دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > لمعة الاعتقاد

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 3 ذو القعدة 1429هـ/1-11-2008م, 12:15 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي رؤية المؤمنين لربهم عز وجل يوم القيامة

فَصْلٌ
وَالمُؤْمِنُونَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ فِي الآخِرَةِ بِأَبْصَارِهِمْ وَيَزُورُونَهُ وَيُكَلِّمُهُمْ وَيُكَلِّمُونَهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22-23]
وَقَالَ تَعَالَى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]
فلمَّا حَجَبَ أولئكَ في حالِ السَّخطِ، دَلَّ عَلَى أنَّ المُؤمنينَ يَرَوْنَهُ حَالَ الرِّضَى، وَإِلاَّ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ.
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إنَّكم تَرَوْنَ رَبَّكُم كَمَا تَرَوْنَ هَذَا القَمَرَ لا تُضَامُّون في رُؤْيَتِه)). حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَهَذَا تَشْبِيهٌ لِلرُّؤْيَةِ بالرؤية لاَ لِلْمَرْئِي بِالمَرْئِي، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لاَ شَبِيهَ لَهُ وَلاَ نَظِيرَ.


  #2  
قديم 29 ذو القعدة 1429هـ/27-11-2008م, 09:42 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post شرح الشيخ ابن عثيمين

(1) رُؤْيَةُ اللهِ في الآخِرَةِ:

رُؤْيَةُ اللهِ في الدُّنْيَا مُسْتَحِيلَةٌ ؛ لِقَوْلِهِ تعالَى لموسَى -وقَدْ طَلَبَ رُؤْيَةَ اللهِ-: {لَنْ تَرَانِي}[الأعراف: 143].
ورُؤْيَةُ اللهِ في الآخِرَةِ ثَابِتَةٌ بالكِتَابِ والسُّنَّةِ وإجْمَاعِ السَّلَفِ.
قالَ اللهُ تعالَى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القِيامَة: 22، 23] ، وقَالَ: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المُطَفِّفِين: 15]، فَلَمَّا حَجَبَ الفُجَّارَ عنْ رُؤْيَتِهِ دَلَّ على أنَّ الأَبْرَارَ يَرَوْنَهُ، وإِلاَّ لمْ يَكُنْ بَيْنَهُما فَرْقٌ.

وقالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لاَ تُضَامُّونَ في رُؤْيَتِهِ))، مُتَّفَقٌ عليهِ.
وهذا التَّشْبِيهُ للرُّؤْيَةِ بالرُّؤْيَةِ ، لا للْمَرْئِيِّ بالمَرْئِيِّ ؛ لأنَّ اللهَ لَيْسَ كمثْلِهِ شيءٌ ، ولاَ شَبِيهَ لَهُ ولا نَظِيرَ.
وأَجْمَعَ السَّلَفُ على رُؤْيَةِ المؤمنينَ للهِ تعالى دُونَ الكُفَّارِ بدليلِ الآيَةِ الثانيَةِ(1) ، يَرَوْنَ اللهَ تَعَالَى في عَرَصَاتِ القِيَامَةِ وبَعْدَ دُخُولِ الجنَّةِ كما يَشَاءُ اللهُ تعالَى ، وهيَ رُؤْيَةٌ حَقِيقِيَّةٌ تَلِيقُ باللهِ.
وفَسَّرَهَا أهلُ التَّعْطِيلِ بأنَّ المرادَ بها رؤيَةُ ثَوَابِ اللهِ، أوْ أنَّ المُرادَ بها رُؤْيَةُ العِلْمِ واليَقِينِ.
وَنَرُدُّ عليهمْ باعْتِبَارِ التأويلِ الأوَّلِ بِمَا سَبَقَ في القاعِدَةِ الرابعةِ ، وباعْتِبَارِ التأويلِ الثَّانِي بذلكَ، وبِوَجْهٍ رابِعٍ: أنَّ العِلْمَ واليقِينَ حاصِلٌ للأبْرَارِ في الدُّنيا(2) ، وسَيَحْصُلُ لِلْفُجَّارِ في الآخِرَةِ.


حاشية الشيخ صالح العصيمي حفظه الله :
(1) الإجماع المقطوع به عند أهل السنة هو أن الله يُرى في الآخرة ، أما اختصاص رؤيته بالمؤمنين أو كون الكفار معه فهذا مما جرى فيه الخلف بينهم .
(2) يعني فلم يكن لتخصيصه بيومئذٍ معنى لوقوعه قبل يوم القيامة ، فإن الأبرار لهم علم بربهم ، ويتيقنون ما أخبر به عن نفسه ، أو أخبر عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء الحسنى والصفات العلى.


  #3  
قديم 29 ذو القعدة 1429هـ/27-11-2008م, 09:44 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post شرح الشيخ ابن جبرين

(1) هذا ابتداءٌ في مسألةِ النَّظرِ إلى وَجْهِ اللهِ ، وَرُؤْيَةِ اللهِ تَعَالَى.
وهيَ أَيْضًا من المسائلِ المُهِمَّةِ الَّتي تَكَلَّمَ فيها أهلُ السُّنَّةِ ، وَأَثْبَتُوهَا بالأدلَّةِ ، وخالفَ فيها المعتزلةُ خِلاَفًا صَرِيحًا ، وَخَالَفَ فيها الأشاعرةُ خِلاَفًا مَعْنَوِيًّا ، وَهَدَى اللهُ أهلَ السُّنَّةِ لِقَبُولِهَا ، ولم يَلْزَمْهُم مَحْذُورٌ منْ إثباتِهَا ، والحمدُ للهِ.
أولاً: قد اخْتَلَفُوا: هلْ يُمْكِنُ النَّظرُ إلى اللهِ تَعَالَى في الدُّنيا، وهلْ رَآهُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
والصَّحيحُ: أنَّهُ لا يُمْكِنُ لأحدٍ من البشرِ أنْ يَرَى رَبَّهُ في الدُّنيا ؛ ولأجلِ ذلكَ لم يَتَمَكَّنْ مُوسَى عليهِ السَّلامُ من النَّظرِ إلى رَبِّهِ بعدَ أنْ سَأَلَ النَّظرَ ، وَأَخْبَرَهُ اللهُ بِعَدَمِ التَّمَكُّنِ منْ ذلكَ.

والدَّليلُ قولُهُ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143].
فهذا دليلٌ على أنَّ البشرَ لِضَعْفِ خِلْقَتِهِم في الدُّنيا لا يَتَمَكَّنُونَ منْ رُؤْيَةِ اللهِ تَعَالَى.
والصَّحيحُ أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يَرَهُ رُؤْيَةً بَصَرِيَّةً في الدُّنيا.
ودليلُ ذلكَ: قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قِيلَ لهُ: ((هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟)) قال: ((نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ؟!))، يَعْنِي: كيفَ أَرَاهُ وَدُونَهُ ذلكَ النُّورُ، وكذلكَ في روايَةٍ: ((رَأَيْتُ نُورًا)) ؛ وذلكَ لأنَّ اللهَ تَعَالَى احْتَجَبَ عنْ عِبَادِهِ بالنُّورِ.


وفي الحديثِ الآخَرِ يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لأََحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ)).
فالصَّحيحُ أنَّهُ رَآهُ رؤيَةً قَلْبِيَّةً لاَ رُؤْيَةً بَصَرِيَّةً ، والَّذينَ أَثْبَتُوا الرُّؤيَةَ لهُ اسْتَدَلُّوا بقولِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى}[النجم: 13 - 14].


والصَّحيحُ أنَّ الضَّميرَ يَعُودُ إلى جبريلَ؛ أيْ: ولَقَدْ رَأَى جبريلَ نَزْلَةً أُخْرَى.

وكذلكَ قولُهُ: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} [التَّكْوِير: 23] ، الضَّميرُ أَيْضًا يَعُودُ إلى جبريلَ عليهِ السَّلامُ؛ فإنَّهُ الرَّسولُ المذكورُ في قولِهِ تَعَالَى : {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ}[التَّكوير: 19- 21] ، هذهِ صِفَاتُ المَلَكِ ، فالضَّميرُ يَعُودُ إليهِ.
وقدْ ثَبَتَ أنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بأنَّهُ رَأَى جبريلَ على صورتِهِ الَّتي خُلِقَ عليها مَرَّتَيْنِ ؛ لهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ ، قدْ سَدَّ ما بينَ الأُفُقِ ، أوْ قدْ سَدَّ الأُفُقَ ، وكانَ يَنْزِلُ عليهِ كَثِيرًا ، ولكنَّهُ يَتَمَثَّلُ بصورةِ دِحْيَةَ الكَلْبِيِّ أوْ نَحْوَهُ.
وعلى كلِّ حالٍ؛ فإنَّ الرُّؤيَةَ في الدُّنيا لا دليلَ عليها ، وقدْ خَالَفَ في ذلكَ المُتَصَوِّفَةُ ، وادَّعَوْا أنَّ الأولياءَ يَرَوْنَ اللهَ عَيَانًا ، وأنَّهُ يُعْرَجُ بأرواحِهِم ، وأنَّ أَرْوَاحَهُم تَتَمَكَّنُ من النَّظرِ إلى رَبِّها ؛ ولأجلِ ذلكَ فَضَّلُوا أولياءَهُم وَسَادَتَهُم على الأنبياءِ ، بلْ وعلى الرُّسلِ ، وعلى الملائكةِ، وهذا منْ شَطَحَاتِهِم ، هذا بالنسبةِ إلى الرُّؤيَةِ في الدُّنيا.


وأمَّا الرُّؤيَةُ في الآخرةِ: فَأَثْبَتَهَا أهلُ السُّنَّةِ ، وأنَّها رؤيَةٌ صحيحةٌ ، وأنَّ المؤمنينَ في الجنَّةِ يَرَوْنَ اللهَ تَعَالَى ، وَيَزُورُونَهُ ، وَيُكَلِّمُهُم وَيُكَلِّمُونَهُ.
بلْ ثَبَتَ في السُّنَّةِ وفي الأحاديثِ أنَّ رؤيَةَ اللهِ تَعَالَى في الجنَّةِ للمؤمنينَ هيَ أَعْظَمُ لَذَّةٍ لهم ، وَأَعْظَمُ نَعِيمٍ ، وأَعْظَمُ سُرُورٍ يَصِلُ إليهم ؛ يُبْهِجُ نُفُوسَهُم ، وَتَسْتَنِيرُ وَتُضِيءُ بهِ وُجُوهُهُم ، وَيَكْتَسِبُونَ أَعْظَمَ لَذَّةٍ بِحَيْثُ إنَّهم لا يَلْتَفِتُونَ إلى شيءٍ ما دَامُوا يَنْظُرُونَ إلى ربِّهِم ، وَيَغْفُلُونَ عنْ كلِّ نعيمٍ كانوا فيهِ ، فلا يَنْظُرُونَ إلاَّ إلى رَبِّهم حتَّى يَحْتَجِبَ عنهم ، هذا منْ أَعْظَمِ لَذَّةٍ لهم، يَقُولُ بعضُ العلماءِ ، ولوْ كانَ مِثَالاً دُنْيَوِيًّا:


فَلَوْ أَنِّي اسْتَطَعْتُ غَضَضْتُ طَرْفِي = فَلَمْ أَنْظُرْ بِهِ حَتَّى أَرَاكَا
وقدْ تَقَدَّمَت الآيَةُ الَّتي أَوْرَدَهَا المُوَفَّقُ رَحِمَهُ اللهُ، وهيَ قولُهُ تَعَالَى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} [المطفِّفين: 14 - 16] ، وَصَفَهُم بهذهِ الصِّفةِ ؛ أنَّهم مَحْجُوبُونَ عنْ رَبِّهم .
والحَجْبُ: هوَ الحَيْلُولَةُ بَيْنَهُم وبينَ رَبِّهم؛ فلا يَنْظُرُونَ إليهِ ولا يَرَوْنَهُ ، ولا يَتَمَتَّعُونَ بِرُؤْيَتِهِ ، وَيَا لَهَا منْ عُقُوبَةٍ تَصِلُ إليهم ، إنَّهم مَحْجُوبُونَ عنْ ربِّهم ، وذلكَ أَشَدُّ العذابِ.


فكلُّ مَنْ حُجِبَ عنْ رُؤْيَةِ رَبِّهِ فَإِنَّهُ مُعَذَّبٌ ، فَحَجْبُهُ عنْ رَبِّهِ عَذَابٌ لهُ وأيُّ عَذَابٍ .
وقد اسْتَدَلَّ بهذهِ الآيَةِ الشافعيُّ رَحِمَهُ اللهُ ، وهوَ أَشْهَرُ مَن اسْتَنْبَطَ منها رُؤْيَةَ المؤمنينَ لِرَبِّهم.
وحيثُ ثَبَتَ أنَّ الكفَّارَ مَحْجُوبُونَ عنْ ربِّهم ؛ فإنَّهُ يَدُلُّ على أنَّ المؤمنينَ منْ أهلِ الجنَّةِ غَيْرُ مَحْجُوبِينَ عنْ رَبِّهم ، بلْ يَرَوْنَهُ ، فلوْ كانَ لا يَرَاهُ أَحَدٌ لمْ يَكُنْ هُنَاكَ فَرْقٌ بينَ المؤمنِينَ والكُفَّارِ ، ولكانَ الجميعُ كلُّهم مَحْجُوبِينَ عنْ رَبِّهم.
فَالْحِجَابُ هوَ أنْ يَكُونَ بَيْنَهم وبينَهُ حاجبٌ وحاجزٌ لا يَرَوْنَهُ ، فإذا كانَ هؤلاءِ يَرَوْنَهُ كَانُوا غيرَ مَحْجُوبِينَ ، وهؤلاءِ لا يَرَوْنَهُ فهم المَحْجُوبُونَ ، وهذا دليلٌ واضحٌ.
وأمَّا الآيَةُ الأُولَى ؛ فهيَ أَصْرَحُ الآياتِ الَّتي اسْتَدَلَّ بها أهلُ السُّنَّةِ ، وهيَ قولُهُ تَعَالَى: {كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ} [القيامة: 20 - 21].


يُخَاطِبُ الكفَّارَ: {تُحِبُّونَ العاجلةَ} ؛ وهيَ الدُّنيا، {وَتَذَرُونَ الآخرةَ} ، ولا تَتَنَافَسُونَ فيها.
ثمَّ ذَكَرَ أَقْسَامَ النَّاسِ في قولِهِ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 22 - 25].
الوُجُوهُ الأُولَى وَصَفَهَا بأنَّها ناضرةٌ ؛ أيْ: ذاتُ نَضْرَةٍ وَبَهَاءٍ وسُرُورٍ، وُجُوهُهُم مُسْفِرَةٌ مُسْتَنِيرَةٌ ؛ لأنَّهم يَرَوْنَ رَبَّهم ، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ؛ أيْ: تَنْظُرُ إلى رَبِّها نَظَرَ عَيَانٍ.


فَفِي هذهِ الآيَةِ نِسْبَةُ الرُّؤيَةِ إلى الوُجُوهِ ؛ وذلكَ لأَِنَّ الوُجُوهَ هيَ مَحَلُّ النَّظرِ، وَلَمَّا أنْ نَظَرَت الوُجُوهُ إلى رَبِّها أَشْرَقَتْ وَأَسْفَرَتْ.
وكثيرًا ما يَصِفُ اللهُ وُجُوهَ أهلِ الجنَّةِ بِصِفَاتٍ تَظْهَرُ عَلَيْهَا ؛ وذلكَ لأنَّ الوَجْهَ هوَ مَحَلُّ التَّأَثُّرِ، وإذا كانَ مَسْرُورًا رَأَيْتَ وَجْهَهُ مُسْتَنِيرًا ، وإذا كانَ حَزِينًا رَأَيْتَ وَجْهَهُ مُكْتَئِبًا، فَوَصَفَ اللهُ أهلَ النَّارِ بقولِهِ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} [الغاشيَة: 2]، يَعْنِي: ذَلِيلَةٌ.
ثمَّ قالَ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} [الغاشيَة: 8]، يَعْنِي: مُنَعَّمَةٌ ، هكذا وَصَفَهُم اللهُ بهذهِ الآيَةِ.
وفي آيَةٍ أُخْرَى قالَ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} [عَبَس: 38] ؛ أيْ: أَضَاءَتْ وَاسْتَنَارَتْ ، والإِسْفَارُ هوَ الضِّياءُ ، مُسْفِرَةٌ: يَعْنِي عليها آثارُ هذهِ الإضاءةِ.
أمَّا الوُجُوهُ الأُخْرَى ؛ فإنَّها قالَ اللهُ تَعَالَى عنها: {عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عَبَس: 40 - 41].


فَإِذَاً: هَذِهِ وُجُوهُهُم الَّتي وَصَفَهَا اللهُ أنَّها نَاظِرَةٌ ، والكَلِمَتَانِ في الآيَتَيْنِ لَفْظُهُمَا واحدٌ، ولكنَّ خَطَّهُمَا مُخْتَلِفٌ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22] مَكْتُوبَةٌ بالضَّادِ ؛ أيْ: ذاتُ نَضْرَةٍ، مثلُ قولِهِ تَعَالَى: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 11] ؛ أيْ: ذاتُ نَضْرَةٍ وَبَهَاءٍ وَسُرُورٍ، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23]، هذهِ كُتِبَتْ بالظَّاءِ المُشَالَةِ؛ من النَّظرِ الَّذي هوَ المُعَايَنَةُ.
قالَ بعضُ العلماءِ: نَظَرُوا إلى رَبِّهم فَنَضَرَتْ وُجُوهُهُم، يَعْنِي: اسْتَنَارَتْ وَأَسْفَرَتْ وَابْتَهَجَتْ بهذا النَّعيمِ، فهذا هوَ دَلِيلُهُم.


أَوْرَدَ المُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ هَذَيْنِ الدَّلِيلَيْنِ من القرآنِ، وَذَكَرَ أنَّ الرُّؤيَةَ تكونُ في الآخرةِ.
وقدْ وَرَدَ أَيْضًا في الأحاديثِ ما يَدُلُّ على أنَّ الجميعَ يَرَوْنَ رَبَّهُم يَوْمَ القيامةِ عندَمَا يَنْزِلُ لِفَصْلِ القضاءِ ويقولُ: ((مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ، فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فَيَأْتِيهِمُ اللهُ فِي غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتي يَعْرِفُونَ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ)).
وفي هذا أنَّهم يَرَوْنَهُ جَمِيعًا؛ المنافقونَ والمؤمنونَ، كما يَشَاءُ، قالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42]، قِيلَ: إنَّهم يَسْأَلُونَهُ عَلاَمَةً ، فَيَكْشِفُ عنْ ساقٍ، فعندَ ذلكَ يَعْرِفُونَ أنَّهُ رَبُّهم فَيَسْجُدُونَ.
فهذا قد اسْتَدلَّ بهِ على أنَّهم يَرَوْنَهُ في القيامةِ، ولكنْ هيَ رُؤْيَةُ ابْتِلاَءٍ وامْتِحَانٍ ، أمَّا الرُّؤيَةُ الَّتي هيَ رؤيَةُ لَذَّةٍ وَبَهْجَةٍ وَنَعِيمٍ، فإنَّها في الجنَّةِ.
وقدْ ذَكَرَ العلماءُ أنَّ المُقَرَّبِينَ يَرَوْنَ اللهَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا، وأنَّ الأبرارَ يَرَوْنَهُ كلَّ جُمُعَةٍ؛ أيْ: في كلِّ أُسْبُوعٍ.
(2) ثمَّ ذَكَرَ منْ أَدِلَّةِ الرُّؤيَةِ حَدِيثَ جَرِيرِ بنِ عبدِ اللهِ قالَ: كُنَّا عندَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ نَظَرَ إلى القمرِ ليلةَ البدرِ فقالَ: ((أَمَا إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا، لاَ تُضَامُّونَ - أَوْ لاَ تُضَاهُونَ - فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَلاَّ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا))، ثُمَّ قَرَأَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130].
فحديثُ جريرٍ هذا دليلٌ على رؤيَةِ المؤمنينَ لِرَبِّهم يومَ القيامةِ، وَيُرِيدُ بالصلاتَيْنِ صَلاَتَي العصرِ والفجرِ؛ أيْ : حَافِظُوا على هَاتَيْنِ الصَّلاَتَيْنِ ؛ لأنَّ المُقَرَّبِينَ يَرَوْنَ اللهَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا، وقدْ فُسِّرَ بذلكَ أيضًا قولُهُ تَعَالَى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62].
وبِكُلِّ حالٍ؛ فَرُؤْيَةُ المؤمنينَ لِربِّهم منْ أَجَلِّ ما أَنْعَمَ وَتَفَضَّلَ بهِ عليهم، هذا هوَ قولُ أهلِ السُّنَّةِ.
وقد اسْتَوْفَى الأئمَّةُ الكلامَ على الرُّؤيَةِ، كما في كتابِ ابنِ القَيِّمِ (حَادِي الأَرْوَاحِ)؛ الَّذي كَتَبَهُ عنْ أهلِ الجنَّةِ وَصِفَةِ نَعِيمِ الجنَّةِ، وفي آخرِ أَبْوَابِهِ بَابٌ في رؤيَةِ المؤمنينَ لِرَبِّهم، ذَكَرَ فيهِ سبعةَ أَدِلَّةٍ مِن القرآنَ، وَهِيَ:
الدَّليلُ الأوَّلُ: هُوَ سؤالُ مُوسَى النَّظرَ في قولِهِ تَعَالَى: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143]، فهوَ أَعْلَمُ بِمَا يَجُوزُ على رَبِّهِ منْ علماءِ المُعْتَزِلَةِ.


الدَّليلُ الثَّاني: قولُهُ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ} [يونس: 26].

الزِّيادةُ وَرَدَ في الحديثِ أنَّها ((النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللهِ))؛ ولهذا قالَ تَعَالَى: {وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ}[يونسُ: 26] ، الحُسْنَى: الجَنَّةُ، والزِّيادةُ: النَّظَرُ إلى وجهِ اللهِ، فإذا نَظَرُوا إلى وَجْهِهِ فلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُم قَتَرٌ ولا ذِلَّةٌ.
الدَّليلُ الثَّالثُ: قولُهُ تَعَالَى: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35]، فُسِّرَ المزيدُ بأنَّهُ النَّظرُ إلى وجهِ اللهِ تَعَالَى.


الدَّليلُ الرَّابعُ: آياتُ اللِّقاءِ ، وهيَ كثيرةٌ ، كقولِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} [الكهف: 110]، اللِّقاءُ لا تَعْرِفُهُ العربُ إِلاَّ أنَّهُ المقابلةُ والنَّظرُ، فهوَ دليلٌ واضحٌ على إثباتِ الرُّؤيَةِ.

الدَّليلُ الخامسُ: قولُهُ تَعَالَى: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام: 103] ، فهوَ دليلٌ على إثباتِ الرُّؤيَةِ كَمَا سَيَأْتِي، معَ أنَّ المُعْتَزِلَةَ يَجْعَلُونَهُ دَلِيلاً على نَفْيِ الرُّؤيَةِ.

الدَّليلُ السَّادسُ والسَّابعُ: الآيتانِ اللَّتانِ ذَكَرَهُمَا ابنُ قُدَامَةَ رَحِمَهُ اللهُ، فهذهِ سبعةُ أدلَّةٍ ، وقدْ أَوْضَحَ دَلاَلَتَهُمْ.

ثمَّ شَرَعَ في الأدلَّةِ من السُّنَّةِ ، وذكرَ نَحْوَ سِتِّينَ حَدِيثًا أوْ أَكْثَرَ ؛ ذَكَرَهَا بِأَسَانِيدِهَا وَبِطُرُقِهَا، فيها الأحاديثُ الصَّحيحةُ، وفيها الأحاديثُ الحسنةُ، وفيها الأحاديثُ الضعيفةُ؛ أيْ: ضَعْفًا شَدِيدًا، ولكنَّهُ أَوْرَدَهَا للتَّقويَةِ، وَتَبِعَهُ على ذلكَ حافظٌ الحَكَمِيُّ في كتابِهِ المشهورِ (مَعَارِجُ القَبُولِ في شَرْحِ سُلَّمِ الوُصُولِ)، وهذا الشَّرحُ منْ أَنْفَسِ الشُّروحِ.
لَمَّا أَتَى إلى ذِكْرِ الجنَّةِ وَذِكْرِ الرُّؤيَةِ، سَرَدَ أيضًا الأحاديثَ، وَأَسْقَطَ منها ما هوَ شديدُ الضعفِ، وفيما ذَكَرَهُ خَيْرٌ كثيرٌ.
فهذا وَجْهُ إثباتِ هذهِ الصِّفةِ الَّتي هيَ صفةُ رؤيَةِ المؤمنينَ لِرَبِّهم ، وقدْ جَعَلَهَا ابنُ القَيِّمِ في (النُّونيَّةِ) منْ أَدِلَّةِ إِثْبَاتِ العُلُوِّ، قالَ: مَنْ كانَ يُقِرُّ بالرُّؤيَةِ لَزِمَهُ أنْ يُقِرَّ بالعُلُوِّ؛ فإنَّ المؤمنينَ عندَما يَرَوْنَ ربَّهم يَرَوْنَهُ منْ فَوْقِهِم، كما في قولِهِ تَعَالَى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]، فَفِي الأحاديثِ أنَّهُ يَتَجَلَّى لهم منْ فوقِهِم فَيَرَاهُم وَيَرَوْنَهُ، فهوَ دليلٌ واضحٌ على أنَّها رؤيَةٌ حقيقيَّةٌ يَنْظُرُونَ إليهِ كما يَشَاءُ.
فَعَرَفْنَا بذلكَ مَذْهَبَ أهلِ السُّنَّةِ؛ أنَّهُ لا شَكَّ أنَّ المؤمنينَ يَرَوْنَ رَبَّهم منْ فَوْقِهِم، وأنَّهم يَرَوْنَهُ رُؤْيَةً حقيقيَّةً، ورؤيَةً مُقَابِلَةً كما يَشَاءُ، وأنَّ الأدلَّةَ وَاضِحَةٌ.
ومنْ أَصَحِّهَا حَدِيثُ جريرٍ؛ لقولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ)) .
والتَّشبيهُ هنا للرُّؤيَةِ ؛ شَبَّهَ الرُّؤيَةَ بالرُّؤيَةِ، وليسَ المرادُ تَشْبِيهَ الرَّبِّ تَعَالَى بالقمرِ، وإنَّما تَشْبِيهُ رُؤْيَتِهِم؛ لأنَّها رُؤْيَةٌ حقيقيَّةٌ، كَرُؤْيَتِهِم القمرَ ليلةَ البدرِ؛ ولهذا قالَ: ((لاَ تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ)) ؛ أيْ: لا يَلْحَقُكُم في رُؤْيَتِهِ ضَيْمٌ؛ وهُوَ الضَّررُ.


ثمَّ معَ هذهِ الأدلَّةِ الَّتي ذَكَرْنَا قدْ خَالَفَ في ذلكَ المُعْتَزِلَةُ فَأَنْكَرُوهَا صراحةً، وخالَفُوا فيها خلافَ عِنَادٍ ؛ لأنَّها عندَهُم تَسْتَلْزِمُ إِثْبَاتَ الجِهَةِ أوْ تَسْتَلْزِمُ المقابلةَ، فلم يَكُنْ بُدٌّ منْ أنْ يَرُدُّوا الأدِلَّةَ رَدًّا شَنِيعًا ، وَيُخَالِفُوهَا مُخَالَفَةً وَاضِحَةً ، ولا يَزَالُونَ على ذلكَ.

طُبِعَ قبلَ عَشْرِ سَنَوَاتٍ ، أوْ خمسةَ عَشَرَ سنةً ، كتابٌ اسْمُهُ (مُتَشَابِهُ الْقُرْآنِ) في مُجَلَّدَيْنِ للقاضِي عبدِ الجبَّارِ، وهُوَ منْ رُءُوسِ المعتزلةِ ، وَحَقَّقَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لهُ: (عَدْنَان مُحَمَّد زَرْزُور)، وَذَهَبَ إلى ما ذَهَبَ إليهِ القاضي، فإذا أَتَى إلى آياتِ العُلُوِّ وآياتِ الاستواءِ وآياتِ الرُّؤيَةِ حَرَّفَهَا وَجَعَلَهَا من المُتَشَابِهِ، وَحَمَلَهَا مَحَامِلَ بَعِيدَةً، وإذا أَتَى إلى الآياتِ الَّتي فيها شُبَهُ اسْتِدْلاَلٍ لهم، يَقُولُ: لَنَا قولُهُ تَعَالَى، مثلُ هذهِ الآيَةِ: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] .
وَوَرَدَ كتابٌ لأحدِ الإباضيَّةِ يُقَالُ لهُ: أحمدُ الخَلِيلِيُّ، في عُمَانَ، اسْمُهُ (الحَقُّ الدَّامِغُ)، انْتَشَرَ وَوُزِّعَ بكمِّيَاتٍ؛ لأنَّهُ في زَعْمِهِ وَصَلَ إلى الحقيقةِ، وَسَقَطَ على المُرَادِ، تَكَلَّمَ فيهِ على مَذْهَبِهِم في العقيدةِ في ثلاثِ مسائلَ:
- في مسألةِ الرُّؤيَة ؛ فَيُنْكِرُهَا إِنْكَارًا صَرِيحًا.


- وفي مسألةِ خَلْقِ القرآنِ ؛ فَيَدَّعِي أنَّهُ مَخْلُوقٌ.

- وفي مسألةِ إثباتِ خَلْقِ اللهِ لأَِفْعَالِ العِبَادِ ؛ فَيُنْكِرُ قُدْرَةَ اللهِ على أفعالِ العبادِ، وَيُبَالِغُ في هذهِ المسائلِ الثلاثِ.

والَّذي يَهُمُّنَا تَأْوِيلُهُم لآياتِ الرُّؤيَةِ ، وَكَثِيرًا ما يُورَدُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}[الأنعام: 103] ، وَيُقَالُ: (الإدراكُ: اللِّحَاقُ، لا تَلْحَقُهُ؛ أيْ: لا تَرَاهُ، فهيَ دليلٌ على أنَّها لا تَرَاهُ، والأبصارُ معلومٌ أنَّها هيَ الأَعْيُنُ، فإذا كانتْ لا تُدْرِكُهُ؛ أيْ: لا تَلْحَقُهُ ؛ فَكَيْفَ يُقَالُ: إنَّهُ يُرَى؟) ، وَيُكَرِّرُونَ ذلكَ دَائِمًا.
وإذا نَظَرْنَا إلى تفسيرِ أهلِ السُّنَّةِ رَأَيْنَاهُم يُفَرِّقُونَ بينَ الإدراكِ وبينَ الرُّؤيَةِ ؛ وذلكَ لأنَّ الإدراكَ: هوَ الإحاطةُ بالشَّيءِ منْ كلِّ جِهَاتِهِ.


وأمَّا الرُّؤيَةُ: فإنَّها رُؤْيَتُهُ معَ المقابلةِ حقيقةً ، واللهُ تَعَالَى ما نَفَى الرُّؤيَةَ إنَّما نَفَى الإدراكَ، والإدراكُ شيءٌ زائدٌ على الرُّؤيَةِ.

رُوِيَ أنَّ ابنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عنْ هذهِ الآيَةِ ، فَقَالَ للسَّائلِ : (أَلَسْتَ تَرَى الْقَمَرَ؟) قالَ: بَلَى، قالَ: (أَكُلَّهُ؟) قالَ: لا، قالَ: (فَذَلِكَ الإدراكُ)، أيْ: لا تَرَى القمرَ كُلَّهُ، إنَّما تَرَى ما يُقَابِلُكَ، وأيضًا إنَّمَا تَرَاهُ منْ بعيدٍ، ولا تَتَحَقَّقُ مَاهِيَّتَهُ، فإذا كانَ كذلكَ؛ هلْ أنتَ تَدْرِي مِمَّ هذا القمرُ؟ ومِنْ أيِّ شيءٍ صَنْعَتُهُ؟ ومنْ أيِّ شيءٍ تَرْكِيبُهُ؟ وهلْ هوَ تُرَابِيٌّ؟ فإذا كُنْتَ لا تَرَاهُ فَإِنَّكَ لا تُدْرِكُ ذلكَ، فَنَحْنُ نَرَى القمرَ وَيَصِلُ إلينا ضَوْءُهُ، ولكنْ لا نُدْرِكُهُ كلَّهُ، فَفَرْقٌ بينَ الرُّؤيَةِ وبينَ الإدراكِ.
يَدُلُّ على ذلكَ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لاَ تَخَافُ دَرَكًا وَلاَ تَخْشَى} [طه: 77] ، لا تَخَافُ دَرَكًا، فالدَّرَكُ هوَ الإحاطةُ؛ أيْ: لا تَخَافُ ضَرَرًا من الكُفَّارِ وَنَحْوِهِم.
ولمَّا أَسْرَى بِبَنِي إسرائيلَ، وَخَرَجَ بهم منْ مِصْرَ، وَانْفَصَلُوا، تَبِعَهُم فرعونُ بِجُنُودِهِ، قالَ تَعَالَى: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشُّعراء: 60]، {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} [الشُّعراء: 61]، هؤلاءِ يَرَوْنَ هؤلاءِ، {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلاَّ} [الشُّعراء: 61 - 62]، ما المرادَ بُمَدْرَكُونَ، هل المرادُ بالإدراكِ النَّظَرُ؟ فالنَّظرُ حاصلٌ لقولِهِ: {تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} [الشُّعراء: 61]، إذًا المرادُ بالإدراكِ الإحاطةُ، يَعْنِي: إنَّهُم سَيُحِيطُونَ بِنَا وَيُمْسِكُونَنَا ولا يَتْرُكُونَنَا، ولا نَنْجُو منهم، فقالَ: {كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشُّعراء: 62].
فَعُرِفَ أنَّ هناكَ فَرْقًا بينَ الرُّؤيَةِ وبينَ الإدراكِ ، فَبَطَلَ اسْتِدْلاَلُهُم بهذهِ الآيَةِ على نَفْيِ الرُّؤيَةِ، واسْتَدَلَّ بها أهلُ السُّنَّةِ على إثباتِ الرُّؤيَةِ.
يَقُولُ ابنُ القَيِّمِ: (إنَّهَا جَاءَتْ تَمَدُّحًا، فاللهُ تَعَالَى يَمْدَحُ بها نَفْسَهُ) ، ومعلومٌ أنَّ اللهَ إِنَّما يَمْدَحُ نَفْسَهُ بالأمورِ الثُّبُوتِيَّةِ ، وهيَ الأمورُ الَّتي فيها إِثْبَاتُ شيءٍ يُمْدَحُ بهِ ، وأمَّا العَدَمُ فإنَّهُ لا يُمْدَحُ بهِ، فالنَّفيُ المَحْضُ لا مَدْحَ فيهِ.
فإذا قُلْنَا مثلاً: إنَّ العَدَمَ لا يُرَى ، هلْ هَذَا مَدْحٌ لهُ؟ ليسَ فيهِ مدحٌ ؛ لأنَّ المعدومَ ليسَ بشيءٍ.


فإذا كانَ المعدومُ لا يُرَى ، فإنَّ نَفْيَ الرُّؤيَةِ ليسَ فيهِ مدحٌ ، فَعُرِفَ بذلكَ أنَّ الآيَةَ وَرَدَتْ للتَّمَدُّحِ ، أَثْبَتَ اللهُ أنَّ الأبصارَ لا تُحِيطُ بهِ ، يَعْنِي: مَتَى رَأَتْهُ الأبصارُ لم تُحِطْ بهِ ، إذا حَصَلَت الرُّؤيَةُ يومَ القيامةِ فإنَّ الأبصارَ لا تُحِيطُ بهِ، أيْ لا تُدْرِكُ مَاهِيَّتَهُ ، ولا تُدْرِكُ كُنْهَهُ، ولا تُدْرِكُ كَيْفِيَّةَ ذَاتِهِ ؛ وذلكَ لِعَظَمَتِهِ الَّتي لا يُحِيطُ بها عِلْمًا أَحَدٌ من الخلقِ، {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110].
إذًا فَصَارَت الآيَةُ دَلِيلاً على إثباتِ الرُّؤيَةِ لا على نَفْيِهَا ، لكنَّهم قَوْمٌ يَجْهَلُونَ.


فلوْ تَأَمَّلوا في سياقِ الآيَةِ قولَ اللهِ تَعَالَى: {ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الأنعام: 102 - 103]، كلُّ هذا تَمَدُّحٌ، فكيفَ يُتَمَدَّحُ بِشَيْءٍ لا فائدةَ فيهِ؟ فَنَفْيُ الرُّؤيَةِ ليسَ بِمَدْحٍ؛ لأنَّهُ يَنْطَبِقُ على المعدومِ، فَدَلَّ على أنَّها لِلتَّمَدُّحِ، وأنَّها تَدُلُّ على أنَّ الأبصارَ تَنْظُرُ إليهِ، ولكنْ تَعْجِزُ عن الإحاطةِ بهِ لِعَظَمَتِهِ وَلِكِبْرِيَائِهِ وَلِجَلاَلِهِ، فَصَارَت الآيَةُ تَدُلُّ على إثباتِ الرُّؤيَةِ لا عَلَى نَفْيِهَا.
وأمَّا الآيَةُ الثَّانيَةُ: وهيَ قِصَّةُ مُوسَى عليهِ السَّلامُ، قالَ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143] .


أَوَّلاً: مُوسَى عليهِ السَّلامُ نَبِيُّ اللهِ، كَلَّمَهُ اللهُ، وَحَمَّلَهُ رِسَالَتَهُ وَاصْطَفَاهُ.

قالَ تَعَالَى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه: 41]، وقالَ تَعَالَى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي}[الأعراف: 144]، فهَلْ مُوسَى عليهِ السَّلامُ وهُوَ نَبِيُّ اللهِ يَجْهَلُ ما يَجِبُ على اللهِ وما يَجُوزُ على اللهِ؟ هلْ يَكُونُ المعتزلةُ أَعْلَمَ منْ موسَى بِرَبِّهِ؟ حَاشَا وَكَلاَّ، لا يُمْكِنُ لِمُوسَى أنْ يَجْهَلَ، وهمْ يَعْلَمُونَ أنَّ مُوسَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذي هوَ مِنْ أُولِي العزمِ، ومِنْ أشرفِ الأنبياءِ، ومنْ أَفْضَلِهِم، لا يَجْهَلُ هذا الحُكْمَ، فهلْ يَأْتِي المعتزلةُ وَنَحْوُهُم وَيَعْلَمُونَ ما لا يَعْلَمُهُ مُوسَى؟ هذا منْ أَمْحَلِ المُحَالِ.
ثانيًا: قولُ مُوسَى: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] ، هذا في الدُّنيا، يَعْنِي: أَرَادَ أنْ يَتَمَكَّنَ من النَّظرِ إلى ربِّهِ رَجَاءَ أنْ يَزِيدَ بذلكَ يَقِينُهُ، أوْ أنْ يَتَنَعَّمَ وَيَتَلَذَّذَ بِهَذَا النَّظرِ، قالَ اللهُ لهُ: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، وليسَ في هذا عِتَابٌ.


فاللهُ تَعَالَى قدْ عَاتَبَ نُوحًا عليهِ السَّلامُ لَمَّا قالَ: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: 45]، قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}[هود: 46]، أَنْكَرَ على نوحٍ لَمَّا سَأَلَ: (رَبِّ نَجِّ ابْنِي الَّذي غَرِقَ في البحرِ، غَرِقَ في الطُّوفانِ، رَبِّ إنَّكَ قدْ وَعَدْتَنِي أنْ تُنْجِيَنِي وَأَهْلِي، وإنَّ ابْنِي منْ أَهْلِي)، واللهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ} [المؤمنون: 27] .
فَأَنْكَرَ عليهِ ذلكَ، ولمْ يُنْكِرْ على موسى لَمَّا قالَ: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143]، بلْ قالَ تَعَالَى: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143] ؛ يَعْنِي: لا تَرَانِي في هذهِ الدُّنيا؛ لأَِنَّ بِنْيَةَ الإنسانِ في الدُّنيا ضَعِيفَةٌ لا تَتَمَكَّنُ من التَّمَثُّلِ أمامَ عَظَمَةِ اللهِ تَعَالَى، فَخِلْقَتُنَا في هذهِ الدُّنيا لا يُمْكِنُ أنْ تَثْبُتَ لجلالِ اللهِ تَعَالَى.
وقولُهُ تَعَالَى: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، عَلَّقَ اللهُ تَعَالَى على ثُبُوتِ رُؤيَتِهِ الجبلَ، فَيُمْكِنُ أنْ يَثْبُتَ الجبلُ مَكَانَهُ، واللهُ تَعَالَى يَقُولُ: إذا ثَبَتَ الجَبَلُ فإنَّكَ سَتَرَانِي، فإذا كانَ الثُّبوتُ مُمْكِنًا فالرُّؤيَةُ مُمْكِنَةٌ، واللهُ تَعَالَى يَقْدِرُ أنْ يُثَبِّتَ الجبلَ لِبُرُوزِهِ سُبْحَانَهُ وَلِتَجَلِّيهِ، وقدْ عَلَّقَ عليهِ رؤيَةَ موسَى ، فَدَلَّ على إِمْكَانِهَا، كَمَا أنَّ إمكانَ الثبوتِ مُتَحَقِّقٌ.
فقولُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143] ، تَجَلَّى اللهُ تَعَالَى كَمَا يَشَاءُ للجبلِ، فإذا تَجَلَّى للجبلِ أَفَلَيْسَ يُمْكِنُ أنْ يَتَجَلَّى لِعِبَادِهِ يومَ القيامةِ؟
الجبلُ جَمَادٌ تَجَلَّى اللهُ لهُ، ومعَ ذلكَ فإنَّ الجبلَ لَمَّا تَجَلَّى لهُ آنَذَاكَ ذَهَبَ حتَّى قِيلَ: إنَّهُ انْخَسَفَ في الأرضِ؛ وذلكَ لِهَيْبَةِ اللهِ ولجلالِهِ، لَمَّا أنَّهُ تَجَلَّى للجبلِ جَعَلَهُ دَكًّا.
فالآيَةُ دليلٌ على إثباتِ الرُّؤيَةِ لا على نَفْيِهَا، وإلاَّ لمْ يَكُنْ مُوسَى عليهِ السَّلامُ سَأَلَ الرُّؤيَةَ، وهُوَ مِنْ أَعْلَمِ الخلقِ بِرَبِّهم.
ثمَّ إنَّ الخَلِيلِيَّ؛ الَّذي ذَكَرْنَاهُ، في كتابِهِ (الحقُّ الدامغُ) تَسَلَّطَ على هذهِ الآياتِ الَّتي اسْتَدَلَّ بها أهلُ السُّنَّةِ وَحَرَّفَهَا تَحْرِيفًا بَعِيدًا، حتَّى إنَّهُ هوَ وغيرُهُ في قولِهِ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23] ، قالُوا: إنَّ اللهَ لم يَذْكُر العيونَ إنَّما ذَكَرَ الوجوهَ، وقالَ بعضُهُم: النَّظرُ ليسَ هوَ المُعَايَنَةَ، وإنَّما هوَ انْتِظَارُ الثوابِ؛ نَاظِرَةٌ للثَّوابِ.
وَتَمَحَّلَ بعضُهُم وحَرَّفَ كلمةَ (إِلَى) وقالَ: الإِلَى واحدُ الآلاءِ، يَعْنِي النِّعَمَ. (إِلَى)؛ أيْ: نِعْمَةَ رَبِّها ناظرةٌ!
فَمِنْ أينَ لهم هذا الاستنباطُ الَّذي ما تَفَطَّنَ لهُ أحدٌ من العلماءِ ولا من السَّلفِ؟!
إنَّ قَوْلَهُمْ: (إلى)؛ أيْ: نِعْمَةَ رَبِّها ناظرةٌ، تَمَحُّلٌ وَتَكَلُّفٌ وصَرْفٌ للقرآنِ عنْ مَدْلُولِهِ، هذا قولُ المُعْتَزِلَةِ.
أمَّا الأشاعرةُ ؛ فَيَتَظَاهَرُونَ بأنَّهم منْ أهلِ السُّنَّةِ، وبأنَّهم منْ أَتْبَاعِ الأئمَّةِ الأربعةِ؛ فمنهم شافعيَّةٌ، ومالكيَّةٌ، وحنفيَّةٌ، وحنابلةٌ.


ولا يَقْدِرُونَ أنْ يُصَرِّحُوا بالإنكارِ؛ لأنَّ الشافعيَّةَ قد اشْتُهِرَ عنْ إمامِهِم أنَّهُ أَثْبَتَ الرُّؤيَةَ وَصَرَّحَ بها، فلا يَقْدِرُونَ على إِنْكَارِهَا، فَيُثْبِتُونَ الرُّؤيَةَ، ولكنْ ليسَ الرُّؤيَةَ الَّتي هيَ رؤيَةُ الأبصارِ، إنَّما يُفَسِّرُونَهَا بالتَّجَلِّيَاتِ الَّتي تَتَجَلَّى للقلوبِ، وبالمُكَاشَفَاتِ الَّتي تَنْكَشِفُ في الجنَّةِ لهم، فَيَظْهَرُ لهم منها يَقِينٌ وَعِلْمٌ بما كانوا جاهِلِينَ بهِ.
وهذا بِلاَ شكٍّ قولٌ باطلٌ وإنكارٌ للحقائقِ، فَتَجِدُهُم يُثْبِتُونَ الرُّؤيَةَ وَيُقَرِّرُونَهَا في تَفَاسِيرِهِم على هذا التأويلِ الباطلِ.
حتَّى أَكَابِرُ الأشاعرةِ؛ كالرَّازيِّ وأبي السُّعودِ والبيضاويِّ ونحوِهِم، عندَمَا تَكَلَّمُوا على هذهِ الآيَةِ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23]، قالُوا: يُرَى لا في جِهَةٍ؛ لأنَّنَا نَنْفِي الجهةَ. يُرَى بلا مقابلةٍ، أو الرُّؤيَةُ بالتَّجَلِّيَاتِ أو المُكَاشَفَاتِ.
فَأَثْبَتُوا الاسمَ، ولكنْ لمْ يُثْبِتُوا الحقيقةَ الَّتي هيَ رُؤْيَةُ أهلِ الجنَّةِ لربِّهم كما ثَبَتَ في الأحاديثِ، كقولِهِ: ((إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لاَ تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ))، فإنَّ ظاهرَ الأحاديثِ أنَّها رؤيَةٌ بالأَبْصَارِ، ونَظَرٌ إلى وجهِ ربِّهم تَعَالَى كما يَشَاءُ، فلا يُلْتَفَتُ إلى إنكارِ المُنْكِرِينَ معَ وُرُودِ مثلِ هذهِ الأدلَّةِ الَّتي لا يَجُوزُ رَدُّهَا، ولا التَّكَلُّفُ في تَأْوِيلِهَا.


  #4  
قديم 29 ذو القعدة 1429هـ/27-11-2008م, 09:45 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post شرح الشيخ :صالح آل الشيخ

القارئ:

(فَصْلٌوَالمُؤْمِنُونَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ فِي الآخِرَةِ بِأَبْصَارِهِمْ وَيَزُورُونَهُ وَيُكَلِّمُهُمْ وَيُكَلِّمُونَهُ،
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22-23].
وَقَالَ تَعَالَى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] فلمَّا حَجَبَ أولئكَ في حالِ السَّخطِ، دَلَّ عَلَى أنَّ المُؤمنينَ يَرَوْنَهُ حَالَ الرِّضَى ، وَإِلاَّ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ.
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إنَّكم تَرَوْنَ رَبَّكُم كَمَا تَرَوْنَ هَذَا القَمَرَ لا تُضَامُّون في رُؤْيَتِه)) ، حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَهَذَا تَشْبِيهٌ لِلرُّؤْيَةِ بالرؤية لاَ لِلْمَرْئِي بِالمَرْئِي ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لاَ شَبِيهَ لَهُ وَلاَ نَظِيرَ.
الشيخ:

أيضاً من عقائدِ أهلِ السّنَّةِ والجماعةِ الَّتي تميَّزوا بها عن طوائفِ المبتدعةِ؛ أنَّهُم يعتقدونَ أنَّ اللهَ -جلَّ وعلا- يُرى يومَ القيامةِ ، وأنَّهُ لا يمكنُ لأحدٍ أن يراه في الدُّنيا ؛ كما قالَ -جلَّ وعلا- لموسى حين سألَهُ الرُّؤية: {قال لن تراني ولكنِ انظرْ إلى الجبلِ فإنِ استقرَّ مكانَهُ فسوف تراني} فالرُّؤية في الدُّنيا ممتنعةٌ.
وأمَّا في الآخرةِ فهي ممكنَةٌ بل ستقعُ ؛ كما أخبرَ اللهُ -جلّ وعلا- بقوله: {وجوهٌ يومئذٍ ناضرةٌ (22) إلى ربِّهَا ناظرةٌ}.
ويرى المؤمنون ربَّهُم -جلّ وعلا- في عرصاتِ القيامةِ ، وكذلك في الجنَّةِ ، فيتمتَّعُون بذلك النَّظرِ إلى وجهِ اللهِ الكريمِ ، فلم يُعطَوا نعيماً أعظمَ من رؤيةِ الرَّبِّ جلّ وعلا ، فهو أعظمُ النَّعيمِ وأجزلُ النَّعيمِ ، ولهذا سمَّاه اللهُ -جلَّ وعلا- (زيادةً) في قولِهِ {للَّذين أحسنوا الحسنى وزيادةٌ}.


وقد ثبَتَ عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- أنَّهُ قال: ((الزِّيادةُ هي النَّظرُ إلى وجهِ اللهِ تعالى)) رواه مسلمٌ وغيرُهُ.
خالف في ذلك المبتدعَةُ ، فقالَ طائفةٌ منهم: (إنَّ الرُّؤيةَ غيرُ ممكنةٍ أصلاً، والنَّظرُ غيرُ واقعٍ أصلاً، لا في الدُّنيا ولا في الآخرةِ) وهذا كلامُ الجَهْميَّةِ ، والمعتزلةِ ، ومن شابَهَهُم.


ويؤوِّلون قولَهُ تعالى وهو: {وجوهٌ يومئذٍ ناضرةٌ (22) إلى ربِّهَا ناظرةٌ} بأنَّ (ناظرةً) هنا بمعنى: منتظرةٍ، ويقولون هي كقولِهِ تعالى {هل ينظُرُونَ إلا} يعني: ينتظرون، فالنَّظرُ في هذه الآيةِ يقولون: بمعنى الانتظارِ {وجوهٌ يومئذٍ ناضرةٌ (22) إلى ربِّهَا ناظرةٌ} يعني: منتظرةٌ لرحمةِ اللهِ، ومنتظرةٌ لأمرِ اللهِ جلَّ وعلا.
والجوابُ عن احتِجاجِ المُعتزلةِ بهذا والخوارجِ

-ويحتجُّ بهذا أيضاً طوائفُ الخوارجِ الموجودةِ اليوم من الإباضيةِ وغيرهم، وكذلكَ أهل الاعتزالَ- والجواب عن هذا الاحتجاجِ: أنَّه لغةً غيرُ مستقيمٍ، فضلاً عن أنَّهُ ثبتَ النَّظرُ ورؤيةُ المؤمنين لربِّهِم -جلّ وعلا- في غيرِ ما دليلٍ ، لكنَّه من حيثُ اللغةِ غلطٌ ، وذلك لأنَّ اللهَ -جلَّ وعلا- قالَ: {إلى ربِّهَا ناظرةٌ} ولفظُ النَّظرِ: صحيحٌ أنَّهُ يأتي بمعنـى الانتظارِ، ولكنَّهُ إذا أتى بمعنى الانتظارِ فإنَّهُ لا يُعَدَّى بإلى؛ لأنَّهُ يكونُ لازماً؛ كما قالَ جلَّ وعلا: {هل ينظـــرون إلاّ} فلمَّا قالَ: {هل ينظرون إلا} ولم يُعَدِّهَا بحرفِ (إلى) علمنا أنَّ النَّظرَ هنا بمعنى الانتظارِ {فهلْ يَنْتَظِرونَ إلا مثل} يعني: ينتظرونَ بمعنى ينظرونَ، ينظرون من الانتظارِ.
أمَّا إذا عُدِّيَ النَّظرُ بإلى: فهو نظرُ العينِ لا غيرُ، ولا تحتملُ اللغةُ غيرَ هذا؛ كما قال -جلَّ وعلا-: {وجوهٌ يومئذٍ ناضرةٌ (22) إلى ربِّهَا ناظرةٌ}.


الدَّليلُ الثَّاني: أنَّه -جلّ وعلا- قالَ: {وجوهٌ يومئذٍ ناضرةٌ (22) إلى ربِّها ناظِرةٌ} فمن هي الناظرةُ إلى ربِّها؟ هي الوجوهُ ، فهذا دليلٌ على أنَّ النَّظرَ هو نظرُ العينِ ؛ لأنّهُ -جلَّ وعلا- جعلَ النَّاظرَ إلى اللهِ -جلَّ وعلا- هي الوجوهُ ، يعني: لأنَّهَا محلُّ الإبصارِ ، وهذا ينفي معنى الانتظارِ.


وخالفَ أيضاً في مسألةِ رؤيةِ اللهِ جلّ وعلا: الأشاعرةُ والماتريديَّةُ ومن نحى نحوَهُم ، فأثبتوا رؤيةَ المؤمنين لربِّهِم -جلّ وعلا- يومَ القيامةِ وردُّوا على المعتزلةِ في أنَّهم يَنفونَ الرُّؤيةَ.


فالأشاعرةُ والماتريديَّةُ يثبتون الرُّؤيةَ ، منْ أنَّ الله -جلَّ وعلا- يُرى يومَ القيامةِ ، لكنَّهُم يقولون: (نظرٌ لا إلى جهةٍ) ولهذا قد تجدُ من الأشاعرة من يثبتُ الرُّؤيةَ ، بل هم يثبتونَها ، لكن تَنْتَبه إلى أنَّهُم يختلفون في إثباتِهَا عن أهلِ السّنَّةِ والجماعة.


فأهلُ السّنَّةِ والجماعةِ يجعلون الرُّؤيةَ بالعينين إلى جهةِ العلوِّ حيثُ اللهُ جلّ وعلا، أمَّا أولئك فيجعلونها رؤيةً بقُوىً يحدِثُهَا اللهُ -جلَّ وعلا- في الأجسامِ يومَ القيامةِ لا إلى جهةٍ ، وهذا غيرُ متصوّرٍ.


ولهذا أهلُ الاعتزالِ ردُّوا على الأشاعرةِ وقالوا: (أنتم خالفتُمُ المعقولَ) في كلامٍ ومناقشاتٍ ، ليست هذه الدُّروسُ المختصرةُ بمحلِّها.
وكانَ المعتزلةُ في تأصيلِ المسألةِ أحذقَ من الأشاعرةِ - تأصيلُ المسألةِ عقلياً - لكنَّ الأشاعرة ضَعُفوا فأثبتوا ما دلَّ عليه الدَّليلُ؛ لكنَّهمْ خالفوا المعقولَ ، وخالفوا كلَّ ما اشتملَ عليه الدَّليلُ ، أمَّا أهلُ الاعتزالِ: فنظروا بالنَّظرِ العقليِّ فنفوا ، وكان الصَّوابُ أن يُثبتَ الجميعُ، فتثبتُ الرّؤيةُ ، والرُّؤيةُ إلى جهةٍ، بحاسةِ الإبصارِ.
يقول أولئك: إنَّ اللهَ -جلّ وعلا- يقولُ لموسى: {إنَّكَ لن تراني} قال جلَّ وعلا: {ربِّ أرني أنظرْ إليك قالَ لنْ تراني ولكنِ انظرْ إلى الجبلِ} يقولُ أولئكَ إنَّ (لن) هنا تنفي نفياً مؤبَّداً، وهذا النَّفيُ المؤبَّدُ الَّذي دلَّتْ عليه (لن) يشملُ الحياةَ الدُّنيا والآخرةَ، فلا تمكنُ الرُّؤية، لا في الدُّنيا ولا في الآخرةِ؛ بدليلِ قولِ اللهِ تعالى: {قَالَ لن تراني} ولم يخصِّصِ الحياةَ الدُّنيا من الآخرةِ.
والجوابُ: أنَّ هذا غلطٌ في بابِ النَّحوِ، وغلطٌ على العربيَّةِ، ولهذا قال ابنُ مالكٍ -رحمه اللهُ تعالى- في (الكافيةِ الشَّافيةِ) غيرُ (الألفيَّةِ) - متنٌ أكبرُ منَ (الألفيةِ) - يقولُ:


ومن رأى النَّفيَ بلن مؤبَّداً فقولَهُ اردُدْ وسواهُ فاعضُدا(من رأى النَّفيَ بلن مؤبّدا) وهم المعتزلةِ (فقولَهُ ارددْ) لأنَّهُ لا يُعرَفُ عن العربِ ذلك، (وسواه فاعضُدا) لأنَّ (لن) لا تدلُّ على النَّفي المؤبَّدِ.
ودليلُ ذلك من القرآنِ: أنَّ اللهَ -جلَّ وعلا- أخبرَ عن مريمَ أنها قالت: {فلن أكلِّمَ اليومَ إنسيّاً} فلو كانت (لن) تدلُّ على النَّفيِ المؤبَّدِ لم يكن التَّقييدُ بقولِهَا (اليومَ) له معنىً.


فقولُهُ جلَّ وعلا: {فلن أكلِّمَ اليومَ إنسيّاً} ظاهرٌ في الدَّليلِ من أنّ (لن) لا تقتضي التَّأبيدَ؛ كما قالَ ابنُ مالكٍ رحمَهُ اللهُ، مبيناً (لن)
ومـن رأى الـنَّفيَ بلـن مـؤبَّداً = فقولَهُ اردُدْ وسواهُ فاعضُدا
على كلِّ حالٍ هذه المباحث الَّتي نتعرَّضُ لها مختصرةً ، والحديثُ عن هذهِ المسائل ينبغي فهمهُ، لكن نذكرُ ما يناسب الوقتَ والزَّمانَ ، ولهذا من رام التَّفصيلَ فليرجعْ إلى الكتبِ الَّتي فُصِّلَتْ فيها هذه المسائلُ، فنحن نعطيكم إشاراتٍ فيها كفايةٌ لمن تأمَّلَها وفهمها جيداً.


  #5  
قديم 29 ذو القعدة 1429هـ/27-11-2008م, 09:46 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post شرح الشيخ:صالح الفوزان .حفظه الله (مفرغ)

المتن:

فصل:
والمؤمنون يرون ربهم في الآخرة.

الشرح:
انتهى من الكلام على القرآن الذي هو من كلام الله سبحانه وتعالى ,وانتقل إلى صفة من صفات الله عظيمة ,وهي الرؤية.

المتن:
والمؤمنون يرون ربهم.

الشرح:
رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة ,كما تواترت بذلك السنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ,وكما دل على ذلك القرآن الكريم، قال الله سبحانه وتعالى: { وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة } , { ناضرة } الأولى بالضاد من النضرة وهي البهجة، فوجوه المؤمنين يوم القيامة تكون نضرة مستنيرة بهجة، وأما { ناظرة } الثانية فهي بالظاء المشالة ,من النظر , وعدي بإلى , وإذا عُدي النظر بإلى فمعناه المعاينة بالأبصار ,{ إلى ربها ناظرة } أي: تنظره يوم القيامة عياناً ,وهي وجوه المؤمنين النضرة الحسنة ,تنظر إلى وجه ربها فيزيدها ذلك بهجة وجمالاً ونوراً وفرحاً وسروراً ,فالنظر إذاتعدي بإلى فمعناه المعاينة بالأبصار ,وإذا عُدي بنفسه { انظرونا نقتبس من نوركم } فمعناه الانتظار ,أي: انتظرونا ,يقول المنافقون للمؤمنين يوم القيامة: انتظرونا نقتبس من نوركم؛لأن المؤمنين يعطون نوراً يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ,والمنافقون يعطون نوراً في أول الأمر ثم يطفأ والعياذ بالله ,ويصيرون في ظلمة ,وهم مأمورون بالسير.
فيقولون للمؤمنين: { انظرونا } ,أي:انتظرونا حتى نقتبس من نوركم؛لأنهم في ظلام دامس , { قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن معكم } يعني: في الدنيا { قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور }.
كانوا في الدنيا مع المؤمنين يصلون ويصومون ويجاهدون ,لكنه ليس عن إيمان ,وإنما هو نفاق والعياذ بالله ,فيعطون نوراً يوم القيامة من باب الخديعة والمكر بهم ,كما أنهم يمكرون في الدنيا مكر الله بهم، أعطاهم نوراً ثم سلبه منهم، وذلك لشدة حسرتهم والعياذ بالله.
الشاهد: أنه إذا عُدي النظر بنفسه فهو معناه الانتظار { انظرونا نقتبس من نوركم } ,{ هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله } أي: ما ينتظر هؤلاء إلا قيام الساعة، فإذا عُدي بنفسه فمعناه الانتظار ,وإذا عدي بـ (في) { قل انظروا ماذا في السماوات والأرض } , فإذا عدي بـ (في) فمعناه التفكر والاعتبار , { قل انظروا ماذا في السماوات والأرض }.
يعني: تفكروا في مخلوقات الله سبحانه وتعالى.
فالنظر إذا عدي بـ (إلى) فمعناه المعاينة بالأبصار ,وإذا عدي بنفسه فمعناه التوقف والانتظار ,وإذا عدي بـ (في) فمعناه التفكر والاعتبار، { أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض } ,{ ينظروا في ملكوت } عدي بـ (في)، معناه يتفكر , { أولم يتفكروا في ملكوت السماوات والأرض }.

المتن:
والمؤمنون يرون ربهم في الآخرة بأبصارهم.

الشرح:
بأبصارهم؛رداً على من يقول: إنهم ينظرون إلى جنته ,وإلى نعمته ,ينظرون إلى الله يعني: إلى جنته. وهذا تحريف لكلام الله عز وجل ,بل ينظرون إلى الله بأبصارهم رؤية حقيقية , ليس بينهم وبينه حجاب؛إكراماً لهم ,حيث عبدوه في الدنيا وهم لم يروه، وإنما عبدوه إيماناً به سبحانه وتعالى ,واستدلالاً بآياته الكونية والقرآنية، عبدوه بالإيمان والتصديق ,فالله جل وعلا يوم القيامة يجازيهم على ذلك؛بأن يتجلى لهم فيرونه عياناً، الذين عبدوه في الدنيا ولم يروه ,بل اعتمدوا في ذلك على الإيمان والتصديق ,أكرمهم الله يوم القيامة بأن تجلى لهم.
وأما الذين كفروا بالله عز وجل فإن الله يحجبهم عن رؤيته يوم القيامة ,كما قال تعالى: { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } يعني: الكفار محجوبون عن رؤيته سبحانه وتعالى ؛ لأنهم كفروا به في الدنيا , ولم يصدقوا بربوبيته وإلهيته وأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى ,فحجبهم الله يوم القيامة؛عقوبة لهم، ودل ذلك على أن المؤمنين يرونه , إذا حجب الكفار عن رؤيته ,فهذا دليل على أن المؤمنين يرونه سبحانه وتعالى ,وقال تعالى: { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة } ,{ للذين أحسنوا } يعني: العمل في الدنيا , { الحسنى } وهي الجنة ,{ وزيادة } وهي النظر إلى وجه الله ,كما فسرها بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ,كما في صحيح مسلم: أن الزيادة هي النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى.
هذه أدلة القرآن على رؤية الله سبحانه وتعالى , والسنة فيها أحاديث كثيرة متواترة ,كما ذكر ذلك الإمام ابن القيم في كتابه (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح) يعني: الجنة , وذكر الرؤية وأنها متواترة، وذكر الأحاديث كلها الورادة فيها في هذا الكتاب العظيم ,فالرؤية متواترة في السنة، وهي مذهب أهل السنة والجماعة ,المؤمنون يرون ربهم في القيامة، يرونه في موضعين: في عرصات القيامة , في المحشر يرون ربهم سبحانه ,وفي الجنةإذا دخلوا الجنة يرونه رؤية تنعم وإكرام.
ذهب المعتزلة وأشباههم ومشتقاتهم إلى نفي الرؤية ,قالوا: لأن الرؤية لا تكون إلا لجسم ,والأجسام متشابهة ,فإذا أثبتنا الرؤية أثبتنا أن الله جسم ,والأجسام متشابهة، هذا مثل منهجهم في الصفات كلها، وهذا أمر باطل، أنا أقول: المؤمنون يرون ربهم ,ولا يلزم من ذلك ما تقولون وهو التشبيه؛ فإن الله جل وعلا لا يشبهه شيء، وفي الحديث: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر ,وكما ترون الشمس صحوا ليس دونها سحاب ,لا تُضامُون - أو لا تَضامُّون - في رؤيته) سبحانه وتعالى , وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: كيف نرى ربنا وهو واحد ونحن جميع ؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم ضرب لهم مثلاً من المخلوقات يرونه ولا يحصل زحام , وهو القمر ليلة البدر ,كل يراه وهو في مكانه ولا يتزاحمون , وكذلك الشمس يرونها وهم كلفي مكانه ,ولا يتزاحمون ,فإذا كان هذا في المخلوق ,مخلوق من مخلوقات الله، فإن الله جل وعلا أعظم وأجل ,يُرى ولا يحصل زحام أو تزاحم في رؤيته أو تضام (لا تُضامُون - أو تَضامُّون - في رؤيته) سبحانه وتعالى.
فهذا تشبيه للرؤية بالرؤية؛ رؤية الله جل وعلا برؤية الشمس والقمر ,وليس تشبيها للمرئي بالمرئي، فالله لا يشبه القمر ولا يشبه الشمس ,ولا يشبهه شيء من خلقه سبحانه وتعالى ,وإنما هذا تشبيه للرؤية بالرؤية ,وليس تشبيها للمرئي بالمرئي، استدل النفاة بقوله تعالى: { لا تدركه الأبصار } قالوا: هذا دليل على نفي الرؤية.
نقول: هذا كلام باطل؛ لأن الآية ليس فيها نفي الرؤية، وإنما فيها نفي الإدراك ,وليس كل ما يرى يدرك ,تراه لكن لا تدركه، يعني: لا تحيط به ,وإنما تراه مجرد رؤية ,ولا يلزم من هذا أنك رأيته كله ,وأحطت به، الشمس مثلاً ولله المثل الأعلى: أنت ترى الشمس لكن هل تحيط بها؟ ما تحيط بها ,وهي مخلوقة ,فكيف بالخالق سبحانه وتعالى؟!
فالآية ليس فيها نفي الرؤية ,وإنما فيها نفي الإدراك ,بل إن قوله: { لا تدركه الأبصار } يدل على الرؤية ,دل على أنها تراه ,لكنها لا تدركه ,يعني: لا تحيط به سبحانه وتعالى , وأنت إذا رأيت الشيء لا يلزم أنك تحيط به , فلا تلازم بين نفي الرؤية ونفي الإدراك أبداً , نفي الإدراك غير نفي الرؤية، استدلوا بقوله تعالى لموسى: { لن تراني } , { قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني } ,قالوا: فهذا دليل على نفي الرؤية.نقول لهم: هذا في الدنيا ,موسى عليه السلام سأل ربه أن يراه في الدنيا ,والله جل وعلا لا يرى في الدنيا ,لا يستطيع أحد أن يراه في الدنيا؛لضعف البشر.
والنفي إذا جاء بـ (لن) فإنه ليس نفياً مؤبداً ,وإنما هو نفي موقت ؛ بدليل قوله تعالى في اليهود: { قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولن يتمنوه أبداً } ,نفى عن اليهود أن يتمنوا الموت في الدنيا، لكن في الآخرة يتمنونه ,{ قالوا يا مالك ليقض علينا ربك } يعني: يطلبون الموت؛ليستريحوا من النار، فهم في الآخرة يتمنون الموت مع أنه قال عنهم في الدنيا: { ولا يتمنونه أبداً }.سورة البقرة: آية (94، 95)
فدل على أن النفي بـ (لن) ليس للتأبيد، والذي في الآية: { لن تراني } لم يقل: لا تراني، وإنما قال: { لن تراني } وهذا في الدنيا، فلا أحد يرى الله في الدنيا؛لضعف أجسام الناس ومداركهم عن رؤية الله، أما في الآخرة فإن الله يعطي المؤمنين قوة يستطيعون بها أن يروا ربهم سبحانه وتعالى ,وأمور الآخرة تختلف عن أمور الدنيا.
لكن هنا نقطة ,وهو أن بعض الشراح ,سامحهم الله ,يقول: رؤية الله في الدنيا مستحيلة، هذا غلط ,رؤية الله ليست مستحيلة ,بل هي ممكنة في الدنيا , ولكن البشر يعجزون عنها لضعفهم الحسي.
ولهذا سأل موسى عليه السلام ,سأل ربه ,ولو كانت رؤيته في الدنيا غير ممكنة ,أو أنها مستحيلة ,ما كان يليق بموسى أن يسأل شيئاًلا يجوز ,أو أن يسأل شيئاً مستحيلاً ,فليست مستحيلة ,ولكن غير ممكنة ؛ لضعف مدارك الناس في هذه الحياة ,وإلا هي في حد ذاتها ليست مستحيلة؛ لأن موسى سأل ربه الرؤية ,وموسى لا يسأل المستحيل ,ولا يسأل المحرم.


المتن:
والمؤمنون يرون ربهم في الآخرة بأبصارهم ويزورونه.

الشرح:
ويزورونه كما جاء في حديث أبي هريرة في أنهم يزورونه جل وعلا يوم الجمعة ,أو ما يوافق يوم الجمعة في الدنيا ,فيتجلى لهم سبحانه وتعالى في هذا اليوم، ولهذا يسمى هذا اليوم بيوم المزيد، كما في حديث أبي هريرة ,وهو في الصحيح.


المتن:
ويكلمهم ويكلمونه.

الشرح:
يسلم عليهم ,ويردون عليه السلام ,ويكلمهم ,ويكلمونه ,ولهذا جاء في الحديث: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه يوم القيامة ,ليس بينه وبينه ترجمان).


المتن:
قال الله تعالى: { وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة }.

الشرح:
{ وجوه يومئذ ناضرة } الأولى من النضرة وهي الحسن والبهاء بالضاد , { إلى ربها ناظرة } بالظاء ,تنظر إلى ربها عياناً إكراماً لها، والمعطلة يقولون: { إلى ربها } (إلى) جمع نعمة , { إلى ربها } أي: إلى نعمه؛ لأن الآلاء هي النعم، فيقولون: إلى أنها مثل آلاء، { فبأي آلاء ربكما تكذبان } أي: بأي نعمه تكذبان، وهل يتفق إلى مع آلاء؟
في أي لغة هذا؟! و (إلى) حرف جر ,وليس جمع نعمة ,أو جمع آلاء، لكن الذي حملهم على هذا هو - والعياذ بالله - التعصب للمذهب ,وهذا تحريف لكلام الله عز جل.


المتن:
وقال تعالى: { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون }.

الشرح:
فإذا كان يحجب الكفار عن رؤيته يوم القيامة ,فهذا دليل على أن المؤمنين يرونه، وإنما يُحجب عن الرؤية الكفار فقط؛إهانة لهم ,الذين كفروا به في الدنيا حُجبوا عن رؤيته يوم القيامة، والذين آمنوا به في الدنيا أُكرموا برؤيته , وقرت عيونهم برؤيته سبحانه؛جزاء لهم.


المتن:
فلما حُجِب أولئك في حال السخط.

الشرح:
هذا وجه الاستدلال.

المتن:
دل على أن المؤمنين يرونه في حال الرضى ,وإلا لم يكن بينهما فرق.

الشرح:
نعم. ولهذا يقول الشافعي رحمه الله: إذا كان حجب أعداءه عن رؤيته فهذا دليل على أن أولياءه يرونه سبحانه وتعالى ,وإلا لم يكن هناك فرق بين المؤمنين والكافرين، لو كان الله لا يرى في الآخرة ما كان هناك فرق بين المؤمنين والكافرين.


المتن:
وقال النبي صلى الله عليه وسلم (إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تُضامُّون في رؤيته).

الشرح:
أو لا تَضامُّون ,يعني: ما تجتمعون بمكان واحد ويحصل زحام، الله جل وعلا أبين من كل شيء, فالناس يرونه سبحانه من غير مزاحمة ,كل في مكانه ومنزله.

المتن:
حديث صحيح متفق عليه , وهذا تشبيه للرؤية بالرؤية.

الشرح:
رؤية الله برؤية الشمس والقمر , وليس تشبيهاً للمرئي بالمرئي , افهموا الفرق.

المتن:
لا للمرئي بالمرئي؛ فإن الله تعالى لا شبيه له ولا نظير.

الشرح:
نعم. ولهذا قال: (ترون ربكم كما ترون...) تشبيه للرؤية بالرؤية.
الأشاعرة أرادوا أن يخرجوا من مذهب المعتزلة؛لأنهم لا يستطيعون نفي الرؤية ,وهي ثابتة ,فأرادوا أن يخرجوا من مذهب المعتزلة، لكن أدركتهم الشقاوة فقالوا: الله جل وعلا يرى ,لكن لا في الجهة؛ لأنهم ينفون العلو ,ينفون علو الله سبحانه وتعالى.
ونقول: هذا كلام باطل ,بل الله جل وعلا يرى ,وهو في جهة العلو سبحانه وتعالى , يرى وهو في جهة العلو.


المتن:
فصل:
ومن صفات الله تعالى أنه الفعال لما يريد ,لا يكون شيء إلا بإرادته.
الشرح:
هذا دخول في صفة ثانية من صفات الله ,وهي القضاء والقدر ,وأن الله سبحانه وتعالى قضى وقدركل ما يقع في هذا الكون من أوله إلى آخره، لا يكون في ملكه ما لا يريد سبحانه وتعالى، كل شيء بقضائه وقدره وإرادته ومشيئته وخلقه وإيجاده سبحانه وتعالى ،وذلك أن الإيمان بالقضاء والقدر هو أحد أركان الإيمان الستة كما قال صلى الله عليه وسلم: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ,وتؤمن بالقدر خيره وشره)
قوله: (وتؤمن بالقدر خيره وشره) هذا دليل على أن الإيمان بالقضاء والقدر من أركان الإيمان الستة، ومن أصول الإيمان ,فمن جحده جحد ركناً من أركان الإيمان ,وأصلاً من أصول الإيمان.

والإيمان بالقضاء والقدر يتضمن أربع مراتب:
المرتبة الأولى: أن الله علم ما كان وما يكون في علمه الأزلي ,الذي هو موصوف به أزلاً وأبداً.
المرتبة الثانية: ثم كتب ذلك في اللوح المحفوظ ,الذي كتب فيه كل ما يكون إلى أن تقوم الساعة.
المرتبة الثالثة: أنه لا يكون في هذا الكون من إيجاد شيء أو هلاك شيء ,أو موت أو حياة أو وجود أو عدم ,إلا بمشيئته سبحانه وتعالى ,وإرادته ,فإذا أراد شيئاً كما قال الله: { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } ,فلا يكون في هذا الكون من حياة أو موت أو خير أو شر أو مرض أو صحة أو خصب أو جدب أو غير ذلك ,إلا بمشيئة الله وإرادته سبحانه وتعالى , لا يكون في ملكه ما لا يريد.
المرتبة الرابعة: أنه إذا أراد شيئا وشاءه ,خلقه وأوجده ,سبحانه ,فلا يكون في هذا الكون إلا ما خلقه الله وأوجده الله كما قال تعالى: { الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل } فهو المنفرد بالخلق والإيجاد ,وقال سبحانه وتعالى: { والله خلقكم وما تعملون } ,فأعمال العباد من جملة الأشياء التي يخلقها الله جل وعلا ,علمها وكتبها وشاءها وأرادها وخلقها وأوجدها في مواقيتها ,في مواقيتها التي شاءها سبحانه وتعالى ,فهي أفعال العباد , فعلوها بإرادتهم ومشيئتهم وقدرتهم ,وهي خلق الله جل وعلا وإيجاده سبحانه وتعالى ,هذا هو ملخص الإيمان بالقضاء والقدر ,وأنه لا بد من هذه الأربع المراتب.


  #6  
قديم 29 ذو القعدة 1429هـ/27-11-2008م, 09:47 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post تيسير لمعة الاعتقاد للشيخ :عبد الرحمن بن صالح المحمود .حفظه الله ( مفرغ )


فصـــل


والمؤمنين يرو ن الله تعالى في الأخرة بأبصارهم , ويزورونه , ويكلِّمهم ويكلّمونه

ثم انتقل الشيخ إلى قضية أخرى لها علاقة بالصفات, لكنها قضية مستقلة فقال رحمه الله تعالى : ((والمؤمنون يرون الله تعالى في الآخرة بأبصارهم , ويزورونه , ويكلَّمهم ويكلّمونه )) .
وهي قضية رؤية المؤمنين لربهم سبحانه وتعالى في الآخرة .
والمقصود بقولـه : (( بأبصارهم )) بيان أنها رؤية حقيقية, وليست رؤية قلب, أو رؤية فؤاد , ولا رؤية تعقل وتفكر , وإنما هي رؤية عيانية بصرية , فالمؤمنون يرون ربهم يوم القيامة , ويرون ربهم أيضاً في الجنة, نسأل الله العظيم الكريم من فضله .
وأهل السنة والجماعة يثبتون هذه الرؤية ويقررونها , وقد ذكروا هذه العقيدة وأدلتها في جميع كتب أهل السنة والجماعة, بحيث يمكن أن نقول : لم يؤلف أحد في العقيدة قديماً وحديثاً إلا وذكر الرؤية, وأن المؤمنين يرون ربهم حيث دل على ذلك كتاب الله, وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, والأحاديث الواردة في الرؤية متواترة .
وقد افرد لها بعض العلماء مؤلفات مستقلة :
فممن افرد لها كتاباً : الإمام الدارقطني رحمه الله تعالى, فإن لـه كتاباً اسمه (( الرؤية )) وهو مطبوع .
وأيضاً ممن أفرد لها كتاباً : الآجري, فإنه كتب كتاباً اسمه (( التصديق بالنظر إلى الله في الآخرة )) وهذا الكتاب طبع مستقلاً كما طبع ضمن كتابه الشريعة وغيرهم من العلماء .

وقبل أن نذكر الأدلة عليها نشير إلى أن الذين خافوا في باب الرؤية هم المعتزلة , وسار على منهج المعتزلة : الرافضة , والزيدية والإباضية - إحدى طوائف الخوارج - فإنهم ينكرون الرؤية .
أما بالنسبة للغلاة من الجهمية والفلاسفة وغيرهم فإنهم ينكرون مع الرؤية ما هو اكبر وأظهر مما هوة معلوم من مذاهبهم الغلية الفاسدة .
أما بقية طوائف أهل السنة المنتسبين إلى السنة فإنهم يثبتون الرؤية في الجملة, فيثبتها أهل السنة والأشاعرة , والماتريدية , ويردون على المعتزلة في ذلك, إلا أن الأشاعرة والماتريدية وإن الفوا كتباً في إثبات الرؤية وردوا بها على المعتزلة , إلا أن نفيهم لعلو الله سبحانه وتعالى أوقعهم في مأزق فيما يتعلق بإثبات الرؤية , حتى أن المعتزلة نفاة الرؤية قالوا لهؤلاء الأشاعرة : لا يمكن أن تصح الرؤية إلا بإثبات العلو , لأنها مستلزمة له أما إذا نفيتم علو الله واثبتم الرؤية, وقلتم إنها بلا مقابلة فمعنى ذلك أنكم لم تثبتوا الرؤية حقاً وإنما أثبتم رؤية علمية وهذه لا نخالفكم فيها .
وما ذهب إليه الأشاعرة والماتريدية في هذه القضية مخالف لمنهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى, فإثباتهم للرؤية وإنكارهم للعلو تناقض , فهم إما أن يثبتوا الرؤية , وأن المؤمنين يرون ربهم, ويرفعون إليه أبصارهم في الجنة, فيرونه ويكلمهم ويكلمونه , وبذلك يثبتو الرؤية والعلو جميعاً, أو يسلكوا مسلك المعتزلة الذين نفوا الأمرين جميعاً, نفوا العلو لله سبحانه وتعالى , وعلى إثره نفوا رؤية الله سبحانه وتعالى وحملوها على الرؤية العلمية أو نحوها , مع العلم أن مذهبهم أعظم بطلاناً من مذهب من أثبت الرؤية ونفى العلو ووقع في النتاقص .
أما أهل السنة والجماعة فهم الذين وفقهم الله سبحانه وتعالى لسلوك المنهج الحق بإثبات الأمرين جميعاً .
وقول الشيخ هنا : (( ويزورونه)) سبق إيراد الحديث الوارد في لفظ الزيارة, وانه حديث ضعيف .
ثم قال : (( ويكلمهم ويكلمونه )) أيضاً سبق الكلام عنه, وهو يدل على إثبات صفة الكلام والتكليم لله تعالى, وأنه تكليم بشيئته وإرادته, وهذا رد على الذين يقولون : إن صفة الكلام هي الكلام النفسي, وان الله لا يتكلم إذا شاء متى شاء .
فكون المؤمنين يرون ربهم في الجنة , ويكلمهم ويكلمونه في ذلك الوقت, يدل على أن تكليم الله لهم إنما هو خاصٌ في ذلك الوقت أي يوم القيامة, فتكليمه لهم وهم في الجنة يدل على أن صفة الكلام لله سبحانه وتعالى هي بإرادته ومشيئته وليس تكليمه لهم بالكلام الأزلي الذي هو المعنى القائم به , كما تدعيه الأشاعرة وغيرهم , وهذا واضح وقد سبق بيانه .

ثم ذكر الشيخ رحمه الله تعالى الأدلة على إثبات الرؤية من كتاب الله تعالى فقال : ((قال الله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) ناضرة من النضرة والنور والضياء, (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) أي تنظر إلى ربها سبحانه وتعالى ))
و هذه الرؤية هي الرؤية العيانية البصرية التي يثبتها أهل السنة والجماعة .
وما تأوله المتأولة بقولهم : إن قوله تعالى : (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) المقصود إلى ثواب ربها ناظرة أي منتظرة, تأويل ضعيف جداً, لأن لفظ نظر إذا عدّي بإلى كقوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) , فإنه لا يكون إلا في باب النظر البصري العياني, خاصة وأنه نسب النظر إلى الوجوه التي فيها الأبصار.
أما إذا عدي بفي فإنه يكون بمعنى التفكر كقوله تعالى : (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) (يونس: من الآية101) ،وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) (لأعراف: من الآية185) ، فالمقصود بالنظر هنا التفكر , وإذا عدي بنفسه كقوله تعالى : (انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) (الحديد: من الآية13) كان بمعنى التوقف والانتظار؛ أما إذا عدي بإلى كما في قوله تعالى : (انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) (الأنعام: من الآية99) .
كان المقصود بالنظر : البصر, أي انظروا إلى ذلك الثمر, وعلى ذلك فإن آية سورة القيامة نصٌ صريح في إثبات الرؤية وقد قال بتفسيرها بذلك جماهير السلف رحمهم الله تعالى, أما تأويلها بغير ذلك فهو تأويل باطل وبعيد .

ثم قال الشيخ : (( وقال تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) ، هذا في الكفار فلما حُجب أولئك في حال السخط دل على أن المؤمنين يرونه في حال الرضا)) .

هذا الاستدلال والاستنباط من هذه الآية قال به عدد من علماء أهل السنة ومنهم الإمام الشافعي رحمه الله تعالى فإنه احتج بهذه الآية على إثبات الرؤية , لأن الله تعالى يقول في سورة المطففين عن المشركين : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (المطففين : 15) فذكر الله سبحانه وتعالى من ضمن عذابهم أنهم يحجبون عن ربهم تبارك وتعالى , وهذا الحجاب لو كان شاملاً للكفار وللمؤمنين, لما صار بالنسبة للكفار عذاباً وسخطاً من الله سبحانه وتعالى, ولم يكن هناك فرق بين المؤمنين والكفار, فالمؤمنون أيضاً عند نفاة الرؤية محجوبون عن ربهم , فما فائدة هذا التهديد والوعيد ؟
فاستنبط علماء أهل السنة من هذه الآية أن هؤلاء الكفار لما كانوا معاقبين بالحجاب , وانهم لا يرون ربهم سبحانه وتعالى, دل على أن المؤمنين الصادقين لا يحجبون عن ربهم سبحانه وتعالى , وإنما يرونه وينظرون إليه وينعمون بذلك أعظم النعيم , وهذا دليل قوي جداً .

ثم قال ابن قدامة رحمه الله : (( وإلا يكن بينهما فرق)) وهذا صحيح واستنتاج دقيق , دل عليه سياق الآيات ومدلولها ومعناها .

ثم قال الشيخ : (( وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إنكم سترون ربكم كما تَرَوْن هذا القمر , لا تضامّونَ في رؤيته ))حديث صحيح متفق عليه .
وردت الأحاديث الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , عن عشرات من الصحابة , كلهم رووا أحاديث الرؤية , فهي أحاديث متواترة, والنبي صلى الله عليه وسلم نوَّع الأدلة على ذلك فقال عليه والصلاة والسلام (( إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر, ليس دونه سحاب)) . (1)
وسأله بعض الصحابة : يارسول الله , هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قفال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( هل تضارون في القمر ليلة البدر؟ قالوا : لا يا رسول الله . قال : فإنكم ترونه كذلك )) وفي لفظ : قال : (( هل تضارون في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صحواً ؟ قالنا : لا قال : فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم يومئذ إلا كما تضارون في رؤيتهما ))(2).
فالجميع يرون القمر ولا يضامون أي لا يجدون مشقة في رؤيته, وإن كانوا جميعاً , حيث إن الألوف المؤلف من الناس بل آلاف الملايين لو اجتمعوا لرأوا القمر جميعاً, دون مشقة؛ ومن ثم فإن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت بهذه الأحاديث أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة عياناً بأبصارهم, وقد ورد أن المؤمنين لا يجدون ألذَّ ولا أنعم ولا أطيب من رؤية الله تبارك وتعالى .
فالجنة فيها من النعيم الذي لم يخطر على بال أحد أبداً, فيه انهار من ماء , ومن خمر, ومن لبن , ومن عسل , فيها قصور وحبور, فيها طوبى :شجرة يسير الراكب فيها مسافة كذا وكذا فيها الحور العين : (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ) (الرحمن:58) فيها من ألوان النعيم ما لاعين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر, ومع هذا التنعيم العظيم الذي يتقلب فيه أهل الجنة , فإن الله تعالى يزيدهم عليها نعماًكثيرة :
منها الخلود, ورفع الخوف والحزن , ومنها الرضا , ومنها نزع الغل والحسد والبغضاء من القلوب كما قال تعالى : (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) (الحجر:47) .
ولكن أعظم تلك النعم جميعاً هي نعمة النظر إلى وجه الله الكريم نسأل الله الكريم , ألا يحرمنا من النظر إلى وجهه الكريم, فالنظر إلى الله تعالى في الجنة هو النعيم الذي لا نعيم فوقه وهو اللذة الكبرى, والمؤمن حقاً يشتاق إلى ربه لأنه يحبه , كما قال صلى الله عليه وسلم :(( من أحبَّ لقاء الله أحب الله لقاءه , ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه)) (3).
والذي يحب لقاء الله هو الذي عمرّ آخرته بالأعمال الصالحة , وعمل بما أمره الله به , واجتنب ما نهى عنه, وهو الذي آثر الباقية على هذه الدنيا الفانية؛ حيث نظر إلى قصرها وحقارتها وندها وضيق عيشها وأحزانها فتضاءلت وصغرت في عينه فآثر عليها الدار الباقية .
فإذا جاء يوم القيامة أتاها آمناً مطمئناً , لأنه أطاع الله وعصى هواه وشيطانه , فينعم الله عليه بنعم جليلة على رأسها النعمة الكبرى , وهي النظر إليه وهذه الرؤية حق لا شك فيه كما قال صلى الله عليه وسلم : (( إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر )) . فليس هناك شك في رؤية المؤمنين لربهم سبحانه وتعالى بأبصارهم في الجنة . فكيف لا يعمل الإنسان لهذا اليوم ؟ وكيف لا يعد له عدته ؟ أما يخشى العاقل أن يكون يوم القيامة من المحجوبين ؟
والرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرب لأصحابه الغيبيات عن طريق ضرب الأمثال بالأمور المشاهدات , حيث شبه رؤية الله سبحانه وتعالى برؤية القمر , ولم يشبه الله سبحانه وتعالى بالقمر, تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً بل شبه الرؤية بالرؤية
وذلك مفيد لعدة أمور :
أولها : سهولة الرؤية إذا أراد الله سبحانه وتعالى, حيث يقدر الله عباده المؤمنين بما لا يكونون قادرين عليه في الدنيا .
ثانيها : أن كثرة الناس وكثرة أهل الجنة لا تمنع من رؤية الله سبحانه وتعالى , بل الجميع يرونه ولا يضامون ولا يضارون في رؤيته .
وثالثها : أن الرؤية بصرية حقيقية . ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : (( كما ترون القمر ليلة البدر )) أو (( كما ترون القمر ليس دونه سبحاب )) أو (( كما ترون الشمس صحواً ليس دونها سحاب)) حتى يؤكد هذه الرؤية العينية البصرية .
ولا يعني هذا أن المؤمنين حين يرون ربهم يحيطون به , بل هو سبحانه وتعالى لا تحيط به الأبصار,تراه لكن لا تدركه ولا تحيط به , ولهذا قال سبحانه وتعالى :(لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَار) (الأنعام: من الآية103) والمعتزلة احتجوا بهذه الآية على أن الله لا يرى, والمعتزلة وهم أهل اللغة فاتهم أن الرؤية غير الإدراك والدليل على ذلك أن أصحاب موسى لما لحقهم فرعون, وكانوا يرونه ويراهم , قالوا لما خشوا أن يلحق بهم فرعون :(إِنَّا لَمُدْرَكُون) (الشعراء: من الآية61), وقد كانوا يتراءون, فلو كان الإدراك بمعنى الرؤية لكان ما خافوه قد وقع, لأنهم يرونهم وفرعون وراءهم يتبعهم يريد اللحاق بهم وقتلهم, فلما قال موسى عليه الصلاة والسلام : (كَلاَّ) أي لا ندرك, دل على أن الإدراك غير الرؤية, ولو كان معنى (كَلاَّ) أي لا نرى , لكان الكلام غير مطابق للواقع لأنهم كانوا يرونهم, ولهذا فإنهم مع أنهم كانوا يرونهم لم يدركوهم بإذن الله تعالى؛ لأن الله تعالى أمر موسى عليه السلام أن يضرب بعصاه البحر فانفلق ونجا موسى ومن معه وغرق فرعون وجنوده وهم ينظرون إليهم .
والفرق بين الأمرين في غاية الوضوح فإن الإنسان كثيراً ما يرى الشيء لكنه لا يدركه , وهذا مشاهد, فإننا نرى الشمس والقمر والنجوم والكراكب والجبال العظيمة والبحار والواسعة ومع ذلك لا ندركها, فقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَار) آية عظيمة دالة على الرؤية, كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى, فإنه قال في أحد مقاماته ومناظراته للخصوم : ((ما احتج النفاة بدليل إلا ودل على ضد قولهم )) فهذه الآية : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَار) احتج بها المعتزلة على نفي الرؤية وهي دليل على ضد قولهم , لأن قوله :(لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَار) نفي , والله سبحانه وتعالى لا يوصف إلا بالنفي الذي يتضمن مدحاً , فلو كان المعنى أنه لا يرى ابداً لم يكن ذلك مدحاً , لكن لما قال : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَار) دل على أن نفي الإدراك مع ثبوت الرؤية فيه أعظم المدح لله سبحانه وتعالى .
ومثلها الآية الأخرى لما قال موسى لربه: (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي) (لأعراف: من الآية143) فهذه الآية أيضاً احتج بها المعتزلة وقالوا : قوله :( لَنْ تَرَانِي) يعني أنني لا أرى لا في الدنيا ولا في الآخرة, وهذه الآية حجة عليهم من عشرة أوجه, ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية وذكرها شارح الطحاوية ابن ابي العز رحمه الله تعالى , ولكن أشير هنا إلى وجهين فقط, ومن أراد الاستزادة فليرجع إلىكلام شيخ الإسلام ابن تيمية وإلى شرح الطحاوية .(4)
الوجه الأول : أن الله تجلى للجبل كما قال تعالى :(وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً) (لأعراف: من الآية143) فإذا كان قد تجلى الله للجبل فاندك, فهو لدليل على أن الله قد يتجلى لبعض عباده فيرونه إذا شاء .
الوجه الثاني : أنه لا يليق بكليم الله سبحانه وتعالى موسى أن يطلب ما لا يمكن من الله سبحانه وتعالى, والدليل على ذلك أن الله تعالى لم يخبره بأن هذا الطلب غير ممكن, أو قال : إنني لا أرى, أو أن رؤيتي غير ممكنة , بل أخبره بأنه لا يقوى عليها في الدنيا .
فالله سبحانه وتعالى - كما حكي إجماعاً من أهل العلم- لا يرى في الدنيا, وقد ثبت في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا )) (5).
حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع وجود الخلاف المعروف في رؤيته لربه ليلة المعراج, فالرأي الراجح أنه لم ير ربه بأم عينيه, وإنما رآه فؤاد وبقلبه , أما بأم عينيه فلم يره . ولعل سبب ذلك أن الناس في هذه الدنيا لا يستطيعون أن يقووا على رؤية الله سبحانه وتعالى , لكن إذا كان في يوم القيامة وأحوالها التي تخالف كثيراً من أحوال الدنيا , فإن الله سبحانه وتعالى , يعطيهم من القوة ما يثبتون به ويقوون على رؤية الله سبحانه وتعالى , وهذا هو الصحيح الذي دلت عليه الأدلة .

وهذا تشبيهٌ للرؤيةِ بالرؤيةِ لا للمرئيِّ بالمرئيَّ فإن الله تعالى لا شبيه له ولا نظير .

ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى : ((وهذا تشبيهٌ للرؤيةِ بالرؤيةِ لا للمرئيِّ بالمرئيِّ, فإِن الله تعالى لا شبيه لـه ولا نظير )) .
وهذا استدراك وبيان من ابن قدامة حتى لا يظن ظان أن في قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر )) تشبيهاً لله بالقمر , بل النبي صلى الله عليه وسلم أراد تشبيه مطلق الرؤية , أي كما أنكم ترون القمر , فإنكم أيضاً ترون الله, ولم يقصد تشبيه المرئي بالمرئي, ففيه بيان لوقوع الرؤية وأنها حقيقة, أما القمر فإنه لا يشبه الله ؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا شبيه لـه ولا نظير لـه من كأي خلق من مخلوقاته, ويدل على ذلك حرف الكاف التي للتشبيه ثم مجيء (ما) المصدرية, الدالان على أن المقصود تشبيه الرؤية بالرؤية , وأيضاً ما ورد من سبب الحديث حيث سأل بعض الصحابة : كيف نرى ربنا ونحن جميع وهو واحد, فضرب لهم المثل برؤية القمر أو الشمس, وهذا بين واضح والحمد لله .

* * *



________________
(1) اخرجه البخاري رقم (7434) كتاب التوحيد ، ومسلم رقم (633) كتاب المساجد
(2)اخرجه البخاري رقم (7437,7439) كتاب التوحيد ، ومسلم رقم (2968) كتاب الزهد
(3) أخرجه البخاري رقم (6507) كتاب الرقاق ، ومسلم رقم (2638) كتاب الذكر والدعاء
(4) انظر شرح الطحاوية 1\213 وما بعدها ط الرسالة
(5) اخرجه مسلم


  #7  
قديم 6 محرم 1430هـ/2-01-2009م, 12:33 AM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
افتراضي شرح لمعة الاعتقاد,الشيخ الغفيص



ثبت بالأدلة الصحيحة الصريحة من الكتاب والسنة أن المؤمنين يرون ربهم سبحانه وتعالى يوم القيامة بأبصارهم، ويرونه سبحانه وهم في الجنة، وهذا هو ما يعتقده أهل السنة والجماعة، ولم يقل بنفي الرؤية إلا المعتزلة، وقد استدلوا بما ليس لهم فيه دليل. أما رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في ليلة الإسراء والمعراج فهي مسألة فيها خلاف مشهور، والصواب: أنه لم يره ببصره.


رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة

قال الموفق رحمه الله: [والمؤمنون يرون ربهم في الآخرة بأبصارهم، ويزورونه، ويكلمهم ويكلمونه] .

ذِكر المصنف لمسألة رؤية الله سبحانه وتعالى داخل في تفصيل ذكره للصفات؛ لأن من صفاته سبحانه أنه يُرى يوم القيامة.
ورؤية المؤمنين لربهم في الآخرة تكون في مقامين:
الأول: في عرصات القيامة.
والثاني: بعد دخولهم الجنة،
وهما من مسائل الإجماع المتفق عليهما بين السلف. وظاهر النصوص أن رؤيتهم له سبحانه وتعالى بعد دخولهم الجنة تكون أتم من تلك التي تقع في عرصات القيامة، فالرؤية بعد دخول الجنة هي المذكورة في قول الله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، وقد فسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الزيادة في الآية كما في صحيح مسلم وغيره، قال: (هي النظر، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم) وهذا من معاقد الإجماع الذي دل عليه الكتاب والسنة. ......

أدلة القرآن على رؤية الله تعالى في الآخرة

الدليل الأول: من أخص أدلة القرآن التي استدل بها السلف على ثبوت رؤية المؤمنين لربهم وأصرحها قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23].
الدليل الثاني: قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، وإن كان لفظ الزيادة لفظاً مجملاً إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الزيادة بالنظر إلى وجهه سبحانه وتعالى.
الدليل الثالث: قوله تعالى عن الكفار: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، ومفهوم المخالفة من الآية: أن المؤمنين لا يحجبون عن الله يوم القيامة، كما ذكر ذلك الشافعي و مالك وجملة من السلف.
الدليل الرابع: قوله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الأحزاب:44]، فإن اللقاء إذا قُرن بالتحية تضمن النظر والرؤية معاً، وقد روى أبو عبد الله ابن بطة عن ثعلب -وهو من أئمة اللغة- الإجماع على أن اللقاء إذا قُرن بالتحية فإنه يستلزم أو يتضمن الرؤية.
الدليل الخامس: قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103]فإن المنفي هنا هو الإدراك، والإدراك قدر زائد عن أصل الرؤية، ولا يلزم من الرؤية للشيء الإدراك له والإحاطة به، فإنك تقول -ولله المثل الأعلى-: رأيت السماء، ومع ذلك لم تدركها، وتقول: رأيتُ القادم من بعيد. وأنت لم تدركه: أهو زيد أم عمرو؟ أرجل أو امرأة؟ فإن من رأى قادماً من بعيد لا يرى إلا شخصه، ولا يميز من هو، أو ما يكون، فإذا قال: رأيت هذا القادم، فإن قوله صحيح، ولكن لا يمكن أن يقول: أدركته. فلما قال تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) دل على أنه يُرى ولكن لا يدرك، فإنه لو كان سبحانه وتعالى لا يرى مطلقاً، ولا يراه المؤمنون؛ لما لزم نفي الإدراك، فإن الأصل إذا كان منتفياً فإن ما فوقه يكون منتفياً من باب أولى.
فإذاً: قوله تعالى: ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) دليل على ثبوت الرؤية، ووجه ذلك: أنه لما خص القدر الزائد على أصل الرؤية في النفي، دل ذلك على أن ما دونه -أي: ما دون الإدراك وهو أصل الرؤية- يكون ثابتاً وممكناً.

ومما يوضع في الاعتبار: أن في كتاب الله جملة من الدلائل هي محل تردد في الاستدلال بها على الرؤية بين أهل السنة؛ كقوله تعالى: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35]وهذه الآية مختلف في صحة الاستدلال بها، فمن استدل بها رأى أن لفظ "مزيد" المراد به: الزيادة المفسرة بالسنة، ومن لم يذهب إلى هذا التفسير قال: يمكن أن يكون المزيد المذكور في هذه الآية ليس هو المراد بالزيادة في قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26].


أدلة السنة على رؤية الله تعالى في الآخرة
وأما السنة فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث متواترة في رؤية المؤمنين لربهم، رواها ثلاثون صحابياً تقريباً وعلى رأسهم العشرة المبشرون بالجنة وغيرهم، وثمة جملة من الأحاديث متفق عليها بين البخاري و مسلم ، وجملة من أفرادهما، وجملة في السنن والمسانيد، فأحاديث الرؤية تلقتها الأمة بالقبول -كما ذكر ذلك الإمام أحمد وغيره- ومن أصرحها: حديث أبي هريرة و أبي سعيد في سياق طويل في الصحيحين أن أناساً قالوا: (يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: هل تضامون في رؤية القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا، قال: هل تضامون في رؤية الشمس صحواً ليس دونها سحاب؟ قال: فإنكم سترون ربكم كذلك لا تضامون في رؤيته).
إلى غير ذلك من النصوص الصحيحة الصريحة في كلام الله ورسوله على أن المؤمنين يرون ربهم وهو إجماع متحقق عند السلف.


رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه

هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ببصره ليلة المعرج أم لم يره؟ هذه المسألة فيها نزاع مشهور بين متأخري أهل السنة، وهم فيها على قولين:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج ببصره.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه ببصره. والذي يميل إليه أتباع الأئمة من المتأخرين: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ببصره، ولكن هذا المذهب وإن اشتهر عند المتأخرين -حتى قيل: إنه قول جمهورهم- إلا أنه غير معروف عند الصحابة رضوان الله عليهم، وغريب عند الأئمة المتقدمين.. بل حُكي الإجماع على خلافه، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه ببصره، وممن حكى الإجماع على ذلك: الإمام الدارمي رحمه الله.
قد نقله عنه الموفق في المناظرة في مسألة الصفات، وهذا هو المشهور في مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم من السلف، وسواء قيل: إن هذا إجماع منضبط صحيح، أو قيل: إنه إجماع سكوتي، فإنه لم يصح عن واحد من الصحابة أنه قال: إنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه ببصره، وإنما جواب الصحابة على أحد وجهين:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يره.
والثاني: أنه رآه بفؤاده.
فالأول جواب عائشة رضي الله عنها ومن معها،
والثاني: جواب ابن عباس رضي الله عنهما ومن أخذ بقوله.
وعند التحقيق يظهر أن جواب ابن عباس رضي الله عنهما ليس معارضاً لجواب عائشة رضي الله عنها ، بل يمكن أن يقال: إن جواب ابن عباس مؤيد لجواب عائشة رضي الله عنها؛ من جهة أن ابن عباس لما قصر الرؤية على الفؤاد دل على أن ما فوقه -وهي الرؤية البصرية- غير متحصلة. أما المتأخرون فإنهم فهموا من كلام ابن عباس الإثبات للرؤية البصرية؛ لأن أصحاب ابن عباس يروون تارة الإطلاق، وتارة التقييد بالفؤاد، فصار من المتأخرين من يقول: إن ابن عباس رضي الله عنهما وأصحابه يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ببصره، وهذا غلط عليه؛ لأنه إنما كان يقول: رآه بفؤاده، ولم يقل:رآه ببصره. وتفسير المتأخرين لمذهب ابن عباس بهذا لا يغر طالب العلم، ويوضح هذا ما يقع في كتب بعض الشراح -كشراح الصحيح وغيره- من القول بإثبات رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه، وأن هذا هو مذهب ابن عباس رضي الله عنهما وطائفة، أو يقولون: هو أحد قولي ابن عباس ، بل الصواب أن ابن عباس له قول واحد فقط، ونسبة القول الثاني إليه غلط عليه، والتحقيق: أن قول ابن عباس لرؤية النبي بفؤاده يدل على نفي الرؤية البصرية وليس على إثباتها.
ومن الحنابلة من حكى عن الإمام أحمد القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ببصره، وهذا كما قال شيخ الإسلام وغيره: غلط على الإمام أحمد ، والصواب أنه إنما كان يجيب بجواب ابن عباس و عائشة ، مما يدل على عدم التعارض بين الجوابين عنده.
وعلى كل تقدير يقال: الصواب ما عليه الجماهير من الأئمة المتقدمين؛ ولذا حُكي الإجماع عليه منهم، وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه عز وجل ببصره.
وإذا قيل: رآه بفؤاده، فهذا قول ابن عباس ومذهب جملة من الصحابة رضي الله عنهم ، بل أكثر أهل السنة -كما قال شيخ الإسلام - يقولون بقول ابن عباس ، وأن رؤية الفؤاد ليست هي الرؤية البصرية.

مسألة: هل تعتبر مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه من مسائل الأصول التي يضلل فيها المخالف؟
الجواب: ليست من مسائل الأصول، وإن كان القول بإثبات الرؤية البصرية يعد قولاً غريباً لا ينبغي أن يصار إليه، ولاسيما أن القول الذي عليه عامة السلف والجماهير من أئمة السنة هو ظاهر القرآن وصريح السنة.

أما أنه ظاهر القرآن فلقوله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1]، وقول الله تعالى: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:18]، فهاتان الآيتان تدلان دلالة ظاهرة -وإن لم تكن صريحة- على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه ببصره.
ووجه ذلك: أن الله لما ذكر مسرى نبيه صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك على جهة النعمة والامتنان عليه، وكان المقام مقام ذكر لأجل ما امتن به عليه؛ لذا فهو رأى من آيات ربه الكبرى، فقال: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ [النجم:18].. وقال: لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا [الإسراء:1]؛ فذكر حاله في مقدمه، وحاله بعد منتهاه، ومع ذلك لم يقع ذكر الامتنان إلا على رؤية الآيات.
قال شيخ الإسلام : "فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه سبحانه وتعالى لكان إظهار الامتنان عليه برؤيته له أولى من الإظهار لرؤية الآيات، فلما اقتصر ذكر القرآن على رؤية الآيات؛ دل على أنه لم يحصل له ما هو فوق هذا المقام وهو رؤيته لربه عز وجل".
وأما السنة: فقد روى مسلم عن أبي ذر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (هل رأيت ربك؟ فقال: رأيت نوراً) وفي رواية أخرى لمسلم أن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (هل رأيت ربك؟ فقال: نور أنى أراه)، وهذان الوجهان، قيل: إنهما محفوظان كلاهما، إلا أن الإمام أحمد في بعض أجوبته وكذا جملة من أئمة الحديث ينزعون إلى أن المحفوظ هو أحد هذين الوجهين، والمسألة فيها سعة.
والمقصود بقوله: (نور أنى أراه) إشارة إلى النور الذي حال دون رؤيته لربه سبحانه وتعالى ، وهذا النور -والله أعلم- هو حجابه سبحانه وتعالى ؛ فقد ثبت في الصحيح من حديث أبي موسى : أن النبي صلى الله عليه سلم قال: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الوجه الآخر: (رأيت نوراً)، أي: أنه رأى هذا الحجاب. ......

رؤية الكفار والمنافقين لربهم في عرصات القيامة


مسألة: هل المنافقون والكفار من أهل الأوثان وأهل الكتاب يرون ربهم في موقف القيامة كما يراه المؤمنون أم لا؟ الجواب:
أولاً: يقال: هذه المسألة ليست من مسائل الأصول، وأصلها هو مسألة رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة.
ثانياً: أي المسألتين أقوى مقاماً عند أهل السنة: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه جل وعلا أو رؤية الكفار؟ قيل: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه أقوى؛ لأن الصحابة فمن بعدهم لهم فيها قول معروف، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، وهذا مما دل عليه ظاهر القرآن والسنة الصحيحة، وأما رؤية الكفار لربهم فإن شيخ الإسلام قال: "إن الصحابة لم يحفظ عنهم قول معروف فيها، وإنما تكلم فيها الناس بعد الصحابة".
وعلى كل حال فلأهل السنة فيها أقوال:
الأول: أن الكفار يرون ربهم، وإن كانت ليست رؤية نعمة وامتنان.
الثاني: أن المنافقين يرون ربهم دون بقية الكفار.
الثالث: أنه يراه المنافقون وغُبرات من أهل الكتاب، كما جاء في بعض الروايات في الصحيح.
الرابع: أن الكفار جميعاً لا يرون ربهم، وهذا هو ظاهر مذهب الأئمة، وهو الذي عليه الجمهور من أصحاب أحمد ، وهو ظاهر القرآن في قول الله تعالى: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، والذي يميل إليه شيخ الإسلام ابن تيمية -وإن كانت هذه المسألة من المسائل التي خالف فيها ابن القيم ابن تيمية رحمه الله - وخالفه ابن القيم فذهب إلى أن الكفار يرون ربهم، ويجعل هذا عاماً في سائر الكفار، ويستدل على ذلك بقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6]، واستدل ابن القيم على ذلك بقوله: إن اللقاء عند العرب -كما ذكره ثعلب - يفيد الرؤية. وهذا الاستدلال مما فات ابن القيم ، فإن ثعلباً لما أورد هذا الكلام أراد به اللقاء المذكور في قول الله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُسَلامٌ [الأحزاب:44]، واللقاء المذكور في هذه الآية ليس هو المذكور في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6]، فإن اللقاء في الآية الأولى قُرن بذكر التحية والسلام، وأما اللقاء هنا فهو مطلق، والذي حكى ثعلب الإجماع عليه من هو المقرون بالتحية والسلام، وثعلب عندما ذكر كلام أهل اللغة عند قوله تعالى: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ)، قال: إن العرب إذا ذكرت اللقاء مع التحية فإنه يفيد البصر والرؤية، وأما اللقاء المطلق فإنه لا يفيد ذلك، وهذا أمر معروف بالعقل والحس أن اللقاء المطلق لا يستلزم أو يتضمن النظر أو الإبصار، فما استدل به ابن القيم ورآه دليلاً قوياً فيه نظر؛ ولذا قال الجمهور من محققي أهل السنة كأمثال شيخ الإسلام -وهو ظاهر مذهب الشافعي و أحمد -: إن الكفار لا يرون ربهم.
وهذا هو الصواب والأظهر في هذه المسألة، وإن كانت بعض روايات الحديث في السنة النبوية قد تشعر بأن الكفار يرون ربهم، ولكنها ورادة في مسألة أخرى.
وأما رؤيته سبحانه وتعالى لغير النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج -على الخلاف السابق- فهذا مما أجمع عليه عامة المسلمين بأنها لن تقع لأحد في الدنيا، ولم يدع شيء من ذلك إلا أهل الخرافة الذين يدعون أنه يُرى قبل الموت، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واعلموا أن أحدكم لن يرى ربه حتى يموت). ......


أدلة المعتزلة على نفي الرؤية
......
استدلالهم بقصة موسى والرد عليهم


موسى عليه الصلاة والسلام لما سأل ربه عز وجل الرؤية قال له: لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143]، وهذا ليس نفياً مطلقاً للرؤية إنما هو نفي للحال، فإن موسى كان يسأل ربه أن يراه في الدنيا لا أن يراه في الآخرة أو الجنة.
والنفي إنما وقع على طلب الدنيا، لذا كان قوله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143] لا يصح دليلاً للمعتزلة والجهمية ومن وافقهم على نفي الرؤية، فهم يقولون: إن (لن) تفيد التأبيد، وهذا ليس صحيحاً، فإن (لن) لا تستلزم التأبيد وإن كانت قد تقتضيه، بمعنى: أن إفادتها لذلك إنما هو بحسب السياق، وفي شعر العرب وأقوالهم سياق فيه ذكر (لن) من النفي الذي يتضمن التأبيد وفي كلامهم سياق آخر فيه ذكر (لن) بالنفي الذي لا يتضمن التأبيد.
والقول الصواب إذا قيل لك: هل (لن) تقتضي تأبيد النفي؟ الجواب: قد تستلزم التأبيد وتقتضيه وقد لا تستلزمه وإن كانت تقتضيه؛ لأن البعض إذا أراد الرد على المعتزلة قال: إن (لن) لا تفيد التأبيد مطلقاً، وهذا غير صحيح. ومما يدل على أنها لا تستلزم التأبيد في سائر المقامات: أنها لو كانت تستلزم التأبيد في سائر السياقات لما جاز تحديد أو تقييد الفعل بعدها بغاية، وقد جاء تحديد الفعل بعدها في كلام العرب وفي القرآن بغاية، مثل قول الله تعالى: فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي [يوسف:80]، فهذا يدل على أن (لن) في هذا السياق لا تستلزم التأبيد وإن كانت قد تقتضيه، ومثل هذا سياق قصة موسى؛ لأن السؤال من موسى عليه الصلاة والسلام إنما كان عن الحال.
ومن الجواب في هذه الآية نفت المعتزلة والإباضية وغيرهما ممن دخلت عليهم شبه أقوال الجهمية، رؤية الله تعالى، بل ويعدون إثباتها نقصاً، ويقولون: إن هذا هو المذهب الحق الذي ذكره الله في القرآن في قوله: (لَنْ تَرَانِي).

وهنا سؤال موجه إليهم:
إذا كان إثباتها نقصاً في حق الله، وأن من كماله ألا يرى، وأن من يقول: إنه يُرى مشبه منقص لله سبحانه وتعالى عن كماله.. إذا كان الأمر كما قالوا؛ فإنه يلزم أن يكون موسى عليه الصلاة والسلام أحد رجلين: -إما أنه جاهل بما هو كمال لله- وإما أنه كان متعدياً على ربه.
فإن قالوا: إنه متعدٍ. فهذا طعن في رسالته وفي ذكر الله له بالثناء.
وإن قالوا: إنه كان جاهلاً، فإن جهله هنا إسقاط لرسالته ولنبوته ولاصطفائه؛ إذ كيف يكون جاهلاً بتوحيد الله؛ لأن القول هنا في الصفات قول في التوحيد، والمعتزلة يعدون قولهم بنفي الصفات توحيداً لله، وهو الأصل الأول من أصولهم الخمسة: التوحيد. إذاً.. يمتنع أن يكون موسى جاهلاً بما هو من أصول التوحيد.. أو توحيد العلم والمعرفة، وهو ما يليق بالله وما لا يليق به، ولهذا لا ترى أن الله عاتب موسى على سؤاله، بينما نوح عليه الصلاة والسلام لما سأل ربه مسألة ليست من الأصول المطردة في أصل معرفته سبحانه، وهو نجاة ابنه، قال الله له: فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ [هود:46]، فهل قيل لموسى مثل ذلك، مع أن مسألة موسى أكبر من مسألة نوح، فدل هذا على أن سؤال موسى ممكن أصلاً وشرعاً، ولكنه أمر يتعلق بمشيئة الرب وإرادته، وبه تكون المفاضلة بين المؤمنين وغيرهم في الجنة.

استدلالهم بقوله تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) والرد عليهم :
أما قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103]، فإن المعتزلة استدلوا بهذه الآية أيضاً على نفي الرؤية، والصواب أنها دليل على إثبات الرؤية؛ لأن المنفي هو الإدراك، والإدراك ليس هو مطلق الرؤية، بل هو قدر زائد على أصل الرؤية، ولما سأل رجل ابن عباس : إن الله يقول: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) ، ويقول: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، وكأن الرجل وجد بين الآيتين شيء من التعارض، فالآية الأولى تنفي والثانية تثبت.
قال ابن عباس : (يا هذا! ألست ترى السماء؟ قال: بلى، قال: أتدركها كلها؟ قال: لا، قال: فالله أعظم).
كل أحد من بني آدم يقول: إنه يرى السماء، لكن هل أحد منهم يستطيع أن يقول: إنه يدرك السماء طولاً وعرضاً وامتداداً وماهيةً ونفوذاً... إلى آخره؟ كلا. إذاً: من طريق العقل والحس والنظر يتضح أن الإدراك ليس هو محض أو مطلق الرؤية.

قال الموفق رحمه الله: [قال الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [القيامة:22]* إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23]، وقال تعالى: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، فلما حجب أولئك في حال السخط، دَلَّ على أن المؤمنين يرونه في حال الرضا، وإلا لم يكن بينهما فرق] .
هذا الاستدلال ذكره الشافعي و مالك وجملة من السلف، على أن قوله تعالى: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]دليل على إثبات الرؤية.

قال الموفق رحمه الله: [وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته). حديث صحيح متفق عليه].
قوله: (لا تضامون في رؤيته) أي: لا يحتاج الناس في هذا الموقف وانضمام بعضهم إلى بعض إلى الزحام، وهذا بين كما في حديث أبي رزين ، لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم رؤية ربه- قال بعض الأعراب: (يا رسول الله! كيف وهو واحد ونحن كثر؟ قال:سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله، هذا القمر كلكم يراه مخلٍّ به وهو واحد) فالناس يرون الشمس والقمر ولا يزدحمون عليه، ولا يدفع بعضهم بعضاً لرؤيته، فهذه آية يسيرة من آيات الله فكيف بالله سبحانه وتعالى ؟!

طعون المعتزلة في أحاديث الرؤية والرد عليهم

قال الموفق رحمه الله: [وهذا تشبيه للرؤية بالرؤية، لا للمرئي بالمرئي، فإن الله تعالى لا شبيه له ولا نظير] .
هنا طعنت المعتزلة في هذه الأحاديث، فقالوا: إن حديث: (إنكم سترون ربكم) من أحاديث التشبيه؛ لأن فيه: (كما ترون القمر)، (كما ترون الشمس).
وهذا غلط وجهل بمقتضى الكلام، فإن التشبيه هنا ليس تشبيهاً للمرئي بالمرئي، أي: ليس تشبيهاً لله بالقمر أو بالشمس وإنما هو تشبيه لفعل الرائين.
فالحديث ليس فيه تشبيه للمرئي بالمرئي، أي: تشبيه الله بالشمس أو القمر، تعالى الله عن ذلك: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وإنما فيه تشبيه للرؤية بالرؤية، والرؤية الأولى التي لله والرؤية الثانية التي للقمر كلاهما من فعل بني آدم، وأفعال بني آدم يجوز التشبيه بينها.
فإذاً.. هذا تشبيه لفعل الرائين بعضهم ببعض، وليس تشبيهاً للمرئي بالمرئي، وهذا من جهالات المعتزلة ومن وافقهم على هذه المادة في هذا الباب، ولهذا فإن أكبر قضاة المعتزلة في زمانه وهو القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني الذي كتب المغني في أصول المعتزلة إملاءً مع سعة علمه بالنظر والعقليات والجدل -وهذا ليس خاصاً به بل هو شأن المعتزلة عامة، فهم من أجهل الناس بالسنن والآثار- وهذا المعتزلي لما أراد الرد على أدلة أهل السنة من الحديث، قال: إنهم يستدلون بحديث رواه جرير بن عبد الله البجلي ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم سترون ربكم)، قال: وهذا حديث تفرد به جرير بن عبد الله ، وتفرد به عن جرير .. ثم ساق الإسناد، وقال: هو حديث آحاد، وفيه مادة من التشبيه.
وهذا كله جهل منه ؛ لأن الحديث لم يتفرد به جرير ، بل حديث الرؤية في سائر ألفاظه رواه أكثر من ثلاثين رجلاً من الصحابة، ورواية أبي سعيد و أبي هريرة أشهر عند المحدثين من رواية جرير بن عبد الله رضي الله عنهم ، فهذه مجموعة من جهالات القاضي عبد الجبار المعتزلي .


  #8  
قديم 6 محرم 1430هـ/2-01-2009م, 12:34 AM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post العناصر

العناصر
- الإيمان برؤية المؤمنين لربهم عز وجل يوم القيامة .
- إثبات رؤية المؤمنين لربهم جل وعلا يوم القيامة .
- بيان أنها رؤية حقيقية .
- أدلة إثبات الرؤية من القرآن الكريم .
- تفسير قول الله تعالى: {وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة} .
- تفسير قول الله تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} .
- وجه الاستدلال بهذه الآية .
- كثرة الأدلة من السنة على ثبوت الرؤية .
- الرؤية من أدلة علو الله تعالى .
- رؤية الله في الدنيا غير ممكنة .
- تصحيح عدم رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا .
- شرح حديث جرير بن عبد الله البجلي: ((إنكم ترون ربكم...))
- معنى التشبيه في قول النبي صلى الله عليه وسلم:(( إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر..)) الحديث .
- مذهب المعتزلة والجهمية والخوارج في مسألة الرؤية .
- مذهب الأشاعرة والماتريدية في مسألة الرؤية .
- الرد على من أنكر رؤية المؤمنين لربهم تعالى يوم القيامة .
- الرد على الأشاعرة والماتريدية .
- الرد على المعتزلة والخوارج .

  #9  
قديم 6 محرم 1430هـ/2-01-2009م, 12:35 AM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Question الأسئلة


الأسئلة
س1: اذكر عقيدة أهل السنة في إثبات رؤية المؤمنين لربهم - عز وجل - يوم القيامة.
س2: هل رؤية الله تعالى في الدنيا ممكنة؟ دلل على ما تقول.
س3: بم يخالف الأشاعرة أهل السنة في مسألة الرؤية؟ وكيف ترد عليهم؟
س4: اذكر الأدلة من القرآن الكريم على ثبوت رؤية المؤمنين لربهم.
س5: اذكر أدلة من السنة على ثبوت الرؤية.
س6: ما وجه كون الرؤية من أدلة علو الله تعالى؟
س7: هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه؟
س8: اذكر تفسيراً مختصراً لقول الله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة (22) إلى ربها ناظرة} ، مع التطرق لتفسير المعتزلة والأشاعرة لهذه الآية وبيان الرد عليهم.
س9: كيف ترد على المعتزلة في مسألة الرؤية؟
س10: ما وجه التشبيه في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر...)) الحديث؟

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
المؤمنين, رؤية

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 10:03 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir