دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > العقيدة الطحاوية

 
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #6  
قديم 5 ربيع الأول 1430هـ/1-03-2009م, 11:19 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح العقيدة الطحاوية للشيخ: يوسف بن محمد الغفيص (مفرغ)


اختلف أهل السنة والجماعة مع المرجئة والخوارج والمعتزلة في حكم أهل الكبائر، فذهب أهل السنة إلى أنهم تحت مشيئة الله من شاء عذبه ومن شاء غفر له، وأنه لا يخلد أحد منهم في النار، وأن طائفة منهم غير معينة يدخلون الجنة ولا يعذبون في النار، وطائفة يدخلون النار ثم يخرجون منها إما بمحض رحمة الله، أو برحمته مع سبب من الشفاعة ونحوها، أما من خالفهم من الفرق في ذلك فقد ذهبوا في ذلك إلى مذاهب شتى، معرضين عن الكتاب والسنة اللذين فيهما النور والهدى.

حكم أهل الكبائر في الآخرة
قال: [وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار، لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون وإن لم يكونوا تائبين بعد أن لقوا الله عارفين، وهم في مشيئته وحكمه، إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله كما ذكر عز وجل في كتابه: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] وإن شاء عذبهم في النار بعدله، ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم إلى جنته، وذلك بأن الله تعالى مولى أهل معرفته، ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته الذين خابوا من هدايته، ولم ينالوا من ولايته، اللهم يا ولي الإسلام وأهله مسكنا بالإسلام حتى نلقاك به] . ذكر المصنف أهل الكبائر من جهة حكمهم في الآخرة، وهي مسألة الفاسق الملي، وقد تقدم أن الخوارج والمعتزلة يجعلونهم برآء من الإيمان، فالخوارج تقول: إنهم كفار، والمعتزلة تقول: إنهم فساق قد عدموا الإيمان. وقد اتفقت الخوارج والمعتزلة على أن أهل الكبائر يخلدون في النار، وأنهم ليس لهم حظ من رحمة الله سبحانه وتعالى وثوابه وفضله، وهو مذهب واضح وبين الضلال، ولأجل هذا الأصل أنكروا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعة الأولياء والصالحين لأهل الكبائر؛ لأنهم يرون أن أهل الكبائر مخلدون في النار. ......

مذاهب المرجئة في حكم أهل الكبائر
وأما المرجئة فإن أقوالهم في أهل الكبائر ليست مفصلةًَ كأقوالهم في الإيمان، ومذاهب المرجئة في حكم أهل الكبائر ثلاثة: القول الأول: وهو قول غاليتهم، أنهم لا يعرضون لشيء من العذاب البتة، فيجزمون ببراءة سائر أهل الكبائر من عذاب الله سبحانه وتعالى، وهذا القول كما يقرر شيخ الإسلام رحمه الله يذكر في كتب المقالات عن غالية المرجئة، ولم يحفظ عن أحد من الأعيان المعروفين منهم أنه كان ينص على هذا القول وينتصر له، ولكن جاء في كتب المقالات أن هذا هو قول غالية المرجئة، وقد نسبه ابن حزم و أبو الحسن الأشعري إلى مقاتل بن سليمان ولا يصح ذلك عنه، ولكن يطلق ويقال: هذا قول الغالية من المرجئة؛ لأن هذا شائع في كتب المقالات. القول الثاني: ويسمى قول الواقفة من المرجئة، وهم الذين قالوا: إن أهل الكبائر تحت المشيئة، ولما كانوا ينكرون حكمة الله سبحانه وتعالى في أفعاله، أو ما يسمونه التعليل، فإنهم قالوا: إن أهل الكبائر تحت مشيئة الله سبحانه وتعالى. وهذه الجملة من حيث الإجمال لا إشكال فيها، فإن الله سبحانه وتعالى قال: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ، ومن أصول أهل السنة والجماعة أن أهل الكبائر في الآخرة تحت مشيئة الله. ولكن جهة الغلط عند واقفة المرجئة، أنهم قالوا: تحت مشيئة الله، ووقفوا على هذا ثم قالوا: قد يعذب سائرهم بالنار، ثم يخرجون منها، وقد يغفر لسائرهم، فلا يدخل أحد من أهل الكبائر في النار، وقد يعذب الأكثر حسنات ويغفر للأكثر سيئات، وهذا معنى كونهم واقفة، أي أنهم يقولون: إنهم تحت المشيئة، ثم مع ذلك يفصلون تفصيلاً يقع على سائر الفروضات العقلية في المشيئة، ولم يراعوا في ذلك أخبار الشارع فضلاً عن حكمته. وهذا القول يقوله طوائف من المرجئة، وهو قول أبي الحسن الأشعري وجمهور أصحابه، وإن كان الأشعري يذكر في كتبه ما يوحي أنه يخالف هذا القول، لكن على أقل تقدير هو أحد قولي أبي الحسن وجمهور أصحابه، وإلا فـشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يجزم بأن الأشعري على هذا المذهب وأنه لا يذكر في كتبه إلا مسألة المشيئة. ويمكن أن يقال: إن للأشعري في هذا قولين: الأول: هو القول الموافق لقول مقتصدة المرجئة، والثاني: وهو المعروف عنه في الكتب الكلامية، هو هذا القول. القول الثالث: هو قول مقتصدة المرجئة، وهؤلاء يوافقون السلف في حكم أهل الكبائر، ومن هؤلاء الفضلاء من أصحاب أبي الحسن الأشعري ، فيقال: إن هؤلاء، وهم المقتصدة من المرجئة يوافقون السلف في حكم أهل الكبائر.

أصول مذهب السلف في حكم أهل الكبائر في الآخرة
وقول السلف رحمهم الله في حكم أهل الكبائر مبني على ثلاثة أصول: الأصل الأول: أنهم تحت المشيئة. الأصل الثاني: أنه لا يخلد أحـد منهم في النار، بل مآلهم إلى الجنة، إما ابتداءً قبل عذاب، وإما مآلاً بعد العذاب، وهذان الأصلان في الجملة لا يخالفان قول الواقفة من المرجئة، وإنما يتميز مذهب السلف، بالأصل الثالث. ومحصل الأصل الثالث: الإيمان والجزم بأن طائفة من أهل الكبائر غير معينين يدخلون الجنة ولا يعذبون في النار، وأن طائفة منهم يعذبون في النار ثم يخرجون منها، إما برحمته المحضة، أو برحمته مع سبب من الشفاعة أو نحوها. وهذا الأصل يميز قول السلف عن قول المرجئة الواقفة؛ لأن السلف يجزمون بأن قدراً من أهل الكبائر لا يدخلون النار، ويجزمون بأن قدراً آخر من أهل الكبائر يدخلون النار. وهذا القدر الذي لا يدخل النار، والقدر الذي يعذب في النار ثم يخرج منها، ليس مبنياً على محض المشيئة فقط، بل هو مبني على مشيئته مع حكمته سبحانه وتعالى وعدله، ولهذا ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الموازين، وهي المذكورة في مثل قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] ، فلا شك أن الذين يعذبون في النار هم أكثر إتياناً للكبائر وأكثر فسقاً وأكثر فجوراً ممن لا يعذبون في النار؛ لأن الله سبحانه وتعالى: لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} {[النساء:40] ، والموازنة مجمع عليها بين السلف، وقد ذكرها الله في كتابه، وذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم إما مجملة وإما مفصلة. وخذ هذه الموازنة أن الله لا يظلم مثقال ذرة، وأن حكمه عدل، فلا يعذب الأكثر حسنة ويغفر للأكثر سيئة، هذا لا يكون في عدل الله سبحانه وتعالى وقضائه؛ فإنه سبحانه وتعالى حكم عدل. ولهذا وصفت الموازنة المطلقة في القرآن بكونها عدلاً ولم يميز لها أحداً، ولما ذكر الله سبحانه وتعالى الموازنة بين الإيمان والكفر قيدها بنوع من المقدار والحد، كقوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون:102-105] . فصريح في سياق سورة المؤمنون وسورة الأعراف وسورة القارعة أن الموازنة المذكورة هي في حق أهل الإيمان وأهل الكفر. وأما إذا ذكر الله الموازنة المطلقة المتعلقة بسائر خلقه، فإنه يذكرها ذكراً مطلقاً ويقيدها بعموم عدله وقسطه سبحانه وتعالى، ففي قوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} [الأنبياء:47] ما ذكر الله فيها إلا أنها قسط وأنه سبحانه {لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء:40] إلى غير ذلك من سياقات القرآن. ولهذا كان إعراب قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} [الأنبياء:47] القسط: صفة، والأصل أن الصفة تتبع الموصوف في الإفراد والجمع، وهنا لم تتبعه، فجاءت الصفة مفردة والموصوف جمع لأنها مصدر، ولهذا قال ابن مالك في الألفية: ونعتوا بمصدر كثيراً فلزموا الإفراد والتذكيرا

تفصيل ابن حزم في الموازنة ونقده
وهنا تنبيه في هذه المسألة؛ وهو أن الإمام ابن القيم رحمه الله نقل عن ابن حزم أنه يقول: (إن الموازنة في حق أهل الكبائر في هذه الأمة تكون مفصلة، قال: فمن ثقلت: أي فمن زادت حسناته على سيئاته بواحدة فإنه لا يعذب في النار، بل يدخل الجنة، وإن من زادت سيئاته على حسناته واحدة فإنه لا بد أن يعذب في النار ثم يخرج منها، وأما من استوت حسناته مع سيئاته، فإنه يحبس عن دخول الجنة شيئاً ثم يؤذن له بدخول الجنة، قال ابن القيم : وهذا هو قول الصحابة والتابعين، وكثير من الناس لا يعرفونه، بل لا يعرفون إلا قول المرجئة). والصحيح: أن القول بهذا التفصيل، لا تصح إضافته إلى الصحابة والتابعين على هذا الإطلاق، فإنه لا دليل عليه، إنما دل الدليل على غلط قول المرجئة الواقفة، ودل على أن الله سبحانه وتعالى: (لا يظلم مثقال ذرة) وأما الجزم بأن من زادت سيئاته واحدةً أنه يدخل النار، أو أن الذين ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد دخلوا النار في حديث الشفاعة من هذه الأمة، هم من زادت سيئاتهم على حسناتهم بواحدة فما فوق، فهذا ليس بلازم. فمن زادت سيئاته على حسناته بواحدة، يمكن أن يغفر له قبل دخول النار، وليس هناك دليل يمنع أن يغفر له؟ والمغفرة هي محض حقه سبحانه وتعالى، ولو غفر لسائر أهل الكبائر لكان ذلك ممكناً، لكن لما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن طائفة منهم يعذبون ويخرجون بالشفاعة أو بمحض رحمة الله، وجب أن يقال: إنه من الإيمان، الإيمان بأن طائفة منهم يدخلون النار، ثم يخرجون منها، وإلا فإن الله سبحانه وتعالى يغفر لمن يشاء، ولولا أخبار الشفاعة لما صح لأحد أن يجزم بهذا. فهذا الجزم الذي جزم به الإمام ابن القيم رحمه الله ليس جزماً مناسباً، وليس عليه دليل. ......

الخلاف حول أهل الأعراف من هم
والقول بأن من استوت حسناتهم مع سيئاتهم فإنهم يوقفون عن دخول الجنة ثم يدخلونها، لم يجد الإمام ابن القيم رحمه الله والإمام ابن حزم مع جلالتهما دليلاً واضحاً عليه، ولم يستدلوا على هذا إلا بآية الأعراف في ذكر أصحاب الأعراف: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف:46] ، فظاهر القرآن أن أهل الأعراف ينتظرون ثم يدخلون، لكن يبقى أن أهل الأعراف ما فسرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وألفاظ السياق القرآني بحكم كلام العرب لا يفهم منها ذلك، وإنما هذا اجتهاد قاله بعض السلف. وقد نقل عن ابن عباس و ابن مسعود و جابر أن أهل الأعراف: هم من تساوت حسناتهم مع سيئاتهم، إلا أن هذه الآثار لا يصح منها شيء عن الصحابة. ومعلوم أن القاعدة: أنه إذا اختلف في تفسير آية، وللصحابة فيها قول، ولمن بعدهم قول، فإنه يؤخذ بمذهب الصحابة، وقاعدة ابن جرير في ذلك معروفة، إلا أنه لما ذكر تفسيرهم لأهل الأعراف، ذكر هذا عن ابن عباس وغيره، وذكر أقوالاً، ثم غلط قول من يقول بأنهم ملائكة، ورجح أنهم قوم من بني آدم، ولكنه ذهب إلى التوقف فيهم، فما جزم بأنهم من استوت حسناتهم مع سيئاتهم، مع أنه نقل هذا عن بعض الصحابة، وهذا موجبه أنه لم يصح عند ابن جرير شيء من هذه الروايات عن الصحابة. ثم إنه لو سلم جدلاً أن هذه الرواية صحيحة عن ابن عباس ، فلا يلزم من هذا أن يقال: إن هذا مذهب سائر الصحابة والتابعين. ثم إذا وقف الله سبحانه وتعالى قوماًَ من هؤلاء، لم يلزم أن يوقف سائرهم، فهذه كلها لوازم وتحصيلات ليست دقيقة. وسائر الأدلة التي استدل بها ابن حزم و ابن القيم رحمهما الله هي آيات الموازنة المذكورة في سورة الأعراف والمؤمنون وفي سورة القارعة، وهي في ذكر الكفر والإيمان كما هو صريح من سياقها، واستدلالهم بآية الأعراف استدلال مجمل، يحتاج إلى تفصيل من الشارع في حدهم، وعليه فنقول: هذا القول هو قول لطائفة من أهل السنة، وقد رد بعض أهل السنة والجماعة على الإمام ابن حزم رداً مشهوراً؛ لأن هذه المسألة أول من قررها بهذا الوجه هو أبو محمد ابن حزم في كتبه، وانتصر لها أبو عبد الله الحميدي صاحبه، وانتصر لها الإمام ابن القيم في طريق الهجرتين وغيره، فهؤلاء الثلاثة هم أشهر من قررها من أهل السنة من المتأخرين. ولا ترى في كتب السلف المتقدمة كالشريعة للآجري والتوحيد لـابن خزيمة ، والإيمان لـابن منده وغيرها، لا ترى أن فيها ذكراً لهذا الكلام على وجه من الوجوه؛ فالسلف أجمعوا على الإيمان بالموازنة لكن ليس على هذا التفصيل، فعليه يقال: إن هذا التفصيل قول طائفة من أهل السنة والجماعة. وهذا ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال: (وهذه المسألة فيها وجهان للمتأخرين من أهل السنة والجماعة من أصحابنا وغيرهم) ثم ذكر القول الذي ذكره ابن القيم ، وذكر قولاً آخر، فهذه مسألة متأخرة لا ينبغي الجزم فيها، وأصول السلف مبنية على الأصول الثلاثة المتقدمة. وهذه الآية: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] صريحة في إبطال مذهب الخوارج، وإبطال مذهب المعتزلة، الذين قالوا: إن أهل الكبائر يخلدون في النار.

مسقطات العقوبة
وقال المصنف: (وإن شاء عذبهم في النار بعدله، ثم يخرجهم منها برحمته، وشفاعة الشافعين)، أي: وإن كانت شفاعتهم من رحمته، كما هو صريح من النصوص أنه يخرج قوم من النار بمحض رحمته سبحانه وتعالى بغير شفاعة أحد. وقد ذكر أهل العلم ومنهم الإمام ابن تيمية رحمه الله: أن مسقطات العقوبة، بضعة عشر مسقطاً حسب الاستقراء الشرعي، الأول: التوبة، وقد أجمع المسلمون أن من تاب من الكبيرة، فإنه يغفر له. الثاني: الاستغفار، والاستغفار هنا مقامه أخص من مقام التوبة، والاستغفار تارةً يذكر ويراد به التوبة، وتارةً يذكر ويراد به ما هو أخص من ذلك. الثالث: الحسنات، فإن الله سبحانه وتعالى قال: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] . الرابع: دعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب. الخامس: المصائب المكفرة. السادس: ما يقع في القبر من الهول. السابع: العذاب الذي يقع في القبر، فلا يوافي ربه بكبيرته، بل يزول أثرها بعذاب القبر. الثامن: مقامات الآخرة وعرصات القيامة، فهذه جملة من المسقطات. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فإذا عدمت هذه الأسباب، المسقطة لعقوبة الكبيرة، قال: ولن تعدم إلا في حق من عتى وتمرد وشرد على الله شرود البعير الضال على أهله، فهنا يعذب في النار ثم يخرج منها). وهذا من سعة فقهه رحمه الله، فإن الله سبحانه وتعالى يغفر لعباده المؤمنين؛ لأن معهم حسنة التوحيد، ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يعنى بهذه الحسنة، فقهاً ودعوةً وتعليماً، و المسلمون مهما كان فيهم من المعصية، ما دام أنهم محققون لأصل التوحيد، فإنهم على خير كثير، وهم قريبون من رحمته سبحانه وتعالى، وفضله وإحسانه. ......

إسقاط الكبائر بالمكفرات
السبب الأخف، وهو المذكور في قوله: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] ، فيه بحث مهم، وهو أنه قد جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما هو مشهور في السنة: أن من الأعمال الصالحة ما يكفر الذنوب، كقوله صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن) ، وكقوله: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه خمس مرات..) ، كما في الصحيح من حديث أبي هريرة في الصحيح، إلى غير ذلك من النصوص، فهنا المشهور في كلام أهل السنة أن هذه الأعمال الصالحة، سواء كانت واجبة أو كانت مستحبة، إذا ذكر تكفيرها للذنوب، فإن المقصود بذلك أنها تكفر الصغائر. وقد حكى أبو عمر ابن عبد البر إجماع أهل السنة، على أنها تكفر الصغائر دون الكبائر. وهذا الإجماع الذي ذكره أبو عمر ابن عبد البر ينبغي فقهه، فإنه قد يفقه على أحد وجهين، الأول: أن يفقه أن السلف أجمعوا على أن الأعمال الصالحة، كالصلاة والحج وغيرها، لا يمكن أن تكفر أو أن تمحو ما هو كبيرة. ولا شك أن هذا الوجه من الفقه غلط، وإن أضافه من أضافه بعض المتأخرين للسلف، فهو إضافة غلط. الوجه الثاني من الفقه: أن يفهم منه أن هذه الأعمال الصالحة، قد تكفر ما هو من الكبائر، ولكن ذلك لا يطرد، إنما يطرد في الصغائر، وفقه الإجماع على هذا الوجه، هو الفقه الصحيح. وهو مذهب السلف ولا شك، وهذا هو الذي قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تقريراً مفصلاً، وقرر أنه هو المذهب المعروف عن سلف الأمة. ويكون هذا الفهم وسطاً بين قول من يقول: إن هذه الأعمال الصالحة تكفر الكبائر باطراد كما تكفر الصغائر، فإن هذا خلاف كثير من النصوص وخلاف الإجماع، وبين قول من يقول: إنها لا تكفر إلا الصغائر ولا يمكن أن تكفر الكبائر، ويجزم بذلك، فهذا غلط أيضاً ولا يقوله أحد من السلف، وإن نقل بعض المتأخرين في هذا الإجماع فهو إجماع غلط كما يقرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

الدليل على تكفير الحسنات للكبائر
والدلائل النبوية صريحة في هذا، ففي حديث عمرو بن العاص الذي أخرجه مسلم وغيره من طريق عبد الرحمن بن شماسة المهري المصري عن عبد الله بن عمرو عن أبيه عمرو بن العاص ، وفيه قول عمرو لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه على الإسلام، قال: (فبسط النبي صلى الله عليه وسلم يده لأبايعه، قال: فقبضت يدي فقال: ما لك يا عمرو ؟! قلت: أردت أن أشترط، قال: تشترط ماذا؟ قلت أشترط أن يغفر لي، أما علمت يا عمرو ! أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبل) فتأمل قوله: (يهدم ما كان قبله) فإنه من سياق العموم، ولا شك أن هذا يمتنع معه أن يقال: إن الحج لا يمكن أن يكفر ما هو كبيرة. ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم..) وقوله: (من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه..) ، ولا يمكن أن يجتمع السلف على أن من أتى هذا البيت فقام قيام السنة، واقتدى برسول الله صلى الله عليه وسلم فما رفث ولا فسق وتعبد لله، ووجل قلبه، وأدى الأركان على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع تمام الإخلاص وتمام المتابعة، ولكن عنده بعض الكبائر السالفة أن كبائره لا تغفر، فهذا تضييق لرحمة الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن فقه السلف يقف مع هذا، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) .

الجواب على إشكال المانعين من تكفير الحسنات للكبائر
والذي أشكل على أكثر المتأخرين هو الذي جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه وغيره: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر) ، قالوا: فهذا يدل على أن الكبائر لا تغفر، ولا شك أن هذا الاستدلال ليس استدلالاً صحيحاً، فإن الصلاة وسائر الأعمال الظاهرة، وحتى الأعمال الباطنة يقع فيها تفاضل، وليست صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، كصلاة أصحابه مع أنهم كانوا يصلون معه، وليست صلاة أبي بكر كصلاة آحاد الصحابة، وليست صلاة الصحابة كصلاة من بعدهم. فتكون الصلاة باعتبار أصل القيام بها مكفرة للصغائر إذا اجتنبت الكبائر؛ أما الكبائر فلا يتعلق تكفيرها بإقامة الصلاة حتى ولو لم تكن الإقامة التامة الموافقة لهدي النبوة من كل جهة، والتي ذكر الله عن أهلها أنهم في صلاتهم خاشعون، فلا يلزم أن كل عمل ذكره الشارع واجباً كان أو مستحباً يكفر الكبائر باطراد كما يكفر الصغائر. فإنه لو قيل إن التكفير يقع بمجرد إقامة الصلاة ولو غير تامة، لصح الاعتراض عليه بهذا الحديث، فإن الحديث معارض لهذا الفهم تماماً. ولكن إذا قيل إن الأعمال المكفرة يقع بها تكفير بعض الكبائر في بعض الأحوال، فإن هذا لا يكون معارضاً، ويمكن أن يقال: إن هذه الأعمال باعتبار أصولها، تكفر الصغائر، ولكن من حققها على وجه التمام، وكانت حالته في الجملة على قدر من الاستقامة والانقياد، ولكن كان معه يسير من الذنب والكبيرة، فإن هذه الأعمال تكون سبباً للتكفير. ومن إجماع السلف أن الله قد يغفر لأهل الكبائر بغير سبب من العبد، فمن باب أولى أن يكفر عنه وأن يغفر له بسبب منه وهو الحسنة، فإن الله قال: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) . وإذا كان الله يغفر لبعض أهل الكبائر بسبب من غيرهم وهو دعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب، أو بشفاعة الشافعين، فيمكن أيضاً أن يغفر له بسبب من أعماله الصالحة، ومن عرف مقام الصلاة ومقام الحج، ومقام الجهاد، ومقام الصيام عند الله سبحانه وتعالى، عرف أنه يمكن أن يغفر بها ما هو من الكبائر، ألم يقل الله سبحانه كما في الحديث القدسي: (الصوم لي وأنا أجزي به) . فتعليق هذه الأمور على التوبة لا شك أنه تعليق ضيق، بل يقال: إن هذه الأعمال كفارات للصغائر، وقد يقع في هذه الأعمال كأصول الواجبات من الحج والجهاد والصيام والصلاة، ما هو مكفر لبعض الكبائر، وهذه أحوال لا تطرد، وإنما يختص الله سبحانه وتعالى برحمته وتوفيقه من يشاء من عباده.

 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
وأهل, قوله

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 04:25 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir