دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > الفقه > متون الفقه > الرحبية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 11 ذو القعدة 1429هـ/9-11-2008م, 04:53 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي المقدمة


أَوَّلُ مَا نَسْتَفْتِحُ الْمَقَالا = بِذِكْرِ حَمْدِ رَبِّنا تَعالى
فَالْحَمْدُ للهِ عَلَى ما أَنْعَمَا = حَمْداً بِهِ يَجْلو عَنِ القَلْبِ العَمى
ثُمَّ الصَّلاةُ بَعْدُ والسَّلامُ = عَلى نَبِيٍّ دينُهُ الإِسْلامُ
مُحَمَّدٍ خَاتَمِ رُسْلِ رَبِّهْ = وَآلِهِ مِنْ بَعْدِهِ وَصَحْبِهْ
ونَسأَلُ اللهَ لَنا الإِعانَهْ = فِيما تَوخَّيْنا مِنَ الإِبانَهْ
عَن مَذْهَبِ الإِمامِ زَيْدِ الفَرَضِي = إِذْ كانَ ذاكَ مِنْ أهمِّ الغَرَضِ
عِلْماً بِأَنَّ العِلْمَ خَيْرُ ما سُعِي = فيهِ وَأَوْلَى مالَهُ العَبْدُ دُعِي
وَأَنَّ هَذا العِلْمَ مَخْصوصٌ بِما = قَدْ شاعَ فيهِ عِندَ كُلِّ العُلَما
وأَنَّهُ أوَّلُ عِلْمٍ يُفْقَدُ = فِي الأرْضِ حَتى لا يَكادُ يُوجَدُ
وأنَّ زَيْداً خُصَّ لا مَحالَهْ = بَما حَباهُ خاتَمُ الرِّسالَهْ
مِنْ قَوْلِهِ فِي فَضْلِهِ مُنَبِّها = ((أَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ)) وَنَاهِيكَ بِها
فَكانَ أَوْلى باتِّباعِ التَّابِعِ = لا سِيَّما وَقدْ نَحَاهُ الشَّافِعِي
فَهاكَ فيهِ القَوْلَ عَنْ إِيجازِ = مُبَرَّءاً عَنْ وَصْمَةِ الأَلْغازِ


  #2  
قديم 3 ذو الحجة 1429هـ/1-12-2008م, 08:20 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي الفوائد الشنشورية للشيخ: عبد الله الشنشوري الشافعي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ للَّهِ ربِّ العالمينَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللَّهُ وحْدَهُ لا شريكَ لهُ، لهُ الملكُ الحقُّ المُبينُ، وأشهدُ أنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّداً عبْدُهُ ورسُولُهُ خاتمُ النَّبِيِّينَ والمُرْسَلِينَ، صَلَّى اللَّهُ عليهِ وعلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أجمعينَ، صلاةً وسلاماً دَائِمَيْنِ مُتَلازِمَيْنِ إلى يومِ الدِّينِ.
أَمَّا بعدُ، فيقولُ العبدُ الفقيرُ إلى رحمةِ رَبِّهِ القريبِ المُجِيبِ، عبدُ اللَّهِ الشَّنْشُورِيُّ الشافعيُّ الفَرَضِيُّ الخطيبُ بالجامعِ الأزهرِ: قدْ سَأَلَنِي وَلَدِي عبدُ الوَهَّابِ، وَفَّقَهُ اللَّهُ للصوابِ، أنْ أَشْرَحَ المنظومةَ الرَّحَبِيَّةَ، أَسْكَنَ اللَّهُ مُؤَلِّفَها الغُرَفَ العَلِيَّةَ، فَأَجَبْتُهُ لذلكَ سَالِكاً من الاختصارِ أحسنَ المَسَالكِ، وعَمِلْتُهُ عَمَلَ الطبيبِ للحبيبِ، وقَرِيبٌ فيهِ العباراتُ أيَّ تَقْرِيبٍ، وتَعَرَّضْتُ فيهِ للخلافِ بينَ الأَئِمَّةِ، وبَيَّنْتُ فيهِ ما اجْتَمَعَتْ عليهِ الأُمَّةُ، وسَمَّيْتُهُ (الْفَوَائِدُ الشَّنْشُورِيَّةُ فِي شَرْحِ الْمَنْظُومَةِ الرَّحَبِيَّةِ).
وأنا أسألُ اللَّهَ المَنَّانَ بفَضْلِهِ أنْ ينفعَ بهِ كما نفعَ بأَصْلِهِ، وأَنْ يَعْصِمَنِي وقَارِئَهُ من الشيطانِ الرجيمِ؛ فإنَّهُ رَؤُوفٌ رحيمٌ، جَوَادٌ كريمٌ.
وهذا أَوَانُ الشروعِ في المقصودِ، بِعَوْنِ اللَّهِ المعبودِ:
قالَ المُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى، آمِينَ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)؛ أيْ: أَفْتَتِحُ، وَأَوْلَى منهُ: أُؤَلِّفُ.

أَوَّلُ مَا نَسْتَفْتِحُ الْمَقَالا = بِذِكْرِ حَمْدِ رَبِّنَا تَعَالَى
(أَوَّلُ مَا نَسْتَفْتِحُ) ؛ أيْ: نَفْتَحُ؛ أيْ: نَبْتَدِي، (المَقَالا) بأَلِفِ الإطلاقِ؛ أي: القولَ، وهوَ اللفظُ الموضوعُ لمَعْنًى، خلافاً لِمَنْ أَطْلَقَهُ على المُهْمَلِ أيضاً كما نَقَلَهُ الجلالُ السُّيُوطِيُّ عنْ أبي حَيَّانَ رَحِمَهُما اللَّهُ تعالى. ويُطْلَقُ على الرأيِ والاعتقادِ مَجَازاً.
والقولُ والمقالُ والمقالةُ مصادرُ لِقَالَ يقولُ، وأصلُ قالَ: قَوَلَ، تَحَرَّكَت الواوُ وانْفَتَحَ ما قبْلَها فَقُلِبَتْ أَلِفاً.
ويُقَالُ لِمَا فَشَى من القولِ: قَالَةٌ، وقَالٌ، وقِيلٌ.
ويُقَالُ: أَقْوَلْتَنِي ما لمْ أَقُلْ، وقَوَّلْتَنِي: نَسَبْتَهُ إِلَيَّ. ورجلٌ مَقُولٌ ومِقْوَالٌ وقَوَّالٌ كثيرُ القولِ.
وقولُهُ: (بِذِكْرِ حَمْدِ رَبِّنَا) ؛ أيْ: مَالِكِنا، وسَيِّدِنا، ومُصْلِحِنا، ومُرَبِّينا، ومَعْبُودِنَا. كما قَالَهُ الشيخُ عزُّ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى أيضاً. (تَعَالَى) عَمَّا يقولُهُ الظالمونَ والجاحدونَ عُلُوًّا كبيراً.
ثمَّ حَقَّقَ ما وعدَ بهِ منْ ذِكْرِ الحمدِ بقَوْلِهِ:
فَالْحَمْدُ للَّهِ على ما أَنْعَمَا = حَمْداً بهِ يَجْلُو عنِ القلبِ العَمَى
(فالحمْدُ) ؛ أي: الوصفُ بالجميلِ ثابتٌ (للَّهِ)، وكُلٌّ مِنْ صِفَاتِهِ تعالى جَمِيلٌ، فهوَ وَصْفٌ للَّهِ تعالى بجميعِ صِفَاتِهِ (على ما أَنْعَمَا)؛ أيْ: على إِنْعَامِهِ، وأَلِفُهُ للإطلاقِ، ولمْ يَتَعَرَّضْ للمُنْعَمِ بهِ.
قالَ الشيخُ سعدُ الدِّينِ التَّفْتَازَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالَى: إِيهَاماً لقُصُورِ العبارةِ عن الإحاطةِ بهِ؛ ولِئَلاَّ يُتَوَهَّمَ اختصاصُهُ بشيءٍ دونَ شيءٍ.
(حَمْداً) منصوبٌ على أنَّهُ مفعولٌ مُطْلَقٌ، وهوَ مُؤَكِّدٌ، ويَجُوزُ أنْ يكونَ مُبَيِّناً للنوعِ أيضاً؛ لِوَصْفِهِ بقولِهِ: (بهِ يَجْلُو عن القلبِ العَمَى)؛ أيْ: حَمْداً يُذْهِبُ اللَّهُ بهِ عن القلبِ عَمَاهُ. والقلبُ معلومٌ، والعَمَى: مقصورٌ، يُكْتَبُ بالْيَاءِ، وهوَ: فَقْدُ البصرِ. وإِطْلاقُهُ على عَمَى البصيرةِ، وهوَ الجهلُ، إطلاقٌ مَجَازِيٌّ. والعَمَى الضَّارُّ هوَ عَمَى القلبِ.
وسُمِّيَ الجهلُ بالعَمَى؛ لأنَّ الجاهلَ لِكَوْنِهِ مُتَحَيِّراً يُشْبِهُ الأعْمَى. وأَمَّا عَمَى البصرِ فليسَ بِضَارٍّ في الدِّينِ. قالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحجِّ: 64] .
وقالَ قتادةُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالَى: البصرُ الظاهرُ بُلْغَةٌ ومنفعةٌ، وبصرُ القلبِ هوَ البصرُ النافعُ، انْتَهَى.
ولَمَّا حَمِدَ اللَّهَ تعالى صَلَّى على نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ؛ لقولِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56]، ولقولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ فِي كِتَابٍ لَمْ تَزَلِ الْمَلائِكَةُ تَسْتَغْفِرُ لَهُ مَا دَامَ اسْمِي فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ))، فقالَ:
ثُمَّ الصلاةُ بعدُ والسلامُ = على نَبِيٍّ دِينُهُ الإِسْلامُ
(ثمَّ الصلاةُ بعدُ) ؛ أيْ: بعدَ ما تَقَدَّمَ، وهوَ هُنَا مبنيٌّ على الضمِّ كما هوَ مُقَرَّرٌ عندَ النحاةِ، والصلاةُ لُغةً: الدعاءُ، والصلاةُ المطلوبةُ من اللَّهِ هيَ رَحْمَتُهُ، وقيلَ: مَغْفِرَتُهُ، وقيلَ: كَرَامَتُهُ، وقيلَ: ثَنَاؤُهُ عندَ الملائكةِ. ذَكَرَ هذهِ الأوجهَ الشيخُ شهابُ الدِّينِ أحمدُ بنُ الهَائِمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالَى.
وقَرَنَهَا بالسلامِ خُرُوجاً منْ كراهةِ إِفْرَادِ أحَدِهِما عن الآخرِ، فقالَ: (والسلامُ) ؛ أَي: التَّحِيَّةُ (على نَبِيٍّ دِينُهُ الإسلامُ)، وهوَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ. قالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وتعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحجِّ: 78] .
والنبيُّ: إنسانٌ أُوحِيَ إليهِ بِشَرْعٍ وإنْ لمْ يُؤْمَرْ بتَبْلِيغِهِ، فإنْ أُمِرَ بذَلِكَ فَرَسُولٌ أيضاً، فالنبيُّ أعمُّ من الرسولِ. وقيلَ: هُمَا بمعْنًى واحدٍ، وهوَ معنى الرسولِ.
النَّبِيءُ -بالهمزِ- من النَّبَأِ؛ أي: الخبرِ؛ لأنَّهُ مُخْبِرٌ عن اللَّهِ تعالى. وبلا همزٍ –وهوَ الأكثرُ– من النَّبْوَةِ وهيَ الرِّفْعَةُ؛ لأنَّ النبيَّ مرفوعُ الرُّتْبَةِ.
والدِّينُ: ما شَرَعَهُ اللَّهُ من الأحكامِ. والإسلامُ: هوَ الخضوعُ والانقيادُ لأُلُوهِيَّةِ اللَّهِ تعالى، ولا يَتَحَقَّقُ إلاَّ بقَبُولِ الأمرِ والنهيِ. والإيمانُ: هوَ التصديقُ بما جاءَ منْ عندِ اللَّهِ والإقرارُ بهِ. وهما وإن اخْتَلَفَا مفهوماً فمَقْصُودُهما واحدٌ، فلا يَصِحُّ في الشرعِ أنْ يُحْكَمَ على واحدٍ بأنَّهُ مُؤْمِنٌ وليسَ بمسلمٍ، وبالعكسِ. ولا نَعْنِي بِوَحْدَتِهِما سِوَى هذا.
مُحَمَّدٍ خَاتَمِ رُسْلِ رَبِّهِ = وآلِهِ مِنْ بَعْدِهِ وصَحْبِهِ
وقولُهُ: (مُحَمَّدٍ) ، بدلٌ منْ (نَبِيٍّ) فيكونُ مجروراً. ويجوزُ رَفْعُهُ على أنَّهُ خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ. وهوَ اسمٌ منْ أسماءِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ. وهيَ –كما نقلَ ابنُ الهَائِمِ عنْ أبي بكرِ بْنِ العَرَبِيِّ والنَّوَوِيِّ رَحِمَهُما اللَّهُ تعالى– أَلْفُ اسمٍ.
واختارَ هذا الاسمَ لوُجُوهٍ؛ منها: أنَّ اللَّهَ تعالى ذَكَرَهُ في القرآنِ العظيمِ في مَسَاقِ الامتداحِ. ومنها: أنَّهُ أشهرُ وأكثرُ استعمالاً في السُّنَّةِ للصحابةِ والتابعينَ فَمَنْ بَعْدَهُم.
وقولُهُ: (خَاتَمِ رُسْلِ رَبِّهِ)؛ أيْ: وأنبيائِهِ. قالَ اللَّهُ تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]. (وَ) الصلاةُ والسلامُ على (آلِهِ)، وهمْ مُؤْمِنُو بني هاشمٍ وبني المُطَّلِبِ. وقيل: جميعُ الأُمَّةِ، وقيلَ: عِتْرَتُهُ الذينَ يُنْسَبُونَ إليهِ، وهمْ أولادُ فاطمةَ ونَسْلُهُم. وقيلَ: أَقَارِبُهُ منْ قُرَيْشٍ. وقيلَ غيرُ ذلكَ.
(مِنْ بَعْدِهِ) تبعاً لهُ (وصَحْبِهِ) منْ بَعْدِهِ أيضاً. وهوَ: اسمُ جمعٍ لصاحبٍ بمعنى الصحابيِّ، وهوَ مَن اجتمعَ مؤمناً بهِ ولوْ ساعةً، وماتَ على ذلكَ. وقيلَ: مَنْ طَالَتْ صُحْبَتُهُ لهُ، وكَثُرَتْ مُجَالَسَتُهُ لهُ والأخذُ عنهُ، وقيلَ غيرُ ذلكَ.
ولَمَّا حَمِدَ اللَّهَ تعالى، وصَلَّى على نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قالَ:
ونَسْأَلُ اللَّهَ لنا الإعانَهْ = فِيمَا تَوَخَّيْنَا منَ الإبَانَهْ
(ونسألُ اللَّهَ لنا الإعانهْ فِيمَا تَوَخَّيْنَا)؛ أيْ: تَحَرَّيْنَا وقَصَدْنَا. ويُقَالُ: فلانٌ يَتَوَخَّى الحقَّ ويَتَأَخَّاهُ؛ أيْ: يَقْصِدُهُ ويتَحَرَّاهُ. ويُقَالُ: تَأَخَّيْتُ الشيءَ تَحَرَّيْتُ. والتَّحَرِّي: طلبُ الأَحْرَى. وكثيراً ما يَسْتَعْمِلُهُ الفقهاءُ بمعنى الاجتهادِ. والألفاظُ الثلاثةُ متقاربةٌ.
قالَ الشيخُ زَكَرِيَّا رَحِمَهُ اللَّهُ تعالَى: الاجتهادُ والتَّحَرِّي والتَّأَخِّي بَذْلُ المجهودِ في طلبِ المقصودِ، انْتَهَى.
ويُقَالُ: اجتهدَ في حَمْلِ الصخرةِ، ولا يُقَالُ: اجتهدَ في حَمْلِ نَوَاةٍ. وذكرَ أَبُو عُبَيْدٍ: أنَّ التَّأَخِّيَ لا يكونُ إلاَّ في الخيرِ. ولعلَّ هذا هوَ السببُ في تخصيصِ الناظمِ التَّوَخِّيَ بالذِّكْرِ دُونَ التَّحَرِّي.
وقولُهُ: (من الإِبَانَهْ)؛ أي: الإظهارِ والكشفِ.
عنْ مَذْهَبِ الإمامِ زَيْدٍ الفَرَضِي = إِذْ كانَ ذاكَ مِنْ أَهَمِّ الغَرَضِ
(عَنْ مَذْهَبِ) : مَفْعَلٍ، يَصْلُحُ للمصدرِ، والمكانِ، والزمانِ، بمعنى: الذَّهَابِ، وهوَ المُرُورُ، أوْ مَحَلُّهُ، أوْ زَمَانُهُ.
واصطلاحاً: ما تَرَجَّحَ عندَ المجتهدِ في مسألةٍ ما بعدَ الاجتهادِ، فصارَ لهُ مُعْتَقَداً ومَذْهَباً. وهوَ المرادُ هنا.
وقولُهُ: (الإمامِ)؛ أي: الذي يُقْتَدَى بهِ، وقيلَ غيرُ ذلكَ. وأَبْدَلَ من الإمامِ قَوْلَهُ:
(زَيْدِ) بنِ ثابتِ بنِ الضَّحَّاكِ، الصحابيِّ الأنصاريِّ الخَزْرَجِيِّ، منْ بني النَّجَّارِ، يُكَنَّى أبا سعيدٍ، وقيلَ: أبا عبدِ الرحمنِ، وقيلَ: أبا خَارِجَةَ.
قَدِمَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ المدينةَ وهوَ ابنُ خمسَ عشرةَ سنةً، وتُوُفِّيَ بالمدينةِ سنةَ خمسٍ وأربعينَ. قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ. وقيلَ غيرُ ذلكَ. ومَنَاقِبُهُ شهيرةٌ، وفضائِلُهُ كثيرةٌ.
رُوِيَ أنَّ ابنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قالَ يومَ ماتَ زيدٌ: اليومَ مَاتَ عَالِمُ المدينةِ. وخَطَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ بالْجَابِيَةِ قالَ: مَنْ يَسْأَلْ عن الفرائضِ فَلْيَأْتِ زيدَ بنَ ثابتٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ.
قالَ مَسْرُوقٌ: دَخَلْتُ المدينةَ فَوَجَدْتُ فيها من الراسخينَ في العلمِ زيدَ بنَ ثابتٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ. وقالَ الشَّعْبِيُّ: عِلْمُ زيدِ بنِ ثابتٍ بخَصْلَتَيْنِ: بالقرآنِ والفرائضِ، رَضِيَ اللَّهُ عنهُ.
فائدةٌ:
قد اجتمعَ في اسمِ زيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ مُنَاسَبَاتٌ تَتَعَلَّقُ بالفرائضِ لمْ تَجْتَمِعْ في اسمٍ غَيْرَهُ، إِفْرَاداً وجَمْعاً، وعَدَداً، وطَرْحاً وضَرْباً.
فأمَّا الإفرادُ: فالزَّايُ سَبْعَةٌ، وهيَ عددُ أُصُولِ المسائلِ، وعدَدُ مَنْ يَرِثُ بالفَرْضِ وَحْدَهُ، وهوَ: الزَّوْجَانِ والجَدَّتَانِ والأُمُّ ووَلَدَاهَا. والياءُ بعَشَرَةٍ، وهيَ عددُ الوَارِثِينَ بالاختصارِ، وعددُ الوَارِثَاتِ بالبَسْطِ. والدالُ بأربعةٍ، وهيَ عددُ أسبابِ الإرثِ، والأُصُولِ التي لا تَعُولُ.
وأمَّا الجمعُ: فالزَّايُ معَ الياءِ سبعةَ عشرَ، وهيَ عددُ الوارثينَ والوارثاتِ بالاختصارِ. والزايُ معَ الدالِ أحدَ عشرَ، وهيَ عددُ الوارثاتِ على طريقِ البَسْطِ، بزيادةِ مَوْلاةِ المَوْلاةِ. والياءُ معَ الدالِ أربعةَ عشرَ، وهيَ عددُ الوارثينَ بالبسطِ، خلا المَوْلَى؛ لأنَّهُ قدْ يكونُ أُنْثَى.
والزايُ معَ الياءِ والدالِ أحدٌ وعشرونَ، وهيَ عددُ مَنْ يَرِثُ بالفَرْضِ، منْ حيثُ اختلافُ أحْوَالِهِم كما سيأتي؛ لأنَّ أصحابَ النِّصْفِ خمسةٌ، والرُّبْعِ اثنانِ، والثُّمُنِ واحدٌ، والثُّلُثَيْنِ أربعةٌ، والثُّلُثِ اثنانِ، والسُّدُسِ سبعةٌ، وقدْ ضَبَطَ ذلكَ بعْضُهُم في ضِمْنِ بيتٍ قالَ:
ضَبْطَ ذَوِي الفروضِ منْ هذا الرَّجَزْ = خُذْهُ مُرَتَّباً وَقُلْ: هَبَا دَبَزْ
فالهاءُ بخمسةٍ، والباءُ باثنَيْنِ، والألفُ بواحدٍ، والدالُ بأربعةٍ، والباءُ الثانيَةُ باثنَيْنِ، والزايُ بسبعةٍ.
وأمَّا العَدَدُ: فعددُ حُرُوفِهِ ثلاثةٌ، وهيَ عددُ شروطِ الإرثِ، وعددُ الأصولِ التي تَعُولُ.
وأمَّا الطرحُ: فإذا طَرَحْتَ الدالَ من الياءِ بَقِيَ سِتَّةٌ، وهيَ عددُ الفروضِ القُرْآنِيَّةِ، وعددُ الموانعِ. وإذا طَرَحْتَ الدالَ من الزايِ بَقِيَ ثلاثةٌ، وهيَ عددُ الحروفِ، وَتَقَدَّمَ ما فيها. وإذا طَرَحْتَ الزايَ من الياءِ بَقِيَ ثلاثةٌ أيضاً، وَتَقَدَّمَ ما فيها.
وأمَّا الضربُ: فإذا ضَرَبْتَ حُرُوفَهُ وهيَ ثلاثةٌ في نَفْسِهَا تَبْلُغُ تسعةً، وهيَ عددُ أُصولُ المسائلِ على الأرجحِ. وأكثرُ ما ذَكَرْتُهُ عدداً غيرُ ذلكَ، واللَّهُ أَعْلَمُ.
ولْنَرْجِعْ إلى كلامِ المُؤَلِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالَى، فَقَوْلُهُ: (الفَرَضِي) بفتحِ الفاءِ والراءِ: العالِمُ بالفرائضِ، ويُقَالُ لهُ: فَارِضٌ وفَرِيضٌ كعالمٍ وعليمٍ، وفَرَّاضٌ وَفَرْضِيٌّ بسكونِ الراءِ أيضاً. وأجازَ ابنُ الهائمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى أنْ يُقَالَ: فَرَائِضِيٌّ أيضاً. وإنْ قالَ جماعةٌ: إنَّهُ خطأٌ.
والفرائضُ: قالَ الجَلالُ المَحَلِّي رَحِمَهُ اللَّهُ تعالَى: جَمْعُ فريضةٍ بمعنى مفروضةٍ؛ أيْ: مُقَدَّرَةٍ؛ لِمَا فيها من السهامِ المُقَدَّرَةِ، فغَلَبَتْ على غَيْرِها، انْتَهَى. أيْ: فَغَلَبَتْ على التعصيبِ وجُعِلَتْ لَقَباً لهذا العِلْمِ، وسيأتي تَعْرِيفُهُ.
وقولُهُ: (إِذْ كانَ ذاكَ)؛ أي: المذكورُ من الإبانةِ أوْ تَوَخِّيها (مِنْ أَهَمِّ الغرَضِ) لِمَنْ يُرِيدُ التصنيفَ في علمِ الفرائضِ، فهوَ تعليلٌ لِمَا ذُكِرَ.
قالَ العَلاَّمَةُ سَبْطُ المَارْدِينِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالَى: أيْ ونَسْأَلُ اللَّهَ تعالى لنا إِعَانَةً فيما قَصَدْنَاهُ من الإظهارِ والكشفِ عنْ مَذْهَبِ الإِمامِ زيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ؛ لأنَّ هذا منْ أهمِّ القصدِ؛ فَإِنَّهُ لا يَخِيبُ مَنْ قَصَدَهُ. قالَ تعالى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} الآيَةَ. قالَ بعضُ العلماءِ: لمْ يَأْمُرْ بالمسألةِ إلاَّ لِيُعْطِيَ، انْتَهَى.
وقالَ الإمامُ تاجُ الدِّينِ بنُ عَطَا اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ: مَتَى وَفَّقَكَ للطَّلَبِ فاعلمْ أنَّهُ يُرِيدُ أنْ يُعْطِيَكَ، انْتَهَى.
عِلْماً بأنَّ العِلْمَ خيرُ ما سُعِي = فِيهِ وأَوْلَى مَا لَهُ العبدُ دُعِي
وقولُهُ: (عِلْماً)، منصوبٌ على أنَّهُ مفعولٌ لأَجْلِهِ، وهوَ عِلَّةٌ لقولِهِ: إذْ كانَ ذاكَ منْ أَهَمِّ الغرضِ، أوْ لقولِهِ: تَوَخَّيْنَا؛ أيْ: لأَجْلِ عِلْمِنَا (بأنَّ العِلْمَ)، وهوَ: حُكْمُ الذِّهْنِ الجازمُ المطابقُ للواقعِ، وهوَ خلافُ الجهلِ. واللَّفُّ فيهِ للاستغراقِ، أو العهدِ الشَّرْعِيِّ، وهوَ علمُ التفسيرِ والحديثِ والفقهِ، ويَلْحَقُ بذلكَ ما كانَ آلَةً لهُ. فَالعِلْمُ منْ
(خَيْرِ ما سُعِي فِيهِ وَ) مِنْ (أَوْلَى ما لهُ العبدُ دُعِي) .
قال اللَّهُ تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] ، وقالَ تعالى: {يَرْفَعُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المُجَادَلَة: 11]، وقالَ اللَّهُ تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه: 14] .
والأحاديثُ في فضائلِ العلمِ كثيرةٌ شهيرةٌ، منها قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((لا حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْخَيْرِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا لِلنَّاسِ))، رواهُ البخاريُّ منْ حديثِ ابنِ مسعودٍ.
ومنها قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقاً إِلَى الْجَنَّةِ))، رواهُ التِّرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ.
وقالَ الشافعيُّ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ: طَلَبُ العلمِ أفضلُ منْ صلاةِ النافلةِ، وليسَ بعدَ الفريضةِ أفضلُ منْ طلبِ العلمِ، انْتَهَى.
وكفى بالعلمِ شرفاً أنَّ كلَّ أحدٍ يَدَّعِيهِ، وكفى بالجهلِ قُبْحاً أنَّ كُلَّ أحدٍ يُنْكِرُهُ.
وأنَّ هذا العِلْمَ مَخْصُوصٌ بِمَا = قدْ شاعَ فيهِ عندَ كُلِّ العُلَمَا
بِأَنَّهُ أَوَّلُ عِلْمٍ يُفْقَدُ في الأرضِ حتَّى لا يَكَادَ يُوجَدُ
(وَ) عِلْماً بِـ(أنَّ هذا العلْمَ) وهوَ علمُ الفرائضِ (مخصوصٌ بما قدْ شاعَ فيهِ عندَ كلِّ العُلَمَا، بأنَّهُ أَوَّلُ علمٍ يُفْقَدُ في الأرْضِ) بالكُلِّيَّةِ (حتَّى لا يكادَ يُوجَدُ)؛ أيْ: حتَّى لا يَقْرَبَ من الوِجْدَانِ.
وما فُقِدَ حقيقةً يَصْدُقُ عليهِ أنَّهُ لا يَقْرُبُ من الوِجْدَانِ. وما فَهِمَهُ الشيخُ بدرُ الدِّينِ سَبْطُ المَارْدِينِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ منْ كلامِ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى، حَيْثُ قالَ: أيْ يَقْرُبُ منْ عدمِ الوِجْدَانِ فليسَ بظاهرٍ؛ لأنَّ (لا) النافيَةَ داخلةٌ في كلامِهِ على (يَكَادَ)، لا على (يُوجَدُ)، والنفيُ إذا دخلَ على (كَادَ) يكونُ للإثباتِ.
وإنَّمَا شاعَ عندَ العلماءِ أنَّهُ أَوَّلُ علمٍ يُفْقَدُ؛ لِمَا رَوَى ابنُ مَاجَهْ وابنُ المُبَارَكِ والحاكمُ في المُسْتَدْرَكِ عنْ أبي هريرةَ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ مَرْفُوعاً:((تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهُ؛ فَإِنَّهُ نِصْفُ الْعِلْمِ، وَهُوَ يُنْسَى، وَهُوَ أَوَّلُ عِلْمٍ يُنْتَزَعُ مِنْ أُمَّتِي))، رواهُ البَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ وقالَ: انْفَرَدَ بهِ حَفْصُ بنُ عُمَرَ، وليسَ بالقويِّ.
ولَمَّا كانَ علمُ الفرائضِ مَنْ يَشْتَغِلُ بهِ قليلٌ؛ لِتَوَقُّفِهِ على علمِ الحِسَابِ، وتَشَعُّبِ مَسَائِلِهِ، وارتباطِ بعْضِها ببعْضٍ، كما في مسائلِ الجَدِّ والإِخْوَةِ وغَيْرِها، كانَ عُرْضَةً للنسيانِ؛ فلأجلِ هذا حَثَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ على تَعَلُّمِهِ وتَعْلِيمِهِ.
وأمَّا قولُهُ: فإنَّهُ نِصْفُ العلمِ، فَاخْتُلِفَ في معناهُ على أَوْجُهٍ:
أَقْرَبُها: أنَّ للإنسانِ حَالتَيْنِ: حالةَ مَوْتٍ، وحالةَ حَيَاةٍ. وفي الفرائضِ مُعْظَمُ الأحكامِ المُتَعَلِّقَةِ بالموتِ.

وقيلَ غيرُ ذلكَ مِمَّا أَضْرَبْنَا عنهُ خوفَ الإطالةِ.
وقدْ وردَ في علمِ الفرائضِ أيضاً من الأحاديثِ والآثارِ مِمَّا يَدُلُّ على فَضْلِهِ وشَرَفِهِ أشياءُ كثيرةٌ فَرَاجِعْهَا في المُطَوَّلاتِ.
وأَنَّ زَيْداً خُصَّ لا مَحَالَهْ = بِمَا حَبَاهُ خَاتَمُ الرِّسَالَهْ
(و) عِلْماً بِـ(أنَّ زيداً) الإمامَ المذكورَ (خُصَّ) مِنْ بَيْنِ الصحابةِ رَضِيَ اللَّهُ عنهم (لا مَحَالَةَ) . قالَ ابنُ الأثيرِ رَحِمَهُ اللَّهُ في (النهايَةِ): أيْ لا حِيلَةَ. ويجوزُ أنْ يكونَ من الحَوْلِ والقُوَّةِ، أو الحركةِ، وهيَ مَفْعَلَةٌ منهما، وأكثرُ ما تُسْتَعْمَلُ بمعنى اليقِينِ أوْ الحقيقَةِ، أوْ بمعنى لا بُدَّ، والميمُ زائدةٌ، انْتَهَى.
فيكونُ المعنى: وإنَّ زيداً خُصَّ حقيقةً، أوْ يَقِيناً، أوْ لا بُدَّ (بِمَا حَبَاهُ) أوْ أعطاهُ. والحَبْوَةُ: العَطِيَّةُ، والحَبَا: العَطَا، (خَاتَمُ الرِّسَالَهْ) وَالنُّبُوَّةِ سَيِّدُنا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
مِنْ قَوْلِهِ في فَضْلِهِ مُنَبِّهَا = أَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ ونَاهِيكَ بِهَا
(مِنْ قَوْلِهِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ (في فَضْلِهِ)؛ أيْ: فضلِ زيدِ بنِ ثابتٍ المذكورِ (مُنَبِّهَا) على فَضْلِهِ وشَرَفِهِ: ((أَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ)). وذكرَ ابنُ الصَّلاحِ أنَّ الترمذيَّ والنسائيَّ وابنَ مَاجَهْ رَوَوْهُ بإسنادٍ جَيِّدٍ. قالَ: وهوَ حديثٌ حَسَنٌ، انْتَهَى.
وروى الترمذيُّ في جَامِعِهِ بإسنادٍ صحيحٍ عنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ بلفظِ: ((أَعْلَمُ أُمَّتِي بِالْفَرِيضِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ))، وإنَّما قالَ ذلكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
قالَ ابنُ الهائمِ –نَقْلاً عن المَاوَرْدِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تعالى- قالَ: للعُلَمَاءِ في ذلكَ خمسةُ أَوْجُهٍ، وعَدَّهَا إلى أنْ قالَ:
الخامسُ: أنَّهُ قالَ ذلكَ؛ لأنَّهُ كانَ أَصَحَّهُم حِسَاباً، وأَسْرَعَهُم جَوَاباً. ثمَّ قالَ المَاوَرْدِيُّ: ولأجلِ هذهِ لمْ يَأْخُذ الشافعيُّ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ إلاَّ بقولِهِ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ، انْتَهَى.
وقولُهُ (وَنَاهِيكَ بِهَا)؛ أيْ: بهذهِ الشهادةِ منْ سَيِّدِ البشرِ خَاتَمِ الرُّسُلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ؛ أيْ: حَسْبُكَ بها؛ لأنَّها غايَةٌ تَنْهَاكَ عنْ أنْ تَطْلُبَ غيْرَها؛ فهيَ تَكْفِيكَ، انْتَهَى.
فَكَانَ أَوْلَى باتِّبَاعِ التَّابِعِي = لا سِيَّمَا وقدْ نَحَاهُ الشَّافِعِي
(فكانَ) زيدُ بنُ ثابتٍ (أَوْلَى) منْ غَيْرِهِ (باتِّبَاعِ التابِعِ) وتقليدِ المُقَلِّدِ؛ لأَمْرَيْنِ:
أَقْوَاهُمَا: هذهِ الأحاديثُ.
والثاني: أنَّهُ ما تَكَلَّمَ أحدٌ منْ أصحابِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في الفرائضِ إلاَّ وقدْ وُجِدَ لهُ قولٌ في بعضِ المسائلِ قدْ هَجَرَهُ الناسُ بالاتِّفاقِ، إلاَّ زيدٌ؛ فإنَّهُ لمْ يَقُلْ قولاً مهجوراً بالاتِّفَاقِ، وذلكَ يقتضي الترجيحَ كما قالَ القَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ.
(لا سِيَّمَا) قالَ ابنُ الهائمِ رَحِمَهُ اللَّهُ: مِنْ أدواتِ الاستثناءِ عندَ بعْضِهِم. والصحيحُ أنَّها لَيْسَتْ منها، بلْ هيَ مُضَادَّةٌ للاستثناءِ؛ فإنَّ الذي بعْدَها داخلٌ فيما دخلَ فيهِ ما قَبْلَها، ومشهودٌ لهُ بأنَّهُ أحقُّ بذلكَ منْ غَيْرِهِ.
(وقدْ نَحَاهُ)؛ أيْ: نَحَى مذهبَ الإمامِ زيدِ بنِ ثابتٍ المذكورِ الإمامُ أبو عبدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بنُ إدريسَ بنِ العَبَّاسِ بنِ عثمانَ بنِ شافعِ بنِ السائبِ بنِ عُبَيْدِ بنِ عبدِ يزيدَ بنِ هاشمِ بنِ المُطَّلِبِ بنِ عبدِ منافِ بنِ قُصَيٍّ (الشافعِيُّ) القُرَشِيُّ المُطَّلِبِيُّ، والحِجَازِيُّ المَكِّيُّ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عنهُ، يَلْتَقِي معَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ في عبدِ مَنَافٍ.
ومناقِبُهُ شهيرةٌ، وفضَائِلُهُ كثيرةٌ، وقدْ صَنَّفَ الأَئِمَّةُ رَضِيَ اللَّهُ عنهم في مَنَاقِبِهِ قديماً وحديثاً.
وُلِدَ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ سنةَ خمسينَ ومائةٍ. والذي عليهِ الجمهورُ أنَّهُ وُلِدَ بِغَزَّةَ، وقيلَ: بعَسْقَلانَ، وقيلَ: باليمنِ، وقيلَ: بِخَيْفِ مِنًى. ثمَّ حُمِلَ إلى مَكَّةَ وهوَ ابنُ سَنَتَيْنِ، وتُوُفِّيَ بمصرَ ليلةَ الجُمُعَةِ بعدَ الغروبِ، آخرَ يومٍ منْ رَجَبٍ، سنةَ أربعٍ ومِائتيْنِ، وهوَ ابنُ أربعٍ وخمسينَ سنةً، ودُفِنَ بالقَرَافَةِ بعدَ عصرِ الجُمُعةِ. وعلى قَبْرِهِ من الجَلالَةِ والاحترامِ ما هوَ لائقٌ بمَقَامِ ذلكَ الإمامِ رَحِمَهُ اللَّهُ ورَضِيَ عنهُ.
ومعنى كونِ الشافعيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ نَحَى مذهبَ زيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ: أنَّهُ قَصَدَهُ ومالَ إليهِ مُوَافَقَةً لهُ في الاجتهادِ؛ لِمَا سَبَقَ، حتَّى تَرَدَّدَ حيثُ تَرَدَّدَ. وليسَ المرادُ أنَّهُ قَلَّدَهُ؛ لأنَّ المجتهدَ لا يُقَلِّدُ مُجْتَهِداً.
فَهَاكَ فيهِ القولَ عنْ إِيجَازِ = مُبَرَّأً عنْ وَصْمَةِ الأَلْغَازِ
(فَهَاكَ)؛ أيْ: فَخُذْ. (فِيهِ)؛ أيْ: في مذهبِ زيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ (القولَ عنْ إيجازِ)؛ أي: اختصارٍ. والمُخْتَصَرُ: ما قَلَّ لَفْظُهُ وكَثُرَ مَعْنَاهُ. (مُبَرَّأً)؛ أيْ: مُنَزَّهاً (عنْ وَصْمَةِ)، واحدُ الْوَصْمِ. وَالوَصْمُ: اسمُ جنسٍ جَمْعِيٌّ بمعنى العَيْبِ.
(الألْغَازِ): جمعُ لُغْزٍ، وهوَ الكلامُ المُعَمَّى، يُقَالُ: أَلْغَزَ في كَلامِهِ: عَمَّى وشَبَّهَ فِيهِ، واليَرْبُوعُ في جُحْرِهِ: مالَ يَمِيناً وشمالاً في حَفْرِهِ.
ومعنى البيتِ: فَخُذ القولَ في علمِ الفرائضِ على مذهبِ زيدِ بنِ ثابتٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ قولاً مُخْتَصَراً واضِحاً مُنَزَّهاً عنْ عَيْبِ الخَفَا.

مُقَدِّمَةُ عِلْمِ الْفَرَائِضِ
هوَ فِقْهُ المواريثِ، وعلمُ الحسابِ المُوصِلُ لمعرفةِ ما يَخُصُّ كلَّ ذي حقٍّ من التَّرِكَةِ.
ومَوْضُوعُهُ: التَّرِكَاتُ، لا العَدُّ، خِلافاً لِمَنْ زَعَمَ ذلكَ.
واعْلَمْ أنَّهُ يَتَعَلَّقُ بتركةِ المَيِّتِ خمسةُ حُقُوقٍ مُرَتَّبَةٍ:
أَوَّلُها: الحقُّ المُتَعَلِّقُ بعينِ التركةِ؛ كالزكاةِ، والجِنَايَةِ، والرهنِ، فَيُقَدَّمُ على مُؤْنَةِ التجهيزِ.
والثاني: مُؤَنُ التجهيزِ بالمعروفِ، فإنْ كانَ المَيِّتُ فاقداً لِمَا يُجَهِّزُهُ فتَجْهِيزُهُ على مَنْ عليهِ نَفَقَتُهُ في حالةِ الحياةِ، فإنْ تَعَذَّرَ ففي بيتِ المالِ، فإنْ تَعَذَّرَ فعلى أغنياءِ المسلمينَ. وهذا في غيرِ الزَّوْجَةِ. أَمَّا الزوجةُ التي تَجِبُ نَفَقَتُها فَمَئُونَةُ تَجْهِيزِها على الزوجِ المُوسِرِ، ولوْ كانتْ غَنِيَّةً.
والثالثُ: الدُّيُونُ المُرْسَلَةُ في الذِّمَّةِ، فهيَ مُؤَخَّرَةٌ عنْ مَئُونَةِ التجهيزِ.
والرابعُ: الوَصِيَّةُ بالثُّلُثِ فما دُونَهُ لأجنبيٍّ، فإنْ كانتْ بخلافِ ذلكَ ففيها تفصيلٌ مذكورٌ في كُتُبِ الفقهِ، كَبَقِيَّةِ الحقوقِ السابقةِ.
والخامسُ: الإِرْثُ، وهوَ المقصودُ بالذاتِ في هذا الكتابِ. ولَهُ أركانٌ ثلاثةٌ: مُوَرِّثٌ، وَوَارِثٌ، وحَقٌّ مَوْرُوثٌ. ولهُ شروطٌ يُعْلَمُ أَكْثَرُهَا منْ ميراثِ الغَرْقَى والهَدْمَى، وستأتي آخرَ الكتابِ. ولَهُ أسبابٌ وموانعُ ذَكَرَهُما بقولِهِ: (بابُ أَسْبَابِ المِيرَاثِ).


  #3  
قديم 3 ذو الحجة 1429هـ/1-12-2008م, 08:56 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي حاشية الشيخ: إبراهيم الباجوري على الفوائد الشنشورية

الحَمْدُ للَّهِ الذي يَرِثُ الأَرضَ ومَنْ عَليها، وهو خيرُ الوارثينَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللَّهُ وحـدَهُ لا شَرِيكَ لهُ، قَيُّومُ السماواتِ والأَرَضِينَ، وَأَشْهَدُ أنَّ سيِّدَنَا محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، أفضلُ الخلقِ أَجْمَعِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى آلهِ وصَحْبِهِ الذينَ شَادُوا الدِّينَ.
(أَمَّا بَعْدُ)، فَيَقُولُ العبدُ الفقيرُ إلى مولاهُ القديرِ إبراهيمُ البَاجُورِيُّ ذو التَقْصِيرِ، قدْ طَلَبَ مِنِّي بعضُ الأحبابِ الأذكياءِ الأنْجَابِ أنْ أَكْتُبَ حَاشِيَةً على الفوائدِ الشَّنْشُورِيَّةِ في شَرْحِ المَنْظُومَةِ الرَّحْبِيَّةِ، تُبْرِزُ ما فيها قد اسْتَتَرَ، وتَجمعُ ما في حَوَاشيها قد انْتَشَرَ، فَأَجَبْتُهُ لِمَا طَلَبَ مُتَوَسِّلًا بسيِّدِ العَجَمِ والعَرَبِ، وَسَمَّيْتُهَا التُّحْفَةَ الخَيْرِيَّةَ على الفوائدِ الشَّنْشُورِيَّةِ، وها أنا قَدْ شَرَعْتُ في المقصودِ بعونِ اللَّهِ المَلِكِ المعبودِ، فَقُلْتُ وباللَّهِ التوفيقِ لِأَهْدَى سبيلٍ وَأَقْوَمِ طريقٍ.

قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، ابْتَدَأَ الشَّارِحُ بالبَسْمَلَةِ، ثمَّ بالحَمْدَلَةِ اقتداءً بالكتابِ العزيزِ، وَعَمَلًا بخبرِ: "كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهُوَ أَبْتَرُ أَوْ أَقْطَعُ أَوْ أَجْذَمُ"، أي: نَاقِصٌ وقليلُ البركةِ، وخبرِ:" كُلِّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ" إلخ. واسْتَشْكَلَ العلماءُ هَاتَيْنِ الروايتَيْنِ بأنَّ بَيْنَهُمَا تَعَارُضًا؛ لأنَّهُ إِن ابتَدَأَ الشَّخْصُ بالبسملةِ فَاتَهُ البداءةُ بالحَمْدَلَةِ، وبالعكسِ، وَأُجِيبَ بِأَجْوِبَةٍ، أَشْهَرُهَا أنَّ الابتداءَ نَوْعَانِ: حَقِيقِيٌّ وَإِضَافِيٌّ.
فَالأَوَّلُ: هو الابتداءُ بما تَقَدَّمَ أَمَامَ المَقصودِ، ولم يسبِقْهُ شيءٌ، وعليهِ حُمِلَ حديثُ البسملةِ.
والثاني: هو الابتداءُ بما تَقَدَّمَ أَمامَ المقصودِ سَبَقَهُ شيءٌ أمْ لا، وعليهِ حُمِلَ حديثُ الحمدلةِ، ولم يُعْكَسْ معَ اندفاعِ التعارُضِ بهِ أيضًا للكتابِ وللإجماعِ، ثم إنَّ بَعْضَهُم قالَ: يُنَاسِبُ البسملةَ مِنْ فَنِّ الفرائضِ كذا، ككَوْنِ الباءِ باثْنَيْنِ عددِ أصحابِ الرُّبْعِ مثلًا، وَنَاقَشَهُ المُحَقِّقُ الأميرُ بأنَّ هذا لا يَلِيقُ؛ لأنَّ فيهِ إِخْرَاجًا لأشرفِ الجُمَلِ من المعاني الجليلةِ إلى المعاني المُبْتَذَلَةِ الرَكِيكَةِ. وأجابَ بَعْضُهُم بأنَّ هذا مأخوذٌ بطريقِ الرمزِ والإشارةِ لا بطريقِ التصريحِ والعبارةِ؛ فإنَّ البسملةَ مُشِيرَةٌ وَمُتَضَمِّنَةٌ لجميعِ معاني القرآنِ كما هو مشهورٌ، ومنْ جُمْلَةِ معاني القرآنِ معاني آياتِ المواريثِ. فَتَدَبَّرْ.
قَوْلُهُ: (الحَمْدُ للَّهِ)، إِنَّمَا اختارَ التعبيرَ بالجملةِ الاسميَّةِ تَأَسِّيًا بالكتابِ، ولدَلالَتِهَا على الدوامِ والاستمرارِ، لَكِنْ لا بأصلِ الوضْعِ بلْ بالقرينَةِ، فلا يُنَافِي ما صَرَّحُوا بهِ منْ أنَّ نحوَ قولِكَ: زيدٌ مُنْطَلِقٌ، لا يَدُلُّ على أكثرَ مِنْ ثبوتِ الانطلاقِ لزيدٍ. وهذهِ الجملةُ خَبَرِيَّةٌ لَفْظًا إنشائيَّةٌ معنًى، واسْتُشْكِلَ بأنَّ الحَمدَ ثابتٌ للَّهِ أَزَلًا، فلا يُمْكِنُ للعبْدَ إِنْشَاؤُهُ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا لإنشاءِ الثناءِ بمضمونِ الجملةِ الذي هو ثُبُوتُ الحمدُ للَّهِ لا لإنشاءِ نفسِ المضمونِ، حتَّى يُرَدَّ ما ذُكِرَ، ويَصِحُّ أنْ تكونَ خبريَّةً لَفْظًا ومعنًى، واسْتُشْكِلَ بأنَّ المطلوبَ من الشخصِ أنْ يَكُونَ حَامِدًا لا مُخْبِرًا بالحمدِ، فلا يَخْرُجُ الشخصُ منْ عُهْدَةِ الطلبِ بالإخبارِ بالحمدِ، وأُجِيبَ بأنَّ الإخبارَ بالحمدِ حَمْدٌ؛ لأنَّ مَعْنَاهُ الثناءُ بالجَمِيلِ، ولا شكَّ أنَّ الإخبارَ بأنَّ الحمدَ ثابتٌ للَّهِ فيهِ ثناءٌ بجميلٍ، وحينئذٍ فالمُخْبِرُ بالحمدِ حامدٌ، فَيَخْرُجُ منْ عُهْدَةِ الطَّلَبِ بالإخبارِ، لكنَّ الأظهرَ الأوَّلُ.
قَوْلُهُ: (رَبِّ)، يُطْلَقُ على مَعَانٍ نَظَمَهَا بَعْضُهُم في قولِهِ:


قَرِيبٌ مُحِيطٌ مَالِكٌ وَمُدَبِّرٌ = مُرَبٍّ كَثِيرُ الخَيْرِ وَالمُولِي لِلنِّعَمْ
وَخَالِقُنَا المعبودُ جابرُ كَسْرِنَا = وَمُصْلِحُنَا وَالصَّاحِبُ الثابتُ القِدَمْ
وَجَامِعُنَا والسيِّدُ احْفَظْ فهذهِ = مَعَانٍ أَتَتْ لِلرَّبِّ فَادْعُ لِمَنْ نَظَمْ
وَأَصْلُهُ إمَّا رَابِبٌ، فَيَكُونُ اسمَ فاعلٍ حُذِفَتْ أَلِفُهُ تَخْفِيفًا، ثم سُكِّنَت الباءُ الأولَى وَأُدْغِمَتْ في الثانيةِ، وإمَّا رَبِبٌ فَيَكُونُ صِفَةً مُشَبَّهَةً، ثم سُكِّنَت الباءُ الأُولَى وَأُدْغِمَتْ في الثانيةِ، وعلى الأوَّلِ فهوَ منْ رَبَّ كَشَدَّ بمعنى جَمَعَ وأَصْلَحَ، فيكونُ مُتَعَدِّيًا، لا منْ رَبَّى بِأَلِفٍ بعدَ الباءِ المُضَعَّفَةِ، وإلَّا كانَ قِيَاسُهُ مُرَبِّيًا. وعلى الثاني فهوَ منْ رَبَّ كَشَدَّ أيضًا، لكنْ بمعنى لَزِمَ أوْ أقامَ، فيكونُ لازِمًا؛ لأنَّ الصفةَ المشبهةَ لا تُبْنَى من المُتَعَدِّي، أوْ يُجْعَلُ مِمَّا خَرَجَ عن القياسِ، وإضافتُهُ للعالَمِينَ منْ حيثُ افْتِقَارُهُم لهُ افتقارًا مُطْلَقًا.
قَوْلُهُ: (العَالَمِينَ)، التحقيقُ أنَّهُ جَمْعٌ لِعَالَمٍ؛ لأنَّ العالَمَ وَإِنْ كانَ يُطْلَقُ على ما سِوَى اللَّهِ تَعَالى يُطْلَقُ أيضًا على كُلِّ جِنْسٍ، وعلى كلِّ صِنْفٍ، فَيُقَالُ: عَالَمُ الحَيَوَانِ، عالَمُ الإنسانِ، وهكذا. فَيَصِحُّ جَمْعُهُ على عَالَمِينَ بالإطلاقِ الثاني، ويكونُ خَاصًّا بالعُقَلَاءِ؛ لأنَّهُ لا يُجْمَعُ بالواوِ والنونِ إلَّا العقلاءُ.
وقيلَ: يَشْمَلُ غيرَهُم أيضًا، كما صَرَّحَ بهِ الراغِبُ، ولكنْ غَلَّبَ العقلاءَ على غيرِهم في جَمْعِهِ بالواو والنونِ لِشَرَفِهِم.
نعمْ هوَ جَمْعٌ لمْ يَسْتَوْفِ الشروطَ؛ لأنَّ العالَمَ ليسَ بِعَلَمٍ ولا صِفَةٍ، ولا يُجْمَعُ هذا الجَمْعَ إلَّا مَا كانَ عَلَمًا أوْ صِفَةً، على أنَّهُ قدْ جَرَى في الكَشَّافِ على أنَّهُ جَمْعٌ اسْتَوْفَى الشُّرُوطَ؛ لأنَّ العالَمَ في حُكْمِ الصفةِ، فَإِنَّهُ عَلَامَةٌ على وُجُودِ خَالِقِهِ، فما جرى عليهِ الأُستاذُ الحِفْنِيُّ منْ أنَّهُ اسمُ جَمْعٍ، وَتَبِعَهُ عليهِ بعضُ الحواشِي خِلَافَ التحقيقِ، وقَدْ عَلَّلُوا كَوْنَهُ اسمَ جَمْعٍ لا جَمْعًا بأنَّ عَالَمًا ليسَ بِعَلَمٍ ولا صِفَةٍ، وبأنَّ شَأْنَ الجمعِ أنْ يكونَ أَعَمَّ منْ مُفْرَدِهِ، وهنا بالعكسِ؛ فإنَّ العالَمَ اسمٌ لجميعِ ما سِوَى اللَّهِ تعالى، والعالَمِينَ خاصٌّ بالعُقَلاءِ، ولو خَصَّ العالَمَ بالعقلاءِ فقطْ لم يُفِدْ؛ لأنَّ غايةَ ما يُسْتَفَادُ بذلكَ مساواةُ المفردِ لِجَمْعِهِ، وشأنُ الجمْعِ أنْ يكونَ أَعَمَّ كما عَلِمْتَ. وَنَاقَشَهُ المُحَقِّقُ الأميرُ في ذلكَ بأنَّ التعليلَ الأوَّلَ لا يُنْتِجُ أنَّهُ اسمُ جَمْعٍ، وإِنَّمَا يُنْتِجُ أنَّهُ جَمْعٌ لم يَسْتَوْفِ الشروطَ، فلا يَنْقَاسُ جَمْعُهُ هذا الجمعَ، وبأنَّ التعليلَ الثاني كما يُبْطِلُ الجمعيَّةَ يُبْطِلُ كَوْنَهُ اسمَ جَمْعٍ؛ فَإِنَّ كُلًّا من الجَمْعِ واسمِ الجَمْعِ لَا بُدَّ أنْ يَكُونَ أَعَّمَ مِنْ مُفْرَدِهِ، أي أكثرَ منهُ، وإلَّا فما معنى كَوْنِهِ اسمَ جَمْعٍ، حيثُ لم يُسَاوِ الجمعَ في ذلكَ. نعمْ، اسمُ الجَمْعِ منْ بابِ الكُلِّ، والجمعُ منْ بابِ الكُلِّيَّةِ، ولذلكَ قالوا: الفرقُ بينَ اسمِ الجمعِ وبَيَنَ الجمعِ أنَّ الأوَّلَ ما دَلَّ على الآحادِ المجتمعَةِ دلالةَ المركَّبِ على أجزائِهِ، فإذا قُلْتَ: جاءَ القومُ، فقدْ حَكَمْتَ على الهيئةِ المجتمعةِ حُكْمًا واحدًا، والثانيَ مَا دَلَّ على الآحادِ المجتمعةِ دلالةَ تكرارِ الواحدِ بحرفِ العطفِ، فإذا قُلْتَ: جاءَ الزَّيْدُونَ، فَقَدْ حَكَمْتَ على كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ، فَكَأَنَّكَ قُلْتَ: جَاءَ زَيْدٌ وَزَيْدٌ، وَهَكَذَا.
قَوْلُهُ: (وَأَشْهَدُ.. إلخ)، هذهِ الجملةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، وليستْ مَعْطُوفَةً على جملةِ الحمدلةِ؛ لعدمِ التناسُبِ بينَ الجملتَيْنِ، فإنَّ جُمْلَةَ الحمدلةِ اسميةٌ، وهذهِ فِعْلِيَّةٌ، وإنْ نَظَرْتَ لِقَوْلِهِم: الجملةُ الاسميةُ أصلُهَا الجملةُ الفعليةُ، والأصلُ أَحْمَدُ حَمْدًا للَّهِ، حَصَلَت المناسبةُ بهذا الاعتبارِ، فَيَحْسُنُ العطفُ حينئذٍ. ومعنى أَشْهَدُ أَعْتَرِفُ بِلِسَانِي معَ الإذعانِ بالقلبِ الذي هوَ حديثُ النفسِ التابعُ للمعرفةِ، ولا يَكْفِي الاعترافُ باللسانِ فَقَطْ كَمَا كانَ يَفْعَلُهُ المنافقونَ، ولا المعرفةُ منْ غيرِ إِذْعَانٍ؛ لأنَّ بعضَ الكفَّارِ يَعْرِفُونَ الحقَّ لكنَّهُم غيرُ مؤمنينَ لِعَدَمِ الإِذعانِ، معَ أنَّ عِندَهُم مَعْرِفَةً، قالَ تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}، وقولُهُ:(أنْ لا إلهَ إلا اللَّهُ)، أيْ أنَّهُ: أي الحالَ والشأنَ لا إلهَ إلَّا اللَّهُ، فَإِنْ مُخفَّفَةٌ من الثَّقِيلَةِ، وَاسْمُهَا ضَمِيرُ الشأنِ، ولا: نافيةٌ للجنسِ، واللَّهُ: اسْمُهَا مَبْنِيٌّ على الفتحِ في محلِّ نصبٍ، وإلَّا: أَدَاةُ حَصْرٍ، ولفظُ الجلالةِ بالرفعِ بَدَلٌ من الضميرِ المُسْتَتِرِ في الخبرِ، أوْ بالنصبِ على الاستثناءِ لا على البَدَلِيَّةِ منْ مَحَلِّ اسمِ لا؛ لأنَّها لا تَعْمَلُ إلَّا في النكرةِ، واسمُ اللَّهِ مَعْرِفَةٌ، وهلْ يُقَدَّرُ الخبرُ منْ مادَّةِ الوجودِ أوْ منْ مادَّةِ الإمْكَانِ؟
اخْتَارَ بَعْضُهُم الأوَّلَ؛ لأنَّهُ لو قُدِّرَ منْ مادَّةِ الإمْكَانِ لم يُفِدْ وُجودَ اللَّهِ تعالى، والراجحُ الثاني؛ لأنَّهُ لو قُدِّرَ منْ مادَّةِ الوجودِ لَمْ يُفِدْ نَفْيَ إمكانِ غَيْرِهِ تعالى من الآلهةِ، معَ أنَّهُ المقصودُ من الكلمةِ المُشَرَّفَةِ، وَأَمَّا وُجُودُهُ تعالى فَمُتَّفَقٌ عليهِ بينَ أرْبابِ المِلَلِ كُلِّهَا، فَلَا ضَرَرَ في عَدَمِ إفادتِهِ على هذا التقديرِ، والمعنى عليه: لا إلهَ مُمْكِنٌ إلَّا اللَّهُ، فَإِنَّهُ مُمْكِنٌ أيْ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، فَيَصْدُقُ بالواجبِ والجائزِ، والواقعُ أنَّهُ وَاجِبٌ، فهوَ كقولِكَ: اللَّهُ موجودٌ بالإمكانِ العامِّ، بمعنى أنَّ عَدَمَ وجودِهِ ليسَ بِوَاجِبٍ بلْ مُسْتَحِيلٌ، فيكونُ وجودُهُ وَاجِبًا. فَضَابِطُ الإمكانِ العامِّ سَلْبُ الضرورةِ، بِمَعْنَى الوجوبِ، عن الطرَفِ المخالفِ لِمَا نَطَقْتَ بهِ، بخلافِ الإمكانِ الخاصِّ فَضَابِطُهُ سَلْبُ الضرورةِ بالمعنى المذكورِ عنْ كُلٍّ من الطرَفِ الموافقِ لِمَا نَطَقْتَ بهِ والمخالفِ لهُ، فَإِذَا قُلْتَ: زيدٌ مَوْجُودٌ بالإمكانِ الخاصِّ، كانَ المعنى: وُجُودُهُ ليسَ بِوَاجِبٍ، وَعَدَمُ وُجُودِهِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَيَكُونُ وُجُودُهُ جَائِزًا، والحَقُّ أنَّ المَنْفِيَّ في الكلمةِ المُشَرَّفَةِ المعبودُ بِحَقٍّ غَيْرَ اللَّهِ باعتبارِ الواقعِ كما انْحَطَّ عليهِ كلامُ الشيخِ الأميرِ، والمعنى: لا مَعْبُودَ بِحَقٍّ في الواقعِ إلَّا اللَّهُ. وفي الكلمةِ الشَّرِيفَةِ أبحاثٌ أُخَرُ مَنْ أَرَادَهَا فَلْيُرَاجِعْهَا.
قَوْلُهُ: (وَحْدَهُ)، أيْ: حَالَ كَوْنِهِ مُنْفَرِدًا، فهوَ حالٌ منْ لفظِ الجلالةِ بِتَأْوِيلِهِ بِنَكِرَةٍ.
وقولُهُ: (لا شَرِيكَ لهُ)، حَالٌ بعدَ حالٍ، فَإِنْ عَمَّمْنَا في كُلٍّ مِنْهُمَا كانت الثانيةُ للتأكيدِ، وإنْ خَصَّصْنَا الأوَّلَ بِكَوْنِهِ وحدَهُ في ذاتِهِ، والثانيَ بِكَوْنِهِ لا شريكَ لهُ في صفاتِهِ ولا في أفعالِهِ، كانت الثانيةُ للتأسيسِ، وهوَ خيرٌ من التأكيدِ.
قَوْلُهُ: (المَلِكُ)، بكسرِ اللامِ من المُلْكِ بِضَمِّ الميمِ، أي: المُتَصَرِّفُ بالأمرِ والنهيِ، سواءٌ كانَ لهُ أعيانٌ مَمْلُوكَةٌ أمْ لا. وأمَّا مَالِكٌ بالألِفِ فهوَ من المِلْكِ بكسرِ الميمِ، أي التصرُّفُ في الأعيانِ المَمْلُوكةِ، سواءٌ كانَ مُتَصَرِّفًا أيضًا بالأمرِ والنهيِ أم لا. وعلى هذا فَبَيْنَهُمَا العمومُ والخصوصُ الوَجْهِيُّ، واللَّهُ تعالى مُتَصَرِّفٌ بالأمرِ والنهيِ، ومتصرِّفٌ في الأعيانِ المملوكةِ لهُ، فهوَ مَلِكٌ ومَالِكٌ؛ ولذلكَ قُرِئَ بهما في قولِهِ تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} . والتفرقةُ بينَ المُلْكِ بِضَمِّ الميمِ والمِلْكِ بكسرِها عُرْفٌ طَارِئٌ، وإلَّا فَهُمَا لُغَتَانِ في مَصْدَرِ مَلَكَ، كما قالَهُ البَيْضَاوِيُّ في تَفْسِيرِهِ.
قَوْلُهُ: (الحقُّ)، أي: الثابتُ منْ حقِّ الشيءِ، ثَبَتَ فهوَ تعالى ثَابِتٌ أَزَلًا وأبدًا، فلم يَسْبِقْهُ ولا يَلْحَقْهُ عدمٌ، بخلافِ ما عدَاهُ؛ فَإِنَّهُ مَسْبُوقٌ بِعَدَمٍ وَمَلْحُوقٌ بهِ، ولو بالقَابِلِيَّةِ كالجنَّةِ والنارِ، وهوَ المرادُ بالبُطْلَانِ في قولِهِ:

أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ
وَيَصِحُّ أنْ يكونَ المعنى: الحقُّ مُلْكُهُ، أيْ أنَّ مُلْكَهُ بطريقِ الحقِّ لا بطريقِ التَّغَلُّبِ، فيكونُ قولُه: (الحقُّ)، احْتِرَاسًا.
قَوْلُهُ: (المُبِينُ)، أَصْلُهُ (مُبْيِنٌ)، بِسُكُونِ الباءِ وكسْرِ الياءِ، نُقِلَتْ حركةُ الياءِ للساكنِ قَبْلَهَا، ومعناهُ المُظْهِرُ للحقِّ فَيُتَّبَعُ، وللباطلِ فَيُجْتَنَبُ، أو المظهِرُ للأمورِ العَجِيبَةِ الدالَّةِ على مُلْكِهِ وَحَقِّيَّتِهِ. وهذا كُلُّهُ إنْ أُخِذَ مِنْ أَبَانَ بِمَعْنَى أَظْهَرَ، فإنْ أُخِذَ مِنْ أَبَانَ بمعنى بَانَ أيْ ظَهَرَ، كانَ مَعْنَاهُ البَيِّنُ الظاهرُ الذي لا خَفَاءَ فيهِ.
قَوْلُهُ: (وَأَشْهَدُ أنَّ.. إلخ)، إِنَّمَا كَرَّرَ لَفْظَ الشهادةِ معَ الاستغناءِ عنهُ بِأَشْهَدُ الأوَّلِ؛ فَإِنَّهُ سُلِّطَ على ذلكَ بِوَاسِطَةِ العطفِ لمزيدِ الاعتناءِ بالشهادةِ المُتَعَلِّقَةِ بِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقولُهُ: (سَيِّدَنَا)، أيْ: جَمِيعِ المخلوقاتِ إِنْسًا وَجِنًّا وَمَلَائِكَةً، والسَّيِّدُ يُطْلَقُ على الحَلِيمِ الذي لا يَسْتَفِزُّهُ غَضَبٌ، وعلى مَنْ كَثُرَ سَوَادُهُ أيْ جَيْشُهُ، وعلى غَيْرِ ذلكَ.
قَوْلُهُ: (مُحَمَّدًا)، بَدَلٌ منْ (سَيِّدَنَا)، وهذا الاسمُ أَشْرَفُ أَسْمَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَشْهَرُهَا بينَ العالَمِينَ؛ ولذا خُصَّتْ بهِ الكلمةُ المُشَرَّفَةُ، وقولُه:(عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ)، خَبَرانِ لِـ (أَنَّ)، وَإِنَّمَا قُدِّمَ الوصفُ بالعبودِيَّةِ على الوصفِ بالرسالةِ امْتِثَالًا لقولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ولكنْ قُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ".
ومعنى العبوديَّةِ هنا التَّذَلُّلُ والخضوعُ، وأمَّا العِبَادَةُ فَمَعْنَاهَا غايةُ التَّذَلُّلِ والخضوعِ، فالعبادةُ أَبْلَغُ من العبوديَّةِ، ولكنَّهَا وَصْفٌ شَرِيفٌ جَلِيلٌ، ولذلِكَ وُصِفَ بِهَا في أَسْمَى المقاماتِ، كَمَقَامِ الإسراءِ وَمَقَامِ إنزالِ الكتابِ وغيرِ ذلكَ، وَمِمَّا يُعْزَى للقاضي عِيَاضٍ:

وَمِمَّا زَادَنِي شَرَفًا وَتِيهًا = وَكِدْتُ بِأَخْمَصِي أَطَأُ الثُّرَيَّا
دُخُولِي تَحْتَ قَوْلِكَ يَا عِبَادِي = وَأَنْ صَيَّرْتَ أَحْمَدَ لِي نَبِيَّا
وفي جَمْعِهِ بينَ العبدِ والسيِّدِ من المُحَسِّنَاتِ البَدِيعِيَّةِ جناسُ الطِّبَاقِ، وهوَ الجمعُ بينَ ضِدَّيْنِ في الكلامِ.
قَوْلُهُ: (خَاتَمُ النَّبِيِّينَ والمُرْسَلِينَ)، بُحِثَ فيهِ بأنَّهُ يَلْزَمُ منْ خَتْمِ الأعمِّ خَتْمُ الأخَصِّ، فَذِكْرُ المرسلِينَ مُسْتَدْرَكٌ، وأُجِيبَ بأنَّهُ ذَكَرَهُمْ لِشَرَفِهِمْ.
قَوْلُهُ: (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، إِنَّمَا اختارَ التعبيرَ بالماضي إشارةً إلى تَحَقُّقِهِمَا، كَمَا قَالُوهُ في {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ}.
وقولُهُ: (عليهِ)، أيْ على سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ. وفي التعبيرِ بِعَلَى إشارةٌ إلى أنَّ الصلاةَ والسلامَ تَمَكَّنَا منهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَكُّنِ المُسْتَعْلِي من المُسْتَعْلَى عليهِ، ففي الكلامِ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ في الحرفِ، وَتَقْرِيرُهَا أنْ يُقَالَ: شَبَّهَ مُطْلَقَ ارتباطِ دُعَاءٍ بِمَدْعُوٍّ لهُ بِمُطْلَقِ ارتباطِ مُسْتَعْلٍ بِمُسْتَعْلًى عَلَيهِ، فَسَرَى التشبيهُ من الكُلِّيَّاتِ للجزئياتِ، واسْتُعِيرَتْ على مِن ارتباطِ مُسْتَعْلٍ بِمُسْتَعْلًى عَلَيْهِ خَاصَّيْنِ لِارْتِبَاطِ دُعَاءٍ بِمَدْعُوٍّ لهُ خَاصَّيْنِ، والتحقيقُ أنَّ صَلَّى يِتَعَدَّى بعلى، فلا حَاجَةَ لِلاسْتِعَارَةِ.
قَوْلُهُ: (وَعَلى آلِهِ)، عَطْفٌ على الضميرِ في عليهِ بإعادةِ الخافضِ؛ لأنَّهُ لا يَجُوزُ العطفُ على الضميرِ المجرورِ منْ غيرِ إعادةِ الجارِّ عندَ الجمهورِ، وأجازَهُ ابنُ مَالِكٍ، وللإشارةِ إلى أنَّ العَطِيَّةَ الواصلةَ للآلِ والصَّحْبِ دونَ العَطِيَّةِ الواصلةِ لهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنَّمَا قَدَّمَ الآلَ على الصَّحْبِ؛ لأنَّ الصلاةَ على الآلِ ثَابِتَةٌ بالنصِّ كقولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ". وأمَّا الصلاةُ على الصَّحْبِ فهيَ ثَابِتَةٌ بالقياسِ، والمرادُ بالآلِ في مَقَامِ الدعاءِ كُلُّ مُؤْمِنٍ ولو عَاصِيًا، وَفِي مقامِ المَدْحِ الأنقياءُ، وَفِي مقامِ الزكاةِ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو المُطَّلِبِ، عندنا مَعَاشِرَ الشافعيَّةِ. وأمَّا عندَ المالكيَّةِ فَبَنُو هَاشِمٍ فقطْ.
قَوْلُهُ: (وَصَحْبِهِ)، عَطْفٌ على الآلِ، وهوَ منْ عَطْفِ الخاصِّ على العامِّ عُمُومًا مُطْلَقًا، لِمَا عَلِمْتَ منْ أنَّ المرادَ بالآلِ في مقامِ الدعاءِ كُلُّ مُؤْمِنٍ ولوْ عاصيًا. وأمَّا بالنَّظَرِ لإطلاقِ الآلِ على بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي المُطَّلِبِ فيكونُ منْ عَطْفِ الخاصِّ منْ وَجْهٍ على العامِّ منْ وَجْهٍ؛ فَإِنَّهُ يَجْتَمِعُ الآلُ والصحبُ في سَيِّدِنَا عَلِيٍّ، وَيَنْفَرِدُ الصَّحَابِيُّ في سَيِّدِنَا أبي بَكْرٍ، وَيَنْفَرِدُ الآلُ في الأشرافِ الآنَ.
قَوْلُهُ: (أَجْمَعِينَ)، تَأْكِيدٌ لِكُلٍّ مِن الآلِ والصحبِ.
قَوْلُهُ: (صَلَاةً وَسَلَامًا)، هما اسْمَا مَصْدَرٍ لِصَلَّى وَسَلَّمَ، منصوبانِ على المفعوليَّةِ المُطْلَقَةِ، مُبَيِّنَانِ لنوعِ عَامِلِهِمَا، وهوَ الصلاةُ والسلامُ الدائِمَانِ.
قَوْلُهُ: (دَائِمَيْنِ)، اسْتُشْكِلَ بأنَّ الصلاةَ والسلامَ لَفْظَانِ يَنْقَضِيَانِ بِمُجَرَّدِ النُّطْقِ بهما، فكيفَ يُوصَفَانِ بالدوَامِ، وَأُجِيبَ بأنَّ المرادَ دَائِمَيْنِ منْ حيثُ ثَوَابُهُمَا، وهذا مُتَضَمِّنٌ للدعاءِ بِقَبُولِ صَلَاةِ المُصَلِّي وَسَلَامِهِ وَبِاسْتِمْرَارِ إِيمَانِهِ وَمَوْتِهِ على الإيمانِ. والحقُّ أنَّ الصلاةَ والسلامَ هنا مَطْلُوبَانِ من اللَّهِ تعالى، والدوامَ وَصْفٌ لَهُمَا حَقِيقَةً، ولا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ قولُهُ دَائِمَيْنِ نَعْتًا مَوْصُولًا لاختلافِ العامِلَيْنِ مَعْنًى، ولا مَقْطُوعًا؛ لأنَّ شَرْطَهُ تَعَيُّنُ المَتْبُوعِ بدونِ النَّعْتِ، وهنا لمْ يَتَعَيَّنْ هلْ هما دَائِمَانِ أوْ لا، وحينئذٍ فَهِيَ حَالٌ من النكرةِ، وإنْ كانَ قَلِيلًا على حَدِّ: "صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ فِي مَرَضِهِ جَالِسًا وَصَلَّى وَرَاءَهُ رِجَالٌ قِيَامًا"، كذا قالَهُ الشمسُ الحِفْنِيُّ. وَنُوقِشَ بِتَوْجِيهِ كونِهِ موصولًا بأنَّ العامِلَيْنِ فِي حُكْمِ المُتَّحِدَيْنِ معنًى؛ إذْ مَعْنَى الصلاةِ الرحمةُ والتعظيمُ، ومعنى السلامِ التَّحِيَّةُ، وهيَ رَحْمَةٌ وتعظيمٌ. وَنُوقِشَ أيضًا بِتَوْجِيهِ كَوْنِهِ مَقْطُوعًا بأنَّ المتبوعَ في هذا المقامِ مُتَعَيِّنٌ، فإنَّ اللائقَ بهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاةُ والسلامُ الدائمانِ، على أنَّهُ يُمْكِنُ التَّخَلُّصُ من القلَّةِ بِجَعْلِهِ حَالًا منْ محذوفٍ معَ العاملِ فيها، والتقديرُ أَطْلُبُهُمَا دَائِمَيْنِ.
قَوْلُهُ: (إلى يَوْمِ الدِّينِ)، أيْ: إلى يومِ الجزاءِ الذي هوَ يَوْمُ القيامةِ، وأَوَّلُهُ النفْخَةُ الثانيةُ، ولا انتهاءَ لهُ، وقيلَ انتِهَاؤُهُ باستقرارِ أهلِ الجنَّةِ في الجنَّةِ، وأهلِ النارِ في النارِ. والغرضُ منْ ذلكَ التأْبِيدُ كما هوَ عادةُ العربِ، فإنَّ عَادَتَهُمْ أنَّهُمْ يَأْتُونَ بمثلِ ذلكَ وَيُرِيدُونَ منهُ التأبيدَ، كما في قولِهِ:
إِذَا غَابَ عَنْكُمْ أَسْودُ العَيْنِ كُنْتُمْ = كِرَامًا وأَنْتُمْ ما أَقَامَ أَلَائِمُ
أيْ: إذا غابَ عنكمْ أَسْوَدُ العينِ، وَهُو جَبَلٌ مَعْرُوفٌ، كُنْتُمْ كِرَامًا، وَأَنْتُمْ أَلَائِمُ مُدَّةَ إِقَامَتِهِ، أيْ دَائِمًا وَأَبَدًا، فَتَكُونُ الغايةُ دَاخِلَةً على خِلَافِ الغالبِ في الْمِغْيَابَالِي. وَالمُنَاسِبُ للتأبيدِ أنْ يُرَادَ بيومِ الدينِ ما لا انْتِهَاءَ لهُ كما هوَ القولُ الأوَّلُ.
قَوْلُهُ: (وبعدُ)، قد اشْتُهِرَ أنَّ الواوَ نَائِبَةٌ عنْ أمَّا، وهيَ نائِبَةٌ عنْ مَهْمَا. والأصلُ الأصيلُ مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ، فيقولُ: بَعْدُ إلخ، فَحُذِفَتْ مَهْمَا وَيَكُنْ وَمِنْ شَيْءٍ، وَأُقِيمَتْ أَمَّا مَقَامَ ذلكَ، فصارَ أَمَّا بَعْدُ. وبعضُ العلماءِ يُعَبِّرُ بذلكَ فيقولُ: أمَّا بَعْدُ، وهوَ السُّنَّةُ؛ لأنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ فَقالَ: "أَمَّا بَعْدُ". وَبَعْضُهُمْ يَحْذِفُ أَمَّا وَيُعَوِّضُ عنها الواوَ فيقولُ: وَبَعْدُ، كما هنا، فالواوُ نائِبَةُ النائبِ. وَيَصِحُّ أنْ تَكُونَ للاستئنافِ، أوْ لِعَطْفِ قِصَّةٍ على قِصَّةٍ، والظرفُ مَبْنِيٌّ على الضَّمِّ لِحَذْفِ المُضَافِ إليهِ وَنِيَّةِ مَعْنَاهُ، أي النسبةِ التَّقْيِيدِيَّةِ التي بَيْنَ المضافِ والمضافِ إليهِ، وهذهِ كلمةٌ يُؤْتَى بها للانتقالِ منْ أسلوبٍ إلى أسلوبٍ آخَرَ، أي منْ نوعٍ من الكلامِ إلى نوعٍ آخَرَ، وبينَ النوعَيْنِ نَوْعُ مُنَاسَبَةٍ كما هنا، فإنَّ بَيْنَ ما قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا نَوْعَ مُنَاسَبَةٍ؛ لأنَّ كُلًّا تَمْهِيدٌ للتأليفِ، فهيَ منْ قَبِيلِ الاقتضابِ المَشُوبِ بالتَّخَلُّصِ، أي الاقتطاعِ المخلوطِ بالتَّخَلُّصِ، وأمَّا الاقتضابُ المَحْضُ أي الاقتطاعُ الخالصُ فهوَ الانتقالُ منْ كلامٍ إلى آخرَ لا مناسبةَ بينهما، كما في قولِهِ:

لَوْ رَأَى اللَّهُ أنَّ في الشيْبِ خَيْرًا = جَاوَرَتْهُ الوِلْدَانُ في الخُلْدِ شَيْبَا
كُلَّ يَوْمٍ تُبْدِي صُرُوفُ اللَّيَالِي = خُلُقًا منْ أبي سعيدٍ غَرِيبَا
فلا مناسبةَ بينَ البيتِ الأوَّلِ والثاني، فَيُسَمَّى الانتقالُ في ذلكَ الاقتضابَ المَحْضَ. وأمَّا التَّخَلُّصُ المَحْضُ فهوَ الانتقالُ منْ كلامٍ إلى آخَرَ معَ المناسبةِ الظاهرةِ، كما في قولِهِ:
أَمَطْلَعَ الشمسِ تَبْغِي أنْ تَؤُمَّ بِنَا = فَقُلْتُ كَلَّا وَلَكِنْ مَطْلَعَ الجُودِ
فبينَ مَطْلَعِ الشمسِ ومطلعِ الجودِ مُنَاسَبَةٌ ظَاهِرَةٌ، فَيُسَمَّى الانتقالُ في ذلكَ التَّخَلُّصَ المَحْضَ. والحاصلُ أنَّ أقسامَ الانتقالِ ثلاثةٌ: اقتضابٌ مَحْضٌ ، وَتَخَلُّصٌ مَحْضٌ ، واقْتِضَابٌ مَشُوبٌ بِتَخَلُّصٍ، وَبَقِيَتْ أَبْحَاثٌ في هذهِ الكلمةِ مَشْهُورَةٌ لا نُطِيلُ بِذِكْرِهَا.
قَوْلُهُ: (فَيَقُولُ)، الفَاءُ وَاقِعَةٌ في جوابِ أَمَّا التي نَابَتْ عَنْهَا الواوُ، أوْ في جوابِ الواوِ النائبةِ عنْ أمَّا، وهذا على جَعْلِهَا نائبةً عنْ أمَّا. وأمَّا على جَعْلِهَا للاستئنافِ أوْ للعطفِ، فتكونُ الفاءُ زائدةً أوْ واقعةً في جوابِ أمَّا المُتَوَهَّمَةِ. وكانَ مُقْتَضَى الظاهرِ أنْ يَقُولَ: فَأَقُولُ، بهَمْزَةِ التَّكَلُّمِ، فَعُدُولُهُ إلى ياءِ الغيبَةِ فيهِ الْتِفَاتٌ على مَذْهَبِ السَّكَاكِيِّ وَحْدَهُ القَائِلِ بأنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ في تَسْمِيَتِهِ الْتِفَاتًا أَنْ يَتَقَدَّمَ عليهِ ما يُوَافِقُ الظَاهِرَ، هذا إنْ لمْ يُنْظَرْ لقولِهِ: أَشْهَدُ فيما تَقَدَّمَ، ولا لِمُتَعَلَّقِ البسملةِ كَأُؤَلِّفُ، فإنْ نُظِرَ لذلكَ كانَ الْتِفَاتًا أيضًا على مَذْهَبِ الجمهورِ القائلِينَ بأنَّهُ يُشْتَرَطُ في تَسْمِيَتِهِ الْتِفَاتًا أنْ يَتَقَدَّمَ مَا ذُكِرَ. ولا بُدَّ لِلالْتِفَاتِ منْ نُكْتَةٍ، وَنُكْتَتُهُ هُنَا التَّوَصُّلُ إلى وَصْفِ نَفْسِهِ بالافتقارِ لرحمةِ رَبِّهِ على وَجْهِ كَوْنِهِ عُمْدَةً؛ فَإِنَّهُ إذا قَالَ: فَأَقُولُ حَالَ كَوْنِي فَقِيرًا، مَثَلًا كَانَ فَضْلَةً.
قَوْلُهُ: (الفَقِيرُ)، أيْ كَثِيرُ الافتقارِ إنْ جُعِلَ صِيغَةَ مُبَالَغَةٍ، أوْ دَائِمَةٌ إنْ جُعِلَ صِفَةً مُشَبَّهَةً، وهوَ مَأْخُوذٌ منْ قولِهِ تعالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ}.
وَقَوْلُهُ: (لِرَحْمَةِ رَبِّهِ)، أيْ إِحْسَانِهِ، فهيَ صِفَةُ فِعْلٍ بِخِلَافِ ما لو فُسِّرَتْ بِإِرَادَةِ الإحسانِ، فإنَّها صِفَةُ ذَاتٍ، لَكِنَّ المناسبَ هنا الأوَّلُ، وقدْ تَقَدَّمَ الكلامُ على الرَّبِّ.
قَوْلُهُ: (القريبِ)، أيْ: قُرْبًا مَعْنَوِيًا لَا حِسِّيًّا؛ لِاسْتِحَالَتِهِ عليهِ تعالى.
وقولُهُ: (المُجِيبِ)، أيْ: لِمَنْ دَعَاهُ، ولا يَخْفَى ما في هذيْنِ الوَصْفَيْنِ مِن التَّلْمِيحِ لقولِهِ تَعَالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ}.
قَوْلُهُ: (عَبْدُ اللَّهِ)، بَدَلٌ أوْ عطفُ بَيَانٍ، وهوَ اسمُ المُؤَلِّفِ.
وقولُه: (الشَّنْشُورِيُّ)، ضَبَطَهُ بَدْرُ الدِّينِ القَرَافِيُّ بِشِينَيْنِ مُعْجَمَتَيْنِ، الأولى مَفْتُوحَةٌ، وَالثانيةُ مَضْمُومَةٌ، وهذا هوَ المشهورُ على الأَلْسِنَةِ، وَضَبَطَهُ البُولَاقِيُّ بِكَسْرِ الشِّينِ الأُولَى، وَفَتْحِ الثانيةِ، وهيَ نِسْبَةٌ لِشِنْشَوْرَ، بَلْدَةٌ بِالمُنُوفِيَّةِ.
وقولُهُ: (الشَّافِعِيُّ)، أي المُتَعَبِّدُ على مَذْهَبِ الإمامِ الشافعيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، فهوَ نِسْبَةٌ لِلشَّافِعِيِّ. والقاعدةُ أنَّهُ إِذَا حَوَى المنسوبُ إليهِ يَاءَ النَّسَبِ تُحْذَفُ، وَيُؤْتَى بِأُخْرَى كما قالَ ابنُ مَالِكٍ:

وَمِثْلُهُ مِمَّا حَوَاهُ احْذِفْ
وقولُهُ: (الفَرْضِيُّ)، نِسْبَةٌ لِلفَرَائِضِ لِعِلْمِهِ بها. وَسَيَأْتِي الكلامُ على ذلكَ عِنْدَ قولِ المُصَنِّفِ عنْ مذهبِ الإمامِ زيدٍ الفَرْضِيِّ.
قَوْلُهُ: (الخَطِيبُ)، أيْ بالجامعِ الأزهرِ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ أَوْ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَتِسْعِمِائَةٍ، وَتُوِفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَتِسْعِمِائَةٍ، وَدُفِنَ فِي المُجَاوِرِينَ بالصحراءِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى رَحْمَةً وَاسِعَةً.
قَوْلُهُ: (قدْ سَأَلَنِي.. إلخ)، هذهِ الجملةُ في مَحَلِّ نَصْبِ مَقُولِ القَوْلِ، وقدْ لِلتَّحْقِيقِ، وَسَأَلَ بِمَعْنَى طَلَبَ،
وَقَوْلُهُ: (وَلَدِي عَبْدُ الوَهَّابِ)، كَانَ شَابًّا نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ تعالى مُوَاظِبًا على الاشْتِغَالِ بالعلمِ الشريفِ، وَتُوِفِّيَ ولهُ من العُمْرِ نَحْوَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ سَنَةً.
قَوْلُهُ: (وَفَّقَهُ اللَّهُ)، هذهِ جملةٌ مُعْتَرِضَةٌ بينَ مَفْعُولَيْ سَأَلَ، قُصِدَ بِهَا إِنْشَاءُ الدعاءِ لِوَلَدِهِ بالتوفيقِ، وهوَ خَلْقُ قُدْرَةِ الطاعةِ في العبدِ، ولا حاجةَ لِقَوْلِ بَعْضِهِم: وَتَسْهِيلُ سَبِيلِ الخيرِ إليهِ، لَيُخْرِجَ الكَافِرَ؛ لأنَّ الراجحَ أنَّ المرادَ بالقدرةِ عَرْضٌ يُقَارِنُ الفعلَ، يَخْلُقُهُ اللَّهُ تعالى في العبدِ، ولم يُوجَدْ من الكافرِ فِعْلُ الطاعةِ حتَّى تُقَارِنَهُ تلكَ القدرةُ، فهوَ خَارِجٌ منْ أوَّلِ الأمرِ. فإنْ فُسِّرَتْ بسلامةِ الآلاتِ أي الأعضاءِ كاليدِ والرِّجْلِ، وإنْ كانَ هذا التفسيرُ مَرْجُوحًا، احْتِيجَ لزيادةِ ما ذُكِرَ لِيُخْرِجَ الكافرَ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُوَفَّقٍ معَ سلامةِ آلاتِهِ، فإنْ عَمَّ كانَ تَوْفِيقًا عَامًّا، أيْ مُتَعَلِّقًا بجميعِ الطاعاتِ. وَإِنْ خَصَّ كانَ تَوْفِيقًا خَاصًّا أيْ مُتَعَلِّقًا بِبَعْضِ الطاعاتِ، ولم يُذْكَرْ في القرآنِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، ولذلكَ يَقُولُونَ: التوفيقُ عَزِيزٌ.
قَوْلُهُ: (لِلصَّوَابِ)، أيْ: للأمرِ المُوَافِقِ للواقعِ، كأنَّهُ ارْتَكَبَ التجريدَ حتَّى احتاجَ لِقَوْلِهِ: للصوابِ، فَأَرَادَ من التوفيقِ خَلْقَ القُدْرَةِ فقطْ، فكأنَّهُ قالَ: خَلَقَ فيهِ قُدْرَةً للصوابِ، أيْ لِمَوَافَقَةِ الواقعِ، أوْ أنَّهُ رَأَى أنَّ المقامَ يَقْتَضِي الإطنابَ.
قَوْلُهُ: (أنْ أَشْرَحَ)، في تأويلِ مَصْدَرٍ مَفْعُولٍ ثَانٍ لِسَأَلَ، والمفعولُ الأوَّلُ هوَ الياءُ في سَأَلَنِي، أيْ سَأَلَنِي شَرْحًا، والشرحُ لُغَةً: الكَشْفُ والبيانُ، ومنهُ قَوْلُهُم: اشْرَحْ لِي ما في ضَمِيرِكَ، وَاصْطِلَاحًا: أَلْفَاظٌ مَخْصُوصَةٌ دَالَّةٌ على مَعَانٍ مَخْصُوصَةٍ على وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، كَبَيَانِ الفاعلِ والمفعولِ، وَتَفْسِيرِ الضميرِ، وغيرِ ذَلِكَ.
وقولُهُ: (المَنْظُومَةَ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، أي المُقَدِّمَةَ المَنْظُومَةَ مِن النَّظْمِ، وهوَ لُغَةً: الجَمْعُ، وَاصْطِلَاحًا: الكلامُ المَوْزُونُ المُقَفَّى قَصْدًا بِخِلَافِ ما إذا كانَ لا قَصْدًا، كما يَقَعُ في القرآنِ؛ فَإِنَّهُ لمْ يُقْصَدْ كَوْنُهُ نَظْمًا. وَفِي كلامِ الشارحِ إِشَارَةٌ إلى أنَّ ما كانَ مِنْ بَحْرِ الرَّجَزِ يُسَمَّى نَظْمًا، خِلَافًا لِمَنْ قالَ: يُعَدُّ نَثْرًا.
وقولُهُ: (الرَّحْبِيَّةَ)، أي المَنْسُوبَةَ لِمُؤَلِّفِهَا الإمامِ أبي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بنِ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ الرَّحْبِيِّ المَعْرُوفِ بِابْنِ التَّقِنَةِ، كَذَا في اللؤلؤةِ وغيرِهَا. وَفِي البَرَمَاوِيِّ: عَلِيٌّ السِّبْطُ، بَدَلُ الحُسَيْنِ الحَسَنُ، وفيهِ أنَّهُ عُرِفَ بِابْنِ مُوَفَّقِ الدِّينِ. ا هـ. وَيُمْكِنُ الجَمْعُ.
وَفِي شَرْحِ النَّبْتِيتِيِّ وغيرِهِ: ابنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ. ا هـ. والرَّحْبِيُّ نِسْبَةٌ للرَّحْبَةِ، وَفِي القاموسِ لها مَعَانٍ: مِنْهَا قَرْيَةٌ بِدِمِشْقَ أو اليَمَامَةِ، وَمَوْضِعٌ بِبَغْدَادَ، قال: وَبَنُو رَحْبَةَ بَطْنٌ مِنْ حِمْيَرَ، وَبَنُو رَحَبٍ مُحَرَّكًا بَطْنٌ مِنْ هَمْدَانَ، ولم يُعْلَمْ مَا يُنْسَبُ المؤلِّفُ لهُ منْ ذلكَ.
قَوْلُهُ: (أَسْكَنَ اللَّهُ مُؤَلِّفَهَا)، جملةٌ خَبَرِيَّةٌ لَفْظًا إِنْشَائِيَّةٌ مَعْنًى، قَصَدَ بها الشارحُ إِنْشَاءَ الدعاءِ لِلمُؤَلِّفِ.
وقولُهُ: (الغُرَفُ)، جَمْعُ غُرْفَةٍ بِضَمِّ الأوَّلِ وَفَتْحِ الثانِي فِي الجمعِ وَسُكُونِهِ في المُفْرَدِ، وهوَ المَنْزِلَةُ العاليَةُ، وَتُجْمَعُ أيضًا على غُرُفَاتٍ بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا وَسُكُونِهَا.
وقولُهُ: (العَلِيَّةَ)، صِفَةٌ كَاشِفَةٌ إِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى العَالِيَةِ؛ لأنَّ مِنْ شأنِ الغُرَفِ أنْ تكونَ عَالِيَةً، فإنْ كانتْ بِمَعْنَى الزائدةِ في العُلُوِّ لِكَوْنِهَا صِيغَةَ مُبَالَغَةٍ كَانتْ صِفَةً مُخَصِّصَةً، فكأنَّهُ قَالَ: أَسْكَنَهُ اللَّهُ الأَمْكِنَةَ العاليةَ الزائدةَ في العُلُوِّ على غيرِهَا.
قَوْلُهُ: (فَأَجَبْتُهُ)، مَعْطُوفٌ على سَأَلَنِي، والفَاءُ مُشْعِرَةٌ بِالتَّعْقِيبِ، وهوَ ظَاهِرٌ إِنْ كانت الإجابةُ بالوعْدِ، وكذا إنْ كانتْ بالشروعِ؛ لأنَّ التعقيبَ في كُلِّ شيءٍ بِحَسَبِهِ، ولم يُؤَخِّرْ لاستخارَةٍ أو استشارةٍ لِمَا رَأَى في الإجابةِ من الخيرِ.
وقولُهُ: (لذلكَ)، أيْ: للشَّرْعِ المطلوبِ للسائلِ المستفادِ منْ أَشْرَحَ.
قَوْلُهُ: (سَالِكًا)، حالٌ من التاءِ في أَجَبْتُ.
وقولُه: (من الاختصارِ)، بَيَانٌ لِأَحْسَنِ المسالكِ، مُقَدَّمٌ على المُبِينِ لِأَجْلِ السَّجْعِ، والأصلُ: سَالِكًا أَحْسَنَ المسالكِ من الاختصارِ، أيْ: وذلكَ الأحسنُ هوَ الاختصارُ، وهوَ تَقْلِيلُ اللفظِ وَتَكْثِيرُ المعنى، كما ذَكَرَهُ شيخُ الإسلامِ وغيرُهُ، وبعضُهُمْ قالَ: تَقْلِيلُ اللفظِ، سواءٌ كَثُرَ المعنَى أوْ نَقَصَ أوْ سَاوَى، والمسالكُ جَمْعُ مَسْلَكٍ، وهوَ طَرِيقُ السُّلُوكِ.
قَوْلُهُ: (وَعَمِلْتُهُ)، بِكَسْرِ المِيمِ في الماضي، والضميرُ عائدٌ للشرحِ المفهومِ مِمَّا تَقَدَّمَ، وَعَبَّرَ بالماضي لِقُوَّةِ رَجَائِهِ حُصُولَ مَا ذَكَرَ، وكذا يُقَالُ فيمَا بَعْدُ، فلا يُنَافِي أنَّ الخُطْبةَ سَابِقَةٌ على التأليفِ كما يَقْتَضِيهِ سَابِقُ الكلامِ؛ حيثُ عَبَّرَ فيما تَقَدَّمَ بالفعلِ المضارعِ بِقَوْلِهِ: فَيَقُولُ، وَلَاحَقَهُ حيثُ قَالَ: هذا أوانُ الشُّرُوعِ في المقصودِ، وقولُهُ: عَمَلَ الطَّبِيبِ للحبيبِ، أيْ عَمَلًا كَعَمَلِ الطبيبِ للمحبوبِ. فَفَعِيلٌ الأوَّلُ بمعنى اسْمِ الفاعلِ، والثاني بمعنى مَفْعُولٍ، والغرضُ منْ هذا التشبيهِ بَيَانُ كَمَالِ الاجتهادِ في تحصيلِ المرادِ، لكن اعْتُرِضَ هذا بقولِ الأطبَّاءِ: المُحِبُّ لَا يَطِبُّ مَحْبُوبَهُ، والعاشقُ لا يَطِبُّ مَعْشُوقَهُ، والوالِدُ لا يَطِبُّ وَلَدَهُ، وَأُجِيبَ بأنَّ معنى قَوْلِهِم: المُحِبُّ لَا يَطِبُّ مَحْبُوبَهُ، لا يُعَالِجُهُ في جَسَدِهِ لِئَلَّا يَتَأَلَّمَ، فَلَا يُنَافِي أنَّ المُحِبَّ يَصْنَعُ نَحْوَ مَعْجُونٍ وَيَجْمَعُ فيهِ الأدويةَ النَّافِعَةَ لِمَحْبُوبِهِ، وَيُبَالِغُ في النُّصْحِ لهُ، فالمعنى أنَّ الشيخَ بالغَ في الاجتهادِ في هذا الشرحِ، وَجَمَعَ فيهِ ما يَنْفَعُ الطلبةَ، كما يُبَالِغُ الطبيبُ في صُنْعِ المعجونِ لمحبوبِهِ، وَيَجْمَعُ فيهِ الأدويةَ النافعةَ. وَأَخَذَ الشارحُ ذلكَ منْ قولِ ابنِ هشامٍ في قواعدِهِ: عَمِلْتُهُ عَمَلَ مَنْ طَبَّ لِمَنْ حَبَّ.
قَوْلُهُ: (وَقَرَّبْتُ فيهِ العباراتِ أيَّ تَقْرِيبٍ)، أيْ قَرَّبْتُ في الشرحِ المذكورِ العباراتِ لأذهانِ الطلبةِ تَقْرِيبًا كاملًا، فَقَوْلُهُ: أيَّ تَقْرِيبٍ، مَنْصُوبٌ على المفعوليَّةِ المُطْلَقَةِ، وهوَ مَوْضُوعٌ لإفادةِ الكمالِ، فإنْ قُلْتَ: في كلامِهِ ظَرْفِيَّةُ الشيءِ في نَفْسِهِ؛ لأنَّ العباراتِ هيَ نَفْسُ الشرحِ، قُلْتُ: يُلَاحَظُ في العباراتِ التفصيلُ، وَفِي الشرحِ الإجمالُ، فهوَ منْ ظَرْفِيَّةِ المُفَصَّلِ في المُجْمَلِ، أوْ ظَرْفِيَّةِ الأجزاءِ في الكُلِّ.
قَوْلُهُ: (وَتَعَرَّضْتُ فِيهِ للخلافِ بينَ الأَئِمَّةِ)، أيْ: في الجملةِ، وإِلَّا فَقَدْ لا يَتَعَرَّضْ للخلافِ في كثيرٍ منْ مَسَائِلِهِ، والأئمَّةُ بِتَحْقِيقِ الهَمْزَتَيْنِ وَتَسْهِيلِ الثانيةِ، وَبِهِمَا قُرِئَ في السَّبْعِ، وَبِإِبْدَالِهَا يَاءً، وبها قُرِئَ مِنْ طَرِيقِ الطَّيِّبَةِ لا منْ طَرِيقِ الشَّاطِبِيَّةِ. والمرادُ بالأئمةِ عندَ الإطلاقِ الأئمَّةُ الأربعةُ المجتهدونَ.
قَوْلُهُ: (وَبَيَّنْتُ فيهِ ما اجْتَمَعَتْ عليهِ الأُمَّةُ)، أيْ: في الجملةِ، كما مَرَّ في الذي قبلَهُ. والمرادُ بالأُمَّةِ المجتهدونَ منهم، الأربعةُ المشهورونَ وغيرُهُم، لا غيرُ المجتهدينِ، إذْ لا دَخْلَ لهمْ في الإجماعِ.
قَوْلُهُ: (وَسَمَّيْتُهُ.. إلخ)، أيْ وَضَعْتُ عليهِ هذا الاسمَ. والتحقيقُ أنَّ أسماءَ الكُتُبِ منْ حَيِّزِ عِلْمِ الشخصِ كَأَسْمَاءِ العلومِ، بِنَاءً على أنَّهُ لا يُنْظَرُ لِتَعَدُّدِ الشيءِ بِتَعَدُّدِ مَحَلِّهِ؛ لأنَّهُ تَدْقِيقٌ فَلْسَفِيٌّ لَا يَعْتَبِرُهُ أربابُ العربيَّةِ، فأسماءُ الكُتُبِ مَوْضُوعَةٌ للألفاظِ المَخْصُوصَةِ الدالَّةِ على المعاني المَخْصُوصَةِ، وهيَ إذا كانتْ مُسْتَحْضَرَةً في ذِهْنِ المُصَنِّفِ هيَ بِعَيْنِهَا إذا كانتْ مُسْتَحْضَرَةً في ذِهْنِ غيرِهِ، غَايَةُ الأمرِ أنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ تَعَدَّدَ مَحَلُّهُ، وهكذا أسماءُ العلومِ فهيَ مَوْضُوعَةٌ للقواعدِ المَخْصُوصَةِ، وهيَ إذا كانتْ مُسْتَحْضَرَةً في ذِهْنِ زَيْدٍ هيَ بِعَيْنِهَا إذا كانتْ مُسْتَحْضَرَةً في ذِهْنِ غَيْرِهِ، غايةُ الأمرِ أنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ تَعَدَّدَ مَحَلُّهُ. فإنْ نُظِرَ لِتَعَدُّدِ الشيءِ بِتَعَدُّدِ مَحَلِّهِ كَمَا عَلَيْهِ الحُكَمَاءُ، فَكُلٌّ مِنْ أَسْمَاءِ الكُتُبِ وَأَسْمَاءِ العلومِ منْ قَبِيلِ عِلْمِ الجِنْسِ، فأسماءُ الكُتُبِ مَوْضُوعَةٌ للنوعِ الشاملِ لِمَا فِي ذِهْنِ المُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ، وَأَسْمَاءُ العلومِ كَذَلكِ. فَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا بِجَعْلِ أسماءِ الكُتُبِ منْ حَيِّزِ عِلْمِ الجنسِ، وَأَسْمَاءِ العلومِ مِنْ قَبِيلِ عِلْمِ الشخصِ تَحَكُّمٌ.
قَوْلُهُ: (الفَوَائِدَ.. إلخ)، هذا كُلُّهُ هوَ المَفْعُولُ الثاني، فَكُلُّ كَلِمَةٍ منْ هذا التركيبِ بِمَنْزِلَةِ الزَاي مِنْ زَيْدٍ، فَلا مَعْنَى لَهُ بَعْدَ العَلَمِيَّةِ. وأمَّا في الأصلِ فالفوائدُ جَمْعُ فَائِدَةٍ، وهيَ لُغَةً: مَا اسْتَفَدْتَهُ مِنْ عِلْمٍ أوْ مَالٍ أوْ غَيْرِهِمَا كَجَاهٍ، واصطلاحًا: المَصْلَحَةُ المُتَرَتِّبَةُ على الفِعْلِ منْ حيثُ إِنَّهَا ثَمَرَتُهُ وَنَتِيجَتُهُ. وأمَّا منْ حيثُ إِنَّهَا في طَرَفِ الفعلِ فَتُسَمَّى غايةً، فَهُمَا مُتَّحِدَانِ ذَاتًا مُخْتَلِفَانِ اعْتِبَارًا، كما أنَّ العِلَّةَ والغرضَ كذلكَ، فالعلةُ هيَ المصلحةُ المُتَرَتِّبَةُ على الفعلِ منْ حيثُ إِنَّهَا بَاعِثَةٌ للفاعلِ على الفعلِ. وأمَّا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مَقْصُودَةٌ للفاعلِ من الفعلِ فَتُسَمَّى غَرَضًا، والفائدةُ والغايةُ أَعَمُّ مِن العِلَّةِ والغرضِ عُمُومًا مُطْلَقًا، فَتَجْتَمِعُ الأربعةُ فِيمَا لو حَفَرَ بقصدِ الماءِ وَبَعْدَ تَمَامِ الحفرِ ظَهَرَ الماءُ. وَيُوجَدُ الأَوَّلَانِ ولا يُوجَدُ الأخيرانِ، كما لو حَفَرَ بِقَصْدِ الماءِ فَبَعْدَ تَمَامِ الحفرِ ظَهَرَ كَنْزٌ، فَيُقَالُ لَهُ فَائِدَةٌ وَغَايَةٌ، وَلَا يُقَالُ لَهُ عِلَّةٌ وَلَا غَرَضٌ. وقالَ بَعْضُهُم: قدْ تَنْفَرِدُ الفائدةُ عن الغايةِ فيما لو حَفَرَ بِقَصْدِ الماءِ، فعلى نِصْفِ الحفرِ ظَهَرَ كَنْزٌ ولمْ يَقْطَع الحفرَ بلْ أَتَمَّهُ، فيقالُ لهذا الكَنْزِ فَائِدَةٌ، ولا يُقَالُ لَهُ غَايَةٌ؛ لأنَّهُ لَيْسَ في طَرَفِ الفعلِ. وَرَدَّهُ بَعْضُهُمْ بأنَّهُ في طَرَفِ الفعلِ الذي قَبْلَهُ، وأمَّا الذي بَعْدَهُ فَفِعْلٌ جديدٌ، كما يُعْلَمُ منْ شَرْحِ رِسَالَةِ الوضعِ معَ حَوَاشِيهَا.
وَالشَّنْشُورِيَّةِ نِسْبَةٌ لِلشَّنْشُورِيِّ على الضَّبْطَيْنِ السابِقَيْنِ.
وقولُهُ: (في شَرْحِ.. إلخ)، أي: الكائنةُ في شرحِ إلخ، وهوَ منْ ظَرْفِيَّةِ المدلولِ في الدالِّ. وقدْ عَلِمْتَ أنَّ هذا كُلَّهُ قبلَ العَلَمِيَّةِ، وإلَّا فقدْ صارَ التركيبُ كلُّهُ عَلَمًا.
قَوْلُهُ: (وأَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ المَانَّ)، هكذا في نُسْخَةٍ، وَفِي نُسْخَةٍ المَنَّانَ، وَمَعْنَاهُمَا المُنْعِمُ، إلَّا أنَّ الثانيَ يُفِيدُ الكثرةَ من المَنِّ، وهوَ الإنعامُ، وَيُطْلَقُ المَنُّ أيضًا على تِعْدَادِ النِّعَمِ، وهوَ مَذْمُومٌ إلَّا منهُ تَعَالَى ومن الرسولِ والشيخِ والوالدِ.
وقولُهُ: (بِفَضْلِهِ)، مُتَعَلِّقٌ بِالمَانِّ أو المَنَّانِ على ما تَقَدَّمَ، وَيُحْتَمَلُ تَعَلُّقُهُ بِأَسْأَلُ، وَتَكُونُ الباءِ لِلقَسَمِ.
وقولُهُ: (أنْ يَنْفَعَ بِهِ)، في تأويلِ مَصْدَرٍ مَفْعُولٍ ثانٍ لِـ أَسْأَلُ، وَالأَوَّلُ لَفْظُ الجلالةِ، لكنَّ الأَدَبَ أنْ يُقَالَ مَنْصُوبٌ على التَّعْظِيمِ.
قَوْلُهُ: (كَمَا نَفَعَ بِأَصْلِهِ)، أيْ كَنَفْعِهِ بِأَصْلِهِ، فما مَصْدَرِيَّةٌ، أيْ آلَةٌ في تَأْوِيلِ مَا بَعْدَهَا بِمَصْدَرٍ. وَأَمَّا قَوْلُ العلماءِ تُأَوَّلُ معَ ما بعدَها بِمَصْدَرٍ، فَفِيهِ تَسَمُّحٌ، والمرادُ ما قُلْنَا. والمتبادَرُ أنَّ المرادَ بِأَصْلِهِ الكتبُ التي أَلَّفَ منها هذا الشرحَ، وَيُحْتَمَلُ أنَّ المرادَ بهِ المَتْنُ؛ لأنَّ الشرحَ تَابِعٌ لِلْمَتْنِ، فهوَ أَصْلٌ لهُ.
قَوْلُهُ: (وأنْ يَعْصِمَنِي)، مَعْطُوفٌ على أنْ يَنْفَعَ، فَقَدْ سَأَلَ المُؤَلِّفُ شَيْئَيْنِ؛ النَّفْعَ والعصمةَ. والمرادُ بها العِصْمَةُ الجائِزَةُ، وهيَ الحِفْظُ من الذنبِ معَ جوازِ وقوعِهِ، لا العصمةُ الواجبةُ وهيَ الحفظُ من الذنبِ معَ استحالةِ وُقُوعِهِ، فالأُولَى يجوزُ سُؤَالُهَا دونَ الثانيةِ لِاخْتِصَاصِهَا بالأنبياءِ والملائكةِ.
وقولُهُ: (وَقَارِئَهُ)، أيْ على وَجْهِ التدريسِ أو المُطَالَعَةِ أوْ نحوَ ذلكَ.
قَوْلُهُ: (من الشيطانِ)، يُحْتَمَلُ أنَّ المرادَ بهِ إِبْلِيسُ، وَيُحْتَمَلُ أنَّ المرادَ بهِ كُلُّ مُتَمَرِّدٍ عاتٍ، وهذا هوَ الأَوْلَى.
وقولُهُ: (الرَّجِيمِ)، أي الرَّاجِمِ الناسَ بالوسوسةِ، أو المرجومِ بالشُّهُبِ؛ لأنَّ الشياطينَ كَانُوا يَسْتَرِقُونَ السَّمْعَ من السماءِ، فَرُجِمُوا بالشُّهُبِ مَنْعًا لهمْ من اسْتِرَاقِ السَّمْعِ، فَرَجِيمٌ فَعِيلٌ بِمَعْنَى الفاعلِ أوْ مفعولٍ.
قَوْلُهُ: (فَإِنَّهُ.. إلخ)، عِلَّةٌ لقولِهِ: (وَأَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ .. إلخ).
وقولُهُ: (رَءُوفٌ)، أيْ: كَثِيرُ الرَّأْفَةِ، وهيَ شِدَّةُ الرحمةِ.
وقولُهُ: (رَحِيمٌ)، أيْ: كَثِيرُ الرَّحْمَةِ، وهوَ معلومٌ منْ قولِهِ:(رَءُوفٌ)، لَكِنَّ مَقَامَ الثناءِ مَقَامُ إِطْنَابٍ.
وقولُهُ: (جَوَادٌ)، أيْ كَثِيرُ الجُودِ، وهوَ بتخفيفِ الواوِ في الأكثرِ، وَرُوِيَ بالتشديدِ لَكِنَّهُ نَادِرٌ كَمَا يُعْلَمُ منْ قولِ الشيخِ الدَّنُوشَرِيِّ:

وَمُرْسَلٌ بِسَنَدٍ مُعْتَضَدْ = جَاءَ الجَوَادُ في صفاتِ السَّنَدْ
مُخَفَّفُ الواوِ رَوَاهُ الأكثرُ = وَشَدُّهُ يُرْوَى وَلَكِنْ يَنْدُرُ
فَعَلَى هذا يَجُوزُ عبدُ الجَوَادِ بالتخفيفِ والتشديدِ، وَإِن اشْتُهِرَ مَنْعُ المُشَدَّدِ.
وقولُهُ: (كريمٌ)، أيْ كَثِيرُ الكَرَمِ، وهوَ مَعْلُومٌ منْ قولِهِ: جَوَادٌ، لَكِنَّ مَقَامَ الثناءِ مَقَامُ إِطْنَابٍ كما عَلِمْتَ. والمبالغةَ هنا بِمَعْنَى الكثرةِ التي هيَ المبالغةُ النَّحْوِيَّةُ، لا بِمَعْنَى إعطاءِ الشيءِ فَوْقَ ما يَسْتَحِقُّ، التي هيَ المبالغةُ البَيَانِيَّةُ؛ لِأنَّها بهذا المعنى مُسْتَحِيلَةٌ على اللَّهِ تعالى.
قَوْلُهُ: (وهذا أوانُ الشروعِ في المقصودِ)، أيْ: وهذا الزمنُ الحاضرُ وقتُ الأخذِ في المقصودِ، الذي هوَ شرحُ الكتابِ منْ أوَّلِهِ إلى آخرِهِ، وليسَ المرادُ بهِ المقصودَ بالذاتِ؛ لأنَّ أوَّلَهُ بابُ أسبابِ الميراثِ إلخ.
وقولُهُ: (بِعَوْنِ المَلِكِ المعبودِ)، أيْ مُتَلَبِّسًا بِإِعَانَةِ الملكِ المعبودِ، أي المُسْتَحِقِّ للعبادةِ، وَتَقَدَّمَ الكلامُ على المَلِكِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ المُؤَلِّفُ.. إلخ)، صَرِيحٌ في أنَّ البسملةَ منْ كلامِ المُصَنِّفِ، وهوَ الذي أَطْبَقَ عليهِ الشارحونَ، وَيَدُلُّ لهُ كِتَابَتُهَا بِقَلَمِ الحُمْرَةِ كَغَيْرِهَا منْ بَقِيَّةِ نُقُوشِ المَتْنِ، وَكَمَالُ مَقَامِ المُصَنِّفِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أنَّهُ يَبْتَدِئُ بالبسملةِ. وَفِي اللؤلؤةِ يُحْتَمَلُ أنْ لا تكونَ البسملةُ منْ كلامِ الناظمِ، فيكونُ ابْتِدَاؤُهُ بالحمدِ حَقِيقِيًّا. ا هـ. وهوَ بَعِيدٌ، وَكَأَنَّ شُبْهَتَهُ أنَّ المَتْنَ نَظْمٌ، والبسلمةَ ليستْ نَظْمًا، وَيُرَدُّ ذلكَ بأنَّ الأَوْلَى أنْ لا يُدْخِلَ البسملةَ في النظمِ، فما فَعَلَهُ الشاطبيُّ حيثُ قالَ: * بَدَأْتُ بِبِسْمِ اللَّهِ في النظمِ أَوَّلًا * خِلَافُ الأَوْلَى.
قَوْلُهُ: (رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى)، جُمْلَةٌ دُعَائِيَّةٌ.


يتبع في المشاركة التالية..


  #4  
قديم 3 ذو الحجة 1429هـ/1-12-2008م, 08:56 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي تابع حاشية الشيخ: إبراهيم الباجوري على الفوائد الشنشورية

قَوْلُهُ: (بسمِ اللَّهِ الرحمنِ الرحيمِ)، اشْتَمَلَت البسملةُ على خمسةِ ألفاظٍ: الباءِ والاسمِ ولفظِ الجلالةِ والرحمنِ والرحيمِ،
وقدْ تَكَلَّمَ الشارحُ على الباءِ حيثُ ذَكَرَ مُتَعَلَّقَهَا، وأمَّا مَعْنَاهَا فهوَ الاستعانةُ أو المصاحبةُ على وجهِ التَّبَرُّكِ،
والاسمُ مُشْتَقٌّ من السُّمُوِّ عندَ البَصْرِيِّينَ، أوْ مِنْ "وَسَمَ" عِنْدَ الكوفِيِّينَ، ومعناهُ: مَا دَلَّ على مُسَمًّى،
ولفظُ الجلالةِ عَلَمٌ على الذاتِ الأَقْدَسِ، وقولُهُم: الواجبُ الوجودُ المُسْتَحِقُّ لِجَمِيعِ المحامدِ، تَعْيِينٌ لِلمُسَمَّى لا مِنْ جملةِ المُسَمَّى كما هوَ التحقيقُ، وهوَ اسمُ اللَّهِ الأعظمُ عندَ الجمهورِ.
والرحمنِ الرحيمِ بِمَعْنَى المُحْسِنِ، لكنَّ الأوَّلَ هوَ المُحْسِنُ بِجَلَائِلِ النِّعَمِ، والثانيَ هوَ المُنْعِمُ بدقائقِ النِّعَمِ.
والكلامُ على البَسْمَلَةِ كَثِيرٌ وَشَهِيرٌ.
قَوْلُهُ: (أيْ: أَفْتَتِحُ)، إشارةٌ لِمُتَعَلَّقِ الباءِ كما تَقَدَّمَ، وأقسامُهُ ثَمَانِيَةٌ؛ لأنَّهُ إمَّا أنْ يَكُونَ فِعْلًا أوْ يَكُونَ اسْمًا، وكلٌّ مِنْهُمَا إمَّا عَامٌّ وإمَّا خَاصٌّ، وَكُلٌّ مِنْهَا إمَّا مُقَدَّمٌ وإمَّا مُؤَخَّرٌ. فالجملةُ مَا ذُكِرَ، وَأَوْلَاهَا أنْ يكونَ فِعْلًا خَاصًّا مُؤَخَّرًا.

أمَّا الأوَّلُ فَلِأَنَّ الأصلَ في العملِ للأفعالِ، وأمَّا الثاني فَلِأَنَّ كُلَّ شارعٍ في شَيْءٍ يُضْمِرُ في نفسِهِ لَفْظَ ما جَعَلَ التسميةَ مَبْدَأً لهُ، وأمَّا الثالثُ فَلِإِفَادَةِ الحَصْرِ ولِتَقْدِيمِ اسْمِهِ تعالى.
وقولُ الشارحِ: (أيْ: أَفْتَتِحُ)، مُشْتَمِلٌ على وَجْهَيْنِ من الثلاثةِ المذكورةِ، كَوْنِهِ فِعْلًا، وَكَوْنِهِ مُؤَخَّرًا، وَلَمْ يَشْتَمِلْ على الوجهِ الثالثِ، وهوَ كَوْنُهُ خَاصًّا، وَلِذَلِكَ قالَ الشارحُ: (وَأَوْلَى منهُ: أُؤَلِّفُ)، وَوَجْهُهُ مَا عَلِمْتَ مِنْ أنَّ كُلَّ شَارِعٍ في شَيْءٍ يُضْمِرُ في نفسِهِ لَفْظَ ما جَعَلَ التَّسْمِيَةَ مَبْدَأً لهُ، وَأَيْضًا تَقْدِيرُهُ كذلكَ يُفِيدُ أنْ تَكُونَ جَمِيعُ أجزاءِ التأليفِ مُلَابِسَةً لِلبَسْمَلَةِ، فَتَعُودُ بَرَكَتُهَا عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا قَدَّرَ الشارحُ أَوَّلًا غيرَ الأولى معَ إمكانِ تَقْدِيرِ الأولى لِمُشَاكَلَةِ قَوْلِهِ في الحَمْدِ: (نَسْتَفْتِحُ)، كَمَا قَالَهُ الأُسْتَاذُ الحِفْنِيُّ.
قَوْلُهُ: (أَوَّلُ.. إلخ)، لَفْظُ "أَوَّلُ" بالرفعِ على الابتداءِ، وبذلكَ خَبَرٌ على أنَّ الباءَ زَائِدَةٌ أوْ للتصويرِ، والمعنى: أَوَّلُ اسْتِفْتَاحِنَا القولَ ذِكْرُ حَمْدِ رَبِّنَا، أَوْ مُصَوَّرٌ بِذِكْرِ حَمْدِ رَبِّنَا، وَيَصِحُّ قِرَاءَتُهُ بالنصبِ على أنَّهُ ظَرْفٌ لِمَحْذُوفٍ يَتَعَلَّقُ بهِ قَوْلُهُ: (بِذِكْرِ)، والتقديرُ: نَنْطِقُ في أوَّلِ اسْتِفْتَاحِنَا بِذِكْرِ.. إلخ.

والظاهرُ أنَّ هذا إخبارٌ من المُصَنِّفِ بأنَّهُ يَذْكُرُ الحمدَ بعدُ، وإليهِ يُشِيرُ قولُ الشارحِ فيما يَأْتِي: (ثمَّ حَقَّقَ ما وَعَدَ بهِ).
وَيُحْتَمَلُ أنَّ المصنِّفَ قَصَدَ بذلكَ إِنْشَاءَ حَمْدٍ؛ لأنَّهُ اعْتِرَافٌ بأنَّ الحمدَ رُتْبَتُهُ التقديمُ، وهذا يَتَضَمَّنُ الثناءَ، أَفَادَهُ المُحَقِّقُ الأَمِيرُ.
قَوْلُهُ: (مَا نَسْتَفْتِحُ)، أي: اسْتِفْتَاحِنَا، فـ(ما) مَصْدَرِيَّةٌ لَا مَوْصُولٌ اسْمِيٌّ، بلْ مَوْصُولٌ حَرْفِيٌّ، وَإِنَّمَا أَتَى بالنونِ الدالَّةِ على العَظَمَةِ لإظهارِ تَعْظِيمِ اللَّهِ لهُ، حيثُ أَهَلَّهُ للحمدِ تَحَدُّثًا بالنعمةِ، والسينُ والتاءُ زَائِدَتَانِ للتأكيدِ والمبالغةِ، لا للطلبِ كما في قولِهِ تَعَالَى: {يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا}، أيْ: يَطْلِبُونَ الفَتْحَ، أي: النَّصْرَ عليهِم، ولا لِلصَّيْرُورَةِ كاسْتَحْجَرَ الطينُ، أيْ: صَارَ حَجَرًا، ولا للنسبةِ وَعَدِّ الشيءِ على صفةٍ مَخْصُوصَةٍ كَاسْتَحْسَنْتُ العدْلَ، واسْتَقْبَحْتُ الظُّلْمَ. قَوْلُهُ: (أيْ: نَفْتَتِحُ)، أَشَارَ بذلكَ إلى أنَّهُ ليسَ المرادُ بالاستفتاحِ الاستدعاءَ وهوَ الطلبُ كما قالَهُ الكَنَائِيُّ، بل المرادُ بهِ: الافتتاحُ.
وقولُهُ: (أيْ: نَبْتَدِئُ)، مُجَرَّدُ تَوْضِيحٍ.
هذا هوَ المُتَعَيَّنُ كما قالَهُ العَلَّامَةُ الأميرُ، وَيُشِيرُ إليهِ كلامُ اللُّؤْلُؤَةِ. وأمَّا قولُ البُولَاقِيِّ: لَمَّا كانَ الافتتاحُ يُطْلَقُ على الاستدعاءِ وليسَ بِمُرَادٍ، وَإِنَّمَا المرادُ الابتداءُ قالَ: (أيْ: نَبْتَدِئُ)، فَغَيْرُ ظَاهِرٍ؛ لأنَّ الذي يُطْلَقُ على الاستدعاءِ والطلبِ الاستفتاحُ بالسينِ والتاءِ، وهذا قد انْدَفَعَ بالتفسيرِ الأوَّلِ في الشرحِ. فَالحَقُّ أنَّ التفسيرَ الثانيَ لِمُجَرَّدِ الإيضاحِ، والمرادُ: نَبْتَدِئُ بَدْأً إِضَافِيًّا، فلا يُنَافِي ابْتِدَاءَهُ أَوَّلًا بالبسملةِ على ما تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ: (المَقَالَا)، مَفْعُولٌ لِــ(نَسْتَفْتِحُ)، وهوَ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنَى القولِ، كَمَا ذَكَرَهُ الشارحُ بَعْدُ.
قَوْلُهُ: (بِأَلِفِ الإطلاقِ)، أي: الألِفِ التي حَصَلَ بِهَا إِطْلَاقُ الصوتِ وَامْتِدَادُهُ، كما في قولِهِ:

أَقِلِّي اللَّوْمَ عَاذِلُ وَالعِتَابَا = وَقُولِي إِنْ أَصَبْتُ لَقَدْ أَصَابَا
قَوْلُهُ: (أي القولِ)، تَفْسِيرٌ للمَقَالِ.
وقولُهُ: (وَهُوَ اللفظُ.. إلخ)، تَفْسِيرٌ للقولِ. ولا يَخْفَى أنَّ اللفظَ يَشْمَلُ المُفْرَدَ وَالمُرَكَّبَ.
وقولُهُ: (الموضوعُ لِمَعْنًى ظَاهِرٍ)، في المفردِ وَكَذَا في المُرَكَّبِ على الأَصَحِّ، مِنْ أنَّ دَلَالَةَ المُرَكَّبِ وَضْعِيَّةٌ، ومَنْ يَقُولُ بأنَّ دَلَالَتَهُ عَقْلِيَّةٌ يُبَدِّلُ الوضعَ بِالدلالةِ. قَوْلُهُ: (خِلَافًا)، أيْ: أُخَالِفُ خِلَافًا، أوْ أَقُولُ ذلكَ حَالَ كَوْنِي مُخَالِفًا.
وقولُهُ: (على المُهْمَلِ)، أيْ: كَـ(دَيْزٍ) مَقْلُوبِ (زَيْدٍ).
وقولُهُ: (أَيْضًا)، أيْ: كَمَا أَطْلَقَهُ على المُسْتَعْمَلِ.
قَوْلُهُ: (كما نَقَلَهُ)، أيْ: نَقَلَ إطلاقَهُ على المُهْمَلِ.
وقولُهُ: (الجَلَالُ)، أيْ: جَلَالُ الدِّينِ، وَاسْمُهُ عبدُ الرَّحْمَنِ، وَلَقَّبَهُ وَالِدُهُ وهوَ صَغِيرٌ بِجلالِ الدينِ، واشْتُهِرَ بابنِ الكُتُبِ لِمَا قِيلَ إنَّ أباهُ أَرْسَلَ أُمَّهُ تَأْتِيهِ بِكِِتَابٍ منْ كُتُبِهِ، فَوَضَعَتْهُ بينَ الكُتُبِ، و(السُّيُوطِيُّ)، نِسْبَةٌ إلى سُيُوطٍ مُثَلَّثَةِ السِّينِ، وهيَ بَلْدَةٌ شَهِيرَةٌ بالصعيدِ، وَيُقَالُ لَهَا أُسْيُوطُ بالهَمْزَةِ المَضْمُومَةِ، كما نَقَلَهُ الأستاذُ الحِفْنِيُّ عنْ بعضِ حَوَاشِي الغَيْطِيِّ عن اللُّبِّ للسُّيُوطِيِّ.
قَوْلُهُ: (عنْ أبي حَيَّانَ)، هوَ أَمِينُ الدينِ بنُ يُوسُفَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يُوسُفَ، وهوَ نَحْوِيٌّ لُغَوِيٌّ، لَازَمَ بَهَاءَ الدينِ بْنَ النحَّاسِ حينَ قَدِمَ القاهرةَ، وَتُوِفِّيَ بها، وكانَ على مَذْهَبِ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ.
قَوْلُهُ: (رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى)، جُمْلَةٌ دُعَائِيَّةٌ لهما.
قَوْلُهُ: (وَيُطْلَقُ)، أي: القولُ. وعلى هذا الإطلاقِ يُعَدَّى بالباءِ، فَيُقَالُ: قالَ أبو حَنِيفَةَ بكذا، أيْ: رَآهُ وَاعْتَقَدَهُ.
وقولُهُ: (على الرأيِ والاعتقادِ)، والعطفُ فيهِ للتفسيرِ.
قَوْلُهُ: (مَجَازًا)، أيْ: حالَ كَوْنِهِ مَجَازًا بالاستعارةِ، أوْ مجازًا مُرْسَلًا. فَعَلَى الأَوَّلِ شَبَّهَ الرأيَ والاعتقادَ بِمَعْنَى القولِ، وهوَ اللفظُ الموضوعُ لمعنًى بِجَامِعِ تَرَتُّبِ الفائدةِ على كُلٍّ، واسْتُعِيرَ اسمُ المُشَبَّهِ بهِ للمُشَبَّهِ على طريقِ الاستعارةِ التصريحِيَّةِ الأصليَّةِ. وعلى الثاني أُطْلِقَ اسمُ المُسَبِّبِ وَأُرِيدَ السَّبَبُ؛ لأنَّ الاعتقادَ يَتَسَبَّبُ عنهُ التلفُّظُ بهِ إلَّا لِمَانِعٍ، أوْ أُطْلِقَ اسمُ الدَّالِّ وأُرِيدَ المَدْلُولُ؛ لأنَّ القولَ يَدُلُّ على الاعتقادِ، فإنَّ مَنْ قالَ: اللَّهُ واحدٌ، دَلَّنَا ذلكَ القولُ منهُ على اعتقادِهِ للتوحيدِ، أَفَادَهُ العلَّامَةُ الأميرُ بِإِيضَاحٍ. وَوَقَعَ في عبارةِ بَعْضِهِمْ في تقريرِ المجازِ المُرْسَلِ منْ إطلاقِ اسمِ السببِ على المُسَبِّبِ: إذ الاعتقادُ يَتَسَبَّبُ عن القولِ، اهـ. والأَظْهَرُ عَكْسُهُ كَمَا قُلْنَاهُ.

قَوْلُهُ: (والقولُ والمقالُ والمقالةُ)، مُبْتَدَآتٌ. وقولُهُ: (مَصَادِرٌ)، خَبَرٌ عَنْهَا.
قالَ الأستاذُ الحِفْنِِيُّ: الأَوَّلُ قِيَاسٌ، قالَ في الخُلَاصَةِ:
فَعْلٌ قِيَاسُ مَصْدَرِ المُعَدَّى = مِنْ ذِي ثَلَاثَةٍ كَرَدَّ رَدَّا
والأخيرانِ سَمَاعِيَّانِ، ا هـ بِبَعْضِ حَذْفٍ.
وناقَشَهُ المُحَقِّقُ الأميرُ بأنَّ مَقَالًا مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ وَأَصْلُهُ مَقُولٌ على وزنِ مَفْعَلٍ، وَصَوْغُ مَفْعَلٍ من الثلاثيِّ مُطَرِّدٌ مَقِيسٌ كَمَضْرَبٍ وَمَقْتَلٍ وَمَذْهَبٍ، فَمَقَالٌ قِيَاسِيٌّ، وَمَقَالَةٌ تَأْنِيثُهُ.
قَوْلُهُ: (لِقَالَ يَقُولُ)، الأَوَّلُ مَاضٍ والثاني مُضَارِعٌ كَمَا لا يَخْفَى.
قَوْلُهُ: (وَأَصْلُ قَالَ.. إلخ)، وأصلُ يَقُولُ: يَقْوُلُ كَيَنْصُرُ، نُقِلَت الضَّمَّةُ للساكنِ قَبْلَهَا، فَصَارَ يَقُولُ، وَالمُرَادُ بِقَوْلِهِم: الأصلُ كذا، أنَّ حَقَّ النُّطْقِ أنْ يكونَ كذا، وليسَ المرادُ أَنَّهُمْ نَطَقُوا بذلكَ ثمَّ غَيَّرُوهُ.
وقولُهُ: (قَوَلَ)، أيْ بِفَتْحِ الواوِ لَا بِكَسْرِهَا، وَإِلَّا لَكَانَ مُضَارِعُهُ يَقَالُ كَيَخَافُ)، فَإِنَّ أَصْلَ مَاضِيهِ خَوِفَ بِكَسْرِ الواوِ لَا بِضَمِّهَا، وإلَّا لَكَانَ لَازِمًا معَ أنَّهُ مُتَعَدٍّ فَيَنْصِبُ الجملةَ كَقُلْتُ: الحمدُ للَّهِ، أو المفردَ الذي في معنى الجُمْلَةِ كَقُلْتُ قصيدةً، أو المفردَ الذي قُصِدَ بهِ لَفْظُهُ كَقُلْتُ زَيْدًا، أيْ هذا اللفظَ، وَضُمَّتِ القافُ في قُلْتُ لِيُعْلَمَ أنَّ المحذوفَ وَاوٌ، كَمَا كُسِرَت الباءُ في بِعْتُ لِيُعْلَمَ أنَّ المحذوفَ ياءٌ، وَإِنَّمَا كُسِرَتِ الخاءُ في خِفْتُ معَ أنَّ المحذوفَ واوٌ لِيُعْلَمَ أنَّ أَصْلَهَا الكَسْرُ.
قَوْلُهُ: (تَحَرَّكَت الواوُ وَانْفَتَحَ ما قَبْلَهَا)، أيْ: وُجِدَت الواوُ مُتَحَرِّكَةً وَوُجِدَ مَا قَبْلَهَا مَفْتُوحًا، وهكذا في الياءِ، كما في نَحْوَ بَاعَ، فإنَّ أَصْلَهُ بَيَعَ، فَيُقَالُ فيهِ: تَحَرَّكَت الياءُ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا بالمَعْنَى المَذْكُورِ.
وقولُهُ: (فَقُلِبَتْ أَلِفًا)، أيْ: للتخفيفِ؛ لأنَّ حركةَ الواوِ والياءِ الذاتيَّةَ ثَقِيلَةٌ عَلَيْهِمَا، ولوْ سُكِّنَا لَصَارَا مُرْتَقِبَيْنِ للحركةِ، وَلَمْ يَأْمَنَا منها، فَاسْتَجَارَا بِحَرْفٍ يَسْتَحِيلُ فيهِ الحركةُ، وهوَ الألفُ، فَقُلِبَتَا إليهِ لِيَأْمَنَا مِن الحركةِ.
قَوْلُهُ: (وَيُقَالُ لِمَا فَشَى)، أيْ: لِمَا اشْتُهِرَ وَكَثُرَ.
وقولُهُ: (مِن القَوْلِ)، بَيَانٌ لِمَا فَشَى.
وقولُهُ: (قَالَةً وَقَالًا وَقِيلًا)، كَانَ الظاهرُ الرفعَ؛ لأنَّهُ نَائِبُ فَاعِلٍ لِيُقَالُ، وَيُجَابُ بأنَّهُ جَارٍ على مَذْهَبِ الأخفشِ المُجَوِّزِ نِيَابَةَ الجارِّ والمجرورِ مَنَابَ الفاعلِ معَ وُجُودِ المفعولِ، فيكونُ النائبُ عن الفاعلِ قَوْلُهُ: لِمَا فَشَى، على حَدِّ قَوْلِهِ:
وَإِنَّمَا يُرْضِي المُنِيبُ رَبَّهُ = مَا دَامَ مَعْنيًّا بِذِكْرٍ قَلْبَهُ
بِنَصْبِ قَلْبَهُ لِنِيَابَةِ الجارِّ والمجرورِ، وهوَ (بِذِكْرِ)، فَإِنَّهُ نَائِبُ فَاعِلٍ لِـ(مَعْنيًّا)، وَأَصْلُهُ مَعْنُويًّا، اجْتَمَعَت الواوُ والياءُ وَسُبِقَتْ إِحَدَاهُمَا بالسكونِ، فَقُلِبَت الواوُ ياءً، وَأُدْغِمَت الياءُ في الياءِ، وَقُلِبَتْ ضَمَّةُ النُّونِ كَسْرَةً لِتَصِحَّ الياءُ.
وَيُجَابُ أَيْضًا بأنَّهُ نُصِبَ على حكايةِ مَا وَقَعَ في قولِهم: قالَ قَالَةً إلخ، لَكِنَّهُ شَاذٌّ إِذْ لَا يُحْكَى بغيرِ أيْ إِلَّا العَلَمُ بَعْدَ مَنْ، كَمَا إِذَا قالَ شَخْصٌ: رَأَيْتُ زَيْدًا، فَتَقُولُ: مَنْ زَيْدٌ؟
قَوْلُهُ: (وَيُقَالُ: أَقْوَلْتَنِي.. إلخ)، كانَ القياسُ إِعْلَالَهُ، فَيُقَالُ: أَقَلْتَنِي كَأَقمْتَنِي، وَأَصْلُهُ أَقْوَلْتَنِي، فَيُعَلُّ بِنَقْلِ حركةِ الواوِ للقافِ، ثمَّ يُقَالُ: تَحَرَّكَت الواوُ بِحَسَبِ الأصلِ، وانْفَتَحَ ما قَبْلَهَا. الآنَ قُلِبَتْ أَلِفًا ثمَّ حُذِفَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وقدْ يُقَالُ: تَرَكَ الإعلالَ هُنَا خَوْفًا منْ أنْ يَلْتَبِسَ بِأَقَلْتَنِي من البيعِ مَثَلًا ابْتِدَاءً، كما جَمَعُوا العيدَ على أعيادٍ معَ أنَّ القياسَ أَعْوَادٌ؛ لأنَّهُ وَاوِيٌّ، فَإِنَّهُ منْ عَادَ يَعُودُ؛ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ بِأَعْوَادِ الخَشَبِ.
وقولُهُ: (مَا لَمْ أَقُلْ)، أي: الذي لمْ أَقُلْهُ.
وقولُهُ: (وَقَوَّلْتَنِي)، أيْ: مَا لَمْ أَقُلْ، فَفِيهِ حَذْفٌ من الثاني لِدَلَالَةِ الأوَّلِ عليهِ.
وقولُهُ: (نَسَبْتَهُ إِلَيَّ)، أيْ: فالهمزةُ في الأوَّلِ، وَالتضعيفُ في الثاني لإفادةِ النِّسْبَةِ.
قَوْلُهُ: (وَرَجُلٌ)، أيْ: وَيُقَالُ: رَجُلٌ.
وقولُهُ: (مَقُولٌ)، بِوَزْنِ مَفْعَلٍ.
وقولُهُ: (وَمِقْوَالٌ)، على وَزْنِ مِفْعَالٍ.
وقولُهُ: (وَقَوَّالٌ)، على وَزْنِ فَعَّالٍ.
وقولُهُ: (كَثِيرُ القولِ)، استفادةُ الكثرةِ من الأَخِيرَيْنِ ظَاهِرَةٌ؛ لِكَوْنِهِمَا منْ صِيَغِ المبالغةِ، وأمَّا من الأوَّلِ فَبِاعْتِبَارِ أَصْلِهِ؛ لأنَّ الأصلَ مِقْوَالٌ حُذِفَتْ أَلِفُهُ تَخْفِيفًا، فهوَ منْ صِيَغِ المبالغةِ بِاعْتِبَارِ أَصْلِهِ، قَالَهُ الشمسُ الحِفْنِيُّ.

وَفِي بَعْضِ الحواشِي المِقُولُ بِكَسْرِ الميمِ يُطْلَقُ على اللسانِ كَمَا في المصباحِ. فَاسْتِفَادَةُ الكثرةِ فيهِ باعتبارِ أنَّهُ منْ أسماءِ الآلةِ فلا حَاجَةَ إلى ارْتِكَابِ حَذْفٍ فيهِ بِجَعْلِ الأصلِ مِقْوَالٍ بالألفِ ثُمَّ حَذْفِهَا ا هـ.
وفيهِ تَعْرِيضٌ بِمَا تَقَدَّمَ لكَ عن الحِفْنِيِّ، معَ أنَّ كلامَ الشيخِ الحِفْنِيِّ أَظْهَرُ، وكلامَ بعضِ الحواشي فيهِ نَظَرٌ؛ لأنَّ أسماءَ الآلةِ تَصْدُقُ بالقِلَّةِ، إِلَّا أنْ يُلَاحَظَ جَعْلُهُ كُلُّهُ لِسَانًا مُبَالَغَةً،
والأظهرُ منْ ذلكَ كُلِّهِ أنَّ الكثرةَ منْ مُجَرَّدِ وَضْعِ الواضعِ كَمَا قَالَهُ العَلَّامَةُ الأميرُ، فيكونُ الواضعُ وَضَعَ هذهِ الصيغَ لِلكَثْرَةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَوْلُهُ)، مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ يُسْتَفَادُ منْ قولِهِ: (أيْ: مَالِكِنَا .. إلخ)، فَكَأَنَّهُ قالَ: يُقَالُ في شرحِه: بِذِكْرِ حَمْدِ مَالِكِنَا.. إلخ، وأَمَّا قَولُهُ: (بِذِكْرِ حَمْدِ .. إلخ)، فمَقُولُ القولِ.

وقالَ بَعْضُهم: لَعَلَّ الأحسنَ جَعْلُ (قَوْلُهُ)، مُبْتَدَأً، و(بِذِكْرِ حَمْدِ)، مَقُولَهُ، وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أيْ وَاضِحٌ فَلَا يُحْتَاجُ للكلامِ عليهِ.
وقولُهُ: (رَبِّنَا)، ليسَ منْ مَقُولِ القَوْلِ. وفَسَّرَهُ الشارحُ بِقَوْلِهِ: (أيْ: مَالِكِنَا.. إلخ) اهـ.

والأوَّلُ هوَ المأخوذُ منْ فَحْوَى كَلَامِ الشَّارِحِ.
وإَضِافَةُ (ذِكْرِ) للحمدِ منْ إضافةِ العامِّ للخاصِّ، ولكَ أنْ تَحْمِلَ الذكرَ على المعنى المَصْدَرِيِّ فَافْهَمْ، والحمدَ على المعنى الحاصلِ بِالمَصْدَرِ.
قَوْلُهُ: (أيْ: مَالِكِنَا وَسَيِّدِنَا.. إلخ)، قدْ تَقَدَّمَتْ لَكَ هذهِ المعاني معَ غَيْرِهَا في النَّظْمِ السابقِ.
قَوْلُهُ: (أيضًا)، كذا في بعضِ النُّسَخِ، وكَتَبَ بعضُ الفضلاءِ: أيْ فَسَّرَ بِمَا ذَكَرَ كَمَا فَسَّرَ بِغَيْرِهِ، وَكَتَبَ بَعْضُهم: قولُهُ: (أَيْضًا)، لَعَلَّهُ مُؤَخَّرٌ منْ تَقْدِيمٍ، أيْ: مَعْبُودِنَا أيضًا، أيْ: أنَّهُ كما يُطْلَقُ على المَالِكِ وَمَا بَعْدَهُ يُطْلَقُ على المعبودِ ا هـ.

والأَوْلَى حَذْفُهَا كما قالَهُ المُحَقِّقُ الأميرُ.
قَوْلُهُ: (تَعَالَا)، أيْ تَنَزَّهَ، وَيُرْسَمُ هنا بالألفِ لِمُنَاسَبَةِ (المَقَالَا) خَطًّا، كما هوَ مُنَاسِبٌ لَفْظًا، نَبَّهَ على ذلكَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ، وإنْ كانَ حَقُّهُ أَنْ يُكْتَبَ بِاليَاءِ؛ لأنَّ أَصْلَ أَلِفِهِ يَاءٌ، وكذا يُقَالُ في قَوْلِهِ: (العَمَا).
وقولُهُ: (عَمَّا يَقُولُهُ الجاحدونَ)، أيْ: من الكُفْرِ وإنكارِ صِفَاتِهِ، فالمرادُ بالجاحِدِينَ ما يَشْمَلُ الكافرينَ وَأَهْلَ البِدَعِ.
وقولُهُ: (عُلُوًّا كَبِيرًا)، أيْ تَنْزِيهًا عَظِيمًا بِحَيْثُ لَا يَشُوبُهُ شَيْءٌ منْ ضَلَالِهِمْ ولا شُبَهِهِم. وأَخَذَ الشارحُ ذلكَ منْ مَعْنَى التَّفَاعُلِ الذي يُفْهَمُ مِنْ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (ثمَّ حَقَّقَ ما وَعَدَ بِهِ)، أيْ أَثْبَتَهُ في الخارجِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: حَقَّقَ الشيءَ أَثْبَتَهُ في الخارجِ، ولوْ قالَ الشارحُ: ثمَّ وَفَّى بِمَا وَعَدَ بهِ لَكَانَ أَوْضَحَ، والوعدُ عندَ الإطلاقِ يُسْتَعْمَلُ في الخيرِ، وأمَّا الشرُّ فَيُسْتَعْمَلُ فيهِ الإيعادُ، قالَ الشاعرُ:
وَإِنِّي وَإِنْ أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ = لَمُخْلِفٌ إِيعَادِي وَمُنْجِزٌ مَوْعِدِي

وقولُهُ: (مِنْ ذِكْرِ الحمدِ)، بَيَانٌ لِمَا وَعَدَ بهِ، والأَوْلى أنْ يَقُولَ: من الاستفتاحِ بِذِكْرِ الحمدِ؛ لأنَّهُ الموعودُ بهِ، لا ذِكْرُ الحمدِ مُطْلَقًا.
وقولُهُ: (بِقَوْلِهِ)، مُتَعَلِّقٌ بِحَقَّقَ.
قَوْلُهُ: (فالحمدُ ..إلخ)، الفاءُ فاءُ الفَصِيحَةِ؛ سُمِّيَتْ بذلكَ لأنَّها أَفْصَحَتْ عنْ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ، والتقديرُ: إذا أَرَدْتَ بَيَانَ الحمدِ الموعودِ بالاستفتاحِ بهِ، (فالحمدُ ..إلخ)، وَ(أَلْ) في الحمدِ إمَّا لِلاسْتِغْرَاقِ كما عليهِ الجمهورُ، أوْ للجنسِ كَمَا عليهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، أوْ للعهدِ كَمَا عليهِ ابنُ النَّحَّاسِ.

وعلى كُلٍّ فَاللَّامُ في (للَّهِ) إمَّا للاختصاصِ، أوْ للاستحقاقِ، أوْ للْمِلْكِ، فهيَ تسعةٌ منْ ضَرْبِ ثلاثةٍ في ثلاثةٍ، يَمْتَنِعُ منها جَعْلُ اللامِ للمِلْكِ معَ جَعْلِ (ألْ) لِلعَهْدِ، إنْ جُعِلَ المعهودُ الحمدَ القَدِيمَ فقَطْ؛ لأنَّ القديمَ لَا يَتَّصِفُ بالمَمْلُوكِيَّةِ.
فَإِنْ جَعَلَ المعهودَ حَمِدَ مَنْ يُعْتَدُّ بِحَمْدِهِ قَدِيمًا كانَ أوْ حَادِثًا، وَلُوحِظَت الهيئةُ الاجتماعيَّةُ، صَحَّ جَعْلُ اللامِ لِلمِلْكِ حِينَئِذٍ.
قَوْلُهُ: (أي الوَصْفُ ..إلخ)، هذا تَفْسِيرٌ لِمَوْضُوعِ القَضِيَّةِ منْ حيثُ هوَ بِقَطْعِ النظرِ عنْ حَمْدِ المُصَنِّفِ نَفْسَهُ. وهذا التفسيرُ شَامِلٌ للحمدِ القديمِ بِخِلَافِ تَفْسِيرِ بَعْضِهِمْ لِقَوْلِهِ: أي الثناءُ باللسانِ إلخ.
وقولُهُ: (بِالجَمِيلِ)، إشارةٌ للمحمودِ بهِ، ولا فَرْقَ فيهِ بينَ أنْ يكونَ اخْتِيَارِيًّا أَوْ لَا.

وأَمَّا المحمودُ عليهِ فَيُشْتَرَطُ فيهِ أنْ يكونَ اخْتِيَارِيًّا حَقِيقَةً، وهوَ ظَاهِرٌ، أوْ حُكْمًا كَذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ، فَيَدْخُلُ الحمدُ عَلَيْهِمَا في تَعْرِيفِ الحمدِ، وإنَّمَا قُلْنَا بِكَوْنِهِمَا من الاختيارِيِّ حُكْمًا؛ لأنَّ الذاتَ وصفاتِ التأثيرِ مَنْشَأٌ لأفعالٍ اختيارِيَّةٍ، وغيرَ صِفَاتِ التأثيرِ كَالسَّمْعِ والبَصَرِ مُلَازِمٌ لِلمَنْشَأِ.
قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الحمدُ والمدحُ أَخَوَانِ، وَعَليهِ فَلَا يُشْتَرَطُ في المحمودِ عليهِ أنْ يَكُونَ اخْتِيَارِيًّا.
وفَهِمَ بعضُ الحواشي أنَّ قَولَهُ: (بِالجميلِ)، بَيَانٌ للمحمودِ عليهِ، فَقَيَّدَهُ بِالاختيارِيِّ، وَجَعَلَ كلامَ الشارحِ إمَّا على طريقةِ المُتَقَدِّمِينَ المُجَوِّزِينَ للتعريفِ بالأعمِّ، وإمَّا على رأيِ الزَّمَخْشَرِيِّ.
والأظهرُ أنَّهُ إشارةٌ للمحمودِ بهِ، وقدْ عَلِمْتَ أنَّهُ لَا يُقَيَّدُ بالاختيارِيِّ.
قَوْلُهُ: (ثَابِتٌ)، إشارةٌ لِتَعَلُّقِ الجارِّ والمجرورِ، وَقَدَّرَهُ منْ مادَّةِ الثبوتِ لِيَشْمَلَ الاحتمالاتِ الثلاثةَ، التي هيَ الاختصاصُ والمِلْكُ والاستحقاقُ.
قَوْلُهُ: (وَكُلٌّ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى جَمِيلٌ)، أيْ: ولوْ صِفَاتُ الأفعالِ، فإنَّ أَفْعَالَهُ تَعَالَى إمَّا فَضْلٌ أوْ عَدْلٌ، وَكِلَاهُمَا حَسَنٌ، ولذلكَ وَجَبَ الرضا بالقضاءِ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا تَتَّصِفُ بالحسنِ تَارَةً والقُبْحِ تَارَةً منْ حيثُ كَسْبُ العبدِ، وأمَّا منْ حيثُ صُدُورُهَا عن المولى فالكُلُّ حَسَنٌ، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ سَيِّدِي مُحَمَّدِ وَفَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:

سَمِعْتُ اللَّهَ في سِرِّي يَقُولُ = أَنَا فِي المُلْكِ وَحْدِي لا أَزُولُ
وَحَيْثُ الكُلُّ عَنِّي لَا قَبِيحُ = وَقُبْحُ القبحِ مِنْ حَيْثِي جَمِيلُ
قَوْلُهُ: (فهوَ وَصْفٌ للَّهِ تَعَالَى بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ)، أيْ: فَحَمْدُ اللَّهِ منْ حيثُ هوَ الذي هوَ موضوعُ القضيَّةِ وَصْفٌ للَّهِ لا حَمْدُ المُصَنِّفِ الواقعِ منهُ بهذهِ الجُمْلَةِ؛ لأنَّهُ حُمِدَ بِصِفَةٍ واحدةٍ وهيَ استحقاقُ الحمدِ أو اختصاصُهُ أوْ مِلْكُهُ، فَكَأَنَّ المُصَنِّفَ قَالَ: أَحْمَدُ اللَّهَ بِاسْتِحْقَاقِهِ الحمدَ، واختصاصِهِ بهِ، أوْ مِلْكِهِ لهُ، وَإِنَّمَا كانَ حَمْدُ اللَّهِ منْ حيثُ هوَ وَصْفٌ لهُ تَعَالَى بجميعِ الصفاتِ معَ أنَّ معناهُ الوصفُ بالجَمِيلِ، وهوَ يَصْدُقُ بِكُلِّ الصفاتِ وَبِبَعْضِهَا؛ لأنَّ الغرضَ التعظيمُ، ورعايةُ جَمِيعِهَا أَبْلَغُ فيهِ.
بواسطةِ ذلكَ كَانَ حَمْدُ اللَّهِ وَصْفًا لَهُ تعالى بجميعِ صفاتِهِ، وَيُنْتِجُ ذلكَ قِيَاسًا نَظْمُهُ هكذا: حَمْدُ اللَّهِ وَصْفٌ لهُ تَعَالَى بالجميلِ، وكلُّ وَصْفٍ لهُ تَعَالَى بالجميلِ وَصْفٌ لهُ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ، فَحَمْدُ اللَّهِ وَصْفٌ لهُ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ.
فالصغرى، وهيَ قولُنَا: أَحْمَدُ اللَّهَ، وَصْفٌ لهُ بالجميلِ تُعْلَمُ منْ قولِ الشارحِ في تفسيرِ الحمدِ، أي الوصفُ بالجميلِ.
والكبرى، وهيَ قولُنَا: وَكُلُّ وَصْفٍ لهُ تَعَالَى بالجميلِ وَصْفٌ لهُ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ، تُعْلَمُ منْ قولِ الشارحِ: وَكُلٌّ مِنْ صِفَاتِهِ جَمِيلٌ، معَ ما ذَكَرْنَاهُ منْ أنَّ الغرضَ التعظيمُ، ورعايةُ جَمِيعِهَا أَبْلَغُ فيهِ. وَأَمَّا النتيجةُ فَقَدْ ذَكَرَهَا الشارحُ بِقَوْلِهِ: (فهوَ وَصْفٌ للَّهِ ..إلخ).
قَوْلُهُ: (على مَا أَنْعَمَا)، على تَعْلِيلِيَّةٌ، وما مَصْدَرِيَّةٌ، فهوَ موصولٌ حَرْفِيٌّ لَا مَوْصُولٌ اسْمِيٌّ، وإلَّا لَاحْتَاجَ لِعَائِدٍ مَحْذُوفٍ مَجْرُورٍ بِغَيْرِ ما جُرَّ بهِ الموصولُ، والتقديرُ: على ما أَنْعَمَ بهِ، فالموصولُ مَجْرُورٌ بِعَلَى، والعائدُ مَجْرُورٌ بالباءِ، ولا يَجُوزُ حَذْفُهُ حينئذٍ إلَّا شُذُوذًا، وهذا مَانِعٌ لَفْظِيٌّ،

وهناكَ مَانِعٌ مَعْنَوِيٌّ أيضًا، وهوَ أنَّهُ لو كانتْ ما مَوْصُولًا اسْمِيًّا كانَ المحمودُ عليهِ المُنْعَمَ بهِ، الذي هوَ أَثَرُ الإنعامِ، معَ أنَّ الحمدَ على الإِنعامِ أَبْلَغُ وَأَوْلَى مِن الحمدِ على الأثرِ؛ لأنَّ الأَوَّلَ حَمْدٌ على فِعْلِ اللَّهِ منْ غيرِ وَاسِطَةٍ، والثانيَ حَمْدٌ عليهِ بِوَاسِطَةِ الأثرِ، هذا هوَ الذي اشْتَهَرَ.
وَاخْتَارَ الشيخُ الأميرُ أنَّ الحمدَ على الأثرِ أَبْلَغُ وَأَوْلَى من الحمدِ على الإنعامِ؛ لأنَّ الحمدَ على الأثرِ لَا يَتِمُّ إلَّا بملاحظةِ التأثيرِ، فكأنَّهُ حَمْدَانِ، فَتَدَبَّرْ.
قَوْلُهُ: (أيْ: على إِنْعَامِهِ)، أشارَ بذلكَ إلى أنَّ مَا مَصْدَرِيَّةٌ، وليستْ مَوْصُولًا اسْمِيًّا، وَقَدْ عَلِمْتَ تَوْجِيهَ ذلكَ.
قَوْلُهُ: (وَأَلِفُهُ لِلإطْلَاقِ)، أيْ لإطلاقِ الصوتِ كَمَا مَرَّ.
قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لذكرِ المُنْعَمِ بهِ ..إلخ)، أيْ حيثُ لمْ يَقُلْ: عَلَى إنعامِهِ بكذا وكذا، فلمْ يَتَعَرَّضْ لِذِكْرِ المُنْعَمِ بهِ، لا كُلًّا وَلَا بَعْضًا، لا إِجْمَالًا ولا تَفْصِيلًا. فَأَقْسَامُ التعرُّضِ لِذِكْرِ المُنْعَمِ بهِ أَرْبَعَةٌ:

تَعَرُّضٌ لِذِكْرِ المُنْعَمِ بهِ كُلًّا تَفْصِيلًا، وهذا لَا يُمْكِنُ، قالَ تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}.
وَتَعَرُّضٌ لِذِكْرِ المُنْعَمِ بهِ كُلًّا إِجْمَالًا، كَأَنْ يَقُولَ: الحمدُ للَّهِ على إِنْعَامِهِ بِجَمِيعِ نِعَمِهِ.
وَتَعَرُّضٌ لِذِكْرِ المُنْعَمِ بهِ بَعْضًا تَفْصِيلًا، كَأَنْ يَقُولَ: الحمدُ للَّهِ على إِنْعَامِهِ بالسمعِ والبصرِ.
وَتَعَرُّضٌ لِذِكْرِ المُنْعَمِ بهِ بَعْضًا إِجْمَالًا، كَأَنْ يَقُولَ: الحمدُ للَّهِ على إِنْعَامِهِ بِبَعْضِ النِّعَمِ.
فهذهِ الأنواعُ الثلاثةُ مُمْكِنَةٌ بِخِلَافِ الأوَّلِ كما عَلِمْتَ.
قَوْلُهُ: (قالَ الشيخُ سعدُ الدينِ التَّفْتَازَانِيُّ ..إلخ)، أيْ: في شرحِ قولِ الشيخِ الخطيبِ القَزْوِينِيِّ في أَوَّلِ التلخيصِ: "الحمدُ للَّهِ على ما أَنْعَمَ"، فقالَ السعدُ: "ولمْ يَتَعَرَّضْ لذكرِ المُنْعَمِ بهِ إِيهَامًا ..إلخ"، وَإِنَّمَا لمْ يُقَدِّمْ قولَهُ: "قالَ الشيخُ سعدُ الدينِ" على قولِهِ: "ولمْ يَتَعَرَّضْ لذكرِ المُنْعَمِ بهِ"، معَ أنَّهُ منْ كلامِ السعدِ أيضًا؛ لأنَّ الضميرَ في قولِ السعدِ: "ولمْ يَتَعَرَّضْ" راجِعٌ للشيخِ الخطيبِ القَزْوِينِيِّ، والضميرَ في قولِ الشارحِ: "ولمْ يَتَعَرَّضْ" راجِعٌ للشيخِ الرَّحْبِيِّ، فَلَمْ يَحْسُنْ نِسْبَةُ ذلكَ للسعدِ.
قَوْلُهُ: (إِيهَامًا لقصورِ العبارةِ ..إلخ)، اعْتُرِضَ بأنَّ العبارةَ قاصرةٌ عن الإحاطةِ بهِ قَطْعًا، فكانَ الظاهرُ أنْ يَسْقُطَ إِيهَامًا بأنْ يقولَ: لقصورِ العبارةِ ..إلخ. وَأُجِيبَ بأنَّ المرادَ بالإيهامِ الإيقاعُ في الوهمِ بِمَعْنَى الذِّهْنِ معَ كونِ القصورِ مُحَقَّقًا، فهوَ إيهامٌ مطابقٌ للواقعِ بالنظرِ للإحاطةِ بالكُلِّ تَفْصِيلًا.
والإيقاعُ في الوهمِ بمعنى القوَّةِ الواهمةِ معَ كونِ القصورِ غيرَ مُتَحَقِّقٍ، فهوَ إيهامٌ غيرُ مُطَابِقٍ للواقعِ بالنظرِ للإحاطةِ بالكُلِّ إجمالًا، فمعَ كونِهِ يُمْكِنُهُ الإحاطةُ بالكُلِّ إجمالًا يُوهِمُ السامعَ قصورَ العبارةِ عن الإحاطةِ بهِ لِعِظَمِهِ وكثرتِهِ، فالمرادُ بالإيهامِ المَعْنَيَانِ المَذْكُورَانِ على التوزيعِ،
وَيُحْتَمَلُ أنَّهُ غَلَّبَ الثانيَ على الأوَّلِ فَسَمَّاهُ إيهامًا،
وَيُحْتَمَلُ أنَّ المرادَ إيهامًا لكونِ ذلكَ عِلَّةً معَ احتمالِ أنَّ العِلَّةَ شَيْءٌ آخَرُ، فيكونُ المعنى: وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِذِكْرِ المُنْعَمِ بِهِ إِيهَامًا للسامعِ أنَّ قصورَ العبارةِ عن الإحاطةِ بهِ عِلَّةٌ لذلكَ مَعَ كَوْنِهِ يَحْتَمِلُ أنَّ العلةَ غيرُ ذلكَ.
والأظهرُ الجوابُ الأوَّلُ،
وَعَلِمْتَ مِنْ هذا أنَّ هذهِ عِلَّةٌ لِصُورَتَيْنِ، أَعْنِي عَدَمَ التعرُّضِ لِذِكْرِ المُنْعَمِ بهِ كُلًّا تَفْصِيلًا أوْ إِجْمَالًا. وَسَيُعَلِّلُ الشارحُ الصورتَيْنِ الأخيرتَيْنِ بقولِهِ: "وَلِئَلَّا يُتَوَهَّمُ ..إلخ"، كَمَا يُصَرِّحُ بذلكَ صَنِيعُ الأستاذِ الحِفْنِيِّ.
وَبَعْضُهُمْ جَعَلَ العِلَّةَ الأُولَى للأربعةِ، وَيُصَرِّحُ بهِ كلامُ الشيخِ الأميرِ، لَكِنْ يُبْعِدُهُ تَعْبِيرُ الشارحِ بالإحاطةِ، فَتَدَبَّرْ.
قَوْلُهُ: (وَلِئَلَّا يَتَوَهَّمَ ..إلخ)، أيْ: ولوْ تَعَرَّضَ للبعضِ تَفْصِيلًا أوْ إجمالًا فهوَ عِلَّةٌ لِنَفْيِ التَّعَرُّضِ للبعضِ تَفْصِيلًا أوْ إجمالًا كما عَلِمْتَهُ من القَوْلَةِ السابقَةِ.
قَوْلُهُ: (حَمْدًا)، العاملُ فيهِ على الوجهَيْنِ المذكورَيْنِ في الشارحِ. لَفْظُ الحَمْدِ السابقِ، إنْ قُلْنَا إنَّ أَلْ لَا تَمْنَعُ منْ إِعمالِ المصدرِ، أو العاملَ فيهِ محذوفٌ والتقديرُ أَحْمَدُ حَمْدًا، وهذا ظاهرٌ على الوجهِ الثاني. وكذا على الأوَّلِ إنْ قُلْنَا: يَجُوزُ حَذْفُ المُؤَكِّدِ خِلَافًا لابنِ مَالِكٍ.
قَوْلُهُ: (مَنْصُوبٌ على أنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ)، وَيُمْكِنُ أنَّهُ مَنْصُوبٌ على أنَّهُ مفعولٌ بهِ لعاملٍ مَحْذُوفٍ منْ مادَّةِ الذِّكْرِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: بِذِكْرِ حَمْدِ رَبِّنَا، وَالتَّقْدِيرُ: نَذْكُرُ حَمْدًا، لَكِنَّهُ بَعِيدٌ.
قَوْلُهُ: (وهوَ مُؤَكِّدٌ)، أيْ: إنْ لُوحِظَ مُجَرَّدُ الموصوفِ، وَقُطِعَ النَّظَرُ عن الصفةِ وهيَ جُمْلَةُ "بهِ يَجْلُو عن القلبِ العَمَا". فَإِنْ لُوحِظَ الموصوفُ والصفةُ كَانَ نَوْعِيًّا أيضًا؛ ولذلكَ قالَ الشارحُ: "وَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ ..إلخ". وَكَتَبَ الشَّمْسُ الحِفْنِيُّ قَوْلَهُ: "وهوَ مُؤَكِّدٌ"، أيْ: إنْ جُعِلَت الجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً، فَإِنْ جُعِلَتْ صِفَةً كَانَ نَوْعِيًّا، كما أشارَ إليهِ الشارحُ، ا هـ. وفيهِ أنَّ الاستئنافَ بَعِيدٌ كما قَالَهُ العلَّامَةُ الأَمِيرُ.
قَوْلُهُ: (أَيْضًا)، أيْ كَمَا هوَ مُؤَكِّدٌ؛ لأنَّ المُبَيِّنَ للنوعِ مُؤَكِّدٌ أَيْضًا.
وقولُهُ: (لِوَصْفِهِ)، عِلَّةٌ للثانِي. وقولُهُ: (بِقَوْلِهِ)، مُتَعَلِّقٌ بِوَصْفِهِ.
قَوْلُهُ: (بهِ يَجْلُو عن القلبِ العَمَا)، أيْ: بِسَبَبِ ذلكَ يَجْلُو اللَّهُ العَمَا عن القلبِ، فالضميرُ في (بهِ) يَعُودُ على الحمدِ، والضميرُ في (يَجْلُو) يَعُودُ على اللَّهِ، والمرادُ بالقلبِ هنا اللَّطِيفَةُ الرَّبَّانِيَّةُ كما يَأْتِي قَرِيبًا؛ لأنَّها التي تَنْجَلِي بالمعارفِ، والمرادُ بِـ(العَمَا) في كلامِ المُصَنِّفِ: الجَهْلُ كما يَأْتِي قَرِيبًا أيضًا، وَيُكْتَبُ في كلامِ المَتْنِ بالألفِ لِمُشَاكَلَةِ قَوْلِهِ: (أَنْعَمَا).
قَوْلُهُ: (أيْ: حَمْدًا يُذْهِبُ اللَّهُ بهِ عَن القَلْبِ عَمَاهُ)، هذا تَفْسِيرٌ لقولِهِ: (حَمْدًا بهِ يَجْلُو عن القلبِ العَمَا). وَإِنَّمَا ذَكَرَ الشارحُ حمدًا معَ أنَّهُ لمْ يُفَسِّرْهُ هُنَا إِشَارَةً إلى الرَّبْطِ بينَهُ وبينَ الجملةِ بَعْدَهُ.
وقولُهُ: (يُذْهِبُ اللَّهُ)، تَفْسِيرٌ لِيَجْلُو معَ فَاعِلِهِ، وَفِي قولِهِ: (عَن القَلْبِ عَمَاهُ)، إشارةٌ إلى أنَّ ألْ فِي العَمَا عِوَضٌ عن الضميرِ على مَذْهَبِ الكوفِيِّينَ، وَأَمَّا على مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ فَيُقَالُ: إِنَّهُ حَلُّ مَعْنًى فَقَطْ.
قَوْلُهُ: (والقَلْبُ مَعْلُومٌ)، فَيُطْلَقُ على الجسمِ الصُّنُوبَرِيِّ الشَّكْلِ، أي الذي على هَيْئَةِ ثَمَرِ الصُّنُوبَرِ، وهوَ شجرٌ يُوجَدُ في بلادِ الشامِ، ثَمَرُهُ غَلِيظُ الأَعْلَى دَقِيقُ الأسفلِ كَرَأْسِ السُّكَّرِ، وهكذا القَلْبُ بِمَعْنَى الجِسْمِ المَذْكُورِ كَمَا يُشَاهَدُ في قَلْبِ الدَّجَاجَةِ والخَرُوفِ،

وَيُطْلَقُ على اللَّطِيفَةِ الرَّبَّانِيَّةِ، وهيَ المُرَادَةُ هنا؛ لأنَّها هيَ التي تَنْجَلِي بالمعارفِ كَمَا مَرَّ.
وهذهِ اللطيفةُ تُسَمَّى قَلْبًا منْ حيثُ تَقَلُّبُهَا، كَمَا إنَّهَا تُسَمَّى رُوحًا منْ حيثُ تَعَلُّقُهَا بالأمورِ الأُخْرَوِيَّةِ، وَنَفْسًا منْ حيثُ تَعَلُّقُهَا بالأمورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، كَمَا قَالَهُ الغَزَالِيُّ في الإحياءِ. فتلكَ اللطيفةُ تُسَمَّى بأسماءٍ بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ. وكما تُسَمَّى بذلكَ تُسَمَّى عَقْلًا باعتبارِ أنَّهُ يُعْقَلُ بها العلومُ الضرورِيَّةُ والنظريَّةُ.
وادَّعَى بَعْضُهُمْ أنَّ المرادَ باللطيفَةِ شَيْءٌ أَسْوَدُ دَاخِلَ الجسمِ اللَّحْمَانِيِّ، ولا سَلَفَ لَهُ في ذلكَ ولا دليلَ لهُ عليهِ، فلا عِبْرَةَ بهِ.
وقالَ في شَمْسِ المَعَارِفِ الوُسْطَى: إنَّ للقلبِ اللَّحْمَانِيِّ ثَلَاثَ تَجْوِيفَاتٍ: إِحْدَاهَا في أَعْلَاهُ، وهوَ مَحَلُّ الإسلامِ والقوةُ الناطقةُ أيضًا، والثانيةُ في وَسَطِهِ، وهيَ مَحَلُّ الفكرِ والتَّذَكُّرِ، والثالثةُ في آخِرِهِ، وهيَ أَلْطَفُهَا وهيَ مَحَلُّ الإيمانِ، وَمَحَلُّ الحُبِّ وَالبُغْضِ، ولها عَيْنٌ تُدْرِكُ العُلْوِيَّاتِ والمَلَكُوتِيَّاتِ تُسَمَّى البَصِيرَةَ، اهـ بِاخْتِصَارٍ.
قَوْلُهُ: (وَالعَمَى مَقْصُورٌ)، أيْ: لا مَمْدُودٌ، وَسُمِّيَ مقصورًا لأنَّهُ قَصُرَ عنْ ظُهُورِ الحركاتِ فيهِ.
وقولُهُ: (يُكْتَبُ بالياءِ)، أيْ: لأنَّ أَلِفَهُ مُنْقَلِبَةٌ عن الياءِ، لَكِنْ في عبارةِ المُصَنِّفِ يُكْتَبُ بالألِفِ كَمَا مَرَّ.
قَوْلُهُ: (وهوَ فَقْدُ البَصَرِ)، أيْ: عَمَّا مِنْ شَأْنِهِ أنْ يكونَ بَصِيرًا، وهذا على القولِ بأنَّ العَمَى عَدَمِيٌّ، وهوَ قولُ الحكماءِ. فالتقابلُ بينَهُ وبينَ البَصَرِ منْ تَقَابُلِ العَدَمِ والمَلَكَةِ.

وَأَمَّا على القولِ بأنَّهُ وُجُودِيٌّ، وهوَ قولُ أهلِ السُّنَّةِ، فَيُعْرَفُ بأنَّهُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ يُضَادُّ البَصَرَ، فالتقابلُ بينَهُ وبينَ البَصَرِ منْ تَقَابُلِ الضِّدَّيْنِ.
واعْلَمْ أنَّ البَصَرَ عندَ أَهْلِ السُّنَّةِ قُوَّةٌ أَوْدَعَهَا اللَّهُ في العَيْنَيْنِ، يَحْصُلُ الإدراكُ عِنْدَهَا بِخَلْقِ اللَّهِ تعالى.
وَأَمَّا عندَ الحُكَمَاءِ فهوَ قُوَّةٌ أَوْدَعَهَا اللَّهُ في العَصَبَتَيْنِ الخَارِجَتَيْنِ منْ مَقْدَمِ الدِّمَاغِ، فَتَنْعَطِفُ العَصَبَةُ التي من الجهةِ اليُمْنَى إلى اليُسْرَى وبالعكسِ، فَيَتَلَاقَيَانِ تَلَاقِيًا صَلِيبِيًّا هكذا +.
وقيلَ: يَتَلَاقَيَانِ كَتَلَاقِي دَالَيْنِ مَقْلُوبَتَيْنِ ظَهَرَ كُلٌّ مِنْهُمَا في ظَهْرِ الأُخْرَى هَكَذَا.
قَوْلُهُ: (وَإِطْلَاقُهُ)، أي: العَمَى.
وقولُهُ: (عَلَى عَمَى البَصِيرَةِ)، كَانَ الأَوْلَى أنْ يَقُولَ على جَهْلِ البَصِيرَةِ، وَيَسْتَغْنِيَ عَن الجُمْلَةِ التي بَعْدَ ذلكَ، والبَصِيرَةُ عَيْنٌ في القَلْبِ، وَقِيلَ: قُوَّةٌ تُدْرَكُ بها المَعْقُولَاتُ.
وقولُهُ: (وهوَ الجَهْلُ)، أيْ: عَمَى البَصِيرَةِ هوَ الجَهْلُ.
وقولُهُ: (إِطْلَاقٌ مَجَازِيٌّ)، بالاستعارةِ التَّصْرِيحِيَّةِ، وَتَقْرِيرُهَا أنْ يُقَالَ: شَبَّهَ الجَهْلَ بِمَعْنَى العَمَى بِجَامِعِ التَّحَيُّرِ وَعَدَمِ الاهْتِدَاءِ للمقصودِ بِسَبَبِ كُلٍّ مِنْهُمَا، واسْتُعِيرَ لَفْظُ المُشَبَّهِ بِهِ وهوَ العَمَى لِلمُشَبَّهِ على طَرِيقِ الاستعارةِ المُصَرَّحَةِ.
قَوْلُهُ: (والعَمَى الضَّارُّ هوَ عَمَى القَلْبِ)، كانَ الأَوْلَى تَأْخِيرُ ذلكَ عنْ قَوْلِهِ: "وَسُمِّيَ الجَهْلُ بالعَمَى ..إلخ"؛ لأنَّهُ في الحقيقةِ تَوْجِيهٌ للإطلاقِ المَجَازِيِّ، فَقَدْ وَسَّطَ هذا بَيْنَ المجازِ وما يُنَاسِبُهُ، ثمَّ أَتَى بِمَا يُقَابِلُ المُتَوَسِّطَ حيثُ قَالَ: "وَأَمَّا عَمَى البصرِ ..إلخ"؛ فَإِنَّهُ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: "والعَمَى الضَّارُّ هُوَ عَمَى القلبِ"، وَلَا يَخْفَى مَا في ذلكَ مِنْ تَشْتِيتِ التَّرْكِيبِ كَما قالَ العلَّامَةُ الأَمِيرُ.
قَوْلُهُ: (وَسُمِّيَ الجَهْلُ بِالعَمَى)، أيْ: مَجَازًا، كما عَلِمْتَهُ مِمَّا سَبَقَ.
وَقَوْلُهُ: (لأنَّ الجاهلَ ..إلخ)، لَا يَخْفَى أنَّ (الجاهلَ) اسْمُ أنَّ، وَجُمْلَةَ (يُشْبِهُ الأَعْمَى) خَبَرُهَا.
وقولُهُ: (لِكَوْنِهِ مُتَحِيَّرًا)، عِلَّةٌ مُتَوَسِّطَةٌ بينَ اسمِ أنَّ وَخَبَرِهَا.
قولُهُ: (وَأَمَّا عَمَى البَصَرِ فَلَيْسَ بِضَارٍّ ..إلخ)، قدْ عَرَفْتَ أنَّهُ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: والعَمَى الضارُّ هوَ عَمَى القَلْبِ. وقالَ ابنُ عَبَّاسٍ لَمَّا عَمِيَ في آخِرِ عُمُرِهِ:

إِنْ يَأْخُذ اللَّهُ مِنْ عَيْنَيَّ نُورَهُمَا = فَإِنَّ قَلْبِي مُضِيءٌ مَا بهِ صَرَرُ
أَرَى بِقَلْبِي دُنْيَايَ وَآخِرَتِي = وَالقَلْبُ يُدْرِكُ ما لَا يُدْرِكُ البَصَرُ
قَوْلُهُ: (قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ..إلخ)، اسْتِدْلَالًا على ما ادَّعَاهُ منْ أنَّ الضارَّ إِنَّمَا هوَ عَمَى القَلْبِ، وَأَما عَمَى البَصَرِ فَلَيْسَ بِضَارٍّ في الدِّينِ.
وَسَبَبُ نُزُولِ هذهِ الآيةِ؛ أنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قولُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى} قَالَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ: أَنَا فِي الدُّنْيَا أَعْمَى، أَفَأَكُونُ في الآخِرَةِ أَعْمَى؟ فَنَزَلَتْ.
قَوْلُهُ: ({فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ})، أيْ: فَإِنَّ القصَّةَ لا تَعْمَى الأبصارُ عَمًى ضَارًّا في الدِّينِ، فالضميرُ للقصَّةِ يُفَسِّرُهُ الجملةُ بَعْدَهُ، والمَنْفِيُّ إِنَّمَا هوَ العَمَى الضَّارُّ في الدِّينِ، وَإِلَّا فَعَمَى الأبصارِ وَاقِعٌ لا يَصِحُّ نَفْيُهُ.
وقولُهُ: (وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ)، أَيْ: وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ عَمًى ضَارًّا في الدِّينِ.
وقولُهُ: (الَّتِي فِي الصُّدُورِ)، للتأكيدِ؛ لأنَّ القلوبَ لَا تَكُونُ إِلَّا في الصدورِ، فهوَ على حَدِّ قَوْلِكَ: سَمِعْتُ بِأُذُنِي وَأَبْصَرْتُ بِعَيْنِي، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ}.
قَوْلُهُ: (وقالَ قَتَادَةُ ..إلخ)، أَتَى بِذَلِكَ لأنَّهُ يُعْلَمُ منهُ أنَّ فَقْدَ البَصَرِ الظَّاهِرَ لَا يَضُرُّ، وَأَنَّ فَقْدَ بَصَرِ القلبِ هوَ الضارُّ.

وَقَتَادَةُ تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ ثِقَةٌ، يُقَالُ: وُلِدَ أَكْمَهَ، وَقَد اتَّفَقُوا عَلَى أنَّهُ أَحْفَظُ أَصْحَابِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ.
قَوْلُهُ: (البَصَرُ الظَّاهِرُ)، أَي: الَّذِي هُوَ بَصَرُ العَيْنِ.
وقولُهُ: (بُلْغَةٌ)، أيْ: شَيْءٌ قَلِيلٌ يَبْلُغُ بهِ الإنسانُ مَا يُرِيدُ منْ إِدْرَاكِ الأشخاصِ والألوانِ. وفي المُخْتَارِ: البُلْغَةُ ما يُبْتَلَغُ بهِ من العيشِ، أيْ يُكْتَفَى بِهِ.
وقولُهُ: (وَمَنْفَعَةٌ)، عَطْفُ تَفْسِيرٍ.
وقولُهُ: (وَبَصَرُ القَلْبِ هوَ النَّافِعُ)، أيْ: في الدِّينِ، فهوَ نَافِعٌ نَفْعًا كَافِلًا.
وقولُهُ: (انْتَهَى)، أيْ: كَلَامُ قَتَادَةَ.
قَوْلُهُ: (وَلَمَّا حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى، صَلَّى ..إلخ)، دُخُولٌ على كلامِ المُصَنِّفِ.

ثمَّ إنْ كَانَتْ لَمَّا حَرْفًا لِمُجَرَّدِ الربطِ فالأمرُ ظَاهِرٌ، وإنْ كَانَتْ بِمَعْنَى حِينَ أُشْكِلَ الأَمْرُ؛ لأنَّ كُلًّا من الحمدِ والصلاةِ مُتَعَلِّقَانِ باللسانِ، وهوَ لا يَكُونُ مُورِدًا لهما في آنٍ وَاحِدٍ كما يَقْتَضِيهِ كَلَامُهُ حِينئذٍ؛ لأنَّ المعنى عَلَى هذا: وَحِينَ حَمِدَ اللَّهَ صَلَّى ..إلخ. وَأُجِيبَ بأنَّ المرادَ بِقَوْلِهِ: (صَلَّى)، أَرَادَ الصَّلَاةَ.
قَوْلُهُ: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى ..إلخ)، أي: امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى ..إلخ، فهوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، هوَ العِلَّةُ في الحقيقةِ، وَيُحْتَمَلُ أنَّ التقديرَ: لِأَنَّ الصلاةَ مَطْلُوبَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ..إلخ. وعلى الأَوَّلِ فاللَّامُ لِلتَّعْدِيَةِ لا للتعليلِ، وعلى الثاني بِالعَكْسِ.

قَوْلُهُ: ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا})، إِنَّمَا أَكَّدَ في الآيةِ السلامَ بالمصدرِ، وهوَ قولُهُ: تَسْلِيمًا، دُونَ الصَّلَاةِ؛ لأنَّ الصلاةَ مُؤَكَّدَةٌ بِلَفْظَةِ إِنَّ؛ وَلَأَنَّ اللَّهَ تَوَلَّاهَا بِنَفْسِهِ وَتَوَلَّتْهَا مَلَائِكَتُهُ ،كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}؛ وَلَأَنَّهَا قُدِّمَتْ لَفْظًا، والتقديمُ يَدُلُّ عَلَى الاهتمامِ؛ ولأنَّ مَصْدَرَهَا وهوَ التَّصْلِيَةُ في إطلاقِهِ بَشَاعَةٌ بِخِلَافِ التَّسْلِيمِ.
فَإِنْ قِيلَ: التأكيدُ كَمَا يَكُونُ بِالمَصْدَرِ يَكُونُ بِاسْمِ المَصْدَرِ، أُجِيبَ بأنَّ التَّنَاسُبَ مَطْلُوبٌ بَيْنَ التَّأْكِيدَيْنِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَانَ يُمْكِنُ الإِتْيَانُ بِاسْمِ المَصْدَرِ فِيهِمَا فَيَحْصُلُ التَّنَاسُبُ مَعَ عَدَمِ البَشَاعَةِ،
أُجِيبَ بِأَنَّ الأصلَ التَّأْكِيدُ بِالمَصْدَرِ، فَإِذَا أَتَى لَا يُسْأَلُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يُعْتَذَرُ عَنْ تَرْكِ التَّأْكِيدِ فِي الصَّلَاةِ بِمَا تَقَدَّمَ.
وَأَبْدَى العَلَّامَةُ الأَمِيرُ في ذلكَ وَجْهًا آخَرَ حَاصِلُهُ أنَّ الصلاةَ لَمْ تُؤَكَّدْ لِكَوْنِهَا لَا تُسْتَعْمَلُ في العامَّةِ، بِخِلَافِ السَّلَامِ فَإِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ في العَامَّةِ، فَلَوْ لَمْ يُؤَكَّدْ لَتُوُهِّمَ أنَّهُ يُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ كَسَلَامِ العَامَّةِ، فَالمَعْنَى: وَسَلِّمُوا عَلَيْهِ تَسْلِيمًا عَظِيمًا، كَأَنْ تَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، لَا كَسَلَامِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا}.
قَوْلُهُ: (وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى).
وقولُهُ: ( ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ فِي كِتَابٍ)) )، أيْ: مَنْ كَتَبَ الصَّلَاةَ عَلَيَّ وَتَلَفَظَّ بِهَا فِي كِتَابٍ، فَهَذَا الثَّوَابُ المَخْصُوصُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الكِتَابَةِ والتَّلَفُّظِ، وَإِنْ كَانَ المُقْتَصِرُ عَلَى أَحَدِهِمَا يَحْصُلُ لَهُ أَجْرٌ.

والمُتَبَادَرُ أنَّ المُرَادَ بالكتابِ الأَوَّلِ المَكْتُوبُ كالثَّانِي على القاعدةِ مِنْ أنَّ النَّكِرَةَ إذا أُعِيدَتْ مَعْرِفَةً كَانَتْ عَيْنًا.
وَجَعَلَ بَعْضُهُم الكتابَ الأَوَّلَ بِمَعْنَى المَصْدَرِ، والكِتَابَ الثَّانِيَ بِمَعْنَى المَكْتُوبِ، فَيَكُونُ فِيهِ شِبْهُ اسْتِخْدَامٍ، والمَعْنَى: مَنْ صَلَّى عَلَيَّ فِي حَالِ كِتَابِةِ اسْمِي ..إلخ. وَيَكُونُ حِينَئِذٍ عَلَى خِلَافِ القَاعِدَةِ؛ لأنَّها أَغْلَبِيَّةٌ.
وقولُهُ: ( ((لَمْ تَزَلِ الْمَلَائِكَةُ تَسْتَغْفِرُ لَهُ)) )، أَيْ بِصِيغَةِ الاستغفارِ أوْ مَا يَرْجِعُ إِلَيْهَا؛ لِحَدِيثِ: ((إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ، تَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ)). والأظهرُ أنَّ المرادَ بِالمَلَائِكَةِ خُصُوصُ الحَفَظَةِ كَمَا قَالَ بَعْضُهُم، وَيُحْتَمَلُ أنَّ المرادَ مَا يَشْمَلُهُمْ وَغَيْرَهُمْ.
وقولُهُ: ( ((مَا دَامَ اسْمِي فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ)) )، أيْ: مُدَّةَ دَوَامِ اسْمِي فِي ذَلِكَ الكتَابِ.

وَالمُرَادُ مِن اسْمِهِ اللَّفْظُ الدَّالُّ عليهِ، وَلَوْ ضَمِيرًا أوْ وَصْفًا، نَحْوَ: عَلَيْهِ الصلاةُ والسلامُ، أَو الصلاةُ والسلامُ على البَشِيرِ.
ولوْ مَحَا شَخْصٌ اسمَ النَّبِيِّ مِنْ كتابٍ فَهَلْ يَنْقَطِعُ ثَوَابُ المُصَلِّي أَوْ لَا، وهلْ يَحْرُمُ على المَاحِي أَوْ لَا؟
والذي قَرَّرَهُ بَعْضُ الأشياخِ أنَّهُ لا يَنْقَطِعُ ثَوَابُ المُصَلِّي، وأنَّهُ يَحْرُمُ على المَاحِي، وَلَعَلَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا إذا مَحَاهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ؛ لِكَوْنِهِ قَاصِدًا حينئذٍ قَطْعَ ثَوَابِ المُصَلِّي، فَيُعَامَلُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ. ثمَّ إنَّ هذا الحديثَ سَنَدُهُ ضَعِيفٌ كَمَا قَالَهُ ابنُ حَجَرٍ في كتابِهِ الدُّرِّ المَنْضُودِ. وقالَ ابنُ الجَوْزِيِّ: إِنَّهُ مَوْضُوعٌ. وَقَالَ ابنُ كَثِيرٍ: إِنَّهُ لَمْ يَصِحَّ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ)، عَطْفٌ عَلَى (صَلَّى).
قَوْلُهُ: (ثُمَّ)، هيَ هنا للترتيبِ الإِخْبَارِي أو الرُّتَبِيِّ؛ لِتَأَخُّرِ رُتْبَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالمَخْلُوقِ، وإنْ كَانَ أَفْضَلَ الخَلْقِ على الإطلاقِ، عنْ رُتْبَةِ ما يَتَعَلَّقُ بالخَالِقِ. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ بَعْضِهِمْ:
العَبْدُ عَبْدٌ وَلَوْ تَسَامَى = وَالمَوْلَى مَوْلًى وَإِنْ تَنَزَّلَ
وقولُهُ: (الصَّلَاةُ)، قَدِ اشْتُهِرَ أَنَّهَا مِن الصِّلَةِ؛ لأنَّها وَصْلَةٌ بَيْنَ العبدِ وَرَبِّهِ، وَهُوَ مِن الاشتقاقِ الكَبِيرِ، وهوَ لا يَضُرُّ فيهِ اخْتِلَافُ تَرْتِيبِ الحُرُوفِ.
وقولُهُ: (بَعْدُ)، تَأْكِيدٌ لِاسْتِفَادَةِ البُعْدِيَّةِ منْ ثُمَّ، كذا قالَ بَعْضُهُم.

والأَحْسَنُ أنَّهُ تَأْسِيسٌ؛ لأنَّهُ خَيْرٌ من التأكيدِ.
وَوَجْهُ كَوْنِهِ تَأْسِيسًا أنَّ (ثُمَّ) للترتيبِ في الإخبارِ أوْ في الرُّتْبَةِ كما عَلِمْتَ، وَ(بَعْدُ) للترتيبِ الوُقُوعِيِّ، فَمَفَادُ كُلٍّ غَيْرُ مَفَادِ الأُخْرَى.
قَوْلُهُ: (أيْ: بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ)، أيْ: مِن البَسْمَلَةِ وَالحَمْدَلَةِ. وَأَشَارَ الشَّارِحُ بِذَلِكَ إلى تَقْدِيرِ المُضَافِ إِلَيْهِ المَحْذُوفِ.
وقولُهُ: (وهوَ هُنَا مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ)، أَيْ: وَلَفْظُ (بَعْدُ) فِي كَلَامِ المُصَنِّفِ، وَنَحْوِهِ مِنْ كُلِّ تَرْكِيبٍ ذُكِرَ فِيهِ (بَعْدُ) مَعَ حَذْفِ المُضَافِ إِلَيْهِ، مَبْنِيٌّ على الضَّمِّ؛ لِحَذْفِ المُضَافِ إِلَيْهِ وَنِيَّةِ مَعْنَاهُ.

والمرادُ بِمَعْنَاهُ النِّسْبَةُ التَّقْيِيدِيَّةُ التي بينَ المُضَافِ وَالمُضَافِ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَطْلَقُوا عليها مَعْنَاهُ بِالإِضَافَةِ إلى ضَمِيرِ المُضَافِ إليهِ معَ أَنَّهَا نِسْبَةٌ بَينَ المضافِ والمضافِ إليهِ؛ لأنَّها لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا بِالمُضَافِ إليهِ. وليسَ المرادُ بهِ مَدْلُولَ المضافِ إليهِ كَمَا قدْ يُتَوَهَّمُ منْ ظاهرِ اللفظِ.
ثمَّ إنَّ مَا ذَكَرَهُ الشارحُ من البناءِ غيرُ مُتَعَيِّنٍ؛ إذْ يَجُوزُ النَّصْبُ منْ غَيْرِ تَنْوِينٍ لِحَذْفِ المُضَافِ إِلَيْهِ وَنِيَّةِ لَفْظِهِ.
قَوْلُهُ: (كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ عِنْدَ النُّحَاةِ)، أَيْ: لِمَا هُوَ مُقَرَّرٌ عِنْدَ النُّحَاةِ مِنْ أنَّهُ يُبْنَى عَلَى الضَّمِّ لِحَذْفِ المُضَافِ إِلَيْهِ وَنِيَّةِ مَعْنَاهُ، فَالكَافُ بِمَعْنَى لَامِ التَّعْلِيلِ.
قَوْلُهُ: (والصَّلَاةُ)، إِنَّمَا أَخَّرَ الكلامَ على (الصلاةِ) عن الكلامِ على (بَعْدُ)، معَ أنَّ المناسبَ لِتَرْتِيبِ المَتْنِ العَكْسُ؛ لِطُولِ الكَلَامِ عَلَيْهَا.

وَقَدْ ذَكَرَ مَعْنَاهَا لُغَةً فَقَطْ، وَمَعْنَاهَا شَرْعًا فَقَطْ: أَقْوَالٌ وَأَفْعَالٌ مُفْتَتَحَةٌ بالتكبيرِ مُخْتَتَمَةٌ بِالتَّسْلِيمِ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ.
وَمَعْنَاهَا لُغَةً وَشَرْعًا من اللَّهِ الرحمةُ، وَمِن المَلَائِكَةِ الاستغفارُ، وَمِنْ غَيْرِهِم التَّضَرُّعُ وَالدُّعَاءُ.
وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: مِن اللَّهِ الرَّحْمَةُ، وَمِنْ غَيْرِهِ، وَلَوْ مِن الملائكةِ، الدُّعاءُ؛ لأنَّ الاستغفارَ يُسَمَّى دُعَاءً.
وَهَذَا صَرِيحٌ في أَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ المُشْتَرَكِ اللَّفْظِيِّ، وَضَابِطُهُ أنْ يَتَّحِدَ اللفظُ وَيَتَعَّدَدَ المعنى والوَضْعُ، كَلَفْظِ عَيْنٍ؛ فَإِنَّهُ لَفْظٌ وَاحِدٌ، لَكِنْ وُضِعَ لِلبَاصِرَةِ بِوَضْعٍ، ولِلْجَارِيَةِ بِوَضْعٍ، ولِلذَّهَبِ بِوَضْعٍ، وَهَكَذَا. وهذا على تَفْسِيرِ الجمهورِ المُتَقَدِّمِ.
وَفَسَّرَهَا ابنُ هِشَامٍ بِالعَطْفِ بِفَتْحِ العَيْنِ، وَيَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ بِاخْتِلَافِ المُسْنَدِ إليهِ، فبِالنِّسبةِ للَّهِ تَعَالَى الرَّحْمَةُ، وبِالنِّسبةِ لِلْمَلَائِكَةِ الاستغفارُ،؛ وبالنِّسبةِ لغيرِهِ التَّضَرُّعُ والدعاءُ.
وإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: بِالنِّسْبَةِ للَّهِ الرحمةُ، وَبِالنِّسْبَةِ لغيرِهِ وَلَو الملائكةِ الدعاءُ، وهوَ يَشْمَلُ الاستغفارَ كَمَا مَرَّ.
وعلى هذا التفسيرِ فَهِيَ مِنْ قَبِيلِ المُشْتَرَكِ المَعْنَوِيِّ، وَضَابِطُهُ أنْ يَتَّحِدَ اللفظُ والمعنى والوضْعُ، لَكِنْ هُنَاكَ أَفْرَادٌ اشْتَرَكَتْ فِي ذلكَ المعنى كَلَفْظِ أَسَدٍ؛ فَإِنَّهُ لَفْظٌ وَاحِدٌ، وُضِعَ وَضْعًا وَاحِدًا لِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ الحيوانُ المُفْتَرِسُ، وهناكَ أَفْرَادٌ اشْتَرَكَتْ فيهِ.
وَوَجَّهَ ابنُ هِشَامٍ في مُغْنِيهِ مَا اخْتَارَهُ بِوُجُوهٍ: مِنْهَا أنَّ الأصلَ عَدَمُ تَعَدُّدِ الوَضْعِ، وَمِنْهَا أنَّهُ لَيْسَ لَنَا فِعْلٌ يِخْتَلِفُ باعتبارِ ما يُنْسَبُ إليهِ.
وَرَدَّهُ الدَّمَامِينِيُّ بِوُرُودِ أَفْعَالٍ كَثِيرَةٍ كذلكَ، على أنَّ العطفَ الذي قالَ بهِ هوَ يَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ بِاعْتِبَارِ ما يُنْسَبُ إليهِ، وَمِنْها غَيْرُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (لُغَةً)، أيْ: حَالَ كَوْنِهَا مُنْدَرِجَةً في الألفاظِ اللُّغَوِيَّةِ، فهوَ حالٌ، لَكِنْ فِيهِ أنَّهُ حَالٌ مِن المبتدأِ.
وَيُجَابُ بأنَّهُ جَائِزٌ على رَأْيِ سِيبَوَيْهِ، أوْ يُقَدَّرُ مُضَافٌ، والأصلُ: وَتْفِسيرُ الصلاةِ، وَلَا يُقَالُ: يَلْزَمُ عليهِ حينئذٍ أنَّهُ حَالٌ من المضافِ إليهِ، وهوَ غيرُ جَائِزٍ إِلَّا بِشَرْطِهِ كما يُعْلَمُ منْ قولِ ابنِ مَالِكٍ: ولا تُجِزْ حَالًا من المضافِ لهُ ..إلخ؛ لِأنَّا نَقُولُ: شَرْطُهُ مُتَحَقِّقٌ، وهوَ كَوْنُ المضافِ يَقْتَضِي العملَ في المضافِ إليهِ لِكَوْنِ المُضَافِ مَصْدَرًا.
ومَعْنى اللغةِ في اللغةِ: اللَّهْجُ في الكلامِ، أي الإسراعُ فيهِ.
وَفِي الاصطلاحِ: أَلْفَاظٌ مَوْضُوعَةٌ بِإِزَاءِ مَعَانِيهَا، يُعَبِّرُ بِهَا كُلُّ قَوْمٍ عَنْ أَغْرَاضِهِم.
قَوْلُهُ: (الدُّعَاءُ)، قِيلَ بِخَيْرٍ، وَقِيلَ مُطْلَقًا.

وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الصلاةِ بِمَعْنَى الدعاءِ أنْ لا تَتَعَدَّى في الخيرِ بِـ(عَلَى) كالدعاءِ؛ فَإِنَّهُ إذا عُدِّيَ بِـ(عَلَى) كانَ لِلْمَضَرَّةِ؛ لأنَّهُ لَا يَلْزَمُ في المُتَرَادِفَيْنِ أنْ يَصِحَّ حُلُولُ أَحَدِهِمَا مَحَلَّ الآخَرِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ فِعْلٍ بِمَعْنَى فِعْلٍ أنْ يَتَعَدَّى تَعْدِيَتَهُ. وَفِي المسألةِ خِلَافٌ عندَ الأُصُولِيِّينَ.
قَوْلُهُ: (والصلاةُ المطلوبةُ ..إلخ)، فيهِ إشارةٌ إلى أنَّ جُمْلَةَ الصَّلَاةِ خَبَرِيَّةٌ لَفْظًا إِنْشَائِيَّةٌ مَعْنًى، وهوَ المختارُ.

وَقَالَ الشَّيْخُ يَاسِينُ وَجَمَاعَةٌ بِأَنَّهَا خَبَرِيَّةٌ لَفْظًا وَمَعْنًى؛ نَظَرًا إلى أنَّ المَقْصُودَ التَّعْظِيمُ وَإِظْهَارُ الشَّرَفِ، وذلكَ حاصلٌ بالإخبارِ. والمُرْضِيُّ الأَوَّلُ كَمَا عَلِمْتَ.
قَوْلُهُ: (هيَ رَحْمَتُهُ)، ظَاهِرُهُ أَنَّهَا أَصْلُ الرحمةِ، وعليهِ فَيُشْكِلُ العطفُ فِي قَوْلِهِ تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ}؛ لأنَّ العطفَ يَقْتَضِي المُغَايَرَةَ. وَيُجَابُ بأنَّ العطفَ في الآيةِ لِلتَّفْسِيرِ.

وبعضُهُمْ فَسَّرَ الصَّلَاةَ بالرحمةِ المَقْرُونَةِ بالتعظيمِ، فيكونُ العطفُ في الآيةِ منْ عَطْفِ العَامِّ على الخاصِّ.
وَبُحِثَ فيهِ بأنَّ قَوْلَهُم: المقرونةِ بِالتَّعْظِيمِ، لِخُصُوصِ المَقَامِ النَّبَوِيِّ وليسَ منْ جُمْلَةِ المعنى الموضوعِ لهُ.
قَوْلُهُ: (وَقِيلَ: مَغْفِرَتُهُ)، وَجَّهَهُ الإِسْنَوِيُّ بأنَّ الرحمةَ رِقَّةٌ في القلبِ، وهيَ مُسْتَحِيلَةٌ في حَقِّهِ تَعَالَى، فَلَا يُنَاسِبُ تَفْسِيرَ الصلاةِ بِهَا بَلْ بالمغفرةِ.

وَعليهِ فَالعَطْفُ في الآيةِ مِنْ عَطْفِ المُغَايِرِ، وَإِنَّمَا جُمِعَتْ فيها لِتَعَدُّدِهَا بِعَدَدِ الذنوبِ المغفورةِ، ولا يَخْفَى حُسْنُ الإِحْسَانِ بَعْدَ الغُفْرانِ.
والمرادُ بالمغفرةِ بالنسبةِ للأنبياءِ رَفْعُ دَرَجَاتِهِمْ لَا مَحْوَ الذنوبِ لِاسْتِحَالَتِهَا في حَقِّهِمْ؛ وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: المغفرةُ لَا تَسْتَدْعِي سَبْقَ الذَّنْبِ.
قَوْلُهُ: (وَقِيلَ: كَرَامَتُهُ)، أي: التي يُكْرِمُهُمْ بِهَا، وهوَ قريبٌ من الأَوَّلِ كَمَا قَالَهُ الشيخُ الأميرُ، بَلْ وَقَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ باعتبارِ تَفْسِيرِ المَغْفِرَةِ بِرَفْعِ الدرجاتِ.

وَوَجَّهَ بَعْضُهُمْ هذا القِيلَ بأنَّ الرحمةَ بِمَعْنَى الرِّقَّةِ في القلبِ مُسْتَحِيلَةٌ، وَالمغفرةَ تُشْعِرُ بالذنبِ، فلا يَلِيقُ تَفْسِيرُ الصلاةِ بذلكَ، بلْ بِالكَرَامَةِ.
قَوْلُهُ: (وَقِيلَ: ثَنَاؤُهُ عِنْدَ المَلَائِكَةِ)، أي: ثَنَاؤُهُ تَعَالَى على نَبِيِّهِ عندَ الملائكةِ؛ إِظْهَارًا لِشَرَفِهِ بينهُم.
وَوَجَّهَ بَعْضُهُمْ هذا القِيلَ بأنَّ الرحمةَ بِمَعْنَى الرِّقَّةِ مُسْتَحِيلَةٌ، والمغفرةَ مُوهِمَةٌ لِلذَّنْبِ، والكرامةَ نَوْعٌ من الكمالِ، والنَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُفْرِغَتْ عليهِ الكَمَالَاتُ كُلُّهَا، فَالأَنْسَبُ أنْ تُفَسَّرَ بالثناءِ عندَ الملائكةِ. وَرُدَّ بأنَّهُ مَا مِنْ كمالٍ إِلَّا وعندَ اللَّهِ أَعْلَى مِنْهُ.
وهذهِ الأقوالُ لا قُوَّةَ لَهَا.
قَوْلُهُ: (ذَكَرَ هَذِهِ الأَوْجُهَ الشيخُ ..إلخ)، كانَ المُنَاسِبُ أنْ يقولَ: هذهِ الأقوالَ، كَمَا يُصَرِّحُ بِذَلِكَ تَعْبِيرُهُ بقولِهِ: (وَقِيلَ كَذَا وَقِيلَ كذا)، فَهِيَ أقوالٌ لَا احْتِمَالَاتٌ حَتَّى يُعَبَّرَ عَنْهَا بِأَوْجُهٍ.

وَأُجِيبُ بأنَّهُ عَبَّرَ بِأَوْجُهٍ إِشَارَةً إلى أنَّ تِلْكَ الأقوالَ لا يَنْبَغِي جَعْلُهَا أَقْوَالًا لِتَقَارُبِهَا، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي جَعْلُهَا أَوْجُهًا، أَفَادَهُ بَعْضُهُم.
قَوْلُهُ: (وقَرَنَهَا بالسلامِ)، أيْ: قَرَنَ الصلاةَ بالسلامِ، أيْ عَقَّبَهَا بِهِ؛ لأنَّ مُقَارَنَةَ لَفْظٍ لِآخَرَ ذِكْرُهُ عَقِبَهُ.
وقولُهُ: (خُرُوجًا مِنْ كراهةِ إِفْرَادِ أَحَدِهِمَا عن الآخرِ)، أيْ: عندَ المتأخِّرِينَ. وَأَمَّا عندَ المُتَقَدِّمِينَ فَلَا يُكْرَهُ الإفرادُ. نَعَمْ، هوَ خِلَافُ الأَوْلَى قَطْعًا.

وَمَحَلُّ كَرَاهَتِهِ عندَ المُتَأَخِّرِينَ فِي غَيْرِ الواردِ، وَفِي غيرِ دَاخِلِ الحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ، وفيما إِذَا كَانَ مِنَّا.
فإِنْ كانَ في صيغةٍ واردةٍ فَلَا كَرَاهَةَ، وكذا لا يُكْرَهُ لداخلِ الحجرةِ الشريفةِ الاقتصارُ على السلامِ فَيَقُولُ بِخُضُوعٍ وَأَدَبٍ: السلامُ عَلَيْكَ يا رسولَ اللَّهِ. وإذا كانَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا كَرَاهَةَ؛ لأنَّهُ حَقُّهُ.
وَهَلْ كَرَاهَةُ الإفرادِ خَاصَّةٌ بِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أوْ جَارِيَةٌ فيهِ وَفِي غَيْرِهِ؟ الأَصَحُّ الثاني، لَكِنَّهَا في غَيْرِ نَبِيِّنَا تَكُونُ خَفِيفَةً.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ)، عَطْفٌ على (قَرَنَ).
وقولُهُ: (والسلامُ)، عَطْفٌ على (الصلاةِ).
وقولُهُ: (أي: التَّحِيَّةُ)، تفسيرٌ للسلامِ.

وَلَمْ يَرْتَضِ بَعْضُهُمْ تَفْسِيرَ السلامِ بالأَمَانِ؛ لأنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَخَافُ خَوْفَ عذابٍ لِعِصْمَتِهِ، وإنْ كَانَ يَخَافُ خَوْفَ مَهَابَةٍ وَإِجْلَالٍ.
وقدْ يُقَالُ: المرادُ الأمانُ مِمَّا يَخَافُ عَلَى أُمَّتِهِ؛ لأنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ لَا يَخَافُ العذابَ على نَفْسِهِ يَخَافُهُ على أُمَّتِهِ، فَإِنَّهُ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ. والمرادُ من التَّحِيَّةِ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يُسْمِعَهُ تَعَالَى كَلَامَهُ القَدِيمَ الدَّالَّ عَلَى رِفْعَةِ مَقَامِهِ العظيمِ، كما قالَهُ الشيخُ السَّنُوسِيُّ في شَرْحِ الجَزَائِرِيَّةِ.
قَوْلُهُ: (على نَبِيٍّ)، أيْ: كَائِنَانِ على نَبِيٍّ، فهوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفِ خَبَرٍ عَنْهُمَا، وليسَ مِنْ بابِ التَّنَازُعِ؛ لأنَّهُ لا يَجْرِي في المصادرِ وَلَا في أسماءِ المصادرِ، وَإِنَّمَا قَالَ: عَلَى نَبِيٍّ، وَلَمْ يَقُلْ: عَلَى رَسُولٍ، اتِّبَاعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}.
وَبَعْضُهُمْ جَعَلَ في كلامِ المُصَنِّفِ حَذْفًا، والتقديرُ: على نَبِيٍّ وَرَسُولٍ، كَمَا أنَّ فِي كَلَامِهِ الآتِي، وَهُوَ (خَاتَمُ رُسْلِ رَبِّهِ)، حَذْفًا، والتقديرُ: خَاتَمُ رُسْلِ رَبِّهِ وَأَنْبِيَائِهِ، فَيَكُونُ فِي كَلَامِهِ احْتِبَاكٌ، وهوَ أنْ يَحْذِفَ مِنْ كُلِّ نَظِيرٍ ما أَثْبَتَهُ في الآخَرِ.
قَوْلُهُ: (دِينُهُ الإِسْلَامُ)، جُمْلَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ صِفَةٌ لِـ(نَبِيٍّ)، مُخَصِّصَةٌ إِنْ قُلْنَا بأنَّ الإسلامَ لَا يُطْلَقُ إلَّا عَلَى دِينِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا هوَ الظاهرُ مِنْ قَوْلِ الشَّارِحِ: (وهوَ نَبِيُّنَا). وعلى هذا فَقَوْلُ المُصَنِّفِ بَعْدَ ذَلِكَ: (مُحَمَّدٌ)، بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ.

وَإِنْ قُلْنَا بِأنَّ الإسلامَ يُطْلَقُ عَلَى دِينِ غيرِ نَبِيِّنَا أَيْضًا، فَلَيْسَت الجُمْلَةُ صِفَةً مُخَصِّصَةً. وَيَكُونُ قَوْلُ الشارحِ: (وهوَ نَبِيُّنَا)، أيْ: في هذا المقامِ، فَلَا يُنَافِي أنَّهُ يَشْمَلُ غَيْرَ نَبِيِّنَا أَيْضًا. وقولُ المُصَنِّفِ بعدَ ذلكَ: (مُحَمَّدٌ)، مُخَصِّصٌ لِلنَّبِيِّ المذكورِ.
وَمَعْنَى الجملةِ، وهيَ قَوْلُهُ: (دِينُهُ الإِسْلَامُ): أَحْكَامُهُ التي يَتَدَيَّنُ بِهَا هيَ الأحكامُ المُعَبَّرُ عَنْهَا بالإسلامِ، أو المعنى: طَرِيقَتُهُ التي أَتَى بِهَا هيَ الانقيادُ والخضوعُ لِأُلُوهِيَّتِهِ تَعَالَى.
فالدِّينُ إمَّا بِمَعْنَى الأحكامِ المُتَدَيَّنِ بِهَا، والإسلامُ بِمَعْنَى الأحكامِ المُنَقَادِ لَهَا.
وإمَّا بِمَعْنَى الطريقةِ، والإسلامُ بِمَعْنَى الانقيادِ والخضوعِ. وعلى هَذَيْنِ الحَلَّيْنِ فَالإِخْبَارُ ظَاهِرٌ.
وَأَمَّا عَلَى تَفْسِيرِ الشَّارِحِ فالإخبارُ غَيْرُ ظَاهِرٍ؛ لأنَّهُ فَسَّرَ الدينَ بِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى من الأحكامِ، ثمَّ فَسَّرَ الإسلامَ بالانقيادِ والخضوعِ لِأُلُوهِيَّتِهِ تَعَالَى، وحينئذٍ فَلَا يَظْهَرُ الحَمْلُ والإخبارُ إلَّا أنْ يُقَدَّرَ مُضَافٌ، والتقديرُ: دِينُهُ مُتَعَلِّقُ الإسلامِ، فَيَظْهَرُ الحملُ والإخبارُ بِتَقْدِيرِ هذا المضافِ؛ لأنَّ الإسلامَ بِمَعْنَى الانقيادِ والخضوعِ مُتَعَلِّقٌ بِكَسْرِ اللامِ، والأحكامُ مُتَعَلِّقٌ بِفَتْحِهَا، فَتَدَبَّرْ.
قَوْلُهُ: (وهوَ نَبِيُّنَا)، أيْ: والنَّبِيُّ الذي دِينُهُ الإسلامُ نَبِيُّنَا.

وَقَدْ عَرَفْتَ أنَّ هَذَا يَقْتَضِي أنَّ الإسلامَ لا يُطْلَقُ على دِينِ غيرِ نَبِيِّنَا، وهوَ قَوْلٌ، وَبَعْضُهُمْ صَحَّحَهُ.
وَيُحْتَمَلُ أنَّ المَعْنَى: وَهُوَ نَبِيُّنَا في هذا المقامِ، فَلَا يُنَافِي أنَّ الإسلامَ يُطْلَقُ على دِينِ غَيْرِ نَبِيِّنَا أيضًا، كما هوَ القولُ الثاني.
والحَقُّ أنَّ الخلافَ لَفْظِيٌّ؛ لأنَّ القولَ بأنَّ الإسلامَ مَخْصُوصٌ بهذا الدِّينِ مَنْظُورٌ فيهِ للإسلامِ المُخَصَّصِ، والقولُ بأنَّ الإسلامَ يُطْلَقُ على كُلِّ دِينٍ مَنْظُورٌ فيهِ لِمُطْلَقِ الإسلامِ. أَفَادَهُ المُحَقِّقُ الأَمِيرُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى)، هذا استدلالٌ على أنَّ دِينَ نَبِيِّنَا هوَ الإسلامُ، وَمَحَلُّ الدليلِ قَوْلُهُ: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ}؛ لأنَّهُ يُعْلَمُ منْ تَسْمِيَتِنَا مُسْلِمِينَ تَسْمِيَةُ دِينِنَا بِالإسْلَامِ.

ولو اسْتَدَلَّ بقولِهِ تعالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا} لَكَانَ أَوْضَحَ فِي الاسْتِدْلَالِ.
قَوْلُهُ: ({مِلَّةَ أَبِيكُمْ})، مَنْصُوبٌ على الإِغْرَاءِ، والتقديرُ: الْزَمُوا مِلَّةَ أَبِيكُمْ.

وَيُحْتَمَلُ أنَّ المَعْنَى: وَسَّعَ عَلَيْكُمْ مِلَّتَكُمْ تَوْسِعَةَ مِلَّةِ أَبِيكُم، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، فَحُذِفَ المُضَافُ وَأُقِيمَ المُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، فَانْتَصَبَ انْتِصَابَهُ.
وَلَا يُرَدُّ على الأَوَّلِ أَنَّا مَأْمُورُونَ بِلُزُومِ مِلَّةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ لَا بِلُزُومِ مِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ؛ لأنَّا نَقُولُ: مِلَّةُ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ هِيَ مِلَّةُ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ في الأصولِ وَإِنْ خَالَفَتْهَا فِي بَعْضِ الفُرُوعِ.
وقولُهُ: ({إِبْرَاهِيمَ})، بَدَلٌ مِنْ {أَبِيكُم}، أوْ عَطْفُ بَيَانٍ.
وقولُهُ: ({هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ})، أَي: اللَّهُ تَعَالَى سَمَّاكُم المُسْلِمِينَ، فالضميرُ عَائِدٌ على اللَّهِ تَعَالى عِنْدَ الأكثرينَ، وَيَدُلُّ لَهُ مَا قُرِئَ شَاذًّا: "اللَّهُ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ"، وَالمعنى عَلَيْهِ: اللَّهُ سَمَّاكُم المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا، أيْ فِي الكُتُبِ السَّابِقَةِ التي أَنْزَلَهَا مِنْ قَبْلِ القرآنِ وَفِي هذا القرآنِ، ولا إِشْكَالَ على هذا. وَبَعْضُهُمْ جَعَلَ الضميرَ رَاجِعًا لِإِبْرَاهِيمَ؛ لأنَّهُ قَالَ: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَكَ}، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ فَجَعَلَها أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

وَاسْتُشْكِلَ هذا بِعَطْفِ قَوْلِهِ: {وَفِي هَذَا}، على قَوْلِهِ: {مِنْ قَبْلُ}؛ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أنَّ تَسْمِيَتَنَا مُسْلِمِينَ وَقَعَتْ مِنْ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ فِي القُرْآنِ، وهوَ غيرُ صَحِيحٍ؛ إذ القُرْآنُ إِنَّمَا أُنْزِلَ بَعْدَهُ،
وَأُجِيبَ بأنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَطْفِ المفرداتِ حتَّى يَلْزَمَ مَا ذُكِرَ، بلْ مِنْ عَطْفِ الجُمَلِ، والكلامُ فيهِ حَذْفٌ، والتقديرُ: هوَ سَمَّاكُم المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ، وَأَنَا سَمَّيْتُكُم المُسْلِمِينَ في هذا، فالضميرُ في الجملةِ الأولى لِإِبْرَاهِيمَ، وفي الثانيةِ للَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (وَالنَّبِيُّ ..إلخ)، شُرُوعٌ في تفسيرِ ألفاظِ المَتْنِ، فَفَسَّرَ لَفْظَ النَّبِيِّ وَلَفْظَ الدِّينِ وَلَفْظَ الإسلامِ.

وَلَمَّا فَسَّرَ الإسلامَ احْتَاجَ الأمْرُ لِتَفْسِيرِ الإيمانِ لِمَا سِيَأْتِي مِنْ أنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ، وَبِالعَكْسِ.
قَوْلُهُ: (إِنْسَانٌ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِشَرْعٍ)، اعْتَرَضَ بَعْضُهمْ على التعبيرِ بالإنسانِ حَيْثُ قالَ: والنَّبِيُّ ذَكَرٌ مِنْ بَنِي آدَمَ أُوحِيَ إليهِ بِشَرْعٍ، ثمَّ قَالَ: وَقَوْلُنَا ذَكَرٌ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِمْ إِنْسَانٌ؛ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ اسْتِنْبَاءِ أُنْثَى مِنْ بَنِي آدَمَ، ا هـ.

وَأَنْتَ خَبِيرٌ بأنَّ مَا دَعَاهُ مِن الإجماعِ مَمْنُوعٌ؛ لأنَّهُ قَدْ ذَهَبَ الأَشْعَرِيُّ إلى عَدَمِ اشتراطِ الذُّكُورةِ في النُّبُوَّةِ، ولذلكَ قِيلَ بِنُبُوَّةِ بَعْضِ النِّسَاءِ كَمَرْيَمَ وَآسِيَةَ وَهَاجَرَ وَسَارَةَ،
لكنَّ الراجحَ اشْتِرَاطُ الذكورةِ، فَلَمْ تَكُن الأُنْثَى نَبِيَّةً، ولذلكَ قَالَ صَاحِبُ بَدْءِ الأَمَالِي:
وَمَا كَانَتْ نَبِيًّا قَطُّ أُنْثَى = وَلَا عَبْدٌ وَشَخْصٌ ذُو فِعَالِ
أيْ: فِعْلٍ قَبِيحٍ.
عَلَى أنَّ الاعتراضَ إِنَّمَا يَتَّجِهُ على أنَّ الإنسانَ يُقَالُ لِلذَّكَرِ والأنثى، لا على أنَّهُ يُقَالُ لِلذَّكَرِ فَقَطْ، وَأَمَّا الأنثى فَيُقَالُ لَهَا إِنْسَانَةٌ كَمَا قَالَ القَائِلُ:
إِنْسَانَةٌ فَتَّانَةٌ = بَدْرُ الدُّجَا مِنْهَا خَجِلْ
قَوْلُهُ: (وَإِنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِتَبْلِيغِهِ)، أيْ: سَوَاءٌ أُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ أوْ لمْ يُؤْمَرْ بِتَبْلِيغِهِ.
فإنْ قِيلَ: قدْ تَعَلَّقَ الإرسالُ بالنَّبِيِّ في قولِهِ تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} إلخ، فَيقْتَضِي تَرَادُفُهُمَا لِتَسْلِيطِ الإرسالِ عَلَيْهِمَا مَعًا، ويكونُ العطفُ في الآيةِ مِنْ عَطْفِ المرادفِ،
أُجِيبَ بأنَّ المرادَ بالرسولِ في الآيةِ مَنْ أُرْسِلَ بِشَرْعٍ جَدِيدٍ، والمرادُ بِالنَّبِيِّ فيها نَبِيٌّ مَخْصُوصٌ، وهوَ مَنْ أُرْسِلَ مُقَرَّرُ الشَّرْعِ مِنْ قِبَلِهِ، كَسُلَيْمَانَ وَدَاوُدَ وَغَيْرِهِمَا منْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الذينَ بَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى، فَإِنَّهُم أُرْسِلُوا لِيُقَرِّروا التوراةَ، والعطفُ حينئذٍ منْ عَطْفِ المُغَايِرِ.
وقيلَ: المرادُ -واللَّهُ أَعْلَمُ-: وَلَا نَبَّأْنَا منْ نَبِيٍّ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ: وَزَجَّجْنَ الحَوَاجِبَ وَالعُيُونَا، فَيُقَدَّرُ لَهُ عَامِلٌ يُنَاسِبُهُ، ويكونُ منْ عَطْفِ الجُمَلِ.
ومعنى الآيةِ عَلَى سَبِيلِ الإجمالِ: أنَّ اللَّهَ لم يُرْسِلْ رَسُولًا ولا نَبِيًّا على ما تَقَدَّمَ إِلَّا إذا دَعَا لِأُمَّتِهِ حَاكَى الشيطانُ صَوْتَهُ وَدَعَا بِأَدْعِيَةٍ لا تَلِيقُ، فَيُزِيلُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشيطانُ، ثمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ، وليسَ المُرَادُ أنَّ الشيطانَ يُلْقِي فِي قِرَاءَةِ الرسولِ شَيْئًا مِنْ عِنْدِهِ كما قالَ بذلكَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ، واللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الحَالِ. قَوْلُهُ: (فَإِنْ أُمِرَ بِذَلِكَ فَرَسُولٌ أَيْضًا)، أيْ فإنْ أُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ فَهُوَ رَسُولٌ كَمَا أنَّهُ نَبِيٌّ.
وقولُهُ: (فَالنَّبِيُّ أَعَمُّ من الرسولِ)، أيْ: عُمُومًا مُطْلَقًا؛ لأنَّ كُلَّ رَسُولٍ نَبِيٌّ، وَلَا عَكْسَ.

وبَعْضُهُم جَعَلَ الرسولَ أَعَمَّ من النَّبِيِّ أيضًا، قَالَ: لِأَنَّ الرسولَ يَكُونُ مِن الملائكةِ بِدَلِيلِ: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا}.
ويُعْلَمُ مِنْ هذا معَ الأَوَّلِ أنَّ بَيْنَهُمَا العمومَ والخُصُوصَ الوَجْهِيَّ، لَكِنَّ الحَقَّ أَنَّ الرسولَ كَالنَّبِيِّ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ بَنِي آدَمَ، والمرادُ مِنْ كَوْنِ الملائكةِ رُسُلًا في الآيةِ أَنَّهُم سُفَرَاءُ، أيْ: نُوَّابٌ وَوَاسِطَةٌ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ رُسُلِهِ.
قَوْلُهُ: (وقِيلَ: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ)، أي: النَّبِيُّ والرسولُ مُلْتَبِسَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
وقولُهُ: (وَهُو مَعْنَى الرَّسُولِ)، أيْ: وَهُوَ إِنْسَانٌ أُوحِيَ إليهِ بِشَرْعٍ يَعْمَلُ بِهِ وَأُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ.

وَيَلْزَمُ على هذا القولِ أنَّ مَنْ أُوحِيَ إليهِ بِشَرْعٍ يَعْمَلُ بهِ ولمْ يُؤْمَرْ بِتَبْلِيغِهِ ليسَ نَبِيًّا وَلَا رَسُولًا، وَلَعَلَّهُ وَلِيٌّ أوْ أَرْقَى مَرْتَبَةً مِن الوَلِيِّ، فَلْيُحَرَّرْ.
قَوْلُهُ: (والنَّبِيءُ بِالهَمْزِ ..إلخ)، وَإِنَّمَا نَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المَهْمُوزِ بِقَوْلِهِ: "لَا تَقُولُوا: يَا نَبِيءَ اللَّهِ" بِالهَمْزِ؛ لأنَّهُ قَدْ يَرِدُ بِمَعْنَى الطريدِ، فَخَشِيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ابْتِدَاءِ الإسلامِ سَبْقَ هذا المعنى إِلَى بَعْضِ الأذهانِ، فَنَهَاهُمْ عَنْهُ. فَلَمَّا قَوِيَ إِسْلَامُهُمْ وَلَمْ يَخْشَ هذا التَّوَهُّمَ نَسَخَ النَّهْيَ عنهُ لِزَوَالِ سَبَبِهِ.
قَوْلُهُ: (مِنَ النَّبَأِ)، أيْ مَأْخُوذٌ مِن النَّبَأِ.
وقولُهُ: (أي: الخَبَرُ)، تَفْسِيرٌ لِلنَّبَأِ،

وَقَوْلُهُ: (لِأَنَّهُ مُخْبِرٌ عن اللَّهِ تعالى)، عِلَّةٌ لِأَخْذِهِ من النَّبَأِ بِمَعْنَى الخبرِ. وَيَصِحُّ قِرَاءَةُ مُخْبَرٌ بِفَتْحِ البَاءِ؛ لأنَّ المَلَكَ يُخْبِرُهُ بِالأَحْكَامِ عن اللَّهِ تَعَالَى، وَبِكَسْرِهَا لأنَّهُ يُخْبِرُنَا بِهَا عن اللَّهِ تَعَالَى إِنْ كَانَ رَسُولًا، وَيُخْبِرُنَا بِنُبُوَّتِهِ لِيُحْتَرَمَ إِنْ كَانَ نَبِيًّا فَقَطْ، فَهُوَ إمَّا بِمَعْنَى اسْمِ الفاعلِ أو اسمِ المَفْعُولِ.
قَوْلُهُ: (وَبِلَا هَمْزٍ)، أيْ: لَكِنْ بالتشديدِ.

وقولُهُ: (وهوَ الأكثرُ)، أيْ: عَدَمُ الهَمْزِ أَكْثَرُ من الهَمْزِ.
وقولُهُ: (مِن النَّبْوَةِ)، أيْ: مأخوذٌ مِن النَّبْوَةِ بِفَتْحِ النونِ وَسُكُونِ الباءِ وَفَتْحِ الواوِ، وَيُحْتَمَلُ أنَّهُ مُخَفَّفُ المَهْمُوزِ.
وقولُهُ: (وهيَ الرِّفْعَةُ)، اعْتُرِضَ بأنَّ الذي في القاموسِ أَنَّهَا المكانُ المرتفعُ،

وَأُجِيبَ بأنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُ كلامِ القاموسِ على التَّسَامُحِ؛ لأنَّ الرِّفْعَةَ يَلْزَمُهَا المكانُ المُرْتَفِعُ غَالِبًا.
قَوْلُهُ: (لأنَّ النبيَّ مَرْفُوعُ الرُّتْبَةِ)، أيْ: ولأنَّهُ رَافِعٌ رُتْبَةَ مَن اتِّبَعَهُ، فهوَ إمَّا بِمَعْنَى اسْمِ الفَاعِلِ أو اسمِ المفعولِ أَيْضًا.
فعلى كُلٍّ مِنْ أَخْذِهِ مِن النبأِ أوْ من النَّبْوَةِ فيهِ الوَجْهَانِ.
وَكَوْنُ النبيِّ مَرْفُوعَ الرُّتْبَةِ: إمَّا مُطْلَقًا، وذلكَ في نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَإِنَّهُ مَرْفُوعُ الرُّتْبَةِ على غَيْرِهِ مِن الخَلْقِ مُطْلَقًا.
وإمَّا على غَيْرِهِ لَا مُطْلَقًا، وذلكَ في غيرِ نَبِيَّنَا؛ فَإِنَّ كُلَّ نَبِيٍّ مَرْفُوعُ الرُّتْبَةِ على أُمَّتِهِ، وَبَعْضَ الأنبياءِ مَرْفُوعُ الرُّتْبةِ، كَأُولِي العَزْمِ، عَلَى بَعْضٍ، كَبَاقِي الأنبياءِ.
قَوْلُهُ: (والدِّينُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى)، أي: الدينُ شَرْعًا: مَا شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَبَيَّنَهُ على لسانِ الرسولِ.
وقولُهُ: (مِن الأحكامِ)، بَيَانٌ لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ تعالى.

وَأَمَّا لُغَةً: فَلَهُ مَعَانٍ: منها الجزاءُ والحسابُ وَغَيْرُ ذلكَ.
وما ذَكَرَهُ الشارحُ من التعريفِ المُخْتَصَرِ مُسَاوٍ للتعريفِ المُطَوَّلِ، وهوَ وَضْعٌ إِلَهِيٌّ سَائِقٌ لِذَوِي العُقُولِ السَّلِيمَةِ بِاخْتِيَارِهِم المحمودِ إلى ما هوَ خيرٌ لَهُم بالذاتِ، لِيَنَالُوا سعادةَ الدَّارَيْنِ. وقدْ أَوْضَحْنَاهُ في حاشيةِ الجَوْهَرَةِ وَغَيْرِهَا.
قَوْلُهُ: (والإسلامُ هوَ ..إلخ)، أيْ شَرْعًا، وَأَمَّا لُغَةً فَهُوَ: مُطْلَقُ الخضوعِ والانقيادِ.
وقولُهُ: (هو الخُضُوعُ والانْقِيَادُ لِأُلُوهِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى)، أيْ: لِأَحْكَامِهَا، يعني الخُضُوعَ والانقيادَ لَهَا ظَاهِرًا، وإِنْ لَمْ يَفْعَلْ على التحقيقِ.

وَقِيلَ: الإسلامُ هوَ الإيمانُ، وَيَدُلُّ لهُ قَوْلُهُ تَعَالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ}. أَفَادَهُ الشيخُ الأميرُ بِزِيَادَةٍ.
قَوْلُهُ: (وَلَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِقَبُولِ الأمرِ والنَّهْيِ)، أيْ: وَلَا يَثْبُتُ ذلكَ عِنْدَ اللَّهِ بِحَيْثُ يَكُونُ مُعْتَبَرًا وَنَافِعًا إِلَّا بِقَبُولِ الأمرِ والنهْيِ بَاطِنًا، بِأَنْ يُصَدِّقَ بِذَلِكَ بِقَلْبِهِ. قَوْلُهُ: (والإيمانُ هو ..إلخ)، أيْ شَرْعًا، وأَمَّا لُغَةً فهوَ: مُطْلَقُ التصديقِ، ومنهُ قولُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا}، أيْ: بِمُصَدِّقٍ لَنَا.
وقولُهُ: (هوَ التصديقُ)، أيْ: حديثُ النفسِ وَإِذْعَانُهَا التَّابِعُ للمعرفةِ أوْ للاعتقادِ ولوْ بالتَّقْلِيدِ، لَا نَفْسُ المعرفةِ؛ لِوُجُودِهَا عندَ بعضِ الكُفَّارِ المَوْجُودِينَ في زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ تَعَالَى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}. فَلَيْسَ المُرَادُ التصديقُ المَنْطِقِيُّ الذي هوَ إدراكُ وُقُوعِ الشيءِ أوْ لا وُقُوعِهِ، بلْ حديثُ النفسِ وَإِذْعَانُهَا كَمَا عَلِمْتَ.
وقولُهُ: (بِمَا جَاءَ منْ عندِ اللَّهِ)، أيْ: وَعُلِمَ من الدينِ بالضَّرُورَةِ، كَفَرْضِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ والصَّوْمِ وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وقولُهُ: (والإقرارُ بهِ)، أيْ: بأنْ يَنْطِقَ بالشهادتَيْنِ، فالمرادُ بهِ الإتيانُ بهما.

وظاهرُ كلامِ الشَّرْحِ أنَّهُ شَطْرٌ، وهوَ مَذْهَبُ بَعْضِ العلماءِ. وعليهِ فالإيمانُ مُرَكَّبٌ منْ جُزْأَيْنِ:
أَحَدُهُمَا التصديقُ، وَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ السقوطَ. وثَانِيهُمَا الإقرارُ، وهوَ يَحْتَمِلُ السقوطَ كَمَا لو لَمْ يَتَمَكَّنْ مِن النُّطْقِ لِإِكْرَاهٍ أوْ نحوِهِ.
والراجحُ أنَّ الإقرارَ شَرْطٌ لِإِجْرَاءِ الأَحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَقَطْ، كالصلاةِ عليهِ وَدَفْنِهِ في مقابرِ المُسْلِمِينَ والإرثِ مِنْهُ وَنَحْوَ ذلكَ. فَمَنْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَنْطِقْ بِلِسَانِهِ كانَ مُؤْمِنًا لكنْ لا تَجْرِي عليهِ الأحكامُ الدُّنْيَوِيَّةُ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ مَا لَمْ يُطْلَبْ منهُ النُّطْقُ فَيَمْتَنِعُ، وَإِلَّا كَانَ كَافِرًا جَزْمًا.
قَوْلُهُ: (وَهُمَا وَإِن اخْتَلَفَا مَفْهُومًا فَمَاصَدَقُهُمَا وَاحِدٌ)، أيْ: والإسلامُ والإيمانُ، وَالحَالُ أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا مِنْ جِهَةِ المعنى المفهومِ منْ لَفْظِهِمَا والمدلولِ لَهُمَا مَحَلُّهُمَا وَاحِدٌ، فالضميرُ العائدُ على الإسلامِ والإيمانِ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ جُمْلَةُ قَوْلِهِ: (مَاصَدَقُهُمَا وَاحِدٌ).

وَأَمَّا الفَاءُ فَزَائِدَةٌ لِتَزْيِينِ اللفظِ، والواوُ لِلحَالِ، وَ(إِنْ) وَصْلِيَّةٌ، والمرادُ بالمفهومِ المعنى المفهومُ من اللفظِ والمَدْلُولِ لهُ، وَلَيْسَ المرادُ بهِ المفهومَ ضِدَّ المنطوقِ، والمَاصَدَقُ مُرَكَّبٌ مَزْجِيٌّ، فهوَ بِرَفْعِ القَافِ كَمَا في اللؤلؤةِ عن ابنِ عَبْدِ الحَقِّ، وَيَصِحُّ نَصْبُهُمَا على الحكايةِ منْ: مَا صَدَقَ عليهِ.
ومعنى هذا اللفظِ الإفرادُ، لَكِنَّ المرادَ مِنْهُ المَحَلُّ كما يُصَرِّحُ بهِ قَوْلُ الشرحِ بَعْدُ: (ولا نَعْنِي بِوِحْدَتِهِمَا سِوَى هذا)، وذلكَ لِأَنَّ مَاصَدَقَهُمَا بِمَعْنَى أفْرَادِهِمَا مُخْتَلِفٌ؛ إذْ ماصَدَقَاتُ الإسلامِ انْقِيَادَاتٌ، كَانْقِيَادِ زَيْدٍ وَانْقِيَادِ عَمْرٍو وَانْقِيَادِ بَكْرٍ، إلى غيرِ ذلكَ، وما صَدَقَاتُ الإيمانِ تَصْدِيقَاتٌ، كَتَصْدِيقِ زَيْدٍ وَتَصْدِيقِ عَمْرٍو وَتَصْدِيقِ بَكْرٍ، إلى غيرِ ذَلِكَ، لَكِنْ مَحَلُّهُمَا مُتَّحِدٌ، فَكُلُّ مَحَلٍّ للإيمانِ مَحَلٌّ للإسلامِ وبالعكسِ، كما يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}، وهذا في الإيمانِ الكاملِ والإسلامِ المُعْتَبَرِ شَرْعًا، وَإِلَّا فَقَدْ يَكُونُ الشَّخْصُ مُصَدِّقًا بِقَلْبِهِ غَيْرَ مُنْقَادٍ ظَاهِرًا، فَيَكُونُ مُؤْمِنًا لَا مُسْلِمًا، وَقَدْ يَكُونُ مُنْقَادًا ظَاهِرًا غَيْرَ مُصَدِّقٍ بِقَلْبِهِ فَيَكُونُ مُسْلِمًا لَا مُؤْمِنًا؛ وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا}.
والحاصلُ أنَّ الإسلامَ والإيمانَ مُخْتَلِفَانِ مَفْهُومًا وإفرادًا، لَكِنْ مُتَّحِدَانِ مَحَلًّا باعتبارِ الإيمانِ الكاملِ والإسلامِ المُنْجِي، وَإِلَّا فَقَدْ يَخْتَلِفَانِ مَحَلًّا أَيْضًا، فَافْهَمْ.
قَوْلُهُ: (فَلَا يَصِحُّ فِي الشَّرْعِ ..إلخ)، تَفْرِيعٌ على اتِّحَادِهِمَا مَاصَدَقًا، لَكِنْ بِمَعْنَى المَحَلِّ لَا بِمَعْنَى الإفرادِ كَمَا عَلِمْتَ.
وقولُهُ: (أَنْ يُحْكَمَ)، بالبناءِ للمجهولِ، وَنَائِبُ الفاعلِ الجَارُّ والمجرورُ بَعْدُ.
وقولُهُ: (وبالعَكْسِ)، أيْ: ولا يَصِحُّ أنْ يُحْكَمَ عليهِ بأنَّهُ مُسْلِمٌ وليسَ بِمُؤْمِنٍ، وقدْ عَرَفْتَ أنَّ هذا في الإيمانِ والإسلامِ المُنْجِيَيْنِ الكَامِلَيْنِ.
قَوْلُهُ: (ولا نَعْنِي بِوَحْدَتِهِمَا سِوَى هذا)، أيْ: ولا نَقْصِدُ ولا نُرِيدُ بِوَحْدَتِهِمَا في المَاصَدَقِ سِوَى هذا، وهوَ الاتِّحادُ فِي المَحَلِّ، فَلَا يُنَافِي أنَّ أفرادَ الإسلامِ انْقِيَادَاتٌ، وأفرادَ الإيمانِ تَصْدِيقَاتٌ، وقدْ مَرَّ تَحْقِيقُهُ.
قَوْلُهُ: (مُحَمَّدٍ)، هوَ لِبَيَانِ الوَاقِعِ إِنْ كانت الصفةُ -أَعْنِي قَوْلَهُ: (دِينُهُ الإِسْلَامُ)- مُخَصِّصَةً لِلنَّبِيِّ بِسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، وَللتَّخْصِيصِ إنْ كانت الصفةُ المَذْكُورَةُ غَيْرَ مُخَصِّصَةٍ للنَّبِيِّ.

ويجوزُ فيهِ أَوْجُهُ الإعرابِ الثلاثةُ، وَلَكِنَّ النصبَ لَا يُسَاعِدُهُ الرَّسْمُ لِعَدَمِ رَسْمِ أَلِفٍ بَعْدَ الدالِ؛ وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْهُ الشَّرْحُ، إِلَّا أنْ يُقَالَ: إِنَّهُ جَرَى على طريقةِ مَنْ يَرْسِمُ المنصوبَ بِصُورَةِ المرفوعِ والمجرورِ.
وَأَوْلَاهَا منْ حيثُ الإعرابُ الجَرُّ على أنَّهُ بَدَلٌ؛ لأنَّهُ لَا يُحَوِّجُ للتقديرِ.
وَأَوْلَاهَا مِنْ حيثُ التعظيمُ الرَّفْعُ؛ لِأَجْلِ أنْ يَكُونَ الاسمُ مَرْفُوعًا وَعُمْدَةً، كما أنَّ المُسَمَّى مَرْفُوعُ الرتبةِ وَعُمْدَةُ الخَلْقِ.
قَوْلُهُ: (بَدَلٌ مِنْ (نَبِيٍّ) أيْ: هوَ بَدَلٌ منْ نَبِيٍّ. فَإِنْ قِيلَ: القاعدةُ أنَّ المُبْدَلَ منهُ في نِيَّةِ الطَّرْحِ والرَّمْيِ، فَتُفِيدُ البَدَلِيَّةُ أنَّ وَصْفَ النُّبُوَّةِ ليسَ مَقْصُودًا وليسَ كذلكَ،

أُجِيبَ: بأنَّ القاعدةَ أَغْلَبِيَّةٌ، وبأنَّ ذلكَ بِالنَّظَرِ لِعَمَلِ العاملِ، وَلَيْسَ ذلكَ مُخْرِجًا على قاعدةِ أنَّ نَعْتَ المعرفةِ إِذَا تَقَدَّمَ عَلَيْهَا أُعْرِبَ بِحَسَبِ العَوَامِلِ، وَأُعْرِبَتْ هِيَ بَدَلًا أوْ عَطْفَ بَيَانٍ؛ لأنَّ نَبِيًّا نَكِرَةٌ وَمُحَمَّدًا مَعْرِفَةٌ، والمشهورُ أنَّ المَعْرِفَةَ لا تُنْعَتُ بالنكرةِ، فليسَ أَصْلُهُ نَعْتًا لِمُحَمَّدٍ حتَّى يكونَ مَبْنِيًّا على تلكَ القاعدةِ، فما وَقَعَ في اللؤلؤةِ وَغَيْرِهَا منْ بِنَائِهِ عليها سَهْوٌ كَمَا نَبَّهَ عليهِ العَلَّامَةُ الأَمِيرُ.
قَوْلُهُ: (فَيَكُونُ مَجْرُورًا)، تَفْرِيعٌ على كَوْنِهِ بَدَلًا.
قَوْلُهُ: (وَيَجُوزُ رَفْعُهُ ..إلخ)، وَيَجُوزُ نَصْبُهُ أَيْضًا على أنَّهُ مَفْعُولٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، وَالتقديرُ: أَمْدَحُ مُحَمَّدًا. وهذا تصريحٌ بِجَوَازِ قَطْعِ البدلِ، وقدْ ذَكَرَهُ في التوضيحِ في بَابِ العِلْمِ. انْتَهَى، لُؤْلُؤَةُ.
قَوْلُهُ: (على أنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ)، أيْ: والتقديرُ: هُوَ مُحَمَّدٌ. وَ(عَلَى) تَعْلِيلِيَّةٌ أيْ: لأنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ.
قَوْلُهُ: (وهوَ اسمٌ منْ أسماءِ نَبِيِّنَا)، بلْ هوَ أَشْرَفُهَا وَأَشْهَرُهَا.
قَوْلُهُ: (وَهِيَ كما نَقَلَ ..إلخ)، لَا يَخْفَى أنَّ (هيَ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (أَلْفُ اسْمٍ)، والمُرَادُ بِهَا حينئذٍ ما يَشْمَلُ الأوصافَ كالبَشِيرِ والنَّذِيرِ.

وَلَا شَكَّ أَنَّهَا بِهَذَا الاعتبارِ تَبْلُغُ هذا العددَ لِكَثْرَةِ صِفَاتِهِ المُخْتَصَّةِ بهِ والغالبةِ عليهِ والمشتركةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ من الأنبياءِ.
ومنهم مَنْ جَعَلَهَا تِسْعَةً وَتِسْعِينَ مُوَافِقَةً لِأَسْمَائِهِ تَعَالَى الحُسْنَى.
وَقَدْ أَوْصَلَهَا جَمَاعَةٌ كالقاضي وابنِ العَرَبِيِّ وابنِ سَيِّدِ النَّاسِ إلى أَرْبَعِمِائَةٍ.
وَيَنْبَغِي تَحَرِّي التَّسْمِيَةِ بِاسْمٍ منْ أسمائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأحاديثِ الواردةِ في ذلكَ، وإنْ كانَ مُتَكَلَّمًا فيها بالضعْفِ.
قَوْلُهُ: (وَاخْتَارَ)، أي: المُصَنِّفُ.
وقولُهُ: (وهذا الاسمُ)، أي: الذي هوَ مُحَمَّدٌ.
وقولُهُ: (منها ..إلخ)، وَمِنْهَا: أنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْهَا أنَّهُ قُرِنَ بِاسْمِهِ تَعَالَى فِي كَلِمَتَيِ الشَّهَادَةِ، ومنها غيرُ ذَلِكَ.
وقولُهُ: (أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَهُ ..إلخ)، أيْ: في قولِهِ تَعَالَى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} إلخْ.
وقولُهُ: (أنَّهُ أَشْهَرُ)، أيْ: أَكْثَرُ شُهْرَةً منْ حيثُ المَعْرِفَةُ، ولا يَلْزَمُ منْ ذلكَ أَكْثَرِيَّتُهُ في الاستعمالِ، فَلِذَلِكَ زَادَهُ بَعْدَهُ.
وقولُهُ: (فَمَنْ بَعْدَهُم)، أيْ: قَرْنًا بعدَ قَرْنٍ إلى قُرْبِ يَوْمِ الدينِ.
قَوْلُهُ: (وقولُهُ)، مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَأْخُوذٌ منْ قولِهِ: (أيْ: وَأَنْبِيَائِهِ)، أيْ: يُقَالُ في شَرْحِهِ كذا كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ.
قَوْلُهُ: (خَاتَمِ رُسْلِ رَبِّهِ)، بِسُكُونِ السِّينِ كَمَا هوَ لُغَةٌ، أيْ: آخِرِ رُسُلِ رَبِّهِ وَمُتَمِّمِهِم، وهوَ نَعْتٌ لـ(محمدٍ)، لَا يُقَالُ إِنَّهُ نَكِرَةٌ؛ لأنَّهُ اسمُ فَاعِلٍ، وهوَ لا يَتَعَرَّفُ بالإضافةِ، والمعرفةُ لا تُنْعَتُ بالنَّكِرَةِ؛ لأنَّا نَقُولُ: هوَ مَعْرِفَةٌ؛ لأنَّهُ وَإِنْ كَانَ اسمَ فَاعِلٍ لكنَّهُ بِمَعْنَى المُضِيِّ، وهوَ حينئذٍ يِتَعَرَّفُ بالإضافةِ، وإِنَّمَا كانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخِرَ الرُّسُلِ لِتَكُونَ شَرِيعَتُهُ نَاسِخَةً لِغَيْرِهَا من الشرائعِ، لا العكسَ؛ ولأنَّهُ هوَ المقصودُ منْ بَيْنِهِم، وَجَرَتْ عَادَةُ اللَّهِ بأنَّ المقصودَ يَأْتِي آخِرَ العملِ، كَمَا قَالَ القَائِلُ:
نِعْمَ مَا قَالَ السَّادَةُ الأُوَلُ = أَوَّلُ الفِكْرِ آخِرُ العَمَلِ
هذا وَيُحْتَمَلُ أنْ يكونَ مَعْنَى كلامِ المُصَنِّفِ أنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالخاتَمِ الذي يُخْتَمُ بهِ، وهوَ الحَلْقَةُ التي فِيها فَصٌّ منْ غَيْرِهَا، فإنْ لَمْ يَكُنْ فِيها ذلكَ، فَهِيَ فَثَخَةٌ، بِفَتَحَاتٍ، كَمَا في بعضِ كُتُبِ اللُّغَةِ.
وَإِنَّمَا شُبِّهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالخاتَمِ المَذْكُورِ؛ لأنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَعَ مِنْ ظهورِ نَبِيٍّ مَعَهُ أوْ بَعْدَهُ تَبْتَدِأُ نُبُوَّتُهُ، كما يَمْنَعُ الخَاتَمُ ظُهُورَ الشَّيْءِ المَطْبُوعِ عليهِ عندَ الطبعِ، فالجامعُ مُطْلَقُ المَنْعِ مِن الظُّهُورِ.
قَوْلُهُ: (أيْ: وَأَنْبِيَائِهِ)، أيْ: فَفِي كَلَامِ المُصَنِّفِ اكْتِفَاءٌ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَرَابِيلُ تَقِيكُمُ الْحَرَّ}، أيْ: والبردَ.
وَتَقَدَّمَ أنَّ بَعْضَهم يَجْعَلُ في كلامِ المُصَنِّفِ احْتِبَاكًا، وَإِنَّمَا احْتِيجَ لَذِلَكِ؛ لأنَّ الرُّسُلَ أَخَصُّ والأنبياءَ أَعَمُّ، ولا يَلْزَمُ منْ خَتْمِ الأَخَصِّ خَتْمُ الأَعَمِّ بخلافِ العكسِ.

وَيُحْتَمَلُ أنَّ المُصَنِّفَ أَرَادَ بالرُّسُلِ مُطْلَقَ الأنبياءِ، منْ إطلاقِ الخَاصِّ وَإِرَادَةِ العَامِّ.
قَوْلُهُ: (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ..إلخ)، اسْتِدْلَالٌ على مَا ذُكِرَ منْ كَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمَ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ؛ لأنَّهُ وإنْ كانَ المُصَرَّحُ بهِ في الآيةِ النَّبِيِّينَ، لَكِنَّهُ يَلْزَمُ منْ خَتْمِهِ للنَّبِيِّينَ خَتْمُهُ للمُرْسَلِينَ؛ لأنَّهُ يَلْزَمُ منْ خَتْمِ الأَعَمِّ خَتْمُ الأَخَصِّ.
قَوْلُهُ: ( (و) الصلاةُ والسلامُ على (آلهِ) )، قَصَدَ الشارحُ بذلكَ تَوْضِيحَ المَعْنَى فَقَطْ، ولمْ يَقْصِدْ أنَّ العطفَ في قولِ المُصَنِّفِ: (وَآلِهِ)، منْ عطفِ الجُمَلِ، والأصلُ هكذا، وَإِلَّا لَزِمَ حَذْفُ حَرْفِ الجرِّ وَإِبْقَاءُ عَمَلِهِ، فهوَ عَطْفٌ على (نَبِيٍّ) مِنْ عَطْفِ المفرداتِ لا على (مُحَمَّدٍ)؛ لأنَّهُ بَدَلٌ منْ (نَبِيٍّ)، والمعطوفُ على البدلِ بَدَلٌ، فَيَلْزَمُ أنَّ الآلَ بَدَلٌ منْ نَبِيٍّ، وهوَ غيرُ صَحِيحٍ. نَعَمْ يَلْزَمُ على عَطْفِهِ عَلَى (نَبِيٍّ) الفصلُ بينَ المعطوفِ عليهِ والمعطوفِ بالبدلِ، وهوَ لَا يَضُرُّ؛ لأنَّ القاعدةَ تَقْدِيمُ البدلِ على المعطوفِ عَطْفِ نَسَقٍ.
قَوْلُهُ: (وهم مُؤْمِنُو بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي المُطَّلِبِ)، المُرَادُ مَا يَشْمَلُ مُؤْمِنَاتِ بَنَاتِ هَاشِمٍ وَبَنَاتِ المُطَّلِبِ، ففيهِ تَغْلِيبُ الذكورِ على الإناثِ لِشَرَفِهِم. وأمَّا أولادُ البناتِ فَلا يَدْخُلُونَ. وهذا التفسيرُ تَفْسِيرٌ لِلْآلِ في مقامِ الزكاةِ عندَ الشَّافعيِّ.

وأمَّا عندَ المَالِكِيَّةِ فَبَنُو هَاشِمٍ فَقَطْ عَلَى المُعْتَمَدِ.
واعْلَمْ أنَّ هَاشِمًا وَالمُطَّلِبَ وَلَدَانِ لِعَبْدِ مَنَافٍ كَعَبْدِ شَمْسٍ وَنَوْفَلٍ، فَهؤلاءِ الأربعةُ أَوْلَادُ عبدِ مَنَافٍ، والأَوَّلَانِ شَقِيقَانِ، والأخيرانِ كَذَلِكَ، وأولادُ الأَخِيرَيْنِ لَيْسُوا بآلٍ اتِّفَاقًا، وأولادُ هَاشِمٍ آلٌ اتِّفَاقًا.
والخلافُ في أولادِ المُطَّلِبِ، فَهُمْ آلٌ عِنْدَنَا مَعَاشِرَ الشَّافِعِيَّةِ، والمُطَّلِبُ غَيْرُ عبدِ المُطَّلِبِ الذي هوَ جَدُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنَّهُ وَلَدُ هَاشِمٍ، واسْمُهُ شَيْبَةُ الحَمْدِ، وَإِنَّمَا اشْتُهِرَ بعبدِ المُطَّلِبِ؛ لأنَّ عَمَّهُ المُطَّلِبَ أَرْدَفَهُ خَلْفَهُ حينَ أَتَى بهِ من المدينةِ الشَّرِيفَةِ، وكانَ بِهَيْئَةٍ رَثَّةٍ، فكانَ كُلَّمَا سُئِلَ عنهُ قَالَ: عَبْدِي، حَيَاءً أنْ يَقُولَ: ابنُ أَخِي. فَلَمَّا أَحْسَنَ منْ حالِهِ أَظْهَرَ أنَّهُ ابنُ أَخِيهِ.
قَوْلُهُ: (وَقِيلَ: جَمِيعُ الأُمَّةِ)، أيْ أُمَّةُ الإِجَابَةِ، وهم الذينَ أَجَابُوهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الإيمانِ وَلَوْ عُصَاةٌ، وهذا التفسيرُ يُنَاسِبُ مَقَامَ الدعاءِ كَمَا هنا؛ لأنَّهُ يُنَاسِبُهُ التعميمُ، فَالأَلْيَقُ الاقتصارُ على هذا التفسيرِ هُنَا.
قَوْلُهُ: (وَقِيلَ: عِتْرَتُهُ الذينَ يَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِ)، قالَ في اللُّؤْلُؤَةِ: العِتْرَةُ بِكَسْرِ العَيْنِ المُهْمَلَةِ بَعْدَهَا تَاءٌ: نَسْلُ الإنسانِ.

قالَ الأَزْهَرِيُّ: وَرَوَى ثَعْلَبٌ عَن ابنِ الأَعْرَابِيِّ، أنَّ العِتْرَةَ وَلَدُ الرجلِ وَذُرِّيَّتُهُ وَعَقِبُهُ منْ صُلْبِهِ، ولا تَعْتَبِرُ العربُ مِن العِتْرَةِ غَيْرَ ذلكَ. انْتَهَى.
قَوْلُهُ: (وهم أَوْلَادُ فَاطِمَةَ وَنَسْلُهُم)، قالَ الأستاذُ الحِفْنِيُّ: فِيهِ قُصُورٌ، فَكَانَ الظاهرُ أنْ يَقُولَ: وهم أَوْلَادُهُ وأولادُ بَنَاتِهِ وَنَسْلُهُم؛ إِذْ عِتْرَتُهُ المَنْسُوبُونَ إليهِ لَا يَخْتَصُّونَ بِمَنْ ذَكَرَهُم، ا هـ.

وَأُجِيبَ بأنَّ وَجْهَ تَخْصِيصِهِم بالذِّكْرِ أَنَّهُم هم الذينَ أَعْقَبُوا.
قَوْلُهُ: (وَقِيلَ: أَقَارِبُهُ منْ قُرَيْشٍ)، أيْ: سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ نَسْلِهِ أَوْ لا.
وقولُهُ: (وَقِيلَ غيرُ ذلكَ)، أيْ: كالقولِ بِأَنَّهُمْ أَتْقِيَاءُ الأُمَّةِ، وهذا مُنَاسِبٌ لِمَقَامِ المَدْحِ.

والذي ارْتَضَاهُ بعضُ المُحَقِّقِينَ أنَّهُ لا يُطْلَقُ القولُ في تَفْسِيرِ الآلِ، بلْ يُفَسَّرُ بِحَسَبِ القَرِينَةِ.
قَوْلُهُ: (مِنْ بَعْدِهِ)، أيْ: حَالَ كَوْنِ آلهِ مِنْ بَعْدِهِ في الصلاةِ، كما أشارَ إلى ذلكَ الشارحُ بِقَوْلِهِ: (أيْ: تَبَعًا)، فالصلاةُ على غَيْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَعًا مَطْلُوبَةٌ. وأمَّا اسْتِقْلَالًا فَقِيلَ: مَكْرُوهَةٌ، وَقِيلَ: خِلَافُ الأَوْلَى، وَقِيلَ: مَمْنُوعَةٌ، والرَّاجِحُ الأَوَّلُ؛ لأنَّها مِنْ شِعَارِ الأنبياءِ، وَمَحَلُّ الكراهةِ إذا كانتْ مِنَّا، وأمَّا إذا كانتْ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلا كَرَاهَةَ؛ إذْ هِيَ حَقُّهُ، فَلَهُ أنْ يَدْعُوَ بِهَا لِمَنْ شَاءَ، كَمَا وَرَدَ في حديثِ: "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى".
قَوْلُهُ: (وَصَحْبِهِ)، عَطْفٌ على (نَبِيٍّ)؛ لأنَّ العطفَ إِذَا تَكَرَّرَ بِحَرْفٍ غَيْرِ مُرَتَّبٍ يَكُونُ على الأَوَّلِ في القولِ الرَّاجِحِ.
وقولُهُ: (مِنْ بَعْدِهِ)، أيْ: فَفِي كَلَامِ المُصَنِّفِ الحَذْفُ من الثاني لدلالةِ الأوَّلِ.
وقولُهُ: (أَيْضًا)، أيْ: كما ذَكَرْتُ هذهِ الكلمةَ في الآلِ.
قَوْلُهُ: (وهوَ اسْمُ جَمْعٍ لِصَاحِبِ)، أي: لأنَّ الأَصَحَّ أنَّ فَعْلًا ليسَ جَمْعًا لِفَاعِلٍ، ومعنى الصاحبِ مَنْ طَالَتْ عِشْرَتُكَ بهِ، وهذا ليسَ مُرَادًا هُنَا، بل المرادُ بهِ الصحابيُّ؛ فلذلكَ قالَ: (بِمَعْنَى الصَّحَابِيِّ).
قَوْلُهُ: (وهوَ مَن اجْتَمَعَ ..إلخ)، أي: اجْتِمَاعًا مُتَعَارَفًا بِخِلَافِ الاجْتِمَاعِ غَيْرِ المُتَعَارَفِ، كَمَنْ كُشِفَ عنهم ليلةَ الإسراءِ وَرَأَوْهُ فيها، وكذا كُلُّ مَنْ رَآهُ في غيرِ عَالَمِ الشهادةِ كالمَنَامِ؛ لأنَّ هذا ليسَ من الاجتماعِ المُتَعَارَفِ.

وقالَ ابنُ قَاسِمٍ: "إِنْ صَحَّ اجْتِمَاعُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِيسَى والخَضِرِ فليسَ هذا من الاجتماعِ المُتَعَارَفِ"، انْتَهَى.
والذي اعْتَمَدَهُ المشايخُ ثُبُوتُ الصُّحْبَةِ لَهُمَا؛ لأنَّ اجْتِمَاعَهُمَا على الوجهِ المُعْتَادِ، خِلَافًا لِمَا ذَكَرَهُ ابنُ قَاسِمٍ وإنْ تَبِعَهُ في اللؤلؤةِ.
قَوْلُهُ: (مُؤْمِنًا)، أيْ حالَ كَوْنِهِ مُؤْمِنًا ولوْ تَبَعًا، لِيَدْخُلَ الصغيرُ ولوْ غيرُ مُمَيِّزٍ، وَخَرَجَ بِذَلِكَ مَن اجْتَمَعَ بهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بهِ، ولوْ آمَنَ بهِ بَعْدَ ذلكَ، لكنْ لمْ يَجْتَمِعْ بهِ بعدَ الإيمانِ كَرَسُولِ قَيْصَرَ.
وقولُهُ: (بهِ)، تَنَازَعَهُ كُلٌّ مِن اجْتَمَعَ وَمُؤْمِنًا، فَيَخْرُجُ بهِ مَن اجْتَمَعَ بِغَيْرِهِ، فَيُسَمَّى حَوَارِيًّا لَا صَحَابِيًّا، ومَن اجْتَمَعَ بهِ مُؤْمِنًا بِغَيْرِهِ، كَزَيْدِ بنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، فَلَيْسَ صَحَابِيًّا، وهوَ الذي جَزَمَ بهِ شَيْخُ الإسلامِ في الإِصَابَةِ، وَعَدَّهُ بَعْضُ المُحَدِّثِينَ مِن الصَّحَابَةِ.
قَوْلُهُ: (وَلَوْ سَاعَةً)، أيْ: ولوْ لَحْظَةً لَطِيفَةً، فالمرادُ من الساعةِ اللُّغَوِيَّةُ لا الفَلَكِيَّةُ، وهذهِ غَايَةٌ لِلرَّدِّ على مَنْ يَقُولُ: يُشْتَرَطُ طُولُ المُدَّةِ، فالراجحُ عَدَمُ اشْتِرَاطِهِ بِخِلَافِ التَّابِعِيِّ؛ فَإِنَّهُ مَن اجْتَمَعَ بالصحابيِّ بِشَرْطِ طُولِ الصُّحْبَةِ.

والفرقُ عِظَمُ نُورِ النُّبُوَّةِ عنْ نورِ الصُّحْبَةِ، فالاجتماعُ بهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤَثِّرُ في تَنْوِيرِ القلبِ بِمُجَرَّدِ اللقاءِ أَضْعَافَ مَا يُؤَثِّرُهُ الاجتماعُ الطويلُ بالصحابيِّ، بِدَلِيلِ أنَّ الجِلْفَ مِن الأعرابِ كانَ بِمُجَرَّدِ الاجتماعِ بهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْطِقُ بِالحِكْمَةِ.
قَوْلُهُ: (وَمَاتَ عَلَى ذلكَ)، هذا شرطٌ لِدَوَامِ الصحبةِ لا لِأَصْلِهَا، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِيمًا؛ لأنَّهُ يَقْتَضِي عَدَمَ الحُكْمِ بِالصُّحْبَةِ لِأَحَدٍ حتَّى يَمُوتَ على الإسلامِ، وليسَ كذلكَ، فَمَن ارْتَدَّ انْقَطَعَتْ صُحْبَتُهُ، ثمَّ إِنْ مَاتَ مُرْتَدًّا كَعَبْدِ اللَّهِ بنِ خَطَلٍ فهوَ غَيْرُ صَحَابِيٍّ، ومَنْ عَادَ للإسلامِ عَادَتْ لهُ الصحبةُ، لَكِنْ مُجَّرَدَةً عن الثوابِ عِنْدَنَا.
قَوْلُهُ: (وَقِيلَ: مَنْ طَالَتْ صُحْبَتُهُ ..إلخ)، هذا القولُ يَشْتَرِطُ هذهِ الأمورَ الثلاثةَ؛ وَهِيَ طُولُ الصُّحْبَةِ، وَكَثْرَةُ المُجَالَسَةِ، والأخذُ عنهُ.
قَوْلُهُ: (وَقِيلَ غَيْرُ ذلكَ)، أيْ: كَالقَوْلِ بأنَّهُ مَنْ طَالَتْ صُحْبَتُهُ فَقَطْ، وكالقولِ بأنَّهُ مَنْ رَوَى عنهُ، فَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ يَشْتَرِطُ شَيْئًا:

فَأَوَّلُهُمَا يَشْتَرِطُ الطولَ فَقَطْ، وَثَانِيهُمَا يَشْتَرِطُ الروايةَ فَقَطْ، كما يُعْلَمُ مِمَّا كَتَبْنَاهُ عَلَى الخطيبِ في الفِقْهِ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا قِيلَ هُنَا.


يتبع في المشاركة التالية..


  #5  
قديم 3 ذو الحجة 1429هـ/1-12-2008م, 08:56 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي تابع حاشية الشيخ: إبراهيم الباجوري على الفوائد الشنشورية

قَوْلُهُ: (وَلَمَّا حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَصَلَّى ..إلخ)، المُنَاسِبُ لِمَا صَنَعَهُ في دخولِهِ على الصلاةِ أنْ يَقُولَ: وَلَمَّا حَمِدَ اللَّهَ وَصَلَّى على نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ تعالى الإعانةَ على ما قَصَدَ فَقَالَ، إِلَّا أنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَفَنَّنَ في الدخولِ.
قَوْلُهُ: (قالَ)، جوابُ لَمَّا.
قَوْلُهُ: (وَنَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا ..إلخ)، اعْتُرِضَ بأنَّ مَقَامَ السؤالِ مَقَامُ ذِلَّةٍ وَخُضُوعٍ، فلا يُنَاسِبُهُ الإتيانُ بنونِ العَظَمَةِ، فكانَ الأَوْلَى أنْ يَقُولَ: وَأَسْأَلُ اللَّهَ لِي ..إلخ. وَأُجِيبَ بأنَّهُ أَتَى بِنُونِ العَظَمَةِ إِظْهَارًا لِتَعْظِيمِ اللَّهِ لهُ تَحَدُّثًا بِالنِّعْمَةِ، لقوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}، وَهَذَا لا يُنَافِي ذُلَّهُ لِمَوْلَاهُ وَتَوَاضُعَهُ فِي ذَاتِهِ، وبأنَّهُ أَتَى بِنُونِ المُتَكَلِّمِ وَمَعَهُ غَيْرُهُ تَحْقِيرًا لِنَفْسِهِ عنْ أنْ يَسْتَقِلَّ بالسؤالِ، فَشَارَكَ إِخْوَانَهُ فيهِ، لَكِنَّ السؤالَ مِنْهُمْ حُكْمِيٌّ وَتَقْدِيرِيٌّ لَا تَحْقِيقِيٌّ؛ لأنَّهُ لم يَتَحَقَّقْ منهمْ هذا السؤالُ.
قَوْلُهُ: (الإعانةَ)، أيْ: إعطاءَ العونِ والقوَّةِ.

وبَيْنَ الإعانةِ والإبانةِ جِنَاسٌ لَاحِقٌ، وَضَابِطُهُ أنْ يَخْتَلِفَ الكلمتانِ في حَرْفَيْنِ مُتَبَاعِدَي المَخْرَجِ، كَمَخْرَجِ العَيْنِ وَالبَاءِ هُنَا، وَأَصْلُ إِعَانَةٍ وَإِبَانَةٍ إِعْوَانٌ وَإِبْيَانٌ، نُقِلَتْ حَرَكَةُ الواوِ في الأوَّلِ، وَاليَاءِ فِي الثانيِ، للساكنِ قَبْلَهُمَا، ثمَّ يُقَالُ: تَحَرَّكَت الواوُ أو الياءُ بِحَسَبِ الأصلِ وَانْفَتَحَ ما قَبْلَهُمَا، الآنَ قُلِبَتَا أَلِفًا فَاجْتَمَعَ ألفانِ، حُذِفَتْ إِحْدَى الأَلِفَيْنِ وَعُوِّضَ عنها بِالتاءِ، فَصَارَا إِعَانَةً وإبانةً، فَتَصْرِيفُهُمَا وَاحِدٌ، إِلَّا أنَّ الأوَّلَ وَاوِيٌّ، والثانيَ يَائِيٌّ.
قَوْلُهُ: (فِيمَا تَوَاخَيْنَا)، أيْ: على الذي تَوَاخَيْنَاهُ. فَفِي بِمَعْنَى على؛ لأنَّ الإعانةَ تَتَعَدَّى بِعَلَى، وَمَا اسْمٌ مَوْصُولٌ بِمَعْنَى الذي، والعائدُ مَحْذُوفٌ.
وقولُهُ: (أيْ: تَحَرَّيْنَا وَقَصَدْنَا)، تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: (تَوَاخَيْنَا)، وَالعَطْفُ للتَّفْسِيرِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (يُقَالُ)، أيْ: قَوْلًا مُوَافِقًا لِلُّغَةِ، وهذا استدلالٌ على التفسيرِ الذي ذَكَرَهُ.
وقولُهُ: (فُلَانٌ يَتَوَخَّى الحقَّ وَيَتَأَخَّاهُ)، بالواوِ وتشديدِ الخاءِ في الأُولَى، وبالهمزةِ وَتَشْدِيدِ الخاءِ أَيْضًا في الثانيةِ، وهذا يَقْتَضِي أنَّ عِبَارَةَ الناظمِ تَوَخَّيْنَا بالتشديدِ منْ غَيْرِ أَلِفٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بالتخفيفِ معَ الألفٍ، والمُنَاسِبُ لها أنْ يقولَ الشارحُ: فلانٌ يَتَوَاخَى الحقَّ ..إلخ، لَكِنْ هذهِ الثالثةُ لَيْسَتْ في الصِّحَاحِ والمِصْبَاحِ، بِخِلَافِ الأُولَيَيْنِ، فَإِنَّهُمَا يُؤْخَذَانِ مِنْهُمَا.
قَوْلُهُ: (أيْ يَقْصِدُهُ وَيَتَحَرَّاهُ)، المُنَاسِبُ لِتَفْسِيرِهِ أَوَّلًا أنْ يَقُولَ: أيْ يَتَحَرَّاهُ وَيَقْصِدُهُ، ولكنَّ الخَطْبَ سَهْلٌ.
قَوْلُهُ: (وَيُقَالُ: تَأَخَّيْتُ الشيءَ)، بِصِيغَةِ المَاضِي مَهْمُوزَةٌ مُشَدَّدَةُ الخَاءِ.
وقولُهُ: (تَحَرَّيْتُهُ)، أيْ قَصَدْتُهُ.
وقولُهُ: (والتَّحَرِّي طَلَبُ الأَحْرَى)، أيْ: طَلَبُ الأَوْلَى.
قَوْلُهُ: (وَكَثِيرًا ما يَسْتَعْمِلُهُ الفقهاءُ بِمَعْنَى الاجتهادِ)، الواوُ دَاخِلَةٌ على يَسْتَعْمِلُهُ، وَالأصلُ: وَيَسْتَعْمِلُهُ الفقهاءُ بِمَعْنَى الاجتهادِ كَثِيرًا ما، والضميرُ رَاجِعٌ لِلتَّحَرِّي، وما زائدةٌ لِتَوْكِيدِ الكثْرَةِ، وإضافةُ المَعْنَى لِلاجْتِهَادِ لِلبَيَانِ.
قَوْلُهُ: (والألفاظُ الثلاثةُ)، أي: التي هيَ لَفْظُ التَّوَخِّي والتَّحَرِّي والاجْتِهَادِ.
وقولُهُ: (مُتَقَارِبَةٌ)، أيْ: يَقْرُبُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، وأنتَ خبيرٌ بِأَنَّ الذي نَقَلَهُ عن الشيخِ زَكَرِيَّا يَقْتَضِي الترادُفَ، والذي ذَكَرَهُ آخِرًا يُفِيدُ التَّغَايُرَ في الجملةِ، فليسَ في سَابِقِ كَلَامِهِ وَلَاحِقِهِ ما يَقْتَضِي التَّقَارُبَ.

وَيُجَابُ بأنَّ الذي ذُكِرَ عنْ شيخِ الإسلامِ منْ تَسَامُحَاتِ الفقهاءِ، والذي ذَكَرَهُ آخِرًا، يُفِيدُ المشاركةَ في الجملةِ كَالاسْتِعْمَالِ في حَمْلِ الصخرةِ والخيرِ، وهذا هوَ المرادُ بالتَّقَارُبِ. ذَكَرَهُ الشَّمْسُ الحِفْنِيُّ بِزِيَادَةٍ منْ حَاشِيَةِ الشَّيْخِ الأَمِيرِ.
قَوْلُهُ: (وقالَ الشيخُ زَكَرِيَّا ..إلخ)، هذا بيانٌ لِاسْتِعْمَالِ الفقهاءِ، وَقَدْ عَرَفْتَ أنَّ فيهِ تَسَامُحًا؛ لأنَّهُ يَقْتَضِي التَّرَادُفَ.
قَوْلُهُ: (بَذْلُ المجهودِ في طَلَبِ المَقْصُودِ)، أيْ: بَذْلُ الشخصِ مَقْدُورَهُ في طَلَبِ مَقْصُودِهِ.
قَوْلُهُ: (انْتَهَى)، أيْ: كَلَامُ شَيْخِ الإسْلَامِ زَكَرِيَّا.
قَوْلُهُ: (وَيُقَالُ اجْتَهَدَ ..إلخ)، أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى تَخْصِيصِ الاجتهادِ بالأمرِ المُشِقِّ كَحَمْلِ الصخرةِ دُونَ غَيْرِهِ كَحَمْلِ نواةٍ، وهذا يُفْهَمُ منْ قَوْلِهِ: (بَذْلُ المجهودِ ..إلخ)؛ إذْ لَا يُقَالُ ذَلِكَ إِلَّا في الأمرِ المُشِقِّ، ولذلكَ قَالُوا: المَقَامُ لِلفَاءِ المُفِيدَةِ للتَّفْرِيعِ؛ لأنَّ هذا مُفَرَّعٌ على مَا قَبْلَهُ، وقدْ يُقَالُ: الواوُ قدْ تَأْتِي للتَّفْرِيعِ.
قَوْلُهُ: (وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ ..إلخ)، أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى تَخْصِيصِ التَّوَخِّي بِالخَيْرِ، فَتَحَصَّلَ أنَّ الاجتهادَ مُخْتَصٌّ بالأمرِ المُشِقِّ خَيْرًا كانَ أَوْ لا، والتَّوَخِّي مُخْتَصٌّ بِالخَيْرِ مُشِقًّا كَانَ أَوْ لا، والتَّحَرِّي مُخْتَصٌّ بِالأمرِ الأَحْرَى وَهُوَ أَخَصُّ من الأَمْرِ المُشِقِّ.
قَوْلُهُ: (وَلَعَلَّ هذا هوَ السببُ ..إلخ)، أيْ: وَلَعَلَّ كَوْنَ التَّوَخِّي لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الخَيْرِ هوَ السببُ ..إلخ.
وقولُهُ: (دُونَ التَّحَرِّي)، وَمِثْلُهُ الاجْتِهَادُ.

قَوْلُهُ: (من الإبَانَةِ)، بَيَانٌ لِمَا تَوَاخَيْنَا.
وقولُهُ: (أي: الإظهارِ والكشفِ)، تَفْسِيرٌ لِلإبانةِ، والعطفُ للتفسيرِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (عنْ مَذْهَبِ)، مُتَعَلِّقٌ بالإبانةِ، والمرادُ بالمذهبِ هنا الأحكامُ التي ذَهَبَ إِلَيْهَا زَيْدٌ الآتِي كَمَا سَيُشِيرُ إليهِ الشَّارِحُ بِقَوْلِهِ: (وَهُوَ المُرَادُ هُنَا).
قَوْلُهُ: (مَفْعَلٌ يَصْلُحُ ..إلخ)، أيْ: هوَ على وَزْنِ مَفْعَلٍ يَصْلُحُ ..إلخ، فَهُوَ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ يَصْلُحُ للحَدَثِ وللمكانِ وللزمانِ بِحَسَبِ الأصلِ، ثمَّ نُقِلَ للأحكامِ المَذْهُوبِ إليها والمنقولِ عنهُ.

أَمَّا المصدرُ فَيَكُونُ مِنْ بابِ إِطْلَاقِ المَصْدَرِ عَلَى اسْمِ المَفْعُولِ.
وَأَمَّا المكانُ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الاسْتِعَارَةِ التَّصْرِيحِيَّةِ التَّبَعِيَّةِ، وَتَقْرِيرُهَا أنْ تَقُولَ: شَبَّهَ اخْتِيَارَ الأحكامِ بِمَعْنَى الذهابِ بِجَامِعٍ أنَّ كُلًّا يُوَصِّلُ للمقصودِ، واسْتُعِيرَ الذهابُ لاختيارِ الأحكامِ، واشْتُقَّ مِن الذهابِ بمعنى اختيارِ الأحكامِ مَذْهَبٌ، بِمَعْنَى: أَحْكَامٌ مُخْتَارَةٌ على طريقِ الاستعارةِ التَّصْرِيحِيَّةِ التَّبَعِيَّةِ.
والمناسبةُ بينَ المكانِ والأحكامِ أنَّ كُلًّا مَحَلٌّ لِلتَّرَدُّدِ، فالمكانُ مَحَلٌّ لِتَرَدُّدِ الأقدامِ، والأحكامُ مَحَلٌّ لِتَرَدُّدِ الأذهانِ، ولا مناسبةَ بيْنَ الزمانِ وبيْنَ الأحكامِ، فَلَا يُحْتَمَلُ أنْ يكونَ مَنْقُولًا عنهُ.
وهذا كُلُّهُ بِحَسَبِ الأصلِ، وَإِلَّا فَقَدْ صَارَ المذهبُ حَقِيقَةً اصطلاحيَّةً كما أَشَارَ إليهِ الشارحُ بِقَوْلِهِ: (وَاصْطِلَاحًا ..إلخ).
قَوْلُهُ: (لِلمَصْدَرِ)، أي: الحَدَثِ، وَلَوْ عَبَّرَ بِهِ لَكَانَ أَوْضَحَ.
وقولُهُ: (والمكانِ)، أيْ: مكانِ الذهابِ.
وقولُهُ: (والزمانِ)، أيْ: زمانِ الذهابِ كما صَرَّحَ بذلكَ بَعْدُ.
وقولُهُ: (بِمَعْنَى ..إلخ)، فيهِ معَ مَا قَبْلَهُ لَفٌّ وَنَشْرٌ مُرَتَّبٌ، فالذهابُ رَاجِعٌ لِلمَصْدَرِ، وَمَحَلُّهُ رَاجِعٌ للمكانِ، وَزَمَانُهُ رَاجِعٌ للزمانِ.
وقولُهُ: (وهوَ المُرُورُ)، تَفْسِيرٌ للذهابِ.
وقولُهُ: (أو مَحَلُّهُ أَوْ زَمَانُهُ)، مَعْطُوفَانِ على الذهابِ، وجملةُ (وهوَ المرورُ) مُعْتَرِضَةٌ بينَ المُتَعَاطِفَيْنِ، ولا يَصِحُّ العطفُ على المرورِ كَمَا لا يَخْفَى. أَفَادَهُ الشَّمْسُ الحِفْنِيُّ.
قَوْلُهُ: (وَاصْطِلَاحًا ..إلخ)، مَعْطُوفٌ على مَحْذُوفٍ يُعْلَمُ مِمَّا سَبَقَ، والتقديرُ: هَذَا لُغَةً.
وقولُهُ: (ما تَرَجَّحَ عِنْدَ المُجْتَهِدِ)، أي: الحُكْمُ الذي تَرَجَّحَ عندَ المجتهدِ، فَمَا وَاقِعَةٌ على الحُكْمِ.
وقولُهُ: (في مَسْأَلَةٍ ما)، مُتَعَلِّقٌ بِتَرَجَّحَ، أيْ: في أيِّ مَسْأَلَةٍ كانتْ، سَوَاءٌ كَانَتْ نَقْلِيَّةً أوْ عَقْلِيَّةً، فَمَا زَائِدَةٌ للتعميمِ، والمسألةُ هيَ القضيَّةُ منْ حيثُ إِنَّهَا يُسْأَلُ عنها، كما إنَّها تُسَمَّى مُقَدِّمَةً لِكَوْنِهَا مُقَدِّمَةَ قِيَاسٍ، وَدَعْوَى لِكَوْنِهَا تُدْعَى، وَنَتِيجَةً لِكَوْنِ الدَّلِيلِ يُنْتِجُهَا إلى غَيْرِ ذلكَ، وَتُطْلَقُ أيضًا المَسْأَلَةُ على النسبةِ في القضيَّةِ، وَيُعَبَّرُ عنها بِأَنَّهَا مَطْلُوبٌ خَبَرِيٌّ يُبَرْهَنُ عليهِ في العِلْمِ.
وقولُهُ: (بَعْدَ الاجتهادِ)، ظَرْفٌ لِتَرَجَّحَ.
وقولُهُ: (فَصَارَ لهُ مُعْتَقَدًا وَمَذْهَبًا)، هذا تَفْرِيعٌ خَارِجٌ عن التعريفِ، وليسَ منهُ، وَإِلَّا لَزِمَ الدوْرُ لِأَخْذِ المُعَرَّفِ في التعريفِ، وهوَ مُوجِبٌ للدوْرِ، وَعَطْفُ المذهبِ على المُعْتَقَدِ منْ قَبِيلِ عَطْفِ التَّفْسِيرِ.
قَوْلُهُ: (وهوَ المرادُ هنا)، أي: المعنى الاصطلاحيُّ بِمَعْنَى الأحكامِ التي تَرَجَّحَتْ عندَ المُجْتَهِدِ، هوَ المرادُ في عبارةِ المُصَنِّفِ.
قَوْلُهُ: (الإمامِ)، يُجْمَعُ على أَئِمَّةٍ وعلى أُمَّامٍ، فَيُسْتَعْمَلُ مُفْرَدًا وَجَمْعًا، ومنهُ قَوْلُهُ تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}. لَكِنْ يُلَاحَظُ أنَّ حَرَكَاتِ المُفْرَدِ كَحَرَكَاتِ كِتَابٍ، وَيُلَاحَظُ أنَّ حَرَكَاتِ الجَمْعِ كَحَرَكَاتِ هُجَّانٍ.
وقولُهُ: (أي الذي يُقْتَدَى بهِ)، تَفْسِيرٌ للإمامِ.
وقولُهُ: (وَقِيلَ غيرُ ذَلِكَ)، أيْ: كالقولِ بأنَّهُ اللَّوْحُ المَحْفُوظُ، قالَ تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}، والقولِ بِأَنَّهَا كُتُبُ الأعمالِ. لَكِنْ لَا يَخْفَى أنَّ هذهِ مَعَانٍ مُسْتَقِلَّةٌ لا يُنَاسِبُ جَعْلُهَا مُقَابِلَةً لِمَا في المقامِ، فالأَوْلَى أنْ يَقُولَ الشارحُ: وَيُطْلَقُ على غيرِ ذلكَ. نَعَمْ لَو اعْتَبَرَ تَفْسِيرَهُ بالحُجَّةِ مَثَلًا نَاسَبَ ذَلِكَ. أَفَادَهُ العَلَّامَةُ الأَمِيرُ.
وقولُهُ: (وَأَبْدَلَ من الإمامِ قَوْلَهُ ..إلخ)، أيْ: بَدَلُ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ.
قَوْلُهُ: ( (زَيْدِ) بنِ ثَابِتٍ ..إلخ)، قدْ كانت الصحابةُ يَعْتَرِفُونَ لهُ بالتَّقَدُّمِ في الفرائضِ.

ومنْ جُمْلَةِ الآخِذِينَ عنهُ عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَبَّاسٍ تُرْجُمَانِ القرآنِ، وقدْ بَلَغَ منْ تَعْظِيمِهِ لِزَيْدٍ أنَّ بَغْلَتَهُ قَدِمَتْ إليهِ لِيَرْكَبَهَا، فَأَخَذَ ابنُ عَبَّاسٍ بِرِكَابِهِ، فَقَالَ لهُ زَيْدٌ: (خَلِّ عَنْكَ يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ)، فَقَالَ: (هكذا نَفْعَلُ بِعُلَمَائِنَا)، فَقَبَّلَ زَيْدٌ يَدَهُ، وقالَ: (هكذا نَفْعَلُ بِأَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّنَا)، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَنَفَعَنَا بِهِمْ، ا هـ. الأستاذُ الحِفْنِيُّ.
قَوْلُهُ: (الصَّحَابِيِّ)، صِفَةٌ أُولَى لِزَيْدٍ.
وقولُهُ: (الأَنْصَارِيِّ)، صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لهُ. والأَنْصَارِيُّ نِسْبَةٌ لِلأَنْصَارِ، وَهُمْ قَبِيلَتَانِ؛ الأَوْسُ وَالخَزْرَجُ، فَلَمْ يُعْلَمُ منهُ كَوْنُهُ أَوْسِيًّا أوْ خَزْرَجِيًّا، فَلِذَلِكَ قالَ الشارحُ: (الخَزْرَجِيِّ)، وهوَ صِفَةٌ ثَالِثَةٌ لهُ، والخَزْرَجِيُّ نِسْبَةٌ لِلخَزْرَجِ، فإنْ قِيلَ: الأنصارُ جَمْعٌ، وَقَاعِدَةُ النَّسَبِ أنَّهُ لَا يُنْسَبُ للفظِ الجَمْعِ بَلْ لِمُفْرَدِهِ، أُجِيبَ بِأَنَّ مَحَلَّ القاعدةِ مَا لَمْ يَصِرْ عَلَمًا، وَإلَّا نُسِبَ لِلَفْظِهِ؛ لأنَّهُ أَشْبَهَ الواحدَ كَمَا قَالَ ابنُ مَالِكٍ:

والوَاحِدُ اذْكُرْ نَاسِبًا لِلجَمْعِ = مَا لَمْ يُشَابِهْ وَاحِدًا بِالوَضْعِ
والأنصارُ صَارَ عَلَمًا على الأوسِ والخزرجِ؛ لأنَّهمْ نَصَرُوهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَوْلُهُ: (مِنْ بَنِي النَّجَّارِ)، قَبِيلَةٌ مَشْهُورَةٌ.
قَوْلُهُ: (يُكْنَى)، بِسُكُونِ الكَافِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ، أوْ بِفَتْحِ الكَافِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ.
وقولُهُ: (وَقِيلَ ..إلخ)، يَحْتَمِلُ تَكْنِيَتَهُ بِالثلاثةِ، كَمَا قَالَهُ الشَّمْسُ الحِفْنِيُّ.
قَوْلُهُ: (أَبَا خَارِجَةَ)، كانَ خَارِجَةُ منْ فُقَهَاءِ المدينةِ السَّبْعَةِ المَنْظُومَةِ في قَوْلِ بَعْضِهِمْ:

أَلَا كُلُّ مَنْ لَمْ يَقْتَدِ بِأَئِمَّةٍ = فَقِسْمَتُهُ ضِيزَى عَن الحَقِّ خَارِجَهْ
فَخُذْهُمْ عُبِيدُ اللَّهِ عُرْوَةُ قَاسِمٌ = سَعِيدٌ أبو بَكْرٍ سُلَيْمَانُ خَارِجَهْ
فالأَوَّلُ عُبَيْدُ اللَّهِ بنُ عُتْبَةَ بنِ مَسْعُودٍ،
والثاني عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ،
والثالثُ قَاسِمُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ،
والرابعُ سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ،
والخامسُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،
والسادسُ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ،
والسَّابِعُ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ.
قَوْلُهُ: (قَدِمَ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، أيْ: حينَ الهِجْرَةِ.
قَوْلُهُ: (وهوَ ابنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً)، أيْ: والحالُ أنَّ زَيْدًا كانَ ابنَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً.
قَوْلُهُ: (بعدَ الهجرةِ)، أي: الانتقالِ منْ مَكَّةَ للمدينةِ المُشَرَّفَةِ؛ لأنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُلِدَ في مَكَّةَ وَهَاجَرَ إلى المدينةِ.
قَوْلُهُ: (قَالَهُ)، أيْ: قالَ مَا ذُكِرَ منْ أنَّهُ مَاتَ بعدَ الهجرةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ.
وقولُهُ: (التِّرْمِذِيُّ)، بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَثَالِثِهِ، وَبِضَمِّهِمَا، وَبِفَتْحِ الأَوَّلِ وَكَسْرِ الثَّانِي، وهوَ مَنْسُوبٌ لِتِرْمِذَ، بَلْدَةٌ مِنْ بِلَادِ العَجَمِ.
قَوْلُهُ: (وَقِيلَ غيرُ ذلكَ)، في شَرْحِ النَّبْتِيتِيِّ لِهَذَا المَتْنِ أنَّهُ مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ أَوْ خَمْسٍ وخَمْسِينَ.
قَوْلُهُ: (وَمَنَاقِبُهُ)، أيْ: خِصَالُهُ الحَمِيدَةُ.
وقولُهُ: (شَهِيرَةٌ)، أيْ: مُسْتَفِيضَةٌ بينَ الناسِ.
وقولُهُ: (وَفَضَائِلُهُ)، أيْ: صِفَاتُهُ الجَمِيلَةُ، فَهِيَ قَرِيبَةٌ من المَنَاقِبِ.
وقولُهُ: (كَثِيرَةٌ)، أيْ: في ذَاتِهَا، والكثرةُ غَيْرُ الشُّهْرَةِ.
قَوْلُهُ: (رُوِيَ أنَّ ابنَ عُمَرَ ..إلخ)، هذا بَيَانٌ لبعضِ مَنَاقِبِهِ، ولبعضِ فَضَائِلِهِ.
وقولُهُ: ( (اليومَ مَاتَ عَالِمُ المدينةِ) هذا مَقُولُ القَوْلِ، وَيَوْمٌ مَنْصُوبٌ على الظرفِيَّةِ مُقَدَّمٌ، وعالِمُ المدينةِ أي العَالِمُ فيها، فالإضافةُ على مَعْنَى في.
قَوْلُهُ: (بِالجَابِيَةِ)، اسمُ مَكَانٍ بالشَّامِ.
قَوْلُهُ: ( (مَنْ) اسمُ شرطٍ، وَ( (يَسْأَلْ) ) فِعْلُ الشرطِ، وَجَوَابُهُ ( (فَلْيَأْتِ ..إلخ) ).
قَوْلُهُ: (وقالَ مَسْرُوقٌ ..إلخ)، إِنَّمَا سُمِّيَ مَسْرُوقًا؛ لأنَّهُ سُرِقَ في صِغَرِهِ ثمَّ وُجِدَ، وكانَ ثِقَةً عَالِمًا عَابِدًا زَاهِدًا، كَمَا نَقَلَهُ الشيخُ السِّجَاعِيُّ عن المَنَاوِيِّ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ.
قَوْلُهُ: ( (من الرَّاسِخِينَ في العِلْمِ) )، أي: الثابتينَ في العلمِ، جَمْعُ رَاسِخٍ، بِمَعْنَى ثَابِتٍ، بِحَيْثُ يَعْرِفُ تَصَارِيفَ الكلامِ، وَمَوَارِدَ الأحكامِ، وَمَوَاقِعَ المَوَاعِظِ. وَنُقِلَ عن الإمامِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّهُ سُئِلَ عن الرَّاسِخِينَ في العلمِ فَقَالَ: (الرَّاسِخُ مَن اجْتَمَعَ فيهِ أَرْبَعَةُ أشياءَ: التَّقْوَى فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، والتواضعُ فِيمَا بَيْنَهُ وبينَ خَلْقِهِ، والزهْدُ فِيمَا بِيْنَهُ وبينَ الدُّنْيَا، والمُجَاهَدَةُ فيما بَيْنَهُ وبينَ نَفْسِهِ). قالَهُ الشَّمْسُ الحِفْنِيُّ.
قَوْلُهُ: ( (عُلِمَ زَيْدٌ) )، بِبِنَاءِ الفعلِ للمفعولِ، وَنِيَابَةِ زَيْدٍ مَنَابَ الفَاعِلِ.
وقولُهُ: ( (بِخُصْلَتَيْنِ) )، فيهِ أنَّهُ عُلِمَ بِخِصَالٍ كَثِيرَةٍ، فَلِمَ اقْتَصَرَ عَلَيْهِمَا؟
وقدْ يُقَالُ: لِشُهْرَتِهِمَا أَكْثَرَ مْنِ غَيْرِهِمَا.
وقولُهُ: ( (بالقُرْآنِ) أيْ: بِعِلْمِهِ وَتَأْوِيلِهِ.
وقولُهُ: ( (والفَرَائِضِ) )، أيْ: عِلْمِهِا. ولا يَخْفَى أنَّ قَوْلَهُ: ( (بالقرآنِ والفرائضِ) ) بَدَلٌ منْ قولِهِ: ( (بِخُصْلَتَيْنِ) ).
قَوْلُهُ: (فائدةٌ)، خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ محذوفٍ، أيْ: هذهِ فائدةٌ. والغرضُ منْ هذهِ ِ الفائدةِ بَيَانُ المناسِباتِ فِي اسمِ زَيْدٍ التي تَتَعَلَّقُ بالفرائضِ، وقدْ أَفْرَدَ بَعْضُهُم ذلكَ بِتَأْلِيفٍ لِتَشْحِينِ الذهنِ بِمَسَائِلِ الفَنِّ إِجْمَاعًا.
قَوْلُهُ: (قد اجْتَمَعَ في اسمِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُنَاسِبَاتٌ)، يَنْبَغِي كَسْرُ السِّينِ على مَعْنَى أَنَّهَا تُنَاسِبُ المقامَ، وإضافةُ اسمٍ لَزَيْدٍ منْ إضافةِ الاسمِ للمُسَمَّى أوْ للبيانِ. وهذهِ المناسِباتُ تُوجَدُ فِي اسمِ زَيْدٍ ولوْ أُرِيدَ بهِ غَيْرُ الصَّحَابِيِّ المَشْهُورِ، لَكِنَّ الظاهرَ أَنَّهُم أَرَادُوهُ بِخُصُوصِهِ؛ لأنَّ السياقَ فيهِ.

قَوْلُهُ: (إِفْرَادًا)، أيْ: منْ جِهَةِ إِفْرَادِ بعضِ حُرُوفِهِ عنْ بعضٍ.
وقولُهُ: (وَجَمْعًا)، أيْ: ومِنْ جِهَةِ جَمْعِ بعضِ حُرُوفِهِ إلى بَعْضٍ.
وقولُهُ: (وَعَدَدًا)، أيْ: ومِنْ جِهَةِ عَدَدِ حُرُوفِهِ.
وقولُهُ: (وَطَرْحًا)، أيْ: ومِنْ جِهَةِ الطَّرْحِ، وهوَ إِسْقَاطُ عَدَدٍ منْ عَدَدٍ بِشَرْطِ كونِ المطروحِ أَقَلَّ من المطروحِ منهُ.
وقولُهُ: (وَضَرْبًا)، أيْ: ومِنْ جِهَةِ ضَرْبِ عددِ حُرُوفِهِ في مِثْلِهَا، كما سَيَأْتِي بَيَانُ ذلكَ كُلِّهِ.
قَوْلُهُ: (فَأَمَّا الإفرادُ ..إلخ)، أيْ: فَأَمَّا المُنَاسِبَاتُ التي تَتَعَلَّقُ بهِ مِنْ جِهَةِ الإفرادِ ..إلخ.
قَوْلُهُ: (فَالزَّايُ بِسَبْعَةٍ)، أيْ: في الجُمَّلِ.
وقولُهُ: (وهيَ عَدَدُ أصولِ المسائلِ)، أي: المُتَّفَقِ عليها، وَهِيَ اثْنَانِ، وَثَلَاثَةٌ، وَأَرْبَعَةٌ، وَسِتَّةٌ، وَثَمَانِيَةٌ، وَاثْنَا عَشَرَ، وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ.
وقولُهُ: (وَعَدَدُ مَنْ يَرِثُ بالفرضِ وَحْدَهُ)، أيْ: وَهُم الزَّوْجَانِ، والجَدَّتَانِ، والأُمُّ، وَوَاحِدٌ مِنْ أولادِ الأُمِّ، والمُتَعَدِّدُ منهمْ، وَإِنَّمَا عَدَّ الواحدَ نَوْعًا والمُتَعَدِّدَ نَوْعًا لاختلافِ الفرْضِ.
وقولُهُ: (وَعَدَدُ مَنْ يَرِثُ مِن النساءِ بالاختصارِ)، أيْ: وَهُنَّ البِنْتُ، وَبِنْتُ الابْنِ، وَالأُمُّ، والزَّوْجَةُ، والجَدَّةُ، والأختُ، والمُعْتَقَةُ.
قَوْلُهُ: (والياءُ بِعَشَرَةٍ)، أيْ: في الجُمَّلِ.
وقولُهُ: (وهيَ)، عَدَدُ الوارثِينَ بالاختصارِ، وهم الابنُ، وابنُ الابنِ، والأبُ، والجَدُّ، والأخُ، وابنُ الأخِ لغيرِ أُمٍّ، والعمُّ، وابنُ العمِّ لغيرِ أُمٍّ أيضًا، والزوجُ، والمُعْتَقُ.
وقولُهُ: (وَعَدَدُ الوَارِثَاتِ بالبَسْطِ)، وهُنَّ السبعُ السابقةُ بِزِيَادَةِ ثَلَاثٍ؛ لأنَّ الجَدَّةَ إمَّا جَدَّةُ أَبٍ، وإمَّا جَدَّةُ أُمٍّ، فَزَادَتْ وَاحِدَةً، والأُخْتُ إمَّا شَقِيقَةٌ أوْ لِأَبٍ أوْ لأُمٍّ، فَزَادَت اثْنَتَيْنِ، وَحينئذٍ فالزائدُ ثَلَاثَةٌ، فإذا ضُمَّت للسبعةِ كانَ المجموعُ عَشَرَةً بالبَسْطِ.
قَوْلُهُ: (والدَّالُ بِأَرْبَعَةٍ)، أيْ: بالجُمَّلِ.
وقولُهُ: (وهيَ عددُ أَسْبَابِ الإرثِ)، أي: التي هيَ القرابةُ والنِّكَاحُ والولاءُ وَجِهَةُ الإسلامِ. ولا يَرُدُّ قَوْلُ المصنِّفِ: (أَسْبَابُ مِيرَاثِ الوَرَى ثلاثَةٌ ..إلخ)؛ لأنَّهُ إِنَّمَا اقْتَصَرَ على المُتَّفَقِ عليهِ، وَجِهَةُ الإسلامِ مُخْتَلَفٌ فيها كما يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي.
وقولُهُ: (والأصولُ التي لا تَعُولُ)، أي: التي هيَ الاثنانِ والثلاثةُ والأربعةُ والثمانيةُ، فهذهِ الأصولُ هيَ التي لا تَعُولُ.
قَوْلُهُ: (وأمَّا الجمعُ)، أيْ: وَأَمَّا مُنَاسِبَاتُ جِهَةِ الجمعِ، أيْ جَمْعِ بَعْضِ حُرُوفِهِ معَ بَعْضٍ. وَتَحْتَهُ أَرْبَعُ صوَرٍ: الزايُ معَ الياءِ، والزايُ معَ الدالِ، والياءُ معَ الدالِ، والزايُ معَ الياءِ والدالِ.
قَوْلُهُ: (فالزايُ معَ الياءِ بِسَبْعَةَ عَشَرَ)، أيْ: لأنَّ الزايَ بِسَبْعَةٍ، والياءَ بِعَشَرَةٍ، ومَجْمُوعَهُمَا مَا ذُكِرَ.
وقولُهُ: (وهيَ عَدَدُ الوارثِينَ والوارثاتِ بالاختصارِ)، أيْ: لأنَّ الوارثينَ بالاختصارِ عَشَرَةٌ، والوارثاتِ بالاختصارِ سَبْعَةٌ، وَمَجْمُوعَهُمَا مَا ذُكِرَ.
قَوْلُهُ: (والزايُ معَ الدالِ بِأَحَدَ عَشَرَ)، أيْ: لأنَّ الزايَ بِسَبْعَةٍ، والدالَ بأَرْبَعَةٍ، ومَجْمُوعَهُمَا أَحَدَ عَشَرَ.
وقولُهُ: (وهيَ عَدَدُ الوارثاتِ على طريقِ البَسْطِ)، أيْ: على طَرِيقٍ هيَ البَسْطُ، لَكِنْ تَقَدَّمَ أنَّهُنَّ بطريقِ البسطِ عَشَرَةٌ؛ فلذلكَ احْتَاجَ لِقَوْلِهِ: (بزيادةِ مَوْلَاةٍ). المَوْلَاةُ أيْ مُعْتِقَةُ المُعْتَقَةِ.
وقولُهُ: (والياءُ معَ الدَّالِ بِأَرْبَعَةَ عَشَرَ)، أيْ: لأنَّ الدالَ بِأَرْبَعَةٍ، والياءَ بَعَشَرَةٍ، وَمَجْمُوعَهُمَا مَا ذُكِرَ.
وقولُهُ: (وهيَ عَدَدُ الوارثِينَ بالبسطِ)؛ إذْ عَدَدُهُم بالبَسْطِ خَمْسَةَ عَشَرَ، لَكِنْ يَخْرُجُ منهم المَوْلَى، فالباقِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ؛ ولذلكَ قالَ الشَّرْحُ: (خَلَا المَوْلَى)، أيْ: مَنْ لهُ الولاءُ، وَعَلَّلَهُ بقولِهِ:(لأنَّهُ قَدْ يَكُونُ أُنْثَى)، والمنظورُ لهُ هُنَا مَنْ كانَ ذَكَرًا دائمًا كالابنِ والأبِ وهكذا.
قَوْلُهُ: (والزايُ معَ الياءِ والدالِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ)، أيْ: لأنَّ الزايَ بِسَبْعَةٍ، والياءَ بِعَشَرَةٍ، والدالَ بِأَرْبَعَةٍ، وَمَجْمُوعَهَا أَحَدٌ وعِشْرُونَ.
وقولُهُ: (عَدَدُ جميعِ مَنْ يَرِثُ بالفرْضِ)، أيْ: فَهُمْ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ.
وقولُهُ: (مِنْ حَيْثُ اخْتِلَافُ أَحْوَالِهِمْ)، أيْ: لا مِنْ حيثُ إِرْثُهُم بالفرضِ معَ قَطْعِ النَّظَرِ عن اختلافِ أَحْوَالِهِم، كَكَوْنِ الزوجِ تَارَةً يَرِثُ النِّصْفَ وَتَارَةً يَرِثُ الرُّبْعَ، وكونِ الزوجةِ تَارَةً تَرِثُ الربعَ وَتَارَةً تَرِثُ الثمنَ وهكذا، ولوْ قُطِعَ النَّظَرُ عنْ ذلكَ لم يَبْلُغْ مَجْمُوعُهُم هذا العددَ، فَبِوَاسِطَةِ النظرِ لهُ بَلَغَ مَجْمُوعُهُم مَا ذُكِرَ.
وقولُهُ: (كما سَيَأْتِي)، أيْ: كالذي سَيَأْتِي مِن اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِم.
قَوْلُهُ: (لأنَّ أصحابَ النصفِ ..إلخ)، عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ: (وهيَ عَدَدُ جَمِيعِ مَنْ يَرِثُ بالفرضِ)، مِن الحَيْثِيَّةِ المَذْكُورَةِ.
وقولُهُ: (والرُّبْعِ اثْنَانِ)، أيْ: وأصحابَ الرُّبْعِ اثْنَانِ، وَصِحَّةُ الإخبارِ بِاثْنَيْنِ عن اسمِ إِنَّ، وهوَ أصحابَ، باعتبارِ أنَّ المرادَ بالجمعِ ما فوقَ الواحدِ، وكذا يُقَالُ في قولِهِ: (والثلثِ اثْنَانِ).
وأمَّا قَوْلُهُ: (والثمنِ وَاحِدٌ)، أيْ: وَأَصْحَابَ الثمنِ وَاحِدٌ، فلا يَنْفَعُ فيهِ ذلكَ، وَصِحَّةُ الإخبارِ فيهِ بملاحظةِ أَفرادِ هذا النوعِ، فَنَوْعُ الزوجةِ تَحْتَهُ أَفْرَادٌ، أيْ زَوْجَةٌ وَاحِدَةٌ واثْنَتَانِ وثلاثةٌ وأربعةٌ.
قَوْلُهُ: (وضَبَطَ ذلكَ بَعْضُهُم)، أيْ: ضَبَطَ مَنْ يَرِثُ بالفرضِ الشيخُ الجَعْبَرِيُّ.
وقولُهُ: (فَقَالَ)، عَطْفٌ على ضَبَطَ.
وقولُهُ: (ضَبْطُ ذَوِي الفُرُوضِ مِنْ هذا الرَّجَزِ)، أيْ: ضَبْطُ أصحابِ الفُرُوضِ منْ هذا البيتِ الذي هوَ مِنْ بَحْرِ الرَّجَزِ.
وقولُهُ: (خُذْهُ مُرَتَّبًا)، أيْ: خُذْ ضَبْطَهُمْ حَالَ كَوْنِهِ مُرَتَّبًا.
وقولُهُ: (وَقُلْ: هبادبز)؛ وذلكَ لأنَّ الاصطلاحَ الجَارِيَ في حسابِ الأَحْرُفِ بالجُمَّلِ الصغيرِ أنَّ الهاءَ بِخَمْسَةٍ، فهيَ لِمَنْ يَرِثُ النِّصْفَ، والبَاءَ بِاثْنَيْنِ، فَهيَ لِمَنْ يَرِثُ الربعَ، والألِفَ بِوَاحِدٍ، فهيَ لِمَنْ يَرِثُ الثمنَ، والدالَ بِأَرْبَعَةٍ، فَهِيَ لِمَنْ يَرِثُ الثُّلُثَيْنِ، والباءَ باثنَيْنِ كما عَلِمْتَ فهيَ لِمَنْ يَرِثُ الثُّلُثَ، والزايَ بِسَبْعَةٍ، فَهِيَ لِمَنْ يَرِثُ السُّدُسَ.
قَوْلُهُ: (وأمَّا العَدَدُ)، أيْ: وَأَمَّا مُنَاسِبَاتُهُ منْ جِهَةِ العددِ، أيْ عَدَدِ حُرُوفِهِ.
وقولُهُ: (فَعِدَّةُ حُرُوفِهِ ثَلَاثَةٌ)، وهيَ الزايُ والياءُ والدالُ.
وقولُهُ: (وهيَ عَدَدُ شُرُوطِ الإرثِ)، أي: التي هيَ تَحَقُّقُ مَوْتِ المُوَرِّثِ، وَتَحَقُّقُ حَيَاةِ الوَارِثِ بَعْدَ موتِ المُوَرِّثِ، والعلمُ بِالجِهَةِ المُقْتَضِيَةِ للإِرْثِ.
وقولُهُ: (وعددُ الأصولِ التي تَعُولُ)، أيْ: وهيَ السِّتَّةُ والاثْنَا عَشَرَ والأربعةُ والعِشرونَ،

وإنْ شِئْتَ قُلْتَ: الستَّةُ وضِعْفُهَا وضِعْفُ ضِعْفِهَا،
وإنْ شئتَ قلتَ: الأربعةُ والعشرونَ ونصفُها ونصفُ نصفِها،
وإنْ شئتَ قلتَ: الاثنا عشرَ ونصفُها وضِعْفُهَا،
فالعبارتانِ الأُوليَانِ للترقِّي، لكنَّ الأولى مُصَرَّحٌ فيها بأسماءِ الأعدادِ دونَ الثانيةِ والثالثةِ للتدلِّي، والرابعةُ للتوسُّطِ. أفادَهُ في اللؤلؤةِ.
قَوْلُهُ: (وأمَّا الطرحُ)، أيْ: وأمَّا مناسِباتُهُ منْ جهةِ الطرحِ، أيْ إسقاطِ عددٍ منْ عددٍ بالشرطِ السابقِ.
وقولُهُ: (فإذا طرحْتَ الدالَ من الياءِ)، أيْ: عددَ الدالِ وهوَ أربعةٌ منْ عددِ الياءِ وهوَ عَشَرَةٌ.
وقولُهُ: (بَقِيَ ستَّةٌ)، أيْ: بعدَ إخراجِ الأربعةِ من العشرةِ.
وقولُهُ: (وهيَ عددُ الفروضِ القرآنيَّةِ)، أي: التي هيَ النصفُ والربعُ والثمنُ والثلثانِ والثلثُ والسدسُ. ومعنى كونِهَا قرآنيَّةً أنَّهَا مذكورةٌ في القرآنِ.
وقولُهُ: (وعددُ الموانِعِ)، أي: المذكورةِ في المَتْنِ والشرْحِ، وهيَ الرِّقُّ، والقتلُ، واختلافُ الدِّينِ، واختلافُ ذَوِي الكُفْرِ، أي الأصليِّ بالذمَّةِ، والحرابةِ، والردَّةِ والعياذُ باللَّهِ تعالَى، والدورِ الحكميِّ.
قَوْلُهُ: (وإذا طرحْتَ الدالَ من الزايِ)، أيْ: عددَ الدالِ وهوَ أربعةٌ منْ عددِ الزايِ وهوَ سبعةٌ.
وقولُهُ: (بَقِيَ ثلاثةٌ)، أيْ: بعدَ طرحِ الأربعةِ من السبعةِ.
وقولُهُ: (وهيَ عددُ الحروفِ)، أيْ: عددُ حروفِ اسمِ زيدٍ.
وقولُهُ: (وتقدَّمَ ما فيها)، أيْ: منْ أنَّها عددُ شروطِ الإرثِ، وعددُ أصولِ المسائلِ التي تعُولُ.
قَوْلُهُ: (وإذا طرحْتَ الزايَ من الياءِ)، أيْ: عددَ الزايِ وهوَ سبعةٌ منْ عددِ الياءِ وهوَ عشرةٌ.
وقولُهُ: (بقِيَ ثلاثةٌ)، أيْ: بعدَ طرحِ سبعةٍ منْ عشرةٍ.
وقولُهُ: (أيضًا)، أيْ: كما بَقِيَ ثلاثةٌ فيما قبلَهُ.
وقولُهُ: (وتقدَّمَ ما فيها)، قدْ علمْتَ بيانَهُ.
قَوْلُهُ: (وأمَّا الضربُ)، أيْ: وأمَّا مناسِباتُهُ منْ جهةِ الضربِ، أيْ ضرْبِ عددِ حروفِهِ في مثلِهَا.
وقولُهُ: (تبلغُ تسعةً)، وهيَ قائمةٌ منْ ضرْبِ ثلاثةٍ في مثلِهَا.
وقولُهُ: (وهيَ عددُ أُصولِ المسائلِ)، وهيَ السبعةُ المُتَّفَقُ عليها، وزيادةُ اثنينِ، وهما ثمانيةَ عشرَ وستَّةٌ وثلاثونَ.
وقولُهُ: (على الراجحِ)، أيْ: منْ أنَّ الثمانيةَ عشرَ والستَّةَ والثلاثينَ في بابِ الجدِّ والإخوةِ تأصيلانِ. وقيلَ تصحيحانِ.
قَوْلُهُ: (وأكثرُ ما ذكرْتُهُ)، أيْ: مِنْ كوْنِ حروفِ زيدٍ أفرادًا وجمعًا ..إلخ، موافقةُ الأشياءِ تتعلَّقُ بالفرائضِ.
وقولُهُ: (عددُ أشياءِ غيرِ ذلكَ)، أيْ: عددُ الأشياءِ غيرِ الذي ذكرْتُهُ، وذلكَ ككوْنِ الزايِ بسبعةٍ، عددُ مَنْ يرثُ السدسَ، وعددُ الموانعِ بزيادةِ اللِّعانِ على الستَّةِ الآتِي بيانُها، وعددُ أحوالِ الجدِّ والإخوةِ.

وككوْنِ الياءِ بعشرةٍ، عددُ أصنافِ ذَوِي الأرحامِ، وعددُ مَنْ يرثُ النصفَ والثلثينِ والثمنَ، وعددُ مَنْ يرثُ النصفَ والثلثَ والربعَ والثمنَ.
وككوْنِ الدالِ بأربعةٍ، وهيَ عددُ أحوالِ الوارثِ منْ كونِهِ يرثُ ويُورَثُ، وهوَ ظاهرٌ، وكونِهِ لا يرثُ ولا يُورَثُ كالرقيقِ، ويُورَثُ ولا يَرِثُ كالمبعضِ، وعكسِهِ كالأنبياءِ.
وككوْنِ عدَّةِ حروفِهِ ثلاثةً بعددِ أحوالِ الإرثِ بالفرضِ فقطْ، وبالتعصيبِ فقطْ، أوْ بهما معًا، وعددِ صفاتِ الوارثِ منْ حيثُ الحجْبُ وعدمُهُ، فَإِنَّهُ قدْ يُحْجَبُ حَجْبَ حرمانٍ، أوْ نقصانٍ، أوْ لا يُحْجَبُ أصلًا كما أفادَ ذلكَ كلَّهُ الأستاذُ الحفنيُّ معَ زيادةٍ.
قَوْلُهُ: (واللَّهُ أعلمُ)، أيْ: بحقيقةِ الحالِ. وَفِي ذلكَ تفويضُ العلمِ إليهِ تعالَى، وأفعلُ التفضيلِ على بابِهِ إنْ نُظِرَ للظاهرِ، فإنْ نُظِرَ للواقعِ كانَ على غَيْرِ بابِهِ.
قَوْلُهُ: (ولْنَرْجِعْ إلى كلامِ المؤلِّفِ)، فيهِ إدخالُ لامِ الأمرِ على فعلِ المتكلِّمِ المبدوءِ بالنونِ، وهوَ مسموعٌ كما في الآيةِ {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ}.
وقولُهُ: (فقولُهُ)، أيْ: فنقولُ قولَهُ.
قَوْلُهُ: (الفَرَضِيِّ)، نعتٌ لزيدٍ، وهوَ نَسَبٌ إلى واحدِ الفرائضِ، وهوَ فريضةٌ بوزنِ فَعِيلَةٍ. قالَ في الخلاصةِ:

* وَفَعَلِيٌّ فِي فَعِيلَةٍ الْتَزِمْ *
ولذلكَ قالَ الشَّرْحُ: (بفتحِ الفاءِ والراءِ).



وقولُهُ: (أي: العالمُ بالفرائضِ)، قالَ الشمسُ الحفنيُّ: الأظهرُ في التفسيرِ أنْ يُقالَ: أي المنسوبُ للفرائضِ لمزيدِ علمِهِ بها، ا هـ. وهذا بناءً على أنَّ المرادَ النسبُ كما هوَ الظاهرُ. والذي حكاهُ صاحبُ المحكمِ عن ابنِ الأعرابيِّ أنْ يُقَالَ للعالمِ بالفرائضِ: فَرَضِيٌّ وفارضٌ وفريضٌ، كعالمٍ وعليمٍ، انتهى. وبهِ تعلمُ أنَّهُ ليسَ مقصودًا بهِ النسَبُ بلْ هذا اسمٌ للعالِمِ بالفرائضِ، وحينئذٍ فلا اعتراضَ على الشرحِ.
قَوْلُهُ: (ويُقَالُ لهُ: فارِضٌ)، أيْ: يُقَالُ لعالمِ الفرائضِ: فارضٌ، بصيغةِ اسمِ الفاعلِ.
وقولُهُ: (وفَرِيضٌ)، أيْ: بصيغةِ المبالغةِ التي على وزنِ فَعِيلٍ.
وقولُهُ: (كعالِمٍ وعلِيمٍ)، تنظيرٌ لفارضٍ وفريضٍ، الأوَّلُ للأَوَّلِ، والثاني للثانِي.
وقولُهُ: (وفَرَّاضٌ)، أيْ: بصيغةِ المبالغةِ التي على وزنِ فعَّالٍ. ويصِحُّ أنْ يكونَ صيغةَ نسبٍ، كبقَّالٍ، أيْ ذِي بَقْلٍ، ومثلُهُ قولُهُ تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}، أيْ: بذِي ظُلْمٍ. فظلَّامٌ صيغةُ نسبٍ، وليسَ صيغةَ مبالغةٍ، وإلَّا لاقْتضَت الآيةُ ثبوتَ أصلِ الظلمِ، وهوَ لا يصحُّ، قالَ تعالَى: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}.
وقولُهُ: (وفرْضِيٌّ بسكونِ الراءِ)، أيْ: نسبةٌ لفرْضٍ، فقدْ نَسَبُوا لفرضٍ كما نَسَبُوا لِفَرِيضَةٍ.
وقولُهُ: (أيضًا)، أيْ: كما يُقالُ له: فرَضِيٌّ بفتحِ الراءِ، فهوَ راجعٌ لقولِهِ: (ويُقَالُ لهُ) إلخ.
قَوْلُهُ: (وأجازَ ابنُ الهائمِ رَحِمَهُ اللَّهُ أنْ يُقَالَ: فَرَائِضِيٌّ)، أيْ: نسبةً لفرائِضَ.
وقولُهُ: (أيضًا)، أيْ: كما قِيلَ فَرَضِيٌّ وغيرُهُ ممَّا تَقَدَّمَ.
وقولُهُ: (وإنْ قالَ جماعةٌ: إِنَّهُ خَطَأٌ)، أيْ: فلا الْتِفَاتَ لقولِهم: إنَّهُ خطأٌ، معلِّلِينَ لهُ بأنَّ القاعدةَ أنَّهُ إذا أُرِيدَ النسبُ للجمعِ، فإنَّما يُنْسَبُ لِمُفْرَدِهِ لا لذلكَ. ووجهُ عدمِ الالتفاتِ أنَّ الجمعَ صارَ لَقَبًا لهذا الفَنِّ، فقدْ شابَهَ الواحدَ، وحينئذٍ يُنْسَبُ إلى لَفْظِهِ، كما يُعْلَمُ منْ قولِ ابنِ مالكٍ:
وَالْوَاحِدُ اذْكُرْ نَاسِبًا لِلْجَمْعِ = مَا لَمْ يُشَابِهْ وَاحِدًا بِالْوَضْعِ
وقدْ تقدَّمَ نظيرُهُ في الأنصاريِّ.
(قَوْلُهُ: والفرائضُ)، أيْ: بمعنَى المسائلِ المُسَمَّاةِ بالفرائضِ.
وقولُهُ: (جمعُ فريضةٍ بمعنَى مَفْرُوضَةٍ)، أيْ: فَعِيلَةٌ بمعنَى مَفْعُولَةٍ.
وقولُهُ: (أي مُقَدَّرةٍ)، تفسيرٌ لمفروضَةٍ.
وقولُهُ: (لِمَا فيها من السهامِ المُقَدَّرَةِ)، علَّةٌ لمحذوفٍ، أيْ: وسُمِّيَتْ مسائلُ هذا الفنِّ بالفرائضِ لِمَا فيها من السهامِ المُقَدَّرةِ. ويُؤخذُ منْ ذلكَ أنَّ قولَهمْ: فريضةٌ، منْ بابِ الحذفِ والإيصالِ، أيْ حذفِ الجارِّ وإيصالِ الضميرِ، والأصلُ مفروضٌ فيها، فحُذِفَ حرفُ الجرِّ واتَّصلَ الضميرُ. ومعلومٌ أنَّ هذهِ العلَّةَ إنَّما تَظْهَرُ في المسائلِ التي فيها سهامٌ مقدَّرةٌ معَ أنَّ المسمَّى بالفرائضِ مسائلُ قِسْمَةِ المواريثِ بالفرْضِ، أوْ بالتعصيبِ، فلا بُدَّ منْ ملاحظةِ التغليبِ؛ ولذلكَ قالَ الشارحُ: فَغُلِّبَتْ على غيرِها، أيْ فَغُلِّبَت الفرائضُ التي هيَ المسائلُ المشتَمِلَةُ على السهامِ المقدَّرةِ على غيرِها، وهوَ مسائلُ التعصيبِ، وَسُمِّيَ الكلُّ فرائضَ. وقيلَ المعنَى: فَغُلِّبَت السهامُ المقدَّرةُ على السهامِ غيرِ المقدَّرةِ، وهيَ سهامُ التعصيبِ. وعلى الأوَّلِ فَقَوْلُ الشرحِ بعدُ: (أيْ فَغُلِّبَتْ على التعصيبِ)، معناهُ: فَغُلِّبَت الفرائضُ على مسائلِ التعصيبِ وسُمِّيَ الكلُّ فرائضَ. وعلى الثانِي معناهُ: فَغُلِّبَت السهامُ المقدَّرةُ على سهامِ التعصيبِ. والأوَّلُ أَظْهَرُ كما ارْتَضَاهُ العلَّامةُ الحفنيُّ. وإنْ حَقَّقْتَ النظرَ فالتغليبُ لا بُدَّ منهُ فيهما، فَتُغَلَّبُ السهامُ المقدَّرةُ على السهامِ غيرِ المقدَّرةِ، وتُغَلَّبُ مسائلُ الأُولَى على مسائلِ الثانيةِ، كما أشارَ إليهِ الشيخُ الأميرُ، وإنَّما غُلِّبَتْ مسائلُ الفرضِ على مسائلِ التعصيبِ لشرفِ الفرضِ على التعصيبِ؛ لِتَقْدِيمِهِ عليهِ في القسمةِ على الورثةِ؛ ولأنَّ صاحبَ الفرضِ لا يسقطُ بغيرِ الحَجْبِ، وصاحبَ التعصيبِ يسقطُ باستغراقِ الفروضِ التَّرِكَةَ. وهناكَ قولٌ بأنَّ التعصيبَ أشرفُ؛ لأنَّ صاحبَ التعصيبِ إذا انْفَرَدَ حَازَ جميعَ المالِ بخلافِ صاحبِ الفرضِ، وسيأتِي ذلكَ.
(قَوْلُهُ: انتَهَى)، أيْ: كلامُ الجلالِ المحلِّيِّ.
وقولُهُ: (أيْ فَغُلِّبَتْ) إلخ، تفسيرٌ لكلامِ الجلالِ المحلِّيِّ، وقدْ عَرَفْتَ تَوْضِيحَهُ.
وقولُهُ: (وَجُعِلَتْ لقبًا لهذا العلمِ)، أيْ: جُعِلَتْ لفظةُ الفرائضِ اسمًا على هذا الفنِّ.
وقولُهُ: (وَسَيَأْتِي تَعْرِيفُهُ)، أيْ: سَيَأْتِي تعريفُ هذا العلمِ بعدَ قولِ المُصَنِّفِ:
فَهَاكَ فِيهِ الْقَوْلُ عَنْ إِيجَازِ = مُبَّرَأٌ عَنْ وَصْمَةِ الْإِلْغَازِ
وَنَصُّهُ هناكَ: مُقَدِّمَةُ عِلْمِ الفرائضِ فِقْهُ قِسْمَةِ المواريثِ إلخ.
(قَوْلُهُ: وقولُهُ)، مبتدأٌ خبرُهُ مأخوذٌ منْ قولِهِ: أي المذكورُ. فكأنَّهُ قالَ: يُقالُ في شرحِهِ كذا، كما تَقَدَّمَ نظيرُهُ، وعلى هذا ابدأْ فَقِسْ.
(قَوْلُهُ: إذْ كانَ ذاكَ إلخ)، أيْ: لأنَّ هذا أَهَمُّ، فَإِذْ للتعليلِ.
وقولُهُ: (أي المذكورُ)، إنَّمَا يُحْتَاجُ لهَذَا التأويلِ بالنظرِ لتفسيرِ اسمِ الإشارةِ بالإبانةِ؛ فإنَّهَا مؤنثةٌ، ولفظُ ذَا إنَّمَا يُشَارُ بهِ للمفردِ المذكَّرِ، فيُحْتَاجُ لتأويلِ الإبانةِ بالمذكورِ لا بالنظرِ لتفسيرِ اسمِ الإشارةِ بِتَوَخِّيهَا؛ لأنَّهُ مُذَكَّرٌ منْ غيرِ تأويلٍ.
(قَوْلُهُ: مِنْ أَهَمِّ الغَرَضِ)، أيْ: منْ أَهَمِّ القُصْدَانِ. فسَّرَ اسمَ الإشارةِ بالتوخِّي أوْ أهمِّ المقصودِ، إنْ فسَّرَ اسمَ الإشارةِ بالمذكورِ من الإبانةِ فإنَّهَا مقصودةٌ، فتكونُ منْ أهمِّ المقصودِ.
(قَوْلُهُ: لِمَنْ يُرِيدُ التصنيفَ في علمِ الفرائضِ)، اعْتُرِضَ بأنَّ التخصيصَ بِمَنْ يُرِيدُ التصنيفَ لا دَلِيلَ عليهِ، فإنَّ المُدَرِّسَ والطالبَ كذلكَ. وَأُجِيبَ بأنَّ الذي يَخُصُّ المصنِّفَ التصنيفُ، فالتقييدُ بهِ بالنظرِ للمقامِ.
(قَوْلُهُ: فهوَ تعليلٌ لِمَا ذُكِرَ)، أيْ: منْ سؤالِ الإعانةِ على ما تَوَخَّيْنَا من الإبانةِ، فكأنَّهُ قالَ: نَسْأَلُ اللَّهَ الإعانةَ على الذي قَصَدْنَاهُ من الإبانةِ عنْ مذهبِ الإمامِ زيدٍ؛ لأنَّهُ أهمُّ من الغرضِ. وَكَتَبَ بعضُهمْ أنَّ المناسبَ حَذْفُ فَهُوَ، ويكونُ قولُهُ: تعليلٌ، خبرًا لقولِهِ الواقعِ مبتدأً في الدخولِ على المتنِ. اهـ. لكنْ تقدَّمَ لكَ أنَّ خبرَهُ مأخوذٌ منْ حَلِّ الشرحِ؛ فلا مُناسبةَ للحذفِ.
(قَوْلُهُ: قالَ العلَّامَةُ إلخ)، إنَّمَا أتَى بذلكَ تَقْوِيَةً لِمَا قَبْلَهُ، وتوضيحًا لكلامِ المَتْنِ.
وقولُهُ: (سِبْطٌ المَارِدِينِيُّ)، وهوَ بدرُ الدِّينِ محمَّدُ بنُ محمَّدِ بنِ أحمدَ، كانَ في عصرِ السلطانِ قَايِتْبَاي. والمَارِدِينِيُّ نسبةٌ لِمَارِدِينَ، بلدةٌ بالعجمِ، وكانَ المَارِدِينِيُّ جَدًا للسِّبْطِ؛ لأنَّ الواقعَ أنَّهُ ابنُ ابنتِهِ، وإنْ كانَ السِّبْطُ في الأصلِ ولدَ الولدِ ذكرًا كانَ أوْ أنثَى، ا هـ أميرٌ بالمعنَى.
(قَوْلُهُ: فيما قصدْنَاهُ)، تفسيرٌ لقولِ المصنِّفِ: فما تَوَاخَيْنَا.
وقولُهُ: (من الإظهارِ والكشفِ)، تفسيرٌ للإبانةِ الواقعةِ في كلامِ المُصَنِّفِ. وعَطْفُ الكشفِ على الإظهارِ عَطْفُ تفْسيرٍ، وقولُهُ: لأنَّ هذا منْ أهمِّ القصدِ، تفسيرٌ لقولِ المصنِّفِ: إذْ كانَ ذاكَ منْ أهمِّ الغرضِ.
(قَوْلُهُ: فَإِنَّهُ لا يَخِيبُ مَنْ قَصَدَهُ)، أيْ: وإنَّما سَأَلْتُ اللَّهَ؛ لأنَّهُ تعالَى لا يَرُدُّ مَنْ قَصَدَهُ خائبًا، أيْ غيرَ ظافرٍ بمقصودِهِ؛ فإنَّ الخيبةَ عدمُ الظفرِ بالمقصودِ. وكانَ المناسبُ أنْ يقولَ: مَنْ سألَهُ، بدَلَ: مَنْ قصدَهُ، إلَّا أنْ يُقالَ: المرادُ مَنْ قصدَهُ بالسؤالِ.
(قَوْلُهُ: قالَ اللَّهُ تعالَى)، هذا استدلالٌ علَى أنَّهُ تعالَى لا يُخَيِّبُ مَنْ قصدَهُ، لكنَّ الاستدلالَ بذلكَ فيهِ خَفَاءٌ؛ لأنَّ هذهِ الآيةَ إنَّمَا دَلَّتْ علَى طلبِ السؤالِ، ولذلكَ احتاجَ الشرحُ لقولِهِ: قالَ بعضُ العلماءِ إلخ، معَ قولِهِ: وقالَ الإمامُ تاجُ الدِّينِ إلخ، فأتَى بذلِكَ لبيانِ وجهِ الاستدلالِ، ولو استدلَّ بقولِهِ تعالَى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، أوْ بقولِهِ تعالَى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، لم يَحْتَجْ لذلكَ؛ فَإِنَّهُ ظاهرٌ في الاستدلالِ علَى ما ذَكَرَ.
(قَوْلُهُ: وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ)، أيْ: شيئًا منْ فضلِهِ لا وُجُوبًا عليهِ.
(قَوْلُهُ: قالَ بعضُ العلماءِ إلخ)، قدْ عَرَفْتَ أنَّهُ أتَى بذلِكَ معَ ما بعدَهُ لبيانِ وجهِ الاستدلالِ بالآيةِ، ومُرادُهُ ببعضِ العلماءِ ابنُ عُيَيْنَةَ، كما في اللؤلؤةِ نَقْلًا عن السَّكَتَانِيِّ.
وقولُهُ: (لمْ يأْمُرْ بالمسألةِ)، أيْ: في قولِهِ تعالَى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ}.
وقولُهُ: (إِلَّا لِيُعْطِي)، أيْ: أخذًا منْ قولِهِ تعالَى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، لكنَّهُ لا بُدَّ منْ تَوَفُّرِ شروطِ الإجابةِ التي منْ أعظمِهَا أكْلُ الحلالِ، وانتفاءُ موانعِها التي منْ أَعْظَمِها أكْلُ الحرامِ. والإجابةُ إمَّا بِعَيْنِ المطلوبِ أوْ بِأَحْسَنَ منهُ، أوْ بدفْعِ ضَرَرٍ عن الداعِي. وإِمَّا أنْ تَكُونَ مُعَجَّلَةً، وإمَّا أنْ تكونَ مُؤَجَّلةً، فكلُّ دعاءٍ مستجابٌ بِقَيْدِهِ السابقِ.
(قَوْلُهُ: انتهَى)، أيْ: كلامُ بعضِ العلماءِ.
(قَوْلُهُ: قالَ الإمامُ تاجُ الدِّينِ بنُ عطاءِ اللَّهِ)، أيْ: صاحبُ الحِكَمِ المشهورةِ نَفَعَنَا اللَّهُ بهِ.
وقولُهُ: (مَتَى وَفَّقَكَ اللَّهُ للطَّلَبِ)، أيْ: للطَّلَبِ منهُ.
وقولُهُ: (فَاعْلَمْ أنَّهُ يُرِيدُ أنْ يُعْطِيَكَ)، أيْ: علَى الوجهِ الذي يُرِيدُ، لا علَى الوجهِ الذي تُرِيدُ، لِتَصَوُّرِكَ كما في الحكمِ لهُ.
(قَوْلُهُ: انتهَى)، أيْ: كلامُ ابنِ عطاءِ اللَّهِ.
(قَوْلُهُ: وقولُهُ: عِلْمًا إلخ)، لَمَّا كانَ ما تَقَدَّمَ مُتَضَمِّنًا؛ لأنَّ متعلِّقَ المقصودِ عِلْمٌ، ولأنَّهُ خصوصُ عِلْمِ الفرائضِ، ولأنَّهُ علَى مذهبِ الإمامِ ابنِ زيدِ بنِ ثابتٍ، عَلَّلَ ذلكَ بتعليلٍ يَشْتَمِلُ علَى تلكَ الأشياءِ، فقولُهُ: (عِلْمًا بأنَّ العِلْمَ خَيْرُ ما سُعِيَ إلخ)، راجعٌ للأَوَّلِ.
وقولُهُ: (وبأنَّ هذا العلمَ مخصوصٌ بمَا إلخ)، راجعٌ للثانِي.
وقولُهُ: (وبأنَّ زيدًا خصَّ لا محالةَ إلخ)، راجعٌ للثالثِ.
(قَوْلُهُ: منصوبٌ علَى أنَّهُ مفعولٌ لأجلِهِ)، اسْتَشْكَلَهُ الشيخُ الحفنيُّ، بأنَّ شرْطَ نصبِ المفعولِ لأجلِهِ أنْ يَتَّحِدَ معَ عاملِهِ فَاعِلًا، كما في قولِكَ: قُمْتُ إِجْلَالًا لكَ، فإنَّ فاعلَ الإجلالِ والقيامِ المُتَكَلِّمُ، وهنا ليسَ كذلكَ، فإنَّ مرفوعَ كانَ اسمُ الإشارةِ، وفاعلَ العلمِ المصنِّفُ، وهذا علَى جَعْلِهِ عِلَّةً لقولِهِ: إذْ كانَ ذاكَ منْ أهمِّ الغرضِ. وأمَّا علَى جَعْلِهِ علَّةً لِـ تَوَاخَيْنَا فَلَا إِشْكَالَ؛ لأنَّ فاعِلَ العلمِ والتوَخِّي واحدٌ وهوَ المصنِّفُ. وأجابَ الشيخُ الأميرُ بأنَّ الاتِّحادَ موجودٌ معنًى، فكأنَّهُ قالَ: أَعُدُّهُ منْ أهمِّ الغرضِ عِلْمًا إلخ؛ لأنَّ المرادَ: إذْ كانَ ذاكَ منْ أهمِّ الغرضِ عندِي، فالاتِّحادُ موجودٌ معنًى، كما قَالُوهُ في قولِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا}؛ فإنَّهُم أَعْرَبُوا خَوْفًا وَطَمَعًا مَفْعُولَيْنِ لِأَجْلِهِمَا، معَ أنَّ فاعلَ الخوفِ والطمعِ المُخَاطَبُونَ، وفاعلُ يَرَى هوَ اللَّهُ تعالَى، لكنْ قَالُوا: الاتِّحادُ موجودٌ معنًى؛ فَإِنَّهُ في قُوَّةِ أنْ يُقالَ: وهوَ الذي يَجْعَلُكُم تَرَوْنَ البَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا.
قَوْلُهُ: (وهوَ)، أيْ: عِلْمًا.
وقولُهُ: (عِلَّةٌ لقولِهِ: إذْ كانَ إلخ)، وعلَى هذا فيكونُ علَّةً للعلَّةِ، فهوَ مِنْ بابِ التدقيقِ.
وقولُهُ: (أوْ لقولِهِ: تَوَاخَيْنَا إلخ)، وعليهِ فلَا يَرِدُ الإشكالُ السابقُ كما عَلِمْتَ.
وقولُهُ: (أيْ لِأَجْلِ عِلْمِنَا)، تفسيرٌ لمعنَى كَوْنِهِ عِلَّةً، وفيهِ دخولٌ علَى ما بعدَهُ.
(قَوْلُهُ: بأنَّ العلمَ)، أيْ: كُلَّ عِلْمٍ، أو العلمَ المعهودَ، فَـ أَلْ إمَّا للاستغراقِ أوْ للعهدِ كما سَيَذْكُرُهُ الشرحُ، لكنْ في الاحتمالِ الأوَّلِ شيءٌ؛ إذْ منْ جُمْلَةِ العلومِ مَا لا يَنْبَغِي تَعَاطِيهِ، كالعلومِ الحكميَّةِ وعلومِ الهَيْئَةِ ونحوِهَا. ويُمْكِنُ أنْ يُجَابَ بأنَّ ما ذُكِرَ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ العدمِ؛ لأنَّ الاعتبارَ إنَّمَا هوَ بالعلمِ النافعِ. واعلمْ أنَّ العلمَ يُطْلَقُ علَى المَلَكَةِ، وعلَى الإدراكِ الجازمِ المطابقِ للواقعِ عنْ دليلٍ، وعلَى القواعدِ المُدَوَّنَةِ والفنونِ المُبَيَّنَةِ. وَحَمْلُهُ هنا علَى القواعدِ والفنونِ أَنْسَبُ، لكنَّ الشرحَ فسَّرَهُ بحُكْمِ الذهنِ الجازمِ المطابقِ للواقعِ، وكأنَّهُ لاحظَ أنَّ ذلكَ هوَ الثَّمَرَةُ المُسَتَمَدَّةُ من الفنونِ.
(قَوْلُهُ: وهوَ حُكْمُ الذهنِ إلخ)، هذا تعريفٌ لهُ عندَ الأصولِيِّينَ. والحكمُ هوَ إدراكُ أنَّ النسبةَ واقعةٌ أوْ ليْسَتْ بواقعةٍ. والذهنُ قوَّةٌ للنفسِ معدَّةٌ لاكتسابِ الآراءِ. والحاكمُ في الحقيقةِ هوَ النفسُ الناطقةُ، والذهنُ آلةٌ للحُكْمِ، فإضافةُ الحُكْمِ إليهِ منْ إضافةِ الشيءِ لآلتِهِ.
وقولُهُ: (الجازمُ) بالرفعِ، صفةٌ أُولَى للحُكْمِ، ونسبةُ الجزْمِ إليهِ مجازٌ عقليٌّ؛ لأنَّ الجازمَ صاحبُهُ. وَيُحْتَمَلُ أنَّ اسمَ الفاعلِ بمعنَى اسمِ المفعولِ، فالجازمُ بمعنَى المجزومِ بهِ، علَى حدِّ قولِهِ تعالَى: {فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}. وَخَرَجَ بذلِكَ الظنُّ والشكُّ والوهمُ بِنَاءً علَى أنَّ في الشكِّ والوهمِ حُكْمًا، وإنْ كانَ التحقيقُ أنَّ الشاكَّ ليسَ حاكمًا، وكذلكَ الواهمَ بالأَوْلَى.
وقولُهُ: (المطابقُ للواقعِ) بالرفعِ أيضًا، صفةٌ ثانيةٌ للحكمِ، والمرادُ المطابقُ مُتَعَلَّقَهُ، وهوَ النسبةُ المحكومُ فيها لِمُتَعَلِّقِ الواقعِ، وهوَ النسبةُ التي في عِلْمِ اللَّهِ الذي هوَ المرادُ بالواقعِ، علَى أَحَدِ الأقوالِ. فالمطابقةُ إنَّمَا هيَ بينَ النسبةِ التي تُدْرَكُ من الكلامِ والنسبةِ التي في الواقعِ، لا بينَ الحُكْمِ نفسِهِ والواقعِ؛ لأنَّهُ لا معنَى لمطابقةِ نفسِ الإدراكِ للواقعِ. وَخَرَجَ بذلِكَ حُكْمُ الذهنِ الجازمُ غيرُ المطابقِ للواقعِ، وهوَ الاعتقادُ الفاسدُ. وكانَ علَى الشرحِ أنْ يَزِيدَ قَيْدًا ثالثًا، وهوَ الدليلُ لإخراجِ حُكْمِ الذهنِ الجازمِ المطابقِ للواقعِ لغيرِ دليلٍ، بلْ لتقليدٍ، ويُسَمَّى الاعتقادَ الصحيحَ. ويُمْكِنُ أنْ يُجَابَ بأنَّهُ سَكَتَ عنْ ذلكَ للإشارةِ إلَى أنَّ المرادَ بالعلمِ ما يَشْمَلُ الاعتقادَ الصحيحَ.
(قَوْلُهُ: وهوَ خلافُ الجهلِ)، مُرَادُهُ بالخلافِ المُنَافِي الشاملُ لِلضِّدِّ وللعَدَمِ، المقابلُ للمَلَكَةِ، لا الخلافُ الاصطلاحيُّ؛ لأنَّ الخِلَافَيْنِ اصطلاحًا يَجُوزُ اجتماعُهُمَا وارتفاعُهُمَا، والجهلُ والعلمُ ليسَا كذلكَ. بلْ بالنسبةِِ للجهلِ البسيطِ، وهوَ عدمُ العلمِ بالشيءِ عمَّا مِنْ شأنِهِ أنْ يكونَ عَالِمًا، يكونُ التقابلُ بينهما منْ تَقَابُلِ العدمِ. والمَلَكَةُ، وهيَ الصفةُ الثبوتيَّةُ كالعِلْمِ، فَيُعَبِّرُونَ عنها بالملكةِ، وعنْ مُقَابِلِهَا بالعدمِ. وبالنسبةِ للجهلِ المُرَكَّبِ، وهوَ إدراكُ الشيءِ علَى خلافِ ما هوَ عليهِ في الواقعِ يكونُ التقابلُ بينهما منْ تقابُلِ الضِّدَّيْنِ، وهما الأمرانِ الوُجُودِيَّانِ اللَّذَانِ بينهما غايةُ الخلافِ، لا يَجْتَمِعَانِ وقدْ يَرْتَفِعَانِ. وإنَّمَا سُمِّيَ الجهلُ بمعنَى إدراكِ الشيءِ علَى خلافِ ما هوَ عليهِ في الواقعِ جَهْلًا مُرَكَّبًا لِاسْتِلْزَامِهِ جَهْلَيْنِ: جَهْلُهُ بالشيءِ كما هوَ في الواقعِ، وَجَهْلُهُ بأنَّهُ جاهلٌ. فليسَ مُرَكَّبًا منهما حَقِيقَةً بلْ هوَ مُسْتَلْزِمٌ لهما؛ لأنَّهُمَا عَدَمِيَّانِ وهوَ وُجُودِيٌّ، والوجوديُّ لا يكونُ مُرَكَّبًا منْ عَدَمِيَّيْنِ. وَإِطْلَاقُ الجهلِ علَى كُلٍّ مِن البسيطِ والمُرَكَّبِ حقيقةٌ، فهوَ منْ قَبِيلِ المشترَكِ. وقيلَ: حقيقةٌ في المُرَكَّبِ مَجَازٌ في البسيطِ.
(قَوْلُهُ: والأَلِفُ واللامُ)، كانَ الأولَى التعبيرُ بِـ أَلْ؛ لأنَّ القاعدةَ أنَّ الكلمةَ إذا كانتْ علَى حَرْفَيْنِ عُبِّرَ عنها بلفظِهَا، كَقَوْلِهِم: مِنْ وفِي وعَنْ، ومِثْلُهَا أَلْ. وإذا كانتْ علَى حَرْفٍ واحدٍ عُبِّرَ عنها بِاسْمِهَا، كَقَوْلِهِم: واوُ العطفِ، وَفَاؤُهُ، وَلَامُ الجَرِّ. لكنَّ الشرحَ عَبَّرَ بذلِكَ للتوضيحِ.
وقولُهُ: (للاستغراقِ)، أي: استغراقِ جَميعِ أفرادِ العلمِ النافعِ؛ لأنَّ غيرَ النافعِ بمنزلةِ العدمِ كما مَرَّ.
وقولُهُ: (أو للعهدِ الشَّرْعِيِّ)، أي: المعهودِ عندَ أَهْلِ الشرعِ. وكانَ الأَوْلَى أنْ يقولَ: العِلْمِيِّ؛ لأنَّ المعهودَ منْ أقسامِ المعهودِ الشَّرْعِيِّ، وهيَ الذِّكْرِيُّ والحُضُورِيُّ والعِلْمِيُّ. وَأُجِيبَ بأنَّ مُرَادَهُ العِلْمِيُّ وَعَبَّرَ بالشَّرْعِيِّ تَنْبِيهًا علَى أنَّهُ المعهودُ عندَ علماءِ الشرعِ. وعِبَارَةُ السُّيُوطيِّ: العلمُ المعهودُ أي الشَّرْعِيُّ، فَكَأَنَّ الشرعَ تَصَرُّفٌ فِيهَا.
(قَوْلُهُ: وهوَ عِلْمُ التَّفْسِيرِ إلخ)، أي: العلمُ المعهودُ شَرْعًا هوَ عِلْمُ التفسيرِ إلخ.
وقولُهُ: (وَيَلْحَقُ بذلِكَ ما كانَ آلةً لهُ)، أيْ: وَيَلْحَقُ بالمذكورِ من العلومِ الثلاثةِ ما كانَ آلةً لهُ كالنَّحْوِ.
(قَوْلُهُ: فالعلمُ منْ خيرِ إلخ)، اعْتُرِضَ منْ وَجْهَيْنِ:
الأَوَّلُ: تَغْيِيرُ إعرابِ المَتْنِ. والثاني: إخلاءُ أَنَّ في كلامِ المصنِّفِ عن الخبرِ، لا يُقَالُ: عُذْرُ الشرحِ في تغييرِ الإعرابِ إفادةُ أنَّ العلمَ بَعْضُ الخيرِ وبعضُ الأَوْلَى؛ لأنَّا نَقُولُ: إِفَادَةُ ذلكَ تَحْصُلُ بتقديرِ مُضَافٍ، بأنْ يَقُولَ بَعْدَ قولِ المُصَنِّفِ (خَيْرِ): أيْ بَعْضِ خَيْرٍ، وَيَقُولَ بعدَ قولِهِ (أَوْلَى): أيْ بَعْضِ أَوْلَى. وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ لذلكَ كُلِّهِ إذا جُعِلَتْ أَلْ في العلمِ للعهدِ العِلْمِيِّ؛ لأنَّ علمَ التوحيدِ ليسَ مُنْدَرِجًا فيهِ حينئذٍ معَ أنَّهُ أَفْضَلُ وَأَوْلَى. وَأَمَّا علَى جَعْلِهَا للاستغراقِ فَلَا يُحْتَاجُ لذلكَ بلْ هوَ مُضِرٌّ؛ لِإِيهَامِهِ أنَّ هناكَ مُسَاوِيًا لهُ وَأَفْضَلَ منهُ، وليسَ كذلكَ. وَحَاوَلَ في اللؤلؤةِ، فَجَعَلََ كَوْنَهُ مِن الخيرِ لا يُنَافِي كَوْنَهُ الخيرَ علَى الإطلاقِ. والحقُّ أنَّ الإيهامَ حَاصِلٌ، وَمَحَلُّ عَدَمِ الاحتياجِ للتقديرِ المذكورِ علَى جَعْلِهَا للاستغراقِ إذا لُوحِظَ مَجْمُوعُ الأفرادِ بخلافِ ما لو لُوحِظَ كُلُّ فَرْدٍ علَى حِدَتِهِ؛ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ للتقديرِ السابقِ بالنظرِ للبعضِ دونَ البعضِ.
وَأُجِيبَ عن الوجهِ الأَوَّلِ بأنَّ الحقَ جَوَازُ التغييرِ، خُصُوصًا إذا كانَ الشرحُ مَمْزُوجًا معَ المَتْنِ كما هنا. وعن الوجهِ الثاني بأنَّ الشرحَ أَعَادَ المُبْتَدَأَ لِطُولِ الفصلِ فهوَ منْ بابِ إِعَادَةِ المبتدأِ لا منْ بابِ تَقْدِيرِ المبتدأِ، ولكَ أنْ تقولَ: إِنَّهُ حَلُّ معنًى لَا حَلُّ إعرابٍ. انتهَى مُلَخَّصًا منْ حَاشِيَةِ الحفنيِّ وَحَاشِيَةِ الأميرِ معَ زيادةٍ لَطِيفَةٍ.
(قَوْلُهُ: مِنْ خَيْرِ ما سُعِيَ فيهِ)، أيْ: أَفْضَلِ الأمرِ الذي سَعَى الإنسانُ فيهِ كَسَائِرِ الصُّنَعِ.
وقولُهُ: (ومِنْ أَوْلَى ما لهُ العبدُ دُعِيَ)، أيْ: وَمِنْ أوْلَى الأمرِ الذي طُلِبَ العبدُ لهُ. ولا يَخْفَى التجنيسُ بينَ سُعِيَ وَدُعِيَ. وَقُدِّرَ مِنْ ثانيًا إشارةً إلَى أنَّ أوْلَى مَعْطُوفٌ علَى خيرِ المُسَلَّطِ عليهِ مِنْ، فَيُفِيدُ أنَّ العِلْمَ بَعْضُ الخَيْرِ وَبَعْضُ الأَوْلَى، ولوْ لمْ يُقَدَّرْ مِنْ ثَانِيًا لَاحْتُمِلَ أنْ يكونَ مَعْطُوفًا علَى الجارِّ والمجرورِ مَعًا، فَيُفِيدُ أنَّ العلمَ هوَ الأولَى، وهوَ مُنَافٍ لِجَعْلِهِ أَوَّلًا بعضَ الخيرِ. ولكَ أنْ تقولَ لا مُنَافَاةَ؛ لأنَّ كوْنَ الشيءِ أَفْضَلَ علَى الإطلاقِ لا يُنَافِي كَوْنَهُ بَعْضَ الأفضلِ، كَالنَّبِيِّ صَلََّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ الخلقِ علَى الإطلاقِ، ومعَ ذلكَ هو بعضُ الأنبياءِ الذينَ همْ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِم، فيكونُ بَعْضَ الأفضلِ. أَفَادَهُ في اللؤلؤةِ، لَكِنَّ فيهِ ما تَقَدَّمَ.
(قَوْلُهُ: قالَ اللَّهُ تعالَى إلخ)، هذا استدلالٌ علَى خَيْرِيَّةِ العلمِ وَأَوْلَوِيَّتِهِ؛ لأنَّ الآيةَ الأُولَى فيها مَدْحُ العلماءِ، وَمَدْحُهُم مُتَضَمِّنٌ لِمَدْحِ العلمِ. والآيةُ الثانيةُ دَلَّتْ علَى رَفْعِ العلماءِ دَرَجَاتٍ، وهوَ بِسَبَبِ العلمِ، فَفِيهَا مَدْحٌ للعلمِ ضِمْنًا كالآيةِ الأُولَى. وَأَمَّا الآيةُ الثالثةُ فَفِيهَا أَمْرُ حَبِيبِهِ بِاسْتِزَادَتِهِ من العلمِ، فَلَوْلَا شَرَفُهُ لَمَا أَمَرَهُ بذلِكَ. وجميعُ مَا وَرَدَ في مدْحِ العلماءِ مَحْمُولٌ علَى العلماءِ العَامِلِينَ، وإِلَّا فَغَيْرُ العامِلِينَ مَذْمُومُونَ غَايَةَ الذَّمِّ.
(قَوْلُهُ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ})، بِنَصْبِ الاسمِ الشريفِ وَرَفْعِ العلماءِ كما هوَ القراءةُ المُتَواتِرَةُ، وَقُرِئَ شَاذًّا بِرَفْعِ لفظِ الجلالةِ وَنَصْبِ العلماءِ، وهيَ أَبْلَغُ في مَدْحِ العلماءِ من القراءةِ المتواترةِ؛ لأنَّ المعنَى عليها: إنَّمَا يُعَظِّمُ اللَّهُ منْ عِبَادِهِ العلماءَ، فالمرادُ بالْخَشْيَةِ في حَقِّهِ تَعَالَى التعظيمُ. والمعنَى علَى القراءةِ المتواترةِ: إنَّمَا يَخَافُ اللَّهَ خَوْفًا معَ إجلالٍ منْ عبادِهِ العلماءُ؛ لأنَّهُم أَعْلَمُ باللَّهِ وَبِمَا يَلِيقُ بهِ، ولهذا كانَ أَشَدَّ الناسِ خَوْفًا الأنبياءُ. وَبَعْضُهُم حَمَلَ العلماءَ في هذهِ الآيةِ وَنَحْوِهَا علَى علماءِ الباطِنِ، وهمْ مَنْ أَطْلَعَهُم اللَّهُ علَى مَكْنُونِ غَيْبِهِ بِسَبِبِ تَرْبِيَتِهِم تَحْتَ يَدِ شَيْخٍ عَارِفٍ بِدَسَائِسِ النفسِ.
وَعُلِمَ مِن التفسيرِ المذكورِ أنَّ الخشيةَ علَى القراءةِ المتواترةِ بمعنَى الخوفِ معَ إجلالٍ. قالَ الرَّاغِبُ: الخشيةُ خَوْفٌ يَشُوبُهُ تَعْظِيمٌ، وَأَكْثَرُ ما يكونُ عنْ عِلْمٍ، وقالَ السُّيُوطِيُّ: هيَ أَشَدُّ الخوْفِ.
(قَوْلُهُ: {يَرْفَعُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا}...إلخ)، جَوَابُ انْشُزُوا، بمعنَى ارْتَفِعُوا مُقَابِلَ تَفَسَّحُوا، وَصَدْرُ الآيةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} إلخ.
وقولُهُ: {وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}، ذَهَبَ ابنُ عباسٍ إلى أنَّ الذينَ أُوتُوا العلمَ منصوبٌ بفعلٍ محذوفٍ, والتقديرُ: وَيَزِيدُ الذين أُوتُوا العلمَ درجاتٍ، فيكونُ قد تَمَّ الكلامُ عندَ قولِهِ تعالى: {مِنكُمْ}، وعلى هذا فالاستدلالُ بالآيَةِ على شَرَفِ العلمِ ظاهرٌ، وَأَمَّا على جَعْلِهِ مَعْطُوفًا على الذينَ آمنوا مِن عَطْفِ الخاصِّ على العامِّ فلا يَظْهَرُ الاستدلالُ، كذا قِيلَ, وَوَجَّهَ بَعْضُهُم الاستدلالَ بالآيةِ على العطفِ أَيْضًا بأنَّ ذِكْرَ الخاصِّ بعد العامِّ لَا بُدَّ لهُ من نُكْتَةٍ، والنُّكْتَةُ هنا شَرَفُهُم على غَيْرِهِم، وإلى ذلكَ أشارَ الشيخُ الأميرُ حيثُ قالَ: فَخُصُّوا بالذكرِ اهْتِمَامًا: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}.
قولُهُ: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} أي: وَقُلْ يَا مُحَمَّدُ ربِّ زِدْنِي عِلْمًا، فهو أَمْرٌ للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالاسْتِزَادَةِ من العلمِ، و هو دليلٌ على شَرَفِهِ.
(قولُهُ: والأحاديثُ إلخ) لَمَّا اسْتَدَلَّ على شرفِ العلمِ بالآياتِ القُرْآنِيَّةِ شَرَعَ يَسْتَدِلُّ على ذلكَ بالأحاديثِ النبويَّةِ.
(وقولُهُ: كَثِيرَةٌ) شَهِيرَةٌ لا يَلْزَمُ من الكثرةِ الشهرةُ، فلذلكَ ذَكَرَهَا بَعْدَهَا.
(قولُهُ: مِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلخ) منها أيضًا حديثُ البخاريِّ: ((مَا جَمِيعُ أَعْمَالِ البِرِّ فِي الجِهَادِ إِلَّا كَبَصْقَةٍ فِي بَحْرٍ، وَمَا جَمِيعُ أَعْمَالِ البِرِّ وَالجِهَادِ فِي العِلْمِ إِلَّا كَبَصْقَةٍ فِي بَحْرٍ)) انْتَهَى.
(قولُهُ: لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ) أي: لا غِبْطَةَ مَمْدُوحَةٌ مَدْحًا أكيدًا في خَصْلَةٍ من الخصالِ إلَّا في اثنتينِ - بِتَاءِ التأنيثِ - فالمرادُ بالحسدِ في الحديثِ الغِبْطةُ التي هي تَمَنِّي مثلِ ما للغيرِ، وَيُقَدَّرُ الخيرُ من مادَّةِ المدحِ ونحوِهِ لا مِن مادَّةِ الجوازِ؛إذْ لو قيلَ: لاغِبْطَةَ جائزةٌ إلَّا في اثنتيْنِ لاقْتَضَى أنَّ الغِبْطَةَ حرامٌ في غيرِ المُسْتَثْنَى، وهو باطلٌ، وليسَ المرادُ بالحسدِ في الحديثِ الحسدَ المعروفَ، وهو تَمَنِّي زوالِ نعمةِ الغيرِ؛ لِأَنَّهُ حرامٌ مُطْلَقًا، فلوْ قِيلَ: لا حَسَدَ جائزٌ إلَّا في اثْنَتَيْنِ لمْ يَصِحَّ الاستثناءُ إلَّا أنْ يُجْعَلَ مُنْقَطِعًا؛ لأنَّ المُسْتَثْنَى غبطةٌ والمستثنى منهُ حَسَدٌ.
(وقولُهُ: رجلٍ) أي: خَصْلَةِ رجلٍ، فهو على تقديرِ مضافٍ، وهو إمَّا بالجرِّ بدلٌ, أو بالرفعِ خبرٌ لِمُبْتَدَأٍ محذوفٍ.
(وقولُهُ: آتَاهُ اللَّهُ مَالًا) بِمَدِّ الهمزةِ، أي: أعطاهُ اللهُ مالًا.
(وقولُهُ: فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الخَيْرِ) بفتحِ اللامِ, أي: سَلَّطَةُ على إِهْلَاكِهِ وإنفاقِهِ في الخيرِ كالصدقةِ، وهذا بيانٌ للخَصْلَةِ الأولى.
(وقولُهُ: ورجلٍ) أي: وخَصْلَةِ رَجُلٍ، وهو بالجرِّ أو بالرفعِ, نَظِيرَ ما تَقَدَّمَ.
(وقولُهُ: آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ) بِمَدِّ الهمزةِ، أي: أَعْطَاهُ اللهُ الحكمةَ، وهي بكَسْرِ الحاءِ، تُطْلَقُ على العلمِ النافعِ المُؤَدِّي إلى عملٍ، وهو المناسِبُ هنا، وتُطْلَقُ على إصابةِ الصوابِ قَوْلًا وفِعْلًا وعَقْدًا، وعلى العلمِ بحقائقِ الأشياءِ على ما هيَ عليهِ وبما فيها من المصالحِ وغيرِهَا، وعلى علمِ الشرائعِ، وفي شَرْحِ الفَاسِيِّ على الدلائلِ أنَّهَا تُفَسَّرُ بالنُّبُوَّةِ والقرآنِ، والفَهْمِ فيهِ، والفقهِ في دينِ اللهِ، ومعرفةِ الأحكامِ، والفطنةِ، واللبِّ، والموعظةِ، وتحقيقِ العلمِ، والفَهْمِ عن اللهِ، والحكمِ، وإتقانِ الفعلِ، ووَضْعِ الأشياءِ مَوَاضِعَهَا وتَوْفِيَتِهَا حَقَّهَا، والحكمِ بالحقِّ والعدلِ.
(وقولُهُ: فَهُو يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا النَّاسَ) أي: يَحْكُمُ بِهَا بينَ الناسِ ويُعَلِّمُهَا لهم بغيرِ قضاءٍ كَتَدْرِيسٍ، وهذا بيانٌ للخَصْلَةِ الثانيةِ.
(قولُهُ: رواهُ البخاريُّ من حديثِ ابنِ مسعودٍ) أي: حالَ كَوْنِهِ من جملةِ الأحاديثِ التي رَوَاهَا ابنُ مسعودٍ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَـ (حديثِ) مفردٌ مضافٌ يَعُمُّ.
(قولُهُ: مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا) أي: حِسِّيَّةً أَوْ مَعْنَوِيَّةً أو هُمَا معًا فَتَشْمَلُ أنواعَ الطريقِ المُوَصِّلَةِ إلى تحصيلِ أنواعِ العلومِ الدينيَّةِ.
(وقولُهُ: يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا) أي: يَطْلُبُ في ذلكَ الطريقِ عِلْمًا نَافِعًا، سَوَاءٌ جَلَّ أو قَلَّ.
(وقولُهُ: سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إلى الجنَّةِ) أي: في الدنيا، بأنْ يُوَفِّقَهُ للعَمَلِ الصالحِ، وفي الآخرةِ بِأَنْ يَسْلُكَ بهِ طَرِيقًا لَا صعوبةَ فيهِ حَتَّى يَدْخُلَ الجنَّةَ سَالِمًا، وسببُ ذلكَ أنَّ العلمَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِتَعَبٍ وَنَصَبٍ، وأَحَبُّ الأعمالِ أَحْمَزُهَا - بالحاءِ المهملةِ والزايِ المعجمةِ – أي: أَشَقُّهَا، فَمَنْ تَحَمَّلَ المشقةَ في تحصيلِ العلمِ سَهَّلَ اللهُ لهُ طريقًا إلى الجنَّةِ، وظاهرُ الحديثِ أنَّهُ يَتَرَتَّبُ لهُ ذلكَ، وإنْ لمْ يَحْصُلِ المطلوبُ, فَمَنْ بَذَلَ الجهدَ بِنِيَّةٍ صافيةٍ, وإنْ لم يُحَصِّلْ شَيْئًا لِنَحْوِ بَلَادَةٍ يَحْصُلُ لهُ الجزاءُ الموعودُ بهِ لِعَدَمِ تَقْصِيرِهِ، لَكِنْ إذا حَصَلَ المقصودُ كانَ أَعْلَى، والذي في الجامعِ الصغيرِ (سَهَّلَ اللهُ بِهِ)، والظاهرُ على هذهِ الروايةِ أنَّ الضميرَ عائدٌ للسلوكِ المفهومِ من سَلَكَ, و تكونُ الباءُ سببِيَّةً بخلافِهِ على الروايةِ التي هنا، فإنَّ الضميرَ عائدٌ لِمَنْ، واللامُ لامُ التعديةِ، وبعضُهُم جَعَلَ اللامَ بمعنى الباءِ، وجَعَلَ الضميرَ في الروايتَيْنِ رَاجِعًا للسلوكِ المفهومِ مِن سَلَكَ، وَجَوَّزَ أنْ تكونَ الباءُ للتعديةِ، والضميرُ فيهما عائدٌ لِمَنْ لِتَتَّفِقَ الروايتانِ.
(قولُهُ: وقالَ الشافعيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلخ) لَمَّا اسْتَدَلَّ على شرفِ العلمِ بالآياتِ والأحاديثِ اسْتَدَلَّ عليهِ أيضًا بهذا الأَثَرِ المنقولِ عن الإمامِ الشافعيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(وقولُهُ: طلبُ العلمِ أفضلُ من صلاةِ النافلةِ) أي: طَلَبُ العلمِ النافعِ أَكْثَرُ ثوابًا من صلاةِ النافلةِ، والكلامُ في العلمِ المَنْدُوبِ, وإِلَّا فالعلمُ الفرضُ أَفْضَلُ الفروضِ، كَمَا أنَّ نَفْلَهُ أَفضلُ النوافلِ، وعن أبي هُرَيْرَةَ وأبي ذرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أنَّهُمَا قالَا: بابٌ من العلمِ تَتَعَلَّمُ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِن ألفِ ركعةٍ تَطَوُّعًا، وبابٌ من العلمِ تَتَعَلَّمُهُ عُمِلَ بِهِ أو لم يُعْمَلْ أَحَبُّ إلينا من مائةِ ركعةٍ تَطَوُّعًا، سَمِعْنَا رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: ((إِذَا جَاءَ طَالِبَ الْعِلْمِ الموتُ، وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الحَالَةِ فَهُوَ شَهِيدٌ)).
وَعَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ: لَأَنْ أَعْلَمَ بَابًا مِن العِلْمِ أَحَبُّ إليَّ من سَبْعِينَ غزوةً في سبيلِ اللهِ. إلى غيرِ ذلكَ من الآثارِ.
(قولُهُ: وليسَ بعدَ الفريضةِ أَفْضَلُ مِن طَلَبِ العلمِ) أي: المندوبِ، وإلَّا فالفرضُ داخلٌ في الفريضةِ، والحاصلُ أنَّ طَلَبَ العلمِ يَنْقَسِمُ ثلاثةَ أقسامٍ: -
فَرْضُ عَيْنٍ: وهو ما تَتَوَقَّفُ عليهِ العباداتُ أو نَحْوَهَا.
وفرضُ كفايَةٍ: وهوَ ما زادَ على ذلكَ إلى بلوغِ درجةِ الفتوى كالنَّوَوِيِّ والرافعيِّ.
ومندوبٌ: وهو ما زادَ على ذلكَ إلى ما لا نهايةَ لهُ ولا غايةَ لهُ، وَدَفَعَ الشافعيُّ بقولِهِ: وليسَ بعدَ الفريضةِ أَفْضَلُ من طلبِ العلمِ، ما قد يُتَوَهَّمُ من أنَّ هناكَ شَيْئًا دونَ الفريضةِ في الثوابِ، وَيَلِيهِ طلبُ العلمِ.
(قولُهُ: انْتَهَى) أي: كلامُ الإمامِ.
(قولُهُ: وَكَفَى بالعلمِ شَرَفًا أنَّ كلَّ أحدٍ يَدَّعِيهِ) أي وَكَفَى العلمَ مِن جهةِ الشرفِ ادعاءُ كلِّ أحدٍ لهُ وإنْ لم يُحْسِنْهُ، فالباءُ زائدةٌ في المفعولِ، وأنْ وَمَعْمُولَاهَا مُؤَوَّلَةٌ بِالمَصْدَرِ، وهو فاعلُ كَفَى، وَشَرَفًا منصوبٌ على التمييزِ.
(وقولُهُ: وبالجهلِ قُبْحًا أنَّ كلَّ أحدٍ يُنْكِرُهُ) أي: وكَفَى الجهلَ مِن جهةِ القبحِ إنكارُ كلِّ أحدٍ لهُ، ويُقَالُ فيهِ ما سَبَقَ في الذي قَبْلَهُ.
(قولُهُ: وَعِلْمًا بِأَنَّ هذا العلمَ إلخ) أي: وَلِعِلْمِنَا بأنَّ هذا العلمَ المشروعَ فيهِ إلخ.
فألْ في العلمِ للعهدِ الحُضُورِيِّ، وبعضُهُم جَعَلَهَا للعهدِ الذكريِّ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ مَكْنِيًّا عنهُ بمذهبِ زيدٍ الفَرْضِيِّ.
(وقولُهُ: وهوَ علمُ الفرائضِ) أشارَ بهِ إلى أنَّ ألْ للعهدِ الحضوريِّ أو للعهدِ الذكريِّ كما مَرَّ.
(وقولُهُ: مخصوصٌ بِمَا قدْ شَاعَ فيهِ عندَ كلِّ العلماءِ) أي: مخصوصٌ بالذي قد فَشَا واشْتُهِرَ فيهِ عندَ جميعِ العلماءِ.
وقولُهُ (بأنَّهُ أَوَّلُ علمٍ إلخ) بدلٌ من قولِهِ: (بِمَا قدْ شَاعَ فيهِ إلخ)، وبعضُهُم جَعَلَهُ بَيَانًا لهُ، والباءُ بمعنَى مِن، فكأنَّهُ قالَ: مِن أَوَّلِ عِلْمٍ إلخ.
(وقولُهُ: يُفْقَدُ في الأرضِ) أي: يُفْقَدُ من الأرضِ بفقدِ العلماءِ بهِ, لَا بِانْتِزَاعِهِ من صدورِ العلماءِ لحديثِ: ((إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا...)) إلخ .
و (في) بمعنَى مِن, كَمَا أَشَرْنَا إليهِ في الحِلِّ.
(وقولُهُ: بالكُلِّيَّةِ) أي: مُلْتَبِسًا بِكُلِّيَّتِهِ، أي: بِجَمِيعِهِ، وأَخَذَ هذا من إطلاقِ الفقدِ في الأرضِ؛ إذ الشيءُ عندَ الإطلاقِ يَنْصَرِفُ لِفَرْدِهِ الكاملِ، ودَفَعَ بهِ ما قد يُتَوَهَّمُ من أنَّ المرادَ فَقْدُ بَعْضِه.
(قولُهُ: حَتَّى إلخ) حتَّى للغايةِ، إنْ لُوحِظَ التدريجُ بأنْ يُفْقَدَ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَتَفْرِيعِيَّةٌ إنْ لُوحِظَ الفقدُ دُفْعَةً.
(وقولُهُ: لا يَكَادُ يُوجَدُ الحقُّ إنْ كادَ كَغَيْرِهَا، فَنَفْيُهَا نَفْيٌ وَإِثْبَاتُهَا إِثْبَاتٌ فَإِذَا قُلْتَ: كَادَ زَيْدٌ أَنْ يَقُومَ، فَالْمَعْنَى: قَرُبَ زَيْدٌ مِن القيامِ، فالقربُ من القيامِ ثَابِتٌ, لَكِنَّ القيامَ نَفْسَهُ غَيْرُ ثَابِتٍ، وإذا قُلْتَ: لا يَكَادُ زيدٌ يقومُ، فالمعنى: لا يَقْرُبُ زيدٌ من القيامِ، فالقربُ من القيامِ مَنْفِيٌّ وكذا القيامُ بالأَوْلَى، ولذلكَ كانَ قولُهُ تَعَالى: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا}.أَبْلَغَ مِن أنْ يُقَالَ: لم يَرَهَا، وما قِيلَ مِن أنَّ إِثْبَاتَهَاَ نَفْيٌ وَنَفْيَهَا إِثْبَاتٌ على عكسِ غَيْرِهَا وإِلَّا تَنَاقَضَ قولُهُ تعالَى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}مردودٌ، ولا تَنَاقُضَ في الآيةِ؛ لأنَّ امْتِنَاعَهُم من الذبحِ كانَ قبلَ الذبحِ، ثم ذَبَحُوهَا، وَشَرْطُ التناقضِ اتحادُ الزمنِ، فالمعنى: فَذَبَحُوهَا آخِرًا، وما قَرُبُوا من فِعْلِهِم للذبحِ أَوَّلًا، وكلامُ المُصَنِّفِ إِنَّمَا يَتَمَشَّى على الطريقةِ الأولى دونَ الثانيةِ؛ لأنَّهُ يَقْتَضِي على الثانيةِ أنَّهُ يوجدُ؛ لأنَّ كادَ لِلنَّفْيِ، وقدْ دَخَلَ عليها النَّفْيُ، ونَفْيُ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ.
(قولُهُ: أي حتَّى لا يَقْرُبُ من الوجدانِ) المناسبُ أنْ يقولَ من الوجودِ، وكذا يُقَالُ فيما بعدُ.
(قولُهُ: وَمَا فُقِدَ حَقِيقَةً إلخ) هذا جوابٌ عَمَّا قدْ يُقَالُ: قدْ أَخْبَرَ المُصَنِّفُ بأنَّهُ يُفْقَدُ حَقِيقَةً فكيفَ يُخْبِرُ ثانيًا بأنَّهُ لا يَقْرُبُ من الوجودِ؟! وحاصلُ الجوابِ أنَّهُ لا تَنَافِيَ؛ لِأَنَّهُ إذا كانَ لا يَقْرُبُ من الوجودِ كانَ مَفْقُودًا حقيقةً.
(قولُهُ: وَمَا فَهِمَهُ إلخ) مبتدأٌ خَبَرُهُ(قولُهُ: فليسَ بظاهرٍ) وأَدْخَلَ الفاءَ عليهِ لِشَبَهِ المبتدأِ بالشرطِ في العمومِ.
(وقولُهُ: حَيْثُ قالَ) أي: وَقْتَ أَنْ قالَ، فحيثُ بِمَعْنَى وَقْتٍ ظَرْفٌ لقولِهِ: (فَهِمَهُ)، وَيَصِحُّ كَوْنُهُ للتعليلِ، بلْ هو الأظهرُ.
(وقولُهُ: فليسَ بظاهرٍ) وكذا ما قِيلَ من بنائِهِ على الطريقةِ الضعيفةِ القائلةِ بأنَّ إثباتَ كادَ نَفْيٌ ونَفْيَهَا إثباتٌ، فهذا البناءُ ليسَ بظاهرٍ كما قالَهُ الشيخُ الأميرُ، وَإِنْ وَقَعَ فِي بَعْضِ الحَوَاشِي خِلَافُهُ، أَمَّا أَوَّلًا فَهَذَا مَرْدُودٌ، والحقُّ خلافُهُ، وأما ثَانِيًا؛ فَلِأَنَّ المعنى على هذهِ الطريقةِ أنَّهُ يُوجَدُ؛ لأنَّ نَفْيَ النَّفْيِ إثباتٌ كما مَرَّ، وهو خلافُ ما ذَكَرَهُ الشيخُ السِّبْطُ.
(قولُهُ: لأنَّ لا النافيةَ إلخ) ولأنَّهُ يَقْتَضِي الحُكْمَ على المفقودِ حقيقةً بأنَّهُ يَقْرُبُ من عَدَمِ الوجودِ، وهو فاسدٌ وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ على ما قَبْلَ الفقدِ بالفعلِ، فهو قَبْلَ الفقدِ بالفعلِ يَقْرُبُ من عَدَمِ الوجودِ، وهو تَكَلُّفٌ لا دَاعِيَ إليهِ.
(قولُهُ: عن ابنِ مَاجَه) يُقْرَأُ بالهاءِ وَوَصْلًا، وكذا ابنُ سِيدَه، وابنُ بردزبه، ومَاجَه اسمُ أُمِّهِ هو مَمْنُوعٌ من الصرفِ لِلْعَلَمِيَّةِ والعُجْمَةِ.
(وقولُهُ: في المستدركِ) اسمُ كتابٍ للحاكمِ اسْتَدْرَكَ فيهِ علىِ الشَّيْخَيْنِ الأحاديثَ التي تَرَكاها.
(وقولُهُ: مَرْفُوعًا) أي: لِلنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(قولُهُ: ((تَعَلَّمُوا الفرائضَ))) أي: وُجُوبًا كِفَائِيًّا، وكذا قولُهُ: ((وَعَلِّمُوهُ))والضميرُ عائدٌ للفرائضِ، بِمَعْنَى الفَنِّ، فهيَ كالمفردِ أو إلى مضافٍ محذوفٍ، أي: عِلْمَ الفرائضِ، وفي روايةٍللحاكمِ: ((تَعَلَّمُوا الفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ؛ فَإِنِّي امْرُؤٌ مَقْبُوضٌ، وَإِنَّ العِلْمَ سَيُقْبَضُ، وَتَظْهَرُ الفِتَنُ، حَتَّى يَخْتَلِفَ الرجلانِ في الفريضةِ، فَلَا يَجِدَانِ مَن يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا)), وَإِنَّمَا قَدَّمَ الأمرَ بالتعلمِ على الأمرِ بالتعليمِ؛ لأنَّ الشخصَ يَتَعَلَّمُ ثم يُعَلِّمُ، فالتَّعَلُّمُ مُتَقَدِّمٌ على التَّعْلِيمِ طَبْعًا، فَقُدِّمَ وَضْعًا لِيُوَافِقَ الوَضْعُ الطَّبْعَ، وضابطُ المُتَقَدِّمِ بالوضعِ أنْ يكونَ المتَّأَخِّرُ مُتَوَقِّفًا على المُتَقَدِّمِ من غيرِ أنْ يكونَ المُتَقَدِّمُ عِلَّةً في المتأخرِ كَمَا هنا، فإنَّ تَعْلِيمَ عِلْمِ الفرائضِ مُتَوَقِّفٌ على تَعَلُّمِهِ من غيرِ أنْ يكونَ التَّعَلُّمُ عِلَّةً في التعليمِ، والإلزامُ حصولُ التعليمِ عندَ وجودِ التَّعَلُّمِ؛ لأنَّ المَعْلُولَ يُوجَدُ عندَ وجودِ عِلَّتِهِ، وكثيرًا من الناسِ يَتَعَلَّمُونَ الفرائضَ ولا يُعَلِّمُونَهَا.
انْتَهَى مُلَخَّصًا مِن اللُّؤْلُؤَةِ.
(قولُهُ: فإنَّهُ نِصْفُ العلمِ) إنْ قُلْتَ: يُعَارِضُ ذلكَ ما رُوِيَ عن عبدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((العلمُ ثلاثةٌ وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَضْلٌ: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ أَوْ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ))، قُلْتُ: إِنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ, وَبِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فالجمعُ بينَ الحديثَيْنِ، أنَّ التنصيفَ باعتبارِ أحوالِ الأحياءِ والأمواتِ، والتثليثَ باعتبارِ الأدلَّةِ، فإِنَّ العلمَ يُتَلَقَّى من ثلاثةِ أشياءَ: مِن كِتابِ اللهِ تَعَالَى، ومِن سُنَّةِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِن الحِسَابِ الذي نَشَأَ عنهُ هَذَا العلمُ قَالَهُ الإمامُ العَسْقَلَانِيُّ كما هو في اللؤلؤةِ.
(قولُهُ: وهو يُنْسَى) أي: يُسْرِعُ إليهِ النِّسْيَانُ لِتَوَقُّفِهِ على علمِ الحسابِ وانتشارِ مسائلِهِ وارتباطِ بعضِهَا ببعضٍ كما سَيَذْكُرُهُ الشرحُ.
(وقولُهُ: وهو أَوَّلُ علمٍ يُنْزَعُ من أُمَّتِي) أي: بموتِ أهلِهِ, لا أنَّهُ يُنْزَعُ من صدورِهِم كما هو ظاهرُ اللفظِ، والسِّرُّ في التعبيرِ بالانتزاعِ التشبيهُ بالشيءِ الذي يُنْزَعُ مِن حيثُ إنَّهُ لا يَبْقَى لهُ أَثَرٌ في أقربِ وَقْتٍ.
(قولُهُ: وَرَوَاهُ البَيْهَقِيُّ) بالواوِ هكذا بالنُّسَخِ التي بِأَيْدِينَا، وَوَقَعَ لِبَعْضِهِم: (رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ) بغيرِ واوٍ، فَكُتِبَ عليها، كانَ المناسبُ أنْ يقولَ: ورَوَاهُ البَيْهَقِيُّ بالواوِ.
(وقولُهُ: وقالَ تَفَرَّدَ بهِ حَفْصٌ إلخ) أي: فيكونُ الحديثُ ضَعِيفًا.
(وقولُهُ: وليسَ بالقَوِيِّ) أي: وليسَ حفصٌ عندَنَا قَوِيًّا؛ لأنَّهُ تُكُلِّمَ فِيهِ.








يتبع في المشاركة التالية..


  #6  
قديم 3 ذو الحجة 1429هـ/1-12-2008م, 08:56 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي تابع حاشية الشيخ: إبراهيم الباجوري على الفوائد الشنشورية


(قولُهُ: ولَمَّا كانَ علمُ الفرائضِ إلخ) غرضُ الشرحِ بذلكَ تَوْجِيهُ الحَثِّ على تَعَلُّمِهِ وَتَعْلِيمِهِ، وسيأتي تَوْجِيهُ كَوْنِهِ نِصْفَ العلمِ، ولا يَخْفَى أنَّ قولَهُ: (علمُ الفرائضِ) اسمُ كانَ، وَجُمْلَةَ قَوْلِهِ: (مَنْ يَشْتَغِلُ بهِ قَلِيلٌ) خَبَرُهَا، وَعَلَّلَ قِلَّةَ مَن يَشْتَغِلُ به بِقَوْلِهِ: لِتَوَقُّفِهِ على علمِ الحسابِ إلخ.
(وقولُهُ: كانَ عُرْضَةً للنسيانِ) جوابُ لَمَّا، وكانَ الظاهرُ أنْ يقولَ: ولَمَّا كانَ علمُ الفرائضِ مُتَوَقِّفًا على علمِ الحسابِ مُتَشَعِّبَ المسائلِ, مُرْتَبِطًا بعضُ مسائلِهِ ببعضٍ, كانَ المُشْتَغِلُ بهِ قَلِيلًا، وكانَ عُرْضَةً للنسيانِ. أَفَادَهُ الأُسْتَاذُ الحِفْنِيُّ.
(قولُهُ: وَتَشَعُّبِ مَسَائِلِه) أي: انْتِشَارِهَا كَالشُّعَبِ.
(وقولُهُ: وارتباطِ بعضِهَا ببعضٍ) أي: تَعَلُّقِ بعضِ مسائِلِهِ ببعضٍ.
(قولُهُ: كانَ عُرْضَةً للنسيانِ) أي: شيئًا يَعْرِضُ لهُ النسيانُ.
(وقولُهُ: فَلِأَجْلِ هذا حَثَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلخ) أي: فَلِأَجْلِ كَوْنِهِ عُرْضَةً للنسيانِ أَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرًا أَكِيدًا بِتَعَلُّمِهِ وَتَعْلِيمِهِ.
(قولُهُ: وأَمَّا قَوْلُهُ: فَإِنَّهُ نِصْفُ العِلْمِ إلخ) مقابلٌ لمحذوفٍ، والتقديرُ: أَمَّا وَجْهُ كَوْنِهِ يُنْسَى وَوَجْهُ حَثِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على تَعَلُّمِهِ وَتَعْلِيمِهِ فَقَدْ عَلِمْتَهُمَا، وَأَمَّا(قولُهُ: فَإِنَّهُ نِصْفُ العِلْمِ إلخ).
(قولُهُ: وفي الفرائضِ معظمُ الأحكامِ إلخ) أَقْحَمَ لَفْظَ (مُعْظَمُ)؛ لأنَّ بعضَ الأحكامِ المُتَعَلِّقَةِ بالموتِ كَغُسْلِ المَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ والصلاةِ عليهِ ودَفْنِهِ لا يُبْحَثُ عنهُ في الفرائضِ, بلْ في علمِ الفقهِ.
(وقولُهُ: المتعلقةِ بالموتِ) المناسبُ لِمَا قَبْلَهُ: المتعلقةِ بحالةِ الموتِ، ويُمْكِنُ أنْ يُقَالَ: إِنَّهُ أشارَ بذلكَ إلى أنَّ الإضافةَ فيما قَبْلَهُ للبيانِ, أي: بحالةٍ، هيَ الموتُ، وحالةٍ، هي الحياةُ.
(قولُهُ: وَقِيلَ غَيْرُ ذلكَ) أي: كالقولِ بأنَّ المرادَ بالنصفِ هنا الصنفُ, كما قالَ الشاعرُ:
إِذَا مُتُّ كَانَ النَّاسُ نِصْفَانِ شَامِتٌ وَآخَرُ مُثْنٍ بِالَّذِي كُنْتُ أَصْنَعُ.
فإنَّ المرادَ بالنِّصْفَيْنِ الصِّنْفَيْنِ، أي: النَّوْعَيْنِ، وقدْ وَرَدَ هذا البيتُ على لغةِ مَنْ يُلْزِمُ المُثَنَّى الألفَ، وَجَعَلَ بعضُهُم من هذا المعنى قولَهُ تعالى في الحديثِ القُدُسِيِّ: ((قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ….))لَكِنْ إذا كانَ المرادُ بالنِّصْفِ الصِّنْفَ بمعنى النوعِ - وإنْ لمْ يَكُنْ مُسَاوِيًا - لمْ يَكُنْ فيهِ مدحٌ إلَّا بعُنوانِ الظاهرِ، وكالقولِ بِحَمْلِهِ على المبالغةِ في فَضْلِهِ على حَدِّ: ((الحَجُّ عَرَفَةُ))، وكالقولِ بأنَّهُ يكونُ نِصْفًا حقيقةً، لَوْ بُسِطَتْ مَسَائِلُهُ، وَفِيهِ أنَّ غيرَهُ لو بُسِطَ لَكَثُرَ أيضًا, وكالقولِ بأنَّهُ باعتبارِ الثوابِ وهو هُجُومٌ على الغيبِ، وَلِبَعْضِهِم أَنَّ هذا الحديثَ مِن المُتَشَابِهِ.
(قولُهُ: مِمَّا أَضْرَبْنَا عَنْهُ) بيانٌ لغيرِ ذلكَ، أي: مِمَّا صَرَفْنَا عنهُ الهِمَّةَ وَتَرَكْنَاهُ.
(وقولُهُ: خَوْفَ الإطالةِ) عِلَّةٌ لِضَرْبِنَا عَنْهُ، أي: لِخَوْفِنَا إِطَالَةَ الكَلَامِ.
(قولُهُ: وقدْ وَرَدَ في علمِ الفرائضِ) أي: في شَأْنِهِ.
(وقولُهُ: أَيْضًا) أي: كما وَرَدَ ما سَبَقَ.
(وقولُهُ: مِن الأحاديثِ) أي: عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(وقولُهُ: والآثارِ) أي: عن الصحابةِ والتابعينَ وَأَتْبَاعِهِم، ثم إنَّ قولَهُ: (من الأحاديثِ والآثارِ) حالٌ من أشياءَ مُقَدَّمٌ.
(وقولُهُ: مِمَّا يَدُلُّ إلخ) بيانٌ لأشياءَ مُقَدَّمٌ أَيْضًا، والأصلُ: وقدْ وَرَدَ أشياءُ كثيرةٌ حالةَ كَوْنِهَا من الأحاديثِ والآثارِ، وتلكَ الأشياءُ مِمَّا يَدُلُّ إلخ….
ولو قالَ: مِن الأحاديثِ والآثارِ الدالَّةِ إلخ… لَكَانَ أَوْضَحَ كَمَا قالَهُ الشمسُ الحِفْنِيُّ .
(قولُهُ: على فَضْلِهِ وَشَرَفِهِ) العَطْفُ للتفسيرِ.
(قولُهُ: أشياءُ كثيرةٌ) فمِن الأحاديثِ قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ عَلَّمَ فَرِيضَةً كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ عَشْرَ رِقَابٍ، وَمَنْ قَطَعَ مِيرَاثًا قَطَعَ اللَّهُ مِيرَاثَهُ مِنَ الجَنَّةِ)).
وَمَا رُوِيَ عن ابنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا: ((تَعَلَّمُوا الفَرَائِضَ كَمَا تَعَلَّمُونَ القُرْآنَ)).
وَمِن الآثارِ ما رُوِيَ عن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُ أنَّهُ قالَ: إذا تَحَدَّثْتُم فَتَحَدَّثُوا بالفرائضِ, وإذا لَهَوْتُمْ فَالْهُوا بالرَّمْيِ .
(قولُهُ: وَعِلْمًا بِأَنَّ زَيْدًا إلخ) أي: وَلِعِلْمِنَا بأنَّ زَيْدًا إلخ.
(وقولُهُ: الإمامَ المذكورَ) أي: الفَرَضيَّ
(قولُهُ: خُصَّ مِن بينِ الصحابةِ) أي: خَصَّهُ اللهُ تعالى ومَيَّزَهُ عن بقيَّةِ الصحابةِ حالةَ كَوْنِهِ بَيْنَهُم، ومِن زائدةٌ.
(وقولُهُ: لَا مَحالةَ) أي: موجودةٌ، فلا نَافِيَةٌ للجنسِ، وَخَبَرُهَا مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ ما ذَكَرْنَاهُ، وهذهِ الجملةُ مُعْتَرِضَةٌ بينَ العاملِ - أَعْنِي خُصَّ – والمعمولِ - أَعْنِي قولَهُ: (بِمَا حَبَاهُ إلخ….).
(قولُهُ: أي: لا حِيلَةَ) أي: موجودةٌ، فَخَبَرُهَا مَحْذُوفٌ كَمَا تَقَرَّرَ, وَالحيلةُ هِيَ الحِذْقُ، وَجَودَةُ النظرِ والقدرةُ على التَّصَرُّفِ، والمعنى على هذا: أَنَّ تَخْصِيصَ زيدٍ بما ذُكِرَ بِمَحْضِ الفضلِ لا بِحذقٍ، ولا جودةِ نَظَرٍ، ولا قُدْرَةٍ على التَّصَرُّفِ، كذا في حاشيةِ الشيخِ الحِفْنِيِّ، قالَ العلَّامَةُ الأميرُ: والظاهرُ أنَّ المناسبَ للمقامِ لا حيلةَ لغيرِ زيدٍ في نَفْيِ هذهِ الخصوصيَّةِ عنهُ، بل هي ثابتةٌ لَهُ، وَلَا بُدَّ. ا هـ . بِبَعْضِ تَغْيِيرٍ.
(قولُهُ: وَيَجُوزُ أنْ يكونَ مِن الحَوْلِ) أي: أنْ يكونَ هذا اللفظُ وهو (محالةَ) مأخوذًا من الحولِ، والمَعْنَى عَلَى هذا أنَّ تخصيصَ زيدٍ بِمَا ذُكِرَ لا حِيلَةَ لهُ فيهِ, ولا قُدْرَةَ لهُ عليهِ، أو لا حَرَكَةَ لهُ فيهِ.
(وقولُهُ: والقوةِ) عَطْفُ تفسيرٍ فأَتَى الشرحُ بذلكَ للتفسيرِ, لا لِكَوْنِهِ مأخوذًا منهُ كما هو ظاهرٌ.
(وقولُهُ: أو الحركةِ) أَشَارَ بذلكَ للخلافِ في تفسيرِ الحيلةِ، فَـ (أَوْ) لحكايةِ الخلافِ، وفي بعضِ النُّسَخِ بالواوِ، وهيَ بِمَعْنَى أو.
(قولُهُ: وهيَ) أي: (مَحَالَةَ).
(وقولُهُ: مَفْعَلَة) أي: بِوَزْنِ مَفْعَلَة.
(وقولُهُ: مِنْهُمَا) أي: مِن الحيلةِ والحولِ، فَعَلَى أَخْذِهَا من الحيلةِ أَصْلُهَا مَحْيَلَة بالياءِ، وعلى أَخْذِهَا من الحولِ فَأَصْلُهَا مَحْوَلَة بالواوِ، نُقِلَتْ حَرَكَةُ الياءِ أو الواوِ للساكنِ قَبْلَهَا، ثم يُقَالُ: تَحَرَّكَتِ الياءُ أوالواوُ بِحَسَبِ الأصلِ، وانْفَتَحَ ما قبلَهَا الآنَ، قُلِبَتْ أَلِفًا، كذا يُؤْخَذُ من حاشيةِ الشيخِ الحِفْنِيِّ، لكنْ قالَ الشيخُ الأميرُ: قدْ يُقَالُ: إنَّ الحولَ مادةُ الحيلةِ فَأَصْلُهَا حِوْلَةٌ، فَقُلِبَت الواوُ ياءً لِسُكُونِهَا إِثْرَ كسرةٍ، كما قالوا في مِيزَانٍ وَمِيقَاتٍ. ا هـ . بالمَعْنَى.
(قولُهُ: وأكثرُ ما تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى اليقينِ إلخ) أيْ: وأكثرُ اسْتِعْمَالِهَا أنْ تُسْتَعْمَلَ في معنًى، هو اليقينُ إلخ…
فَمَا مَصْدَرِيَّةٌ فَيُؤَوَّلُ الفعلُ بعدَهَا بمصدرٍ - وهو الاستعمالُ - والباءُ بمعنى فِي، وهي مُتَعَلِّقَةٌ بمحذوفٍ، تقديرُهُ أنْ تُسْتَعْمَلَ، وإضافةُ معنَى لِمَا بَعْدَهُ للبيانِ، ولَعَلَّهُ عَبَّرَ بأكثرَ تَحَرِّيًا للصدقِ، وَإِلَّا فهوَ دَائِمٌ، ولا يَخْفَى أَنَّ المعانيَ التي ذَكَرَهَا مُتَقَارِبَةٌ، وكلٌّ منها تَفْسِيرٌ لمجموعِ لا محالةَ لا لِمَحَالَة فقطْ وإِلَّا فَسَدَ المعنَى، وليسَ هذا المعنَى حقيقيًّا لهذا اللفظِ؛ لَأَنَّ المعنى الحقيقيَّ لَهُ: لَا حِيلَةَ في انْتِفَائِهِ، وَيَلْزَمُ مِن ذلكَ أنْ يكونَ يَقِينًا، فهو تَفْسِيرٌ باللازمِ.
(وقولُهُ: أو بِمَعْنَى: لَا بُدَّ) أي: لا فِرَارَ من كذا، ولا حاجةَ لقولِهِ بِمَعْنَى؛ لأنَّ العطفَ يُفِيدُهُ.
(وقولُهُ: والميمُ زائدةٌ) أي: لِأَنَّهَا بوزنِ مَفْعَلَة، فالميمُ مُقَابَلَةٌ بِنَفْسِهَا, كما هو قاعدةُ الزائدِ، قالَ ابنُ مالكٍ:
* وزائدٌ بِلَفْظِهِ اكْتَفَى*
(وقولُهُ: انْتَهَى) أي: كلامُ ابنِ الْأَثِيرِ .
(قولُهُ: فيكونُ المَعْنَى إلخ) هذا من كلامِ الشرحِ، توضيحٌ للمقامِ.
(وقولُهُ: حقيقةً أو يَقِينًا) كان َ المناسبُ لِمَا قَبْلَهُ أنْ يقولَ يَقِينًا أو حقيقةً لِيَكُونَ على ترتيبِ اللَّفِّ, وَالخَطْبُ سَهْلٌ.
(قولُهُ: بِمَا حَبَاهُ) مُتَعَلِّقٌ بِخُصَّ، وَالبَاءُ دَاخِلَةٌ على المقصورِ.
كما هو الكثيرُ، قالَ سَيِّدِي عَلِيٌّ الْأَجْهُورِيُّ:
والباءُ بعدَ الاختصاصِ يَكْثُرُ = دُخُولُهَا على الذي قَدْ قَصَرُوا
وعَكْسُهُ مُسْتَعْمَلٌ وَجَيِّدُ = ذكَرَهُ الحَبْرُ الهُمَامُ السَّيِّدُ
أي: والسعدُ أَيْضًا لِاتِّفَاقِهِمَا على ذلكَ كَمَا نَصَّ عليهِ بعضُ المُحَقِّقِينَ.(قولُهُ: أي أَعْطَاهُ) أي: وَصَفَهُ بِهِ.
(وقولُهُ: وَالحُبْوَةُ: العَطِيَّةُ) أي: الشيءُ المُعْطَى.
(وقولُهُ: والحِبَاءُ: العَطَاءُ) أي: نفسُ الفعلِ إنْ أُرِيدَ من الحَبَاءِ بِفَتْحِ الحاءِ والمَدِّ المَصْدَرُ بِحَبَا يَحْبُو، لكنَّهُ مصدرٌ غيرُ قِيَاسِيٍّ، والقياسُ حَبْوًا، والشيءُ المُعْطَى إنْ لم يُرَدْ منهُ المصدرُ, بلْ أُرِيدَ أَنَّهُ اسْمٌ للشيءِ المُعْطَى فالحَبَاءُ بِفَتْحِ الحاءِ مع المدِّ إِمَّا مَصْدَرٌ، وإمَّا اسْمٌ للشيءِ المُعْطَى, والعطاءُ إِمَّا اسمُ مَصْدَرٍ لِأَعْطَى, وَإِمَّا بِمَعْنَى الشيءِ المُعْطَى، وَأَمَّا الحِبَاءُ بالكسرِ والمَدِّ فاسمٌ للشيءِ المُعْطَى فقطْ, والعطاءُ مصدرُ عَطَى بِمَعْنَى أَخَذَ، لَيْسَ مُرَادًا هنا لِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ للمقامِ.
انْتَهَى مُلَخَّصًا من حاشيةِ الأستاذِ الحِفْنِيِّ.
(قولُهُ: خاتَمُ الرسالةِ) أي: ذَوِيهَا وهم المُرْسَلونَ.
(وقولُهُ: والنبوةِ) أي: ذَوِيهَا أَيْضًا، وهم الأنبياءُ، فَفِي الكلامُ مضافٌ محذوفٌ، وأشارَ الشرحُ بذلكَ إلى أنَّ كلامَ المُصَنِّفِ فيهِ اكتفاءٌ كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ.
(وقولُهُ: سَيِّدُنَا) بَدَلٌ مِنْ خَاتَم.
(وقولُهُ: محمدٌ) بَدَلٌ بعدَ بَدَلٍ، وَيَصِحُّ غَيْرُ ذَلِكَ.
(قولُهُ: مِن قَوْلِهِ) بيانٌ لِمَا حَبَاهُ بهِ، والضميرُ من قولِهِ عائدٌ لخاتمِ الرسالةِ.
(وقولُهُ: في فَضْلِهِ) أي: في بيانِ فَضْلِهِ.
(وقولُهُ: أيْ: في فضلِ زيدٍ) غَرَضُهُ تفسيرُ الضميرِ، وَلَوْ قالَ: أي: زيدٍ، لَكَانَ أَخْصَرَ مَعَ كَوْنِهِ مُؤَدِّيًا للمرادِ.
(قولُهُ: مُنَبِّهًا) أي: حالَ كَوْنِهِ مُنَبِّهًا، وهو حالٌ من الضميرِ المضافِ إليهِ لفظُ قولٍ؛ لوجودِ شرطِ مَجِيءِ الحالِ من المضافِ إليهِ؛ إذ المضافُ مُقْتَضٍ للعملِ في المضافِ إليهِ لِكَوْنِهِ مَصْدَرًا، قالَ في الخُلَاصَةِ:
وَلَا تُجِزْ حَالًا مِن المُضَافِ لَهُ * إِلَّا إِذَا اقْتَضَى المُضَافُ عَمَلَهُ
وللمَسْأَلَةِ تَتِمَّةٌ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ.
(وقولُهُ: على فَضْلِهِ وَشَرَفِهِ) قالَ في اللؤلؤةِ نَقْلًا عن ابنِ حَجَرٍ: هما مُتَرَادِفَانِ على معنًى واحدٍ، وهو زيادةُ الأخلاقِ الكريمةِ الطاهرةِ.
انْتَهَى بِبَعْضِ تَغْيِيرٍ.
(قولُهُ: أَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ) مَقُولُ القولِ أي: أَعْلَمُكُم في الفرائضِ زيدٌ.
(قولُهُ: بإسنادٍ جَيِّدٍ) أي: حَسَنٍ لكونِ رُوَاتِهِ ثِقَاتٍ، والإسنادُ يُطْلَقُ على ذِكْرِ سَنَدِ الحديثِ، يُقَالُ: أَسْنَدْتُ الحَدِيثَ أيْ: ذَكَرْتَ سَنَدَهُ كَمَا يُعْلَمُ مِن فَنِّ المُصْطَلَحِ.
(وقولُهُ: قالَ) أي: ابنُ الصلاحِ.
(وقولُهُ: وهو حديثٌ حسنٌ) وهو ما عُرِفَتْ طرقُهُ، وَاشْتُهِرَتْ رِجَالُهُ بالعَدالةِ والضَّبْطِ دونَ رجالِ الصحيحِ، كما قال في البَيْقُونِيَّةِ:
والحَسَنُ المعروفُ طُرُقًا وَغَدَتْ * رِجَالُهُ لا كَالصَّحِيحِ اشْتُهِرَتْ
(وقولُهُ: انْتَهَى) أي: كلامُ ابنِ الصلاحِ.
(قولُهُ: وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ) أي: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، فالمفعولُ محذوفٌ كما قالَهُ العَلَّامَةُ الحِفْنِيُّ.
(وقولُهُ: بإسنادٍ صحيحٍ) أي: لكونِ رجالِهِ أكثرَ تَوَثُّقًا من تَوَثُّقِ رجالِ الحسنِ, كما يُعْلَمُ مِمَّا مَرَّ.
(وقولُهُ: بلفظِ أَعْلَمَ إلخْ) أي: بلفظِ هو أَعْلَم إلخ, فالإضافةُ للبيانِ.
(قولُهُ: وَإِنَّمَا قالَ ذلكَ إلخ) المحصورُ فيهِ محذوفٌ دَلَّ عليهِ قولُهُ: قالَ للعلماءِ إلخ، والتقديرُ: وَإِنَّمَا قالَ ذلكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَمْسَةِ أَوْجُهٍ، والمقصودُ بذلكَ الجوابُ عَمَّا تَحَقَّقَ من أَفْضَلِيَّةِ غيرِ زَيْدٍ عليهِ, كَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ، وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ خُصُوصَ المَزِيَّةِ لَا يَقْتَضِي عُمُومَ الأفضليَّةِ، فَلَا تَنَاقُضَ أَصْلًا.
(قولُهُ: للعلماءِ في ذلكَ) أي: في تَوْجِيهِ ذلكَ .
(وقولُهُ: خْمَسَةُ أَوْجُهٍ): -
أَوَّلُهَا: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ حَثًّا عَلَى الفرائضِ, وَعَلَى الرغبةِ في تَعَلُّمِهَا كَرَغْبَةِ زيدٍ؛ لأنَّهُ كانَ مُنْقَطِعًا إلى الفرائضِ.
ثَانِيهَا: أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذلكَ مَدْحًا لزيدٍ, وَإِنْ شَارَكَهُ فِي ذلكَ غَيْرُهُ كَمَا قالَ: ((أَقْرَؤُكُمْ أُبَيٌّ، وَأَعْلَمُكُمْ بِالحَلَالِ وَالحَرَامِ مُعَاذٌ، وَأَصْدَقُكُمْ لَهْجَةً أَبُو ذَرٍّ، وَأَقْضَاكُمْ عَلِيّ)).
ثالِثُهَا: أَنَّ الخطابَ لِجَمَاعَةٍ مَخْصُوصِينَ كانَ زَيْدٌ أَفْرَضَهُمْ, ولوْ كانَ الخطابُ للصحابةِ جَمِيعًا لَمَا استطاعَ أحدٌ منهم مُخَالَفَتَهُ, ويُبْعِدُ هذا الروايةُ السابقةُ في الشرحِ، وهيَ ((أَعْلَمُ أُمَّتِي….)) إلخ .
رَابِعُهَا: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنَّ زيدًا أَشَدُّهُم اعْتِنَاءً وَحِرْصًا.
وخامِسُهَا: ما ذَكَرَهُ الشرحُ. وَهَذِهِ الأَوْجُهُ مُتَقَارِبَةٌ فِي المَآلِ كَمَا قَالَهُ المُحَقِّقُ الْأَمِيرُ.
(قولُهُ: وَعَدَّهَا إلى أَنْ قَالَ) أي: وَعَدَّهَا مُنْتَهِيًا في عَدِّهَا إلى قولِهِ: فالجارُّ والمجرورُ مُتْعَلِّقٌ بمحذوفٍ.
(وقولُهُ: الخامسُ أَنَّهُ قالَ ذلكَ إلخ) إِنَّمَا اقْتَصَر عليهِ الشرحُ؛ لأنَّهُ أَرْجَحُ الأَوْجُهِ, ومالَ إليهِ ابنُ الهائِمِ رَحِمَهُ اللهُ كَمَا في اللؤلؤةِ.
(قولُهُ: لِأَنَّهُ) أي: زَيْدًا.
(وقولُهُ: كانَ أَصَحَّهُم حِسَابًا) أيْ: مِن جهةِ الحسابِ.
(وقولُهُ: وأَسْرَعَهُم جوابًا) أي: مِن جهةِ الجوابِ، فإذا حَسَبَ مسألةً كان حسابُهُ أَصَحَّ مِن حسابِهِم، وإذا سُئِلَ عن مسألةٍ كانَ أسرعَ من غيرِهِ في الجوابِ.
(قولُهُ: ثم قالَ) أي: ابنُ الهائمِ، (وقالَ المَاوَرْدِيُّ إلخ) مقولُ القولِ.
(وقولُهُ: ولِأَجْلِ هذهِ المعاني) أيْ: الأوجهِ الخمسةِ، وهذه عِلَّةٌ مُقَدَّمَةٌ على المَعْلُولِ، وهو قولُهُ: لم يَأْخُذ الشافعيُّ إلخ.
(وقولُهُ: إِلَّا بقولِهِ) أي: إلَّا بِمُوَافِقِ قولِهِ.
(قولُهُ: وَنَاهِيكَ بها) يُحْتَمَلُ أنَّ (نَاهِيكَ) مُبْتَدَأٌ، والضميرَ خبرٌ زِيدَتْ فيه الباءُ، والمعنى: الذي يَنْهَاكَ عن أنْ تَطْلُبَ غَيْرَهُ في بيانِ فضلِ زيدٍ هذه الشهادةُ أو بالعكسِ، والمعنى هَذِهِ الشهادةُ تَنْهَاكَ عن أنْ تَطْلُبَ غَيْرَهَا، وَيُحْتَمَلُ أنَّ الضميرَ فاعلُ الوصفِ على حَدِّ: فائزٌ أُولُو الرَّشَدِ، وتكونُ الباءُ زائدةً في الفاعلِ، وَيُحْتَمَلُ غيرُ ذلكَ.
(وقولُهُ: أي: حَسْبُكَ بِهَا) أي: كَافِيَتُكَ هذهِ الشهادةُ، فالباءُ زائدةٌ، ويُحْتَمَلُ أَنَّ حَسْبَ بِمَعْنَى الكِفَايَةِ، والباءَ مُتَعَلِّقَةٌ بمحذوفٍ، والمعنى: كِفَايَتُهُ حاصلةٌ بها، و هذا تفسيرٌ باللازِمِ.
(وقولُهُ: لِأَنَّهَا غايةٌ) أي: في بيانِ فضلِ زيدٍ، فَلَا شَيْءَ فَوْقَهَا.
(وقولُهُ: فَهِيَ تَكْفِيكَ) أَتَى بِهِ نَتِيجَةً للتعليلِ قبلَهُ.
(قولُهُ: فَكَانَ زيدُ بنُ ثابتٍ أَوْلَى إلخ) أي: فَتَسَبَّبَ على هذهِ الشهادةِ كَوْنُ زيدٍ المذكورِ أَحَقَّ مِنْ غَيْرِهِ بما ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ، وهوَ(قولُهُ: بِاتِّبَاعِ التابعِ) أي: بِأَنْ يَتْبَعَهُ مَن أرادَ أَنْ يَتْبَعَ وَاحِدًا مِن الصَّحَابَةِ مَثَلًا، وكان المناسبُ لِمَا سَبَقَ أنْ يقولَ: بالإِبَانَةِ عن مَذْهَبِهِ، فيكونُ مِن أهمِّ الغرضِ كما هو المُدَّعَى؛ لأنَّهُ في سياقِ التعليلِ لذلكَ.
(وقولُهُ: وَتَقْلِيدِ المُقَلِّدِ) تَفْسِيرٌ لاتِّبَاعِ التابعِ؛ لأنَّ تقليدَ المُقَلِّدِ أَخْذُهُ بقولِ الغيرِ, ولا مَعْنَى لِاتِّبَاعِ التابعِ إلَّا أَخْذُهُ بقولِ المَتْبُوعِ.
قولُهُ: (لِأَمْرَيْنِ) عِلَّةٌ لِلْأَوْلَوِيَّةِ.
(وقولُهُ: أَقْوَاهُمَا هذهِ الأحاديثُ) أَطْلَقَ الجَمْعَ على ما فوقَ الواحدِ، وَإِلَّا فَالمُتَقَدِّمُ حَدِيثَانِ, بلْ رِوَايَتَانِ، فيكونُ قدْ نَزَّلَهُمَا منزلةَ الحَدِيثَيْنِ المُسْتَقِلَّيْنِ.
(قولُهُ: والثاني أَنَّهُ ما تَكَلَّمَ إلخ) أي: إنَّ الحالَ والشأنَ ما تَكَلَّمَ إلخ فالضميرُ للحالِ والشأنِ.
(وقولُهُ: فَإِنَّهُ لمْ يَقُلْ قَوْلًا إلخ) أيْ: لَا بُدَّ أَنْ يَأْخُذَ بهِ ولو بَعْضُ الأَئِمَّةِ ولا يَتَّفِقُونَ على هَجْرِهِ.
(قولُهُ: وَذَلِكَ) أي: المذكورُ مِن الأحاديثِ وَعَدَمِ الاتفاقِ على هَجْرِ قولِهِ بخلافِ غَيْرِهِ.
وقولُهُ: (يَقْتَضِي الترجيحَ) أي: تَرْجِيحَهُ على غيرِهِ، فيكونُ أَوْلَى باتِّبَاعِ التابعِ لهُ.
(قولُهُ: لَاسِيَّمَا) الصحيحُ وقوعُ الجملةِ بَعْدَهَا كما هنا، والمعنى هُنَا خُصُوصًا، أيْ: أَخُصَّ زيدًا بِأَوْلَوِيَّةِ الاتِّبَاعِ خُصُوصًا، والحالُ أَنَّهُ قد نَحَّاهُ الشافعيُّ، فصاحبُ الحالِ مَحْذُوفٌ إذا وَقَعَ بَعْدَهَا اسمٌ جازَ فيهِ الجَرُّ بإضافةِ سِيٍّ إِلَيْهِ، فتكونُ ما مَزِيدَةً، والرفعُ على أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ محذوفٍ، والجملةُ صِلَةٌ لِمَا, عَلَى جَعْلِهَا مَوْصُولَةً, أو صِفَةٌ لها على جَعْلِهَا نَكِرَةً موصوفةً، وجازَ فيهِ أَيْضًا إِنْ كانَ نَكِرَةً النصبُ على التمييزِ، وما كَافَّةٌ، وعلى كلٍّ مِن هذهِ الأَحْوَالِ فَلَا نَافِيَةٌ للجِنْسِ, وَسِيٌّ اسْمُهَا منصوبٌ بِفَتْحَةٍ ظاهرةٍ على الوجهَيْنِ الأَوَّلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مضافٌ وَمَبْنِيٌّ على الفتحِ في مَحَلِّ نَصْبٍ على الوجهِ الأخيرِ؛ لأنَّهُ غيرُ مضافٍ على هذا الوجهِ، وَخَبَرُهَا في الكلِّ محذوفٌ،
والتقديرُ على الوجهِ الأَوَّلِ لَاسِيَّ، أَيْ: لَا مِثْلَ زَيْدٍ أو رَجُلٍ موجودٌ .
وعلى الثاني: لَاسِيَّ الذي أو شيءٍ هو زيدٌ ورجلٌ موجودٌ،
وعلى الثالثِ: لَاسِيَّمَا رَجُلًا موجودٌ، وإنْ أَرَدْتَ مَزِيدَ الكلامِ على ذلكَ فَعَلَيْكَ بكُتُبِ النحوِ، وقالَ الشيخُ الأميرُ: وقد أَفْرَدْنَا لَاسِيَّمَا بِمُؤَلَّفٍ لَطِيفٍ.
(قولُهُ: مِن أَدَوَاتِ الاستثناءِ عِنْدَ بَعْضِهِم) هو مذهبُ الكوفِيِّينَ وجماعةٍ مِن البَصْرِيِّينَ، وقد وَجَّهَهُ الدَّمَامِينِيُّ بِأَنَّ مَا بَعْدَهَا مُخَرَّجٌ مِمَّا قَبْلَهَا مِن حَيْثُ أَوْلَوِيَّتُهُ بِالحُكْمِ المُتَقَدِّمِ، فالمرادُ بالاستثناءِ الإخراجُ من المساواةِ، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُم مُنْقَطِعًا, ولَا وَجْهَ للانقطاعِ؛ فانَّ قولَكَ: قامَ القومُ لَاسِيَّمَا زيدٌ, في قُوةِ قَوْلِك: تَسَاوَى القومُ في القيامِ إلَّا زيدًا فَهُوَ أَوْلَى بِهِ لِنُكْتَةٍ. فَافْهَمْ.
(قولُهُ: والصحيحُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهَا) هو مذهبُ سِيبَوَيْهِ وجمهورِ البَصْرِيِّينَ، وتعبيرُهُ بالصحيحِ يَقْتَضِي أنَّ مُقَابِلَهُ باطلٌ، لكنْ قد عَلِمْتَ تَوْجِيهَهُ، فيكونُ صَحِيحًا أَيْضًا، فَيُحْمَلُ الصحيحُ على الراجحِ.
(وقولُهُ: بلْ مُضَادَّةٌ للاستثناءِ) إضْرَابٌ إِنْتِقَالِيٌّ، وكانَ المناسِبُ أنْ يقولَ: بل مَفَادُهَا مُضَادٌّ للاستثناءِ، أو يقولَ: بلْ هيَ مضادَّةٌ لأداةِ الاستثناءِ، وَيُمْكِنُ أنَّهُ أرادَ بالاستثناءِ أداتَهُ. فَتَدَبَّرْ.
(قولُهُ: فَإِنَّ الذي بَعْدَهَا إلخ) تعليلٌ لقولِهِ: (بلْ هيَ مضادَّةٌ للاستثناءِ)، وحاصلُ التعليلِ أَنَّهَا للإدخالِ، والاستثناءَ للإخراجِ، فهيَ مضادَّةٌ لهُ.
(وقولُهُ: داخلٌ فيما دَخَلَ إلخ) أيْ: داخِلٌ في الحكمِ الذي دَخَلَ إلخ بخلافِ الاستثناءِ فإنَّ الذي بعدَ أداتِهِ خارجٌ مِمَّا دَخَلَ فيهِ ما قَبْلَهَا, والتعبيرُ بالدخولِ في الحكمِ فيهِ ضَرْبٌ من التَّسَمُّحِ، فكانَ الأولَى أنْ يقولَ: لأنَّ الذي بعدَهَا ثابِتٌ, لهُ ما ثَبَتَ للذي قَبْلَهَا أو يَقُولَ: فإنَّهَا لإدخالِ ما بَعْدَهَا فيما قَبْلَهَا.
(وقولُهُ: ومشهودٌ لهُ بأنَّهُ أَحَقُّ بذلكَ من غيرِهِ) أي: ومشهودٌ للذي بَعْدَهَا بأنَّهُ أَوْلَى بالحُكْمِ من غيرِهِ, وهو ما قبلَهَا، فَتَعْبِيرُهُ هنا بغيرِهِ وَتَعْبِيرُهُ قبلَهُ بما قَبْلَهَا تَفَنُّنٌ، فإذا قُلْتَ: قامَ القومُ لَاسِيَّمَا زيدٌ، شَهِدَتْ قَرَائِنُ الأحوالِ بأنَّ زَيْدًا أَحَقُّ بالقيامِ من بقيَّةِ القومِ، وَأَفَادَتْ هنا أنَّ زيدًا في حالِ قَصْدِ الشافعيِّ لِمَذْهَبِهِ أَحَقُّ بِأَوْلَوِيَّةِ الاتباعِ منهُ في غيرِ هذهِ الحالةِ، فالذي بَعْدَهَا زيدٌ في حالِ قصدِ الشافعيِّ لِمَذْهَبِهِ، والذي قَبْلَهَا زيدٌ في غيرِ هذهِ الحالةِ، والحكمُ هوَ أَوْلَوِيَّةُ الاتباعِ.
(قولُهُ: وقدَ نَحَاهُ إلخ) أي: والحالُ أَنَّهُ قد نَحَاهُ إلخ، أي: قَصَدَهُ ومَالَ إليهِ؛ مُوَافَقَةً له في الاجتهادِ, لَا أَنَّهُ قَلَّدَهُ؛ لِأَنَّ المُجْتَهِدَ لَا يُقَلِّدُ مُجْتَهِدًا كَمَا سَيَذْكُرُهُ الشَّرْحُ.
(وقولُهُ: أيْ: نَحَا مَذْهَبَ الْإِمَامِ إلخ) ظَاهِرُه أَنَّهُ جَعَلَ الضميرَ في نَحَاهُ عَائِدًا على مذهبِ زيدٍ مع أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ في العبارةِ القريبةِ، فالأَوْلَى إِعَادَتُهُ عَلَى زيدٍ, ثم يُجْعَلُ على حَذْفِ مُضَافٍ, ويُمْكِنُ حَمْلُ كلامِ الشرحِ على ذلكَ.
(قولُهُ: الإمامُ) أي: المُقْتَدَى بهِ.
(وقولُهُ: أبو عبدِ اللهِ) كُنْيَةٌ للإمامِ.
(وقولُهُ: محمدٌ) اسمٌ لهُ.
(وقولُهُ: إِدْرِيسَ) أَبُوهُ.
(وقولُهُ: العَبَّاسِ) جَدُّهُ الأَوَّلُ.
(وقولُهُ: عُثْمَانَ) جَدُّهُ الثانيِ.
(وقولُهُ: شافعِ) جَدُّهُ الثالثُ، وَإِلَيْهِ نُسِبَ الإمامُ حَيْثُ قَالُوا: الشافعيُّ تَفَاؤُلًا بالشَّفَاعَةِ وَتَبَرُّكًا بالنسبةِ إليهِ؛ لِأَنَّهُ صحابيٌّ ابنُ صحابيٍّ, لأَنَّهُ لَقِيَ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو مُتَرَعْرِعٌ، أي: شابٌّ، وأَسْلَمَ أَبُوهُ السائبُ يَوْمَ بدرٍ.
(وقولُهُ: السائبِ) جَدُّهُ الرابعُ.
(وقولُهُ: عُبَيْدِ) بالتصغيرِ, جَدُّهُ الخامسُ.
(وقولُهُ: عَبْدِ يَزِيدَ) جَدُّهُ السادسُ.
(وقولُهُ: هاشمِ) جَدُّهُ السابعُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَاشِمًا هذا غيرُ هاشمٍ الذي هو جَدُّ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنَّهُ أَخُو أَبِيهِ.
(وقولُهُ: المُطَّلِبِ) جَدُّهُ الثامنُ، وهو أَخُو هاشمٍ جَدِّ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَاشِمِيٌّ, والإمامُ الشافعيُّ مُطَّلِبِيٌّ.
(وقولُهُ: عبدِ مَنَافٍ) جَدُّهُ التاسعُ.
(وقولُهُ: قُصَيٍّ) جَدُّهُ العاشرُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ مع أَنَّ الإمامَ يَجْتَمِعُ مع النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عبدِ مَنَافٍ تَمْيِيزًا لِعَبْدِ مَنَافٍ المذكورِ هنا عن عبدِ مَنَافٍ المذكورِ في نَسَبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن جِهَةِ أُمِّهِ؛ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابنُ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبِ بنِ عبدِ مَنَافِ بنِ زُهْرَةَ بنِ كِلَابٍ أَحَدِ أجدادِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من جهةِ أبيهِ، وهذا النسبُ المذكورُ للأمامِ الشافعيِّ نَسَبٌ عظيمٌ كما قيلَ.
نَسَبٌ كانَ عليهِ من شَمْسِ الضُّحَى = نُورًا ومِن فَلْقِ الصباحِ عَمُودَا
ما فيهِ إلَّا سَيِّدٌ مِن سيِّدٍ = حَازَ المَكَارِمَ والتُّقَى والجُودَا
وهذا نَسَبُهُ من جهةِ أبيهِ، وأمَّا نَسَبُهُ من جهةِ أُمِّهِ فهو مُحَمَّدُ بنُ فاطمةَ بنتِ عبدِ اللهِ بنِ الحسنِ بنِ الحسينِ بنِ عَلِيِّ بنِ أبي طالبٍ، كما قالَهُ التَّاجُ السُّبْكِيُّ في الطبقاتِ، وَنَقَلَهُ الخطيبُ، عن التنبيهِ، عن يُونسَ بنِ عبدِ الأَعْلَى، وعلى هذا فَهِيَ من قريشٍ، وقيلَ: من الأَزْدِ، وقدْ قالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْأَزْدُ أَزْدُ اللهِ في الْأَرْضِ). و هذا يَدُلُّ على مَزِيدِ الشرفِ.
(قولُهُ: الشافعيُّ) قد عَرَفْتَ أنَّهُ نِسْبَةٌ لِجَدِّهِ شافعٍ.
(وقولُهُ: القُرَشِيُّ) نِسْبَةً لِقُرَيْشٍ, وهي قبيلةٌ مشهورةٌ تَجْتَمِعُ في فِهْرٍ، وقيلَ: النضرِ، ولذلكَ قالَ العِرَاقِيُّ في السيرةِ:
أَمَّا قُرَيْشٌ فالأَصَحُّ فِهْرٌ = جُمَاعُهَا وَالأَكْثَرُونَ النَّضْرُ
سُمُّوا بذلكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُقَرِّشُونَ أَيْ: يُفَتِّشُونَ عن خَلَّةِ المحتاجِ فَيَسُدُّونَهَا.
(وقولُهُ: المُطَّلِبِيُّ) نسبةً للمُطَّلِبِ أَخِي هاشمٍ جَدِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(وقولُهُ: الحِجَازِيُّ) نسبةً للحجازِ.
(وقولُهُ: المَكِّيُّ) نسبةً لِمَكَّةَ؛ لأنَّهُ حُمِلَ إليها وهو ابنُ سَنَتَيْنِ، وَنَشَأَ بِهَا.
(وقولُهُ: يَلْتَقِي مع النبيِّ) أي: يَجْتَمِعُ مَعَهُ, وقدْ أَخْطَأَ مَن طَعَنَ في نسبِ الإمامِ الشافعيِّ من فقهاءِ الحنفيَّةِ - وهو الجُرْجَانِيُّ - حيثُ قالَ: إنَّ أصحابَ مالكٍ لا يُسَلِّمُونَ أنَّ نَسَبَ الشافعيِّ مِن قريشٍ, وَيَزْعُمُونَ أنَّ شَافِعًا كان مَوْلًى لِأَبِي لَهَبٍ فَطَلَبَ مِنْ عُمَرَ أنْ يَجْعَلَهُ مِن مَوَالِيَ قُرَيْشٍ، فَامْتَنَعَ، فَطَلَبَ ذلكَ من عثمانَ فَفَعَلَ. اهـ.
ولا شَّكَ أنَّ هذا كَذِبٌ وَبُهْتَانٌ, ولم يَذْكُرْ هذا الطَّعْنَ إلَّا هذا المُتَعَصِّبُ, وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عليهِ أنَّ الناسَ أَجْمَعُوا على أنَّ أَبَا حَنِيفَةَ من مواليَ العتاقةِ أو الحِلْفِ والنّضرَةِ، فأرادَ أنْ يُقَابِلَ ذلك بهذا البُهْتَانِ ومَا مِثْلُهُ إِلَّا كما قالَ اللهُ تَعَالَى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}. ذَكَرَهُ الرازيُّ في مناقبِ الشافعيِّ .
(قولُهُ: ومَنَاقِبُهُ شَهِيرةٌ) أي: خِصَالُهُ الحميدةُ مشهورةٌ.
(وقولُهُ: فضائلُهُ كثيرةٌ) أي: خِصالُهُ الحميدةُ كثيرةٌ، والتعبيرُ أَوَّلًا بالمناقبِ وثانيًا بالفضائلِ تَفَنُّنٌ.
(وقولُهُ: وقدْ صَنَّفَ الأَئِمَّةُ إلخ) قدْ لِلتَّحْقِيقِ.
(وقولُهُ: قَدِيمًا) أيْ: في الزمنِ القديمِ.
(وقولُهُ: وحديثًا) أي: وفي الزمنِ الحديثِ، أي: الجديدِ القريبِ.
(قولُهُ: وُلِدَ رَضِيَ اللهُ عنهُ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ) وَتُوُفِّيَ سنةَ أَرْبَعٍ ومِائَتَيْنِ كما سَيَذْكُرُهُ الشرحُ، فَعُمُرُهُ أربعٌ وخمسونَ سنةً، وَوُلِدَ أبو حَنِيفَةَ سَنَةَ ثَمَانِينَ, وَتُوُفِّيَ سنةَ خَمْسِينَ ومائةٍ، وهيَ السنةُ التي وُلِدَ فيها الإمامُ الشافعيُّ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فَعُمُرُهُ سبعونَ سَنَةً، وَوُلِدَ الإمامُ مالكٌ سنةَ تِسْعِينَ، وَتُوُفِّيَ سنةَ تِسْعٍ وسبعينَ ومائةٍ، فَعُمُرُهُ تِسْعٌ وثمانونَ، وَوُلِدَ الإمامُ أَحْمَدُ سنةَ أربعٍ وسِتِّينَ ومائةٍ، وَتُوُفِّيَ سنةَ إِحْدَى وأربعِينَ ومائتَيْنِ، فَعُمُرُهُ سَبْعٌ وسبعونَ، وقد ضَبَطَ بعضُهُم مَوْلِدَهُم وَوَفَاتَهُم وعُمُرَهُم بقولِهِ.
تاريخُ نُعْمَانَ يَكُنْ سَيْفٌ سَطَا = ومَالِكٌ فِي قَطْعِ جَوْفٍ ضبطا
والشَّافِعِيُّ صين ببر نـد = وأحمدُ بِسَبْقِ أَمْرٍ جعد
فَاحْسُبْ على تَرْتِيبِ نَظْمِ الشِّعْرِ = مِيَلَادَهُمْ فَمَوْتَهُم فالعُمْر
فـ (يَكُنْ) ضَبْطٌ لمولدِ أبي حَنِيفَةَ؛ لأنَّ الياءَ بِعَشَرَةٍ, والكافَ بِعِشْرِينَ, والنونَ بِخَمْسِينَ، فالجملةُ ثمانونَ، وهو قَد وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانِينَ.
(وسَيْفٌ) ضَبْطٌ لِمَوْتِهِ؛ لأنَّ السينَ بِسِتِّينَ، والياءَ بِعَشَرَةٍ، والفاءَ بِثَمَانِينَ، فالجملةُ مائةٌ وخمسونَ، وهو قَدْ تُوُفِّيَ سنةَ مِائَةٍ وخمسينَ.
و (سَطَا) لِعُمُرِهِ؛ لأنَّ السينَ بِسِتِّينَ، والطاءَ بِتِسْعَةٍ، والألفُ بِوَاحِدٍ، فالجملةُ سبعونَ، وعُمُرُه كذلكَ، و (فِي) ضبطٌ لمولدِ الإمامِ مالكٍ، لأنَّ الفاءَ بِثَمَانِينَ، والياءَ بِعَشَرَةٍ، فالجملةُ تسعونَ، وهو قد وُلِدَ سَنَةَ تِسْعِينَ، و (قَطْعِ) ضَبْطٌ لِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّ القافَ بِمِائَةٍ، والطاءَ بتسعةٍ، والعينَ بسبعينَ، فالجملةُ مائةٌ وتسعةٌ وسبعونَ، وكانتْ وَفَاتُهُ كذلكَ، و (جَوْفٍ) ضَبْطٌ لِعُمُرِهِ؛ لأنَّ الجيمَ بثلاثةٍ، والواوَ بسِتَّةٍ، والفاءَ بِثَمَانِينَ، فالجملةُ تِسْعٌ وثمانونَ، وكانَ عمرُهُ كذلكَ.
(وقولُهُ: ضبطا) تَكْمِلَةٌ للبيتِ.
و (صين) ضبطٌ لمولدِ الإمامِ الشافعيِّ؛ لأنَّ الصادَ بِتِسْعِينَ، والياءَ بِعَشَرَةٍ، والنونَ بخمسينَ، فالجملةُ مائةٌ وخمسونَ، وكانَ مولدُهُ كذلكَ.
و (ببر) ضبطٌ لِوَفَاتِهِ؛ لأنَّ كُلًّا من الباءَيْنِ باثِنَيْنِ، والراءَ بمائَتَيْنِ، فالجملةُ مائتانِ وأربعةٌ، وكانتْ وفاتُهُ كذلكَ.
و (ند) ضبطٌ لِعُمُرِهِ؛ لأنَّ النونَ بخمسينَ، والدالَ بأربعةٍ، فالجملةُ أربعةٌ وخمسونَ، وكان عُمُرُهُ كذلكَ.
و (بسبق) ضَبْطٌ لمولدِ الإمامِ أَحْمَدَ؛ لأنَّ كُلًّا من الباءَيْنِ باثنَيْنِ، والسينَ بِسِتِّينَ، والقافَ بمائةٍ، فالجملةُ مائةٌ وأربعةٌ وسِتُّونَ، وكانَ مولدُهُ كذلكَ.
و (أمر) ضَبْطٌ لوفاتِهِ، فالألفُ بواحدٍ، والميمُ بأربعينَ، والراءُ بمائَتَيْنِ، فالجملةُ مائتانِ وواحدٌ وأربعونَ، وكانتْ وفاتُهُ كذلكَ.
و (جعد) ضَبْطٌ لِعُمُرِهِ؛ لأنَّ الجيمَ بثلاثةٍ، والعينَ بسبعينَ، والدالَ بأربعةٍ، فالجملةُ سبعٌ وسبعونَ، وكانَ عُمُرُهُ كذلكَ.
(قولُهُ: والذي عَلَيْهِ الجمهورُ أَنَّهُ إلخ) هو المعتمدُ، والأقوالُ التي بعدَهُ ضَعِيفَةٌ.
(وقولُهُ: بِغَزَّةَ) هي بَلْدةٌ من بلادِ الشامِ.
(وقولُهُ: وقيلَ: بِعَسْقَلَانَ) هي قريةٌ كبيرةٌ قريبةٌ من غَزَّةَ.
(وقولُهُ: وقيلَ: باليمنِ) لَمْ أَرَ تَعْيِينَ مَحَلٍّ مِنْهُ بِخُصُوصِهِ.
(وقولُهُ: بِخَيْفِ مِنًى) أي: (بِخَيْفٍ) هو مِنًى، فالإضافةُ بيانيَّةٌ، والخيفُ الخَلْطُ، وسُمِّيَ بهِ المكانُ المعروفُ بمَكَّةَ لِاجْتِمَاعِ أخلاطِ الناسِ فيهِ؛ إِذْ مِنْهُم الجَيِّدُ وَالرَّدِيءُ.
(قولُهُ: ثم حُمِلَ إلى مَكَّةَ وهو ابنُ سَنَتَيْنِ) أي: نُقِلَ إلى مَكَّةَ التي هيَ أمُّ القُرَى، والحالُ أَنَّهُ ابْنُ سَنَتَيْنِ, وَنَشَأَ بِهِمَا, وَحَفِظَ القرآنَ، وهو ابنُ سَبْعِ سِنِينَ، والمُوَطَّأَ وهو ابنُ عَشْرٍ, وَتَفَقَّهَ على مُسْلِمِ بنِ خالدٍ الزِّنْجِيِّ، وأَذِنَ لهُ في الاجتهادِ, وهوَ ابنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سنةً، ثم رَحَلَ إلى مالكٍ بالمدينةِ ولازَمَهُ مُدَّةً، ثم قَدِمَ بغدادَ فأقامَ بها سَنَتَيْنِ، فاجتمعَ عليهِ علماؤُهَا وصَنَّفَ بها كتابَهُ القديمَ، ثم عادَ إلى مَكَّةَ، فأقامَ بها مُدَّةً، ثم عادَ إلى بغدادَ، فأقامَ بها شَهْرًا، ثم خَرَجَ إلى مِصْرَ العتيقةِ، ولم يَزَلْ بها نَاشِرًا للعلمِ بِجَامِعِهَا العتيقِ إلى أنْ تُوُفِّيَ رحمةُ اللهِ عليهِ.
اهـ. خطيبٌ في شَرْحِ الغايةِ.
(قولُهُ: وتُوُفِّيَ بِمِصْرَ) أي: العَتِيقَةِ كما مَرَّ، وكانت السيِّدةُ نَفِيسَةُ رَضِيَ اللهُ عنها موجودةً إذْ ذاكَ، فَأَرْسَلَتْ إلى السلطانِ الذي كانَ بِمِصْرَ، وَطَلَبَتْ أنْ يَمُرُّوا عليها بِجِنَازَةِ الإمامِ فَفَعَلُوا فَصَلَّتْ عليهِ مَأْمُومَةً.
(قولُهُ: وهوَ ابنُ أربعٍ وخمسينَ سَنَةً) كانَ المناسبُ التَّفْرِيعَ؛ لأنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ سنةَ مولدِهِ وسنةَ وفاتِهِ عُلِمَ مُدَّةُ عُمُرِهِ، إلَّا أنْ يُقَالَ: الواوُ قد تَأْتِي للتفريعِ كَمَا مَرَّ.
(قولُهُ: وَدُفِنَ بالقَرَافَةِ) ظاهرُ كلامِ الشارحِ أنَّ مَدْفَنَ الإمامِ الشافعيِّ مِن القَرَافَةِ، وهو موافقٌ للذي في الخططِ للمَقْرِيزِيِّ أَنَّهُ في تُرْبَةِ أولادِ عَبْدِ الحكمِ، وَعَدَّهُ في مشاهدِ القرافةِ، وكيفَ هذا مع أنَّ جميعَ ما في القرافةِ يَجِبُ هَدْمُهُ، نَعَمْ ذَكَرَ الشعرانيُّ في المَننِ أنَّ السيوطيَّ أَفْتَى بِعَدَمِ هَدْمِ مشاهدِ الصالحِينَ بالقَرَافَةِ قِيَاسًا على أمرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَدِّ كلِّ خَوْخَةٍ في المسجدِ إِلَّا خَوْخَةَ أبي بَكْرٍ، وهو فسحةٌ في الجملةِ، هذا والمشهورُ أنَّ مَدْفَنَ الإمامِ الشافعيِّ ليسَ من القرافةِ, بلْ من بيتِ ابنِ عبدِ الحكمِ، وكانَ حَوْلَهُ الحوانيتُ، أي: الدكاكينُ، فالقُبَّةُ عليهِ لَيْسَتْ من بناءِ القرافةِ حتى يُحْتَاجَ لِمَا مَرَّ, وسُمِّيَ المَحَلُّ المعروفُ بالقرافةِ؛ لِأَنَّهُ نَزَلَهُ بَطْنٌ من مغافرَ، يُقَالُ لَهُم: القرافةُ. فَسُمِّيَ بِاسْمِهِم، وقالَ الشيخُ العَدَويُّ: إِنَّ القرافةَ تُرَكَّبُ من فِعْلٍ ومفعولٍ، والأصلُ: أَلْقِ رَأْفَةً، فَمُزِجَا، وجُعِلَا عَلَمًا على هذا المَحَلِّ؛ لأنَّ الشخصَ يَجِدُ رأفةً في قَلْبِهِ إذا مَرَّ بهِ، وما أحَسَنَ ما قالَ بَعْضُهُم:
إِذَا مَا ضَاقَ صَدْرِي لَمْ أَجِدْ لِي = مَقَرَّ عِبَادَةٍ إِلَّا القَرَافَةَ
لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْ المَوْلَى اجْتِهَادِي = وَقِلَّةَ نَاصِرِي لَمْ أَلْقَ رَافَةَ
(قولُهُ: وعلى قَبْرِهِ إلخ) الجارُّ والمجرورُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وما هو لائِقٌ مبتدأٌ مُؤَخَّرٌ, ومن الجلالةِ والاحترامِ بيانٌ لِمَا هو لائقٌ مُقَدَّمٌ عليهِ.
(قولُهُ: ومعنى كَوْنِ الإمامِ إلخ) غَرَضُهُ بذلكَ دَفْعُ ما قَدْ يَتَوَهَّمُهُ بعضُ الأذهانِ القاصرةِ والطبائعِ المُتَبَلِّدَةِ أنَّ الإمامَ الشافعيَّ قَلَّدَ زيدًا.
(قولُهُ: موافقةً لهُ في الاجتهادِ) أي: حالةَ كَوْنِهِ مُوَافِقًا لهُ في الاجتهادِ لا مُقَلِّدًا لهُ.
(قولُهُ: لِمَا سَبَقَ) عِلَّةٌ لكونِهِ قَصَدَهُ ومَالَ إليهِ، وَلَعَلَّ مُرَادَهُ بِمَا سَبَقَ الأَمْرانِ المَذْكُورانِ بَعْدَ قولِ المُصَنِّفِ فكانَ أَوْلَى باتِّبَاعِ التابعِ فَإِنَّهُ قالَ هناكَ لِأَمْرَيْنِ, أَقْوَاهُمَا هذهِ الأحاديثُ إلخ.
(وقولُهُ: حَتَّى تَرَدَّدَ حيثُ تَرَدَّدَ) غايةٌ في موافقتِهِ، أي: حتَّى إنَّ الإمامَ الشافعيَّ تَرَدَّدَ بأنْ قالَ قَوْلَيْنِ في المسألةِ التي تَرَدَّدَ فيها زَيْدٌ، بأنْ كانَ لهُ فيها قَوْلَانِ.
(قولُهُ: فَهَاكَ إلخ) أي: إذا أَرَدْتَ بيانَ مذهبِ زيدٍ فهاكَ إلخ.
(وقولُهُ: فَخُذْ) يُشِيرُ بذلكَ إلى أنَّ هاكَ اسمُ فعلٍ بِمَعْنَى خُذْ, والتَّحْقِيقُ أنَّ اسمَ الفعلِ هَا فَقَطْ, وأمَّا الكافُ فَحَرْفُ خطابٍ مفتوحةٌ في المُذَكَّرِ, مكسورةٌ في المُؤَنَّثِ، وَتُثَنَّى وتُجْمَعُ، فَيُقَالُ: هَاكُمَا وهَاكُمْ, وَقَدْ تُبَدَّلُ الكافُ هَمْزَةً، ومنهُ قَوْلُهُ تعالى حِكَايَةً عَمَّنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ: {هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ} .
(قولُهُ: فيهِ) الأظهرُ تَعَلُّقُهُ بمحذوفٍ صفةٍ للقولِ بَعْدَهُ, والتقديرُ فَخُذ القولَ الكائنَ فيهِ، أي: في مَذْهَبِ زَيْدٍ, كما قالَ الشرحُ، ويكونُ حينئذٍ مِن ظَرْفِيَّةِ الدَّالِّ في المَدْلُولِ.
(قولُهُ: القولَ عن إيجازٍ) أي: حالةَ كونِهِ نَاشِئًا عن إيجازٍ، كذا كَتَبَ بَعْضُهُم، والأظهرُ منهُ أنَّ عن بِمَعْنَى مع أي: حالَ كَوْنِهِ مُصَاحِبًا للإيجازِ.
(وقولُهُ: أي: اختصارٍ) مَبْنِيٌّ على ترادُفِ الاختصارِ والإيجازِ، وهو المرادُ، وقيلَ: الاختصارُ هو الحذفُ من عَرضِ الكلامِ أي: تَكْرَارُهُ كَزَيْدٍ زَيْدٍ، والإيجازُ هو الحذفُ من طولِ الكلامِ، أي: زِيَادَتِهِ على المقصودِ كَمِنْهاجِ وَمَنْهَجٍ، فالاختصارُ تَرْكُ التَّكرارِ، والإيجازُ تَرْكُ الزيادةِ، وقيلَ: غيرُ ذلكَ، وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ المُتَأَخِّرِينَ بالاختصارِ لِيُحْفَظَ الكلامُ وَعَادَةُ المُتَقَدِّمِينَ بالبسطِ لِيُفْهَمَ، ولذلكَ قالَ الخليلُ: الكلامُ يُبْسَطُ لِيُفْهَمَ وَيُخْتَصَرُ لِيُحْفَظَ.
(قولُهُ: والمُخْتَصَرُ ما قَلَّ لَفْظُهُ وكَثُرَ مَعْنَاهُ) أي: لأنَّ الاختصارَ تقليلُ الألفاظِ وتكثيرُ المعاني, وهذا التَّقْيِيدُ تَبِعَ فيهِ شيخَ الإسلامِ والجمهورَ على أنَّ المدارَ على تقليلِ الألفاظِ، سواءٌ كَثُرَت المعاني أو نَقَصَتْ أو سَاوَتْ، وقال الشيخُ السجاعيُّ فيما كَتَبَهُ على الخطيبِ: إنَّ ما ذَكَرَهُ الشرحُ هو ما ذَكَرَهُ أهلُ اللغةِ كالنَّوَوِيِّ في دقائقِ المِنْهاجِ، وصاحبِ المصباحِ, قالَ: وحقيقةُ الاختصارِ الاقتصارُ على تقليلِ اللفظِ دونَ المعنى. اهـ.
وحينئذٍ فحقيقةُ المُخْتَصَرِ ما ذَكَرَهُ الشرحُ.
(قولُهُ: مُبَرَّأً إلخ) أي: حالَ كَوْنِ القولِ المذكورِ مُبَرَّأً إلخ.
(وقولُهُ: أيْ: مُنَزَّهًا) تَفْسِيرٌ لِمُبَرَّأً، والمقصودُ مِن ذلكَ أَنَّهُ واضِحٌ جِدًّا.
(وقولُهُ: عن وَصْمَةِ إلخ) أيْ: عن وَصْمَةٍ هي الألْغَازُ، فالإضافةُ للبيانِ.
(وقولُهُ: واحدُ الوَصْمُ) أي: هيَ واحدُ الوصمِ, فهوَ خبرٌ لِمبتدأٍ محذوفٍ .
(وقولُهُ: الوصمُ اسمُ جِنْسٍ جمعيٌّ) أي: اسمٌ دَالٌّ على الجنسِ, لَكِنْ بشرطِ تَحَقُّقِهِ في جماعةِ أفرادٍ, كما هو ضابطُ اسمِ الجنسِ الجَمْعِيِّ، ويُفَرَّقُ بينَهُ وبينَ واحدِه بالتاءِ غالبًا كما هنا, وكما في تَمْرٍ وتَمْرَةٍ، وقد يُفَرَّقُ بينَهُ وبينَ واحدِهِ بياءِ النسبِ كَرُومٍ وَرُومِيٍّ، وأمَّا اسمُ الجنسِ الإفراديُّ فهو ما صَدَقَ على الجنسِ مِن غيرِ قيدِ تَحَقُّقِهِ في جماعةٍ، كما في جماعةٍ كَمَاءٍ وترابٍ.
(قولُهُ: بمعنَى العيبِ) الظاهرٌ أنَّهُ تفسيرٌ للوصمةِ التي هيَ واحدُ الوصمِ بدليلِ الإفرادِ, حيثُ قالَ: بِمَعْنَى العيبِ.
(قولُهُ: الأَلْغَازِ) أي: جِنْسِهَا الصادقِ بالواحدِ فلا يَرِدُ ما قَدْ يُقَالُ: مقتضَى كلامِ المُصَنِّفِ أَنَّهُ ليسَ مُبَرَّأً عن وَصْمَةِ لُغْزٍ واحدٍ أو لُغْزَيْنِ؛ لأنَّهُ إِنَّمَا قالَ: مُبَرَّأً عن وَصْمَةِ الألغازِ، وحاصلُ الجوابِ أنَّ أل لِلجِنْسِ الصادقِ بالواحدِ.
(قولُهُ: جَمْعُ لُغْزٍ) بِضَمِّ اللامِ وسكونِ الغينِ أو فَتْحِهَا أو ضَمِّهَا وبِفَتْحِ اللامِ مع سكونِ الغينِ أو فَتْحِهَا، وَلُغَيْزٌ بِضَمِّ اللامِ وفتحِ الغينِ مُشَدَّدَةٍ وزيادةِ ياءٍ ساكنَةٍ، وَلُغَيْزَا بزيادةِ ألفِ مقصورةٍ، ولُغَيْزَاءُ بِأَلِفٍ ممدودةٍ، ذَكَرَهُ في اللؤلؤةِ نَقْلًا عن الكتاتيِّ.
قولُهُ: (وهو الكلامُ المُعَمَّى) أي: المَجْعُولُ فيهِ التَّعْمِيَةُ، وهي الخَفَاءُ، وقِيلَ: التعميةُ تَرْجِعُ إلى الخفاءِ في المعنى، واللُّغْزُ يَرْجِعُ إلى الخفاءِ في اللفظِ، فمِثَالُ التَّعْمِيَةِ قولُهُ:
ما مِثْلُ قَوْلِكَ للذي = يَشْكُو الحبيبَ اسْكُتْ رَجَعَ
أيْ: ما مِثْلُ قولِكَ للشخصِ الذي يَشْكُو الحبيبَ عندَكَ: اسْكُتْ عن هذهِ الشكايةِ فإِنَّهُ رَجَعَ عَمَّا تَشْكُوهُ بهِ، فمرادُهُ السؤالُ عن اللفظِ المماثلِ لقولِكَ: اسْكُتْ، وهو صَهْ، فَإِنَّهُ مثلَ اسْكُتْ وعن اللفظِ المماثلِ لِرَجَع, وهو باءٌ، فَإِنَّهُ مثلَ رَجَع، فالذي مثلَ قَوْلِكَ اسْكُتْ رَجَعَ: صَهْ بَاءَ، فإنَّ مَعْنَاهُمَا اسْكُتْ رَجَعَ، ومثالُ اللغزِ قولُ الآخرِ:
يَا أَيُّهَا العَطَّارُ أَعْرِبْ لَنَا = عَنِ اسْمِ شَيْءٍ قَلَّ في سَوْمِكَ
تَرَاهُ العَيْنُ فِي يَقَظَةٍ = كَمَا تَرَى بِالقَلْبِ فِي نَوْمِكَ
أي: بَيِّنْ لنا عن اسمِشيءٍ قليلٍ في نَوْمِكَ لهُ صفةٌ ذلكَ: أنَّكَ تَرَاهُ بالعينِ في حالِ اليقظةِ, كما تَرَاهُ بالقلبِ في نَوْمِكَ، وهو الكَمُّونُ، فَإِنَّكَ إِذْ قَلَبْتَ نَوْمَكَ وَقَرَأْتَهُ مِنْ آخِرِهِ صَارَ كَمُّونًا، وَقَدْ أَحْسَنَ بَعْضُهُم حَيْثُ قَالَ:
إِنَّمَا الْأَلْغَازُ عَيْبٌ يُجْتَنَبْ = فَاتْرُكَنْهَا وَالْتَزِمْ حُسْنَ الْأَدَبْ
إِنَّ مِنْ أَقْبَحِهَا قَوْلَهُمْ = عَاجِزٌ أَعْمَى تَرَقَّى فَانْقَلَبْ
أي: لفظُ عَاجِزٍ أَعْمَى، أي: بإزالةِ العينِ منهُ تَرَقَّى بِجَعْلِ آحَادِهِ عَشَرَاتٍ، فالألفُ بواحدٍ تُجْعَلُ بِعَشَرَةٍ، والحرفُ الذي في الحسابِ بِعَشَرَةٍ، هو الياءُ والجيمُ بثلاثةٍ تُجْعَلُ بثلاثينَ، والحرفُ الذي في الحسابِ بثلاثينَ هو اللامُ والزايُ بسبعةٍ تُجْعَلُ بسبعينَ، والحرفُ الذي في الحسابِ بِسَبْعِينَ هو العينُ فانْقَلَبَ بِقِرَاءَتِهِ من آخرِهِ فَصَارَ اسمَ عَلِيٍّ.
قولُهُ: (يُقالُ: أَلْغَزَ فِي كَلَامِهِ عَمَّى وَشَبَّهَ) أي: أَخْفَى وأَوْقَعَ الشَّبَهَ بِمَعْنَى الاشتباهِ في الكلامِ.
(وقولُهُ: واليَرْبُوعُ في جُحْرِهِ) أي: ويُقَالُ: ألغزَ اليربوعُ في جُحْرِهِ فهو معطوفٌ على فاعِلِ أَلْغَزَ في كلامِهِ.
(وقولُهُ: مَالَ يَمِينًا وَشِمَالًا في حَفْرِهِ) أي: مَالَ في حَفْرِ جُحْرِهِ جِهَةَ اليَمِينِ وَجِهَةَ الشِّمَالِ، واليَرْبُوعُ بِفَتْحِ الياءِ حيوانٌ قصيرُ اليدَيْنِ طويلُ الرِّجْلَيْنِ يَحْفِرُ جُحْرَهُ في مَهَبِّ الرياحِ الأربعِ، ويَتَّخِذُ فيهِ كُوًى إِحْدَاهَا تُسَمَّى النافِقَاءَ، والثانيةُ القاصِعَاءَ، والثالثةُ الراهِطَاءُ، فإذا طُلِبَ من هذهِ الكُوَّةِ خَرَجَ من النافقاءِ، وإذا طُلِبَ من النافقاءِ خَرَجَ من القاصِعاءِ، وهوَ من الحيوانِ الذي لهُ رَئِيسٌ مُطَاعٌ, فإنْ قَصَّرَ رَئِيسُهُم حتى أَدْرَكَهُم أَحَدٌ وصادَ مِنْهُم شيئًا اجْتَمَعُوا على رَئِيسِهِم وقَتَلُوهُ, ووَلَّوْا غَيْرَهُ ويَحِلُّ أَكْلُهُ؛ لأنَّ العربَ تَسْتَطِيبُهُ، وقالَ أبو حَنِيفَةَ: لا يُؤْكَلُ؛ لأنَّهُ من حشراتِ الأرضِ.
(قولُهُ: ومعنى البيتِ) أي: مَعْنَى جُمْلَتِهِ؛ لِأَنَّهُ قد ذَكَرَ معنَى مُفْرَدَاتِهِ، فَغَرَضُهُ هنا ذِكْرُ مَعْنَى جُمْلَتِهِ.
(قولُهُ: في علمِ الفرائضِ على مَذْهَبِ زَيْدٍ) كانَ مُقْتَضَى الحَالِ السابقِ أنْ يقولَ: في مذهبِ زيدٍ من أَوَّلِ الأمرِ فَلَعَلَّهُ زادَ ذلكَ تَوْضِيحًا.
(قولُهُ: مُخْتَصَرًا) أَخَذَهُ من قولِهِ: عن إيجازٍ, أي: اختصارٍ.
(وقولُهُ: واضِحًا مُنَزَّهًا إلخ) أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ: مُبَرَّأً عَنْ وَصْمَةِ الأَلْغَازِ.
(وقولُهُ: عنْ عيبِ الخَفَاءِ) الإضافةُ للبيانِ.
قَوْلُهُ: (مُقَدِّمَةٌ) خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ على ما هوَ أظهرُ الاحتمالاتِ في مثلِ هذا المقامِ، والمُقَدِّمَةُ في الأصلِ صفةٌ مأخوذةٌ مِن (قَدِمَ) اللازمِ بِمَعْنَى تَقَدَّمَ، فهي بِمَعْنَى مُتَقَدِّمَةٍ أو مِن (قَدِمَ) المُتَعَدِّي يُقَالُ: قَدَّمَ زَيْدٌ عُمَرَ فَهِيَ بِمَعْنَى مُقَدِّمَةِ مَن اعْتَنَى بها, وعلى هَذَيْنِ الوجهَيْنِ، فهيَ بكسرِ الدالِ، وَيَجُوزُ فَتْحُهَا عل أنَّهَا مِن قَدِمَ المُتَعَدِّي، فَهِيَ بِمَعْنَى أنَّ الغيرَ قَدَّمَها ثم نُقِلَتْ وَجُعِلَتْ اسْمًا للطائفةِ المُتَقَدِّمَةِ أمامَ الجيشِ، ثم نُقِلَتْ في الاصطلاحِ لمُقَدِّمَةِ الكتابِ، ومُقَدِّمَةِ العلمِ، والأُولَى: اسمٌ لألفاظٍ تَقَدَّمَتْ أمامَ المقصودِ لارتباطٍ لهُ بها، وانتفاعٍ بها فيهِ كَمُقَدِّمَةِ الشيخِ السَّنُوسِيِّ التي ذَكَرَهَا بقولِهِ: اعْلَمْ أنَّ الحُكْمَ العقليَّ إلخ.
والثانيةُ: اسمٌ لِمَعَانٍ يَتَوَقَّفُ عليها الشروعُ في المقصودِ على وَجْهِ البَصِيرَةِ كَحَدِّهِ وموضوعِهِ وغَايَتِهِ إلى آخرِ المبادي العَشَرَةِ المَنْظُومَةِ في قولِ بعضِهِم:
إنَّ مَبَادِي كُلِّ فَنٍ عَشَرَةٌ = الحَدُّ والموضوعُ ثُمَّ الثَّمَرَةُ
وفَضْلُهُ ونَسَبُهُ والواضعْ = والاسمُ الاستِمْدَادُ حُكْمُ الشارعْ
مسائلُ والبعضُ بالبعضِ اكْتَفَى = ومَنْ دَرَى الجَمِيعَ حَازَ الشَّرَفَا
وهذهِ المُقَدِّمَةُ مُقَدِّمَةُ عِلْمٍ؛ لأنَّ الشرحَ ذَكَرَ حَدَّ العلمِ وموضوعَهُ وحَذَفَ غايتَهُ التي هيَ ثَمَرَتُهُ؛ لأنَّهَا تُعْلَمُ من التعريفِ حيثُ قالَ فيهِ: المُوَصِّلُ لمعرفةِ ما يَخُصُّ كلَّ ذِي حَقٍّ من التَّرِكةِ فَيُعْلَمُ أنَّ غَايَتَهُ مَعْرِفَةُ ما يَخُصُّ كلَّ ذِي حَقٍّ من التركةِ فَتَحَصَّلَ أنَّ مُقَدِّمَةَ الكتابِ ألفاظٌ، ومُقَدِّمَةَ العلمِ مَعَانٍ، فبينَهُمَا التَّبَايُنُ، لكنْ بينَ ذاتِ مُقَدِّمَةِ الكتابِ والألفاظِ الدالَّةِ على مُقَدِّمَةِ العلمِ العمومُ والخصوصُ الوَجْهِيُّ يَجْتَمِعَانِ فيما إذا ذَكَرَ المُؤَلِّفُ قبلَ المقصودِ الألفاظَ الدالَّةَ على مُقَدِّمَةِ العلمِ, كأنْ ذَكَرَ الألفاظَ الدالَّةَ على الحدِّ والموضوعِ والغايةِ، فهذهِ الألفاظُ مُقَدِّمَةُ كتابٍ، وَدَالُّ مُقَدِّمَةُ علمٍ، وتَنْفَرِدُ مُقَدِّمَةُ الكتابِ فِيمَا إذا ذَكَرَ المُؤَلِّفُ قبلَ المقصودِ غيرَ تلكَ الألفاظِ كَمُقَدِّمَةِ الشيخِ السَّنُوسِيِّ فَيُقَالُ لها: مُقَدِّمَةُ كتابٍ فقطْ، وَيَنْفَرِدُ دالُّ مُقَدِّمَةِ العلمِ فيما إذا ذَكَرَ المُؤَلِّفُ الألفاظَ الدالَّةَ على الحدِّ والموضوعِ إلخ بعدَ المقصودِ كَمَا وَقَعَ في بعضِ الكُتُبِ، فَيُقَالُ لهذهِ الألفاظِ: دَالُّ مُقَدِّمَةِ العلمِ؛ لأنَّ مَدْلُولَهَا معانٍ يَتَوَقَّفُ عليْها الشروعُ في المقصودِ، وَإِنْ ذُكِرَتْ دَوَالُّهَا آخِرًا، ولا يُقَالُ لها: مُقَدِّمَةُ كتابٍ؛ لِأَنَّهَا لم تَتَقَدَّمْ أمامَ المقصودِ حَتَّى يُقَالَ لها: مُقَدِّمَةُ كتابٍ، وَجَعَلَ المُحَقِّقُ الأميرُ بَيْنَهُمَا عُمُومًا وَخُصُوصًا مُطْلَقًا لا وَجْهِيًّا؛ لِأَنَّ المعانيَ التي يَتَوَقَّفُ عليها الشروعُ في المقصودِ إنْ أُخِّرَتْ لمْ تَكُنْ مُقَدِّمَةً، فَإِنْ قيلَ: جَعْلُ مُقَدِّمَةِ الكتابِ ألفاظًا ومُقَدِّمَةِ العلمِ معانِيَ تَحَكُّمٌ؟ أُجِيبَ بأنَّهُ لا تَحَكُّمَ؛ لِأَنَّ الكتابَ اسمٌ للألفاظِ، فَنَاسَبَ أنْ تكونَ مُقَدِّمَتُهُ كذلكَ، والعلمُ اسمٌ للمعانِي فَنَاسَبَ أنْ تكونَ مُقَدِّمَتُهُ كذلكَ، على أَنَّهُ اصطلاحٌ، ولا مُشَاحَّةَ في الاصطلاحِ.
(قولُهُ: علمُ الفرائضِ هو إلخ) عُلِمَ من هذا التعريفِ أنَّ حقيقةَ عِلْمِ الفرائضِ مُرَكَّبَةٌ من فِقْهِ المواريثِ، وعلمِ الحسابِ المخصوصِ, أَعْنِي: المُوَصِّلَ إلخ، وقدْ سَبَقَ أنَّ كلَّ علمٍ يُطْلَقُ على الإدراكِ وعلى القواعدِ والضوابطِ وعلى المَلَكَةِ, فإِنْ أُرِيدَ مِن علمِ الفرائضِ المعنى الأَوَّلُ, وهو الإدراكُ, كانَ فِقْهُ المواريثِ بِمَعْنَى فَهْمِ مسائلِ قِسْمَةِ التَّرِكَاتِ، وَعِلْمُ الحسابِ المَخْصُوصُ بِمَعْنَى إدراكِ مسائلِ الحسابِ المَذْكُورِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: عِلْمُ الفرائضِ هوَ فَهْمُ مسائلِ قِسْمَةِ التركاتِ وإدراكُ مسائلِ الحسابِ المخصوصِ، وَإِنْ أُرِيدَ مِن عِلْمِ الفرائضِ المعنى الثاني, وهوَ القواعدُ والضوابطُ, كَانَ فِقْهُ المواريثِ بِمَعْنَى القواعدِ والضوابطِ المَفْقُوهَةِ المُتَعَلِّقَةِ بالتَّرِكَاتِ، وعلمُ الحسابِ المخصوصُ بِمَعْنَى المسائلِ المعلومةِ المُتَعَلِّقَةِ بالحسابِ المذكورِ, فَكَأَنَّهُ قالَ: علمُ الفرائضِ هو القواعدُ والضوابطُ المَفْقُوهَةُ المُتَعَلِّقَةُ بالتركاتِ والمسائلُ المعلومةُ المُتَعَلِّقَةُ بالحسابِ المَخْصُوصِ، وإِنْ أُرِيدَ مِن عِلْمِ الفرائضِ المعنى الثالثُ, وهو المَلَكةُ, كانَ فِقْهُ المواريثِ بمعنَى الملكةِ التي يَقْتَدِرُ بها على علمِ مسائلِ قِسْمَةِ المواريثِ، وعِلْمُ الحسابِ المخصوصُ بمعنى الملَكَةِ التي يَقْتَدِرُ بها على علمِ مسائلِ الحسابِ المذكورِ، فَكَأَنَّهُ قالَ: علمُ الفرائضِ هوَ الملكةُ التي يَقْتَدِرُ بها على فقهِ مسائلِ قِسْمَةِ التركاتِ والملكةُ التي يَقْتَدِرُ بها عَلَى علمِ مسائلِ الحسابِ المخصوصِ، والاحتمالُ الأَوَّلُ أَقْرَبُ، ثم الثاني، ثم الثالثُ. فَتَدَبَّرْ.
(قولُهُ: فِقْهُ المواريثِ) خَرَجَ فِقْهُ غَيْرِهَا كالوضوءِ والصلاةِ.
(وقولُهُ: عِلْمُ الحسابِ) معطوفٌ على فقهِ المواريثِ، فهو جزءٌ من حقيقةِ علمِ الفرائضِ كَمَا مَرَّت الإشارةُ إليهِ.
(وقولُهُ: المُوَصِّلُ إلخ) صِفَةٌ لعلمِ الحسابِ، ودَخَلَ فيهِ علمُ الجبرِ والمقابلةِ وما أُلْحِقَ بهِ من الطرقِ المعمولِ بها في الوصايا والدَّوْرِيَّاتِ, وَخَرَجَ منهُ ما لا يُوَصِّلُ لذلكَ كالإِرْتِمَاطِيقِيِّ، وهيَ كلمةٌ يُونَانِيَّةٌ معناهَا خواصُّ العددِ، كَقَوْلِهِم كلُّ عددٍ مُسَاوٍ لنصفِ مجموعِ حاشِيَتَيْهِ المُتَسَاوِيَتَيْنِ قُرْبًا أو بُعْدًا كَأَرْبَعَةٍ بينَ خمسةٍ وثلاثةٍ أو ستةٍ واثنينِ وهكذا، فمجموعُ الخمسةِ والثلاثةِ ثمانيَةٌ, وكذا مجموعُ الستةِ والاثنينِ، ونصفُ الثمانيةِ أربعةٌ، فَصَدَقَ أنَّ الأربعةَ سَاوَتْ نِصْفَ مجموعِ الحاشِيَتَيْنِ القَرِيبَتَيْنِ أو البَعِيدَتَيْنِ على السواءِ.
(قولُهُ: لِمَعْرِفَةِ ما يَخُصُّ كلَّ ذِي حَقٍّ من التركةِ) كذا في بعضِ النُّسَخِ الصحيحةِ، وهي ظاهرةٌ، وفي بعضِهَا زِيَادَةُ لفظِ حَقِّهِ بعدَ ذلكَ، وهو لا يُنَاسِبُ إلَّا لو قالَ الشرحُ لإِعْطَاءِ كلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَأَمَّا على ما في الشرحِ فلا يُنَاسِبُ ولا يَسْتَقِيمُ التركيبُ بِذِكْرِهِ إلَّا بِجَعْلِهِ مَجْرُورًا عَطْفَ بيانٍ أو مَنْصُوبًا بتقديرِ أَعْنِي، ولا يَخْفَى أنَّهُ حَشْوٌ لا فائدةَ فيهِ، فالأَوْلَى حَذْفُهُ، ثم إنَّ المتبادِرَ أَنَّ المرادَ مَعْرِفَةُ ما يَخُصُّ كلَّ ذي حَقٍّ من التركةِ بالنسبةِ لحقوقِ الإرثِ، بخلافِ نَحْوِ الديُونِ والأقاريرِ والوصايا، فَذِكْرُهَا في كُتُبِهِ اسْتِطْرَادٌ، وقِيلَ: المرادُ معرفةُ ما يَشْمَلُ ذلكَ ولا اسْتِطْرَادَ. اهـ.
أميرٌ بِتَصَرُّفٍ وزيادةٍ من الحِفْنِيِّ.
(قولُهُ: وموضوعُهُ التَّركاتُ) أي: من حيثُ قِسْمَتُهَا، فموضوعُهُ إِنَّمَا هو قسمةُ التركاتِ، فانْدَفَعَ ما يُقَالُ: إنَّ علمَ الفرائضِ مِن علمِ الفقهِ، وموضوعُهُ عَمَلُ المُكَلَّفِينَ، والتركاتُ ليستْ عَمَلًا، وَوَجْهُ الاندفاعِ أنَّ التركاتِ ليستْ مَوْضُوعَهُ مِن حيثُ ذَاتُهَا, بل مِن حيثُ قِسْمَتُهَا, ولا شَكَّ أنَّ قِسْمَتَهَا عَمَلٌ، وموضوعُ كلِّ فَنٍّ ما يَبْحَثُ فيهِ عن عوارضِهِ الذاتيَّةِ، ومنِ المعلومِ أنَّهُ يُبْحَثُ في علمِ الفرائضِ عن أحوالِ القِسْمَةِ.
(وقولُهُ: لا العددُ) أيْ: لِأَنَّ العددَ موضوعُ علمِ الحسابِ، فلا يكونُ مَوْضُوعًا لغيرِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ علمٍ يَتَمَيَّزُ عن غيرِهِ بِمَوْضُوعِهِ كما يَتَمَيَّزُ بِتَعْرِيفِهِ، فَكَمَا لا يَكُونُ تَعْرِيفُهُ تَعْرِيفًا لغيرِه, لا يكونُ موضوعُهُ مَوْضُوعًا لغيرِهِ، والإلزامُ خَلْطُ عِلْمٍ بآخَرَ، وهو مُمْتَنِعٌ، كذا قالَهُ ابنُ الهائِمِ في شرحِ الكِفايةِ، وتَبِعَهُ الشرحُ، ولذلكَ قالَ: لَا العددُ.
(قولُهُ: خِلَافًَا لِمَنْ زَعَمَ ذلكَ) أي: أُخَالِفُ خِلَافًَا أو أَقُولُ ذلكَ حالَ كَوْنِي مُخَالِفًا لِمَنْ زَعَمَ ذلكَ، وهو العَلَّامَةُ أبو بكرِ بنُ محمدِ بنِ يَحْيَى بنِ عبدِ السلامِ؛ فَإِنَّهُ قالَ ذلكَ في نهايةِ الرَّائِضِ في علمِ الفرائضِ، والإِنْصَافُ أَنَّهُ حيثُ أَدْخَلَ علمَ الحسابِ المُتَقَدِّمَ في تَعْرِيفِهِ أَدْخَلَ العددَ في موضوعِهِ من حيثُ التأصيلُ والتصحيحُ كَمَا قالَهُ العلَّامَةُ الأميرُ، ومَحَلُّ قَوْلِهِم: الموضوعُ لعلمٍ لا يكونُ مَوْضُوعًا لعلمٍ آخرَ، إذا جُعِلَ موضوعًا للعلمِ الآخرِ مُسْتَقِلًّا بخلافِ ما إذا كانَ مُنْضَمًّا لغيرِهِ كما هنا؛فإِنَّ الموضوعَ مجموعُ التركاتِ والعددِ لا العددُ وَحْدَهُ، والشيءُ مع غيرِهِ غيرُهُ في نَفْسِهِ كما نَبَّهَ عليهِ في اللؤلؤةِ نَقْلًا عن شيخِ الإسلامِ.
(قولُهُ: واعْلَمْ) هذه كلمةٌ يُؤْتَى بها لِشَّدَةِ الاعتناءِ بما بَعْدَهَا, والمُخَاطِبُ بذلكَ كلُّ مَن يَتَأَتَّى منهُ العلمُ مَجَازًا؛ لأنَّهُ موضوعٌ لِأَنْ يُخَاطَبَ بهِ مُعَيَّنٌ.
(وقولُهُ: أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ إلخ) أي: أنَّ الحالَ والشأنَ يَتَعَلَّقُ إلخ، فالضميرُ للحالِ والشَّأْنِ.
(وقولُهُ: خمسةُ حقوقٍ) أي: لا زائدَ عليها بدليلِ الاستقراءِ من مواردِ الشرعِ، وأيضًا الحقُّ المُتَعَلِّقُ بالتَّركِةِ, إمَّا ثابتٌ قبلَ الموتِ, وإمَّا ثابتٌ بالموتِ.
والأَوَّلُ إمَّا مُتَعَلِّقٌ بالعينِ وَإمَّا مُتَعَلِّقٌ بالذِّمَّةِ.
والثاني إمَّا للميتِ وهو مُؤَنُ التجهيزِ، وإمَّا لغيرِهِ وهوَ إمَّا أَنْ يَكُونَ ثُبُوتُهُ من جهةِ الميتِ بحيثُ يكونُ لهُ تَسَبُّبٌ في ذلكَ، وهو الوصيةُ أَوَّلًا، وهوَ الإِرْثُ، فالجملةُ خمسةُ حقوقٍ.
(وقولُهُ: مُرَتَّبَةٌ) أي: مُقَدَّمٌ بَعْضُهَا على بعضٍ، فالمرادُ بالترتيبِ هنا كَمَا قالَهُ شيخُ الإسلامِ المعنَى اللُّغَوِيُّ، وهو كَوْنُ كُلِّ شيءٍ في مَرْتَبَتِهِ, لا المعنَى الاصطلاحيُّ، وهوَ كَوْنُ الأشياءِ بحيثُ يُطْلَقُ عليها اسمُ الشيءِ الواحدِ، ويكونُ لِبَعْضِهَا نسبةٌ إلى بعضٍ بالتَّقَدُّمِ والتَّأَخُّرِ. انتهى مُلَخَّصًا من اللؤلؤةِ.
(قولُهُ: أَوَّلُهَا الحَقُّ المُتَعَلِّقُ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ) إنَّمَا قَدَّمَ ذلكَ على مُؤَنِ التجهيزِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ كانَ يُقَدِّمُ بهِ في الحياةِ، نَعَمْ تَعَلَّقُ الغرماءِ بالأموالِ بالحَجْرِ لا يَقْتَضِي أنْ يُقَدَّمَ حَقُّهُم على مُؤَنِ التجهيزِ, بَلْ هيَ تُقَدَّمُ.
(قولُهُ: كالزكاةِ والجِنَايَةِ وَالرَّهْنِ) أَشَارَ بالكافِ إلى أَنَّ أفرادَ الحقِّ المُتَعَلِّقِ بِعَيْنِ التركةِ ليستْ مُنْحَصِرَةً فيما ذَكَرَهُ، وقد نَظَمَهَا بَعْضُهُم في قولِهِ:
يُقَدَّمُ في الميراثِ نَذْرٌ ومَسْكَنٌ =زَكَاةٌ وَمَرْهُونُ مَبِيعٍ لِمُفْلِسِ
وَجَانٍ قِرَاضٌ ثم قَرْضٌ كِتَابَةً = وَرَدٌّ بِعَيْبٍ فَاحْفَظِ العِلْمَ تَرْأَسِ
فصورةُ النذرِ أنْ يقولَ: للهِ عليَّ أنْ أُضَحِّيَ بهذهِ أو أَتَصَدَّقَ بها أو نحوَ ذلكَ. فَيُقَدَّمُ إِخْرَاجُهَا للجهةِ المُعَيَّنَةِ، وهذا مَبْنِيٌّ على أَنَّهُ لَا يَزُولُ مُلْكُهُ عَنْهَا حَتَّى تُذْبَحَ وَيُتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا حَتَّى تُعَدَّ مِن الحقوقِ المُتَعَلِّقَةِ بِعَيْنِ التركةِ، والصحيحُ زوالُ مُلْكِهِ عنها بالنذرِ، وصورةُ المسكنِ سُكْنَى المُعْتَدَّةِ عن وفاةٍ، فَتُقَدَّمُ بها على غَيْرِهَا، وصورةُ الزكاةِ أَنْ تَتَعَلَّقَ الزكاةُ بالنِّصَابِ، ويكونُ النِّصَابُ بَاقِيًا فَتُقَدَّمُ الزكاةُ, لكنْ قالَ السُّبْكِيُّ: لا حاجةَ لِذِكْرِهَا؛ لأنَّهُ إذا كانَ النِّصَابُ بَاقِيًا فالأَصَحُّ أنَّ تَعَلُّقَ الزَّكَاةِ بالنصابِ تَعَلُّقُ شَرِكَةٍ فَلَا يَكُونُ قَدْرُ الزكاةِ تَرِكَةً, وَأَجَابَ عَنْهُ شَيْخُ الإسلامِ بِصِحَّةِ إطلاقِ التركةِ على المجموعِ الذي منهُ قَدْرُ الزكاةِ، ولو قُلْنَا بالأَصَحِّ مِن أنَّ تَعَلُّقَهَا تَعَلُّقُ شَرِكَةٍ نَظَرًا لِجَوَازِ تَأْدِيَةِ الزكاةِ مِن مَحَلٍّ آخَرَ, وَأَمَّا إِذَا كَانَ النِّصَابُ تَالِفًا فَتَكُونُ الزكاةُ من الديونِ المُرْسَلَةِ في الذِّمَّةِ كما في شرحِ الترتيبِ, وصورةُ المَرْهُونِ أَنْ تَكُونَ التَّرِكَةُ مَرْهُونَةً بِدَيْنٍ على المَيِّتِ فَيُقْضَى منها دَيْنُهُ مُقَدَّمًا على مُؤَنِ التَّجْهِيزِ وَسَائِرِ الحقوقِ، وصورةُ المبيعِ لِلْمُفْلِسِ أنْ يَشْتَرِيَ عَبْدًا مَثَلًا بِثَمَنٍ في ذِمَّتِهِ وَيَمُوتُ المُشْتَرِي مُفْلِسًا وَيَجِدُ البَائِعُ مَبِيعَهُ فَلَهُ الفَسْخُ وَأَخْذُ المَبِيعِ فَيُقَدَّمُ بهِ، وَاسْتَشْكَلَهُ السُّبْكِيُّ بِأَنَّهُ إِذَا فَسَخَ خَرَجَ المَبِيعُ عَن التركةِ فَلَا اسْتِثْنَاءَ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الفسخَ إِنَّمَا يَرْفَعُ العَقْدَ مِن حِينِهِ لا مِن أَصْلِهِ على الصحيحِ، وخُرُوجُهُ عن التركةِ من حينِ الفسخِ لا يَضُرُّ كَمَا لا يَضُرُّ خُرُوجُ العبدِ الجَانِي عَمَّا يَبِيعُهُ في الجِنَايَةِ، وصورةُ الجانِي أنْ يَقْتُلَ العبدُ نَفْسًا أو يَقْطَعَ طَرَفًا خَطَأً أو شِبْهَ عَمْدٍ أو عَمْدًا لا قِصَاصَ فيهِ كَقَتْلِهِ وَلَدَهُ أو فيهِ قصاصٌ, ولكنْ عُفِي على مالٍ أو أَتْلَفَ مالَ إنسانٍ ثم مَاتَ سَيِّدُ العبدِ، وَأَرْشُ الجِنَايةِ مُتَعَلِّقٌ بِرَقَبَتِهِ فَالمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مُقَدَّمٌ في هذهِ الصورةِ بِأَقَلِّ الأَمْرَيْنِ مِن أَرْشِ الجِنَايَةِ وَقِيمَةِ العبدِ، وصورةُ القِرَاضِ أَنْ يُقَارِضَهُ على مائةِ رِيَالٍ لِيَتَّجِرَ فيها والرِّبْحُ بَيْنَهُمَا مُنَاصَفَةً مَثَلًا، فَبَعْدَ أنْ ظَهَرَ الرِّبْحُ وقبلَ قِسْمَتِهِ ماتَ ربُّ المالِ، فالعاملُ مُقَدَّمٌ بِحِصَّتِهِ من الربحِ، وصورةُ القرضِ أَنْ يُقْرِضَهُ دِينارًا ثم يَمُوتُ المُقْتَرِضُ عن عَيْنِ المالِ الذي اقْتَرَضَهُ فالمُقْتَرِضُ مُقَدَّمٌ بهِ، وصورةُ الكتابةِ أنْ يَقْبِضَ السيِّدُ نُجُومَ الكتابةِ مِن المُكَاتِبِ وَيَمُوتَ قبلَ الإيتاءِ الواجبِ عليهِ، فالمُكَاتِبُ مُقَدَّمٌ على غَيْرِهِ بِأَقَلِّ مُتَمَوَّلٍ؛ لِأَنَّهُ الواجبُ في الإيتاءِ، وصورةُ الردِّ بالعيبِ أنْ يَرُدَّ المُشْتَرِي المَبِيعَ بِعَيْبٍ بعدَ موتِ البائعِ، وكانَ الثَّمَنُ بَاقِيًا، فَيُقَدَّمُ بهِ المُشْتَرِي وَلَو اجْتَمَعَ بعضُ هذهِ الحقوقِ مع بعضٍ قُدِّمَ منها كما في شرحِ الجعبريِّ: الزكاةُ، ثم حَقُّ الجِنَايَةِ، ثم حَقُّ الرهنِ، ثم حَقُّ بَيْعِ المُفْلِسِ، ثم حَقُّ القِرَاضِ. وانْظُر البَوَاقِيَ.
(قولُهُ: فَيُقَدَّمُ عَلَى مُؤَنِ التَّجْهِيزِ) أي: فَيُقَدَّمُ الحَقُّ المُتَعَلِّقُ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ عَلَى مُؤَنِ التَّجْهِيزِ خِلَافًا للحَنَابِلَةِ كما في اللؤلؤةِ.
(قولُهُ: والثاني مُؤَنُ التَّجْهِيزِ) إِنَّمَا قُدِّمَتْ على الديونِ المُرْسَلَةِ؛ لِأَنَّ الحَيَّ إذا حُجِرَ عليهِ بالفلسِ يُقَدَّمُ بما يَحْتَاجُ إليهِ على ديونِ الغرماءِ، فكذا المَيِّتُ بل أَوْلَى؛ لِأَنَّ الحَيَّ يَسْعَى على نَفْسِهِ، والمَيِّتَ قد انْقَطَعَ عن سَعْيِهِ؛ ولأنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ في المُحْرِمِ الذي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ: ((كَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ)).
وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَمْ لَا, وَتَرْكُ الاسْتِفْصَالِ في وقائعِ الأحوالِ، إذا كانتْ قَوْلِيَّةً يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ العمومِ في المقالِ، وإذا ثَبَتَ ذلكَ في الكفنِ فَسَائِرُ مُؤَنِ التجهيزِ في معناهُ. أَفَادَهُ في اللؤلؤةِ نَقْلًا عن شيخِ الإسلامِ.
(قولُهُ: بالمعروفِ) أيْ: حَالَةَ كَوْنِهَا مُتَلَبِّسَةً بالمعروفِ، بِحَيْثُ تَكُونُ مِن غيرِ إِسْرَافٍ ولا تَقْتِيرٍ ولا نَظَرَ إلى ما كانَ عليهِ في الحياةِ مِن إِسْرَافِهِ وَتَقْتِيرِهِ. انْتَهَى لؤلؤة.
(قولُهُ: فَإِذَا كَانَ المَيِّتُ فَاقِدًا إلخ) لَا حَاجَةَ لَهُ فِي المَقَامِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ التَّفْصِيلِ الذي يُذْكَرُ في كُتُبِ الفِقْهِ.
(قولُهُ: فَتَجْهِيزُهُ على مَنْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ في حالِ الحياةِ) أي: وَلَوْ بالقُوَّةِ فَيَشْمَلُ ما لوْ كانَ المَيِّتُ ابْنًا بَالِغًا صَحِيحًا لِعَجْزِهِ بالموتِ، وما لوْ كانَ المَيِّتُ مُكَاتَبًا؛ لِأَنَّ الكِتَابَةَ تَنْفَسِخُ بالموتِ، وأَمَّا المبعضُ فَمُؤَنُ تَجْهِيزِهِ على قَرِيبِهِ وعَلَى سَيِّدِهِ بِحَسَبِ مَا فِيهِ من الرِّقِّ وَالحُرِّيَّةِ إِنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ مُهَايَأَةٌ وَإِلَّا فَعَلَى مَنْ مَاتَ فِي نَوْبَتِهِ وَلَوْ مَاتَ مِن تَجِبُ نَفَقَتُهُ على غَيْرِهِ وَقَبْلَ أَنْ تُخْرَجَ مُؤَنُ تَجْهِيزِهِ مَاتَ صَاحِبُ المَالِ وَضَاقَتْ تَرِكَتُهُ فَهَلْ يُقَدَّمُ الأَوَّلُ لِتَقَدُّمِ حَقِّهِ أو الثاني لِتَبَيُّنِ أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ تَجْهِيزِ غَيْرِهِ؟ خِلَافٌ, والمُعْتَمَدُ الثاني.
(قولُه: فإن تعذَّرَ ففي بيتِ المالِ) ولا يُزادُ في كفَنِ مَن جُهِّزَ من بيتِ المالِ على ثوبٍ واحدٍ, وكذا مَن كُفِّنَ مِن وَقْفٍ على الأكفانِ فلا تَجوزُ الزيادةُ عليه في هاتين الصورتين, وأما مَن كُفِّنَ من مالِ مَن تَجبُ عليه نفقتُه, أو مِن مالِ أغنياءِ المسلمين فتَجوزُ الزيادةُ فيها على الثوبِ الواجبِ كما في اللؤلؤةِ نقلاً عن شيخِ الإسلامِ.
(قولُه: فإن تَعذَّرَ فعلى أغنياءِ المسلمين) أي: فرْضُ كِفايةٍ كنفقتِه في مِثلِ هذا الحالِ, والمرادُ بأغنياءِ المسلمين مَن عندَه كفايةُ سنةٍ وزيادةُ مُؤَنِ التجهيزِ.
(قولُه: وهذا إلخ) تقييدٌ لأصلِ الكلامِ أَعْنِي تَعلُّقَ مُؤَنِ التجهيزِ بالترِكةِ, فاسمُ الإشارةِ عائدٌ لكونِ مُؤَنِ التجهيرِ تَخرُجُ من التَّرِكَةِ وقولُه: في غيرِ الزوجةِ أي: غيرِ الزوجةِ التي تَجِبُ نفقتُها أخْذًا مما بعدُ فيَصدُقُ بالزوجةِ التي لا تَجِبُ نفقتُها لنشوزٍ أو صِغَرٍ أو لعدَمِ تسليمِها له ليلاً ونهارًا, و هي أَمَةٌ وقولُه: وأما الزوجةُ التي تَجِبُ نفقتُها إلخ مِثلَ الزوجةِ خادمتُها غيرُ الْمُكتراةِ؛إذ ليس لها إلا الأُجرَةُ وشَمِلَت الزوجةَ الرجعيَّةَ ومِثلَها المطلَّقةُ بائنًا وهي حاملٌ وقولُه: فمُؤَنُ تجهيزِها على الزوجِ المُوسِرِ أي: لا مِن تَرِكَتِها وخرَجَ بالزوجِ ابنُه فلا يَلزَمُه تجهيزُ زوجةِ أبيه, وإن لزِمَه نفقتُها في الحياةِ, وخرَجَ بالموسِرِ المُعْسِرُ فلا يَلزَمُه مُؤَنُ تجهيزِها فتَخرُجُ من أصْلِ تَرِكَتِها, لامن حِصَّتِه فقط, وضابِطُ المعسِرِ مَن لا يَلزَمُه إلانفقةُ المُعْسِرين, ويُحتَمَلُ أن يُقالَ: مَن ليس عندَه فاضِلٌ عما يَترُكُ للمُفلِسِ وضابطُ الموسِرِ على العكْسِ فيهما ولو صارَ موسرًا بما أبْحَرَ إليه من الإرثِ لزِمَه مُؤَنُ تجهيزِها, وهذا مذهَبُ الشافعيَّةِ وكذا الحنفيَّةُ, وأما عندَ غيرِهما فمُؤَنُ تجهيزِها من تَرِكَتِها, ولو كان الزوجُ غنيًّا, ووجْهُ الأوَّلِ أن عَلاقةَ الزوجةِ باقيةٌ؛لأنه يَرِثُها ويُغَسِّلُها ونحوَ ذلك ووَجْهُ الثاني أن التجهيزَ من توابعِ النفقةِ والنفقةُ وجَبَتْ للاستمتاعِ وهو قد انقطعَ بالموتِ.
(قولُه: والثالثُ الديونُ الْمُرْسَلَةُ في الذمَّةِ) أي: الْمُطْلَقَةُ عن تعلُّقِها بعين التَّرِكَةِ وإنما قُدِّمَتْ على الوصيَّةِ؛لأنها حقٌّ واجبٌ على الميِّتِ فقضاؤُه واجبٌ والوصيَّةُ تبَرُّعٌ, فلذلك أُخِّرَتْ فإن قيلَ قد قُدِّمَت الوصيَّةُ على الدَّيْنِ في قولِه تعالى:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْدَيْنٍ} أُجِيبَ بأنها قُدِّمَتْ في الآيةِ للاهتمامِ بشأنِها؛لأن شأنَها أن تَشِحَّ بها الأنفسُ؛ لكونِها مأخوذةً لا في نظيرِ شيءٍ, وبَيَّنَت السُّنَّةُ تقديمَ الدَّيْنِ عليها, ويَجِبُ تقديمُ دَيْنِ اللهِ تعالى على دَيْنِ الآدميِّ إذا مات قَبْلَ أدائِهما, وضاقَت التَّرِكَةُ عنهما لقولِه عليه الصلاةُ والسلامُ:((دَيْنُ اللهِ أَحَقُّ بالقضاءِ)). أما قبلَ الموتِ فإن كان محجورًا عليه قُدِّمَ دَيْنُ الآدميِّ جزْمًا, وإلا قُدِّمَ حقُّ اللهِ جزْمًا, ومَحَلُّ هذا التفصيلِ إن لم تَتعلَّق الزكاةُ بالعينِ, وإلا قُدِّمَتْ سواءٌ كان محجورًا عليه أم لا, ولو اجتمَعَ عليه ديونٌ للهِ تعالى فالأوجَهُ كما قالَه السُّبْكِيُّ إنه إن كان النِّصابُ موجودًا قُدِّمَت الزكاةُ, وإلا فالتسويةُ, ومن حقِّ اللهِ إسقاطُ الصلاةِ إذا أَوْصَى به, وهو لكلِّ صلاةٍ نصفُ صاعٍ, ولو الوِترَ عندَ الحنفيَّةِ كما في شرْحِ السراجيَّةِ للسيَّدِ الْجُرْجانيِّ, وإذا كثُرَت الصلاةُ كَفَّت الْحِيلةُ و هي كما ذكَرَه النبتيتيُّ هنا أن يُخْرِجَ الكفارةَ عن صلاةٍ للمسكينِ, ثم يَهَبُها المسكينُ للمتصدِّقِ, ثم يُخرِجُها له عن صلاةٍ أُخرى, وهكذا حتى يَبْرَأ مَن عليه الصلاةُ, وقد نُقِلَ عن الْمُزنيِّ ذلك فيَنبغي أن تُفْعَلَ احتياطاً انتهى ملخَّصًا من اللؤلؤةِ وحاشيةِ الشيخِ الأميرِ.
(قولُه: والرابعُ الوصفيَّةُ إلخ) إنما قُدِّمَتْ على الإرثِ تقديمًا لمصلحةِ الميِّتِ كما في الحياةِ, ولقولِه تعالى : {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا} وقولُه: بالثلُثِ إلخ كان الأَوْلَى حذْفَ ذلك من هنا؛لأن التفصيلَ بينَ الإمضاءِ والردِّ لأغراضٍ لا تَخُصُّنا إذ الغرَضُ هنا ذكْرُ الترتيبِ وقولُه: لأجنبيٍّ أي: مَن ليس بوارثٍ وإنْ كان قريبًا مِمَّن لا يرِثُ, وقولُه: فإن كانت بأكثرَ من الثلُثِ أو كانت لوارثٍ وقولُه: ففيها تفصيلٌ إلخ وهو أنه إن كان للميِّتِ وارثٌ خاصٌّ فوصيَّتُه بأكثرَ من الثلُثِ منعقدةٌ, لكن تَتوقَّفُ على إجازةِ الورثةِ بالنِّسبةِ للزائدِ, وإن لم يكنْله وارثٌ خاصٌّ فوصيَّتُه صحيحةٌ في قدْرِ الثلُثِ باطلةٌ فيما زادَ عليه؛لأن الحقَّ للمسلمين ولا مُجيزَ ولا تَتخرَّجُ على قولي تفريقِ الصفقةِ فهو مستَثْنًى من القاعدةِ المعروفةِ, وإذا أَوْصى للوارثِ توقَّفَت الوصيَّةُ على إجازةِ باقي الورثةِ ولو كانت بأقلِّ متموِّلٍ.
(قولُه: والخامسُ الإرثُ) المرادُ به تسلُّطُ الوارثِ على التَّرِكَةِ بالتصرُّفِ ليَصِحَّ تَأخُّرُه عما قبلَه, وإلا فالأصحُّ أن الدَّيْنَ لا يَمْنَعُ انتقالَ التَّرِكَةِ إلى مِلْكِ الوارثِ . انتهى لؤلؤة.
(قولُه: وهو) أي: الإرثُ لا بمعنى التسلُّطِ المذكورِ بل بمعنى الاستحقاقِ, وقولُه: المقصودُ بالذاتِ أي: المقصودُ لذاتِه وأما غيرُه فهو مقصودٌ لغيرِه.
(قولُه: وله أركانٌ) أي : للإرثِ بمعنى الاستحقاقِ أركانٌ لا يَتحقَّقُ إلا بها, فمَن ماتَ ولاوارثَ له أو له وارثٌ ولا مالَ له فلا إرثَ منه, وقولُه: و هي ثلاثةٌ؛ مورِّثٌ إلخ فإذا ماتَ زيدٌ عن ابنِه, وخلَّفَ شيئًا,فزيدٌ مورِّثٌ, وابنه وارِثٌ, والشيءُ الذي خلَّفَه حقٌّ موروثٌ, ولو لم يَصِحَّ بيعُه كالاختصاصِ, ومنه كلْبُ الصيدِ مَثلاً, ولو لم يكنْ مالاً ولا اختصاصًا كالقَصاصِ وحَدِّ القذْفِ.
(قولُه: وله شروطٌ) أي: للإرثِ شروطٌ وهي ثلاثةٌ : تَحقُّقُ موتِ المورِّثِ, أو إلحاقُه بالموتى حكمًا, كما في المفقودِ إذا حَكَمَ القاضي بموتِه, أو تقديرًا كما في الْجَنينِ الذي انفَصَلَ بِجِنايةٍ على أمِّه تُوجِبُ غُرَّةً, وتَحَقُّقُ حياةِ الوارثِ بعدَ موتِ المورِّثِ أو إلحاقُه بالأحياءِ تقديرًا كحَمْلٍ انفَصَلَ حيًّا حياةً مستقرَّةً لوقتٍ يَظهَرُ منه وجودُه عندَ الموتِ ولو نُطفةً, والعلْمُ بالجهةِ الْمُقتضيَةِ للإرثِ وهذا مُختَصٌّ بالقاضي, ومِثلُه المفتِي, وقولُه: يُعلَمُ أكثرُها من ميراثِ إلخ المرادُ بالأكثرِ الشرطان الأوَّلان وخرَجَ بالأكثرِ الشرطُ الثالثُ فإنه لا يُعلَمُ مما ذُكِرَ وقولُه: وسيأتي أي: الأكثرُ.
(قولُه: وله أسبابٌ وموانعُ) أي: للإرثِ أسبابٌ ثلاثةٌ وموانعُ ثلاثةٌ على ما ذكَرَه المصنِّفُ فيهما, وقولُه: ذكَرَهما أي: الأسبابَ والموانعَ وقولُه: بقولِه أي: في قولِه وظرفيَّةُ الذكْرِ في هذا القولِ المخصوصِ من ظرفيَّةِ العامِّ في الخاصِّ.


  #7  
قديم 3 ذو الحجة 1429هـ/1-12-2008م, 09:16 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي الهدية في شرح الرحبية للشيخ: رشيد بن سليمان القيسي

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ



مقدمة

الحمدُ للهِ حَمْداً كثيراً طيِّباً مبارَكاً، كما يَنبغي لجلالِ وجهِه وعظيمِ سلطانِه، والصلاةُ والسلامُ على المبعوثِ رحمةً للعالمين، سيِّدِنا ونبيِّنَا محمَّدٍ أشرفِ الأنبياءِ والمرسَلين، وعلى آلهِ وصحابتِه أجمعين، ومن اهتَدَى بهداهم واقْتَفَى أثَرَهم إلى يومِ الدِّينِ.
أما بعدُ :
فقد قالَ اللهُ سبحانَه وتعالى في محكَمِ التنزيلِ : {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} .
وقالَ تعالى : {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ، وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهُ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْدَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} .

وقالَ تعالى : {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعْ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ، وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ، وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} .

وقالَ تعالى : {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .

إن فقهَ المواريثِ من العلومِ الشرعيَّةِ الْمُهِمِّةِ ، وهذه الآياتُ البيِّناتُ وغيرُها تُبَيِّنُ أن اللهَ تَباركَ وتعالى قد فَرَضَ المواريثَ بعلْمِه وحكْمتِه سبحانَه، وأَعْطَى كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ من الإرْثِ، وسَمَّى هذه الفرائضَ بحدودِه، قالَ العلَّامةُ ابنُ عُثَيْمِينَ : (ووَعَدَ من أَطاعَه في هذه الحدودِ، وتَمَشَّى فيها على ما حَدَّه وفرَضَه جَناتٍ تَجري من تحتِها الأنهارُ خالداً فيها مع الذين أنْعَمَ اللهُ عليهم من النبيِّين والصدِّيقين والشهداءِ والصالحين، وتَوعَّدَ من خالَفَه وتَعَدَّى حدودَه بأن يُدخِلَه ناراً خالداً فيها وله عذابٌ مُهِينٌ.

كما امتَنَّ بفضلِه علينا بالبيانِ التامِّ حتى لا نَضِلَّ ولا نَهلِكَ فللهِ الحمدُ ربِّ العالمين.
واعلَمْ أنك إذا جَمَعْتَ قولَه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأُولى رَجُلٍ ذَكَرٍ) إلى آياتِ المواريثِ؛ وجَدْتُها قد استَوعَبَتْ عامَّةَ أحكامِ المواريثِ ومُهمَّاتِه) ا هـ.

قالَ ابنُ قُدامَةَ :(قالَ أهلُ العلْمِ : كان التوارُثُ في ابتداءِ الإسلامِ بالحِلْفِ، فكان الرجلُ يقولُ للرجلِ : دَمِي دمُك، ومالي مالُك، تَنصرُني وأَنصرُك، وتَرِثُني وأَرِثُكَ، فيَتعاقدان الحِلْفَ بينَهما على ذلك، فيَتَوارثان به دونَ القرابةِ، وذلك قولُ اللهِ عزَّ وجَلَّ : {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}. ثم نُسِخَ ذلك وصارَ التوارُثُ بالإسلامِ والهجرةِ، فإذا كان له ولدٌ ولم يُهاجِرْ وَرِثَهُ المهاجرون دونَه، وذلك قولُه عَزَّ وَجَلَّ : {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شِيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} . ثم نُسِخَ ذلك بقولِ اللهِ تعالى : {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ } ا هـ.

إن أهمِّيَّةَ علْمِ الفرائضِ وفقهِ المواريثِ لا تَخْفَى على طالبِ العلْمِ، ويَكفي في أهمِّيَّةِ هذا العلْمِ أن اللهَ تعالى تَوَلَّى بنفسِه تقديرَ الفرائضِ وقِسمتَها كما وَرَدَ في كتابِه، وجاءت السنَّةُ النبويَّةُ شارِحةً بوضوحٍ أحكامَ هذا العلْمِ، وموضِّحَةً فَضْلَ التفقُّهِ في الدينِ، وقد قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ) .

وقالَ عمرُ بنُ الخطَّابِ رضِيَ اللهُ عنه : (تَعلَّموا الفرائضَ، واللَّحْنَ،والسنَّةَ، كما تَعلَّمون القرآنَ) .

وقالَ القُرْطُبِيُّ : (فإن الفرائضَ عظيمةُ القدْرِ حتى إنها ثلُثُ العلْمِ، ورُوِيَ : نِصفُ العلْمِ، وهو أوَّلُ علْمٍ يُنتزَعُ من الناسِ ويُنْسَى.... وإذا ثَبَتَ هذا فاعلَمْ أن الفرائضَ : كان جُلَّ علْمِ الصحابةِ وعظيمَ مناظراتِهم....).
وللهِ دَرُّ القائلِ :


علْمُ الفرائـضِ علْمٌ لا نظيرَ له = يَكفيكَ أن قد تَـولَّى قَسْمَه اللهُ
وبيَّنَ الحـظَّ تِبيـاناً لوَارثِـه = فقالَ سبحـانَه (يُوصِيكُمُ اللهُ)
وفي الكَـلالَةِ فُتْيَـا اللهِ مُنْزَلَةٌ = فبَانَ تشـريفُ ما أَفْـتَى به اللهُ

وفقْهُ المواريثِ عُرِفَ وسُمِّيَتْ مسائلُه بعلْمِ الفرائضِ، ووجْهُ تسميتِهِ بعلْمِ الفرائضِ لما يَشتمِلُ عليه من الحقوقِ المفروضةِ أخْذاً من قولِه تعالى :{نَصِيباً مَفْرُوضاً} تَغْلِيباً للحقوقِ المفروضةِ على الحقوقِ المستحَقَّةِ بالتعصيبِ. ولقد اهتَمَّ علماءُ الأمَّةِ في القديمِ والحديثِ بخدمةِ هذا العلْمِ بالتعليمِ والتدريسِ، وتحريرِ قواعدِه وأصولِه، والتصنيفِ فيه نَظْماً ونَثْراً، بل وما من كتابِ فقْهٍ أُلِّفَ إلا وكتابُ الفرائضِ من فصولِه وأبوابِه وذلك لأهمَّيَّتِه البالغةِ، ومسيسِ الحاجةِ إليه، ومن خلالِ ذلك كَثُرَ التصنيفُ في هذا العلْمِ بمؤلَّفَاتٍ مطوَّلَةٍ ومختَصَرةٍ إما بالنثْرِ أو بالنظْمِ.
وبما أن النظْمَ أسهَلُ للحفْظِ، بل وأقربُ للنفْسِ فقد اعْتَنَى العلْماءُ بنظْمِ علْمِ المواريثِ، ومن هؤلاءِ الإمامُ أبو عبدِ اللهِ محمَّدُ بنُ عليِّ بنِ محمَّدِ بنِ الحسَنِ الرَّحَبِيُّ المعروفُ بابنِ الْمُتَقَّنَةِ، صاحبُ المنظومةِ المشهورةِ بالرحْبيَّةِ أو ما تُعرَفُ ببُغْيَةِ الباحثِ، التي امتازَتْ بحُسْنِ عرْضِها، وجَوْدَةِ مادَّتِها، وسَبْكِ عبارتِها، ووضوحِ معانيها، (وعِدَّةُ أبياتِ هذه المنظومةِ مائةٌ وخمسةٌ وسبعون بيتاً من الرَّجَزِ، بحرٌ من بحورِ الشعْرِ، ووزنُه مُسْتَفْعِلُنْ سِتَّ مرَّاتٍ).
وقد تَلقَّفَها طُلابُ العلْمِ وأَقبَلوا على حِفظِها وفَهمِها ودراستِها، وتَناولَها العلْماءُ بالشرحِ والبيانِ والاختصارِ.
وممن قامَ بشرحِها – وهم كثيرٌ – الإمامُ محمَّدُ بنُ أحمدَ بنِ الشيخِ بدرِ الدينِ الدمشقيُّ المصريُّ الشافعيُّ المشهورُ بسِبْطِ الماردينِيِّ المتوفَّى سنةَ 907هـ وهو شرْحٌ ماتِعٌ لطيفٌ.
وللإمامِ محمَّدِ ابنِ الشيخِ عمرَ البقَرِيِّ حاشيةٌ مفيدةٌ عليه. والشرْحُ مع حاشيتِه طُبِعَا في مجلَدٍ بتحقيقِ الدكتورِ مصطفى ديب البُغا.

وهناك حواشٍ على شرْحِ سِبْطِ الماردينيِّ غيرُ حاشيةِ البقريِّ، من ذلك :
حاشيةُ أحمدَ بنِ عليِّ بنِ محمَّدِ البرماويِّ الذهبيِّ الشافعيِّ الضريرِ المتوفَّى سنة 1222هـ وهي مخطوطةٌ في دارِ الكُتُبِ المصريَّةِ برقمِ 25928ب وتَقَعُ في 51 وَرَقَةٍ.
وحاشيةُ عبدِ اللهِ بن عليٍّ المصريِّ الأزبكيِّ المعروفِ بسويدانَ المتوفَّى سنة 1234هـ وهي في دارِ الكُتُبِ المصريَّةِ برقمِ 19486 ب وتَقَعُ في 12 وَرَقَةٍ.
وحاشيةُ إبراهيمَ بنِ محمَّدِ بنِ أحمدَ البرماويِّ الأنصاريِّ الشافعيِّ المتوفَّى سنة 1106 هـ وهي مخطوطةٌ وتوجَدُ لها نسختان خطِّيَّتان في جامعةِ الملكِ سعودٍ، الأُولى برقمِ 1170 وتَقَعُ في 32 ورقةٍ. والثانيةُ برقمِ 589 وتَقَعُ في 45 ورقةٍ.
وهناك حاشيةٌ أيضاً على شرْحِ سِبْطِ الماردينيِّ لعليٍّ المنشليليِّ من علماءِ القرنِ الثاني عَشَرَ اسْمُها تقريراتٌ على شرْحِ الرحبيَّةِ لسِبْطِ الماردينيِّ وهي مخطوطةٌ ولها نسخةٌ في جامعةِ الملكِ سعودٍ برقمِ 5539 وتَقَعُ في 33 ورقةٍ.
وللإمامِ أحمدَ بنِ محمَّدِ بنِ عليِّ بنِ الهائمِ الشافعيِّ الفَرَضِيِّ 815 هـ كتاباً سَمَّاه : التحفَةُ القُدسيَّةُ في اختصارِ الرحَبيَّةِ وله نُسختان خطِّيَّتان في جامعةِ الملكِ سعودٍ برقمِ 6249م 1139/11.

وممن شرَحَ الرحَبِيَّةَ
الإمامُ عبدُ اللهِ بنُ محمَّدِ بنِ عبدِ اللهِ العَجْمِيُّ الشنشوريُّ 999هـ. بشرحِه المشهورِ بالفوائدِ الشنشوريَّةِ في شرْحِ المنظومةِ الرحْبِيَّةِ وهو شرْحٌ متينٌ مفيدٌ ولأهمِّيَّتِه اعْتَنَى به بعضُ العلْماءِ فوَضَعوا حواشِيَ عليه من ذلك :
حاشيةُ إبراهيمَ بنِ محمَّدِ بنِ أحمدَ الباجوريِّ المعروفةُ بالتحفَةِ الخيريَّةِ على الفوائدِ الشنشوريَّةِ وهي مطبوعةٌ.
وحاشيةٌ لعليٍّ المنشليليِّ تُعرَفُ باسمِ تقييداتٌ على شرْحِ الشنشوريِّ على متْنِ الرحْبِيَّةِ وهي مخطوطةٌ ولها نسخةٌ خطِّيَّةٌ محفوظةٌ في جامعةِ الملِكِ سعودٍ برقمِ 5549 وتَقَعُ في 54 ورقةً.
وحاشيةُ يوسفَ الزيَّاتِ وتُعرَفُ باسمِ وسيلةُ البرِيَّةِ إلى الفوائدِ الشنشوريَّةِ، وهي مخطوطةٌ محفوظةٌ في مركزِ الملِكِ فَيْصَلٍ للبحوثِ برقمِ 1017 وتَقَعُ في 59 ورقةً، وهناك نُسخةٌ أُخْرَى محفوظةٌ في جامعةِ الملِكِ سعودٍ برقمِ 3521 تَقَعُ في 50 ورقةً.
وحاشيةُ محمَّدِ بنِ مصطفى بنِ حسَنٍ الْخُضَرِيِّ 1287 هـ المعروفةُ بحاشيةِ الْخُضَرِيِّ على الفوائدِ الشنشوريَّةِ وهي مطبوعةٌ قديماً ولها نُسختان خطِّيَّتان في مركزِ الملِكِ فَيْصَلٍ للبحوثِ الأُولى برقمِ 1015 وتَقَعُ في 2 + 92 ورقةً. والثانيةُ برقْمِ 1016 وتَقَعُ في 107 ورقةٍ. وهناك حواشِيَ على الشنشوريَّةِ غيرُ ما ذكَرْتُ.

وممن شَرَحَ الرحْبِيَّةَ الحسينُ بنُ أبي بكرِ بنِ إبراهيمَ النزيليُّ من عُلماءِ القرنِ العاشرِ بشرحِه المسمَّى بالدُّرَّةِ المستحسَنَةِ في شرْحِ منظومةِ ابنِ الْمُتَقِّنَةِ. وهي مخطوطةٌ وتوجَدُ لها نسخةٌ في جامعةِ الملِكِ سعودٍ برقْمِ 2678 وتَقَعُ في 21 + 1 ورقة.
وممن شَرَحَها إبراهيمُ بنُ أبي القاسمِ بنِ عمرَ بنِ مَطِيرٍ الْحَكَمِيُّ بشرحِه المسمَّى بتهذيبِ الأحاديثِ في علْمِ المواريثِ، وهي مخطوطةٌ ولها نسخةٌ في جامعةِ الملِكِ سعودٍ برقْمِ 3313 وتَقَعُ في 46 ورقةً.
وممن شَرَحَ الرحَبِيَّةَ أيضاً : إبراهيمُ بنُ محمَّدِ بنِ إسماعيلَ الطاشكنديُّ (كان موجوداً سنةَ 1282 هـ) وسَمَّى شرْحَه : (الشموسُ البهِيَّةُ على متْنِ الرحَبِيَّةِ في علْمِ الفرائضِ) وهي مخطوطةٌ في دارِ الكُتُبِ المصريَّةِ برقْمِ 22835ب وتَقَعُ في 298 ورقةً.

ومن المعلومِ أن الإمامَ الرحَبِيَّ لم يَتعرَّضْ في منظومتِه لبابَيْ الردِّ، وميراثِ ذوي الأرحامِ، وقد نَظَمَ ذلك – بأَحَدَ عشَرَ بيتاً – العلَّامَةُ عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ الْخَليفيُّ النجْدِييُّ الحنبليُّ المتوفَّى سنةَ 1381 هـ فكَمُلَ عِقْدُ الرحْبِيَّةِ وازْدَانَ. وعَلَّقَ على الرحْبِيَّةِ العلَّامَةُ الشيخُ فَيْصَلُ بنُ عبدِ العزيزِ آلَ مبارَكٍ الحريميليُّ النجْدِيُّ 1376 هـ ورسالتُه مطبوعةٌ تُعرَفُ باسمِ : السبيكةُ الذهبيَّةُ على المنظومةِ الرحْبِيَّةِ.

هذا وللعالِمِ الجليلِ السلفيِّ عبدِ الرحمنِ بنِ محمَّدِ بنِ قاسمٍ الحنبليِّ النجْدِيِّ المتوفَّى سنةَ 1392هـ حاشيةٌ بديعةٌ وَضَعَها على الرحْبِيَّةِ ومُتَمِّمَتُها للخليفيِّ رحِمَ اللهُ الجميعَ، وهي مطبوعةٌ.
ومن العلْماءِ المحدَثين الذين شَرَحُوا الرحْبِيَّةَ شيخُنا الفقيهُ الفرَضِيُّ العلَّامَةُ عبدُ الفتاحِ بنُ حسينٍ راوه المكِّيُّ المدرِّسُ في المسجِدِ الحرامِ، فله شرْحٌ مفيدٌ على الرحْبِيَّةِ سَمَّاهُ المجموعةُ الراويَّةُ على المنظومةِ الرحْبِيَّةِ في المسائلِ الفَرَضِيَّةِ وهو مطبوعٌ قديماً.

وممن شَرَحَ الرحْبِيَّةَ شيخُنا الفقيهُ الفَرَضِيُّ الْمُعَمَّرُ العلَّامَةُ القاضي رشيدُ بنُ محمَّدِ بنِ سليمانَ بنِ أحمدَ القَيْسِيُّ مَتَّعَ اللهُ بحياتِه وخَتَمَ له بالحُسْنَى ، (وهو هذا الكتابُ) الموسومُ بـ (الهديَّةُ في شرْحِ الرحْبِيَّةِ) وهو شرْحٌ مَتينٌ يَمتازُ بكثرةِ الأمثلةِ وحَلِّها وغيرِ ذلك. وإليك ترجمةٌ موجَزةٌ لشيخِنا حفِظَه اللهُ :
هو الشيخُ الفقيهُ الفَرَضِيُّ الْمُعَمَّرُ العلَّامَةُ القاضي أبو أحمدَ رشيدُ بنُ محمَّدِ بنِ سليمانَ بنِ أحمدَ بنِ عبدِ الرحمنِ القَيْسِيِّ الفَرَضِيُّ الشافعيُّ ثم الحنبليُّ من قبيلةِ قَيْسِ بنِ عَيْلانَ العَدنانيَّةِ. وُلِدَ في ضباءَ من البلادِ السعوديَّةِ عام 1316 هـ تقريباً في أواخرِ العهْدِ العثمانيِّ أمَدَّ اللهُ في عُمْرِه بالعملِ الصالحِ وخَتَمَ له بالخاتِمةِ الحسَنَةِ آمِينَ.

نَشأَ في بيتِ علْمٍ وصَلاحٍ وتَقْوى فوالدُه العلَّامَةُ الشيخُ محمَّدُ بنُ سليمانَ القَيْسِيُّ المشهورُ بأبي رشيدٍ وهو مؤسِّسُ ومديرُ أوَّلِ مدرسةٍ في ضباءَ في نهايةِ العهْدِ العثمانيِّ، والذي استمَرَّ مُدِيراً لها حتى عهْدِ الدولةِ السعوديَّةِ، ثم أسَّسَ مدرسةَ القرياتِ في مدينةِ القريات، وعَمِلَ مديراً لها لمدَّةِ ستِّ سنواتٍ، ثم انتقلَ لضباءَ.
تلَقَّى شيخُنا تعليمَه بمدرسةِ ضباءَ، ثم جَدَّ في تحصيلِ العلومِ على يدِ والدِه الذي يُعتبَرُ الشيخَ الأوَّلَ له ، فلقد استفادَ منه كثيراً حيثُ قرأَ عليه القرآنَ الكريمَ، ورياضَ الصالحين للنوويِّ والترغيبَ والترهيبَ للمُنذرِيِّ، وزادَ الْمَعادِ، وإعلامَ الموقِّعِين لابنِ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ، وشرْحَ سِبْطِ الماردينيِّ للرحْبِيَّةِ مع حاشيةِ البقريِّ، وكذلك الفوائدَ الشنشوريَّةَ في شرْحِ الرحْبِيَّةِ، وقرأ عليه أيضاً نُزهَةَ النظَرِ في شرْحِ نُخبَةِ الفكْرِ في مُصطَلَحِ الحديثِ.

واعْتَنَى بحفْظِ بعضِ الْمُتونِ مثلِ الرحْبِيَّةِ ، والآجُروميَّةِ، وبعضِ الألفيَّةِ ، ولُمْعَةِ الاعتقادِ لابنِ قُدامَةَ ، وكشْفِ الشُّبُهَاتِ ، والأصولِ الثلاثةِ وغيرِها.

ولقد برَزَ شيخُنا كثيراً في علْمِ الفرائضِ وأصْبَحَ من الْمُتقِنِين له حتى أصبَحَ المرجِعَ لطُلابِ العلْمِ في مِنطَقَتِه من قضاةٍ ونحوِهم، وساعَدَه في ذلك أنه فقيهٌ مُجيدٌ على اطِّلاعٍ واسعٍ بكُتُبِ المذاهبِ الفقهيَّةِ، ولقد استفادَ كثيراً من شيخِه العلَّامَةِ عليِّ بنِ أحمدَ البنَّا الضباويِّ الشافعيِّ الفَرَضِيِّ المتوفَّى سنةَ 1350 هـ في ضباءَ، واشتُهِرَ بلقبِ (البنَّا) وذلك أن والدَه كان بنَّاءً في بلدةِ ضباءَ. وقد كان آيةً في هذا العلْمِ مع ما كان عليه من تواضُعٍ وزهْدٍ وعدَمِ حبِّ الظهورِ، وكان يَشتغَلُ بمهنَةِ الزراعةِ. وله دَرْسٌ عامٌّ في الجامعِ الكبيرِ في الفِقهِ والحديثِ ، أما درْسُ الفرائضِ فقد كان يَخُصُّ به تلميذَه رشيداً، وقد قرأ عليه الرحْبِيَّةَ والفوائدَ الشنشوريَّةَ وشرْحَ سِبْطِ الماردينيِّ مع حاشيةِ البقريِّ وكَرَّرَ ذلك كثيراً وكان الشيخُ البنَّا يُكثِرُ على تلميذِه رشيدٍ طرْحَ المسائلِ الفَرَضِيَّةِ والألغازِ، مما كان له أكبرُ الأثرِ في تمكُّنِ شيخِنا من هذا العلْمِ واستفادتِه الكبيرةِ كما حدَّثَني بذلك.

ومن شيوخِه العلَّامَةُ قاضي ضباءَ محمَّدُ بنُ عبدِ الوهَّابِ بنِ عَقِيلٍ المتوفَّى سنة 1361 هـ فقد لازَمَه وقرأ عليه كُتباً كثيرةً منها تفسيرُ ابنُ كثيرٍ وتفسيرُ البَغَوِيِّ، وتفسيرُ الجلالَيْن، والترغيبُ والترهيبُ، ورياضُ الصالحين، والفرائضُ، ومجموعةُ التوحيدِ النجديَّةِ، وكتابُ التوحيدِ، ولُمْعَةُ الاعتقادُ، والأصولُ الثلاثةُ، وكشْفُ الشُّبُهَاتِ، والمغني والشرْحُ الكبيرُ.

ومن شيوخِه الذين استفادَ منهم ولازَمَهم زمناً وتأثَّرَ بهم حقيقةً العلَّامَةُ القاضي الشيخُ ناصرُ بنُ محمَّدٍ الوهيبيُّ قاضي ضباءَ آنذاك، الذي كان يُلازمُه ولا يكادُ يُفارقُه فقرأَ عليه في كتُبٍ مختلِفةٍ منها : الرَّوْضُ الْمُرْبِعُ، وعُمدةُ الفقهِ، والمقْنِعُ، ودليلُ الطالبِ، وعمدةُ الأحكامِ، وبلوغُ الْمَرامِ، وجامعُ العلومِ والحِكَمِ، والترغيبُ والترهيبُ، وتفسيرُ ابنِ كثيرٍ، وتفسيرُ البَغَوِيِّ، وتفسيرُ الطبريِّ، وزادُ الْمَعادِ، وإعلامُ الموقِّعِين، ومدارجُ السالكين لابنِ القيِّمِ، والبدايةُ والنهايةُ، ومقاماتُ الحريريِّ، والطحاويَّةُ وغيرُها، وكان الشيخُ الوهيبيُّ يَمتلِكُ مكتبةً كبيرةً مليئةً بالكُتبِ المفيدةِ والمصنَّفاتِ العديدةِ فاستفادَ شيخُنا من تلك الكُتبِ فلازَمَ شيخَه وقَرأَ عليه إلى أن انتقَلَ العلَّامَةُ الوهيبيُّ بعدَها إلى تبوكٍ ثم أمْلَجَ ثم يَنْبُعَ ثم نُقِلَ للطائفِ، وبعدَها نُقِلَ لهيئةِ التمييزِ، إلى أن صارَ وكيلَ رئيسِ ديوانِ المظالمِ وتُوفِّيَ سنةَ 1382 هـ رحِمَه اللهُ.

وإلى جانبِ ذلك فقد كان شيخُنا شغوفاً بالكُتُبِ مُحِبًّا للقراءةِ وكوَّنَ مكتبةً جيِّدةً لكن لكثرةِ تَنَقُّلاتِه لم يَبْقَ منها إلا القليلُ، وقد قرأ صحيحَ البخاريِّ ومسلِمٍ وسُننَ النَّسائيِّ والتِّرْمِذِيِّ وابنِ ماجَهْ وبعضَ مسْنَدِ الإمامِ أحمدَ ، وفَتَاوَى ابنِ تَيْمِيَّةَ وغيرَها.
أما عن حياتِه العمليَّةِ فقد تَعَيَّنَ معلِّماً في مدرسةِ ضباءَ في غُرَّةِ محرَّمٍ سنةَ 1349 هـ ثم نُقِلَ لمحكمةِ تبوكٍ وعُيِّنَ فيها كاتبَ عدْلٍ بِناءً على طلَبِ قاضي تبوكٍ شيخِه العلَّامَةِ ناصرٍ الوهيبىِّ الذي كان يُحِبُّه كثيراً ويُقدِّرُه. ثم نُقِلَ شيخُنا لمحكمةِ ضباءَ ثم لأملجَ، وفي عامِ 1362 هـ عُيِّنَ قاضياً بالوَكالةِ، وفي شهرِ رمضانَ سنةَ 1364 هـ عُيِّنَ قاضياً، وفي عامِ 1375 هـ نُقِلَ قاضياً إلى محكمةِ الْمَهْدِ، وفي شهرِ ذي الْحِجَّةِ سنةَ 1376 هـ نُقِلَ قاضياً إلى محكمةِ حقل وتَرَقَّى فى ذلك إلي أن عُيِّنَ رئيسَ محكمةٍ ، وفي عامِ 1408 هـ في شهرِ رجبٍ أُحِيلَ للتقاعُدِ بعد خِدمةٍ عمليَّةٍ بلَغَتْ ستِّين سنةً إلا سِتَّةَ أشْهُرٍ منها أربعٌ وأربعون سنةً وعشرةُ أشهُرٍ عَمِلَ فيها قاضياً وطِيلةَ هذه المدَّةِ التي قَضاها في القضاءِ لم يُنْقَضْ له صَكٌّ شرعيٌّ يُخالِفُ الإجماعَ كما ذَكَرَ لي حَفِظَهُ اللهُ.

وقد تَولَّى إمامةَ الناسِ في مسجدِ محمود بديويٍّ في ضباءَ ثم الإمامةَ والخَطابةَ في الجامعِ الكبيرِ في كلٍّ من أمْلَجَ وحَقْلَ واستفادَ منه الناسُ، وأَصبَحَ مرجِعُهم في كلِّ مسألةٍ يَحتاجُونَها.
تَتَلْمَذَ على الشيخِ عددٌ لا بأسَ به من طُلابِ العلْمِ في علْمِ المواريثِ، ولقد مَنَّ اللهُ تعالى على كاتبِ هذه الأسطُرِ بقراءةِ هذا الكتابِ من أوَّلِه إلى آخِرِه على شيخِنا العلَّامَةِ رشيدٍ القيسيِّ الفرَضِيِّ.

ويَذكُرُ لي الشيخُ متَّعَ اللهُ به أنه من خمسةٍ وثمانين سنةً وهو يُعلِّمُ الفرائضَ لطُلابِ العلْمِ الراغبين فيه.
وقد مَكَثَ في تصنيفِ هذا الكتابِ شهرين شهرَ صفَرٍ وربيعٍ من عامِ ثلاثةَ عشَرَ بعد الأربعمائةِ والألْفِ من الهجرةِ النبويَّةِ، وقد أَمْلَى بعضَه وكَتَبَ بعضَه بنفسِه وكانت قراءتي على الشيخِ في صفَرٍ من هذا العامِ 1416 هـ.
وبحكْمِ انشغالِ شيخِنا في الحياةِ العمَليِّةِ الطويلةِ لم يُصنِّفْ كثيراً، ويَذكُرُ لي أنه كَتَبَ كتاباً حافلاً مطوَّلاً في الفقهِ على المذاهبِ الفقهيَّةِ الأربعةِ لكن نَظَراً لكثرةِ تَنقُّلاتِ الشيخِ فقد فُقِدَ ولم يُعْثَرْ عليه.
وقد أَلَّفَ – قريباً – كتاباً مختَصَراً في الفقهِ. سيُطبَعُ بعوْنِ اللهِ.

وقد دَفَعَ لي فضيلةُ شيخِنا بكتابِه هذا للعنايةِ به والإشرافِ على طِباعتِه على الرغْمِ من أنني لستُ أهلاً لذلك، لكن رغبةً في الاستفادةِ والتعلُّمِ وتقديراً لأهلِ العلْمِ فقد قَبِلْتُ وأنا أُقَدِّمُ رجْلاً وأؤخِّرُ أخرى لعِظَمِ المسؤوليَّةِ وكِبَرِ التَّبِعَةِ. أسألُ المولى جلَّ وعَلا الإعانةَ والسدادَ والعلْمَ النافعَ والعملَ الصالحَ ، وأعوذُ باللهِ من فتنةِ القولِ والعملِ، وأدعو كلَّ أخٍ ناصِحٍ محُبٍّ لتقديمِ نصيحتِه في السِّرِّ، وآخِرُ دعوانا أن الحمدُ للهِ ربِّ العالمين والصلاةُ والسلامُ على رسولِه الأمينِ.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَبِهِ نَسْتَعِينُ
ولا حَوْلَ ولا قوَّةَ إلا باللهِ العليِّ العظيمِ، وعليه نتَوكَّلُ، الحمدُ للهِ نستعينُ به ونَستهديه، ونَستغفرُه ، ونتوبُ إليه، ونعوذُ به من شرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا، من يَهدِه اللهُ فهو المهتَدِ ومن يُضلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهَدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمَّداً عبدُه ورسولُه، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى آلِه وصحبِه وسلِّمْ تسليماً كثيراً.

أما بعدُ: فقد طلَبَ مني مَن يَعِزُّ عليَّ سؤالُه، أن أُؤلِّفَ كتاباً في علْمِ الفرائضِ،يَتضمَّنُ كيفيَّةَ حلِّ المسائلِ والمناسَخاتِ والقراريطِ، حتى يَتمكَّنَ المتبدئُ من معرفةِ الحلِّ، ويكونَ له قاعدةٌ إذا نَسيَ، مبنيَّةً على أُرجوزَةِ الرحْبِيَّةِ للشيخِ محمَّدِ بنِ الحسينِ الرحْبِيِّ في علْمِ الفرائضِ؛ لأن غالبَ الكتُبِ ليس بها كيفيَّةُ حلِّ المسائلِ والمناسَخاتِ والقراريطِ.
فرأيتُ إجابةَ طلَبِه، رجاءً للثوابِ، وسألتُ اللهَ الكريمَ ربَّ العرْشِ العظيمِ أن يُوفِّقَني للصوابِ، وأن يَهدِيَني لِمُوجِبِ المغفرةِ والثوابِ، إنه – سبحانَه وتعالى – كريمٌ وهَّابٌ، وقد قُمْتُ بتيسيرِ الشرْحِ ليكونَ عَوْناً للطالِبين، ومرشِداً للراغبين ، وبيَّنْتُ كيفيَّةَ قِسمةِ الترِكَاتِ بالطرُقِ الحسابيَّةِ وبالقراريطِ، وكيفيَّةَ حلِّ المسائلِ والمناسَخاتِ ليَسْهُلَ على الطالبِ معرفتُها، وعلْمُ الفرائضِ يَتعلَّقُ بأحكامِ الترِكَاتِ والمواريثِ، وحكمُه فرْضُ كفايةٍ إذا قامَ به البعضُ سقَطَ الإثمُ عن الباقين. والأحاديثُ في فضْلِ تَعلُّمِه كثيرةٌ، وقد سَمَّيْتُ كتابي : (الهديَّةُ في شرْحِ الرحْبِيَّةِ) نسألُ اللهَ الإعانةَ والقَبولَ إنه وليُّ ذلك والقادرُ عليه.
قالَ الناظمُ – رحِمَه اللهُ تعالى : -


أَوَّلُ مَا نَسْتَفْتِحُ الْمَقَـالَا = بِذِكْـرِ حَمْـدِ رَبِّنـا تَعـالى
فَالْحَمـْدُ للهِ عَلَى ما أَنْعَمَا = حَمْداً بِهِ يَجْلو عَنِ القَلْبِ العَمَى
ثُمَّ الصَّـلاةُ بَعْدُ والسَّلامُ = عَلى نَبِـيٍّ دينُـهُ الإِسْــلامُ
مُحَمَّـدٍ خَاتَمِ رُسْـلِ رَبِّهِ = وَآلِـهِ مِـنْ بَعْـدِهِ وَصَحْبِـهِ

أقولُ : بَدأَ بحمدِ للهِ تَأسِّياً بالكتابِ العزيزِ ، ثم الصلاةِ على رسولِه لقولِه - تعالى - : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} وقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ عَشْراً). ويَجوزُ في محمَّدٍ الجرُّ على أنه بدَلٌ من نَبِيٍّ، والرفْعُ على أنه خبرٌ لمبتدَأٍ محذوفٍ، أي : هو محمَّدٌ ، ثم قالَ :


ونَسـأَلُ اللهَ لَنـا الإِعـانَـهْ = فِيمـا تَوَخَّيْنـا مِنَ الإِبانَـهْ
عَن مَذْهَبِ الإِمامِ زَيْدِ الفَرَضِيْ = إِذْ كانَ ذاكَ مِنْ أَهَمِّ الغَرَضِ

قولُه : الإمامُ : هو الذي يُقتَدَى به في أقوالِه، وزيدٌ هو ابنُ ثابتِ بنِ الضحَّاكِ، الصحابيُّ الأنصاريُّ من بني النجَّارِ، من أكابِرِ الصحابةِ – رضِيَ اللهُ عنه وعنهم -، والفرَضِيُّ : العالِم بالفرائِضِ، ثم قالَ :


عِلْماً بِأَنَّ العِلْمَ خَـيْرُ ما سُعِـيْ = فيهِ وَأَوْلَى مَالَهُ العَبْـدُ دُعِيْ
وَأَنَّ هَذا العِلْمَ مَخْصـوصٌ بِمـا = قَدْ شـاعَ فيهِ عِندَ كُلِّ العُلَمَا
بِأَنَّــهُ أوَّلُ عِلْــمٍ يُفْقَــدُ = فِي الأرْضِ حَتَّى لا يَكادُ يُوجَدُ

أقولُ : وفضْلُ العلْمِ وخِيرتُه أشهَرُ من أن يُذكَرَ، قالَ الشافعيُّ وغيرُه : طلَبُ العلْمِ أفضَلُ من صلاةِ النافلةِ، وليس بعدَ الفريضةِ أفضلُ من طلَبِ العلْمِ، ففي الصحيحين من روايةِ ابنِ مسعودٍ رضِيَ اللهُ عنه مرفوعاً : (لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ : رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْخَيْرِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا النَّاسَ).
والأحاديثُ في ذلك كثيرةٌ.
ثم قالَ :


وأنَّ زَيْـــداً خُصَّ لا مَحالَهْ = بَما حَبَـاهُ خاتَـمُ الرِّسَـالَهْ


مِنْ قَـوْلِهِ فِي فَضْلِـهِ مُنَبِّهَـا = ((أَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ)) وَنَاهِيكَ بِها
فَكانَ أَوْلَى باتِّبـاعِ التَّابِعِـيْ = لا سِيَّما وَقدْ نَحَاهُ الشَّافِعِـي

أقولُ : ولعلْمِنا بأن هذا العلْمَ وهو علْمُ الفرائضِ، مخصوصٌ بأنه أوَّلُ علْمٍ يُفقَدُ في الأرضِ، ولعلْمِنا بأن زيداً خُصَّ من بينِ الصحابةِ - رضِيَ اللهُ عنهم – بما نَبَّهَنا عليه النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من فضيلتِه وعلْمِه، وأنه أمثلُ من غيرِه في علْمِ الفرائضِ، من قولِه : (أَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ)، لا سيَّما وقد نَحاه الشافعيُّ، أي : مالَ إلى قولِه، موافَقةً له في الاجتهادِ، ثم قالَ :

فهاكَ فيه القولُ عن إيجازِ = مُبرَّأً عن وَصْمَةِ الألغازِ

أقولُ : أما أكثَرُ ما يَرِدُ من تَرِكَةِ الميِّتِ فهو خمسةُ حقوقٍ، مُرَتَّبَةٌ إن ضاقَت التَّرِكَةُ :
الأوَّلُ : تكفينُه وأُجرَةُ الحفْرِ ونحوُها.
الثاني : الديونُ المتعلِّقَةُ بعَيْنِ التَرِكَةِ، كالدَّيْنِ الذي به رهْنٌ، والأَرَشُ المتعلِّقُ برقَبَةِ العبْدِ الجاني ونحوِهما.
الثالثُ : الديونُ المطلَقةُ ، سواءٌ كانت للهِ أو حقَّ الآدميِّين.
الرابعُ : الوصايا بالثلُثِ أو أقلُّ لغيرِ وارثٍ، وإن كان أكثرَ من الثلُثِ لا يُنَفَّذُ إلا برِضَى الورثةِ، وإن كانت الوصيَّةُ لوارِثٍ، فإنها لا تُنَفَّذُ مُطلَقاً إلا برِضَى الورثَةِ.
الخامسُ : الإرْثُ وهو المرادُ به في هذا الكتابِ.


  #8  
قديم 3 ذو الحجة 1429هـ/1-12-2008م, 09:27 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي حاشية الرحبية للشيخ: عبد الرحمن بن محمد ابن قاسم

بِسْــمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

مَتْنُ الرَّحَبِيَّةِ:
للإمامِ أبي عبدِ اللهِ، محمَّدِ بنِ عليِّ، بنِ محمَّدِ، بنِ حُسينٍ الرَّحَبِيِّ، المعروفِ بابنِ موفَّقِ الدِّينِ؛ ويُقالُ: بابنِ الْمُتَقَّنَةِ، نسبةً إلى بلَدٍ، يُقالُ لها: رَحَبَةُ ببلادِ الشامِ؛ وبنو رَحَبٍ: بَطْنٌ من هَمْدَانَ، فاللهُ أعلَمُ.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ([1])

أَوَّلُ مَا نَسْتَفْتِحُ الْمَقَـالاَ(2) = بِذِكْـرِ حَمْـدِ رَبِّنـا تَعـالى(3)
فَالْحَمـْدُ للهِ عَلَى ما أَنْعَمَا(4) = حَمْداً بِهِ يَجْلو عَنِ القَلْبِ العَمَى(5)
ثُمَّ الصَّـلاةُ بَعْدُ والسَّلامُ(6) = عَلى نَبِـيٍّ دينُـهُ الإِسْــلامُ(7)
مُحَمَّـدٍ خَاتَمِ رُسْـلِ رَبِّهْ(8) = وَآلِـهِ مِـنْ بَعْـدِهِ وَصَحْبِـهْ(9)
ونَسـأَلُ اللهَ لَنـا الإِعـانَـهْ(10) = فِيمـا تَوَخَّيْنـا مِنَ الإِبانَـهْ(11)
عَن مَذْهَبِ الإِمامِ زَيْدِ الفَرَضِيْ(12) = إِذْ كانَ ذاكَ مِنْ أَهَمِّ الغَرَضْ(13)
عِلْماً بِأَنَّ العِلْمَ خَـيْرُ ما سُعِـيْ = فيهِ وَأَوْلَى مَالَهُ العَبْـدُ دُعِيْ(14)
وَأَنَّ هَذا العِلْمَ مَخْصـوصٌ بِمـا = قَدْ شـاعَ فيهِ عِندَ كُلِّ العُلَمَا(15)
بِأَنَّــهُ أوَّلُ عِلْــمٍ يُفْقَــدُ = فِي الأرْضِ حَتَّى لا يَكادَ يُوجَدُ(16)
وأنَّ زَيْـــداً خُصَّ لا مَحالَهْ(17) = بَما حَبَـاهُ خاتَـمُ الرِّسَـالَهْ(18)
مِنْ قَـوْلِهِ فِي فَضْلِـهِ مُنَبِّهَـا(19) = ((أَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ)) وَنَاهِيكَ بِها(20)
فَكانَ أَوْلَى باتِّبـاعِ التَّابِعِـيْ(21) = لا سِيَّما وَقدْ نَحَاهُ الشَّافِعِـي(22)
فَهاكَ فيهِ القَـوْلَ عَنْ إِيجـازِ(23) = مُبَرَّءاً عَنْ وَصْمَـةِ الأَلْغَـازِ(24)


([1]) ابْتَدَأَ كتابَه بالبسمَلَةِ، اقتداءً بكتابِ اللهِ العزيزِ، وعَمَلاً بحديثِ: ((كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ)) أي: شأنٍ وحالٍ، يُهْتَمُّ به شرْعاً ((لا يُبْدَأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، فَهُوَ أَبْتَرُ أَوْ أَجْذَمُ)) أي: ناقصُ البرَكَةِ؛ فهو وإن تَمَّ حِسًّا، لا يَتمُّ معنىً وحقيقةً؛ ومعناها: أُؤَلِّفُ أو أَبتَدِئُ، والباءُ للاستعانةِ، والاسمُ: مشتَقٌّ من السُّمُوِّ، وهو الارتفاعُ؛ أو السِّمَةِ، وهي: العلامةُ؛ واللهُ: علَمٌ على ربِّنا تَبارَكَ وتعالى، لا يُسَمَّى به غيرُه، وهو أعْرَفُ المعارِفِ؛ والرحمنِ: رحمةٍ عامَّةٍ لجميعِ المخلوقاتِ، والرحيمِ: رحمةً خاصَّةً بالمؤمنين، قالَ تعالى: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً).
(2) أي: أوَّلَ ما نَبتدِئُ القوْلَ، والألِفُ للإطلاقِ.
(3) أي: بذكْرِ مالكِنا ومعبودِنا، ولا يُقالُ لغيرِ اللهِ تعالى إلا مضافاً، وتعالى: أي تَعاظَمَ، وارتفعَ، يُرسَمُ بالألِفِ لمناسَبةِ (الْمَقالاَ) خَطًّا.
(4) أي: الثناءِ على المحمودِ سبحانَه، على إنعامِه، مع حُبِّه وتعظيمِه، ويكونُ في مقابَلةِ نِعمةٍ، وغيرِها فهو: أَعَمُّ من الشكْرِ سبباً، لأنه يُحمَدُ على كلِّ شيءٍ، لذاتِه، وصفاتِه، وأحكامِه، وأقدارِه وأَخَصُّ مُتعلَّقاً من الشكْرِ؛ لأن الشكْرَ لا يكونُ إلا في مقابَلَةِ نِعمةٍ، والشكْرُ أعَمُّ متعلَّقاً، أي: مَوْرِداً؛ لأنه يكونُ باللسانِ، واليدِ، والقلبِ.
(5) أي: حَمْداً يُذهِبُ اللهُ به عن القلبِ عَمَاه؛ وحَمْداً: مصدَرٌ مؤكِّدٌ، والعَمَى، مقصورٌ؛ وإطلاقُه على عَمَى البصيرةِ، وهو الجهْلُ، فالعَمَى الضارُّ، هو: عَمَى القلبِ، قال تعالى: (فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَـكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).
(6) الصلاةُ لغةً: الدعاءُ؛ صَلِّ عليهم، أي: ادْعُ لهم؛ وشَرْعاً: ثناؤُه تعالى على عبدِه في الملأِ الأَعْلَى، كما حَكاه البخاريُّ في صحيحِه، عن أبي العالِيَةِ؛ والسلامُ من السلامَةِ، نَدعو له بالسلامةِ، والبَرَكةِ، ورَفْعِ الدرجةِ.
(7) هو نبيُّنا محمَّدٌ صَلَّى الله عَلَيْهِ وسلَّمَ، والنبيُّ: إنسانٌ أُوحِيَ إليه بشرْعٍ، وإن لم يُؤمَرْ بتبليغِه. فإن أُمرَ، فرسولٌ. والدِّينُ وهو: ما شَرَعَه اللهُ من الأحكامِ. والإسلامُ: هو الاستسلامُ للهِ بالتوحيدِ، والانقيادُ له بالطاعةِ، والبراءةُ من الشرْكِ وأهلِه؛ وإذا أُفرِدَ، دَخَلَ فيه الإيمانُ، وبالعكْسِ؛ وإذا قُرِنَ أحدُهما بالآخَرِ: فُسِّرَ الإسلامُ بالأعمالِ الظاهرةِ، والإيمانُ بالأعمالِ الباطِنَةِ.
(8) محمَّدٍ، بالجَرِّ: بَدَلٌ من نبيٍّ، ويَجوزُ رفعُه، وهو أشرَفُ أسمائِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، سُمِّيَ به، لكثرةِ خصالِه الحميدةِ، وخاتَمِ: بفتحِ التاءِ، نعْتٌ لمحمِّدٍ، أي: آخِرِ رُسُلِ اللهِ وأنبيائِه، قالَ تعالى: (وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ).
(9) آلِهِ، أي: أَتباعِه على دينِه من بعدِه، على المشهورِ؛ أو: أهلِ بيتِه، وعليه الأكثرُ، وصَحْبِه من بعدِه أيضاً، أي: أصحابِه: جَمْعُ صاحبٍ بمعنى الصحابِيِّ، وهو: من اجْتَمَعَ بالنبيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وسلَّمَ مؤمناً، وماتَ على ذلك.
(10) أي: العونُ، والقوَّةُ، والسؤالُ: الطلَبُ؛ وهو من الأعلى أمْرٌ، ومِن الأدنى دُعاءٌ، ومِنَ المتساوِينَ التِماسٌ.
(11) أي: فيما تَحَرَّيْنَا، وقَصَدْنَا من التبيينِ، وهو: الكشْفُ، والإظهارُ؛ والتَّحَرِّي: طلَبُ الأَحْرَى.
(12) المذهَبُ: بمعنى الذَّهابِ؛ واصطلاحاً: ما قالَه المجتهدُ بدليلٍ، وماتَ قائلاً به؛ والإمامُ: القدْوَةُ المُؤْتَمُّ به، وزَيْدِ، بلا تنوينٍ، للوزْنِ، وهو زيدُ بنُ ثابتِ بنِ الضحَّاكِ، بنِ سعْدِ بنِ خارجَةَ، الأنصاريُّ الخزرجيُّ، النَّجَّارِيُّ، تُوُفِّيَ سنةَ 45ه‍.، وله 57.
قالَ عمرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: من جاءَ يَسْأَلُ عن الفرائضِ، فليأْتِ زيدَ بنَ ثابتٍ، والفَرَضِي: بفتحِ الفاءِ والراءِ، أي: العالِمِ بالفرائضِ، يُقالُ: فارِضٌ، وفَرِيضٌ، وفَرَضِيٌّ، والفرائضُ: جمْعُ فريضةٍ، بمعنى مفروضةٍ، أي: مقدَّرةٍ.
(13) أي: إذ كان الإبانةُ، أو توَخِّيها، من أهمِّ الغَرَضِ، لمن يُريدُ التصنيفَ في عِلْمِ الفرائضِ.
(14) عِلْماً: مفعولٌ لأجلِه؛ والعلْمُ: هو حكْمُ الذِّهْنِ الجازمُ، المطابِقُ للواقِعِ، وهو خلافُ الجهْلِ، والألِفُ واللامُ فيه للاستغراقِ، وهو أفضَلُ الأمرِ الذي سَعَى فيه الساعُونَ؛ وتَنافَسَ فيه المتنافِسون، وأُفْنِيَتْ فيه الأعمارُ، وفضْلُه أشهَرُ من رابِعةِ النهارِ، قالَ تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) وقال صَلَّى الله عَلَيْهِ وسلَّمَ: ((لا حَسَدَ إِلاّ فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتاهُ اللهُ الْحِكْمَةَ، فَهُوَ يَقْضِي بِها وَيُعلِّمُهَا النَّاسَ...)) الحديثَ. وقالَ: ((مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)) وليس بعدَ الفريضةِ أفضلُ من طلَبِ العلْمِ.
(15) أي: وعِلْماً بأن هذا العلْمَ، وهو علْمُ الفرائضِ، مخصوصٌ بالذي قد فَشَا، واشتُهِرَ فيه عندَ جميعِ العلماءِ.
(16) أي: يُفقَدُ في الأرضِ بفَقْدِ العلماءِ به، لا بانتزاعِه منهم، لحديثِ: ((إنَّ اللهَ لا يَنْتَزِعُ العِلْمَ انْتِزَاعاً مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ، وَلكِنْ بِمَوْتِ العُلَمَاءِ)) حتى لا يَقْرَبَ من الوِجدانِ، وحثَّ النبيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وسلَّمَ على تَعَلُّمِ الفرائضِ، فرَوَى ابنُ ماجةَ، عن أبي هريرةَ مرفوعاً: ((تَعلَّمُوا الفَرائِضَ، وَعلِّمُوها النَّاسَ؛ فَإِنها نِصْفُ العِلْمِ، وَهُو يُنْسَى، وَهُوَ أَوَّلُ علْمٍ يُنْزَعُ مِنْ أُمَّتِي)).
وقولُه: ((نِصْفُ العِلْمِ)) لأن للإنسانِ حالتَيْنِ: حياةً وموتاً؛ وفي الفرائضِ: مُعظَمُ الأحكامِ المتعلِّقةِ بالموتِ؛ وقالَ ابنُ عُيَيْنَةَ: لأنه يُبْتَلَى بها الناسُ كلُّهم، وقد رُوِىَ أحاديثُ تَدُلُّ على فضْلِه وشرَفِه، منها: ما رواه أبو داودَ وغيرُه، عن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو مرفوعاً: ((العِلْمُ آيَةٌ مُحْكَمَةٌ، أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ، أَوْ فَريضَةٌ عَادِلَةٌ)).
(17) أي: وعِلْماً بأن زيداً: الإمامَ المذكورَ، ولا بُدَّ خُصَّ من بينِ الصحابةِ حقيقةً.
(18) حَبَاهُ: أي خَصَّهُ خاتَمُ الرسالةِ، والنبوَّةِ، محمَّدٌ صَلَّى الله عَلَيْهِ وسلَّمَ.
(19) أي: من قولِ خاتَمِ الرُّسُلِ محمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وسلَّمَ في فضْلِ زيدِ بنِ ثابتٍ، وشرَفِه، منبِّهاً عليه في الخبَرِ المذكورِ.
(20) أي: حسبُكَ بهذه الشَّهادةِ فضيلةً ومَنْقَبَةً؛ والحديثُ: رواه التِّرمِذِيُّ، والنَّسائيُّ، وابنُ ماجةَ، وحَسَّنَه ابنُ الصلاحِ؛ وضَعَّفَه شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميَّةَ، ورَوَى التِّرْمِذِيُّ بسنَدٍ صحيحٍ: ((أَعْلَمُ أُمَّتِي بِالفَرائِضِ زَيْدُ بنُ ثابِتٍ)) ولا يَقتضِي تقديمَ قولِه، على قوْلِ أكابِرِ الصحابةِ، كأبي بكرٍ، وعمرَ، وعليٍّ.
(21) أي: زيدٌ أحقُّ بتقليدِ المقلِّدِ؛ لِمَا مَرَّ من الأحاديثِ.
(22) أي: لا مِثْلَ هذه الشهادةِ؛ ولا سيَّمَا: كلمةٌ تُستعمَلُ لترجيحِ ما بعدَها على ما قبلَها؛ ونَحاهُ: مالَ إليه؛ أي: وقد مالَ إلى مذْهَبِ زيدٍ، الإمامُ الشافعيُّ، أبو عبدِ اللهِ محمَّدُ بنُ إدريسَ، القُرَشِيُّ، الْمَطْلَبيُّ، المشهورُ، أحدُ الأئمَّةِ الأربعةِ، تُوُفِّيَ رَحِمَهُ اللهُ سنةَ 204ه‍، وله 54.
(23) أي: فَخُذْ مذهَبَ زيدٍ، عن اختصارٍ، والمختَصَرُ: ما قلَّ لفظُه، وكَثُرَ معناه.
(24) أي مُنَزَّهاً عن عيْبِ الألغازِ، جَمْعُ لُغْزٍ، وهو: الكلامُ المُعَمَّى، الذي قد يُفْهَمُ منه خلافُ ما قُصِدَ به، وهو عَيْبٌ في الكلامِ، وإن حَصَلَ فيه فائدةٌ جُزئيَّةٌ؛ أي: فَخُذ القوْلَ في عِلْمِ الفرائضِ، على مذْهَبِ زيْدٍ، قولاً مختَصَراً، واضحاً، مُنَزَّهاً عن عيْبِ الْخَفاءِ.


موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
المقدمة

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:12 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir