دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > الرسالة التدمرية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 4 ذو الحجة 1429هـ/2-12-2008م, 02:51 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي القاعدة الأولى: أن الله موصوف بالإثبات والنفي المتضمن للكمال

فَـــــصْـــلٌ
وَأَمَّا الْخَاتِمَةُ الْجَامِعَةُ فَفِيهَا قَوَاعِدُ نَافِعَةٌ:
الْقَاعِدَةُ الْأُولَى: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَوْصُوفٌ بِالْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ: فَالْإِثْبَاتُ كَإِخْبَارِهِ أَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالنَّفْيُ كَقَوْلِهِ: ( لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ).
وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ النَّفْيَ لَيْسَ فِيهِ مَدْحٌ وَلاَ كَمَالٌ، إِلاَّ إِذَا تَضَمَّنَ إِثْبَاتًا، وَإِلاَّ فَمُجَرَّدُ النَّفْيِ لَيْسَ فِيهِ مَدْحٌ وَلاَ كَمَالٌ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ الْمَحْضَ عَدَمُ مَحْضٍ، وَالْعَدَمُ الْمَحْضُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَمَا لَيْسَ بِشَيْءٍ هُوَ كَمَا قِيلَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، فضلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مَدْحًا أَوْ كَمَالًا، وَلِأَنَّ النَّفْيَ الْمَحْضَ يُوصَفُ بِهِ الْمَعْدُومُ وَالْمُمْتَنِعُ، وَالْمَعْدُومُ وَالْمُمْتَنِعُ لاَ يُوصَفُ بِمَدْحٍ وَلاَ كَمَالٍ.
فَلِهَذَا كَانَ عَامَّةُ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَه مِنَ النَّفْيِ مُتَضَمِّنًا لِإِثْبَاتِ مَدْحٍ كَقَوْلِه: ( اللَّهُ لاَ إِلَهَ إَلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ) إِلَى قَوْلِهِ: ( وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا).
فَنَفْيُ السُّنَّةِ وَالنَّوْمِ يَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْحَيَاةِ وَالْقِيَامِ، فَهُوَ مُبَيِّنٌ لِكَمَالِ أَنَّه الْحَيُّ الْقَيُّومُ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُه: ( وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ) أَيْ لاَ يَكْرِثُهُ وَلاَ يُثْقِلُهُ، وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَتَمَامِهَا. بِخِلاَفِ الْمَخْلُوقِ الْقَادِرِ إِذَا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الشَّيْءِ بِنَوْعِ كُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ، فَإِنَّ هَذَا نَقْصٌ فِي قُدْرَتِهِ، وَعَيْبٌ فِي قُوَّتِهِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُه تَعَالَى: ( لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الْأَرْضِ) فَإِنَّ نَفْيَ الْعُزُوبِ مُسْتَلْزِمٌ لِعِلْمِهِ بِكُلِّ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُه تَعَالَى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ)، فَإِنَّ نَفْيَ مَسِّ اللُّغُوبِ الَّذِي هُوَ التَّعَبُ وَالْإِعْيَاءُ دَلَّ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَنِهَايَةِ الْقُوَّةِ.
بِخِلاَفِ الْمَخْلُوقِ الَّذِي يَلْحَقُهُ مِنَ النَّصَبِ وَالْكَلاَلِ مَا يَلْحَقُهُ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُه: ( لاَ تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ)، إِنَّمَا نَفَى الْإِدْرَاكَ الَّذِي هُوَ الْإِحَاطَةُ، كَمَا قَالَهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ. وَلَمْ يَنْفِي مُجَرَّدَ الرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْدُومَ لاَ يُرَى، وَلَيْسَ فِي كَوْنِهِ لاَ يُرَى مَدْحٌ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْمَعْدُومُ مَمْدُوحًا، وَإِنَّمَا الْمَدْحُ فِي كَوْنِهِ لاَ يُحَاطُ بِهِ وَإِنْ رُئِيَ، كَمَا أَنَّهُ لاَ يُحَاطُ بِهِ وَإِنْ عُلِمَ، فَكَمَا أَنَّهُ إِذَا عُلِمَ لاَ يُحَاطُ بِهِ عِلْمًا، فَكَذَلِكَ إِذَا رُئِيَ لاَ يُحَاطُ بِهِ رُؤْيَةً.
فَكَانَ فِي نَفْيِ الْإِدْرَاكِ مِنْ إِثْبَاتِ عَظَمَتِه مَا يَكُونُ مَدْحًا وَصِفَةَ كَمَالٍ، وَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى إِثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ لاَ عَلَى نَفْيِهَا، لَكِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ مَعَ عَدَمِ الإحاطَةِ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا.
وَإِذَا تَأَمَّلْتَ ذَلِكَ وَجَدْتَ كُلَّ نَفْيٍ لاَ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتًا هُوَ مِمَّا لَمْ يَصِفِ اللَّهُ بِهِ نَفْسَه، فَالَّذِينَ لاَ يَصِفُونَهُ إِلاَّ بِالسُّلُوبِ لَمْ يُثْبِتُوا فِي الْحَقِيقَةِ إِلَهًا مَحْمُودًا، بَلْ وَلاَ مَوْجُودًا.
وَكَذَلِكَ مَنْ شَارَكَهُمْ فِي بَعْضِ ذَلِكَ كَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُ لاَ يَتَكَلَّمُ، أَوْ لاَ يَرَى، أَوْ لَيْسَ فَوْقَ الْعَالَمِ، أَوْ لَمْ يَسْتَوِ عَلَى الْعَرْشِ، وَيَقُولُونَ: لَيْسَ بِدَاخِلِ الْعَالَمِ وَلاَ خَارِجِه، وَلاَ مُبَايِنٍ لِلْعَالَمِ وَلاَ مُحاذِيًا لَهُ، إِذْ هَذِهِ الصِّفَاتُ يُمْكِنُ أَنْ يُوصَفَ بِهَا الْمَعْدُومُ، وَلَيْسَتْ هِيَ مُسْتَلْزِمَةً صِفَةَ ثُبُوتٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَحْمُودُ بْنُ سُبَكْتَكِينَ لِمَن ادَّعَى ذَلِكَ فِي الْخَالِقِ: مَيِّزْ لَنَا بَيْنَ هَذَا الرَّبِّ الَّذِي تُثْبِتُهُ وَبَيْنَ الْمَعْدُومِ.
وَكَذَلِكَ كَوْنُهُ لاَ يَتَكَلَّمُ، أَوْ لاَ يَنْزِلُ، لَيْسَ فِي ذَلِكَ صِفَةُ مَدْحٍ وَلاَ كَمَالٍ، بَلْ هَذِهِ الصِّفَاتُ فِيهَا تَشْبِيهٌ لَهُ بِالْمَنْقُوصَاتِ أَوِ الْمَعْدُومَاتِ، فَهَذِهِ الصِّفَاتُ مِنْهَا مَا لاَ يَتَّصِفُ بِهِ إِلاَّ الْمَعْدُومُ وَمِنْهَا مَا لاَ يَتَّصِفُ بِهِ إِلاَّ الْجَمَادُ أَو النَّاقِصُ.
فَمَنْ قَالَ: لاَ هُوَ مُبَايِنٌ لِلْعَالَمِ وَلاَ مُدَاخِلٌ لِلْعَالَمِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ: لاَ هُوَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَلاَ بِغَيْرِهِ، وَلاَ قَدِيمٌ وَلاَ مُحْدَثٌ، وَلاَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعَالَمِ وَلاَ مُقَارِنٌ لَهُ.
وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِحَيٍّ وَلاَ سَمِيعٍ وَلاَ بَصِيرٍ وَلاَ مُتَكَلِّمٍ، لَزِمَهُ أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا أَصَمَّ أَعْمَى أَبْكَمَ. فَإِنْ قَالَ: الْعَمَى عَدَمُ الْبَصَرِ عَمَّا مَنْ شَانُهُ أَنْ يَقْبَلَ الْبَصَرَ، وَمَا لاَ يَقْبَلُ الْبَصَرَ كَالْحَائِطِ لاَ يُقَالُ لَهُ: أَعْمَى وَلاَ بَصِيرٌ.
قِيلَ لَهُ: هَذَا اصْطِلاَحٌ اصْطَلَحْتُمُوهُ، وَإِلاَّ فَمَا يُوصَفُ بَعْدَمِ الْحَيَاةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلاَمِ يُمْكِنُ وَصْفُه بِالْمَوْتِ وَالصَّمَمِ وَالْعَمَى وَالْخَرَسِ وَالْعُجْمَةِ.
وأيضًا: فَكُلُّ مَوْجُودٍ يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ وَنَقَائِضِهَا، فَإِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى جَعْلِ الجَمَادِ حَيًّا، كَمَا جَعَلَ عَصَا مُوسَى حَيَّةً، ابْتَلَعَتِ الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ.
وَأَيْضًا: فَالَّذِي لاَ يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ أَعْظَمُ نَقْصًا مِمَّنْ يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَا مَعَ اتِّصَافِهِ بِنَقَائِضِهَا، فَالْجَمَادُ الَّذِي لاَ يُوصَفُ بِالْبَصَرِ وَلاَ الْعَمَى، وَلاَ الْكَلاَمِ وَلاَ الْخَرَسِ، أَعْظَمُ نَقْصًا مِنَ الحَيِّ الْأَعْمَى الْأَخْرَسِ.
فَإِذَا قِيلَ: إِنَّ الْبَارِيَ - عَزَّ وَجَلَّ - لاَ يُمْكِنُ اتِّصَافُهُ بِذَلِكَ، كَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ وَصْفِهِ بِالنَّقْصِ أَعْظَمُ مِمَّا إِذَا وُصِفَ بِالْخَرَسِ وَالْعَمَى وَالصَّمَمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّهُ إِذَا جُعِلَ غَيْرَ قَابِلٍ لَهُمَا كَانَ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْجَمَادِ الَّذِي لاَ يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهَذَا تَشْبِيهٌ بِالْجَمَادَاتِ لاَ بِالْحَيَوَانَاتِ، فَكَيْفَ يُنْكِرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ مَا يَزْعُمُ أَنَّهُ تَشْبِيهٌ بِالْحَيِّ؟!
وَأَيْضًا: فَنَفْسُ نَفْيِ هَذِهِ الصِّفَاتِ نَقْصٌ، كَمَا أَنَّ إِثْبَاتَهَا كَمَالٌ، فَالْحَيَاةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ، هِيَ – مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ تَعْيِينِ الْمَوْصُوفِ بِهَا – صِفَةُ كَمَالٍ. وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلاَمُ وَالْفِعْلُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَمَا كَانَ صِفَةََ كَمَالٍ فَهُوَ – سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى – أَحَقُّ بِأَنْ يَتَّصِفَ بِهِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، فَلَوْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهِ مَعَ اتِّصَافِ الْمَخْلُوقِ بِهِ لَكَانَ الْمَخْلُوقُ أَكْمَلَ مِنْهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَهْمِيَّةَ الْمَحْضَةَ كَالْقَرَامِطَةِ وَمَنْ ضَاهَاهُمْ يَنْفُونَ عَنْهُ تَعَالَى اتِّصَافَه بِالنَّقِيضَيْنِ حَتَّى يَقُولُوا: لَيْسَ بِمَوْجُودٍ وَلاَ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، وَلاَ حَيٍّ وَلاَ لَيْسَ بِحَيٍّ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخُلُوَّ عَنِ النَّقِيضَيْنِ مُمْتَنِعٌ فِي بَدَائِهِ الْعُقُولِ، كَالْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ. وَآخَرُونَ وَصَفُوهُ بِالنَّفْيِ فَقَطْ، فَقَالُوا: لَيْسَ بِحَيٍّ وَلاَ سَمِيعٍ وَلاَ بَصِيرٍ. وَهَؤُلاَءِ أَعْظَمُ كُفْرًا مِنْ أُولَئِكَ مِنْ وَجْهٍ، وَأُولَئِكَ أَعْظَمُ كُفْرًا مِنْ هَؤُلاَءِ مِنْ وَجْهٍ.
فَإِذَا قِيلَ لِهَؤُلاَءِ: هَذَا يَسْتَلْزِمُ وَصْفَه بِنَقِيضِ ذَلِكَ كَالْمَوْتِ وَالصَّمَمِ وَالْبُكْمِ.
قَالُوا: إِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ لَوْ كَانَ قَابِلًا لِذَلِكَ.
وَهَذَا الِاعْتِذَارُ يَزِيدُ قَوْلَهُمْ فَسَادًا.
وَكَذَلِكَ مَنْ ضَاهَى هَؤُلاَءِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَيْسَ بِدَاخِلِ الْعَالَمِ وَلاَ خَارِجِه إِذَا قِيلَ لَهُمْ: هَذَا مُمْتَنِعٌ فِي ضَرُورَةِ الْعَقْلِ، كَمًّا إِذَا قِيلَ: لَيْسَ بِقَدِيمٍ وَلاَ مُحَدَثٍ، وَلاَ وَاجِبٍ وَلاَ مُمْكِنٍ، وَلاَ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ وَلاَ قَائِمٍ بِغَيْرِهِ.
قَالُوا: هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَ قَابِلًا لِذَلِكَ، وَالْقَبُولُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ المُتَحَيِّزِ، فَإِذَا انْتَفَى التَّحَيُّزُ انْتَفَى قَبُولُ هَذَيْنِ النَّقِيضَيْنِ.
فَيُقَالُ لَهُمْ: عِلْمُ الْخَلْقِ بِامْتِنَاعِ الْخُلُوِّ مِنْ هَذَيْنِ النَّقِيضَيْنِ هُوَ عِلْمٌ مُطْلَقٌ، لاَ يُسْتَثْنَى مِنْهُ مَوْجُودٌ. وَالتَّحَيُّزُ الْمَذْكُورُ إِنْ أُرِيدَ بِهِ كَوْنُ الْأَحْيازِ الْمَوْجُودَةِ تُحِيطُ بِهِ، فَهَذَا هُوَ الدَّاخِلُ فِي الْعَالَمِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ مُنْحَازٌ عَنِ المَخْلُوقَاتِ، أَيْ: مُبَايِنٌ لَهَا، مُتَمَيِّزٌ عَنْهَا، فَهَذَا هُوَ الْخُرُوجُ.
فَالْمُتَحَيِّزُ يُرَادُ بِهِ تَارَةً مَا هُوَ دَاخِلُ الْعَالَمِ، وَتَارَةً مَا هُوَ خَارِجُ الْعَالَمِ، فَإِذَا قِيلَ: لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ، كَانَ مَعْنَاهُ لَيْسَ بِدَاخِلِ الْعَالَمِ وَلاَ خَارِجِه.
فَهُمْ غَيَّرُوا الْعِبَارَةَ لِيُوهِمُوا مَنْ لاَ يَفْهَمُ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ أَنَّ هَذَا مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي عُلِمَ فَسَادُهُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ. كَمَا فَعَلَ أُولَئِكَ فِي قَوْلِهِمْ: لَيْسَ بِحَيٍّ وَلاَ مَيِّتٍ، وَلاَ مَوْجُودٍ وَلاَ مَعْدُومٍ، وَلاَ عَالِمٍ وَلاَ جَاهِلٍ.


  #2  
قديم 6 ذو الحجة 1429هـ/4-12-2008م, 09:50 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي تقريب التدمرية للشيخ: محمد بن صالح العثيمين

الخَاتِمَةُ
هذهِ الخاتِمةُ تَشتملُ على قواعِدَ عظيمةٍ مُفيدةٍ:
القاعدةُ الأُولى:
أنَّ اللهَ تعالى موصوفٌ بالنَّفْيِ والإِثْباتِ
يعني أنَّ اللهَ تعالى جَمَعَ فيمَا وَصَفَ بهِ نفسَهُ بينَ النَّفيِ والإثباتِ كَما قالَ تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ([1]). وإنَّمَا جَمَعَ اللهُ تعالى لنفسِهِ بينَ النَّفيِ والإِثباتِ لأنَّهُ لاَ يَتِمُّ كمالُ الموصوفِ إلاّ بنفيِ صفاتِ النَّقصِ، وإثباتِ صفاتِ الكمالِ، وكلُّ الصِّفاتِ الَّتي نفاهَا اللهُ عنْ نفسِهِ صفاتُ نقْصٍ كالإعياءِ، واللُّغوبِ، والعَجْزِ، والظُّلْمِ، ومماثَلَةِ المخلوقينَ.
وكلُّ مَا أَثبتَهُ اللهُ تعالى لنفسِهِ فهوَ صفاتُ كمَالٍ كمَا قالَ اللهُ تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى)
([2]). سواءٌ كانتْ مِنَ الصِّفاتِ الذَّاتيَّةِ التي يَتَّصِفُ بهَا أَزَلاً وَأَبَداً، أمْ مِنَ الصِّفاتِ الفِعْلِيَّةِ الَّتي يَتَّصِفُ بهَا حيثُ تَقْتضِيهَا حكْمتُهُ، وإنْ كانَ أصلُ هذهِ الصِّفاتِ الفعليَّةِ ثابتاً لهُ أَزَلاً وأَبَداً فإنَّ اللهَ تعالى لم يَزَلْ ولا يزالُ فَعَّالاً لما يُريدُ.


فَصْلٌ


فَمِنْ صِفاتِ اللهِ تعالى الَّتي أَثبَتَهَا لنفسِهِ: الحياةُ.. والعِلْمُ.. والقدرةُ.. والسَّمْعُ.. والبَصَرُ.. والإِرادةُ.. والكلامُ.. والعِزَّةُ.. والحكْمةُ.. والمغفرةُ.. والرَّحمةُ.
فحياتُه تعالى حياةٌ كاملةٌ مسْتلزِمةٌ لكلِّ صفاتِ الكمالِ لمْ يَسْبقْهَا عَدَمٌ ولا يَلحقُهَا فناءٌ كما قالَ تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ) ([3]).
وقالَ: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ)([4]). وقالَ: (اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ)([5]).
وعلْمُهُ تعالى كاملٌ شاملٌ لكلِّ صغيرٍ، وكبيرٍ، وقريبٍ، وبعيدٍ، لمْ يَسبِقْهُ جهْلٌ، ولا يَلحقُهُ نِسْيانٌ كمَا قالَ اللهُ تعالى عنْ موسى حينَ سأَلَهُ فرعونُ: ما بالُ القرونِ الأُولى: (قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنْسَى)([6]). وقالَ تَعالى: (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)
([7]).
وقدرتُهُ تعالى كاملةٌ لمْ تُسْبَقْ بِعَجْزٍ ولاَ يَلْحَقُهَا تَعَبٌ قالَ اللهُ تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً)([8]). وقالَ (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً)([9]). وقالَ: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ)([10]).
وحكْمتُهُ تعالى حكْمةٌ بالغةٌ مُنزَّهةٌ عنِ العَبَثِ شاملةٌ لخلقِهِ وشرْعِهِ قالَ اللهُ تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَمَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَ بِالْحَقِّ) ([11]). وقالَ تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)([12]). وقالَ: (ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)([13]).

وحكْمتُهُ كسائرِ صفاتِهِ لا يُحيطُ بهَا الخلْقُ فقدْ نَعْجَزُ عنْ إِدراكِ الحكْمةِ فيمَا خَلَقَهُ أوْ شَرَعَهُ، وقدْ نُدرِكُ منهَا ما يَفْتحُ اللهُ بهِ عليْنَا.
وعلى هذَا تَجري سائرُ الصِّفاتِ الَّتي أَثْبَتَهَا اللهُ تعالى لنفسِهِ فكلُّهَا صفاتُ كمالٍ لا نَقْصَ فيهِ بوجْهٍ منَ الوجوهِ.

فَصْلٌ


ومن الصِّفاتِ الَّتي نَفاهَا اللهُ تعالى عنْ نفسِهِ: الموتُ.. والجهلُ.. والنِّسيانُ.. والعجزُ.. والسِّنَةُ.. والنَّومُ.. واللُّغوبُ.. والإِعياءُ.. والظُّلْمُ.
قالَ اللهُ تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ)([14]).
وقالَ عنْ موسى: (فِي كِتَابٍ لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنْسَى)([15]).
وقالَ: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الْأَرْضِ)([16]).
وقالَ: (لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ)([17]).
وقالَ: (وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ)([18]). وقالَ: (وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ)([19]). وقالَ: (وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) ([20]).
وكلُّ صفةٍ نَفاهَا اللهُ تعالى عنْ نفسِهِ فإنَّها مُتضَمِّنَةٌ لشَيْئَيْنِ:
أحدُهُمَا: انتفاءُ تلكَ الصِّفةِ.
الثّاني: ثبوتُ كمالِ ضِدِّهَا.
ألاَ ترى إلى قولِهِ: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً)([21]). فإنَّ اللهَ تعالى لَمَّا نَفَى عنْ نفسِهِ العَجْزَ بَيَّنَ أنَّ ذلكَ لكمالِ عِلْمِهِ وقُدْرَتِهِ.
وعلى هذَا فنَفْيُ الظُّلْمِ عنْ نَفْسِهِ، متَضَمِّنٌ لكمالِ عدْلِهِ.
ونفيُ اللُّغوبِ والعيِّ، متَضَمِّنٌ لكمالِ قوَّتِهِ.
ونفيُ السِّنَةِ والنَّوْمِ، متَضَمِّنٌ لكمالِ حياتِهِ وقيُّوميَّتِهِ.
ونفيُ الموتِ، متَضَمِّنٌ لكمالِ حياتِهِ.
وعلى هذَا تَجري سائرُ الصِّفاتِ المنْفِيَّةِ.
ولاَ يُمكِنُ أنْ يكونَ النَّفْيُ في صِفاتِ اللهِ – عزَّ وجلَّ – نفياً محْضاً، بلْ لا بدَّ أنْ يكونَ لإِثباتِ كمالٍ وذلكَ للوجوهِ التَّاليةِ:
الأوَّلُ: أنَّ اللهَ تعالى قالَ: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) ([22]). أي الوصفُ الأكملُ وهذَا معدومٌ في النَّفْيِ المحْضِ.
الثَّاني: أنَّ النَّفْيَ المحضَ عدَمٌ محْضٌ، والعدَمُ المحْضُ ليْسَ بشيءٍ، ومَا ليسَ بشيْءٍ فكيفَ يكونُ مدْحاً وكمالاً.
الثَّالِثُ: أنَّ النَّفْيَ – إنْ لمْ يَتضَمَّنْ كَمالاً – فقدْ يكونُ لعدمِ قابليَّةِ الموصوفِ لذلكَ المنفيِّ أوْ ضدِّهِ، لا لكمالِ الموصوفِ كمَا إذَا قيلَ: "الجدارُ لا يَظْلِمُ" فنفْيُ الظُّلمِ عنِ الجدارِ ليسَ لكمالِ الجدارِ، ولكنْ لعدمِ قابليَّةِ اتِّصافِهِ بالظُّلْمِ أو العدلِ، وحينئذٍ لاَ يكونُ نفيُ الظُّلْمِ عنْهُ مدْحاً لهُ ولاَ كمالاً فيهِ.
الرَّابعُ: أنَّ النَّفْيَ – إنْ لمْ يَتضمَّنْ كمالاً – فقدْ يكونُ لنقْصِ الموصوفِ لعَجْزِهِ عنْهُ كمَا لوْ قيلَ عنْ شخصٍ عاجزٍ عنِ الانتصارِ لنفسِهِ ممَّنْ ظَلَمَهُ: "إنَّهُ لا يَجْزِي السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئةِ" فإنَّ نفيَ مجازاتِهِ السَّيِّئَةَ بمثلِها ليسَ لكمالِ عفوِهِ ولكنْ لعجزِهِ عنِ الانتصارِ لنفسِهِ وحينئذٍ يكونُ نفيُ ذلكَ عنْهُ نقْصاً وذمًّا لاَ كمالاً ومدْحاً.
ألمْ تَرَ قولَ الحماسيِّ يَهْجُو قوْمَهُ:




بَنُو اللَّقِيطَةِ مِنْ ذُهْلِ بنِ شَيْبَانَا








لوْ كنتُ منْ مَازنٍ لمْ تَسْتَبِحْ إبِلي







إلى أنْ قالَ:




لَيْسُوا منَ الشَّرِّ في شيْءٍ وإنْ هانَا







ومنْ إساءَةِ أهْلِ السُّوءِ إحْسَاناً












لكنَّ قومِي وإنْ كانُوا ذَوِي عَدَدٍ











يَجْزُونَ مِنْ ظُلْمِ أهْلِ الظُّلْمِ مغفرةً









يريدُ بذلكَ ذمَّهُمْ ووصفَهُمْ بالعجْزِ لاَ مدْحَهُمْ بكمالِ العفوِ بدليلِ قولِهِ بعدُ:







شَنُّوا الإِغارةَ ركْبَاناً وفرْسَاناً











فليْتَ لي بِهِمُو قوماً إذَا رَكِبُوا







وبهذَا عُلِمَ أنَّ الَّذينَ لاَ يَصفُونَ اللهَ تعالى إلاّ بالنَّفْيِ المحضِ لم يُثْبِتُوا في الحقيقةِ إلهاً محمُوداً بلْ ولاَ موجوداً كقولِهمْ في اللهِ عزَّ وجلَّ "إنَّهُ ليْسَ بداخلِ العالمِ، ولا خارجِهِ، ولا مبايِنٍ، ولاَ مُحَايِثٍ([23])، ولا فوْقَ، ولاَ تحتَ، ولا متَّصِلٍ، ولا منفصلٍ". ونحوِ ذلكَ.

ولهذَا قالَ محمودُ بنُ سبكتكين([24]) لِمَنِ ادَّعى ذلكَ في الخالقِ جلَّ وعلاَ([25]): "ميِّزْ لنَا بيْنَ هذا الرَّبِّ الّذِي تُثْبِتُهُ وَبَيْنَ المَعْدُومِ". وَلَقَدْ صَدَقَ – رحِمهُ اللهُ – فإنَّهُ لنْ يُوصَفَ المعدومُ بوصْفٍ أبلَغَ منْ هذَا الوصْفِ الذِي وَصَفُوا بهِ الخالقَ جلَّ وعلاَ.

فمنْ قالَ: لاَ هوَ مبايْنٌ للعالَمِ، ولاَ مداخلٌ للعالمِ فَهُوَ بمنزلةِ منْ قالَ: لاَ هُوَ قائمٌ بنفسِهِ، ولا بغيْرِهِ، ولا قديمٌ، ولا مُحْدَثٌ، ولا مُتَقَدِّمٌ على العالمِ، ولا مقارنٌ لَهُ.

ومَنْ قالَ: ليْسَ بحيٍّ، ولاَ سميعٍ، ولا بصيرٍ، ولا متكلِّمٍ، لَزِمَهُ أنْ يكونَ ميِّتاً، أصمَّ، أعْمَى، أبْكَمَ([26]).













([1]) سورة الشورى، الآية: 11.




([2]) سورة النحل، الآية: 60.




([3]) سورة الفرقان، الآية 58.




([4]) سورة الحديد، الآية: 3.




([5]) سورة البقرة، الآية: 255.



([6]) سورة طه، الآية: 52.



([7]) سورة الأنفال، الآية: 75.



([8]) سورة فاطر، الآية: 44.



([9]) سورة الطلاق، الآية: 12.



([10]) سورة ق، الآية: 38.



([11]) سورة الدخان، الآية: 38.



([12]) سورة الملك، الآية: 2.



([13]) سورة الممتحنة، الآية: 10.



([14]) سورة الفرقان، الآية: 58.



([15]) سورة طه، الآية: 52.



([16]) سورة فاطر، الآية: 44.



([17]) سورة البقرة، الآية: 255.



([18]) سورة ق، الآية: 38.



([19]) سورة الأحقاف، الآية: 33.



([20]) سورة الكهف، الآية: 49.



([21]) سورة فاطر، الآية: 44.



([22]) سورة النحل، الآية: 60.



([23]) المحايث: المداخل. ر 5/269 مجموع الفتاوى لابن القاسم.



([24]) محمود بن سبكتكين أحد كبار القادة يمين الدولة وأمين الملة استولى على الإمارة سنة 389 وأرسل إليه القادر بالله الخليفة العباسي خلعة السلطنة فقصد بلاد خراسان وامتدت سلطنته من أقاصي الهند إلى نيسابور كان تركي الأصل فصيحا؟ً بليغاً حازماً صائب الرأي شجاعاً مجاهداً فتح في بلاد الكفار من الهند فتوحات هائلة لم تتفق لغيره من الملوك لا قبله ولا بعده ومع ذلك كان في غاية الديانة والصيانة يكره المعاصي والملاهي وأهلها ويحب العلماء والصالحين ويجالسهم ويناظرهم مات في غزنة سنة 421-422هـ عن ثلاث وستين سنة تولى الإمارة فيها ثلاثاً وثلاثين سنة رحمه الله وأكرم مثواه.



([25]) هو أبو بكر بن فورك المتكلم المعروف.



([26]) انظر الرد على الطائفة الرابعة غلاة الغلاة ص 35.




  #3  
قديم 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م, 02:06 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي توضيح مقاصد المصطلحات العلمية للشيخ: محمد بن عبد الرحمن الخميس

(28) (قَالَ) شَيْخُ الْإِسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(فَالَّذِينَ لاَ يَصِفُونَهُ إِلاَّ بِالسُّلُوبِ...)

الشرحُ:
أَقُولُ: السُّلُوبُ جَمْعُ سَلْبٍ، والسَّلْبُ هو النَّفْيُ، والمرادُ أنَّ هؤلاءِ المُعَطِّلَةَ الغُلاَةَ لا يَصِفُونَ اللَّهَ تَعَالَى بصفاتٍ ثُبُوتِيَّةٍ كالسمعِ والبصرِ والعُلُوِّ ونَحْوِهَا من الصفاتِ الكماليَّةِ الدالَّةِ على مَطَالِبَ عظيمةٍ ومَعَارِفَ دالَّةٍ على عَظَمَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى، بل هؤلاءِ المُعَطِّلَةُ الغُلاَةُ يَصِفُونَ اللَّهَ تَعَالَى بأمورٍ مَنْفِيَّةٍ فيَقُولُونَ: اللَّهُ لا مَعْدُومٌ، ولا مَوْجُودٌ، ولا يَتَكَلَّمُ، ولا يَرَى، ولا يَسْمَعُ، ولا فَوْقُ ولا تَحْتُ، ولا يَمِينُ ولا شِمَالُ، ولا أَمَامُ ولا خَلْفُ، ولا دَاخِلُ ولا خارجُ, ولا مُتَّصِلٌ ولا مُنْفَصِلٌ، فهذهِ الصفاتُ في الحقيقةِ ليستْ بصفاتٍ كماليَّةٍ، بلْ هي صفاتٌ للمعدومِ المَحْضِ، بلْ للمُمْتَنِعِ البَحْتِ، وليس هذهِ الصفاتُ للموجودِ أَصْلًا، فَضْلًا عن أنْ تكونَ لواجبِ الوجودِ؟!

(29) (قَالَ) شَيْخُ الْإِسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(قِيلَ لَهُ: هذا اصطلاحٌ اصْطَلَحْتُمُوهُ.. مع اتِّصَافِهِ بِنَقَائِصِهَا)

الشرح ُ:
أقولُ: هذا جوابٌ لاعتراضِ الجَهْمِيَّةِ، وتقريرُ هذا الاعتراضِ: أنَّ الجَهْمِيَّةَ لَمَّا وَصَفُوا اللَّهَ تَعَالَى بأَنَّهُ "لا حَيٌّ ولا مَيِّتٌ"، فَنَفَوْا عن اللَّهِ تَعَالَى الحياةَ والمَمَاتَ مَعًا، فَأَوْرَدَ عليهم أهلُ السُّنَّةِ إِشْكَالًا، تَقْرِيرُهُ:

إِنَّكم أيُّهَا الجَهْمِيَّةُ قد وَصَفْتُم اللَّهَ تَعَالَى بأَنَّهُ لا حَيٌّ ولا مَيِّتٌ، فَنَفَيْتُمْ عن اللَّهِ تَعَالَى الحياةَ وضِدَّهُ المَمَاتَ. وهذا النَّفْيُ لا يُمْكِنُ عَقْلًا،؛ لأَنَّهُ إذا لم يَكُنْ حَيًّا لا بُدَّ أنْ يَكُونَ مَيِّتًا، وإذا لم يَكُنْ مَيِّتًا لا بُدَّ أنْ يَكُونَ حَيًّا.
وإِلاَّ يَلْزَمُ رَفْعُ النَّقِيضَيْنِ، ورَفْعُ النَّقِيضَيْنِ باطِلٌ باتفاقِ العقلاءِ.

فَأَجَابَ هؤلاءِ الجَهْمِيَّةُ عن هذا الإشكالِ، فقَالوا: لا يَلْزَمُ من قولِنَا: (لا حَيٌّ ولا مَيِّتٌ). رَفْعُ النَّقِيضَيْنِ؛ لأَنَّ الحياةَ والمَمَاتَ لَيْسَا نَقِيضَيْنِ، بلْ هُمَا من قبيلِ العدمِ والملكةِ، والقاعدةُ في المُتَخَالِفَيْنِ - تَخَالُفِ العدمِ والملكةِ: أنْ يَكُونَ مَحَلُّ العَدَمِيِّ صالِحًا للوجوديِّ وبالعكسِ.

يَكُونُ مَحَلُّ العدميِّ صالحًا للوجوديِّ وبالعكسِ.
نحوَ: العَمَى والبَصَر. فالعَمَى عَدَمِيٌّ، والبصرُ وُجُودِيٌّ.
فَمَحَلُّ العَدَمِيِّ هَهُنَا صَالِحٌ للوجوديِّ وبالعكسِ، فزيدٌ بصيرٌ مثلًا لَكِنَّهُ صالحٌ لأَنْ يَكُونَ أَعْمَى، وبكرٌ أَعْمَى مَثَلًا, ولكنَّهُ صالحٌ لأَنْ يَكُونَ بَصِيرًا.

وأَمَّا إذا لمْ يَكُنْ ذلكَ المَحَلُّ قابِلًا للآخرِ فَحِينَئِذٍ يجوزُ لكَ أنْ تَنْفِيَ الوجوديَّ والعدميَّ كِلَيْهِمَا؛ لأَنَّهُ لا يَلْزَمُ حينئذٍ ثبوتُ أحدِهِمَا بِنَفْيِ الآخرِ أو بِنَفْيِ أحدِهِمَا. وذلكَ كالجدارِ، فإِنَّ الجدارَ ليسَ مَحَلاّ للعلمِ ولا للجهلِ، فإذا قُلْتَ: هذا الجدارُ, لا عالِمٌ ولا جاهلٌ. جَازَ لكَ هذا؛ لأَنَّهُ لا يَلْزَمُ مِن قولِكَ: الجدارُ ليس بعالمٍ. أنْ يَكُونَ الجدارُ جاهِلًا.

وإذا نَفَيْتَ الجهلَ عن الجدارِ، وقُلْتَ: الجدارُ ليسَ بجاهلٍ، لا يَلْزَمُ منهُ أنْ يَكُونَ الجدارُ عالِمًا، فَيَصِحُّ لكَ أنْ تقولَ: هذا الجدارُ ليسَ بعالمٍ ولا جاهلٍ، ولا حَيٍّ ولا مَيِّتٍ، فهكذا يَجُوزُ لكَ أنْ تقولَ: اللَّهُ ليس بِحَيٍّ ولا مَيِّتٍ، ولا عالمٍ ولا جاهلٍ، هذا كانَ تَقْرِيرَ اعتراضِ الجَهْمِيَّةِ وَبَيَانَ إِشْكَالِهِم على جوابِ أهلِ السُّنَّةِ، ولكنْ أُجِيبَ عن هذا الإشكالِ على لسانِ شَيْخِ الْإِسْلاَمِ فقَالَ:

إِنَّ هذا الذي ذَكَرْتُم في بيانِ التَّنَاقُضِ والتَّخَالُفِ، والعدمِ والملكةِ – مِن تلكَ القاعدةِ – فهذهِ القاعدةُ فاسدةٌ غَيْرُ صادقةٍ، فإِنَّ هذه القاعدةَ مُجَرَّدُ اصطلاحٍ اصْطَلَحْتُمُوهُ، وَلَسْنَا مُتَّفِقِينَ مَعَكُم عليها.
فلا حُجَّةَ لكم فيها عَلَيْنَا؛ لأَنَّهُ من المعلومِ أنَّ ما يُوصَفُ بعدمِ الحياةِ والسمعِ والبصرِ والكلامِ يُمْكِنُ وَصْفُهُ بالموتِ والعَمَى والخَرَسِ والعُجْمَةِ.
فَكُلُّ موجودٍ يَقْبَلُ الاتصافَ بهذهِ الأوصافِ ونَقَائِضِهَا، فَيَصِحُّ أنْ يُقَالَ للجدارِ: جاهلٌ لا عِلْمَ لَهُ، وأَنَّهُ مَيِّتٌ لا حَيَاةَ فيهِ، فإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الجمادَ بالموتِ وعدمِ العلمِ.

فقَالَ: { أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } هذا الجوابُ الأَوَّلُ.
والجوابُ الثاني أنْ نقولَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قادِرٌ على جَعْلِ الجمادِ حَيًّا، كَمَا جَعَلَ عَصَا موسى حَيَّةً.
والجوابُ الثالثُ أنْ نقولَ: إِنَّ الذي لا يَقْبَلُ الاتصافَ بهذهِ الصفاتِ هو أَعْظَمُ نَقْصًا مِمَّنْ لا يَقْبَلُ الاتصافَ بها – مع اتصافِهِ بنقائِضِهَا – فإِنَّ الجمادَ الذي لا يُوصَفُ بالبصرِ ولا العَمَى ولا الكلامِ ولا الخَرَسِ أَعْظَمُ نَقْصًا من الحيِّ الأعْمَى الأخْرَسِ؟!
وإذا عَرَفْتَ هذا فاعْلَمْ: أنَّ مَن قَالَ: إِنَّ اللَّهَ, لا حَيٌّ, ولا مَيِّتٌ, ولا مُتَكَلِّمٌ, ولا أَخْرَسُ، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْقَصَ مِن المَيِّتِ الأخرسِ، فهذا الرجلُ قد وَقَعَ في أَشَدِّ مِمَّا فَرَّ مِنْهُ حيثُ جَعَلَ اللَّهَ تَعَالَى مُشَابِهًا بشيءٍ أَنْقَصَ حالًا مِن المَيِّتِ؛ لأَنَّ هذا الرجلَ قد أَرَادَ تَنْزِيهَ اللَّهِ تَعَالَى، ولكنْ وَقَعَ في أَقْبَحِ التَّشْبِيهِ وَأَوْقَحِهِ.
حيثُ أرادَ أنْ يُنَزِّهَ اللَّهَ تَعَالَى عن تشبيهِ الحيوانِ الذي يَسْمَعُ,فَشَبَّهَ اللَّهَ تَعَالَى بِشَيْءٍ أَحَطَّ مَنْزِلَةً مِن المَيِّتِ الذي لا يَسْمَعُ؟! فإِنَّ هذا تَشْبِيهٌ بالجماداتِ لا بالحيواناتِ، فلو شَبَّهَ اللَّهَ تَعَالَى بالحيواناتِ لَكَانَ أَقَلَّ قُبْحًا, وكلاهُمَا قَبِيحٌ.
والجوابُ الرابعُ الذي أشارَ إليهِ شَيْخُ الْإِسْلاَمِ أنَّ الحيوانَ الذي يَسْمَعُ أَوْلَى من الجمادِ الذي لا يَسْمَعُ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لا حَيٌّ ولا مَيِّتٌ بِحُجَّةِ أَنَّهُ غَيْرُ قابلٍ للحياةِ والمَمَاتِ كانَ هذا تَشْبِيهًا للهِ تَعَالَى بالجمادِ الذي لا يَقْبَلُ الاتصافَ بهذهِ الصفاتِ وضِدِّهَا.

وهذا لا شَكَّ أَنَّهُ تَشْبِيهٌ بالجماداتِ لا بالحيواناتِ، والتَّشْبِيهُ بالجماداتِ أَبْطَلُ من التشبيهِ بالحيواناتِ.

(30) (قَالَ) شَيْخُ الْإِسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(قَالُوا: هذا إِنَّما يَكُونُ إذا كانَ قَابِلًا لذلكَ، والقَبُولُ إِنَّما يَكُونُ من المُتَحَيِّزِ، فإذا انْتَفَى الحَيِّزُ انْتَفَى قَبُولُ هذينِ المُتَنَاقِضَيْنِ)

الشرحُ:
أَقُولُ: هذا الاعتراضُ شَبِيهٌ بالاعتراضِ السابقِ من جَرْيِهِ على قاعدةِ القَبُولِ وعدمِ القَبُولِ، أيْ: اتِّصَافِ المَحَلِّ بالعدمِ والمَلَكَةِ.

ولكنْ ساقَهُ شَيْخُ الْإِسْلاَمِ لاعتراضٍ آخَرَ. وحاصِلُ هذا الاعتراضِ أنَّ مَن ضَاهَى هؤلاءِ الجَهْمِيَّةَ الغُلاَةَ في قولِهِم: إِنَّ اللَّهَ لا حَيٌّ ولا مَيِّتٌ، ولا مُتَكَلِّمٌ ولا أَخْرَسُ، وَمَشَوْا على مِنْوَالِهِم في الجحودِ والنفْيِ للضِّدَّيْنِ عن اللَّهِ ورَفْعِ المتناقِضَيْنِ عنهُ تَعَالَى فقَالُوا:
إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ليسَ بداخلِ العالمِ ولا خارجِ العالمِ، ولا مُتَّصِلًا بالعالمِ ولا مُنْفَصِلًا عنهُ.

فَأَوْرَدَ عَلَيْهِم أهلُ السُّنَّةِ إشكالًا، تقريرُهُ: أَنْتُمْ أَيُّهَا المَاتُرِيدِيَّةُ والأَشْعَرِيَّةُ، قد نَفَيْتُمْ عن اللَّهِ تَعَالَى الدخولَ والخروجَ والاتصالَ والانفصالَ وهذا رَفْعٌ للنَّقِيضَيْنِ.
وهذا غَيْرُ مُمْكِنٍ عَقْلًا، فإِنَّه إذا لم يَكُنْ داخِلًا في العالمِ كانَ خارِجًا عنهُ ولا بُدَّ مِن ذلكَ.
وإذا لم يَكُنْ مُتَّصِلًا بالعالمِ كانَ مُنْفَصِلًا عنهُ ولا بُدَّ مِن ذلكَ!

فإِنَّ نَفْيَ أَحَدِهِمَا يَسْتَلْزِمُ إثباتَ الآخرِ، إذْ لا يَجُوزُ نَفْيُهُمَا جَمِيعًا؛ لِئَلاَّ يَلْزَمَ رفعُ النَّقِيضَيْنِ. فأجابَ هؤلاءِ الجَهْمِيَّةُ الماتُرِيدِيَّةُ والأَشْعَرِيَّةُ عن إشكالِ أهلِ السُّنَّةِ هذا بقولِهِم: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ليسَ بِمُتَحَيِّزٍ أصلًا، والقَبُولُ وعَدَمُهُ من صفاتِ المُتَحَيِّزِ, أي: كونِ الشيءِ داخِلًا أو خارِجًا أو مُتَّصِلًا أو مُنْفَصِلًا لا يَتَحَقَّقُ إِلاَّ في المُتَحَيِّزِ، واللَّهُ غَيْرُ مُتَحَيِّزٍ، فاللَّهُ تَعَالَى غَيْرُ قابلٍ للدخولِ والخروجِ، والاتصالِ والانفصالِ.
فلا يَرِدُ ذلكَ الإشكالُ البَتَّةَ.

فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلاَمِ عن هذا الاعتراضِ بِجَوَابَيْنِ:

الجوابُ الأَوَّلُ: بقولِهِ: (فَيُقَالُ لهم: عِلْمُ الخلقِ بامتناعِ الخُلُوِّ من هَذَيْنِ النَّقِيضَيْنِ عِلْمٌ مُطْلَقٌ لا يُسْتَثْنَى منهُ موجودٌ ).
والمعنى أنَّ قولَكُم: إِنَّ اللَّهَ لا داخِلُ العالمِ ولا خارجُهُ ولا مُتَّصِلٌ ولا مُنْفَصِلٌ عنهُ باطلٌ في بَدَاهَةِ عقولِ الناسِ؛ فإِنَّ عِلْمَ الناسِ بهذا البُطلانِ عِلْمٌ مُطْلَقٌ قَوِيٌّ بَدِيهِيٌّ ضَرُورِيٌّ عندَ كُلِّ إِنَّسانٍ، فَكُلُّ إِنَّسانٍ يَعْلَمُ عِلْمًا يَقِينِيًّا أنَّ كُلَّ موجودٍ إمَّا أنْ يَكُونَ داخِلًا, فلا يَكُونُ خارِجًا, وإمَّا أنْ يَكُونَ خارِجًا, فلا يَكُونُ داخِلًا، وهكذا في الاتصالِ والانفصالِ.

وأمَّا إذا كانَ داخلًا ولا خارجًا، فهذا ليس بشيءٍ موجودٍ وإِنَّما هوَ معدومٌ، بلْ هو مُمْتَنِعٌ.
وهذا واضحٌ بالضرورةِ عندَ كُلِّ إِنَّسانٍ، الحاصلُ أنَّ قولَكُم هذا مِن أوضحِ الباطلِ في بَدَاهَةِ العقولِ. هذا هوَ الجوابُ الأَوَّلُ.

الجوابُ الثاني:
أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ ليس بِمُتَحَيِّزٍ، فليسَ هو قابلًا لتلكَ الصفاتِ وضِدِّهَا، فَنَقُولُ: هذا باطلٌ جِدًّا؛ لأَنَّ المُتَحَيِّزَ لَهُ مَعْنَيَانِ:

الأَوَّلُ: أنْ يَكُونَ الشيءُ تُحِيطُ بهِ الأحيازُ، فهذا الشيءُ لا شَكَّ أَنَّهُ في داخلِ العالمِ، وليس بخارجِ العالمِ البَتَّةَ.

والمَعْنَى الثاني: هو كونُ الشيءِ بِحَيْثُ يَكُونُ مُنْحَازًا عن العالَمِ أي: مُبَايِنًا عنهُ.
فالمُتَحَيِّزُ بهذا المعنى لا شَكَّ أَنَّهُ خارِجٌ عن هذا العالمِ، وليس بداخلٍ في العالَمِ.
فاللَّهُ تَعَالَى في الحقيقةِ مُتَحَيِّزٌ بالمعنى الثاني لا بالمَعْنَى الأَوَّلِ.
وإذا عَرَفْتَ المَعْنَيَيْنِ للمُتَحَيِّزِ – نقولُ: إذا قُلْتَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ليسَ بِمُتَحَيِّزٍ هكذا مُطْلَقًا.
كانَ مَعْنَاهُ أنَّ اللَّهَ تَعَالَى ليسَ بداخلِ العالمِ ولا خارجِهِ، وهذا من أَبْطَلِ الباطلِ في بَدَاهَةِ العقولِ كما سَبَقَ، فهؤلاءِ قَصْدُهُم مِن قولِهِم:

ليسَ بِمُتَحَيِّزٍ: أنَّ اللَّهَ ليسَ بداخلِ العالمِ ولا خارجِهِ، ولكنَّهُم قد غَيَّرُوا العبارةَ، فالذينَ لا يَعْرِفُونَ مصطلحاتِ هؤلاءِ المَاتُرِيدِيَّةِ والأشعريَّةِ الجَهْمِيَّةِ، لا يَعْرِفُونَ حقيقةَ ما قَصَدُوا.
الحاصلُ: أنَّ قولَ المَاتُرِيدِيَّةِ: إِنَّ اللَّهَ ليسَ بِمُتَحَيِّزٍ، أو قَوْلَهُم: إِنَّ اللَّهَ لا دَاخِلَ العالمِ ولا خارجَهُ، هو بِعَيْنِهِ مثلَ قولِ الجَهْمِيَّةِ الأُولَى الغُلاَةِ: إِنَّ اللَّهَ لا حَيٌّ ولا مَيِّتٌ، ولا مُتَكَلِّمٌ ولا أَخْرَسُ.


  #4  
قديم 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م, 02:08 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التحفة المهدية للشيخ: فالح بن مهدي الدوسري

القاعـــدةُ الأُولى




قولُه:
(فصلٌ) وأما الخاتِمةُ الجامعةُ ففيها قواعدُ نافعةٌ، (القاعدةُ الأُولى): أن اللهَ سبحانَه موصوفٌ بالإثباتِ والنفيِ، فالإثباتُ كإخبارِه بأنه بكلِِّّ شيءٍ عليمٌ، وعلى كلِّ شيءٍ قديرٌ، وأنه سميعٌ بصيرٌ، ونحوَ ذلك، والنفيُ كقولِه: لا تأخذُه سِنةٌ ولا نوْمٌ.

الشرْحُ:
تَقدَّمَ الكلامُ في بيانِ الأصلين والمَثَلَيْن، وهذا أوانُ الشروعِ في بيانِ الخاتِمةِ الجامعةِ، القاعدةُ الأُولى من القواعدِ التي تَضمَّنَتْها الخاتِمةُ الجامعةُ: هي أن اللهَ موصوفٌ بالإثباتِ كوصفِه بأنه عليمٌ قديرٌ، سميعٌ بصيرٌ، إلى غيرِ ذلك من الصفاتِ، وموصوفٌ بالنفيِ, كما في قولِه: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} وقولِه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ووصْفُه سبحانَه بالإثباتِ ونفيِ مماثَلَةِ المخلوقاتِ هو محْضُ التوحيدِ، ونفيُ صفاتِه هو محْضُ الشرْكِ والتعطيلِ، فلو لم يكنْ له علْمٌ ولا قدْرَةٌ، ولا سمْعٌ ولا بَصَرٌ، ولم يقُمْ به فعْلٌ لما يُريدُ، ولا يُمكِنُ أن يُشارَ إليه لكان العدَمُ المَحْضُ كُفْؤاً له.

قولُه:
ويَنبغي أن يُعْلَمَ أن النفيَ ليس فيه مدْحٌ ولا كمالٌ, إلا إذا تَضمَّنَ إثباتاً، وإلا فمجرَّدُ النفيِ ليس فيه مدْحٌ ولا كمالٌ؛ لأن النفيَ المَحْضَ عدَمٌ مَحْضٌ، والعدَمُ المَحْضُ ليس بشيءٍ، وما ليس بشيءٍ فهو كما قِيلَ ليس بشيءٍ، فضْلاً عن أن يكونَ مدْحاً أو كمالاً ولأن النفيَ المَحْضَ يُوصَفُ به المعدومُ والممتنِعُ، والمعدومُ والممتنِعُ لا يُوصفُ بمدْحٍ ولا كَمالٍ.

الشرْحُ:
العدَم المَحْضُ هو النفيُ المجرَّدُ الذي لا يَتضمَّنُ إثباتَ مدْحٍ ولا كمالٍ، وليس في النفيِ المجرَّدِ إثباتُ صفةِ كمالٍ، وذلك لسبَبَيْنِ، بيَّنَ المؤلِّفُ السببَ الأوَّلَ بقولِه: (لأن النفيَ المَحْضَ عدَمٌ مَحْضٌ) وبيَّنَ الثانيَ بقولِه: (ولأن النفيَ المَحْضَ يُوصَفُ به المعدومُ والممتنِعُ) ثم بيَّنَ حالَ العدَمِ المَحْضِ, وأنه ليس بشيءٍ، وما ليس بشيءٍ فهو على اسْمِه، فيَبْعُدُ أن يكونَ وصْفَ كمالٍ أو مدْحٍ، فلا يُمْدَحُ به أحدٌ ولا يكونُ كمالاً، بل هو أنقصُ النقْصِ، وبيَّنَ حالَ المعدومِ والممتنِعِ بأنه لا يُوصَفُ بمَدْحٍ ولا كمالٍ، ولذلك يُوصَفُ بالعدَمِ المَحْضِ.

قولُه:
فلهذا كان عامَّةُ ما وَصَفَ اللهُ به نفسَه من النفيِ مُتضمِّناً لإثباتِ المدْحِ، كقولِه: {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} إلى قولِه: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} فنَفْيُ السِّنَةِ والنومِ يَتَضَمَّنُ كمالَ الحياةِ والقِيامِ، فهو مُبَيِّنٌ لكمالٍ أنه الحيُّ القيُّومُ، وكذلك قولُه: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} أي: لا يَكْرُثُهُ ولا يُثْقِلُه, وذلك مستلزِمٌ لكمالِ قدْرتِه وتَمامِها، بخلافِ المخلوقِ القادرِ, إذا كان يَقْدِرُ على الشيءِ بنوعِ كُلفَةٍ ومَشَقَّةٍ، فإن هذا نقصٌ في قدْرَتِه وعَيبٌ في قوَّتِه وكذلك قولُه: {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الْأَرْضِ} فإن نفيَ العُزوبِ مستلزِمٌ لعلمِه بكلِِّّ ذرَّةٍ في السمواتِ والأرضِ، وكذلك قولُه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} فإن نفيَ مسِّ اللغوبِ، الذي هو التعبُ والإعياءُ دَلَّ على كمالِ القدرةِ ونهايةِ القوَّةِ، بخلافِ المخلوقِ الذي يَلْحَقُه من التعبِ والكَلالِ ما يَلْحَقُه. وكذلك قولُه: {لاَ تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} إنما نَفَى الإدراكَ الذي هو الإحاطةُ, كما قاله أكثرُ العلْماءِ، ولم يَنفِ مجرَّدَ الرؤيةِ؛ لأن المعدومَ لا يُرَى، وليس في كونِه لا يُرَى مدْحٌ؛ إذ لو كان كذلك لكان المعدومُ ممدوحاً وإنما المدْحُ في كونِه لا يُحاطُ به, وإن رُؤِيَ، كما أنه لا يُحاطُ به وإن عُلِمَ، فكما أنه إذا عُلِمَ لا يُحاطُ به علْماً، فكذلك إذا رُؤِيَ لا يُحَاطُ به رؤيةً، فكان في نفيِ الإدراكِ من إثباتِ عظمتِه ما يكون مدْحاً وصفةَ كمالٍ، وكان ذلك دليلاً على إثباتِ الرؤيةِ لا على نفيِها، لكنه دليلٌ على إثباتِ الرؤيةِ مع عدَمِ الإحاطةِ، هذا هو الحقُّ الذي اتَّفق عليه سلَفُ الأمَّةِ وأئمَّتُها.

الشرْحُ:
يعني: ومن أجْلِ أن النفيَ المجرَّدَ ليس فيه مدْحٌ ولا كمالٌ، نجدُ أن جميعَ ما وَصَفَ اللهُ به نفسَه من النفيِ مُتضمِّناً لإثباتِ أوصافِ الكمالِ، ثم مَثَّلَ المؤلِّفُ لهذا النفيِ الذي وَصفَ اللهُ به نفسَه فقالَ: كقولِه: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} لكمالِ حياتِه وقيُّوميَّتِه, وقولِه: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} لكمالِ قوَّتِه، وقولُه: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ} يعني: لكمالِ علْمِه، وقولُه: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} لكمالِ قدرتِه، وقولُه: { لاَ تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} يعني: لعظمتِه وإحاطتِه بما سِواه، وقد أَوضحَ المؤلِّفُ تَضَمُّنَ الآياتِ الكريماتِ التي استشْهَدَ بها أوصافَ المدْحِ والكمالِ للهِ، فهو نفيٌ مُتضمِّنٌ للمدْحِ. والقيُّومُ: هو القائمُ بنفسِه, المقيمُ لغيرِه, فجميعُ الموجوداتِ مُفْتَقِرَةٌ إليه, وهو غنيٌّ عنها، ولا قِوامَ لها بدونِ أمرِه, كما قالَ تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهَ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} وفي الصحيحين من دعائِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاةِ الليلِ: (اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيُّوُم السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) الحديثَ، ومن أجْلِ أنه لا يَعْتَرِيهِ نَقْصٌ ولا غفْلةٌ ولا ذُهولٌ عن خلقِه أَردفَ اسمَ الحيِّ والقيُّومِ بنفيِ السِّنةِ والنومِ. و (السِّنةُ) الوَسَنُ والنُّعَاسُ، و (النومُ) أَثقلُ من ذلك فهو – سبحانَه – قائمٌ على كلِّ نفسٍ بما كَسَبتْ، شهيدٌ على كلِّ شيءٍ ولا يَغيبُ عنه شيءٌ، وفي الصحيحين عن أبي موسى – رَضِيَ اللهُ عنه – قالَ: قام فينا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأربعِ كلماتٍ فقالَ: (إِنَّ اللهَ لاَ يَنَامُ, وَلاَ يَنْبَغِي له أن يَنامَ، يَخْفِضُ القِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لاَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ). والكَلالُ مصدرُ كَلَّ يَكِلُّ كَلاّ, وهو التَّعَبُ,

قالَ الأعشى:
فآلَيْتُ لا أَرْثِي لها من كَلاَلَةٍ ولا من وَجًى حتى تُلاقي مُحَمَّداً

فمادَّة ((كَلَّ)) تدُلُّ على الضَّعْفِ والإعياءِ، يُقالُ: كَلَّ الرجلُ يَكِلُّ كَلاَّ وكَلاَلَةً إذا أَعْيا وذَهَبتْ قوَّتُه، وقولُه: (وكذلك {لاَ تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} إنما نَفَى الإدراكَ الذي هو الإحاطةُ, كما قاله أكثرُ العلْماءِ، ولم يَنفِ مجرَّدَ الرؤيةِ) معناه أن جمهورَ العلْماءِ فسَّرُوا الإدراكَ هنا بالإحاطةِ، فالمنفيُّ هو الإحاطةُ دونَ الرؤيةِ,فلا تَحتاجُ الآيةُ إلى تخصيصٍ, ولا خروجٍ عن الظاهرِ، فلا نقولُ معناها أنَّا لا نراه في الدنيا، أو نقولُ: لا تُدْرِكُه الأبصارُ, بل المُبْصِرون، أو لا تُدْرِكُه كلُّها، بل بعضُها ونحوَ ذلك من الأقوالِ التي فيها تَكلُّفٌ، فالآيةُ واضحةٌ في نفيِ إحاطةِ الأبصارِ به سبحانَه، فإن نفيَ الرؤيةِ ليس بصفةِ كمالٍ، وإنما الكمالُ فى إثباتِ الرؤيةِ ونفيِ إدراكِ الرائي له إدراكَ إحاطةٍ كما فى العلْمِ؛فإن نفيَ العِلْمِ به ليس بكمالٍ، وإنما الكمالُ في إثباتِ العلْمِ ونفيِ الإحاطةِ به علْماً، فهو سبحانَه لا يُحَاطُ به رؤيةً, كما لا يُحَاطُ به علْماً، فقد دلَّ القرآنُ الكريمُ على رؤيةِ المؤمنين ربَّهم يومَ القيامةِ، والأحاديثُ بها متواترةٌ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندَ أهلِ العلْمِ بالسنَّةِ، وأما احتجاجُ النُّفاةِ بهذه الآيةِ، فالآيةُ حجَّةٌ عليهم لا لهم، ولكن ليس كلُّ من رأَى شيئاً يُقالُ: أَحاطَ به رؤيةً، كما سُئِلَ ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، عن ذلك فقالَ: ألستَ تَرى السماءَ؟ قالَ: بلى، قالَ: هل تُحيطُ بها؟ قالَ: لا. ومن رأَى جوانبَ الجيشِ أو الجبلِ أو البستانِ أو المدينةِ لا يُقالُ إنه أَدركَها، وإنما يُقالُ: أَدْرَكَهَا، إذا أحاطَ بها رؤيةً، فبيْنَ لفظِ الرؤيةِ ولفظِ الإدراكِ عمومٌ وخصوصٌ من وجهٍ, قالَ تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} فنَفى موسى الإدراكَ مع إثباتِ التَّرَائيِ, فعُلِمَ أنه قد يكونُ رؤيةٌ بلا إدراكٍ، ومما يُبَيِّنُ ما سَبَقَ أن اللهَ تعالى ذكَرَ هذه الآيةَ يَمْدَحُ بها نفسَه – سبحانَه وتعالى – ومعلومٌ أن كونَ الشيءِ لا يُرَى ليس ذلك صفةَ مدْحٍ له؛ لأن المعدومَ لا يُرَى، والمعدومُ لا يُمْدَحُ, فعُلِمَ أن مجرَّدَ نفيِ الرؤيةِ لا مَدْحَ فيه. وقولُه: (وهذا هو الحقُّ الذى اتَّفقَ عليه سلَفُ الأمَّةِ وأئمَّتُها) يعني: أن إثباتَ الرؤيةِ مع نفيِ الإحاطةِ هو القولُ الصوابُ، الذي دَلَّ عليه الكتابُ والسنَّةُ، واتَّفقَ عليه الصحابةُ والتابعون، وأئمَّةُ الإسلامِ المَعرُوفون بالإمامةِ في الدِّينِ، كمالِكٍ، والثوريِّ، والأوزاعيِّ، والليثِ بنِ سعدٍ، والشافعيِّ، وأحمدَ، وإسحقَ، وأبى حنيفةَ، وأبي يوسُفَ، وأمثالِ هؤلاءِ وسائرِ أهلِ السنَّةِ، وكذلك الطوائفُ المنتسِبون إلى السنَّةِ والجماعةِ، كالكُلاَّبِيَّةِ، والكَرَّامِيَّةِ، والأشعريَّةِ والسالِمِيَّةِ، كلُّهم متِّفقون على إثباتِ الرؤيةِللهِتعالى في الآخرةِ، ولم يُنكِرْ رؤيةَ المؤمنين لربِّهم في دارِ الخلودِ إلا الجَهْميَّةُ والمعتزلِةُ والخوارجُ ونحوَهم من طوائفِ الضلالِ, وما أَحْرَاهُمْ بأن يكونوا ممن قالَ اللهُ فيهم: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} نَسألُ اللهَ السلامةَ والعافيةَ، كما نَسألُه سبحانَه لذَّةَ النظرِ إلى وجهِه الكريمِ.

قولُه:
وإذا تَأمَّلْتَ ذلك وجدْتَ كلَّ نفيٍ لا يَستلزِمُ ثُبوتاً هو مما لم يَصِفِ اللهُ به نفسَه، فالذين لا يَصِفونه إلا بالسُّلُوبِ لم يُثبِتوا في الحقيقةِ إِلهاً محموداً، بل ولا موجوداً، وكذلك من شارَكَهم في بعضِ ذلك كالذين قالوا لا يَتَكلَّمُ، أو لا يَرى، أو ليس فوقَ العالَمِ، أو لم يَسْتَوِ على العرْشِ، ويقولون ليس بداخلِ العالَمِ ولا خارجِه، ولا مُبَايِنٍ للعالَمِ ولا مُجانِبٍ له؛ إذ هذه الصفاتُ يُمكِنُ أن يُوصَفَ بها المعدومُ، وليست هي صفةً مستلزِمةً صفةَ ثبوتٍ.

الشرْحُ:
بعدَ أن مَثَّلَ المؤلِّفُ بعدَّةِ آياتٍ فيها وَصْفُ اللهِ بالنفيِ المُتضمِّنِ لإثباتِ صفاتِ الكمالِ قالَ بعدَ ذلك: إذا تَتَبَّعْتَ القرآنَ, ونظَرْتَ فيه نَظَرَ متأمِّلٍ وجَدْتَ كلَّ نفيٍ وَصَفَ اللهُ به نفسَه هو من هذا القبيلِ، وذلك كنفيِ الظلْمِ الدالِّ على إثباتِ العدْلِ، ونفيِ الشريكِ والظهيرِ الدالِّ على إثباتِ الوحدانيَّةِ وتَمامِ المُلْكِ، ونفيِ الكفؤِ والمثيلِ الدالِّ على الكمالِ المُطلَقِ. فالوجودُ كمالٌ كلُّه، والعدَمُ نقْصٌ كلُّه، فإن العدَمَ كاسمِه لا شيءَ, وهو سبحانَه قد وَصفَ نفسَه بأنه لم يكنْ له كُفُواً أَحَدٌ، بعد وَصْفِ نفسِه بأنه (الصَّمَدُ) السيِّدُ الذي كَمُلَ في سُؤْدَدِهِ, وهذا هو المعقولُ في فِطَرِ الناسِ، فإذا قالوا: فلانٌ عديمُ المَثَلِ، أو قد أَصبحَ, ولا مِثلَ له في الناسِ، وما له شبيهٌ, ولا من يُكَافِيهِ، فإنما يريدون بذلك أنه تَفَرَّدَ من الصفاتِ والأفعالِ والمجْدِ بما لا يَلْحَقُه فيه غيرُه، فصارَ واحداً في الجنسِ لا مثيلَ له، ولو أَطلَقوا ذلك عليه باعتبارِ نفيِ صفاتِه وأفعالِه ومجْدِه، لكان ذلك عندَهم غايةَ الذمِّ والنقصِ له، فإذا أَطلَقُوا ذلك في سياق المدْحِ والثناءِ لم يَشُكَّ عاقلٌ في أنهم إنما أرادوا كثرةَ أوصافِه وأفعالِه وأسمائِه الحميدةِ التي لها حقائقُ تُحْمَلُ عليها، فهل يقولُ عاقلٌ لمن لا قُدرةَ له ولا علْمَ ولا بَصَرَ ولا يَتصرَّفُ بنفسِه ولا يَفعلُ شيئاً ولا يَتكلَّمُ ولا له وجهٌ ولا يدٌ ولا قوَّةٌ ولا فضيلةٌ من الفضائلِ: إنه لا شَبَهَ له, ولا مثيلَ له, وإنه وحيدُ دهرِه وفريدُ عصرِه ونسيجُ وَحْدِه؟ وهل فَطَرَ اللهُ الأممَ, وأَطلَقَ ألسنتَهم ولغاتِهم إلا على ضِدِّ ذلك؟ فمن نَفَى صفاتِ اللهِ فقد وَصفَه بغايةِ العدَمِ، فالذين لا يَصِفونه إلا بالسُّلُوبِ الذي هو النفيُ لم يُثْبِتوا في واقعِ الأمرِ إلهاً يُحْمَدُ ويُثْنَى عليه؛ لما له من حقائقِ الأسماءِ والصفاتِ، بل لم يُثْبِتوا في الحقيقةِ إلهاً موجوداً؛ فإن من تُسْلَبُ عنه جميعُ الصفاتِ الثُّبوتيَّةِ ما هو إلا معدومٌ. والذين لا يَصِفُونه إلا بالسُّلُوبِ هم طوائفُ الفلاسفةِ كما سَبقَ بيانُه ويُشارِكُهم في هذا النفيِ المعطِّلَةُ من الجَهْميَّةِ والمعتزلِة ونحوِهم، فإنهم يُعطِّلُون صفاتِ اللهِ تعطيلاً يَستلزِمُ نفيَ الذاتِ, وهذا معنى قولِ المؤلِّفِ: (وكذلك من شارَكَهم) فإن الجميعَ يَصِفون الباريَ تعالى بصفاتِ العدَمِ المَحْضِ الذي ليس هو بشيءٍ البتَّةَ، وهذا هو الذي صرَّحَ به غُلاةُ الجَهْميَّةِ, وقد كان قدماؤُهم يَتَحَاشَوْنَ عنه, ويَتستَّرُون منه، وكان السلَفُ من الأئمَّةِ مثلَ عبدِ العزيزِ بنِ الْمَاجِشُونِ، وعبدِ اللهِ بنِ المبارَكِ، وحمَّادِ بنِ زيدٍ ومحمدِ بنِ الحسنِ، وأحمدَ بنِ حَنْبَلٍ، وغيرِ هؤلاءِ، يَتَفَرَّسُون فيهم ذلك. فمذهبُهم يَرجِعُ إلى مذهَبِ الدهريَّةِ الطبائعيَّةِ في المعنى، وهذا السلْبُ بالإضافةِ إلى أنه لا يَنطبِقُ إلا على المعدومِ فهو أيضاً لا يَتضمَّنُ إثباتَ صفةٍ يُمدحُ بها الموصوفُ، وهذا معنى قولِ المؤلِّفِ: (إذ هذه الصفاتُ يُمكِنُ أن يُوصَفَ بها المعدومُ, وليس هي صفةً مستلزِمةً صفةَ ثبوتٍ).

قولُه:
ولهذا قالَ محمودُ بن سُبُكْتُكِينَ لمن ادَّعَى ذلك في الخالِقِ: ميِّزْ لنا بينَ هذا الربِّ الذي تُثْبِتُه وبينَ المعدومِ.

الشرْحُ:
يعني: ومن أجْلِ أن هذه الصفاتِ السلبيَّةَ لا تَنطبقُ إلا على المعدومِ قالَ محمودٌ لمن يَنفي صفاتِ اللهِ مُتحدِّياً له: إذا كنت تُثْبِتُ إلهاً, ولا تَصِفُه بصفاتٍ ثُبوتيَّةٍ فما الفرْقُ بينَه وبينَ الشيءِ المعدومِ؟ (ومحمودُ بنُ سُبُكْتُكِينَ) هو الملقَّبُ بيمينِ الدولةِ، وكان مولدُه سنةَ ثلاثمِائةٍ وإحدى وستينَ، ووفاتُه سنةَ أربعِمائةٍ وإحدى وعشرين هجريَّةً, وكان يَخْطُبُ في سائرِ مملكتِه للخليفةِ العباسيِّ القادرِ باللهِ، وكان يُحِبُّ العلماءَ والمحدِّثين, ويُكرِمُهم ويُجالِسُهم، وكان على مذهبِ الكَرَّامِيَّةِ في الاعتقادِ، وكان من جملةِ من يُجالِسُه منهم محمدُ بن الهَيْصَمِ، وقد جَرَى بينَه وبينَ أبى بكرِ بنِ فُوركٍ مناظرةٌ بينَ يَدَي السلطانِ محمودٍ في مسألةِ العرْشِ فنَقَمَ على ابنِ فُوركٍ كلامَه، وأَمَرَ بطردِه وإخراجِه من مجلسِه لموافقتِه لرأيِ الجَهْميَّةِ. ولعلَّ هذه القصَّةَ هي التي قالَ فيها محمودٌ: مَيِّزْ لنا بينَ هذا الربِّ الذي تُثبِتُ, وبينَ المعدومِ.

قولُه:
وكذلك كونُه لا يَتكلَّمُ، أو لا يَنْزِلُ ليس في ذلك صفةُ مدْحٍ ولا كمالٍ، بل هذه الصفاتُ فيها تشبيهٌ له بالمنقوصاتِ أو المعدوماتِ، فهذه الصفاتُ، منها ما لا يَتَّصِفُ به إلا المعدومُ، ومنها لا يَتَّصِفُ به إلا الجماداتُ والناقصاتُ.

الشرْحُ:
يعني: أن نفْيَ صفةِ الكلامِ عن اللهِ ليس فيه مدْحٌ ولا كمالٌ، فمن يَتكلَّمُ أكمَلُ ممن لا يَتكلَّمُ، وكذلك كونُه لا يَنزلُ ليس في ذلك وصفُ كمالٍ فلو قدَّرْنَا موجودَيْن؛ أحدُهما يَقْدِرُ على التصرُّفِ بنفسِه فيأتي ويَجِيءُ، ويَنْزِلُ ويَصعَدُ، ونحوَ ذلك من أنواعِ الأفعالِ، والآخرُ يَمتنِعُ ذلك منه لكان هذا القادرُ على الأفعالِ التي تَصْدُرُ عنه أكمَلَ ممن يَمتنِعُ صدورُها عنه. فالكلامُ، والنزولُ، والحياةُ، والعلْمُ، والقدرَةُ، والسمْعُ، والبصرُ، ونحوَ ذلك أوصافُ كمالٍ, لا نقْصَ فيها، وإنما النقْصُ في انتفائِها لا في ثبوتِها، فمن تُسلَبُ عنه هذه الصفاتُ فهو شبيهٌ بالجمادِ والمعدومِ والممتنِعِ، وحينئذ فسلْبُها عن اللهِ تشبيهٌ له بأعظمِ الناقصاتِ.

قولُه:
فمَن قالَ: لا هو مبايِنٌ للعالَمِ, ولا مُداخِلٌ للعالَمِ فهو بمنزلةِ مَن قالَ: لا هو قائمٌ بنفسِه, ولا بغيرِه، ولا قديمٌ ولا محدَثٌ، ولا متقدِّمٌ على العالَمِ, ولا مقارِنٌ له.

الشرْحُ:
يعني: أن هؤلاءِ النُّفاةَ بسَلْبِهِم الصفاتِ عن اللهِ قد شبَّهُوه بالمعدومِ، فمَقالةُ مَن وَصفَ اللهَ بأنه لا هو مُبايِنٌ للعالَمِ ولا مُداخِلٌ للعالَمِ هي بمنزلةِ مقالةِ مَن قالَ: إن اللهَ لا قائمٌ بنفسِه, ولا قائمٌ بغيرِه، ووجهُ كونِ هذه المقالةِ بمنزلةِ تلك المقالةِ أن كلاّ منهما لا يَنطبقُ إلا على المعدومِ, فالحاصلُ أن قولَهم: لا داخلَ العالَمِ, ولا خارجَه، ولا مبايِنٌ له, ولا مداخلٌ له خلافُ المعلومِ بالضرورةِ؛ فإن العقلَ لا يُثْبِتُ شيئين موجودَيْن إلا أن يكونَ أحدُهما مبايِناً للآخرِ أو داخلاً فيه، أما إثباتُ موجودٍ قائمٍ بنفسِه لا يُشارُ إليه, ولا يكونُ داخلَ العالَمِ, ولا خارجَه، فهذا مما يَعْلَمُ العقلُ استحالتَه وبُطلانَه بالضرورةِ؛ فإن هذا سلْبٌ للنقيضين. وسلْبُ النقيضين أمرٌ ممتنِعٌ، وهكذا القولُ في بقيَةِ الأمثلَةِ التي ذكَرَها المؤلِّفُ.

قولُه:
ومَن قالَ: إنه ليس بحيٍّ، ولا سميعٍ، ولا بصيرٍ، ولا متكلِّمٍ، لزِمَه أن يكونَ ميِّتاً، أَصمَّ، أعمى، أبكمَ، فإن قالَ: العَمَى عدَمُ البصرِ عما من شأنِه أن يَقْبَلَ البصرَ، وما لم يَقبل البصرَ كالحائطِ لا يُقالُ له: أَعمى ولا بصيرٌ.

الشرْحُ:
يَقولُ المؤلِّفُ: سلْبُ هذه الصفاتِ عن اللهِ يَلزَمُ منه أن يكونَ متَّصِفاً بنقيضِها، واللهُ منزَّهٌ عن ذلك، ثم بيَّنَ اعتذارَ النُّفاةِ إذا قيلَ لهم هذا القولُ.

وحاصلُ اعتذارِهم أنهم يقولون: لا يَلْزَمُ من سلْبِ الصفةِ عن الموصوفِ اتِّصافُه بنقيضِها إلا إذا كان قابِلاً للاتِّصافِ بالصِّفةِ، أما إذا كان غيرَ قابلٍ للاتِّصافِ بها فلا يَلْزَمُ من سلبِها عنه اتِّصافُه بنقيضِها، ويَضربون لذلك مثَلاً بالجمادِ، وقد أَجابَهم المؤلِّفُ على هذه المقالةِ بأربعةِ أجوبةٍ.

قولُه:
قيلَ له: هذا اصطلاحٌ اصْطَلَحْتُمُوه، وإلا فما يُوصَفُ بعدَمِ الحياةِ والسمْعِ والبصَرِ والكلامِ يُمكِنُ وصْفُه بالموتِ والعَمَى والخرَسِ والعُجْمَةِ، وأيضاً فكلُّ موجودٍ يَقبلُ الاتِّصافَ بهذه الأمورِ ونقائضِها، فإن اللهَ قادرٌ على جعْلِ الجمادِ حيًّا, كما جَعلَ عصا موسى حيَّةً ابتَلَعَت الحبالَ والعِصِيَّ، وأيضاً فالذي لا يَقبلُ الاتِّصافَ بهذه الصفاتِ أعظَمُ نقْصاً مما يَقبلُ الاتِّصافَ بها مع اتِّصافِه بنقائضِها، فالجمادُ الذي لا يُوصَفُ بالبصرِ ولا العَمَى، ولا الكلامِ ولا الخرَسِ، أعظَمُ نقْصاً من الحيِّ الأعمى الأخْرَسِ، فإن قيلَ: إن الباريَ لا يُمكِنُ اتِّصافُه بذلك كان في ذلك من وَصفِه بالنقصِ أعظمُ مما إذا وُصِفَ بالخَرَسِ والعَمَى والصَّمَمِ ونحوَ ذلك، مع أنه إذا جُعِلَ غيرَ قابلٍ لها كان تشبيهاً له بالجمادِ الذي لا يَقبلُ الاتِّصافَ بواحدٍ منها، وهذا تشبيهٌ بالجماداتِ، لا بالحيواناتِ فكيف (يُنْكِرُ) من قالَ ذلك على غيرِه ما يَزعُمُ أنه تشبيهٌ بالحيِّ، وأيضاً فنفْسُ نفيِ هذه الصفاتِ نَقْصٌ، كما أن إثباتَها كمالٌ، فالحياةُ من حيث هى – مع قطْعِ النظرِ عن تعيينِ الموصوفِ بها – صفةُ كمالٍ، وكذلك العلْمُ والقدرةُ، والسمْعُ والبصرُ، والكلامُ والفعْلُ ونحوَ ذلك، وما كان صفةَ كمالٍ، فهو سبحانَه أَحقُّ أن يَتَّصِفَ به من المخلوقاتِ، فلو لم يَتَّصِفْ به مع اتِّصافِ المخلوقِ به، لكان المخلوقُ أكمَلَ منه.

الشرْحُ:
هذا شروعٌ في بيانِ الأجوِبَةِ الأربعةِ التي رَدَّ بها المؤلِّفُ على النُّفاةِ.
وقد بيَّنَ الأَوَّلَ بقولِه: (قيلَ له هذا اصطلاحٌ اصْطَلَحْتُمُوهُ) إلخ. يَعني هذا مجرَّدُ اصطلاحٍ منكم, وإلا فما لا يَتَّصِفُ بالصفةِ يُمكِن وصفُه وتسميتُه بنقيضِها، كما هو معروفٌ في لغةِ العربِ، وقد سَبَقَ بيانُ ذلك.

وذكَرَ الثانيَ بقولِه: (وأيضاً فكلُّ موجودٍ يَقْبَلُ الاتِّصافَ بهذه الأمورِ ونقائضِها) إلخ. يعني: فالقدرةُ الإلهيَّةُ شاملةٌ لذلك، والقابليَّةُ موجودةٌ في المخلوقِ. وقد جَعلَ اللهُ الجمادَ الأصمَّ حيًّا، يَسْمَعُ ويُبْصِرُ, كما في قصَّةِ عصا موسى.

وبيَّنَ الثالثَ بقولِه: (وأيضاً فالذي لا يَقبلُ الاتِّصافَ بهذه الصفاتِ أعظَمُ نقْصاً مما يَقبلُ الاتِّصافَ بها، مع اتِّصافِه بنقائضِها) وضرَبَ لذلك مثلاً بالجمادِ والحيوانِ الأعمى الأخرَسِ، فالحيوانُ الناقصُ وإن كان فاقداً للصفَةِ فهو أكمَلُ من الجمادِ؛ لأنه قابلٌ للاتِّصافِ بها، أما الجمادُ فهو غيرُ قابلٍ لها أصلاً. وهذا من المؤلِّفِ على سبيلِ الفرْضِ والتَّنَزُّلِ معهم، وإلا فكلُّ موجودٍ فهو قابلٌ للاتِّصافِ بالصفاتِ، كما تَقدَّمَ، ومعلومٌ أن القابلَ للاتِّصافِ بصفاتِ الكمالِ أكملُ من غيرِ القابلِ لذلك، وحينئذٍ فالربُّ إن لم يَقبَل الاتِّصافَ بصفاتِ الكمالِ لزِمَ اتِّصافُه بنقيضِها، فيكونُ القابلُ لها, وهو الحيوانُ الأعمى الأخرَسُ، الذي يَقبَلُ البصرَ والكلامَ, أكملَ منه، وعلى هذا فالنُّفاةُ قد شبَّهُوا اللهَ بالجمادِ الذي هو أَنقصُ من الحيوانِ الفاقدِ صفةَ الكمالِ, فلو سَلَبوا عن اللهِ صفةَ الكمالِ, ولم يَنْفُوا قَبولَه لها لكان ذلك أسهلَ. ونفيُ قَبولِ صفةِ النقصِ تشبيهٌ بالجمادِ، وإذا كان نفيُ قَبولِ صفةِ النقصِ تشبيهاً بالجمادِ لا بالحيوانِ فكيف من قالَ ذلك على غيرِه مما يَزْعُمُ أنه تشبيهٌ بالحيِّ.

والمقصودُ أنه إذا كان من نَفَى قَبولَ صفةِ النقصِ مشبِّهاًللهِبالجمادِ فكيفَ من نَفَى عن اللهِ قَبولَ صفةِ الكمالِ زاعماً أن إثباتَها يَلزَمُ منه تشبيهُ اللهِ بالحيِّ المخلوقِ، فالإشارةُ في قولِه (ذلك) راجعةٌ إلى نفيِ القَبولِ. والضميرُ في قولِه: (على غيرِه) راجعٌ إلى نفيِ قَبولِ صفةِ النقْصِ.

وبيَّنَ الرابعَ بقولِه: (وأيضاً فنفْسُ نفيِ هذه الصفاتِ نقْصٌ كما أن إثباتَها كمالٌ) إلخ. يعني: أن مجرَّدَ نفْيِ هذه الصفاتِ نقصٌ، كما أن مجرَّدَ إثباتِها كمالٌ. وما كان صفةَ كمالٍ فاللهُ أَوْلَى به. فلو لم يَتَّصِفْ به مع أن المخلوقَ مُتَّصِفٌ به لكان الخالقُ أنقصَ من المخلوقِ. ومن المعلومِ أنللهِالمثَلَ الأعلى؛ فما كان وصْفَ كمالٍ لا نقْصَ فيه بوجهٍ من الوجوهِ فاللهُ أَوْلى به. فإذا قُدِّرَ اثنان أحدُهما موصوفٌ بصفاتِ الكمالِ كالعلْمِ والقدرةِ، والفعلِ والبَطْشِ، والآخرُ يَمتنِعُ أن يتَّصِفَ بهذه الصفاتِ لكان الأوَّلُ أكمَلَ من الثاني. وسائرُ الصفاتِ على هذا المنْهَجِ. وكذلك من تُنْفَى عنه أوصافُ النقْصِ أكْمَلُ ممن يتَّصِفُ بها فالحيُّ اليَقْظانُ أكمَلُ من النائمِ الوَسْنَانِ، واللهُ: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} وكذلك من يَحْفَظُ بلا اكتراثٍ أكملُ ممن يَلزَمُ فيه ذلك، واللهُ تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} وكذلك من يَفعلُ ولا يَتْعَبُ أكمَلُ ممَّن يَتْعَبُ، واللهُ تعالى: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} وما مَسَّهُ من لُغُوبٍ.

والعقلُ من حيث هو مصدَرُ عَقَلَ يَعْقِلُ عَقْلاً، وهو في لغةِ الرسولِ وأصحابِه عَرَضٌ من الأعراضِ، كما في قولِه سبحانَه: {لَعَلَّهُمْ يَعْقِلُونَ}، {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، {وَلَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَعْقِلُونَ بِهَا} ونحوَ ذلك، وقد يُرادُ به الغَريزةُ التي في الإنسانِ. قالَ أحمدُ بنُ حنبلٍ، والحارثُ المحاسِبِيُّ، وغيرُهما: (إن العقلَ غريزةٌ). فالعقلُ ما به تَحْصُلُ معرفةُ الأمورِ وإدراكُها، ولا ريْبَ أن اللهَ سبحانَه متَّصِفٌ من ذلك بما يَعجِزُ العقلُ البشريُّ عن تَصوُّرِه وإدراكِه، ولكنَّ لفْظَ العقلِ مما لم يَرِدْ وصْفُ اللهِ به في الكتابِ أو السنَّةِ. والظاهرُ أن أصْلَ قولِ المؤلِّفِ: (والفعْلُ) كما في بعض النسَخِ؛ لأن الفعْلَ مما وَردَ وصْفُ اللهِ به دونَ لفظِ العقلِ، ولكن بما أن أكثَرَ النسخِ التي بأَيدِينا متَّفِقةٌ على لفظِ العقلِ شرَحْناه على هذا المعنى.

وقولُه: ونحوَ ذلك, يعني: كصفةِ الوجهِ؛ فإن الوجهَ وصفُ كمالٍ, لا وصْفُ نقْصٍ. ووجْهُ كلِّ شيءٍ بحسَبِه, وهو ممدوحٌ به, لا مذمومٌ، كوجهِ النهارِ ووجهِ الثوبِ، ووجهِ القومِ. فوجْهُ اللهِ سبحانَه هو كما يَليقُ به, ويُناسِبُ ذاتَه المقدَّسَةَ, فهو بحسْبِ المضافِ إليه, وسائرُ الصفاتِ على هذا النهْجِ، فللهِ الأسماءُ الحسنى، والصفاتُ الكاملةُ العُليا.

قولُه:
واعلَمْ أن الجَهْميَّةَ المَحْضةَ كالقَرامطةِ ومن ضاهاهم يَنْفُونَ عنه تعالى اتِّصافَه بالنقيضَيْن، حتى يقولوا: ليس بموجودٍ, ولا ليس بموجودٍ، ولا حيٍّ, ولا ليس بحيٍّ، ومعلومٌ أن الْخُلُوَّ عن النقيضين مُمتنِعٌ في بَدَاءَةِ العقولِ, كالجمْعِ بينَ النقيضَيْن.

الشرْحُ:
سَبقَ بيانُ هذا عند قولِ المؤلِّفِ في المقدِّمةِ: (فغُلاتُهم يَسْلُبون عنه النقيضَيْن) ولكن كرَّرَ المؤلِّفُ ذلك بمناسبةِ كلامِه على النفيِ الذي لا يَتضمَّنُ إثباتَ صفةِ كمالٍ, وإنما هو تشبيهٌ بالناقصاتِ من جماداتٍ أو معدوماتٍ، أو ممتنِعاتٍ. وسَلْبُ هؤلاءِ الغُلاةِ من جَهْميَّةٍ وقَرامطةٍ, ومن شابَهَهُم كالفلاسفةِ إنما هو تشبيهٌ للهِبالممتنِعاتِ؛ فإنه يَلزَمُهم أن يكونَ الوجودُ الواجبُ الذي لا يَقبلُ العدَمَ هو الممتنِعَ الذي لا يُتَصَوَّرُ وجودُه في الخارجِ, وإنما يُقدِّرُه الذِّهْنُ تقديراً، كما يُقدِّرُ كونَ الشيءِ موجوداً معدوماً, أو لا موجوداً, ولا معدوماً، فلزِمَهم الجمْعُ بينَ النقيضين، والْخُلُوُّ عن النقيضين وهذا من أعظمِ الممتنِعاتِ باتِّفاقِ العقلاءِ.

قولُه:
وآخرون وَصَفُوه بالنفيِ فقط، فقالَوا: ليس بحيٍّ، ولا سميعٍ، ولا بصيرٍ, وهؤلاءِ أعظمُ كفْراً من أولئك من وجهٍ.

الشرْحُ:
معناه أن مقالةَ النُّفاةِ العادِيِّينَ أشنعُ في الكفْرِ من مقالةِ النُّفاةِ المَحْضةِ؛ لأنه يَلزَمُ من نفيِهم صفةَ الكمالِ عن اللهِ وصفُهم له بنقيضِها، أما النُّفاةُ المَحْضةُ فقد صرَّحوا بنفيِ صفةِ النقصِ، كما صرَّحُوا بنفيِ صفةِ الكمالِ، فهم أقربُ إلى التنزيهِ من جهةِ تصريحِهم بنفيِ صفةِ النقصِ، ومقالةُ الفريقين تُشبِهُ مقالةَ طائفتين من الفلاسفةِ؛ إحداهما تَصِفُ اللهَ بسلْبِ الأمورِ الثبوتيَّةِ والسلبيَّةِ, والأخرى تَصِفُ اللهَ بسَلْبِ الأمورِ الثبوتيَّة فقط. والأُولَى أقربُ إلى الصوابِ من الثانيةِ؛ لأنه إذا وُصِفَ بسَلْبِ الأمورِ الثبوتيَّةِ دونَ العدَميَّةِ، فهو أسوأُ حالاً من الموصوفِ بسَلْبِ الأمورِ الثبوتيَّةِ والعدَميَّةِ؛ حيث يُشارِكُ سائرَ الموجوداتِ في مُسمَّى الوجودِ، وتَمتازُ عنه بأمورٍ وجوديَّةٍ, وهو يَمتازُ عنها بأمورٍ عدميَّةٍ، وأما إذا وُصِفَ بسَلْبِ الأمورِ الثبوتيَّةِ والعدَميَّةِ معاً؛ كان أقربَ إلى الوجودِ، وإن كان هذا ممتنِعاً فذاك ممتنِعٌ, وهو أقربُ إلى العدَمِ.

قولُه:
فإذا قيلَ لهؤلاءِ:هذا مستلزِمٌ وصْفَه بنقيضِ ذلك، كالموتِ والصَّمَمِ والبَكَمِ، قالوا: إنما يَلزَمُ ذلك لو كان قابلاً لذلك، وهذا الاعتذارُ يَزيدُ قولَهم فساداً.

الشرْحُ:
يعني أن النُّفاةَ غيرُ المَحْضةِ إذا قيلَ لهم: سلْبُكم لهذه الصفاتِ يَلزمُ منه اتِّصافُ اللهِ بنقيضِها؛ فنفيُ العلْمِ عنه سبحانَه يَلزمُ منه اتِّصافُه بالجهْلِ، ونفيُ الكلامِ يَلزمُ منه اتِّصافُه بالبَكَمِ، ونفيُ القدرةِ يَلزمُ منه اتِّصافُه بالعجْزِ، وهكذا سائرُ الصفاتِ. إذا قيل لهم هذا القولُ قالوا معتذِرِين: إنما يَلزَمُ من نفيِ الصفاتِ عن اللهِ اتِّصافُه بأضدادِها لو كان قابلاً لتلك الصفاتِ، أما إذا كان غيرَ قابلٍ لها فإنه لا يَلْزَمُ من نفيِها عندَ اتِّصافِه بضدِّها، فالإشارةُ في قولِه: (إنما يَلزَمُ ذلك) راجعةٌ إلى اتِّصافِه بنقائضِ تلك الصفاتِ كالجهْلِ والعجْزِ والبَكَمِ.

والإشارةُ في قولِه: (لو كان قابلاً لذلك) راجعةٌ إلى صفاتِ الكمالِ. ولا شكَّ أن اعتذارَهم هذا يَزيدُ قولَهم سُوءاً إلى سُوءٍ؛ لأن نفيَ قَبولِ الصفةِ أفظعُ من مجرَّدِ نفيِ الصفةِ, كما تَقدَّمَ إيضاحُه.

قولُه:
وكذلكَ من ضَاهَى هؤلاءِ وهم الذين يقولون: ليس بداخلِ العالَمِ ولا خارجِه، إذا قيل هذا ممتنِعٌ في ضرورةِ العقلِ، كما إذا قيلَ: ليس بقديمٍ ولا محدَثٍ ولا واجبٍ ولا ممكِنٍ، ولا قائمٍ بنفسِه، ولا قائمٍ بغيرِه، قالوا: هذا إنما يكونُ إذا كان قابلاً لذلك، والقَبولُ إنما يكونُ من المتحيِّزِ، فإذا انتفى التحيُّزُ انْتَفى قَبولُ هذَيْن المتناقضَيْن.

الشرْحُ:
يعني: ومثلَ مقالةِ النُّفاةِ السابقةِ, واعتذارُهم عنها قولُ من يقولُ: إن اللهَ لا داخلَ العالَمِ ولا خارجَه، فهؤلاءِ قالوا: إنما يَلزَمُ من سلْبِ الدخولِ والخروجِ عنه وصفُه بالممتنِعِ لو كان قابلاً للدخولِ والخروجِ، والقَبولُ إنما يكونُ من المتحيِّزِ, وما دامَ أن اللهَ غيرُ متحيِّزٍ، فهو غيرُ قابلٍ للدخولِ والخروجِ.

ومن ثَمَّ لا يكونُ سلْبُهما عنه أمراً ممتنِعاً، وأولئك قالوا: إنما يَلزَمُ من سَلْبِ الصفةِ عنه اتِّصافُه بنقيضِها لو كان قابلاً لها، فالجميعُ نَفَوْا عنه قَبولَ الصفاتِ، ومن المعلومِ أن نفيَ القَبولِ أشنَعُ من نفيِ الصفةِ. وقولُه: كما إذا قيلَ ليس بواجبٍ ولا ممكِنٍ) يعني أن هذه المقالةَ بمنزلَةِ هذه المقالةِ في أن الجميعَ معلومُ الامتناعِ بالضرورةِ.

قولُه:
فيُقالُ لهم: عِلْمُ الخلْقِ بامتناعِ الخُلُوِّ من هذين النقيضَيْن هو علْمٌ مُطلَقٌ لا يُستَثْنَى منه موجودٌ. والتحيُّزُ المذكورُ إن أُريدَ به كوْنُ الأحيازِ الموجودةِ تُحيطُ به فهذا هو الداخلُ في العالَمِ، وإن أُريدَ به أنه مُنحازٌ عن المخلوقاتِ؛ أي: مبايِنٌ لها متميِّزٌ عنها فهذا هو الخروجُ، فالمتحيِّزُ يُرادُ به تارةً ما هو داخلُ العالَمِ، وتارةً ما هو خارجُ العالَمِ، فإذا قيلَ: ليس بمتحيِّزٍ كان معناه ليس بداخلِ العالَمِ ولا خارجِه، فهم غَيَّرُوا العبارةَ ليُوهِموا مَن لا يَفْهَمُ حقيقةَ قولِهم أن هذا معنًى آخرُ, وهو المعنى الذي عُلِمَ فسادُه بضرورةِ العقلِ , كما فَعَلَ أولئك بقولِهم: ليس بحيٍّ ولا ميِّتٍ، ولا موجودٍ ولا معدومٍ، ولا عالِمٍ ولا جاهِلٍ.

الشرْحُ:
هذا شروعٌ في بيانِ الجوابِ على المقالةِ السابقةِ واعتذارِ أصحابِها, فإنه يُقالُ لهم: قولُكم: (لا داخلَ العالَمِ ولا خارجَه) سلْبٌ للنقيضين. والنقيضان لا يُمكِنُ الخُلُوُّ منهما؛ بل ذلك ممتنِعٌ, وامتناعُ الخُلُوِّ من النقيضين عامٌّ لا يُسْتَثْنَى منه أيُّ شيءٍ. والخلْقُ جميعاً يَعْلَمون أن النقيضين كما لا يُمكِنُ اجتماعُهما في آنٍ واحدٍ كذلك لا يُمكِنُ ارتفاعُهما, فقولُكم: (لا داخلَ ولا خارجَ العالَمِ) ممتنِعٌ؛ لأن كلَّ موجودٍ فهو إما أن يكونَ مُخالِطاً للعالَمِ، مُمْتَزِجاً به، وإما أن يكونَ منفصِلاً عن العالَمِ، مُبايِناً له، وقولُكم: (قَبولُ الدخولِ والخروجِ إنما يكونُ من المتحيِّزِ, واللهُ ليس بمتحيِّزٍ، فإذا انْتَفى التحيُّزُ انْتَفى قَبولُ هذين النقيضَيْن) يُقالُ لكم: قولُكم ليس بمتحيِّزٍ هو معنى قولِكم: لا داخلَ العالَمِ ولا خارجَه، ولكن غَيَّرْتُم العبارةَ مغالطةً لتُوهِمُوا مَن لا يُدرِكُ معنى كلامِكم أنكم أَتَيْتُمْ بمعنًى جديدٍ، وهو نفسُ كلامِكم الذي رُدَّ عليكم بأنه أمْرٌ ممتنِعٌ في ضرورةِ العقلِ, وبيانُ هذا أنهم إن أرادوا بالتحيُّزِ أن الْأَحْيَازَ الموجودةَ كالسمواتِ والعرشِ تُحيطُ به فهذا هو الداخلُ في العالَمِ، وإن أرادوا به أنه مُنْحازٌ عن المخلوقاتِ، أي: مبايِنٌ لها متميِّزٌ عنها، فهذا هو الخروجُ، فإذا المتحيِّزُ يُرادُ به تارةً ما هو داخِلُ العالَمِ, وتارةً ما هو خارجُ العالَمِ، فإذا قيلَ: ليس بمتحيِّزٍ. كان معناه ليس بداخلِ العالَمِ ولا خارجِه. وقولُه: (كما فَعلَ أولئك) يعني: الجَهْميَّةُ المَحْضةُ الذين يَسْلُبون عنه تعالى اتِّصافَه بالنقيضين، فهؤلاءِ الذين يقولون لا داخلَ العالَمِ ولا خارجَه من غُلاةِ الجَهْميَّةِ مُشَبَّهون بالقَرامطةِ في سلْبِهم النقيضَيْن, وفي اعتذارِهم الذي يَزيدُ قولَهم فساداً.

ونَخْتِمُ الكلامَ على هذه القاعدةِ بآيتين كريمتين تَدُلُّ كلٌّ منهما على أنه سبحانَه متَّصِفٌ بالنفيِ والإثباتِ بأوضحِ عبارةٍ وأَصرَحِ دَلالةٍ, وتَدْمَغُ النُّفاةَ المُعَطِّلين، والمفْتَرِين على اللهِ وعلى رسولِه بنفيِ صفاتِ اللهِ ونُعوتِ جلالِه بغيرِ دليلٍ من كتابٍ أو سنَّةٍ أو عقلٍ سليمٍ أو فِطْرةٍ مستقيمةٍ. قالَ تعالى: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} أَخبرَ أنه لا سَمِيَّ له، عَقِبَ قولِ العارِفِين به: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} فهذا الربُّ الذي له هذا الجُنْدُ العظيمُ ولا يَتَنزلُون إلا بأمرِه, وهو المالِكُ لما بينَ أيديهم وما خلفَهم وما بينَ ذلك، وهو الذي كمُلَتْ قدرتُه وسلطانُه وملْكُه، وكَمُلَ علْمُه فلا يَنْسَى شيئاً أبداً، وهو القائمُ بتدبيرِ السمواتِ والأرضِ وما بينَهما؛ كما هو الخالقُ لذلك كلِّه، وهو ربُّه ومَلِيكُه, هذا الربُّ هو الذي لا سَمِيَّ له؛ لتفرُّدِه بكمالِ الصفاتِ والأفعالِ، فأمَّا من لا صفةَ له ولا فِعلَ ولا حقائقَ لأسمائِه، إن هي إلا ألفاظٌ فارغةٌ من المعانى, فالعدَمُ سَمِيٌّ له. وقالَ تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ذكَرَ سبحانَه هذا النفيَ بعدَ ذكْرِ أوصافِه ونعوتِ كمالِه فقالَ: {حم عسق كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} إلى قولِه: {فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فهذا الموصوفُ بهذه الصفاتِ والأفعالِ، والعُلُوِّ، والعظَمَةِ، والحفْظِ، والعزَّةِ، والحكمةِ، والمُلْكِ، والحمْدِ، والمغفرةِ، والرحمةِ، والكلامِ، والمشيئةِ، والوَلايةِ، والحياةِ، والقدرةِ التامَّةِ الشاملةِ، والحكْمِ بينَ عبادِه وكونِه: {فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} هذا هو الذي (ليس كمثلِه شيءٌ) لكثرةِ نعوتِه وأوصافِه وأسمائِه وأفعالِه وثبوتِها على وجهِ الكمالِ؛ فلا يُمَاثلُه فيها شيءٌ,وقد سَبقَت الإشارةُ إلى ذلك عندَ الكلامِ على الأصلِ الثاني.


  #5  
قديم 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م, 02:12 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التوضيحات الأثرية للشيخ: فخر الدين بن الزبير المحسِّي

الخاتِمَةُ الجامعةُ لسَبْعِ قواعِدَ نافعةٍ

القاعدةُ الأُولَى
صفاتُ اللهِ تعالى نَفْيٌ وإِثْبَاتٌ
قولُه:
( وأَمَّا الخاتِمَةُ الجامعةُ: ففيها قواعدُ نافعةٌ.
القاعدةُ الأولى: أنَّ اللهَ سبحانَه موصوفٌ بالإثباتِ والنَّفْيِ، فالإثباتُ كإخبارِه أنه بكلِّ شيءٍ عليمٌ، وعلى كلِّ شيءٍ قديرٌ، وأنه سميعٌ بصيرٌ، ونحوَ ذلك .

والنَّفْيُ: كقولِه: { لاَ تَأْخُذْهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} ويَنْبَغِي أن يُعْلَمَ أنَّ النَّفْيَ ليس فيه مَدْحٌ, ولا كمالٌ, إلا إذا تَضَمَّنَ إثباتًا، وإلا فَمُجَرَّدُ النَّفْيِ ليس فيه مَدْحٌ ولا كَمَالٌ؛ لأنَّ النَّفْيَ الْمَحْضَ عَدَمٌ مَحْضٌ، والعَدَمَ الْمَحْضَ ليس بشيءٍ، وما ليس بشيءٍ فهو كما قِيلَ: ليس بشيءٍ. فَضْلاً عن أن يكونَ مَدْحًا أو كَمَالاً، ولأنَّ النَّفْيَ الْمَحْضَ يُوصَفُ به المعدومُ والمُمْتَنِعُ، والمعدومُ والمُمْتَنِعُ لا يُوصَفُ بِمَدْحٍ ولا كَمَالٍ ) .

التوضيحُ

وَصَفَ اللهُ تعالى نَفْسَه بالإثباتِ كقولِه تعالى: { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
وقولِه: { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ووَصَفَ نفسَه بالنَّفْيِ كقولِه تعالى: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } .

الكلامُ في النَّفْيِ:
من أُصولِ السلَفِ كما سَبَقَ أنَّ النَّفْيَ مُتَضَمِّنٌ لإثباتِ كمالِ الضِّدِّ؛ فإنَّ النَّفْيَ الْمَحْضَ ليس فيه مَدْحٌ ولا كَمَالٌ, إلا إذا تَضَمَّنَ إثباتًا للكمالِ، وذلك للأسبابِ التاليةِ:
لأنَّ النَّفْيَ الْمَحْضَ غيرُ الْمُتَضَمِّنِ للإثباتِ عَدَمٌ مَحْضٌ، والعَدَمَ الْمَحْضَ ليس بشيءٍ؛ لأنه عَدَمٌ، وما دامَ عَدَمًا وليس بشيءٍ فلا يكونُ كَمَالاً، وسيأتي التفصيلُ في مسألةِ: هل المعدومُ شيءٌ أَمْ ليس بشيءٍ؟
ولأنَّ النَّفْيَ الْمَحْضَ يُوصَفُ به المعدومُ, فيُقالُ: ليس بموجودٍ, ولا حَيٍّ, وغيرُ ذلك، بل ويُوصَفُ به المُمْتَنِعُ, فيُقالُ: ليس بِمُمْكِنٍ ولا موجودٍ، وكِلاَهما لا يُوصَفَان بِمَدْحٍ ولا كَمَالٍ .
ولأنَّ النَّفْيَ المَحْضَ قد يكونُ لعَدَمِ قابلِيَّةِ الموصوفِ لذلك النَّفْيِ، فإذا قِيلَ: الْجِدارُ لا يَظْلِمُ، فهذا ليس بِمَدْحٍ لعَدَمِ قابِلِيَّةِ الْجِدارِ للظُّلْمِ أَصْلاً .
ولأنَّ النَّفْيَ إن لم يَتَضَمَّنْ كمالَ الضِّدِّ فقد يكونُ لِنَقْصِ الموصوفِ أو عَجْزِه، كقولِ الْحَمَاسِيِّ يَهْجُو قومَه:


ولكنَّ قَوْمِي وإن كانوا ذَوِي عَدَدٍ
ليسوا من الشرِّ في شيءٍ وإن هَانَا


فهم ليسوا من الشَّرِّ لا لكمالِ عَفْوِهِم, وإنما لِعَجْزِهِمْ بدليلِ قولِه .
فَلَيْتَ لي بِهِمُوا قَوْمًا إذا رَكِبُوا
شَنُّوا الإغارَةَ رُكْبَانًا وفُرْسَانًا

وكذلك قولُ الشاعِرِ النَّجَاشِي:

قُبَيْلةٌ لا يَغْدِرُونَ بِذِمَّةٍ
ولا يَظْلِمُونَ الناسَ حَبَّةَ خَرْدَلِ

أرادَ بنَفْيِ الغَدْرِ والظلْمِ بيانَ عَجْزِهم, لا مَدْحَهُم؛ بدليلِ تصغيرِهم بقولِه " قُبَيْلَةٌ " .
ولأنَّ النَّفْيَ المَحْضَ فيه إساءةُ أدَبٍ، قالَ ابنُ أبي العِزِّ: " وهذا النَّفْيُ الْمُجَرَّدُ مع كونِه لا مَدْحَ فيه، فيه إساءةُ أَدَبٍ فإنك لو قُلْتَ للسلطانِ أنت لَسْتَ بزَبَّالٍ, ولا كَسَّاحٍ, ولا حَجَّامٍ, ولا حائِكٍ لأَدَّبَكَ " .
أمثلةٌ للنَّفْيِ الْمُتَضَمِّنِ لكمالِ الضِّدِّ

قولُه:
( فلهذا كان عامَّةُ ما وَصَفَ اللهُ به نفسَه من النَّفْيِ مُتَضَمِّنًا لإثباتِ الْمَدْحِ، كقولِه: { اللهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } إلى قولِه: { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } فَنَفْيُ السِّنَةِ والنوْمِ يَتَضَمَّنُ كمالَ الحياةِ والقِيامِ، فهو مُبَيِّنٌ لكَمالِ أنه الحيُّ القيُّومُ، وكذلك قولُه: { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} أي: لا يَكْرُثُه ولا يُثْقِلُه، وذلك مُستلْزِمٌ لكَمالِ قُدْرَتِه وتَمَامِها، بخِلافِ المخلوقِ القادِرِ إذا كان يَقْدِرُ على الشيءِ بنوعِ كُلْفَةٍ ومَشَقَّةٍ، فإنِّ هذا نقْصٌ في قُدْرَتِه وعيبٌ في قُوَّتِه، وكذلك قولُه: { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الْأَرْضِ } فإنَّ نَفْيَ الْعُزُوبِ مُسْتَلْزِمٌ لعِلْمِه بكلِّ ذَرَّةٍ في السماواتِ والأرضِ، وكذلك قولُه: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } فإنَّ نَفْيَ مَسِّ اللُّغوبِ - الذي هو التَّعَبُ والإعياءُ - دَلَّ على كَمالِ القُدْرَةِ ونِهايةِ القُوَّةِ، بخلافِ المخلوقِ الذي يَلْحَقُهُ من التَّعَبِ والكَلالِ ما يَلْحَقُهُ } .

التوضيحُ
فجَميعُ ما وَصَفَ اللهُ تعالى به نفسَه من النَّفْيِ مُتَضَمِّنٌ لإثباتِ كَمالٍ ومَدْحٍ، وأمثلةُ ذلك يُوَضِّحُها الجدْوَلُ التالي:

تَضَمُّنُها لِكمالِ الضِّدِّ
الآيةُ
لكَمالِ حياتِه وقَيُّومِيَّتِه .
1-{ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } .
لكَمالِ قُدْرَتِه التي لا تَتَخَلَّلُها مَشَقَّةٌ .
2-{ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} أي لا يَكْرُثُه ولا يُثْقِلُه .
لكَمالِ عِلْمِه .
3-{ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ } .
لكَمالِ قُدْرَتِه ونهايةِ قُوَّتِه.
4-{ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } .
لكَمَالِ عَظَمَتِه .
5-{ لاَ تُدْرِكُه الْأَبْصَارُ } أي لا تُحِيطُ به .
لكَمَالِ عَدْلِهِ.
6-{ وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } .


(هنا جدول يحتاج للتنسيق)

استطرادٌ في معنى الإدراكِ

قولُه:
( وكذلك قولُه: { لاَ تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } إنما نَفَى الإدراكَ الذي هو الإحاطةُ، كما قالَه أكثَرُ العلْماءِ، ولم يَنْفِ مُجَرَّدَ الرؤيةِ، لأنَّ المعدومَ لا يُرَى، وليس في كونِه لا يُرَى مَدْحٌ؛ إذ لو كان كذلك لكان المعدومُ مَمْدُوحًا، وإنما الْمَدْحُ في كونِه لا يُحاطُ به، وإن رُئِيَ، كما أنه لا يُحاطُ به وإن عُلِمَ، فكما أنه إذا عُلِمَ، لا يُحاطُ به عِلْمًا، فكذلك إذا رُئِيَ لا يُحَاطُ به رُؤيةً، فكان في نَفْيِ الإدراكِ من إثباتِ عَظَمَتِه ما يكونُ مَدْحًا وَصِفَةَ كمالٍ، وكان ذلك دَليلاً على إثباتِ الرؤيةِ, لا على نَفْيِها، لكنه دليلٌ على إثباتِ الرؤيةِ مع عَدَمِ الإحاطةِ، وهذا هو الْحَقُّ الذي اتَّفَقَ عليه سلَفُ الأمَّةِ وأئمَّتُها، وإذا تَأَمَّلْتَ ذلك وَجَدْتَ كلَّ نَفْيٍ لا يَسْتَلْزِمُ ثُبوتًا هو مِمَّا لم يَصِف اللهُ به نفسَه ) .

التوضيحُ

في معنى الإدراكِ قولان لأهْلِ السُّنَّةِ:

القولُ الأوَّلُ: وهو لجمهورِ السلَفِ، أنَّ الإدراكَ هو الإحاطةُ، كما قالَ شيخُ الإسلامِ هنا قالَه أكثَرُ العلْماءِ .

القولُ الثاني: وهو لِبَعْضِ السلَفِ أنَّ الإدراكَ بمعنى الرؤيةِ, وحَمَلُوا الآيةَ على نَفْيِ الرؤيةِ في الدنيا؛ لقولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا )، وهذا قولُ عائشةَ - رَضِيَ اللهُ عنها - حيث اسْتَدَلَّتْ بالآيةِ على نَفْيِ رؤيةِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لرَبِّه في ليلةِ الإسراءِ، مِمَّا يَدُلُّ على أنها فَهِمَتْ من الآيةِ عَدَمَ الرؤيةِ في الدنيا، وبه قالَ الإمامُ أَحْمَدُ في رَدِّه على الجَهْمِيَّةِ، ونصَّ عليه الإمامُ الملطيُّ حيث قالَ: فأمَّا تفسيرُ الآيةِ { لاَ تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } يعنى: لا يَراه الْخَلْقُ في الدنيا دونَ الآخِرَةِ .

- وأمَّا عامَّةُ المُعْتَزِلةِ والخوارجِ فالإدراكُ عندَهم بمعنى الرؤيةِ ويَسْتَدِلُّونَ بالآيةِ على نفيِها مُطْلَقًا في الدنيا والآخِرَةِ، وقولُهم مخالِفٌ للكتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ، ويُرَدُّ على استدلالِهم بالآيةِ بما يَلِي:
مردودٌ بالأدِلَّةِ الْمُصَرِّحَةِ بالرؤيةِ في الآخِرَةِ، كقولِه تعالى: { وُجُوهٌ يَؤْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } وقولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِنَّكَمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ ) .
الآياتُ الدالَّةُ على أنَّ الإدراكَ بمعنى الإحاطةِ كقولِه تعالى: { فَلَمَّا تَرَاءَا الْجمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} ففَرْقٌ بينَ الرؤيةِ والإحاطةِ .

نَفْيُ الرؤيةِ ليس فيه كَمالٌ, بل الكَمالُ في إثباتِ الرؤيةِ مع عَدَمِ الإحاطةِ لإظهارِ عَظَمَتِه، كما أنه تعالى يُعْلَمُ, ولا يُحاطُ به عِلْمًا، فكذلك يُرَى, ولا يُحَاطُ به رُؤْيَةً .

فإذا ثَبَتَ أنَّ الإدراكَ بمعنى الإحاطةِ كان أَخَصَّ من الرؤيةِ، فلم يَدُلَّ نَفْيُ الإحاطةِ على نَفْيِ الرؤيةِ؛ لأنَّ نَفْيَ الأخَصِّ لا يَدُلُّ على نَفْيِ الأعمِّ، بل يَدُلُّ على ثبوتِه؛ لأنه لو أَرَادَ نَفْيَ الرؤيةِ لصَرَّحَ بنَفْيِها, ثم تَدْخُلُ الإحاطةُ في النَّفْيِ .
أنه تعالى قالَ: { وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} ومعناها: وهو يُحِيطُ بالأبصارِ, وليس المعنى مُجَرَّدَ رؤيةِ الأبصارِ بدليلِ قولِه تعالى: { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } أي: يُحيطُ بالأبصارِ فالتناسُقُ القرآنيُّ يَدُلُّ على أنَّ الإدراكَ في الموضِعَيْنِ بمعنى الإحاطةِ .
وقد أَجْمَعَ أهْلُ السُّنَّةِ على ثُبوتِ الرؤيةِ في الآخِرَةِ، قالَ أبو الحَسَنِ الأشْعَريُّ: " وأَجْمَعُوا على أنَّ المؤمنينَ يَرَوْنَ اللهَ يومَ القِيامةِ بأَعْيُنِ وجوهِهم " وإنكارُ الرؤيةِ كُفْرٌ عندَ عامَّةِ السلَفِ .

مخالَفَةُ أهْلِ السُّلُوبِ

قولُه:
فالذين لا يَصِفُونَه إلا بالسُّلوبِ، لم يُثْبِتوا في الحقيقةِ إلهًا مَحمودًا، بل ولا مَوْجودًا، وكذلك مَن شَارَكَهُم في بعضِ ذلك، كالذين قالوا: لا يَتَكَلَّمُ, أو لا يَرَى, أو ليس فوقَ العالَمِ، أو لم يَسْتَوِ على العَرْشِ، ويقولون: ليس بداخِلِ العالَمِ, ولا خارجِه، ولا مُبَايِنٍ للعالَمِ, ولا مُحَايِثٍ له؛ إذ هذه الصِّفَاتُ يُمْكِنُ أن يُوصَف بها الْمَعدومُ، وليست هي مُسْتَلْزِمَةً صِفَةَ ثبوتٍ، ولهذا قالَ محمودُ بنُ سُبُكْتُكِينَ لِمَن ادَّعَى ذلك في الخالِقِ: مَيِّزْ لنا بينَ هذا الرَّبِّ الذي تُثْبِتُه وبينَ المعدومِ، وكذلك كونُه لا يَتَكَلَّمُ أو لا يَنْزِلُ ليس في ذلك صِفَةُ مَدْحٍ ولا كَمالٍ، بل هذه الصِّفَاتُ فيها تَشبيهٌ له بالمنقوصاتِ أو الْمَعْدُومَاتِ، فهذه الصِّفَاتُ منها ما لا يَتَّصِفُ به إلا المعدومُ، ومنها ما لا يَتَّصِفُ به إلا الجمادُ أو الناقِصُ ) .

التوضيحُ

هنا رُجوعٌ لِمَنْ يَصِفُ اللهَ تعالى بالسَّلْبِ, وهو النَّفْيُ المَحْضُ، فإنه في حقيقةِ أَمْرِه لم يُثْبِتْ إِلَهًا مَوْصوفًا بالكمالِ مُسْتَحِقًّا للحَمْدِ والثناءِ، بل إنه لم يُثْبِتْ إِلَهًا موجودًا، وهكذا الشأنُ عندَ المُعْتَزِلةِ القائلينَ بنَفْيِ الكلامِ والرؤيةِ والعُلُوِّ وبَقِيَّةِ الصِّفَاتِ، فإنهم لم يَمْدَحُوا اللهَ بل وَصَفوه بالنقائِصِ، وهكذا الأَشَاعِرَةُ الذين وَافَقُوهُم في بعضِ هذه النَّفْيِ.

- لهذا كان قولُ المُبْتَدِعَةِ: إنَّ اللهَ ليس بداخِلِ العالَمِ ولا خارجِه, ولا مُبَايِنٍله, ولا مُحايِثٍ -أي مُداخِلٍ- إنما هو وَصْفٌ للمعدومِ، وقد رَدَّ الأميرُ محمودُ بنُ سُبُكْتُكِينَ على ابنِ فُوركٍ الأشعريِّ لَمَّا ادَّعَى هذا النَّفْيَ فقالَ له: مَيِّزْ لنا بينَ هذا الرَّبِّ الذي تُثْبِتُهُ وبينَ المعدومِ.

- فالحاصِلُ أنَّ نَفْيَ هؤلاءِ لا يَخْرُجُ عن أَمْرَيْنِ:-
أحدُهما: أنه يُفْضِي إلى التشبيهِ بالمنقوصاتِ والجماداتِ، وذلك إذا قالَ: لا يَتَكَلَّمُ أو لا يَنْزِلُ أو لا يَسْمَعُ، إلى غيرِها من صِفاتِ النقْصِ .
ثانيهما: يُفْضِي إلى التشبيهِ بالمعدوماتِ, كمَن قالَ: لا دَاخِلَ العالَمِ ولا خارِجَه، فإنَّ ذلك معدومٌ، فلا يَخْرُجُ نفيُهم عن وَصْفِه بصفاتِ الْجَماداتِ أو المعدوماتِ.

رجوعٌ إلى شُبْهَةِ عَدَمِ قَبولِه تعالى للصِّفاتِ

قولُه:
( فمَن قالَ: لا هو مُبَايِنٌ للعالَمِ ولا مداخِلٌ للعالَمِ، فهو بِمَنْزِلَةِ مَن قالَ: لا هو قائمٌ بنفسِه ولا بغيرِه، ولا قديمٌ ولا مُحْدَثٌ ولا مُتَقَدِّمٌ على العالَمِ ولا مقارِنٌ له، ومَن قالَ: إنه ليس بِحَيٍّ، ولا سميعٍ ولا بصيرٍ، ولا ومُتَكَلِّمٍ، لَزِمَه أن يكونَ مَيِّتًا أَصَمَّ أَعْمَى أَبْكَمَ، فإنْ قالَ: الْعَمَى عَدَمُ البَصَرِ عمَّا من شأنِه أن يَقْبَلَ البَصَرَ، وما لم يَقْبَل البصَرَ كالحائِطِ لا يُقالُ له: أَعْمَى ولا بَصيرٌ ) .

التوضيحُ

هنا رَجَعَ شَيْخُ الإسلامِ إلى إلزامِ النُّفَاةِ بوَصْفِ اللهِ بالنقائصِ إذا نَفَوْا عنه الكَمالَ، وقَسَّمَهُمْ إلى قِسمين بِناءً على ما سَبَقَ من أنَّ النُّفَاةَ إِمَّا أن يَقَعُوا بنفيِهم في التشبيهِ بالمعدوماتِ أو بالْجَماداتِ فقالَ:

أَوَّلاً: مَن قالَ إنَّ اللهَ لا مُبَايِنٌ للعالَمِ ولا مُدَاخِلٌ له مِثْلُ مَن قالَ: لا قائمٌ بنفسِه ولا بغيرِه, ولا قديمٌ, ولا مُحْدَثٌ, ولا مُتَقَدِّمٌ على العالَمِ ولا مُقارِنٌ له، فكما أنَّ نَفْيَ القِيامِ بالنفْسِ وبالغَيْرِ معًا مُمْتَنِعٌ, فكذلك نَفْيُ كونِه داخِلَ العالَمِ أو خارجَه مُمْتَنِعٌ، وكما أنَّ نَفْيَ القِدَمِ والحدوثِ والتَّقَدُّمِ والتأخُّرِ مُمْتَنِعٌ فكذلك نَفْيُ كونِه داخلَ العالَمِ أو خارِجَه مُمْتَنِعٌ، فإن جميعَ هذه الأوصافِ من المتَناقضاتِ التي لا يَصِحُّ ارتفاعُهما معًا كما سَبَقَ في النقيضينِ .

ثانيًا: ومَن قالَ ليس بِحَيٍّ ولا سميعٍ ولا بصيرٍ ولا مُتَكَلِّمٍ لَزِمَه أن يكونَ مَيِّتًا أَصَمَّ أَعْمَى أَبْكَمَ، فإن اعْتَرَضَ باعتراضِه المشهورِ وهو أنَّ الْعَمَى هو عَدَمُ البَصَرِ عن الْمَحَلِّ الذي من شأنِه أن يُوصَفَ بالبَصَرِ، وأمَّا ما لا يَقْبَلُ الاتِّصَافَ بالبصَرِ كالْجِدارِ مَثَلاً فلا يُقالُ له: أَعْمَى ولا بصيرٌ، وهكذا السمْعُ والكلامُ والعلْمُ وغيرُها يُشْتَرَطُ فيها صلاحيَةُ الْمَحَلِّ لها .

الجوابُ عن الشُبَهةِ من أَرْبَعَةِ أوْجُهٍ
وَجْهَيْنِ على فَرْضِ الْمَنْعِ, ووَجْهَيْنِ على فَرْضِ التسليمِ:

أَوَّلاً: على فَرْضِ الْمَنْعِ:
قولُه:
( قِيلَ له: هذا اصطلاحٌ اصْطَلَحْتُمُوهُ، وإلا فما يُوصَفُ بعَدَمِ الحياةِ والسمْعِ والبصَرِ والكلامِ يُمْكِنُ وَصْفُه بالموتِ والْعَمَى والْخَرَسِ والعُجْمَةِ، وأيضًا فكلُّ موجودٍ يَقْبَلُ الاتِّصَافَ بهذه الأمورِ ونقائضِها، فإنَّ اللهَ قادِرٌ على جَعْلِ الْجَمادِ حَيًّا, كما جَعَلَ عَصَا موسى حَيَّةً ابْتَلَعَت الْحِبالَ والْعِصِيَّ ) .


التوضيحُ

هنا ذَكَرَ وَجْهَيْنِ على فَرْضِ مَنْعِ قولِهم بِعَدَمِ جوازِ إطلاقِ الصِّفَاتِ ونقائضِها على الموجوداتِ:

الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ هذا اصطلاحٌ اصْطَلَحْتُمُوهُ أنتم والفَلاسِفَةُ كما سَبَقَ ( وهو ما سَبَقَ تَسْمِيَتُه بالعَدَمِ والْمَلَكَةِ, أي: أنه قد يَرْتَفِعُ النَّفْيُ والإثباتُ عن الْمَحَلِّ الذي لا يَصْلُحُ له ) وإلا فإنَّ الأصْلَ أنَّ ما يُوصَفُ بِعَدَمِ الحياةِ يَجُوزُ وَصْفُهُ بالموتِ, كما سَمَّى اللهُ الْجَماداتِ أَمْواتًا في قولِه: { أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ } وهكذا بَقِيَّةُ الصِّفَاتِ .

الوجهُ الثاني: أنَّ كلَّ موجودٍ يَقْبَلُ الاتِّصَافَ بهذه الصِّفَاتِ ونقائضِها بقُدْرَةِ اللهِ كعَصَا مُوسى أَصْبَحَتْ حَيَّةً، وهكذا طِينُ عيسى كان يَصِيرُ طَيْرًا بإذنِ اللهِ، وهكذا حَنِينُ الْجِذْعِ عندَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

ثانيًا: على فَرْضِ التسليمِ:

قولُه:
( وأيضًا فالذي لا يَقْبَلُ الاتِّصَافَ بهذه الصِّفَاتِ، أَعْظَمُ نَقْصًا مِمَّنْ يَقْبَلُ الاتِّصَافَ بها مع اتِّصَافِه بنقائضِها، فالْجَمادُ الذي لا يُوصَفُ بالبَصَرِ ولا العَمَى ولا الكلامِ ولا الْخَرَسِ أَعْظَمُ نَقْصًا من الحيِّ الأعْمَى الأخْرَسِ، فإن قِيلَ: إنَّ الباريَ لا يُمْكِنُ اتِّصَافُه بذلك: كان في ذلك مِن وَصْفِه بالنقْصِ أَعْظَمُ مِمَّا إذا وُصِفَ بالْخَرَسِ والعَمَى والصَّمَمِ ونحوِ ذلك، مع أنه إذا جُعِلَ غيرَ قابِلٍ لها كان تَشبيهًا له بالجَمادِ الذي لا يَقْبَلُ الاتِّصَافَ بواحدٍ منها، وهذا تشبيهٌ بالجماداتِ لا بالحيواناتِ، فكيف مَن قالَ ذلك على غيرِه مِمَّا يَزْعُمُ أنه تَشبيهٌ بالْحَيِّ؟

وأيضًا: فنَفْسُ نَفْيِ هذه الصِّفَاتِ نَقْصٌ، كما أنَّ إثباتَها كَمَالٌ، فالحياةُ من حيث هي هي مع قَطْعِ النظَرِ عن تَعيينِ الموصوفِ بها صِفَةُ كمالٍ, وكذلك العلْمُ والقُدْرَةُ والسمْعُ والبصَرُ والكلامُ والعَقْلُ ونحوَ ذلك، وما كان صِفَةَ كمالٍ فهو سبحانَه أَحَقُّ أن يَتَّصِفَ به من المخلوقاتِ، فلو لم يَتَّصِفْ به مع اتِّصَافِ المخلوقِ به لكان المخلوقُ أَكْمَلَ منه ) .

التوضيحُ

وهنا ذَكَرَ وَجْهَيْن على فَرْضِ التسليمِ بأنَّ اللهَ تعالى لا يَقْبَلُ هذه الصِّفَاتِ ونقائضَها .

الوجهُ الثالثُ: أنَّ الذي لا يَقْبَلُ الاتِّصَافَ بها أَصْلاً أَعْظَمُ نَقْصًا مِمَّنْ يَقْبَلُ الاتِّصَافَ بها مع الاتِّصَافِ بنقيضِها، فالْجَمَادُ الذي لا يَقْبَلُ الاتِّصَافَ بالْعَمَى مَثَلاً أَعْظَمُ نَقْصًا من الْحَيِّ الْأَعْمَى مَثَلاً .

فإذا قُلْتُمْ إنَّ اللهَ لا يَقْبَلُ الاتِّصَافَ بذلك كان أَعْظَمَ نَقْصًا مِمَّا إذا وُصِفَ بالْخَرَسِ والْعَمَى والصَّمَمِ؛ لأنه تشبيهٌ بالجماداتِ, لا بالحيواناتِ - أي الأحياءِ- فيكف يُنْكِرُ مَن قالَ ذلك على غيرِه حينَ يَزْعُمُ أنه شَبَّهَهُ بالأحياءِ مع أنه شَبَّهَهُ بالجماداتِ, وهي أَعْظَمُ نَقْصًا .
الوجهُ الرابعُ: أنَّ نَفْسَ نَفْيِ هذه الصِّفَاتِ نَقْصٌ بِقَطْعِ النظَرِ عن تعيينِ الموصوفِ بها، فالعلْمُ والقُدْرَةُ والحياةُ والسمْعُ والبصَرُ والكلامُ والفعْلُ ونحوَ ذلك كلُّها كَمالٌ، كما قالَ تعالى: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } .

وقالَ: { أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ } وكما حَكَى عن إبراهيمَ قولَه: { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ } وذَمَّ اللهُ عِجْلَ قَوْمِ مُوسى بقولِه: { أَلَمْ يَرَوْا أَنَّه لاَ يُكَلِّمُهُمْ } فنَفْيُ هذه الصِّفَاتِ نَقْصٌ, وإثباتُها كَمالٌ .
فاللهُ أَحَقُّ بالاتِّصَافِ بها؛ لأنه لو لم يَتَّصِفْ بها لكانَ المخلوقُ أَكْمَلَ منه .

مُقَارَنَةٌ بينَ مَن يَنْفُونَ عنه النقيضَيْنِ ومَن يَصِفُونَه بالنَّفْيِ فقط

قولُه:
( واعْلَمْ أنَّ الجَهْمِيَّةَ المَحْضَةَ - كالقَرَامِطَةِ ومَن ضَاهَاهُم - يَنْفُونَ عنه تعالى اتِّصَافَه بالنقيضينِ، حتى يقولو: ليس بموجودٍ ولا ليس بموجودٍ، ولا حيٍّ ولا ليس بحيٍّ، ومعلومٌ أنَّ الْخُلُوَّ عن النقيضينِ مُمْتَنِعٌ في بَدَاءَةِ العُقولِ، كالْجَمْعِ بينَ النقيضينِ، وآخَرُون وَصَفُوه بالنَّفْيِ فقط، فقالوا: ليس بحيٍّ ولا سميعٍ ولا بصيرٍ، وهؤلاءِ أَعْظَمُ كُفْرًا من أولئك من وَجْهٍ، فإذا قِيلَ لهؤلاءِ: هذا يَسْتَلْزِمُ وَصْفَه بنقيضِ ذلك، كالموتِ والصَّمَمِ والبَكَمِ، قالَوا: إنما يَلْزَمُ ذلك لو كان قَابِلاً لذلك، وهذا الاعتذارُ يَزِيدُ قولَهم فَسَادًا ) .

التوضيحُ

أشارَ شيخُ الإسلامِ هنا إلى طائفتينِ:-

.
الأولى : مَن يَنْفُون عنه النقيضينِ: هم الجَهْمِيَّةُ المَحْضَةُ - أي: الخالِصَةُ الغاليةُ- كالقرامطةِ البَاطِنِيَّةِ, فيقولون: ليس بموجودٍ, ولا ليس بموجودٍ, وليس بِحَيٍّ, ولا ليس بِحَيٍّ، أي: ليس بموجودٍ, ولا معدومٍ, وهكذا .

الثانيةُ: مَن يَصِفُونَه بالنَّفْيِ فقط؛ وهم الجَهْمِيَّةُ والمُعْتَزِلةُ فيقولون: ليس بِحَيٍّ ولا سميعٍ ولا بَصيرٍ .
فالطائفةُ الأُولَى أَكْفَرُ من جِهَةِ أنهم شَبَّهُوهُ بالمُمْتَنِعاتِ, وهو أَقْبَحُ من مُجَرَّدِ العَدَمِ، والطائفةُ الثانيةُ أَكْفَرُ من جِهةِ أنهم لم يُصَرِّحُوا بنفيِ النقائصِ, بل قالوا: ليس بِحَيٍّ, ولم يقولوا: ليس بِمَيِّتٍ، فتَنْزِيهُهُمْ أقَلُّ من الطائفةِ الأُولَى التي صَرَّحَتْ بنفيِ النقائصِ، فكلٌّ من الطائفتين أَكْفَرُ من الأُخْرَى من جِهةٍ.

- وشُبْهَةُ الطائفةِ الثانيةِ أنَّ اللهَ غَيْرُ قابِلٍ لهذه الصِّفَاتِ كما سَبَقَ، فإذا قِيلَ لهم قولُكم: إنَّ اللهَ ليس بِحَيٍّ ولا سميعٍ يَسْتَلْزِمُ اتِّصَافَه بالموتِ والصَّمَمِ، قالوا: إنما يَلْزَمُ ذلك لو كان قَابِلاً لها, لكنه غيرُ قابِلٍ، وجوابُهم هذا يَزيدُ قولَهم فَسادًا؛ لأنَّ نَفْيَ قَبولِ الصِّفَةِ أَشْنَعُ وأَبْشَعُ من تقديرِ قَبُولِها مع نفيِها, فيُقَارِبُونَ الطائفةَ الأُولَى .

شُبَهةٌ لنُفَاةِ الْعُلُوِّ والرَّدُّ عليها

قولُه:
( وكذلك مَن ضَاهَى هؤلاءِ، وهم الذين يَقولون: ليس بداخِلِ العالَمِ ولا خارجِه إذا قِيلَ: هذا مُمْتَنِعٌ في ضرورةِ العَقْلِ، كما إذا قِيلَ: ليس بقديمٍ ولا مُحْدَثٍ، ولا واجبٍ ولا مُمْكِنٍ، ولا قائمٍ بنفسِه، ولا قائمٍ بغيرِه، قالوا: هذا إنما يكونُ إذا كان قابِلاً لذلك، والقَبولُ إنما يكونُ من الْمُتَحَيِّزِ، فإذا انْتَفَى التحيُّزُ انْتَفَى قَبُولُ هَذَيْنِ المتَناقضينِ، فيُقالُ لهم: علْمُ الخلْقِ بامتناعِ الْخُلُوِّ من هَذينِ النقيضينِ هو عِلْمٌ مطلَقٌ لا يُسْتَثْنَى منه موجودٌ، والتَّحْيِيزُ المذكورُ إنْ أُريدَ به كونُ الأحيازِ الموجودةِ تُحيطُ به فهذا هو الداخِلُ في العالَمِ، وإن أُريدَ به أنه مُنحازٌ عن المخلوقاتِ، أي: مُبَايِنٌ لها مُتَمَيِّزٌ عنها فهذا هو الخروجُ، فالمتحيِّزُ يُرادُ به تَارةً ما هو داخِلُ العالَمِ وتارةً ما هو خارجُ العالَمِ، فإذا قِيلَ: ليس بمتَحَيِّزٍ. كان معناه: ليس بداخلِ العالَمِ ولا خارجِه، فَهُمْ غَيَّرُوا العِبارةَ ليُوهِمُوا مَن لا يَفْهَمُ حقيقةَ قولِهم، أنَّ هذا معنًى آخَرُ، وهو المعنى الذي عُلِمَ فسادُه بضرورةِ العَقْلِ، كما فَعَلَ أولئك بقولِهم: ليس بِحَيٍّ ولا مَيِّتٍ ولا موجودٍ ولا معدومٍ، ولا عالِمٍ, ولا جاهِلٍ ) .

التوضيحُ

هذا اعتقادُ مُتَأَخِّرِي الأَشَاعِرَةِ والماتُرِيدِيَّةِ تَبِعُوا فيه المُعْتَزِلةَ والفَلاسِفَةَ, وهو قولُهم: إنَّ اللهَ لا داخلَ العالَمِ ولا خارِجَه، فإذا قِيلَ: لهم هذا مُمْتَنِعٌ في ضرورةِ العَقْلِ, وهو مُمَاثِلٌ للقولِ: بأنه ليس بقديمٍ ولا مُحْدَثٍ ولا واجبٍ ولا مُمْكِنٍ ولا قائمٍ بنفسِه ولا بغيرِه .
- أَجَابُوا بشُبْهَةِ البَاطِنِيَّةِ نفسِها, وهي: إنما يَمْتَنِعُ ذلك إذا كان اللهُ قابِلاً لها، والقَبولُ للدخولِ والخروجِ إنما يكونُ للمُتَحَيِّزِ، واللهُ مُنَزَّهٌ عن التحيُّزِ فانْتَفَى قَبولُه لها .

- والجوابُ عليهم من ثلاثةِ وجوهٍ:-
أنَّ امتناعَ الْخُلُوِّ من هَذَيْنِ النقيضينِ عامٌّ لا يُسْتَثْنَى منه موجودٌ, فالتفريقُ بينَ المتحيِّزِ وغيرِه باطِلٌ.
أن التحيُّزَ المذكورَ يُرادُ به مَعنيانِ: إمَّا أنَّ الأحيازَ تُحِيطُ به فهذا هو الداخِلُ في العالَمِ، وإمَّا أنه مُنْحَازٌ عن العالَمِ فهذا هو الخارِجُ المبايِنُ, وهو الذي يُوصَفُ اللهُ به.
فالمتحيِّزُ يُرادُ به ما هو دِاخِلُ العالَمِ وما هو خارِجُ العالَمِ، فهم يقولون: ليس بِمُتَحَيِّزٍ, ويَحْمِلُونَه على المعنَيَيْنِ, وهو لا داخلَ العالَمِ ولا خارِجَه، فكان معنى التَّحَيُّزِ عندَهم هو عينَ قولِهم: لا داخلَ العالَمِ ولا خارِجَه، وإنما غَيَّرُوا العِبارةَ لِيُمَوِّهُوا على مَن لا يَفْهَمُ حقيقةَ قولِهم، وهو معلومُ الفَسادِ بضرورةِ العَقْلِ كقولِ أولئك البَاطِنِيَّةِ .


خُلاصَةُ القاعدةِ الأُولَى

اللهُ تعالى موصوفٌ بالنَّفْيِ والإثباتِ.
النَّفْيُ المَحْضُ لا مَدْحَ فيه, إلا إذا تَضَمَّنَ إثباتَ كمالِ الضِّدِّ.


المناقَشَةُ

بَيِّنْ أَوْجُهَ كونِ النَّفْيِ المَحْضِ لا مَدْحَ فيه.
اذْكُرْ الْخِلافَ في معنى الإدراكِ في قولِه تعالى: { لاَ تُدْرِكْهُ الْأَبْصَارُ } .
كيف تَرُدُّ على مَن اسْتَدَلَّ على نَفْيِ الرؤيةِ بقولِه تعالى: { لاَ تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ
أَجِبْ عن شُبْهَةِ التقابُلِ, وهي أنَّ اللهَ غيرُ قابِلٍ لهذه الصِّفَاتِ من أربعةِ أَوْجُهٍ .
كيف تَرُدُّ على مَن نَفَى العلُوَّ بِحُجَّةِ أنَّ ذلك يَسْتَلْزِمُ التَّحَيُّزَ؟
قَارِنْ بينَ مَذْهَبِ مَن يَنْفِي النقيضينِ ومَن يَصِفُ اللهَ بالنَّفْيِ فقط؟


موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الأولى, القاعدة

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:28 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir