسموا المقبول إلى قسمين : صحيح وحسن؛لأنه يحتاج إليه في الترجيح بين الروايات والموازنة بينها,إذا لو تعارض عندك حديثان أحدهما صحيح والآخر حسن,ولم يمكنك الجمع بين هذين الحديثين,أو التوفيق بينهما,فليس أمامك إلا ترجيح الحديث الصحيح على الحديث الحسن.
إذن هذا التقسيم مفيد ونافع,بل إن الحديث الحسن هو الذي قد تختلف فيه وجهات النظر؛فمنهم من يلحقه بالضعيف,ومنهم من يلحقه بالصحيح,ومنهم من يتوسط ويقول : هو تضمن أدنى درجات القبول.
إذن حينما جعلوا الحديث الحسن قسما مستقلا,إنما جعلوه على اعتبار أنه متردد بين قسمين : بين الصحيح وبين الضعيف,فقد يلتحق بالصحيح من وجهة نظر معينة,وقد يلتحق بالضعيف من وجهة نظر أخرى.
لذلك جعل في ذلك هذه المرتبة الوسط؛للإشارة إلى أنه مما تختلف فيه وجهات النظر,ولذلك يعبرون عنه بالحسن.
إذن هذا التقسيم نرى أنه تقسيم مفيد وجيد,ولا داعي للانتقاد على ابن الصلاح في ذلك,بل إن ابن كثير رحمه الله ممن يستخدم هذا التقسيم في كتبه,وفي تخريجاته,هو أن يطلق على الحديث أحيانا : صحيح,وأحيانا يطلق عليه حسن,وأحيانا جيد,وأحيانا قوي,والجيد والقوي قريب, فالكلام عنهما من الكلام على الحديث الحسن؛لأن هذه الأنواع الثلاثة : جيد,حسن,قوي,المراد بها أنها إن تكاثرت عن درجة الصحيح,ولكنها لم تلتحق بالضعيف.
القارئ : قال: تعريف الحديث الصحيح:
قال : أما الحديث الصحيح فهو: الحديث المسند,الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط, إلى منتهاه,ولا يكون شاذا ولا معللا.
ثم أخذ يبين فوائد قيوده,وما احترز بها عن المرسل والمنقطع والمعضل والشاذ,وما فيه علة قادحة,وما في راويه نوع جرح.
قال : فهذا هو الحديث الذي يحكم له بالصحة بلا خلاف بين أهل العلم,وقد يختلفون في بعض الأحاديث لاختلافهم في وجود هذه الأوصاف,أو باشتراط بعض كما في المرسل.
قال : قلت : فحاصل حد الصحح أنه المتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله,حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ,أو إلى منتهاه من صحابي أو من دونه,ولا يكون شاذا ولا مردودا,ولا معللا بعلة قادحة,وقد يكون مشهورا أو غريبا,وهو متفاوت في نظر الحفاظ في محاله.
ولهذا أطلق بعضهم أصح الأسانيد على بعضها؛فعن أحمد وإسحاق: أصحها الزهري,عن سالم,عن أبيه.وقال علي بن المديني والفلاس : أصحها محمد بن سيرين,عن عبيدة,عن علي.وعن يحييى ابن معين: أصحها الأعمش عن إبراهيم ابن علقمة,عن إبراهيم,عن علقمة,عن ابن مسعود.
الشيخ: أعد!
القارئ: وعن يحيي ابن معين: أصحها الأعمش,عن إبراهيم,عن علقمة,عن ابن مسعود.وعن البخاري: مالك,عن نافع,عن ابن عمر,وزاد بعضهم الشافعي عن مالك؛إذ هو أجل من روى عنه.
الشيخ :
ذكر ابن الصلاح رحمه الله -وتابعه ابن كثير كما ترون- هذا التعريف للحديث الصحيح,وابن الصلاح أخذه بالاستقراء,وإلا فإن العلماء لم ينصوا على هذا التعريف الذي ذكره ابن الصلاح في هذه الصفة,لكن بالتتبع والاستقراء ومعرفة أقوال العلماء,وجد أن كلامهم عن الحديث ووصفهم للحديث الصحيح,إنما هو لأجل هذه الشروط الخمسة,التي ينبغي توافرها؛لأجل الحكم على حديث من الأحاديث بأنه حديث صحيح.
فعرفوا الحديث الصحيح بأنه : ما اتصل سنده بنقل العدل الضابط,عن مثله إلى منتهاه,من غير شذوذ ولا علة.
ورأينا من خلال هذا التعريف,أن هناك شروطا خمسة لابد من توافرها حتى نستطيع أن نحكم على الحديث بأنه صحيح:
أول هذه الشروط : اتصال السند,ثم عدالة الرواة,ثم ضبطهم,ثم انتفاء الشذوذ,ثم انتفاء العلة القادحة.
هذه الشروط الخمسة إذا توافرت في حديث من الأحاديث,نستطيع أن نحكم عليه بعد ذلك بأنه حديث صحيح,وما لا فلا.
فنبدأ الآن بالكلام عن هذه الشروط؛حتى نعرف لماذا اشترطوها ؟ وما هو مقصودهم بهذه الشروط؟
فأولا : قوله عن الحديث الصحيح : هو ما اتصل سنده بنقل العدل.
أولا : اتصال السند لابد أن نعرف أيها الإخوة أن الحديث ينقسم إلى قسمين:
سند ومتن.
والسند: هو سلسلة الرجال الموصلة إلى المتن.
والمتن: هو ما ينتهي إليه السند من الكلام.
فإذا كان هناك حديث من الأحاديث,يرويه مثلا البخاري عن شيخه عبد الله بن يوسف,وعبد الله بن يوسف يرويه عن مالك. ومالك يرويه عن أبي الزناد,وأبو الزناد يرويه عن الأعرج. والأعرج يرويه عن أبي هريرة,فيقول البخاري : حدثنا عبد الله بن يوسف,قال : حدثنا مالك,عن أبي الزناد,عن الأعرج,عن أبي هريرة,أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مثلا : ((إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم)) إلى آخره.
نقول عن هذا الحديث: إنه انقسم إلى قسمين :
سند ومتن.
فقول البخاري : حدثنا عبد الله بن يوسف,قال : حدثنا مالك,عن أبي الزناد,عن الأعرج,عن أبي هريرة,إلى هذا الحد. هذا يسمى سندا.
فالسند هو سلسلة الرجال,يلاحظ أنها سلسلة متصل بعضها ببعض؛سلسلة الرجال الموصلة إلى المتن.
ننظر إلى ما بعد أبي هريرةقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم...)).فقوله : ((إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم)) هذا يقال لهك المتن.
إذن المتن : ما ينتهي إليه السند من الكلام,هذا السند أيها الإخوة.
حتى يحكم عليه المحدثون بالصحة ينظرون فيه من زاويتين :
الزاوية الأولى : اتصال هذه الحلقات بعضها ببعض,فنعتبر كل واحد من رجال الإسناد عبارة عن حلقة,حلقة تشبه تماما حلقة السلسلة,فالسلسلة متكونة من حلقات,كل حلقة متصلة بالأخرى,ومشتبكة بها,لو أن واحدة من هذه الحلقات انقطعت فإن السلسلة ستنقطع,وهذا الانقطاع يعني: الضعف,فالإسناد الذي لا يكون هناك اتصالا بين رواته يعتبر إسنادا ضعيفا, بمعنى : أن المحدثين يأتون فيما بين البخاري وشيخه عبد الله بن يوسف وينظرون : هل هذا الحديث مما سمعه البخاري من شيخه أم لا ؟ فما دام أنه قال : حدثني,أو حدثني عبد الله بن يوسف, فمعنى ذلك أن الاتصال موجود بين البخاري وبين شيخه عبد الله بن يوسف.
يتجاوزون هذه الحلقة ويذهبون إلى ما بعدها فينظرون: هل عبد الله بن يوسف أخذ هذا الحديث عن شيخه مالك أو لا ؟ هل الاتصال موجود بينهما أو لا؟
ما دام أن عبد الله بن يوسف قال : حدثني مالك,فالاتصال موجود, ينظرون فيما بين مالك وأبي الزناد : مالك قال : عن أبي الزناد,وكلمة (عن) هذه حمالة أوجه,لا تدل على أنه هذا الحديث عن أبي الزناد مباشرة؛لأن 0عن) يمكن أن يطلقها إنسان في ما لم يأخذه عن الرجل مباشرة,فقد أقول مثلا : عن الشيخ عبد العزيز بن باز أنه قال كذا. وأنا لم آخذ هذا الكلام من الشيخ,وإنما سمعته بواسطة إنسان آخر.
فـ (عن) لا تدل إذن على السماع, لكنها عند المحدثين حينما تستخدم في الأسانيد بهذه الصورة,تدل على السماع,إلا إذا كان الذي أطلقها ممن عرف بالتدليس.
وأمسكواهذه الكلمة واحفظوها في جيوبكم وأذهانكم؛حتى نأتي عليها إن شاء الله في مبحث الحديث المدلس,حتى نعرف بالتدليس وما هو الحديث المدلس.
فالمهم أن صيغة (عن) إذا أطلقت ممن عرف بالتدليس يتحفظ عليها المحدثون,ويتوقفون عن قبول الحديث الذي روي من طريق ذلك الراوي,ولم يقل فيه :(حدثنا),أو (أخبرنا),أو (سمعت),أو نحو ذلك.
الإمام مالك ليس بمدلس,إذن كلمة (عن) هذه التي أطلها محمولة على السماع,إذن هي تساوي: أخبرني,أو حدثني.
الاتصال إذن موجود,لكنهم ينظرون نظرة أخرى؛حتى يتحقق الاتصال فيقولون : أبو الزناد هذا هل هو من شيوخ الإمام مالك أو لا ؟ فإذا كان من شيوخه فهذا هو الذي يحكم عليه المحدثون بأن وجود الاتصال إذا لم يكن ذلك الرجل مدلسا,أما لو كان أبو الزناد من غير شيوخ الإمام مالك فإنهم يقولون : نتوقف ههنا؛لوجود الانقطاع بين مالك وبين شيخه,لكن عرف أن أبا الزناد من شيوخ الإمام مالك.
إذن الاتصال موجود بينهما عن أبي الزناد عن الأعرج,ماقلناه عن مالك عن أبي الزناد نقوله عن أبي الزناد مع الأعرج,فصيغة (عن) هذه أطلقها أبو الزناد وهو ليس بمدلس,فاحتملت منه,لكن بعد تحقق أن الأعرج من شيوخه تحققنا أن الأعرج من شيوخه.
إذن الاتصال موجود فيما بينهما,كذلك أيضا فيما بين الأعرج وأبي هريرة.
كل حلقة من هذه الحلقات ينظرون فيها على حدة. فإذا وجد الاتصال بهذه الصورة التي ذكرتها حكموا على الحديث بأن إسناده متصل.
يبقى بعد ذلك الأوصاف الأخرى التي تتلخص في النظر إلى الرواة,هل هي تتوفر فيهم صفتا العدالة والضبط أم لا ؟
عرفنا إذن ما المقصود باتصال السند,سيأتي إن شاء الله معنا ذكر ستة مباحث من مباحث علم الإسناد,كلها تتعلق بمسألة اتصال السند,وهي : الحديث المعلق,والمعضل,والمرسل,والمنقطع,والمدلس,والمرسل إرسالا خفيا,هذه الأنواع الستة تعتبر قادحة في اتصال السند,فإذا وجد واحد منها فإن الإسناد حين ذاك لا يكون متصلا.
وسنرى من خلالها إن شاء الله أن الانقطاع في السند لا يمكن أن يخرج عن أحد هذه الأوصاف الستة في حال من الأحوال؛ لأن المحدثين سبروا الأسانيد ونظروا فيها نظرا شديدا ومتفحصا,فوجدوا أن أي انقطاعا يمكن أن يحدث لابد أن يكون مشمولا بأحد هذه الأنواع الستة.
وسنرى إن شاء الله من خلال شرحها وبيانها,أنهم فعلا ضبطوا مسألة اتصال السند.
إذن هناك بعض الأشياء التي تتعلق في مسألة اتصال السند,سيأتي الكلام عليها إن شاء الله حينما نتكلم عن هذه الأنواع الستة التي أشرت إليها,
المهم أننا نعرف أن اتصال السند المقصود به أن يكون كل راو أخذ عن شيخه,هذا هو المقصود باتصال السند.
ننتقل بعد ذلك إلى الشرط الثاني : قال : هو ما اتصل سنده بنقل العدل.
إذن الشرط الثاني عدالة الرواة,الراوي أيها الإخوة حتى يكون حديثه صحيحا لابد أن تتوفر فيه صفتا العدالة والضبط,والعدالة شيء والضبط شيء آخر ؛فقد يكون الراوي عدلا ضابطا,وقد لا يكون لا عدلا وقد لا يكون عدلا ولا ضابطا,وقد يكون عدلا لا ضابطا,وقد يكون ضابطا لا عدلا.
كل هذه الأشياء محتملة,والأمثلة متعددة عليها في كتب الرجال,مسألة العدالة المقصود بها أن يكون الراوي مسلما,بالغا,عاقلا,سالما من عوامل الفسق وخوارم المروءة.
أن يكون مسلما,أي: يخرج به الكافر,فالكافر لا تقبل روايته بحال من الأحوال,أن يكون مسلما,لكن قد يرد علينا ههنا كيف أن العلماء قبلوا حديث أبي سفيان حينما حدث بقصته مع هرقل عظيم الروم. وهذا وارد؛فأبو سفيان حدث كما في الصحيحين بقصته بعد معركة بدر حينما ذهب هو ورفقة معه إلى الشام في تجارة,فاستدعاهم هرقل؛لأنه كان قد وصل إليه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وسألهم أسئلة,والقصة طويلة,وهي معروفة.
الشاهد من ذلك أن أبا سفيان كان في تلك الحال كافرا,ثم بعد أن أسلم أخذ يحدث بهذا الحديث.
إذن نحن نشترط الإسلام في حال التبليغ,لا في حال التحمل,أي: حينما يبلغ الحديث,يأتي وقت تحديثه به,هذا الذي لابد من توفر هذا الشرط فيه,أن يكون مسلما,أما في حالة تحمله,أي: في حال سماعه للحديث فلا يشترط حينذاك أن يكون مسلما,بل كثير من الصحابة كانوا يحدثون بأحاديث مما أخذوها في حال كفرهم,ولم يتكلم أحد من العلماء عن تلك الروايات؛لأن المقصود في حال الأداء,فالراوي حينما أدى هذا الذي تحمله أداه في حال إسلامه,وهو في حال الإسلام لا يتصور منه أن يحدث بغير الحقيقة.
إذن عرفنا أن شرط الإسلام ههنا يشترط في حال ماذا ؟ في حال الأداء,لا في حال التحمل.
أن يكون مسلما بالغا: بمعنى: أن رواية الصبي لا تقبل عند المحدثين,إلا بعد البلوغ,لكن يرد على هذا مثلما ورد على سابقه فيقال : أحاديث عبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله وغيرهما من الصحابة,كانوا صغارا في وقت النبي صلى الله عليه وسلم ,وابن عباس توفي النبي عليه الصلاة و السلام وعمره ثلاث عشرة سنة,فكيف نستطيع أن نقول : إن رواية الصبي لا تقبل,وعبد الله بن عباس في هذه الصفة ؟
نقول في هذا كما نقول في سابقه,فالمقصود في حال الأداء حينما يؤدي الحديث, لا بد أن يكون بالغا. أما في حال التحمل فقد يتحمل وهو صغير.
لكن بعض العلماء حددوا أيضا سنا للتحمل, فبعضهم قال : السن التي يصح معها التحمل هي سن الخامسة أو الرابعة,على اختلاف فيما بينهم,لكن هذه الكلام إن شاء الله سيأتي معنا حينما نتكلم عن آداب المحدث وطالب الحديث؛فإنهم في ذاك الموضع تكلموا عن السن التي ينبغي معها الابتداء بالطلب والابتداء بالتحديث والتوقف عن التحديث,كل هذا سيأتي إن شاء الله بعد ذلك.
إذن عرفنا أن مسألة البلوغ,ومسألة الإسلام تشترط في حال ماذا ؟ في حال الأداء,فلا الكافر تقبل روايته في حال الأداء,ولا الصبي تقبل روايته في حال الأداء, بل لابد أن يكون مسلما وبالغا.
قالوا بعد ذلك: عاقلا: يخرج بالعاقل ماذا ؟ المجنون,ومن في حكمه كالمغفل,فمن كان في عقله خلل من جنون ونحوه,أو فيه غفلة بمعنى: أنه ساذج,يمكن أن تنطلي عليه الألاعيب,فهذا لا يقبل المحدثون روايته,حتى وإن كان صالحا عابدا,فكان المحدثون يتقون روايات هذا الصنف من الناس,الإمام مالك رحمه الله أشار إلى أن بالمدينة سبعين رجلا ما منهم إلا من يرجوا الإمام مالك يدعو له دعوة مستجابة,ولكنه لا يقبل رواية أحد منهم.
ولعلكم تقرؤون في مقدمة صحيح مسلم قصة عبد الله بن المبارك مع عباد بن كثير,عباد ابن كثير كان رجلا صالحا عابدا,ولكنه إذا حدث جاء بالطامات,فسأل عبد الله بن المبارك شيوخه كسفيان الثوري وغيره فقال: إن عبد الله بن كثير من ترون,فهل ترون إذا ذكر عباد بن كثير أن أبين حاله؟ قالوا : بلى,بين حاله.فكان عبد الله بن المبارك بعد ذلك إذا ذكر عباد بن كثير في مجلس أثنى عليه في دينه,ثم بين حاله في الحديث,فحذر الناس من أحاديثه,ما السبب ؟
السبب أن عباد بن كثير هذا ممن قيل عنه: أدركته غفلة الصالحين,فتنطلي عليه الأحاديث التي لا تصح ولا تثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام.
إذن هم حينما يشترطون العقل يريدون من طالب علم الحديث أن يكون من عقلاء الناس,الذين يعرفون ما يتحملون,ويعرفون ما يؤدون,ومتى كان الراوي بهذه الصفة فهو الذي يعنى المحدثون بقبول روايته,مع توافر باقي الشروط,فهذا هو المقصود بالعقل.
أن يكون مسلما بالغا عاقلا,سالما من عوامل الفسق:حينما قالوا : سالما من عوامل الفسق المقصود بعوامل الفسق ما يفسق به الرجل؛ بأن يأتي أمرا محذورا أو يدع أمرا واجبا,لكن لابد من التنبه إلى أن هذا المحذور وذلك الواجب مما ليس مما لا يكون فيه خلاف بين العلماء,وأعني بالخلاف: الخلاف المعتبر,أما إذا كان هناك خلاف فلا يقدح في الرواة بسبب مخالفتهم في بعض الأمور,فلو نظرنا إلى شرب الخمر لو أن راويا من الرواة عرف بأنه يشرب الخمر التي هي من العنب ومن التمر فإنه في هذا الحال يعتبر فاسقا,ساقط الرواية,لكن لو شرب النبيذ الذي أجازه بعض العلماء فإنه في هذه الحال لا يقدح ذلك في روايته,إذا كان ممن يقول بحله,أما إذا كان ممن يقول بحرمته ويشربه,فهذا يعتبر قادحا فيه.
ولذلك العلماء كانوا يفرقون بين بلدين,يفرقون بين الكوفة والبصرة. يقولون : إذا رأيت الراوي يشرب النبيذ وهو كوفي فاقبل روايته,وأما إذا رأيته يشرب النبيذ وهو بصري فرد روايته,السبب أن أهل البصرة يرون حرمة شرب النبيذ,وأما أهل الكوفة فيرون إباحة شرب النبيذ. وقد كان ممن يشرب النبيذ علماء أجلاء لا نزاع إطلاقا في الاحتجاج بهم واعتبارهم من كبار المحدثين.كوكيع بن جراح رحمه الله,لو قرأتم في ترجمته لوجدتم أن العلماء نصوا على أنه كان لا يقبل دعوة إنسان يدعوه إلى وليمة أو إلى طعمة من الطعم إلا إذا أتى بالنبيذ في تلك الدعوة,يشترط عليه أن يأتي بالنبيذ,فإن لم يأت بالنبيذ لم يستجب لدعوته.
إذن نستطيع أن نخلص من هذا بأن الفسق الذي يقدح في الراوي هو الفسق الذي لا يختلف العلماء في الحكم على صاحبه بأنه فاسق, إما بتركه أمر معذور الإخلاف فيه,أو بتركه أمرا واجبا لا خلاف فيه بحال من الأحوال .
ولعل في هذا الصدد يشار إلى بعض ما ورد في تراجم بعض الرواة الذين قدح فيهم بما ليس بقادح,فأحدهم ذم سماك بن حرب,فقيل له :لماذا ؟ قال : رأيته يبول قائما,ومسألة البول قائما من المسائل المختلف فيها,وقد جاء الحديث الذي في صحيح مسلم في: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائما.
فهل لو جاء عالم من العلماء فتمسك بهذا النص,ورأى جواز البول قائما يعتبر مؤاخذا بأخذه بهذا الحديث ؟
لا يعتبر مؤاخذا,مع العلم بأن الحديث الوارد في النهي عن البول قائما حديث للعلماء فيه كلام,بل هو حديث ضعيف,لا يصح.
إذن عرفنا من هذا أنه لابد أن يكون الأمر المفسق من الأمور التي لا يختلف فيها,فهذا هو المقصود بعوامل الفسق وخوارم المروءة,خوارم المروءة المقصود بها: الإتيان بما يخرم مروءة الإنسان,والمروءة خلق يحث الإنسان على فعل ما يمدح به وترك ما يذم به. وهذه المروءة
خوارم المروءة أيها الإخوة مسألة اعتبارية,يذكرها المحدثون في شروط العدالة,ولكن تطبيقها صعب,بل ربما لو ذهبت إلى تطبيقاتهم لوجدت أن بعض خوارم المروءة هذه أحيانا تدخل في الفسق فيما يفسق بها الراوي,مثل الغناء,ذكروه من خوارم المروءة, لكن الغناء من الأمور التي يفسق بها الراوي إلا في أحوال نادرة,كأن يكون ممن يرى إباحته كابن حزم,عفا الله عنا وعنه,فلا يؤاخذ بهذا.
لكن من رأى حرمته وفعله,فإن هذا يعتبر قادحا فيه.لكن الذي يظهر أنهم حينما يذكرون الغناء في خوارم المروءة,ولا يذكرونه في المفسقات على اعتبار أن من يفعله,حتى ولو كان رآه مباحا,يعتبر ذلك خارما لمروءته؛لأنه ليس من سمة أهل العلم,وإنما الذي يفعله هم الفساق,فلا يليق بأهل العلم بحال من الأحوال أن يسلكوا هذا المسلك.
إذن خوارم المروءة المقصود بها : ما يخرم مروءة الإنسان مما يعاب به أمام الناس,ولعلي أقرب الفهم بمثال أذكره؛حتى يتضح لنا المقصود بخوارم المروءة,وعليه نقيس دائما, أنا أذكر للإخوة مسألة, نعم قد لا تحصل, ولكن على فرض حصولها, نعتبر أن هذا هو الذي يمكن أن نعتبره خارما للمروءة في مثل هذا الزمن,أنا أقول للإخوة دائما: لو وجدنا إنسانا يعتبر نفسه مثلا طالب علم,أو داعية,وجاء في الشارع وليس عليه إلا (فنيلة) وسروال,هو ساتر لعورته,لكن جاء وجلس على الرصيف (بالفنيلة) والسروال وبسط السماط وأخذ يأكل بنهم وشراهة أمام الناس,وهم يذهبون ويجيئون. هل يعتبر هذا لائقا ؟
هذا لا يعتبر لائقا لأقل الناس أدبا,فكيف بمن ينتسب إلى العلم وإلى الدعوة,هذا الخروج عن أعراف الناس بهذه الصفة يعتبر خارما من المروءة,وعليه نقيس,كانوا في زمن ماض يعتبرون بعض الأشياء التي لا تعتبر في هذه الأزمان من خوارم المروءة,بعضهم كان يعتبر الحصر عن الرأس من خوارم المروءة, بعضهم كان يعتبر إطلاق الإزرار من خوارم المروءة.
لكنا نستطيع أن نحدها بحد فنقول : إذا كان الذي يمكن أن يتكلم فيه على أنه خارم المروءة,مما دل عليه دليل شرعي,إما بحذر أو بإباحة,أو بحث عليه, فهذا لا يعتبر من خوارم المروءة,إذا وجدنا طالب علم يطلق أزراره؛تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه جاء في بعض الأحاديث: أن النبي عليه الصلاة والسلام رؤي وهو مطلق الأزرار. من محبته للنبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يتأسى به بهذه الصفة,لا يجوز لنا أن نقول عن هذا الإنسان الذي بهذه الصفة: إنه ارتكب خارما من خوارم المروءة,مع غض النظر عن كون إطلاق الأزرار مسألة يتسنن بها أو لا.
هذا مبحث آخر,لكن مجرد فعله تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز معه أن يطلق عليه أنه ارتكب خارما من خوارم المروءة,لو أن إنسانا أسبل إزاره وقالوا عنه: هذا ارتكب خارما من خوارم المروءة,نقول: لا,هذا ارتكب أمرا محرما بنص شرعي,حتى وإن خالف في ذلك من خالف,فإذا قلنا : إنه خارم نقول : إنه محرما؛لأن الأدلة الشرعية دلت على هذا.
فإذن نعتبر الخارم هو الذي لا يدل عليه دليل شرعي؛ لا بحظر ولا بإباحة,أو ندب,ومع ذلك يكون فعلا أو من الأفعال التي يذم بها الإنسان في أعراف الناس.
وهذا قد يكون في زمن دون زمن,وفي مكان دون مكان,فنجد أننا مثلا عندنا مثلا في الرياض لا يليق مثلا بطالب علم أن يأخذ مثلا (الأيس كريم) بيده ويأكله أمام الناس,وفي مرأى من الناس. هذا لا يليق,وليس من سمة أهل العلم,وإنما من سمة سفهاء الناس, لكن في مثل ازدحام الناس في موسم الحج في مكة وغيرها,نجد هذا أمرا مستساغا؛لأن أعراف الناس لا تأبى هذا,ولا ترفضه,فالبلد يختلف أحيانا والوقت.
فعرفنا بهذا ما المقصود بخوارم المروءة,هذا كله يتعلق بالكلام على العدالة.
"ما اتصل سنده بنقل العدل".
قوله: "بنقل العدل الضابط" المقصود أيها الإخوة بالضبط أن يكون الإنسان الراوي متصفا بكمال الضبط؛ إما ضبط الصدر, وإما ضبط الكتاب,فالضبط قسمان : ضبط صدر وضبط كتاب. ضبط الصدر ليس كل أحد يؤتاه,وإنما هذه منة من الله جل وعلا على العبد. فإن كانا موصوفا بقوة الضبط,بقوة الحافظة,فهذا هو الذي إذا ما أضيفت إليه الشروط الأخرى يكون حديثه صحيحا,لكن إن لم يكن موصوفا بقوة الضبط,فبإمكانه أن يستعين بيمينه,وبكتابة؛حتى يسد الخلل الذي طرأ عليه في حافظته الصحيحة, وهو في حال صحة عقله وسلامته.
والقسم الآخر هو الذي حدث فيه بالأحاديث, وبعضهم كان يجمع بين الاثنين: بين ضبط الصدر وضبط الكتاب, فيكون ضابطا, أي: حافظته قوية,ومع ذلك يكون صاحب كتاب نحتاج إلى التفصيل في مسألة ضبط الصدر ومسألة ضبط الكتاب نوعا ما في مسألة ضبط الصدر,قد يكون الراوي ضابطا في طور من أطوار حياته,ولكن يطرأ عليه,ما يخدش ذلك الضبط,وهو ما يسمى بالاختلاط بسبب من الأسباب العارضة؛إما لفجيعة في حادث معين,أو بسبب ضربة,أو سقوط عن دابة,أو لغير ذلك من الأسباب تختل حافظة الراوي.
فهذا الاختلال في حافظته يكون معه حديثه الذي يحدث به بعد هذا الاختلال مطردا,قد يجعل إسناد حديث على متن حديث آخر,وقد يكون الحديث عن راو فيجعله عن راو آخر,بل ربما تجاوز ذلك إلى درجة قبول التلقين.
من الرواة من اختلط بسبب سرقة اللصوص لمتاع بيته؛كأبي بكر بن أبي مريم,ومن الرواة من اختلط بسبب كبر سنه,كسعيد الجريري,ومن الرواة من اختلط بسبب احتراق كتبه,أو سقوطه عن الدابة,كما حكي ذلك عن ابن لهيعة,منهم من قال: إنه اختلط بسبب احتراق الكتب,ومنهم من قال : بسبب سقوطه عن دابة,وقد يكون الأمران جميعا.
فلسبب من الأسباب هذه التي ذكرت,وغيرها,يطرأ طارئ على حفظ الراوي,فنحتاج إلى قسمة حياته إلى قسمين :
قسم هو الذي حدث فيه بالأحاديث التي حصل فيها الخلل. يستطيع العلماء التمييز بين روايات هذا الصنف من الرواة عن طريق تلاميذهم؛ فالتلاميذ بعضهم يأخذ عن الراوي في حال صحته,فبمجرد إحساسه باختلال ضبطه بسبب من الأسباب يتوقف عن أخذ أحاديثه,فيقال : أحاديث فلان عن فلان صحيحة؛لأنه ما أخذ عنه إلا في حال صحة عقله وسلامته.
ومن الرواة من يأخذ عنه بعد الاختلاط,فأحاديث هؤلاء ضعيفة عن ذلك الراوي,ومنهم من يأخذ عنه قبل وبعد الاختلاط,لا يتوقف عنه حينما اختلط,فهذا تختلط رواياته,ولا يمكن تمييزها,هذا يعتبر من الأشياء التي لا بد من التنبيه عليها في الكلام على ضبط الصدر.
إذن قد يكون الراوي ضابطا ضبط صدر,ولكن يطرأ عليه ما يخل بهذا الضبط,هذا فضلا عمن كان الاختلال عنده من الأصل,فهذا لم يؤت ضبط الصدر.
أما ضبط الكتاب فالمقصود به أن يصون الراوي كتابه عن أيدي العابثين,ولا يدفعه إلا لمن يثق به,أما إذا عرف عنه التساهل فيدفع كتبه إلى من لا يثق به؛ فإن هؤلاء الذين يدفع كتبه إليهم قد يدخلون في أحاديثه أشياء ليست منها,فتسقط حينذاك روايات؛مثل سفيان بن وكيع بن جراح,وكيع بن جراح إمام,وابنه سفيان إمام,ولكن سفيان هذا ابتلي بوراق,الوراق الذي يكتب له,ففوجئ العلماء بسفيان هذا وهو يحدث بأحاديث منكرة بواطيل, لا تصح,وهم يعرفونها عندهم مقاييس وضوابط معينة لتمييز هذه الأحاديث,فجاءه أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان,ونصحاه,وكلماه في أنه إنما أتي من قبل وراقه,وأنه يجب عليه إذا أراد أن تتقى هذه الأحاديث يجب عليه أن يبعد هذا الوراق,وتكفل له أبو زرعة وأبو حاتم بتنقيح رواياته وتمييز صحيحها من سقيمها,لكن بشرط إبعاده لهذا الوراق.
وكان ذلك الوارق يستمع إليهما من وراء الستر,فحينما ذهبا رجع إلى سفيان,ويبدو أنه متمكن عنده,فتكلم معه بما جعل سفيان يبقيه على حاله,ولا يغير من الأمر شيئا.
فاضطر العلماء في الكلام في رواية سفيان,وأسقطت وأهدرت رواياته مع كونه عدلا في نفسه,ولكن ضبطه الذي هو ضبط كتاب اختل بسبب هذا البلاء الذي لحقه من جراء هذا الوراق.
كذلك أيضا ذكر ابن حبان عن عبد الله بن صالح كاتب الليث عبد الله بن صالح,صالح في نفسه,وكان صاحب كتاب,فدخلت المنكرات في كتابه,كذلك بعض العلماء تكلم فيه,وبعضهم عدله,مَن عدله نظر إلى جانب إصابته,وإلى جانب صلاحه,ومن تكلم فيه نظر إلى تلك الأحاديث التي يرويها عبد الله بن صالح كاتب الليث هذا.
ابن حبان بين السبب قال : عبد الله بن صالح كان له جار سوء,يستطيع أن يكتب بخط يشبه خط عبد الرحمن بن صالح,فكان يكتب في الرقاع أحاديث بخط يشبه خط عبد الرحمن بن صالح ويدسها في بيته,فيجدها عبد الله بن صالح فيظنها سقطت من كتبه,فيأخذها ويضعها في كتبه,ويحدث بها على أنها من أحاديثه,وهي ليست من أحاديثه,فابتلي بهذا الجار الطيب,فدخلت المناكير في روايته لهذا السبب.
لذلك نجد أن ضبط الكتاب أحيانا قد لا يكون للإنسان فيه دخل,ولا يكون عليه عتب في خاصة نفسه,ولكنه ابتلاء يبتليه الله جل وعلا به,مثل ما حصل لعبد الله بن صالح هذا.
ومنهم من يكون ذلك من جزاء تفريط منه كسفيان بن وكيع,فعلى الصفتين كلتيهما يعتبر هذا قادحا في الضبط,لا قادحا في العدالة,فهذا هو المقصود بحفظ الكتاب,من الرواة من يعتمد على كتابه بسبب أنه حافظ لأحاديثه حفظ كتاب,ولكن إما أن يعمى أو يحترق ذلك الكتاب,فيضطر للتحديث في حافظته,ولكنه لم يتحفظ تلك الأحاديث جيدا,فيحدث بتلك الأحاديث بهذه الصفة,فهذا ملتحق بمن اختلط,يعني: الكلام فيه تابع الكلام ممن اختلط.
من الرواة من نعتبرهم ثقات في سائر أعمالهم إلا في شيوخ معينين,تكلم فيهم؛في أولئك الشيوخ,يعني : في روايتهم عن ذلك الشيوخ؛بسبب اختلال الضبط الذي هو ضبط كتاب,وضبط صدر,في آن واحد,مثل هشيم بن بشير الواسطي رحمه الله تعالى,كان من كبار الأئمة ومن الثقات الأثبات,ومن الحفاظ المتقين,ولكنه جاء إلى الزهري فسمع منه أحاديث وكتبها في أوراق,وحينما كان يذاكر سفيان بن عيينة جاءت الريح فأطارت تلك الأوراق,ريح شديدة أطارت الأوراق من يده,فأصبح يحدث بتلك الأحاديث بما علق منها بذهنه,ولكن لم يقصد هشيم بن بشير تحفظ تلك الأحاديث,وإلا حافظته جيدة,فحفظها حفظا رديئا,اضطر معه إلى أن يتكلموا في رواياته عن الزهري,فرواية هشيم بن بشير عن الزهري تعتبر ضعيفة لهذا السبب.
فهذا بالنسبة لمسألة الضبط,كيف يستطيع العلماء أن يعرفوا العدالة والضبط؟ سيأتي إن شاء الله معنا كلام في هذا,لكن خلاصته أنهم يعرفون العدالة بأحد أمرين:
إما الاستفاضة والشهرة,استفاضت واشتهرت عدالة ذلك الإنسان في المجتمع,بحيث لم يعد محتاجا إلى من يزكيه,ويقول عنه : إنه ثقة,مثل الأئمة المشهورين,كالإمام مالك,والشافعي,وأحمد ابن حنبل,وسفيان الثوري,وأمثال هؤلاء,شهرتهم تغني عن الحكم عليهم بالعدالة,فهم عدول بمجرد الشهرة.
إذا لم تتوفر الشهرة فنستطيع معرفة العدالة بأمر آخر,وهو : التنصيص من قبل أحد أئمة الجرح والتعديل المعتبرين على أن ذلك الراوي ثقة عدل,إذا نص على ذلك فهذا يكتفى به,أما بالنسبة لمسألة الضبط فيعرفونها بعرض مرويات الراوي على مرويات الثقات الضابطين,فإذا وافقت مروياته مروياتهم اعتبروه ثقة ضابطا. وإن خالفتها وكانت المخالفة كثيرة,اعتبروه ضعيفا وأهدروا رواياته,وإن كانت المخالفة محتملة,فهذا هو الراوي الذي يختلف العلماء فيه,وهو الذي يعبرون عنه بأن حديثه حديث حسن,كما سيأتي إن شاء الله معنا حينما نتكلم عن حفظ راوي الحديث الحسن.
أما بالنسبة لما بعد هذا وهو انتقاء الشذوذ وانتفاء العلة,الشرط الرابع,والشرط الخامس فالمقصود بالشذوذ أو الحديث الشاذ أحد أمرين عند العلماء سيأتي الكلام عليهما إن شاء الله مفصلا,لكن نأخذ التعريف الراجح ههنا ونترك التفصيل لموضعه :لأنه سيأتي معنا إن شاء الله الكلام على الحديث الشاذ:
فالحديث الشاذ: هو ما يرويه الراوي مقبول الرواية مخالفا من هو أولى منه, وإن كان بعضهم يقول: ما يرويه الثقة مخالفا من هو أوثق منه, لكن قولنا: المقبول تعم الثقة ومن دونه الصدوق الحسن الحديث, ومن هو أولى منه,أي: أولي منه من حيث المكانة,كأن يكون صدوقا يخالف راويا ثقة,ففي هذه الحال يعتبرون هذه المخالفة بهذه الحال شاذة,فيحكم عليها بالشذوذ.
فالمقصود إذن بالشاذ ما يخالف فيه الراوي الثقة أو الراوي المقبول من هو أوثق منه,أو من هو أولى منه,سيأتي إن شاء الله الكلام على المخالفة؛لأنها قد تكون مخالفة في الإسناد وقد تكون مخالفة في المتن,هذا له تفصيل في موضعه بإذن الله.
أما مسألة العلة فيقصدون بالعلة العلة القادحة,والعلة: هي سبب غامض خفي يقدح في صحة الحديث,فلابد من توفر هذين الشرطين:الغموض والخفاء, والقدح في صحة الحديث, فإن اختل أحد هذين الشرطين لم تكن تلك علة اصطلاحية, فإن كانت ظاهرة فهي تلتحق بأحد ما كنا ذكرناه سابقا, كأن يكون مثلا راويا ضعيفا, فهذه تعتبر علة ظاهرة, فهي تلتحق بسبب الضعف, إما أن يكون بسبب طعن في العدالة أو بسبب طعن في الضبط, هذا إذا كانت العلة ظاهرة إن لم تكن قادحة في صحة الحديث.
فالعلة حتى وإن عبر عنها بأنها علة, قد لا تقدح في صحة الحديث, فهذا لا يمنع من إطلاقنا لفظ الصحة على الحديث الذي وجدت فيه علة ليست بقادحة.
فإذن لا بد من توفر هذين الشرطين في العلة التي يرد لأجلها الحديث:
_ أن تكون غامضة خفية.
_ وأن تكون قادحة في صحة الحديث.
بهذه الصفة نكون انتهينا من الكلام على الشروط الخمسة التي يجب توافرها في الحديث,الذي نستطيع معه أن نحكم عليه بأنه حديث صحيح.
سؤال: أحد الإخوة يقول : من أول من قسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف ؟ وما هي الفائدة من إيجاد هذه المرتبة الوسط,أعني: مرتبة الحسن ؟ وهل هناك خلاف في حجية الحسن لغيره ؟
جواب: أقول : أول من قسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف لا نستطيع تحديده بدقة,ولكن أستطيع أن أقول لك من هو أول من أكثر من استخدام هذا اللفظ؛فأول من أكثر من استخدامه هو الترمذي في جامعه,فهو الذي يطلق وصف الصحة أحيانا على حديث,ووصف الصحة مع الحسن أحيانا على حديث,ووصف الحسن فقط أحيانا على حديث آخر,فالترمذي هو أول من أكثر من ذكر هذا الاستخدام.
أما الفائدة فقدمتها حينما تكلمت على تعقب ابن كثير على ابن الصلاح وقلت : إن الفائدة تكمن في الترجيح بين الروايات إذا تعارضت,وفي أيضا إعذار العلماء الذين يخالفون في قبول بعض الأحاديث,على أساس أن الحديث لا يصل إلى درجة الاحتجاج التي يلزم معها ذلك العالم بقبول ذلك الحديث. وإنما هذا الحديث بهذه المرتبة التي تختلف فيها وجهات النظر,وهذا الاختلاف يمكن أن يعذر معه العالم الذي يكون نقده بناء على قواعد أهل العلم.
أما الخلاف في حجية الحسن لغيره فلعل الأخ يقصد ما أثير أخيرا من قبل بعض طلبة العلم,من إنكارهم أن يكون هناك شيء اسمه الحسن لغيره,فهذا إنكار غير صحيح,وهذه الدعوى التي جيء بها تحتاج إلى رد مفصل متقن مدعم بالأدلة من أقوال أهل العلم,واستدلالاتهم وصنعيهم,وهذا إن أمد الله في العمر وهيأ الفرصة فأنا إن شاء الله سأكتب فيه كتابة,وإلا لعله ينبري بها أحد طلبة العلم الآخرين بما يمكن معه أن يقيم الحجة على هذه الدعوى,وعلى مثيرها.
فالترمذي رحمه الله في جامعِه نص على هذا,فقال -كما سيأتي إن شاء الله معنا - حينما نتكلم على الحديث الحسن,قال : والحديث الحسن عندنا هو من لا يكون في إسناده من يتهم,ولا يكون شاذا,ويروى من غير وجه.
وقوله : ويروى من غير وجه. هذا يدل على أنه قصد الحسن لغيره,فهذا الترمذي,وهو إمام,وهو من تلاميذ البخاري,ويعرف صنيع أهل العلم في وقته,فكيف يمكن أن تدعى هذه الدعوى, وينكر ما يسمى بالحسن لغيره.
لكن الذي نرشد له إخواننا من طلاب العلم,أن لا تكون تصرفاتهم ومواقفهم بناء على ردود أفعال,إذا كانت مواقفنا بسبب ردود أفعال,فإنها تؤدي إلى شطط آخر,قد يكون ذلك الفعل الذي استنكرناه عندنا أنه شطط فنقابله بشطط آخر,لا,هذا لا يجوز,بل الإنسان المنصف والمعتدل ينبغي له أن يكون متزنا,لا تتحكم فيه هذه,التي هي ردود الأفعال,وإنما تكون مواقفه مدروسة ومتزنة,ومنضبطة.
وعليه أن ينظر من الذي سبقه لمثل هذه الدعاوى,ولمثل هذا الكلام,هذه نواح مهمة جدا,فكون العلماء استخدموا أو احتجوا بالحديث الذي يأتي من أكثر من طريق,وهذه الطرق فيها ضعف,هذا موجود,لكن كانوا يضعون هذا الصنيع وفق معايير وموازين منضبطة,فمع مراعاتهم لمسألة التفرد,ومسألة النكارة وغيرها من المسائل التي يعرفها أهل هذا الشأن,والمتخصصون,أما أن يتساهل في قبول أي طريق من الطرق التي ترد؛لكونها ضعيفة فقط,ومع طريق أخرى,ويكون الحديث بهذه الصفة حسنا لغيره,ومحتجا به,فهذا ليس بصنيع جيد.
هذا بالنسبة لخلاصة هذه المسألة,وإن كان في الحقيقة بحاجة إلى مزيد تفصيل أكثر من هذا.
سؤال: كيف نجمع بين كون كلمة (عدل) تختلف عن كلمة (ضابط) ؟
جواب: أقول : العدالة تختلف عن الضابط,كما بيناه,لكن يمكن أن يجمع بينهما في وصف واحد,كقولهم: ثقة,فالثقة جمع بين وصفي العدالة والضبط.
سؤال: يقول بعد ذلك : كيف نجمع بين كون كلمة عدل تختلف عن كلمة ضابط,وبين جعل الحفاظ من مراتب التعديل ثقة ثقة عدل ضابط؛إذ هذا يدل على أنها ثقة فقط,ولا تدل على التكرار,وسياقها هنا مع ما قرر أي من أعلى المراتب ؟
جواب: على كل حال يا أخي أنا قلت : إن كلمة ثقة تجمع بين وصفي العدالة و الضبط,فإن نص عليهما جميعا كأن يقال : فلان عدل ضابط,فهي تساوي ثقة,سواء عبرنا بهذا التعبير,أو بذاك التعبير,فالأمر سيان.
أما مراتب التعديل الست التي ذكرها العلماء فهذه يستفاد منها في الترجيح أيضا بين الروايات,فقولهم: ثقة ثقة,أو ثقة متقن,أو ثقة حجة,أعلى من قولهم: ثقة.
لو جاءك حديث يرويه راو قيل: فيه ثقة ثقة,وراو.. وحديث آخر يقولون فيه عن راويه: إنه ثقة,ولم يمكن الجمع بين الروايتين,فترجح رواية الثقة الثقة,على من قيل عنه: ثقة فقط.
سؤال: يقول الأخ السائل: يقال: إن إدخال خوارم المروءة في التعريف ليس بلازم؛لأنه ليس منضبطا, ويكفي قولنا: خال من أسباب الفسق,وهل وجد من المحدثين النقاد من جرح راويا بسبب خوارم المروءة ؟
جواب: أنا أحيل الأخ على بحث خرج للأخ مشهور ابن الحسن بن سلمان عن خوارم المروءة,يمكن أن يراجعه,وقبله بحث آخر لأحد الأساتذة في جامعة أم القرى عندكم ههنا وهو دكتور : أحمد نور سيف في مجلة جامعة أم القرى,نشر أيضا بحث عن خوارم المروءة من يطالع في هذا البحث يجد أنه ذكر بعض الأوصاف التي قدح العلماء بسببها في بعض الرواة لهذا السبب الذي يعتبر خارما من خوارم المروءة مثل ماذا ؟
مثل حجاج بن أرطأة,قالوا: هذا رجل أهلكه التيه والعجم,وهو قال عن نفسه أيضا هذا,هو راو ولكنهم قدحوا فيه تيها وعجما,قالوا : والتيه والعجم لا يليق بأهل العلم,هذا صنيع حال أهل الدنيا,وأهل المناصب,وما إلى ذلك,أما أهل العلم فشأنهم شأن آخر,اعتبروا التيه والعجم من خوارم المروءة,وهكذا في صفات أيضا متعددة,بل بعضهم اعتبر تولي القضاء من خوارم المروءة,فهي مسائل جاءت عن اجتهاد منهم,ولكن بعضها قد يسلم به,وبعضها لا يسلم به,وبعضها قد يدخل تحت عوامل الفسق.
سؤال: يقول : قلتم -غفر الله لكم-: الميانجي,والصحيح -أحسن الله إليكم- الميانشي, فهل هذا صحيح ؟
جواب: نقول : أنت حكمت بأنه صحيح,ثم استفسرت! على كل حال كلا التسميتين واردة,يقال فيه : الميانجي بالجيم,والميانشي بالشين,كلاهما واردة في الكلام عن ذلك المؤلف.
سؤال يقول : ذكر بعض الكتاب في أسباب اختلاف المحدثين,أن اختلاف علماء الجرح والتعديل في عدالة راو يجعله حسنا,ودلل عليه من كلام المنذري,فهل هذا أمر مطرد,أم باق على التفصيل في كل راو ؟
جواب: أقول: لا, هذا ليس بصحيح,يعني : بهذا الإطلاق عن العدالة ليس بصحيح هو, إنما هم يقولون عن الراوي: مختلف فيه,إذا كان مختلفا فيه من جهة ضبطه,أما من جهة العدالة فلا,الاختلاف في الضبط,بعضهم يعتبر المختلف فيه هذا حديثه حديثا حسنا,ولكن هذا أيضا ليس على إطلاقه؛ لأنه لابد من النظر في حال كل راو على حدة,فيمكن أن يترجح معنا أحد جانبي الاختلاف؛إما أن نرجح أنه حافظ,وإما أن نرجح أنه ضعيف الحفظ,وإما أن نجعله في مرتبة وسط, وهو حسن الحديث.
أما العدالة فلا,العدالة لابد معها أن نتأكد: هل هذا الجرح الذي ورد في ذلك الراوي جرح مفسر,أو غير مفسر ؟ هذا إذا كان معارضا بتعديل. إذا تعارض الجرح والتعديل نظرنا في الجرح.
بعضهم يعتبر المختلف فيه هذا حديثه حديثا حسنا، ولكن هذا أيضًا ليس على إطلاقه؛ لأنه لابد من النظر في حال كل راو على حدة، فيمكن أن يترجح معنا أحد جانبي الاختلاف، وإما أن يرجح أنه حافظ, وإما أن يرجح أنه ضعيف الحفظ، وإما أن نعتبره في مرتبة وسط, وهو حسن الحديث.
أما العدالة فلا , العدالة لا بد معها أن نتأكد هل هذا الجرح الذي ورد في ذلك الراوي جرح مفسر أو غير مفسر؟ هذا إذا كان معارضا بتعديل,إذا تعارض الجرح والتعديل نظرنا في الجرح, فإن كان مفسرًا نظرنا أيضًا في هذا التفسير هل هو يؤدي إلى الجرح في عدالة ذلك الراوي أو لا ؟ فإن كان يؤدي إلى الجرح في عدالته تسقط عدالته وترد روايته حين ذاك، وإن كان لا يؤدي لذلك الغرض ؛ فإنه حين ذاك يكون بناء على الأصل, فيؤخذ بكلام من عدله، وفي هذا تفصيل, لعله إن شاء الله يأتي معنا في الكلام على مباحث الجرح والتعديل إن شاء الله تعالى.
س: ما هو الفرق بين قولنا غامض وخفي؟
ج: ما في فرق الغامض هو الخفي وإنما هما لفظان مترادفان.
س: ما هي العلة الخفية اضْرِبْ مثالًا على ذلك؟
ج: أقول: العلل الخفية كثيرة, أي: أمثلتها كثيرة، ويكفيك في هذا يا أخي أن تطالع كتاب "العلل لابن أبي حاتم " أو كتاب "العلل للدارقطني " أو غيرها من كتب العلل؛ لترى كيف أن المحدثين يستنبطون تلك العلل ويستخرجونها بالمناقيش، يمكن أن أورد بعض الأمثلة التي تدل على هذا.
مثلًا: عندنا حديث رواه إسحاق بن راهويه -رحمه الله- في مسنده عن بقية بن الوليد , وبقية يرويه فيقول: حدثنا أبو وهب الأسدي عن نافع, عن ابن عمر, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( لا تحمدوا إسلام المرء حتى تعرفوا عقدة رأيه )).
هذا الحديث بهذه الصفة ما فيه علة إلا جهالة أبي وهب الأسدي هذا، بقية أبن الوليد مدلس, وصرح في التحديث فيما بينه وبين شيخه فقال: حدثني أبو وهب الأسدي , وبقية صدوق, وما دام انتفت شبهة تدليسه فلا إشكال في هذه الحالة، جهالة أبي وهب الأسدي يتساهل فيها بعض العلماء الذين يتساهلون في مسألة الجهالة, فيمكن على قاعدتهم أن يكون هذا الحديث على الأقل حسن ويمشه، أو على الأقل أنه ليس بالحديث المنكر الذي يمكن أن يوضع في كتب العلل والكتب التي تتحدث عن الأحاديث الموضوعة وما إلى ذلك.
لكن أبو حاتم الرازي جاء لهذا الحديث فاستخرج منه علة لا تستخرج إلا بالمناقيش, فقال: هذا الحديث له علة كيف؟ قال: أبو وهب الأسدي هذا هو عبيد الله ابن عمر الربقي، وهو يروي هذا الحديث عن إسحاق بن أبي فروة، وإسحاق هو الذي يرويه عن نافع, عن ابن عمر, وإسحاق بن أبي فروة متروك, راوي ضعفه شديد جدًا، فتبين بهذا أن هذا الحديث من الأحاديث التي يمكن أن توضع في مصاف الأحاديث الموضوعة وما إلى ذلك, كيف استطاع أبو حاتم الرازي أن يبين أن هذا الحديث بهذه الصفة؟! نظر واسترجع معلوماته, وإذا به يعرف أن هذا الحديث أصلًا.
هم يحفظون الأحاديث الصحيحة وغير الصحيحة, فحفظه لغير الأحاديث الصحيحة أفاده في هذا المقام, لَمَّا ذكرله هذا الحديث بدأ يسترجع، من الذي روى هذا الحديث؟ ما وُجِدَ أحد يروي هذا الحديث إلا إسحاق بن أبي فروة , إسحاق بن أبي فروة لا ذكر له في هذا الإسناد، بقية يقول: حدثني أبو وهب الأسدي عن نافع عن ابن عمر , ما لإسحاق ذكر.
بقية بن الوليد عمل عملًا دنيئًا في هذا الحديث, أسقط إسحاق بن أبي فروة من الإسناد فيما بين شيخه عبيد الله بن عمر الربقي, وما بين نافع مولى بن عمر, الواسطة بينهما هو إسحاق بن أبي فروة, أسقطه من الإسناد, لكن حينما يسقطه من الإسناد بهذه الصفة ستكون هناك علة ظاهرة في الإسناد, وهي عدم وجود الاتصال؛ لأن عبيد الله بن عمر الربقي ما سمع من نافع؛ فسيكون هناك انقطاعًا فيما بينهما, فهذه العلة يرد لأجلها الحديث.
فحتى يمشي هذه العلة ويخفيها ويعميها على الناس كنى شيخه ولقبه ونسبه بما لا يعرف به حتى لا يعرف, فيستدل على وجود العلة, فقال: حدثني أبو وهب الأسدي لماذا لا يعرف العلماء أن أبا وهب الأسدي هذا هو عبيد الله بن عمر؟ لماذا قالوا: إنها خفية؟ لأن كنية عبيد الله بن عمر ليست أبو وهب , ونسبته ليست الأسد، وإنما بقية نظر في أولاد عبيد الله بن عمر , هذا أولاده كثر ,وجد واحدا منهم صغيرًا لا يذكر, ويقالله: وهب, فأمسك به، ونظر في نسب عبيد الله بن عمر الربقي, وجده في الأخير ينتسب إلى قبيلة بني أسد, لكنه لا يعرف بها, فقال: حدثني أبو وهب الأسدي على أساس أنهما كذب, هو حدثه أبو وهب الأسدي هذا.
لكن هذه الكنية وهذه النسبة لا يعرف بها عبيد الله بن عمر , فحينما صنع هذا الصنيع وخفي عليهم أن هذا الراوي هو عبيد الله بن عمر لم يتبين معه الانقطاع الذي في السند , فجاء أبو حاتم الرازي فاستخرج هذه العلة بهذه الصفة، طبعًا هذا الاستخراج لا يأتي إلا بمحصلة من علوم شتى, حفظه للأحاديث الضعيفة والمنكرة والباطلة, معرفته للذين تفردوا بهذه الأحاديث, معرفته لأنساب الرواة وكناهم ومواطنهم وبلدانهم وشيوخهم وتلاميذهم وأولادهم، وكل ما يتعلق بالراوي يحفظونه، ويحفظون أيضًا شيوخ مثل: بقية , يستعرض هل في شيوخ بقية ما يقال له: أبو وهب الأسدي؟ لا , ابتدأ يستعرض شيوخ بقية هل فيهم أحد من أولاده من يقال له: وهب؟
وجد عبيد الله بن عمر له أبن يقال له: وهب , هل ينتسب هذا لبني أسد؟ نعم وجده ينتسب لبني أسد,فاستخرج العلة بهذه الصفة في أمثلة أخرى, لكن لا نطيل بذكرها إن شاء الله.
س: يقول هل لاعب الكرة من طلبة العلم, والسهر إلى أوقات متأخرة من الليل والإكثار من المزح؟
الشيخ: يعني: كأن الأخ ينتقد بعض ما رآه في بعض طلبة العلم.
أنا لي اجتهاد في مسألة الكرة, ألخصه في الآتي: لاعب الكرة في الأندية والاشتراك فيها ووضع المباريات وبهذا الشكل الذي يشغل أبناء المسلمين ويلهيهم عن ذكر الله وعن الصلاة هذا لا يجوز, ومحرمًا حرمة قاطعة، أما إذا كان هناك بعض الشباب الذين –مثلًا- في رحلة من الرحلات, أو في تفسح في البرية لعبوا بالكرة لا لذات الكرة وليست لأنها هدف, وإنما بقصد ترويض الأجسام, وتمرينها, وتدريبها, فأرى أن هذا جائز ولا شيء فيه, قد يعترض أحد الإخوة ويقول: يمكننا أن نلجأ للرياضات المباحة كالسباحة والسباق وغير ذلك.
نقول: نعم يمكننا أن نلجأ لذلك.
لكن من الأمور المعروفة أن الذي يتدرب بالكرة يكون عنده من الدافع النفسي أكثر مما عند من يسابق ويسبح، فيستطيع أن يدلك جسمه وقتا طويلًا دون ملل ودون سآمة ؛ لأن ذات اللعب نفسه دافع له لتحريك الجسم ؛ فإذن أصبحت الكرة عبارة عن وسيلة لا هدف ولا غاية، هذا ما أراه بحسب الاجتهاد والله الموفق.
أما السهر فإذا كان السهر سيؤدي إلى تفويت صلاة الجماعة أي: صلاة الفجر, فهذا السهر محرمًا، محرمًا حرمة قاطعة, وأما إذا كان سيبقى حتى يصلي الفجر وبعد ذلك ينام فهذا -إن شاء الله- الأمر فيه أهون.
سؤال: يقول: إذا كانت البدعة مفسقة كالخوارج أو النواصب –مثلًا- فيكف يوصف بعض الرواة بثقة, وقد أخرج له في الصحيح مع مناقضة لشرط العدالة هل تراه متناقضا؟
نقول: لا.
ما نره متناقضًا, وهذا سيأتي -إن شاء الله- تفصيله في الكلام على الجرح والتعديل, والمراتب مراتب الجرح والتعديل
سؤال: نسب لأبي حاتم والبخاري عدم قبولهما للحديث الحسن فما صحة هذا القول عنهما؟
جواب: نقول: الذي ينسب هذا القول لهما عليه أن يأتينا بالدليل على هذا, ولكني أحجه أنا بالدليل, والدليل على هذا حديث تخليل اللحية، البخاري -رحمه الله- حسنه, ونقله عنه الترمذي, وهذا التحسين مقتضاه قبوله لهذا الحديث, كما هو واضح من كلام الترمذي حينما ذكر العمل على هذا عند بعض أهل العلم, فراجعوه أن شئتم في جامع الترمذي ؛ لأنه نقل عن البخاري تحسينه لهذا الحديث, فيكيف يحسنه في مقام الاحتجاج وهو لا يرى الاحتجاج بالحديث الحسن؟!
هذه الدعاوى أيها الإخوة بعض الإخوة -هداهم الله- يظفر الواحد منهم بمقولة لإمام, ثم يبني عليها قصورًا شامخات, فعليه أن يجمع كلام الأئمة, ويدرس المسألة دراسة وافية, ولا ينبغي لطالب العلم أن يتعجل في تقرير بعض المسائل التي تنقد أصولًا, هذا ليس من أخلاق طلاب العلم الذين ينبغي أن يتسموا بالآناة والتؤدة, أما هذه الدعاوى بهذه الصورة فهي مجرد إثارة, لا ينبغي لطلاب العلم أن يتصفوا بها.
سؤال: ما الفائدة من الخوض في عد الأحاديث؟
الشيخ: أجبنا عن هذا السؤال.
سؤال: يقول هل تقصد بقولك أنك لم تجدها في آخر التمهيد؟ أقول بلا وجدتها في آخر التمهيد لكن لم أجدها مسندة
جواب:أقول: هذه الأحاديث التي هي وصل البلاغات وجدتها في آخر التمهيد , لكنها غير مسندة فأين وصلها ابن عبد البر؟ هذا الذي أردته من كلامه، ولم أجد أحدًا ذكر أن ابن عبد البر وصلها في الموضع الفلاني, على كل حال نحن نستفيد من الإخوة , إذا كان أحد منهم يبذل جهدًا ويبحث نستفيد من جهده بارك الله فيه.
سؤال: أريد أن أتعارف على قيمة كتاب الزهد لابن المبارك من الناحية الحديثية؟
جواب:أقول كتاب الزهد لابن المبارك فيه الصحيح, وفيه غير الصحيح, وفيه المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه غير المرفوع من أقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم, فعلى كل حال هو من كتب الرقائق التي تسمح فيها.
سؤال: يقول: أليس سبب تأليف صحيح البخاري سماعه من شيخه علي بن المديني في جمع الأحاديث الصحيحة, وليس من إسحاق بن راهويه كما يقول: كما ذكره الحافظ ابن حجر.
جواب: أقول: يا أخي, الحافظ ابن حجر ذكر أن شيخه هو إسحاق بن راهويه, لا علي بن المديني, فراجعه وتأكد من المقولة.
سؤال: إذا كان صحيح مسلم أطول من صحيح البخاري ألا يتساوى الكلام في الرجال المتكلم فيهم وكذلك عدد الأحاديث المنتقدة ؛ لأن عدد حديث مسلم أكثر من عدد أحاديث صحيح البخاري؟
جواب: أقول: هذا لابد يأتي بالتبع، ولكن من حيث الجملة ينبغي لصاحب الكتاب أن يحصر الأسانيد في رجال معينين, ولا يتوسع في الرجال المتكلم فيهم , هذا هو المقصود.
سؤال: يقول: بعض العلماء تعليقًا على الذين يؤولون كلام أبي علي النيسابوري كالذي ذكرتم إن هذا من أظنه يقول: التفاهة اللغوية أو شيء من هذا.
لكنها لا تفيد هنا لوضوح عبارته , وقصده تقديم مسلم عن البخاري؟
جواب: أقول: أحيانًا أيها الإخوة, قد ينفعل بعض الناس إذا رأى رأيًا, وإذا ذهب مذهبًا فربما شنع على المخالف, ولكن نحن ننظر من الناحية العرفية.
الشيخ: النباهة اللغوية ما المقصود يا أخي بالنباهة اللغوية؟ يعني: هل هو –مثلًا- يخطئ هذا التأويل يرى خلافه يعني: يقصد أن كلام أبي على النيسابوري يفيد تصحيح صحيح مسلم على صحيح البخاري كذا
على كل حال سواء قال هذا أبو علي النيسابوري أو لم يقله, وسواء أراد هذا أو لم يرده فواقع الكتاب يدل على خطأ عبارته هذا، أما إذا أردنا أن نحسن الظن بأبي علي النيسابوري فقط في باب إحسان الظن, وإلا هو لا يضر إلا نفسه ؛ لأن هذا الحكم منه حكم في غير محله , فنحن فقط من باب إحسان الظن به نقول: لعله لم يرد تصحيح صحيح مسلم على صحيح البخاري, فقصد الموازنة بينهما, أي: أنهما في الصحة سواء, أما إن قصد أن صحيح مسلم أصح من صحيح البخاري, فهذا أمر يخالفه الواقع.
أنت حينما -الآن- تضع اليدين على الصدر تعتبر عملت بهذا الإطلاق (ولَّا) ما عملت؟ عملت به لكنك عملت به بمزيد تحديث, فأنت ما خرجت عن العمل بالحديث الصحيح, أنت عملت بالحديث الصحيح ولكن مع مزيد إضافة, أما لو لم تأخذ بهذا الضابط فأنت أعملت الرأي.
على كل حال المسألة جاءت يا أخي بهذه الصورة, إن قبلت قبلت, وإن ما قبلت فلك في علماء آخرين أسوه.
سؤال: إذا احتجنا إلى العمل بالحديث الضعيف لكونه هو وحيد في الباب فهل تجوز نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟
جواب: أقول: لا، لا تجوز نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم, إلا إذا غلب على ظنك أنه في عداد المقبول, كأن تختلف فيه وجهات النظر تحسينًا وتضعيفًا, ويميل قلبك إلى أنه من قبيل الحسن, فيجوز لك في هذه الحالة أن تنسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم, أما إذا غلب على ظنك أنه حديث ضعيف, فلابد أن تنص على ضعفه صراحة أو ترويه بأحد الصيغ التي هي صيغ التمريض, وهذه المسألة سيأتي التنبيه عليها إن شاء الله تعالى.
سؤال: يقول: مخرج الحديث هو الراوي التي تدور عليه معظم الأسانيد, ويسمى أصل السند, وقد عرف الحافظ -يعني: الحافظ ابن حجر- الفرد المطلق: بأنه ما تفرد به الراوي في أصل السند, وهو الصحابي, فكيف التوفيق بينهما؟
جواب: أقول: يا أخي, يبدوا أنك لم تضبط عبارة الحافظ ابن حجر, إذا كان أحد منكم معه شرح النخبة فيمكن أن يطالع العبارة الآن, الحافظ ابن حجر ما قال: وهو الصحابي، ما قال: الصحابي هو الذي يعتبر أصل السند, أو الذي تدور عليه, أو هو مخرج الحديث, وإنما قال عبارة معناها:ومن جهة الصحابي, حتى لا تذهب إلى الجهة الأدنى, فمخرج الحديث هو الراوي الذي تدور عليه الأسانيد من جهة الصحابي, أي: كلما ارتفعت من جهة الصحابي فهو أولى, إلى أن تصل بالراوي الذي بالتحديد تدور عليه الأسانيد.
على كل حال هذا كلام الحافظ ابن حجر يضم إلى إطلاقاته هو وإطلاقات غيره من العلماء التي هي منثورة وكثيرة في كتب الحديث, حينما يعتبرون مخرج الحديث هو الراوي الذي تدور عليه الأسانيد.
سؤال: يقول: هل قولكم: تعدد الطعون في حديث سبب لعدم الانجبار اجتهاد, يعني: مني أم أنه كلام السالفين من علماء الحديث قد سبقت إلى تدوينها؟
جواب: أقول: هذا الكلام الذي ذكرناه قبل قليل عن الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- هذا الكلام الذي ذكرته عن الشيخ أحمد شاكر , حينما أشار إلى أن هناك من اعترض على كلام ابن الصلاح, يدل على أن هناك اعتراضات سابقة، وفعلًا هناك مسائل منثورة, لكنها تحتاج إلى تجميع، فهناك من سبقني إلى هذا القول، وهناك من أعترض على بعض هذه القضايا، بل هناك منهج سار عليه العلماء بحاجة إلى دراسة متأنية وجمع الشواهد عليه؛ لمعرفة أن العلماء ما كانوا يقبلون الحديث إذا كثرت الطعون فيه، لكن هذه هي التي كنا بحاجة إليها، لذلك لما ذكر لي أن هناك رسالة في الجامعة الإسلامية بعنوان: " مناهج المحدثين في تقوية الأحاديث الضعيفة " طرت بها فرحًا وطلبت تصويرها، وحينما طالعتها قبل أن تطبع وتخوض في الأسواق, حينما طالعتها رجع البصر خاسئًا, ما وجدت الأخ الذي قام بهذه الدراسة شفى الغليل.
لذلك كانت المشورة متكررة, حتى جاء الأخ الذي أشرت لكم إلى أنه سجل موضوع دكتوراه في جامعة أم القرى لأجل هذه الصفة, فالمسألة بحاجة إلى ضبط, الآن وجدنا أنه بعدما-ولله الحمد- كثر طلبة العلم في الحديث، وابتدأوا يبحثون ويقلبون في الكتب, ويطلعون على مناهج الأئمة, ويعرفون علل الأحاديث وكيفية استخراج العلماء لهذه العلل, ابتدأوا يعرفون أن ما كان متقرر قبل فترة لا ينبغي التسليم به, سواء من اجتهاد الشيخ ناصر أو غيره من الاجتهادات، بل لا بد أن تعود المسائل إلى أصلها.
لكن المشكلة الآن في ماذا أن صح التعبير إلى تطرف آخر، وهو أن تعود المسألة عكسية أيضًا, فهذا التساهل قابلة تشدد إلى الغاية إلى النهاية، ونحن نقول: المسألة ينبغي أن تؤخذ بطريق وسط, فنعم هناك أحاديث تنجبر بتعدد الطرق, ولكن لها ضوابط، فلا إنكار هذا يصح, ولا أيضًا الإيغال فيه, والتساهل هو الطريق الأصوب, بل المسألة في حد الوسط بين هذين القولين وبين هذين المنهجين.
على كل حال أنا أقول لكم وأؤكد: إن المسألة بحاجة إلى تجربة, وبحاجة إلى دراسة, وبالذات بالنسبة للأدلة من وقائع كلام العلماء عن الأحاديث وعدم اعتدادهم بجبرانها بتعدد الطرق, مثلما وصفت لكم في حديث التسمية, الأمام أحمد بل وغيره من العلماء يخرجون الحديث بجمع طرقه في كتبهم, ومع ذلك يقولون: لا يصح في هذا الباب شيء, سبحان الله لماذا لا يجبرون هذه الطرق بهذا التعدد؟ ويأتي من يأتي من العلماء الذين في العصور المتأخرة ويقول: لا, بل الحديث في مجموعه يكون حسنا لغيره.
ولعلكم الآن رأيتم كلام ابن الصلاح على حديث الأذنين من الرأس, وتعرفون أن بعض العلماء يقول: إن حديث الأذنين من الرأس على الأقل يكون حسنا لغيره على الأقل بمجموع الطرق , وهو يقول: لا, حديث الأذنين من الرأس لا يصح, ولا ينجبر ضعفه بتعدد الطرق؛ إذن هذا يدل على وجود أصل المسألة, ولكنها بحاجة إلى ماذا؟ بحاجة إلى تقعيد علمي وتأصيل, وهذا الذي نشير إليه, وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
سؤال: أحد الإخوة يقول: صغار الصحابة الذين هم لهم رؤية وليس لهم رواية, هل يعتبرون ثقات عدولًا؟
جواب: أقول: هذه مسألة.. الحقيقة أنا في قلبي أو عندي شيء فيها نوع من التوقف في بعض الأحيان, وليس في كل الأحيان, فالغالب نعم أنهم يعتبرون عدولًا، لكننا وجدنا منهم من خاض في بعض الفتن التي شانته مثل من؟ مثل: محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عن أبيه, فمحمد بن أبي بكر الصديق هذا ولد قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر حين انصرف النبي علية الصلاة والسلام من حجة الوداع في الطريق, وجيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فبال في حجره، وكان ممن شارك في قتل عثمان رضي الله عنه، فلذلك بقي في القلب شيء عليه, فهل يعتبر في هذه الحال من العدول؟ حقيقة أنا ما وجدت من أهل السنة ويمكن أني قصرت في البحث, لكنني ما وجدت من يواثقه ويثني عليه، بل كأنهم يعتبرون ما أصابه من العقوبة؛ لأنه قتل, وجعل في جلد حمار, وأحرق في فتن -الله المستعان- ينبغي أن تطوى ولا تروى مثل هذا له رؤية من النبي صلى الله عليه وسلم, فهل يعتبر في هذه الحال عدلا؟ هذا أمر مرده إلى الله والعلم عند الله جل وعلا.
سؤال: هل هذه القاعدة صحيحة: كل دليل تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال يقال: إنها أخذت عن الشافعي؟
جواب: أقول: هي صحيحة, لكن بناء على الفهم الصحيح, أما من يستخدمها لضرب نصوص الشرع وتكلف الاحتمالات فهذا لا، لكن إذا كان هناك احتمال قوي لا مناص عنه فنعم، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (( لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة )).
تطرق الاحتمال لهذا الدليل, ولذلك الصحابة اختلفوا في فهمه, فمنهم من صلى في الطريق, ومنهم من لم يُصَلِّ إلا في بني قريظة, فمثل هذا هو الاحتمال السائغ.
سؤال: إبهام الصحابي هل يؤثر في السند مع احتمال أن يكون الصحابي من صغار الصحابة الذين لم يرووا عن النبي صلى الله عليه وسلم؟
جواب: أقول: هذه مسألة أخرى لذلك اعتبر البيهقي رحمه الله الحديث الذي بالصورة المنثورة من الأحاديث المرسلة, وكأنه لحظ أيضًا هذا الملحظ، لكن يبقى الإشكال, على سؤاله, يبقى الإشكال فيما لو قال التابعي: حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهل في هذه الحالة نشترط أن يقول هذا الصحابي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كذا.
أو يكتفي بقوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذا.
إذا اكتفينا بقوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا. وكان هذا من صغار الصحابة الذين رأوا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرووا عنه, فهل يكون مقبولًا في هذه الحالة؟
جواب: والله هذه محل نظر, ولعلي أنظر فيها والحقيقة يبدو أنها من مشكلات المسائل.
سؤال: ألا يكون ما ذكر عن الشعبي رحمه الله من المرسل حكمًا؟
جواب: بلى, يكون من المرسل حكمًا لكن بعد ماذا؟ بعد أن نتأكد أن الشعبي -رحمه الله- لم يأخذ عن أهل الكتاب، أما لو كان هناك احتمال أن يكون قد أخذ عن أهل الكتاب, فقد يحتمل أن يكون هذا من حكاية بني إسرائيل، ولا يكون لها حكم مرسل؛ لأننا لم يغلب على ظننا أنه نسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
سؤال: ما قولكم في موطأ مالك وكثرة المراسيل التي فيه وهل ابن عبد البر وصل كل أحاديث الموطأ؟
جواب: يبدو أن الأخ ما قد سمعنا قبل ذلك , على كل حال المراسيل التي في موطأ مالك هي بناء على أصل مذهبه الذي أشرنا إليه قبل قليل, من أنه يحتج بالحديث المرسل، وأما كون أن ابن عبد البر وصلها فلا , ابن عبد البر لم يتصدى لوصل المراسيل, وإنما تصدى لوصل البلاغات, ففرق بين المراسيل وفرق بين البلاغات, فابن عبد البر وصل كل بلاغات الموطأ, إلا أربعة أحاديث, هي التي لم يصلها, نعم المراسيل
الشيخ: لا , المراسيل التي في موطأ مالك ما تصدى لها أحد؛ لأنهم يرون أن هذه المراسيل جاءت بناء على أصل الأمام مالك رحمه الله, وهو يرى الاحتجاج بالمرسل, فالمرسل والموصول عنده بمعنى واحد, لا يختلف هذا عن ذاك.
سؤال: هل الاحتجاج بالحديث المرسل الذي كان بعض الأئمة الأربعة ومن وافقهم عليه هل هو جارٍ إلى عصرنا اليوم؟
جواب: لا أدري ما مقصود الأخ بـ هل, هو جارٍ يعني: هل يمكن قبول المرسل الذي يرسله أحدنا في هذا الزمان؟ إن كان هذا المفهوم فلا , ولا أظن الأخ يقصد هذا المفهوم, لكن لعله يقصد أننا لو وجدنا حديثًا مرسلًا فهل يقبل بناء على قواعد العلماء السابقين في مثل هذا الزمان؟ نقول: أصلًا المراسيل التي جاءت لا بد أن تجدهم تكلموا عليها, فكل إمام نصر رأيه ونصر مذهبه بما وجده من أحاديث مراسيل أو غير مراسيل، ولو فتحت على كتب الفقه وكتب الخلاف ستجد الأدلة التي استدلوا بها لابد إن يكون متكلما عنها,اضرب مثالًا على هذا ونحن نعطيك الجواب.
سؤال: نقول نرجوا أن تعيد تعريف المنقطع؟
جواب: تعريف المنقطع: هو ما سقط من وسط إسناده راوٍ أو أكثر, لا على التوالي أي: لابد أن يكون بينهما فاصل.
سؤال: يقول: أليس هناك احتمال آخر في الاستشهاد بالمرسل, ألا يحتمل أن يكون الحديث المرسل هذا أن يكون الراوي ثقة, ويحتمل أن يكون ضعيفًا, وعلى الثاني يحتمل أن يكون الضعف يسيرًا, ويحتمل أن يكون الضعف شديدًا، وبهذا لا يكون من شروط قبول المرسل أن يكون الضعف غير شديد؟
جواب: أقول من اجتهد كالإمام الشافعي -رحمه الله- بتلك الشروط التي اشترطها رأى أن الضعف لا يمكن أن يكون شديدًا؛ لأنه استثنى في هذه الحال أن يكون استثنى الشيوخ الذين للراوي المرسل, أو استثنى الراوي المرسل, إذا كان في شيوخه من هو مطعون فيه, وما دام أنه اشترط هذا الشرط واشترط أن يكون من كبار التابعين, فلا يتصور حين ذاك أن يكون الضعف شديدًا؛ لأنه لا السقط يكون كبيرًا, ولا الراوي المسقط يمكن أن يكون شديد الضعف, فلا تتصور شدة الضعف في هذه الحالة، أما بناء على قول أو مذهب الإمام مالك وأبي حنيفة فيمكن أن يكون الحديث المرسل الذي يقبلونه ضعيفا جدًا, أقول: يمكن ويتصور في هذه الحال.
سؤال: ذكرتم الشروط التي ذكرها الإمام الشافعي فأين توجد هذه الشروط التي ذكرتم لمن أراد الاستزادة من الرجوع إليها؟
جواب: أقول: هذه ما من كتاب من كتب المصطلح إلا وهو يذكرها, فإن أردت ففي الرسالة, لكن الرسالة أسلوبها فيه شيء من الصعوبة ذلـله, ومن أحسن من ذلـله الحافظ ابن رجب في شرح علل الترمذي, فأنا أحيلك عليه؛ لأنه من أحسن من بين هذه المسألة , راجعه تجد -إن شاء الله- ما يشفي غليلك, وكل باقي كتب المصطلح تطرقت إليه, فعندنا الآن هذا الكتاب تطرق إليه, والتعليق الذي ذكره الأخ علي حسن عبد الحميد تطرق إليه أيضًا.
سؤال: أحد الإخوة يقول: ذكرت في تعريف المعضل: أنه ما رواه راويان فأكثر على التوالي, وذكرت في تعريف المنقطع: أنه ما رواه راوٍ فأكثر لا على التوالي؟
جواب: أقول: يا أخي إي, ففي الأول راويان, وفي الثاني راوي, فهل هناك فرق أم لا؟
أقول: نعم, هناك فرق واضح وبين, فنحن حينما ذكرنا التعريف أخذنا بالحد الأدنى الذي لا يمكن أن ينزل عنه, ففي المنقطع أقل ما يتصور راو, فسقوط الراوي يحصل به الانقطاع, فيحكم على الحديث بأنه منقطع، ويمكن أن يكون منقطعا بأكثر من راو, لكن لابد من قيد يخرج المعضل عنه, ما هو القيد؟ لا, على التوالي حينما قلنا: لا على التوالي. أخرجنا بهذا القيد المعضل, فتبين بهذا أن الانقطاع قد يحصل بواحد, وقد يحصل بأكثر من واحد, فبواحد الأمر بين, وبأكثر من واحد لا بد أن يكون بينهما فاصل.
أما بالنسبة للمعضل فأقل ما يتصور فيه راويان, أي: لو قلنا: راوٍ, لما كان معضلًا, فيكون منقطعًا في هذه الحال, فلا بد على أقل الأحوال راويان, ويمكن أن يكون أكثر من راويين, لكن بشرط أن يكونوا جميعا على التوالي, أي: وراء بعض أما لو كان هناك راويان لا على التوالي, فهذا يكون منقطعًا, ولا يكون معضلًا حينما قال الأخ السائل ما رواه هذا غلط أنا قلت ما سقط من وسط إسناده وليس ما رواه
سؤال: أحد الإخوة كان سائل بالأمس يقول: ذكرتم أن للإمام أحمد -رحمه الله تعالى- ثلاث روايات فيحكم المرسل وجمعت بينها, فيطلب إعادة وجوه الجمع التي ذكرتها؟
جواب: قلت لكم: إن الإمام أحمد -رحمه الله- روي عنه: أنه تابع أو قال بالأقوال الثلاثة التي ذكرناها في الحديث المرسل، فأحد الأقوال: قول جمهور المحدثين وبعض الفقهاء والأصوليين, وهو رد الحديث المرسل, فهذا مأثور عن الإمام أحمد، والقول الثاني: متابعته لمالك وأبي حنيفة في قبول الحديث المرسل، والقول الثالث: متابعته للشافعي في شروطه.
فقلت لكم: إن هذا يمكن أن يكون كله وارد عن الإمام أحمد, وليس بين هذه النقول أيُّ تنافي ولا تعارض؛ لأنها يمكن أن تنزل بحسب المقامات التي يقبل فيها الإمام أحمد -رحمه الله- الإرسال أو يرده, فإذا كان الحديث المرسل لا حاجة له فيه وفي الباب ما يغني عنه، بل ربما كان الحديث المرسل معارضا لحديث صحيح, فتجده يجري على مجرى المحدثين فيرد الحديث المرسل.
وإذا كان الحديث محتاجا إليه الإمام أحمد أشد الحاجة إذ عرضت له مسألة ولا بد أن يقول فيها بقول, ويدلي فيها برأي, فالضرورة تدعوه بقبول الحديث المرسل على قاعدته في قبول الأحاديث الضعيفة وتقديمها على آراء الرجال؛ فإنه -رحمه الله- قد يجري على مجرى الإمام مالك وأبي حنيفة, فيقبل الحديث المرسل على اعتبار أنه إن لم يقل به أخذ بالرأي ولا بد، وأحيانًا قد يكون ذلك الباب خاليًا من حديث صحيح وفيه حديث مرسل, ولكن لم تدعه الضرورة إلى قبوله, كالمسألة السابقة, ولكن يستحسن أن يدلي برأي في هذه المسألة؛ لكونه سئل أو لغير ذلك من الأسباب, فأحيانًا قد يطبق شروط الشافعي في مثل هذه الحالة فتختلف الأحوال؛ إذن بهذه الصورة التي ذكرتها فلعل الأخ السائل الآن استوعب ما قلته.
سؤال: يقول أحد الإخوة: هذا القول منسوب إلى مسلم في مقدمته, بالرجوع إلى المقدمة تبين لي كأنه ليس من كلامه هو نفسه, بل ذَكَرَه في ذِكْرِه حجة مخالفيه في إثبات اللقي, مع أني أجد كثيرًا من ينسبونه إلى مسلم, ولعل السخاوي أو العراقي يعني: يقصد ممن نسبوه أيضًا كلامعلى كل حال نحن ننظر في الكتاب، وعلى فرض أنه إنما هو في موضع واحد, فأنا سأبين لكم -إن شاء الله- أن مسلم رحمه الله يقول بهذا القول أيضًا.
فالإخوة الذين سألوني بالأمس لم أكن تفطنت للعبارة, فحينما دققت النظر فيها وجدت أن نقل هؤلاء العلماء لها في موضعه أيضًا, حتى وإن كان في مقام إيراد حجة مخالفيه.
ههنا مسلم -رحمه الله- يتكلم عن حجة المخالف له في قبول العنعنة مع وجود المعاصرة، فيذكر عنه أنه قال: فالمرسل من الروايات في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة.
ثم ابتدأ يرد عليه, لكن في رده -رحمه الله- على هذا المخالف له لم يقل: إن المرسل في قولنا وقول أهل العلم حجة، أو إن هذه المسألة أنت أخطأت فيها حينما نسبتها لأهل العلم، بل مسلم -رحمه الله- أعرض عن هذه القضية بما يدل على إقراره لهذا القائل لهذه المقولة، ولكنه رد عليه في استدلاله بها فقط؛ فإنه لم يخالفه في المقولة, وإنما خالفه في استدلاله بهذه المقولة، وفرق بين الصنيعين.
فإذن نقله لقول هذا المخالف وعدم نقده لهذه المقولة هو إقرار ضمني لهذا المخالف لهذه المقولة, فدل هذا على أن مسلم -رحمه الله- يرى فعلًا أن قول عامة أهل العلم: إن المرسل ليس بحجة, ولو لم ير ذلك لنقبه ورد عليه, فأظن هذا واضح, ولأجل هذا نقله من نقله من العلماء على اعتبار أن مسلما مقر له.
هذا هو الفهم الذي فهمته من صنيع مسلم رحمه الله.
************
الشيخ: الحمد لله رب العالمين,وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين,وبعد..,.
القارئ: الحمد لله رب العالمين,وصلى الله على نبي الأنبياء والمرسلين,نبينا وحبيبنا محمد بن عبد الله,صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد..,
قال المصنف رحمه الله تبارك وتعالى,ونفعنا بعلمه وبعلم شيخنا,وأجزل لهما المثوبة في الدارين,قال: أول من جمع صحاح الحديث.
الشيخ:قبله:"وهو متفاوت في نظر الحفاظ".
القارئ: قال: وهو متفاوت في نظر الحفاظ في معانيه,ولهذا أطلق بعضهم أصح الأسانيد على بعضها؛فعن أحمد وإسحاق: أصحها الزهري,عن سالم,عن أبيه.
وقال علي بن المديني والفلاس: أصحها محمد بن سيرين,عن عبيدة,عن علي.
وعن يحيى بن معين: أصحها الأعمش,عن إبراهيم,عن علقمة,عن ابن مسعود.
وعن البخاري: مالك,عن نافع,عن ابن عمر.
وزاد بعضهم الشافعي عن مالك؛إذ هو أجل من روى عنه.
الشيخ: هذا تكملة لما كنا أخذناه بالأمس,يتعلق بمبحث الحديث الصحيح,وقبله ذكر جزئية لابد أيضا من الإشارة إليها,وهي قوله: وقد يكون مشهورا وغريبا.يقصد أن الحديث الصحيح يمكن أن يكون مشهورا,ويمكن أن يكون غريبا,ولا يمنع كونه غريبا من إطلاق الصحة عليه.
وكأن الحافظ ابن كثير رحمه الله قصد الرد على من اشترط في الحديث الصحيح أن يكون عزيزا,وهذا قول لبعض الأئمة,ولبعض المعتزلة أيضا,أما من فهم من عبارته أنه قال ذلك من الأئمة فهو الحاكم أبو عبد الله صاحب (المستدرك).
وأما بالنسبة للمعتزلة فممن قال بذلك الجبائي,أما بالنسبة لأبي عبد الله الحاكم صاحب (المستدرك) فعبارته موهمة ومشكلة,ويبعد جدا أن يكون رحمه الله أراد هذا الذي فهم بعضهم من عبارته ، وهو أنه لابد للحديث أن يكون صحيحا من أن يكون عزيزا فما فوقه.
له عبارة وجدت في (معرفة علوم الحديث) وعبارة وجدت في كتاب (المدخل إلى الصحيح في معرفة علوم الحديث) وعبارة موجودة في (المدخل إلى الإكليل) هذه العبارة مؤداها أن الحاكم يذكر كلاما عن الصحيحين,وكأنه يومئ أن صاحبي الصحيح اشترطا في الحديث الصحيح أن يكون مرويا من طريقين,وعبارته في المعرفة تختلف عن عبارته في المدخل,لكن لا يخرج هذا الاختلاف عن أحد مفهومين,لا يخرج عن أحد مفهومين:
المفهوم الأول: أن يكون أراد أن كل حديث في الصحيحين لابد أن يكون مرويا من طريقين,أي: عن صحابيين,ثم يتسلسل, وهكذا,وهذا هو المقصود بالعزيز.
وأظنكم ما دمتم أخذتم شرح النخبة,عرفتم أن العزيز ما لا يقل رواته عن اثنين في طبقة من طبقات السند.
المفهوم الآخر: أن يكون الحاكم أراد الصحابة أنفسهم,أي: أن كل صحابي في الصحيحين لابد أن يكون روى عنه اثنان؛حتى يزول عنه وصف الجهالة؛لأن الجهالة -جهالة العين- تنتفي برواية اثنين عن الراوي.
على أي المفهومين فالعبارة خاطئة,لا هذا ولا ذاك,لكن كلام الحافظ ابن كثير ههنا يشير إلى المعنى الأول,وإن كان ما ذكر عن الحاكم كأنه مختص بالصحيحين,لكن هناك من أطلق واشترط في الحديث الصحيح.. هناك من اشترط في الحديث الصحيح عموما أن يكون مرويا من طريقين,أي: لابد أن يكون عزيزا على الأقل.
بالنسبة لعبارات الحاكم أنا أقول: إما أن يكون داخلها التصحيف,أو أنه أراد شيئا ما أسعفته العبارة؛لأننا نجد أن الحاكم يصحح أحاديث غرائب,وهو من أعرف الناس بالصحيحين,فهل يا ترى يجهل الحاكم أن أول حديث في صحيح البخاري,وآخر حديث,كلها من الغرائب؟.
فأول حديث في صحيح البخاري هو حديث: (( إنما الأعمال بالنيات )),وهذا من غرائب الصحيح؛فإنه ما رواه إلا عمر بن الخطاب,ولا عنه إلا علقمة بن وقاص الليثي,ولا عنه إلا محمد بن إبراهيم التيمي,ولا عنه إلا يحيى بن سعيد الأنصاري.
كذلك آخر حديث في صحيح البخاري هو حديث أبي هريرة,أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( كلمتان خفيفتان على اللسان,ثقيلتان في الميزان,حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده,سبحان الله العظيم )). هذا الحديث لم يروه من الصحابة إلا أبو هريرة,ولم يروه عن أبي هريرة إلا أبو زرعة بن عمر بن جرير,فهو أيضا من غرائب الصحيح,قطعا هذا لا يجهل الحاكم,فلابد أن يكون الحاكم قصد شيئا آخر,يمكن أن يكون قصد وصف الصحابة, هذا محتمل, لكن مع هذا الحكم من أعرف الناس أيضا برجال الصحيحين؛لأنه ألف كتاب (المدخل إلى الصحيح), وكتابه (المدخل إلى الصحيح) تكلم فيه عن الرواة الذين في الصحيحين,ومن الذي احتج به,ومن الذي استشهد به,وهكذا.
لكن على فرض أن الحاكم قصد هذا الشيء,فهذا المفهوم أيضا مفهوم خاطئ؛ لأن في الصحيحين صحابة لم يرو عنهم إلا راو واحد,ولعل من أقرب الأمثلة على هذا المسيب بن حزن رضي الله تعالى عنه,والد سعيد بن المسيب,وهو الراوي لقصة أبي طالب حينما حضرته الوفاة وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم في تلقينه شهادة أن لا إله إلا الله,ولعل القصة معروفة عندكم,الحديث المتفق على إخراجه في الصحيحين من رواية المسيب بن حزن,وليس للمسيب بن حزن راو إلا ابنه سعيد بن المسيب.
فهذا ينفي هذا المفهوم أيضا,هذا مع أنني أذكر أنني وقفت على كلام للحاكم في (المدخل إلى الإكليل) يرد أيضا حتى على هذا القول,يرد على هذا وعلى ذاك القول,لكن عهدي به بعيد,فلعلكم ترجعون إليه وتؤكدون هذا المفهوم.
وأذكر أنه في آخر كتاب (المدخل إلى الإكليل) بالنسبة للمسألة الآتية,وهي الكلام على أصح الأسانيد جاءت في مبحث الحديث الصحيح,أو قبل هذا الرد على من اشترط في الحديث الصحيح أن يكون عزيزا,هذا رد هين؛ لأنه إن كان الذي اشترط ذلك أحد من أئمة الحديث,فلابد أن يحتج بالأحاديث التي أجمع العلماء قاطبة على تصحيحها,وهي من الغرائب,مثل حديث: ((إنما الأعمال بالنيات)) لا نذكر أن إماما من الأئمة توقف عن قبول هذا الحديث إطلاقا,وهو من الغرائب.
وهكذا عدة أحاديث كثيرة,كلها مما أجمع العلماء على صحتها,وعلى تلقيها بالقبول,وهي من غرائب الصحيح,فلا أحد من أهل الحديث يشترط هذا الشرط إطلاقا.
أما أن يشترطه أحد من المعتزلة,فالمعتزلة شبهاتهم كثيرة,فليست المسألة فقط متوقفة على قبولهم للحديث العزيز ، حتى الحديث العزيز لا يقبلونه,بل ولا المشهور,بل حتى المتواتر,إذا تعارض مع أصولهم استطاعوا أن يردوه بحجج تافهة.
فهؤلاء النقاش معهم والكلام عن هذا المسلك الذي عندهم,هذا له مبحث آخر,إنما نحن نتكلم الآن عن منهج أهل الحديث,والأمر الذي قرروه في كتبهم,فلا أحد من أهل الحديث يشترط هذا الشرط,إلا أن يساء الفهم لكلامه,أو يكون هو أساء الفهم لكلام بعض الأئمة.
أما من حيث التطبيق والواقع,فما ذكر من الأحاديث الغرائب,كل هذا يرد على هذه المزاعم,ويبطلها.
أما مسألة أصح الأسانيد,فإن العلماء لما تكلموا عن الحديث الصحيح,وذكروا هذه الشروط الخمسة التي تكلمنا عنها بالأمس,وأخذوا في وضع الضوابط التي لابد من مراعاتها في الحكم على حديث من الأحاديث بأنه حديث صحيح ، وجدوا أن الأحاديث الصحيحة تتفاوت في المراتب؛فمنها أحاديث قمة في الصحة؛لجلالة رواتها,ولعظم مكانتهم,ومنها أحاديث دون ذلك,ولكنها في عداد المقبول أيضا.
لذلك أطلق بعضهم وصف أصح الأسانيد على بعض الأسانيد التي أعجب بها,ورأى جلالة رواتها,فمن ذلك ما ذكره الحافظ ابن الكثير,وما أسهب في ذكره المحقق الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في هذه الأسانيد,التي أسهب في ذكرها مما لا نطيل بذكره؛ فذكرها ليس بالأمر الذي ينبني عليه كبير فائدة بالنسبة لنا في شرحنا هذا؛ لأنه سيأخذ علينا الوقت,والكلام عن واحد منها كالكلام عن البقية.
هذه الأحاديث أيها الإخوة.. هذه الأسانيد,نجد أن العلماء اختلفوا فيما بينهم في إطلاق وصف أصح الأسانيد على إسناد بعينه؛ فمنهم من قال: أصح الأسانيد ما يرويه الزهري,عن سالم بن عبد الله بن عمر,عن أبيه عبد الله بن عمر ، هذا إذا كان الراوي هو عبد الله بن عمر,وإذا كان الراوي عمر بن الخطاب يضاف إليه عبد الله بن عمر,عن أبيه عمر بن الخطاب.
ومنهم من قال: أصح الأسانيد ما يرويه إسماعيل بن أبي خالد,عن قيس بن أبي حازم,عن أبي بكر الصديق.
ومنهم من قال: أصح الأسانيد ما يرويه مالك,عن نافع,عن ابن عمر.وربما أضاف بعضهم الشافعي في روايته عن مالك,فيكون مالك.. الشافعي, عن مالك,عن نافع,عن ابن عمر.
ومنهم من أضاف راويا آخر عن الشافعي,وهو الإمام أحمد,قال: ما يرويه أحمد,عن الشافعي,عن مالك,عن نافع,عن ابن عمر.وهذا كما أذكر لم يوجد إلا في حديث واحد بهذه الصفة.
ومنهم من قال: أصح الأسانيد ما يرويه الأعمش,عن إبراهيم النخعي,عن علقمة,عن ابن مسعود... إلى غير ذلك من الأوصاف المتعددة,والتى تدل على وقوع الاختلاف بين العلماء,وكلهم أئمة معتبرون,وأقوالهم عندنا متقاربة,فالإمام أحمد والبخاري وعلي بن المديني وإسحاق بن راهويه, وأمثال هؤلاء,كلهم مكانتهم متقاربة,فمن الصعوبة بمكان أن نقول: قول الإمام أحمد أرجح من قول البخاري,أو العكس,أو غير ذلك ، لكن نستطيع أن نخلص من هذه المسألة بالنقاط الآتية:
أولا: لا ينبغي أن يطلق على إسناد من الأسانيد بأنه أصح الأسانيد مطلقا,نقول: لا ينبغي أن يطلق على إسناد من الأسانيد بعينه بأنه أصح الأسانيد مطلقا ، ما السبب؟
الجواب: لأنه الأئمة اختلفوا في إطلاق أصح الأسانيد على إسناد بعينه,لأجل هذا الاختلاف نحن نلجأ للتوفيق بين أقوالهم بالآتي:
أولا: يمكن أن نستخدم (من) التبعيضية فنقول: هذا إسناد من أصح الأسانيد,لا أصح الأسانيد,بمعنى: أن عندنا مجموعة من الأسانيد,وهي التي حصرها الشيخ أحمد شاكر رحمه الله كما ترون,هذه المجموعة تشكل مجموعة أصح الأسانيد,فأي إسناد يرد من هذه الأسانيد يقال: إسناد من أصح الأسانيد,بمعنى أن هذه المجموعة تشكل أعلى درجات الصحيح,وما سواها من الأسانيد يمكن أن يكون صحيحا, لكنه دونها في المرتبة.
ثم عندنا أمر آخر,وهو التقييد,بدلا من (من) التبعيضية يمكن أن نقيد ، نقيد إما بصحابي أو ببلد,فنقول مثلا: أصح الأسانيد عن أبي بكر الصديق ما يرويه إسماعيل بن أبي خالد,عن قيس بن أبي حازم,عن أبي بكر الصديق,هذا أصح الأسانيد عن أبي بكر,هذا من حيث التقييد بصحابي بعينه.
أصح الأسانيد عن أبي هريرة ما يرويه محمد بن سيرين, أولنأخذ راويا عنه ما يرويه أيوب السختياني,عن محمد بن سيرين,عن أبي هريرة,هذا أصح الأسانيد عن أبي هريرة.
أصح الأسانيد عن علي بن أبي طالب ما يرويه محمد بن سيرين, عن عبيدة السلماني, عن علي بن أبي طالب, وهكذا إذا قيدنا بصحابي بعينه.
أو نقيد ببلد من البلدان,فنقول: أصح أسانيد المدنيين ما يرويه الزهري,عن سالم,عن أبيه,الزهري,عن سالم بن عبد الله بن عمر,عن أبيه عبد الله بن عمر,هذا أصح أسانيد المدنيين.
أصح أسانيد المكيين ما يرويه سفيان بن عيينة,عن عمرو بن دينار,عن جابر بن عبد الله مثلا.
أصح أسانيد الكوفيين ما يرويه الأعمش,عن إبراهيم النخعي,عن علقمة,عن ابن مسعود,وهكذا.
فإذا قيدنا ببلد أو بصحابي ضاقت دائرة الخلاف بين أقوال هؤلاء الأئمة,ويصبح الخلاف محصورا في أقوال قليلة جدا,يمكن في هذه الحال مراعاة بعض الأمور,فإذا قيل مثلا: أصح أسانيد الكوفيين ما يرويه الأعمش,عن إبراهيم النخعي,عن علقمة,عن ابن مسعود,أو ما يرويه مثلا الزهري,عن علي بن حسين,عن أبيه,عن علي بن أبي طالب,حينما نجد مثلا مثل هذا الإسناد,وإن كان الزهري لا ينبغي أن يذكر فيه؛لأن الزهري مدني,حينما نجد إسنادا مثلا من أسانيد الكوفيين وإسنادا آخر من أسانيد الكوفيين,وكلاهما يقال عنهما: إنهما من أصح الأسانيد,في هذه الحال نحصر أكثر فنقول:
أصح أسانيد الكوفيين عن ابن مسعود,وأصح أسانيد الكوفيين عن علي بن أبي طالب,إذا استخدمنا الحصر ضاقت عندنا دائرة الخلاف أكثر,ربما وجد خلاف أيضا ولكنه يبقى قليلا جدا.
ما الفائدة من ذكر مثل هذا الخلاف,ومثل هذا التنصيص من الأئمة على أصح الأسانيد؟ الفائدة منه في حال اختلاف الروايات,والاضطرار إلى ترجيح بعضها على بعض,يلجأ إلى مثل هذه الموازنة وأقوال هؤلاء الأئمة بهذه الحال فقط,أما ما عدا ذلك فالحمد لله الطرق يقوي بعضها بعضا,ويشد بعضها بعضا,ولا ينبني على ذلك أدنى فائدة إلا هذه الفائدة التي ذكرت لكم.
هذا بالنسبة لما يتعلق بكلامهم عن أصح الأسانيد,نبدأ بعد ذلك في المبحث الذي بعده.
تمت مراجعته وتهذيبه بواسطة ام العنان