دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم القرآن الكريم > مكتبة التفسير وعلوم القرآن الكريم > جامع علوم القرآن > مناهل العرفان

 
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 3 ذو القعدة 1430هـ/21-10-2009م, 07:29 AM
الياسمين الياسمين غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Jul 2009
المشاركات: 30
افتراضي المبحث السابع: في المكي والمدني من القرآن الكريم

ليس من غرضنا في هذا المبحث أن نستقصي بالتفصيل والتدليل آيات القرآن الكريم وسوره. وأن نحقق ما كان منها مكيا وما كان مدنيا فتلك محاولة كبيرة جديرة أن تفرد بالتأليف وقد أفردها فعلا بالتأليف جماعة منهم مكي والعز الدريني.
ولكن حسبنا هنا أن نتكلم على الاصطلاحات في معنى المكي والمدني وعلى فائدة العلم بالمكي والمدني وعلى الطريق الموصلة إليه وعلى الضوابط التي يعرف بها وعلى السور المكية والمدنية والمختلف فيها وعلى أنواع السور المكية والمدنية وعلى أوجه تتعلق بالمكي والمدني وعلى فروق أخرى بين المكي والمدني صيغت من بعضها مطاعن في القرآن وعلى دفع تلك المطاعن ونقضها.

الاصطلاحات في معنى المكي والمدني
...
1- الاصطلاحات في معنى المكي والمدني
للعلماء في معنى المكي والمدني ثلاثة اصطلاحات:
الأول أن المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة والمدني ما نزل بالمدينة. ويدخل في مكة ضواحيها كالمنزل على النبي صلى الله عليه وسلم بمنى وعرفات والحديبية. ويدخل في المدينة ضواحيها أيضا كالمنزل عليه في بدر وأحد. وهذا التقسيم لوحظ فيه مكان النزول كما ترى. لكن يرد عليه أنه غير ضابط ولا حاصر لأنه لا يشمل ما نزل بغير مكة والمدينة وضواحيهما كقوله سبحانه في سورة التوبة: {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ} الخ فإنها نزلت بتبوك وقوله سبحانه في سورة الزخرف: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} الخ فإنها نزلت ببيت المقدس ليلة الإسراء. ولا ريب أن عدم الضبط في التقسيم يترك واسطة لا تدخل فيما يذكر من الأقسام وذلك عيب يخل بالمقصود الأول من التقسيم وهو الضبط والحصر.
الاصطلاح الثاني أن المكي ما وقع خطابا لأهل مكة والمدني ما وقع خطابا لأهل المدينة. وعليه يحمل قول من قال: إن ما صدر في القرآن بلفظ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} فهو مكي وما صدر فيه بلفظ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فهو مدني لأن الكفر كان غالبا على أهل مكة فخوطبوا بيا أيها الناس وإن كان غيرهم داخلا فيهم. ولأن الإيمان كان غالبا على أهل المدينة فخوطبوا بيا أيها الذين آمنوا وإن كان غيرهم داخلا فيهم أيضا. وألحق بعضهم صيغة يا بني آدم بصيغة يأيها الناس. أخرج أبو عبيد في فضائل القرآن عن ميمون بن مهران قال: ما كان في القرآن يأيها الناس أو يا بني آدم فإنه مكي وما كان يأيها الذين آمنوا فإنه مدني.

وهذا التقسيم لوحظ فيه المخاطبون كما ترى لكن يرد عليه أمران: أحدهما ما ورد على سابقة من أنه غير ضابط ولا حاصر فإن في القرآن ما نزل غير مصدر بأحدهما نحو قوله سبحانه في فاتحة سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} الخ ونحو قوله سبحانه في فاتحة سورة المنافقون: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} الخ.
ثانيهما: أن هذا التقسيم غير مطرد في جميع موارد الصيغتين المذكورتين بل إن هناك آيات مدنية صدرت بصيغة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} وهناك آيات مكية صدرت بصيغة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} . مثال الأولى سورة النساء فإنها مدنية وأولها {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} وكذلك سورة البقرة مدنية وفيها {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} ومثال الثانية سورة الحج فإنها مكية مع أن في أواخرها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} الخ.
قال بعضهم: هذا القول إن أخذ على إطلاقه ففيه نظر فإن سورة البقرة مدنية وفيها {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} إلى آخر ما ذكرناه أمامك. غير أنه قال أخيرا ما نصه: فإن أريد أن الغالب كذلك فصحيح.
أقول: ولكن صحة الكلام في ذاته لا تسوغ صحة التقسيم فإن من شأن التقسيم السليم أن يكون ضابطا حاصرا وأن يكون مطردا. وقيد الغالبية المراد لا يحقق الضبط والحصر وإن حقق الاطراد فيبقى التقسيم معيبا. على أنهم قالوا: المراد لا يدفع الإيراد.
الاصطلاح الثالث وهو المشهور: أن المكي ما نزل قبل هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وإن كان نزوله بغير مكة والمدني ما نزل بعد هذه الهجرة وإن كان نزوله بمكة.
وهذا التقسيم كما ترى لوحظ فيه زمن النزول وهو تقسيم صحيح سليم لأنه ضابط حاصر ومطرد لا يختلف بخلاف سابقيه ولذلك اعتمده العلماء واشتهر بينهم. وعليه فآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ

الْأِسْلامَ دِيناً} مدنية مع أنها نزلت يوم الجمعة بعرفة في حجة الوداع. وكذلك آية {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} فإنها مدنية مع أنها نزلت بمكة في جوف الكعبة عام الفتح الأعظم. وقل مثل ذلك فيما نزل بأسفاره عليه الصلاة والسلام كفاتحة سورة الأنفال وقد نزلت ببدر فإنها مدنية لا مكية على هذا الاصطلاح المشهور.

فائدة العلم بالمكي والمدني
...
2- فائدة العلم بالمكي والمدني
من فوائد العلم بالمكي والمدني تمييز الناسخ من المنسوخ فيما إذا وردت آيتان أو آيات من القرآن الكريم في موضوع واحد وكان الحكم في إحدى هاتين الآيتين أو الآيات مخالفا للحكم في غيرها ثم عرف أن بعضها مكي وبعضها مدني فإننا نحكم بأن المدني منها ناسخ للمكي نظرا إلى تأخر المدني عن المكي.
ومن فوائده أيضا معرفة تاريخ التشريع وتدرجه الحكيم بوجه عام وذلك يترتب عليه الإيمان بسمو السياسة الإسلامية في تربية الشعوب والأفراد. وسيستقبلك في هذا المبحث فروق بين المكي والمدني تلاحظ فيها جلال هذه الحكمة.
ومن فوائده أيضا الثقة بهذا القرآن وبوصوله إلينا سالما من التغيير والتحريف.
ويدل على ذلك اهتمام المسلمين به كل هذا الاهتمام حتى ليعرفون ويتناقلون ما نزل منه قبل الهجرة وما نزل بعدها وما نزل بالحضر وما نزل بالسفر وما نزل بالنهار وما نزل بالليل وما نزل بالشتاء وما نزل بالصيف وما نزل بالأرض وما نزل بالسماء إلى غير ذلك. فلا يعقل بعد هذا أن يسكتوا ويتركوا أحدا يمسه ويعبث به وهم المتحمسون لحراسته وحمايته والإحاطة بكل ما يتصل به أو يحتف بنزوله إلى هذا الحد.

الطريق الموصلة إلى معرفة المكي والمدني
...
3- الطريق الموصلة إلى معرفة المكي والمدني
لا سبيل إلى معرفة المكي والمدني إلا بما ورد عن الصحابة والتابعين في ذلك لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم بيان للمكي والمدني. وذلك لأن المسلمين في زمانه لم يكونوا في حاجة إلى هذا البيان كيف وهم يشاهدون الوحي والتنزيل ويشهدون مكانه وزمانه وأسباب نزوله عيانا. وليس بعد العيان بيان.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه والله الذي لا إله غيره ما نزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت؟ ولا نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم نزلت؟ ولو أعلم أن أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه. وقال أيوب: سأل رجل عكرمة عن آية من القرآن فقال: نزلت في سفح ذلك الجبل وأشار إلى سلع ا هـ.
ولعل هذا التوجيه الذي ذكرته أولى مما ذكره القاضي أبو بكر في الانتصار إذ يقول ما نصه: ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك قول لأنه لم يأمر به ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة وإن وجب في بعضه على أهل العلم معرفة تاريخ الناسخ والمنسوخ فقد يعرف ذلك بغير نص الرسول ا هـ.

الضوابط التي يعرف بها المكي والمدني
...
4- الضوابط التي يعرف بها المكي والمدني
قد عرفنا فيما مضى أن مرد العلم بالمكي والمدني هو السماع عن طريق الصحابة والتابعين بيد أن هناك علامات وضوابط يعرف بها المكي والمدني. وهاك ضوابط المكي:
1- كل سورة فيها لفظ كلا فهي مكية وقد ذكر هذا اللفظ في القرآن ثلاثا

وثلاثين مرة في خمس عشرة سورة كلها في النصف الأخير من القرآن. قال الدريني رحمه الله:
وما نزلت كلا بيثرب فاعلمن ... ولم تأت في القرآن في نصفه الأعلى
قال العماني: وحكمة ذلك أن نصف القرآن الأخير نزل أكثره بمكة وأكثرها جبابرة فتكررت فيه على وجه التهديد والتعنيف لهم والإنكار عليهم بخلاف النصف الأول. وما نزل منه في اليهود لم يحتج إلى إيرادها فيه لذلتهم وضعفهم ا هـ.
2- كل سورة فيها سجدة فهي مكية لا مدنية.
3- كل سورة في أولها حروف التهجي فهي مكية سوى سورة البقرة وآل عمران فإنهما مدنيتان بالإجماع
وفي الرعد خلاف.
4- كل سورة فيها قصص الأنبياء والأمم السابقة فهي مكية سوى البقرة.
5- كل سورة فيها قصة آدم وإبليس فهي مكية سوى البقرة أيضا.
6- كل سورة فيها يا أيها الناس وليس فيها يا أيها الذين آمنوا فهي مكية ولكنه ورد على هذا ما تقدم بين يديك من سورة الحج.
7- كل سورة من المفصل فهي مكية. أخرج الطبراني عن ابن مسعود قال: نزل المفصل بمكة فمكثنا حججا نقرؤه ولا ينزل غيره لكن يرد على هذا أن بعض سور المفصل مدني نزل بعد الهجرة اتفاقا كسورة النصر فإنها كانت من أواخر ما نزل بعد الهجرة بل قيل إنها آخر ما نزل كما سبق في مبحث أول ما نزل وآخر ما نزل. فالأولى أن يحمل كلام ابن مسعود هذا على الكثرة الغالبة من سور المفصل لا على جميع سور المفصل والمفصل على وزان معظم: هو السورة الأخيرة من القرآن الكريم مبتدأة من

سورة الحجرات على الأصح وسميت بذلك لكثرة الفصل فيها بين السور بعضها وبعض من أجل قصرها.
وقيل: سميت بذلك لقلة المنسوخ فيها فقولها قول فصل: لا نسخ فيه ولا نقض.
أما ضوابط المدني: فكما يأتي:
1- كل سورة فيها الحدود والفرائض فهي مدنية.
2- كل سورة فيها إذن بالجهاد وبيان لأحكام الجهاد فهي مدنية.
3- كل سورة فيها ذكر المنافقين فهي مدنية ما عدا سورة العنكبوت. والتحقيق أن سورة العنكبوت مكية ما عدا الآيات الإحدى عشرة الأولى منها فإنها مدنية. وهي التي ذكر فيها المنافقون.

السور المكية والمدنية والمختلف فيها
...
5- السور المكية والمدنية والمختلف فيها
نقل السيوطي في الإتقان أقوالا كثيرة في تعيين السور المكية والمدنية من أوفقها ما ذكره أبو الحسن الحصار في كتابه الناسخ والمنسوخ إذ يقول:
المدني باتفاق عشرون سورة والمختلف فيه اثنتا عشرة سورة وما عدا ذلك مكي باتفاق ثم نظم في ذلك أبياتا رقيقة جامعة وهو يريد بالسور العشرين المدنية بالاتفاق: سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والنور والأحزاب ومحمد والفتح والحجرات والحديد والمجادلة والحشر والممتحنة والجمعة والمنافقون والطلاق والتحريم والنصر.
ويريد بالسور الاثنتي عشرة المختلف فيها: سورة الفاتحة والرعد والرحمن والصف والتغابن والتطفيف والقدر ولم يكن وإذا زلزلت والإخلاص والمعوذتين.

ويريد بالسور المكية باتفاق ما عدا ذلك وهي اثنتان وثمانون سورة. وإلى هذا القسم المكي يشير في منظومته بقوله:
وما سوى ذاك مكي تنزله ... فلا تكن من خلاف الناس في حصر
فليس كل خلاف جاء معتبرا ... إلا خلاف له حظ من النظر
وقد جرى هذا البيت مجرى الأمثال عند أهل العلم.

أنواع السور المكية والمدنية
...
6- أنواع السور المكية والمدنية
قد تكون السورة كلها مكية وقد تكون كلها مدنية وقد تكون السورة مكية ما عدا آيات منها وقد تكون مدنية ما عدا آيات منها فتلك أربعة أنواع:
مثال النوع الأول سورة المدثر فإنها كلها مكية. ومثال الثاني سورة آل عمران فإنها كلها مدنية ومثال الثالث سورة الأعراف فإنها مكية. ما عدا آية {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} قاله قتادة. واستثنى غيره هذه الآية المذكورة وما بعدها من الآيات إلى قوله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} وقال: إن تلك الآيات مدنية. ومثال النوع الرابع سورة الحج فإنها مدنية ما عدا أربع آيات منها تبتدئ بقوله سبحانه {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} إلى قوله {عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} .
واعلم أن وصف السورة بأنها مكية أو مدنية يكون تبعا لما يغلب فيها أو تبعا لفاتحتها فقد ورد أنه إذا نزلت فاتحة سورة بمكة مثلا كتبت مكية ثم يزيد الله فيها ما يشاء. ولعل الأنسب بالاصطلاح المشهور في معنى المكي والمدني أن يقال: إذا نزلت فاتحة سورة قبل الهجرة كتبت مكية وإذا نزلت فاتحة سورة بعد الهجرة كتبت مدنية ثم يذكر المستثنى من تلك السور إن كان هناك استثناء فيقال: سورة كذا مكية إلا آية كذا فإنها مدنية أو سورة كذا مدنية إلا آية كذا فإنها مكية أو نحو ذلك كما تراه في كثير من المصاحف عنوانا للسورة.

وقد بذل العلماء همة جبارة في استقصاء حال ما نزل من السور والآيات حتى لقد قال أبو القاسم النيسابوري في كتاب التنبيه على فضل علوم القرآن ما نصه: من أشرف علوم القرآن علم نزوله وجهاته وترتيب ما نزل بمكة والمدينة وما نزل بمكة وحكمه مدني وما نزل بالمدينة وحكمه مكي وما نزل بمكة في أهل المدينة وما نزل بالمدينة في أهل مكة وما يشبه نزول المكي في المدني وما يشبه نزول المدني في المكي وما نزل بالجحفة وما نزل ببيت المقدس وما نزل بالطائف وما نزل بالحديبية وما نزل ليلا وما نزل نهارا وما نزل مشيعا وما نزل مفردا والآيات المدنيات في السور المكية والآيات المكيات في السور المدنية وما حمل من مكة إلى المدينة وما حمل من المدينة إلى مكة وما حمل من المدينة إلى أرض الحبشة وما نزل مجملا وما نزل مفسرا وما اختلفوا فيه فقال بعضهم: مكي وبعضهم مدني فهذه خمسة وعشرون وجها من لم يعرفها ويميز بينها لم يحل له أن يتكلم في كتاب الله تعالى ا. هـ.
قال السيوطي بعد أن أورد هذا: وقد أشبعت الكلام على هذه الأوجه فمنها ما أفردته بنوع ومنها ما تكلمت عليه في ضمن بعض الأنواع. ا هـ وجزاهم الله أحسن الجزاء.

وجوه تتعلق بالمكي والمدني
...
وجوه تتعلق بالمكي والمدني
نبه السيوطي عند كلامه في هذا المبحث إلى أن هناك وجوها في المكي والمدني. منها ما تستطيع أن تفهمه مما قصصناه عليك آنفا. ومنها ما يشبه تنزيل المدني في السور المكية في قوله تعالى في سورة النجم: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} قال السيوطي في توجيهه ما نصه: فإن الفواحش كل ذنب فيه حد والكبائر كل ذنب عاقبته النار واللمم ما بين الحدين من الذنوب ولم يكن بمكة حد ولا نحوه ا هـ لكن فيه نظر من وجهين: أحدهما أن تفسير الفواحش بما ذكر غير متفق عليه,

بل فسرها غيره بأنها الكبائر مطلقا. وفسرها آخر بما يكبر عقابه دون تخصيص بحد. وفسرها السيوطي نفسه في سورة الأنعام بأنها الكبائر. والثاني أن بعضهم يستثني هذه الآية من سورة النجم المكية وينص على أنها مدنية.
ومنها : ما يشبه تنزيل المكي في السور المدنية نحو سورة {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً} وكقوله سبحانه في سورة الأنفال المدنية: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} الخ. وفي هذا نظر أيضا فإن المعروف أن سورة والعاديات من السور المكية كما سبق وأن آية {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ} الخ منصوص على أنها نزلت بمكة كما نقل السيوطي نفسه عن مقاتل وقال: إنها مستثناة من سورة الأنفال المدنية. بل نص بعضهم على أن هذه الآية مع آيتين قبلها وأربع بعدها كلها مكيات مستثنيات من سورة الأنفال المدنية.
ومنها : ما حمل من مكة إلى المدينة نحو سورة يوسف وسورة الإخلاص وسورة سبح.
ومنها : ما حمل من المدينة إلى مكة نحو آية الربا في سورة البقرة المدنية وصدر سورة التوبة المدنية.
ومنها : ما حمل إلى الحبشة نحو سورة مريم فقد صح أن جعفر بن أبي طالب قرأها على النجاشي.
ومنها : ما حمل إلى الروم كقوله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآية.
وأنت خبير بأن الاصطلاح المشهور في المكي والمدني ينتظم كل ما نزل سواء أكان بمكة والمدينة أم بغيرهما كالجحفة والطائف وبيت المقدس والحديبية ومنى وعرفات وعسفان وتبوك وبدر وأحد وحراء وحمراء الأسد. وتفصيل ذلك يخرج بنا إلى حد الإطالة فناهيك ما ذكرنا. واللبيب تكفيه الإشارة.


فروق أخرى بين المكي والمدني
...
فروق أخرى بين المكي والمدني
توجد فروق أخرى بين المكي والمدني غير ما قدمناه في ضوابطهما وهذه الفروق فيها دقة عن تلك لتعلقها في مجموعها بأمور معنوية وبلاغية. ثم إن أعداء الإسلام قد صاغوا عن طريق بعضها شبهات سددوا سهامها إلى القرآن الكريم لذلك أفردناها بعنوان توطئة لنقض تلك الشبهات وقبل الرمي يراش السهم.
ونذكر من خواص القسم المكي أنه قد كثر فيه ما يأتي:
أولا: أنه حمل حملة شعواء على الشرك والوثنية وعلى الشبهات التي تذرع بها أهل مكة للإصرار على الشرك والوثنية ودخل عليهم من كل باب وأتاهم بكل دليل وحاكمهم إلى الحس وضرب لهم أبلغ الأمثال حتى انتهى بهم إلى أن تلك الآلهة المزيفة لا تقدر أن تخلق مجتمعة أقل نوع من الذباب بل لا تستطيع أن تدفع عن نفسها شر عادية الذباب وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} .
ولما عاندوا واحتجوا بما كان عليه آباؤهم نعى عليهم أن يمتهنوا كرامة الإنسان إلى هذا الحضيض من الذلة للأحجار والأصنام وسفه أحلامهم وأحلام آبائهم الذين أهملوا النظر في أنفسهم وفي آيات الله في الآفاق وقبح إليهم الجمود على هذا التقليد الأعمى للآباد والأجداد {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} . وناقشهم كذلك في عقائدهم الضالة التي نجمت عن تلك الوثنية من جحود الإلهيات والنبوات وإنكار البعث والمسؤولية والجزاء.
ثانيا: أنه فتح عيونهم على ما في أنفسهم من شواهد الحق وعلى ما في الكون من أعلام الرشد ونوع لهم في الأدلة وتفنن في الأساليب وقاضاهم إلى الأوليات

والمشاهدات ثم قادهم من وراء ذلك قيادة راشدة حكيمة إلى الاعتراف بتوحيد الله في ألوهيته وربوبيته والإيمان بالبعث ومسؤوليته والجزاء العادل ودقته ثم التسليم بالوحي وبكل ما جاء به الوحي من هدي الله في الإلهيات والنبوات والسمعيات في العقائد على سواء.
ثالثا: أنه تحدث عن عاداتهم القبيحة كالقتل وسفك الدماء ووأد البنات واستباحة الأعراض وأكل مال الأيتام. فلفت أنظارهم إلى ما في ذلك من أخطار وما زال بهم حتى طهرهم منها ونجح في إبعادهم عنها.
رابعا أنه شرح لهم أصول الأخلاق وحقوق الاجتماع شرحا عجيبا كره إليهم الكفر والفسوق والعصيان وفوضى الجهل وجفاء الطبع وقذارة القلب وخشونة اللفظ وحبب إليهم الإيمان والطاعة والنظام والعلم والمحبة والرحمة والإخلاص واحترام الغير وبر الوالدين وإكرام الجار وطهارة القلوب ونظافة الألسنة إلى غير ذلك.
خامسا: أنه قص عليهم من أنباء الرسل وأممهم السابقة ما فيه أبلغ المواعظ وأنفع العبر من تقرير سننه تعالى الكونية في إهلاك أهل الكفر والطغيان وانتصار أهل الإيمان والإحسان مهما طالت الأيام وامتد الزمان ما داموا قائمين بنصرة الحق وتأييد الإيمان.
سادسا: أنه سلك مع أهل مكة سبيل الإيجاز في خطابه حتى جاءت السور المكية قصيرة الآيات صغيرة السور. لأنهم كانوا أهل فصاحة ولسن صناعتهم الكلام وهمتهم البيان فيناسبهم الإيجاز والإقلال دون الإسهاب والإطناب.
كما أن قانون الحكمة العالية قضى بأن يسلك سبيل التدرج والارتقاء في تربية الأفراد وأن يقدم الأهم على المهم. ولا ريب أن العقائد والأخلاق والعادات،

أهم من ضروب العبادات ودقائق المعاملات لأن الأولى كالأصول بالنسبة للثانية لذلك كثر في القسم المكي التحدث عنها والعناية بها كما علمت في الخواص الماضية جريا على سنة التدرج من ناحية وتقديما للأهم على المهم من ناحية أخرى.
أما خواص القسم المدني فنذكر منها أنه قد كثر فيه ما يأتي:
أولا: التحدث عن دقائق التشريع وتفاصيل الأحكام وأنواع القوانين المدنية والجنائية والحربية والاجتماعية والدولية والحقوق الشخصية وسائر ضروب العبادات والمعاملات. انظر إن شئت في سورة البقرة والنساء والمائدة والأنفال والقتال والفتح والحجرات ونحوها.
ثانيا: دعوة أهل الكتاب من يهود ونصارى إلى الإسلام ومناقشتهم في عقائدهم الباطلة وبيان جناياتهم على الحق وتحريفهم لكتب الله ومحاكمتهم إلى العقل والتاريخ. اقرأ إن شئت سورة البقرة وآل عمران والمائدة والفتح ونحوها.
ثالثا: سلوك الإطناب والتطويل في آياته وسوره. وذلك لأن أهل المدينة لم يكونوا يضاهئون أهل مكة في الذكاء والألمعية وطول الباع في باحات الفصاحة والبيان فيناسبهم الشرح والإيضاح وذلك يستتبع كثيرا من البسط والإسهاب لأن دستور البلاغة لا يقوم إلا على رعاية مقتضيات الأحوال وخطاب الأغبياء بغير ما يخاطب به الأذكياء. {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} .

رد مع اقتباس
 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
المبحث, السابع

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:00 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir