دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > مجموعة المتابعة الذاتية > منتدى المستوى السابع ( المجموعة الأولى)

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 8 جمادى الأولى 1441هـ/3-01-2020م, 02:06 AM
عائشة إبراهيم الزبيري عائشة إبراهيم الزبيري غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى السابع
 
تاريخ التسجيل: Jul 2016
المشاركات: 328
افتراضي

خرّج جميع الأقوال التالية ثمّ حرر المسائل التفسيرية المتعلقة بها:

1: قول زر بن حبيش: (الظنين المتّهم، وفي قراءتكم {بضنين} والضنين البخيل).
التخريج:

-روى الطبري الأثر من طريق سفيان عن عاصم عن زر بن حبيش.
-أما رواية الفراء فهي مختلفة عن الطبري فقال: حدثني قيس بن الربيع عن عاصم ابن أبي النجود عن زر بن حبيش.
-وكذلك أخرجه عبد بن حميد كما ذكره السيوطي في الدر المنثور.

تحرير المسألة:
وفي المسألة قولان مبنيان على قراءتان متواتران:
الأولى: قراءة بضنين، أي ببخيل، فلم يبخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من الوحي فلم يبلغه لكم.
وأصحاب هذا القول والقراءة هم: روي عن عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، وابن زيد، والزهري وغيرهم، وهي قراءة عاصم وحمزة ونافع وابن عامر من القراءات المشهورة اليوم.

الثانية: قراءة بظنين، أي: بمتهم، فهو أمين على الوحي فلم ينقص منه شيئاً ولم يزد فيه، ولم يبدل فيه ولم يحرفه، ولم يتأوله بغير تأويله، ولا متهم في حفظه كذلك، وقيل بضعيف، فإن العرب تقول للرجل الضعيف أو الشيء القليل: هو ظنون، ويقولون ربما دلّك على الرأي الظنون، أي الضعيف من الرجال، كما سمعه الفراء من قضاعة.
وأصحاب هذا القول والقراءة هم: روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن ابن مسعود، وابن عباس، وعبد الله بن الزبير، وهشام بن عروة، وزر بن حبيش، وسعيد بن جبير، والضحاك وغيرهم، وهي قراءة ابن كثير والكسائي وأبو عمرو الداني من القراءات المشهورة اليوم.
ويلاحظ أن بعض الصحابة والتابعين قد روي عنهم القراءتين، ولا مانع من أن يكون قد تلقى القراءتين عن الرسول أو الصحابة.

والقراءتان لا تعارض بينهما يلزم اختيار أحدهما، بل هما متوافقتان وكلاهما يصح إطلاقهما على الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو ليس ببخيل ولا بمتهم، وترجيح العلماء بين القراءتين من باب تقديم الأفصح والأنسب لا بأن أحد القراءتين غير صحيح، وقد قد الطبري قراءة (بضنين) بالضاء لأنها المخطوط عليها في المصاحف، حتى مع إمكان قراءتها بغير المكتوب فإن المكتوب أولى بالتقديم، وقال الفراء عن هذا القول: (فلو كان مكان: على ـ عن ـ صلح أو الباء كما تقول: ما هو بضنين بالغيب.).
ولذلك قال أصحاب القراءة بالظاء بأن على تقوي قراءتهم، كما يقال: ما انت على فلان بمتهم، وقد رجح أبو عبيدة هذه القراءة، لأن قريشاً لم تبخّل الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يأتي به، فإن السورة مكية، وإنما كذبته، فقيل في الآية رداً عليهم: ما هو بمتهم.
وما ترجح لي هو أن قراءة (ظنين) أقوى، لأنها معنى يعم معنى القراءة الأخرى كذلك، فالرسول صلى الله عليه وسلم ليس بمتهم ويدخل فيه عدم اتهامه بالبخل بالوحي، فهي تنفي كل اتهام باطل يتهم به عليه الصلاة والسلام، بالإضافة إلى الأسباب السابق ذكرها.



2: قول أبي العالية الرياحي في تفسير قول الله تعالى: {إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم} قال: (قال: إنما هم هؤلاء النصارى واليهود الذين كفروا، ثم ازدادوا كفرًا بذنوب أصابوها، فهم يتوبون منها في كفرهم).
التخريج:

أخرج ابن جرير الطبري هذا الأثر من طريق ابن أبي عدي، عن داود، أنه سأل أبا العالية.
وهناك آثار أخرى لأبي العالية في نفس الآية ولها نفس المعنى بألفاظ أخرى، وجميعها رواها داود بن أبي هند عن أبي العالية، وفيما يلي عرض للآثار بأسانيدها:
1. قال ابن أبي حاتم: حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، ثنا أبو خالدٍ، ثنا داود، عن أبي العالية قوله:
ثمّ ازدادوا كفرًا قال: (هم اليهود والنّصارى أذنبوا في شركهم، ثم تابوا لم يقبل منهم ولو تابوا من الشّرك قبل منهم).
2. قال بان المنذر: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا، قَالَ: حَدَّثَنَا محمد بْن حيوية، قَالَ: حَدَّثَنَا مسدد، قَالَ: حَدَّثَنَا يزيد بْن زريع، عَنْ داود، عَنْ أبي العالية، قَالَ: (إِنَّمَا أنزلت فِي اليهود والنصارى، أَلا ترى لقول: {كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} بذنوب أذنبوها، وكانت زيادة فِي كفرهم، ثُمَّ ذهبوا يتوبون من تلك الذنوب)، فَقَالَ اللهُ جَلَّ وَعَزَّ: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} قَالَ " لو كانوا عَلَى هدى قبل توبتهم، ولكنهم عَلَى ضلالة ".
3. قال الطبري: حدّثت عن عمّارٍ، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية، قوله: {إنّ الّذين كفروا بعد إيمانهم ثمّ ازدادوا كفرًا} قال: (هم اليهود والنّصارى يصيبون الذّنوب فيقولون نتوب وهم مشركون، قال اللّه عزّ وجلّ: لن تقبل التّوبة في الضّلالة)، والذي حدث الطبري مجهول.
4. قال الطبري: حدّثنا ابن المثنّى، قال: حدّثنا عبد الأعلى، قال: حدّثنا داود، قال: سألت أبا العالية عن هذه الآية: {إنّ الّذين كفروا بعد إيمانهم ثمّ ازدادوا كفرًا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضّالّون} قال: (هم اليهود والنّصارى والمجوس، أصابوا ذنوبًا في كفرهم فأرادوا أن يتوبوا منها، ولن يتوبوا من الكفر، ألا ترى أنّه يقول: {وأولئك هم الضّالّون})، ولعل لفظة (المجوس) زائدة، لأن المجوس ليسوا أهل كتاب، وإيمانهم بعقيدتهم إيمان غير مقبول، سواء كان قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم أو بعده، وجميع الآثار الأخرى عن أبي العالية ذكرت اليهود والنصارى فقط، والله أعلم.
5. قال أبو العالية في قوله: {لن تقبل توبتهم}: تابوا من بعضٍ، ولم يتوبوا من الأصل، رواه ابن جرير الطبري وابن المنذر من طريق سفيان الثوري عن داود بن أبي ليلى عن أبي العالية.

تحرير المسألة:
وقول أبو العالية يتطرق إلى ثلاث مسائل في الآية، الأول: من هم الذين كفروا بعد إيمانهم، والثانية: متعلق ازدادوا كفراً، والثالثة: سبب عدم قبول توبتهم، والمسائل مرتبطة ببعضها؛ ولذلك ذكرها بعض أهل العلم معاً، ولكني سأفصل بينهم لتتوضح كل مسألة على حدة.
وفي المسألة الأولى أقوال لأهل العلم:
1. هم اليهود الذين آمنوا بموسى عليه السلام وكفروا بعيسى، روي هذا القول عن قتادة، وقال ابن عطية: (وفي هذا القول اضطراب، لأن الذي كفر بعيسى بعد الإيمان بموسى ليس بالذي كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فالآية على هذا التأويل تخلط الأسلاف بالمخاطبين)، وفي القرآن خاطب سبحانه وتعالى اليهود في مواضع عديدة بأنهم قتلوا الأنبياء وغيرها من الأمور التي زاولها آبائهم ولم تقترفها أيديهم، ولكن لما عكفوا على نفس دين آبائهم مقرين لأفعالهم أعتبرهم سبحانه وتعالى مشاركين لآبائهم في هذا الذنب، ويمكن حمل هذه الآية على نفس المحمل فهم لما رضوا بكفر آبائهم بعيسى كانوا هم كذلك كافرين به وإن لم يلقوه ويسمعوا دعوته، والله أعلم.
2. هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين آمنوا برسلهم، ويدخل فيه إيمانهم بالرسول صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، ثم كفرهم به بعد مبعثه، روي هذا القول عن أبو العالية، الحسن، وقد رجحه ابن جرير الطبري غير أنه خصصه في اليهود دون النصارى، لأن الآيات قبله وبعده نزلت في اليهود، والسياق واحد.
3. أن الآية نزلت في المرتدين الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ثم عادوا للكفر ثم أسلموا ثم كفروا، وهذا القول أخرجه البزار عن ابن عباس، وقال السيوطي عن الأثر: هذا خطأ من البزار، وقال ابن كثير: إسناده جيد، والله أعلم.
4. أن الآية عامة في كل كافر أشرك بالله في عبادته وقد أقرّ بأنه خالقه موجده، نسب الثعلبي هذا القول لمجاهد، وهذا القول عندي ضعيف؛ لأن الإيمان اعتقاد بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح، واعتقادهم بأنه سبحانه وتعالى الخالق الرازق مخالف لعملهم وإشراكهم، فإيمانهم ليس بصحيح ليتم تسميته بإيمان، ولفظة (بعد) تدل على أن شيئاً سابق لشيء، وهم قد اعتقدوا بأنه الخالق الرازق مع إشراكهم معه غيره في العبادة في نفس الوقت، والله أعلم.
ولعلي أميل إلى قول الطبري، ولكنها وإن كانت نزلت في اليهود لا مانع من أن يدخل معهم غيرهم لاتفاقهم في الحال والوصف، فالنصراني من الممكن أن يؤمن بالنبي الذي بشر به كتابهم ثم لما يعرفه ويؤمر باتباعه يكفر به، وكذلك المرتد عن الدين الإسلامي حاله كحال اليهودي والنصراني في معرفته الحق ثم جحده إياه وتركه له مع إقامته على الكفر حتى موته، فالقاسم المشترك بين الجميع هو إيمانهم وتصديقهم في أول الأمر، ثم كفرهم بعد ظهور ما آمنوا به على طريقة تخالف هواهم وما أرادوه، وبقوا على ذلك الكفر حتى الموت.

وفي المسألة الثانية أقوال لأهل العلم:
1. ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والفرقان، روي هذا القول عن قتادة.
2. ازدادوا كفراً بالذنوب التي أذنبوها وهم كافرون، روي هذه القول عن رفيع، وأبو العالية، وهو الذي رجحه الطبري لأنه سبحانه قال: {وهو الّذي يقبل التّوبة عن عباده}، فلا يمكن أن يقول إنه يقبل ولا يقبل، فهذا يدل على أن هذه التوبة الغير مقبولة غير تلك التوبة المقبولة، فالتوبة المقبولة تكون للتائب من الشرك ومن المعاصي مع وجود الإيمان، أما التوبة الغير مقبولة هي التوبة من الازدياد في الكفر بعد الكفر، أي: التوبة من الذنوب التي يقترفها الكافر، وذلك لأنه سبحانه لا يقبل من مشرك عمل ما دام على شركه.
3. ازدادوا كفراً بإقامتهم على كفرهم حتى موتهم، روي هذا القول عن مجاهد، والسدي.
وجميع هذه الأقوال متقاربة، فإنه كما يقول علماء العقيدة بأن الإيمان يزيد وينقص، فلا يوجد حالة يكون فيها الإيمان ثابتاً، فكذلك الكفر يزيد بالمزيد من التكذيب كما في القول الأول، ويزيد بالذنوب التي يقترفونها حال كفرهم، ويزداد ببقائهم على الكفر، فيكذب بكل آية تأتيه، فيزداد كفراً، والله أعلم.

وفي المسألة الثالثة أقوال لأهل العلم:
1. لن تقبل توبتهم عند الموت وحضوره، روي هذا القول عن الحسن، وقتادة، والسدي، وقد استبعد الطبري هذا القول قائلاً (ولا خلاف بين جميع الحجّة في أنّ كافرًا لو أسلم قبل خروج نفسه بطرفة عينٍ أنّ حكمه حكم المسلمين في الصّلاة عليه والموارثة، وسائر الأحكام غيرهما)، وقد قال سبحانه وتعالى في كتابة: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن) فإذا لم تقبل توبة العاصي فالأولى ألّا تقبل توبة المشرك، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) رواه الترمذي وغيره، وقال: حديث حسن غريب، والله أعلم.
2. لن تقبل توبتهم من ذنوبهم وهم مقيمون على الشرك والكفر، فهم تابوا من الفرع دون الأصل، روي هذا القول عن رفيع، وأبو العالية، وهو الذي رجحه الطبري.
3. لن تقبل توبتهم من كفرهم الأول قبل إيمانهم برسلهم، روي عن ابن جريج، وقال ابن جرير هذا قول لا معنى له، وذلك لأنهم لم يوصفوا بكفر ثم إيمان ثم كفر ثم زيادة في الكفر ليقال بأن المراد من التوبة هي توبتهم من كفرهم الأول، بل وصفوا بإيمان ثم كفر ثم زيادة في الكفر كما هو ظاهر من نص القرآن الصريح والذي لا يصار إلى معنى باطن خاص فيه إلا بقرينة وحجة، فيكون حينذاك المعنى الخاص هو الأولى.
ولعل الراجح هو القول الثاني، فإن في هذه الآية لم يأت ذكر الموت بخلاف الآية التالية التي جاء فيها ذكر الموت، فدلّ هذا على المغايرة، فسقط بذلك القول الأول عندي وإن كان صحيحاً في نفسه، والقول الثالث واضح الضعف كما بين الطبري رحمه الله.



3: قول سعيد بن جبير في الصاحب بالجنب قال: (الرفيق في السفر).
التخريج:

روى عبد الرزاق، وأبو حذيفة النهدي في تفسير سفيان الثوري، والطبري، وابن المنذر، وابن أبي حاتم الأثر من طريق سفيان الثوري عن أبي بكير مرزوق مولى الشعبي عن سعيد بن جبير أنه قال في قوله تعالى: (والصاحب بالجنب) الرفيق في السفر، ما عدا ما رواية ابن المنذر وابن أبي حاتم قال فيها: (الرفيق الصالح).

تحرير المسألة:
وفي المسألة ثلاثة أقوال لأهل العلم:
1. الرفيق في السفر، روي هذا القول عن: ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، وعكرمة، والسدي، والضحاك.
2. الزوجة، روي هذا القول عن: ابن مسعود، وعلي، وإبراهيم النخعي، وأبي الهيثم، وعبد الرحمن بن أبي ليلى.
3. الملازم لك رجاء نفعك، فهو يجالسك في الحضر، ويصاحبك في السفر، روي هذا القول عن: ابن عباس، وزيد بن أسلم، وابن زيد.
والآية تحتمل جميع الأقوال، فإن الصاحب بالجنب في اللغة هو الذي بجنبك وبجوارك، فيدخل فيه كل من كان بجنبك سواء كان بجنبك بعض الوقت كالرفيق في السفر، أو أغلب الوقت كالزوجة، أو كل الوقت أو أغلب أغلبه كالملازم لك رجاء نفعك، فجميعهم لهم حق على من جانبوه، ولا يوجد في الآية ما يمنع حملها على المعاني جميعها، وقد روى عبد الله بن عمرو بن العاص عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنّ خير الأصحاب عند اللّه تبارك وتعالى خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند اللّه خيرهم لجاره)، وهذا في حق الأصحاب بشكل عام، فكيف بحق من كان بجنبك؟.



4: قول سعيد بن المسيّب في قول الله تعالى: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} قال: (إنما ذاك في الصلاة).
التخريج:

رواه ابن جرير الطبري عن ابن جريج أنه قال: وأخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد قال: صلّيت الصّبح مع سعيد بن المسيّب، فلمّا سلّم الإمام ابتدر النّاس القاصّ، فقال سعيدٌ: ما أسرعهم إلى هذا المجلس، قال مجاهدٌ: فقلت: يتأوّلون ما قال اللّه تعالى، قال: وما قال؟ قلت: {ولا تطرد الّذين يدعون ربّهم بالغداة والعشيّ}، قال: (وفي هذا ذا؟ إنّما ذاك في الصّلاة الّتي انصرفنا عنها الآن، إنّما ذاك في الصّلاة).
ومن هذا الأثر يتبين لنا أن بعض الناس كان يفهم الآية بغير المراد منها، فهم فهموا المراد بالذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، أنهم الذين يحضرون المجالس وحلق الذكر، ولعل سبب هذا الفهم أن هذه الآية كان سبب نزولها أن جماعة من أشراف قريش قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم أن يطرد الفقراء الضعفاء من حلقته فإن فعل وعدوه بسماع حديثه، وذلك لئلا تعيب عليهم العرب جلوسهم مع العبيد والسفهاء في نظرهم، كما في رواه مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا. قال وكنت أنا وابن مسعود، ورجل من هذيل، وبلال، ورجلان لست أسميهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع فحدث نفسه فأنزل الله عز وجل: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه "، فقال البعض بأن الذكر في الغداة والعشي هي المجالس التي كانوا يحضرونها، وهذا خطأ فإنه سبحانه وصفهم بصفة هي السبب في نهيه سبحانه النبي عليه الصلاة والسلام عن طردهم من جالسه، وذلك بأنهم يدعون ربهم بالغداة والعشي، وهي الصلاة على قول سعيد بن مسيب وغيره، وغيرها من الأقوال كما سأذكر لاحقاً.
وقد قيل بأن سبب النزول هو أن جماعة من أشراف الناس قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم إذا آمنوا به عليه أن يؤخر الذين يصلوا معه من الفقراء فيصلوا خلفهم، كما قال ابن جرير الطبري: (حدّثني محمّد بن سعدٍ، حدّثني أبي قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {وكذلك فتنّا بعضهم ببعضٍ} الآية، فهم أناسٌ كانوا مع النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم- من الفقراء، فقال أناسٌ من أشراف النّاس: نؤمن لك، وإذا صلّينا فأخّر هؤلاء الّذين معك فليصلّوا خلفنا)، وهذا السند مسلسل بالضعفاء فلا يصح، والصحيح هو الأول.

تحرير المسألة:
وفي المراد بـــ(يدعون ربهم بالغداة والعشي) أقوال لأهل العلم:
القول الأول: الصلوات المكتوبة، روي هذا القول عن ابن عباس، وابن عمر، وسعيد بن مسيب، وإبراهيم، ومجاهد، والحسن وقد زاد مع المحافظة عليها في الجماعة، والضحاك، وعبد الرحمن بن أبي عمرة، وعامر، وعبد الرحمن بن أبي ليلى.
-ومنهم قال هي صلاة الصبح وصلاة العصر، روي عن مجاهد، وقتادة، وقيل: العشي هو العشاء كما ذكر عن عمرو بن شعيب، ولعل سبب هذا القول يعود إلى إن الصلاة في أول الأمر كانت ركعتين في الغداة وركعتين في العشي، ويشهد لذلك قول مجاهد: (الصّلاة المفروضة: الصّبح والعصر)، فلا يقال بأن الصلاة المفروضة هي الصبح والعصر فقط، ولا يقول بذلك أحد، فعلم أن المقصود هو أن الصلاة المفروضة في ذلك الوقت هما هاتين الصلاتين.
-ومنهم قال هي الصلوات الخمس الفرائض، روي عن إبراهيم، وإن كانت الآية نزلت خاصة بأولئك، فإن حكمها عام لجميع المسلمين من بعد، وقد فرضت الصلاة فيما بعد واستقرت على الخمس الصلوات المفروضة.
والقول بأنها الصلاة المفروضة يجمع هذين القولين، ففي مكة كانت الصلاة المفروضة ركعتين في الغدي وركعتين في العشي، وبعد رحلة الإسراء والمعراج أصبح الصلوات المفروضة الصلوات الخمس.
وقد فسر أهل هذا القول دعائهم بالصلاة لأن الصلاة في اللغة الدعاء، وقد ورد في القرآن ما يدل على أن الصلاة تطلق ويراد بها الدعاء في بعض المرات كما في قوله تعالى: (...وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) أي: أدع لهم.

القول الثاني: أهل الذكر، روي هذا القول عن إبراهيم ومنصور، فهم يذكرون الله في جميع أحوالهم بالغداة والعشي، والذكر دعاء في حقيقة أمره، فهذا القول أخذ الآية على وجهها، وفي إحدى الروايتين عن إبراهيم في هذا القول قال: (لا تطردهم عن الذكر)، ولعله لم يرد من هذا القول أن يفسر الدعاء في الغداة والعشي، بل أراد الإشارة إلى ما لا يجب طردهم منه، وهو مجالس الذكر كما في سبب نزول الآية، والله أعلم.
القول الثالث: العبادة، روي هذا القول عن الضحاك، قال: في قوله تعالى: (يدعون ربّهم بالغداة والعشيّ) قال: (يعني: يعبدون، ألا ترى أنّه قال: (لا جرم أنّما تدعونني إليه)، يعني: تعبدونه)، ولعلمي القاصر لم أفهم استدلاله بهذه الآية، ولعلي استدل بما اعلمه وأفهمه من قوله تعالى: (وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين)، فالدعاء عبادة.
القول الرابع: قراءة القرآن، وهذا القول روي عن أوب جعفر، وفي حقيقته ورد في قوله تعالى: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي)، والآيتان مختلفتان في سبب النزول مما يسبب اختلاف في المراد من الدعاء بالغداة والعشي، فقد روى ابن جرير الطبري عن أبي جعفر في قوله تعالى: (واصبر نفسك مع الّذين يدعون ربّهم بالغداة والعشيّ) قال: (كان يقرئهم القرآن النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم)، والله أعلم.

ومما سبق يتبين لنا أن الأقوال السابقة جميعها تنقسم إلى قسمين:
1. قسم يكون فعلهم مقيد بوقت الغدو والعشي فقط، وهو القول بأن المراد به صلاة الصبح وصلاة العصر أو صلاة العشاء، أي: صلاة أهل مكة قبل فرض الصلوات الخمس، فقد كانت صلاة في النهار وصلاة في الليل، فيكون المراد بالغدو العشي الوقت المحدد.
2. قسم يكون فعلهم فيه مستمر في جميع الأحوال غير مقيد بالغداة والعشي فقط، بل يراد به استمرار الفعل طوال الوقت، فهم يعمرون الغدو والغشي وما بينهما جميعاً، كما نقول الحمد لله بكراً وأصيلاً، أي: في جميع الأحوال والأوقات، وهذا القسم يدخل فيه جميع الأقوال الأخرى من الصلوات الخمس المتفرقة في جميع اليوم، والذكر والدعاء والعبادة وقراءة القرآن.

وعلى هذا يترجح لي بأن المراد من (يدعون ربهم بالغداة والعشي) أي يعبدونه ويمجدونه ويعظمونه في جميع أحوالهم، ويدخل في هذا عبادتهم له بالدعاء والذكر باللسان، وبالصلاة بالبدن، وغيرها من العبادات الخالصة لله وحده على تنوعها واختلافها التي تملئ اليوم والليلة، وهذا هو دعاء العبادة ودعاء المسألة معاً اللذان تحتملها الآية، ملا مانع من حملها عليهما جميعاً.



5: قول إبراهيم النخعي في تفسير المراد بسوء الحساب: (هو أن يحاسب الرجل بذنبه كله، لا يغفر له منه شيء).
التخريج:

رواه الطبري من طريق الحجاج بن أبي عثمان، عن فرقد، عن إبراهيم النخعي أنه سأل فرقد فقال: يا فرقد أتدري ما سوء الحساب؟ قلت: لا، قال: هو أن يحاسب الرّجل بذنبه كلّه، لا يغفر له منه شيءٌ.
ورواه ابن وهب المصري والطبري ايضاً من طريق حماد بن سلمة عن فرقد عن إبراهيم أنه قال: (أن يحاسب بذنبه، ثم لا يغفر له)، وفي رواية الطبري: (سوء الحساب أن يحاسب من لا يغفر له).
وفرقد قد قال عنه الأئمة النقاد أنه ضعيف الحديث، وقال بعضهم منكر الأحاديث أيضاً، فقد قال البخاري عنه: (في حديثه مناكير، منكر الحديث جدا، ليس بشيء)، وإن كان رجل صالح عابد في نفسه كما قال البعض.
وقد روى سعيد بن منصور أثراً عن إبراهيم في معنى سوء الحساب فقال: (حدّثنا سعيدٌ، قال: نا خلف بن خليفة، عن رجلٍ، عن إبراهيم، قال: {سوء الحساب}: أن يأخذ عبده بالحقّ)، وفي السند رجل مجهول، فضعف الأثر بذلك.

تحرير المسألة:
وفي المسألة قولان:
1. أن يحاسب المرء على كل ما أقترفه من الذنوب لا يتجاوز عن شيء منها، وهو قول مروي عن إبراهيم النخعي كما تبين سابقاً، وشهر بن حوشب، وهو قول راويهما أيضاً فرقد السبخي، وروي كذلك عن ابن زيد، وأخرجه ابن المنذر وأبو الشيخ عن الحسن كما نقله السيوطي في الدر المنثور.
2. أن يناقش الحساب وبه يكون شديداً، ومن نوقش الحساب فقد عذب كما في الحديث، وهذا القول مروي عن أبي الجوزاء من طريق جعفر بن سليمان عن عمرو بن مالك عنه، ومروي عن سعيد بن جبير كذلك.

ولعل فهم معنى الحديث الذي روته عائشة يوضح القول الثاني ويقربه، فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نوقش الحساب عذب) قالت: قلت: (أليس يقول الله تعالى فسوف يحاسب حسابا يسيرا) قال: (ذلك العرض) رواه البخاري، ففي الحديث تفسيران لعذاب من نوقش الحساب:
الأول: أن المناقشة نفسها عذاب له، وبهذا لا يلزم أن يكون من يناقش العذاب من الكفار، فقد يناقش المسلمين المكثرين من الذنوب، فيكون مناقشتهم الحساب كعذاب لهم يكفر به سيئاتهم، فكما هو معلوم أن كل عذاب وألم وتعب في الدنيا يكفر السيئات، فإن بقيت سيئات عذب في القبر، فإن بقيت سيئات كانت عرصات يوم القيامة شديدة عليه تكفيراً لسيئاته، ومنها مناقشته الحساب التي تعتبر من العذاب كما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم: (من نوقش الحساب عذب) فيغفر بها للمؤمن ولا يغفر بها للكافر لإشراكه وكفره بالله الذي لا يغفره سبحانه وتعالى على هذا المعنى، فإن بقيت سيئات دخل النار بقدر معاصيه ثم يخرج منها، أو يتجاوز الله عنه فينجيه منها.
الثاني: أن من نوقش الحساب فإن مصيره العذاب اللاحق في النار وأنه هالك، ويؤيد هذا المعنى الرواية الأخرى للحديث: (من نوقش الحساب يهلك)، ولا مانع من أن يعذب مرتين عند مناقشة الحساب وفي النار لاحقاً، ولا يغفر له بها لأنه كافر على هذا القول، وهذا يوافق القول الأول في المسألة بان لا يتجاوز عن شيء من ذنوبه.
وينبغي أن أنبه هنا إلى أن (سوء الحساب) وردت في موضعين في سورة الرعد الأول من باب الذكر مصير الكفار وعذابهم، والآخر من باب ذكر صفات المؤمنين أنه يخافون سوء الحساب في موضعين متتالين، قال تعالى: ﴿لِلَّذِينَ ٱسۡتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱلَّذِينَ لَمۡ يَسۡتَجِيبُواْ لَهُۥ لَوۡ أَنَّ لَهُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعاً وَمِثۡلَهُۥ مَعَهُۥ لَٱفۡتَدَوۡاْ بِهِۦٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ سُوٓءُ ٱلۡحِسَابِ وَمَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ ۞أَفَمَن يَعۡلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ كَمَنۡ هُوَ أَعۡمَىٰٓۚ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ ٱلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ ٱلۡمِيثَٰقَ وَٱلَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦٓ أَن يُوصَلَ وَيَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ وَيَخَافُونَ سُوٓءَ ٱلۡحِسَابِ﴾ [الرعد: 18-21]، ولعل القول الأول أنسب للكافر الذي لم يستجب لله بتاتاً، فلا يغفر له شيء من ذنوبه، بل يعذب بها جميعاً، فإن الكفر مانع لمغفرة الذنوب الأقل منه، أما القول الثاني فيناسب المسلمين العاصين، فهو سبحانه وتعالى يناقشهم سيئاتهم ولا يسترها ويتعداها دون مناقشة كما يفعل مع المؤمنين الأعلى مرتبة، وكذلك يناسب الكافرين على القول الآخر في معنى الحديث.

وبهذا يتبين ما ترجح لي من أن هناك نوعين من سوء الحساب، وأن سوء الحساب بالنسبة للكافرين مختلف عن سوء الحساب بالنسبة للمسلمين، وإن كان المسلمين المؤمنين يخافون الإثنين، فيخافون أن يتحولوا عن الإيمان إلى الكفر، ويخافون أن يناقشوا الحساب ولا يستر عليهم ويتجاوز عنهم، والله أعلم.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 22 جمادى الأولى 1441هـ/17-01-2020م, 11:47 PM
هيئة التصحيح 11 هيئة التصحيح 11 غير متواجد حالياً
هيئة التصحيح
 
تاريخ التسجيل: Jan 2016
المشاركات: 2,525
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عائشة إبراهيم الزبيري مشاهدة المشاركة
خرّج جميع الأقوال التالية ثمّ حرر المسائل التفسيرية المتعلقة بها:

1: قول زر بن حبيش: (الظنين المتّهم، وفي قراءتكم {بضنين} والضنين البخيل).
التخريج:

-روى الطبري الأثر من طريق سفيان عن عاصم عن زر بن حبيش.
-أما رواية الفراء فهي مختلفة عن الطبري فقال: حدثني قيس بن الربيع عن عاصم ابن أبي النجود عن زر بن حبيش. [مخرج الأثر هو عاصم بن أبي النجود]
-وكذلك أخرجه عبد بن حميد كما ذكره السيوطي في الدر المنثور.

تحرير المسألة:
وفي المسألة قولان مبنيان على قراءتان [قراءتين] متواتران [متواترتين] :
الأولى: قراءة بضنين، أي ببخيل، فلم يبخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من الوحي فلم يبلغه لكم.
وأصحاب هذا القول والقراءة هم: روي عن عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، وابن زيد، والزهري وغيرهم، وهي قراءة عاصم وحمزة ونافع وابن عامر من القراءات المشهورة اليوم.

الثانية: قراءة بظنين، أي: بمتهم، فهو أمين على الوحي فلم ينقص منه شيئاً ولم يزد فيه، ولم يبدل فيه ولم يحرفه، ولم يتأوله بغير تأويله، ولا متهم في حفظه كذلك، وقيل بضعيف، فإن العرب تقول للرجل الضعيف أو الشيء القليل: هو ظنون، ويقولون ربما دلّك على الرأي الظنون، أي الضعيف من الرجال، كما سمعه الفراء من قضاعة.
وأصحاب هذا القول والقراءة هم: روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن ابن مسعود، وابن عباس، وعبد الله بن الزبير، وهشام بن عروة، وزر بن حبيش، وسعيد بن جبير، والضحاك وغيرهم، وهي قراءة ابن كثير والكسائي وأبو عمرو الداني من القراءات المشهورة اليوم. [يفرق بين أصحاب القول وأصحاب القراءة، وتخريج القراءات يكون من كتب القراءات]
ويلاحظ أن بعض الصحابة والتابعين قد روي عنهم القراءتين، ولا مانع من أن يكون قد تلقى القراءتين عن الرسول أو الصحابة.

والقراءتان لا تعارض بينهما يلزم اختيار أحدهما، بل هما متوافقتان وكلاهما يصح إطلاقهما على الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو ليس ببخيل ولا بمتهم، وترجيح العلماء بين القراءتين من باب تقديم الأفصح والأنسب لا بأن أحد القراءتين غير صحيح، وقد قد الطبري قراءة (بضنين) بالضاء لأنها المخطوط عليها في المصاحف، حتى مع إمكان قراءتها بغير المكتوب فإن المكتوب أولى بالتقديم، وقال الفراء عن هذا القول: (فلو كان مكان: على ـ عن ـ صلح أو الباء كما تقول: ما هو بضنين بالغيب.).
ولذلك قال أصحاب القراءة بالظاء بأن على تقوي قراءتهم، كما يقال: ما انت على فلان بمتهم، وقد رجح أبو عبيدة [أبو عبيد] هذه القراءة، لأن قريشاً لم تبخّل الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يأتي به، فإن السورة مكية، وإنما كذبته، فقيل في الآية رداً عليهم: ما هو بمتهم.
وما ترجح لي هو أن قراءة (ظنين) أقوى، لأنها معنى يعم معنى القراءة الأخرى كذلك، فالرسول صلى الله عليه وسلم ليس بمتهم ويدخل فيه عدم اتهامه بالبخل بالوحي، فهي تنفي كل اتهام باطل يتهم به عليه الصلاة والسلام، بالإضافة إلى الأسباب السابق ذكرها.
[لا يصح الترجيح بين القراءات الصحيحة، والمتقدمون معذورون لأنه في زمنهم لم يكن قد استقر أمر القراءات ولم تشتهر القراءات الصحيحة كما هو في زمننا.
أما في زمننا وبعد استقرار الأمر فلا يصح هذا الترجيح، بل كلاهما ثابت صحيح، وبمجموعهما يضاف لمعنى الآية، ويتبين لنا وجها من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم.
وابن جرير علل ترجيحه بأن قراءة " ضنين " الثابتة في المصحف، وقراءة " ظنين " مخالفة لرسم المصحف.
ومطابقة رسم المصحف شرط من شروط صحة القراءة، ولكن القراءات المتواترة ( مثل قراءة ظنين ) لا تحتاج لهذا الشرط، وراجعي للتفصيل شرح مقدمة التسهيل لابن جزي، للشيخ مساعد الطيار]



2: قول أبي العالية الرياحي في تفسير قول الله تعالى: {إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم} قال: (قال: إنما هم هؤلاء النصارى واليهود الذين كفروا، ثم ازدادوا كفرًا بذنوب أصابوها، فهم يتوبون منها في كفرهم).
التخريج:

أخرج ابن جرير الطبري هذا الأثر من طريق ابن أبي عدي، عن داود، أنه سأل أبا العالية.
وهناك آثار أخرى لأبي العالية في نفس الآية ولها نفس المعنى بألفاظ أخرى، وجميعها رواها داود بن أبي هند عن أبي العالية، وفيما يلي عرض للآثار بأسانيدها: [لأن جميعها تدور حول داوود بن أبي هند، مع اختلاف في اللفظ، فيكفي ذكر الراوي عنه، دون ذكر الأسانيد كاملة]
1. قال ابن أبي حاتم: حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، ثنا أبو خالدٍ، ثنا داود، عن أبي العالية قوله:
ثمّ ازدادوا كفرًا قال: (هم اليهود والنّصارى أذنبوا في شركهم، ثم تابوا لم يقبل منهم ولو تابوا من الشّرك قبل منهم).
2. قال بان المنذر: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا، قَالَ: حَدَّثَنَا محمد بْن حيوية، قَالَ: حَدَّثَنَا مسدد، قَالَ: حَدَّثَنَا يزيد بْن زريع، عَنْ داود، عَنْ أبي العالية، قَالَ: (إِنَّمَا أنزلت فِي اليهود والنصارى، أَلا ترى لقول: {كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} بذنوب أذنبوها، وكانت زيادة فِي كفرهم، ثُمَّ ذهبوا يتوبون من تلك الذنوب)، فَقَالَ اللهُ جَلَّ وَعَزَّ: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} قَالَ " لو كانوا عَلَى هدى قبل توبتهم، ولكنهم عَلَى ضلالة ".
3. قال الطبري: حدّثت عن عمّارٍ، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية، قوله: {إنّ الّذين كفروا بعد إيمانهم ثمّ ازدادوا كفرًا} قال: (هم اليهود والنّصارى يصيبون الذّنوب فيقولون نتوب وهم مشركون، قال اللّه عزّ وجلّ: لن تقبل التّوبة في الضّلالة)، والذي حدث الطبري مجهول.
4. قال الطبري: حدّثنا ابن المثنّى، قال: حدّثنا عبد الأعلى، قال: حدّثنا داود، قال: سألت أبا العالية عن هذه الآية: {إنّ الّذين كفروا بعد إيمانهم ثمّ ازدادوا كفرًا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضّالّون} قال: (هم اليهود والنّصارى والمجوس، أصابوا ذنوبًا في كفرهم فأرادوا أن يتوبوا منها، ولن يتوبوا من الكفر، ألا ترى أنّه يقول: {وأولئك هم الضّالّون})، ولعل لفظة (المجوس) زائدة، لأن المجوس ليسوا أهل كتاب، وإيمانهم بعقيدتهم إيمان غير مقبول، سواء كان قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم أو بعده، وجميع الآثار الأخرى عن أبي العالية ذكرت اليهود والنصارى فقط، والله أعلم.
5. قال أبو العالية في قوله: {لن تقبل توبتهم}: تابوا من بعضٍ، ولم يتوبوا من الأصل، رواه ابن جرير الطبري وابن المنذر من طريق سفيان الثوري عن داود بن أبي ليلى [هند] عن أبي العالية.

تحرير المسألة:
وقول أبو[أبي] العالية يتطرق إلى ثلاث مسائل في الآية، الأول: من هم الذين كفروا بعد إيمانهم، والثانية: متعلق ازدادوا كفراً، والثالثة: سبب عدم قبول توبتهم، والمسائل مرتبطة ببعضها؛ ولذلك ذكرها بعض أهل العلم معاً، ولكني سأفصل بينهم لتتوضح كل مسألة على حدة.
وفي المسألة الأولى أقوال لأهل العلم:
1. هم اليهود الذين آمنوا بموسى عليه السلام وكفروا بعيسى، روي هذا القول عن قتادة، وقال ابن عطية: (وفي هذا القول اضطراب، لأن الذي كفر بعيسى بعد الإيمان بموسى ليس بالذي كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فالآية على هذا التأويل تخلط الأسلاف بالمخاطبين)، وفي القرآن خاطب سبحانه وتعالى اليهود في مواضع عديدة بأنهم قتلوا الأنبياء وغيرها من الأمور التي زاولها آبائهم ولم تقترفها أيديهم، ولكن لما عكفوا على نفس دين آبائهم مقرين لأفعالهم أعتبرهم سبحانه وتعالى مشاركين لآبائهم في هذا الذنب، ويمكن حمل هذه الآية على نفس المحمل فهم لما رضوا بكفر آبائهم بعيسى كانوا هم كذلك كافرين به وإن لم يلقوه ويسمعوا دعوته، والله أعلم.
2. هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين آمنوا برسلهم، ويدخل فيه إيمانهم بالرسول صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، ثم كفرهم به بعد مبعثه، روي هذا القول عن أبو العالية، الحسن، وقد رجحه ابن جرير الطبري غير أنه خصصه في اليهود دون النصارى، لأن الآيات قبله وبعده نزلت في اليهود، والسياق واحد. [غير أن قول الحسن مختلف عن قول أبي العالية في تعيين علة عدم قبول التوبة، فينبغي توضيح ذلك]
3. أن الآية نزلت في المرتدين الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ثم عادوا للكفر ثم أسلموا ثم كفروا، وهذا القول أخرجه البزار عن ابن عباس، وقال السيوطي عن الأثر: هذا خطأ من البزار، وقال ابن كثير: إسناده جيد، والله أعلم. [إذا اطلعتِ على قول البزار في مصدر أصيل فهو الفيصل بين السيوطي وابن كثير، وينبغي بيان ما إذا كان مصدركِ مصدر أصيل أم نقلا عن ابن كثير والسيوطي وعدم إطلاق القول: أخرجه البزار]
4. أن الآية عامة في كل كافر أشرك بالله في عبادته وقد أقرّ بأنه خالقه موجده، نسب الثعلبي هذا القول لمجاهد، وهذا القول عندي ضعيف؛ لأن الإيمان اعتقاد بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح، واعتقادهم بأنه سبحانه وتعالى الخالق الرازق مخالف لعملهم وإشراكهم، فإيمانهم ليس بصحيح ليتم تسميته بإيمان، ولفظة (بعد) تدل على أن شيئاً سابق لشيء، وهم قد اعتقدوا بأنه الخالق الرازق مع إشراكهم معه غيره في العبادة في نفس الوقت، والله أعلم.
ولعلي أميل إلى قول الطبري، ولكنها وإن كانت نزلت في اليهود لا مانع من أن يدخل معهم غيرهم لاتفاقهم في الحال والوصف، فالنصراني من الممكن أن يؤمن بالنبي الذي بشر به كتابهم ثم لما يعرفه ويؤمر باتباعه يكفر به، وكذلك المرتد عن الدين الإسلامي حاله كحال اليهودي والنصراني في معرفته الحق ثم جحده إياه وتركه له مع إقامته على الكفر حتى موته، فالقاسم المشترك بين الجميع هو إيمانهم وتصديقهم في أول الأمر، ثم كفرهم بعد ظهور ما آمنوا به على طريقة تخالف هواهم وما أرادوه، وبقوا على ذلك الكفر حتى الموت.

وفي المسألة الثانية أقوال لأهل العلم:
1. ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والفرقان، روي هذا القول عن قتادة.
2. ازدادوا كفراً بالذنوب التي أذنبوها وهم كافرون، روي هذه القول عن رفيع، وأبو العالية، [رفيع هو أبو العالية] وهو الذي رجحه الطبري لأنه سبحانه قال: {وهو الّذي يقبل التّوبة عن عباده}، فلا يمكن أن يقول إنه يقبل ولا يقبل، فهذا يدل على أن هذه التوبة الغير [أل التعريف لا تدخل على "غير"] مقبولة غير تلك التوبة المقبولة، فالتوبة المقبولة تكون للتائب من الشرك ومن المعاصي مع وجود الإيمان، أما التوبة الغير مقبولة هي التوبة من الازدياد في الكفر بعد الكفر، أي: التوبة من الذنوب التي يقترفها الكافر، وذلك لأنه سبحانه لا يقبل من مشرك عمل ما دام على شركه.
3. ازدادوا كفراً بإقامتهم على كفرهم حتى موتهم، روي هذا القول عن مجاهد، والسدي.
وجميع هذه الأقوال متقاربة، فإنه كما يقول علماء العقيدة بأن الإيمان يزيد وينقص، فلا يوجد حالة يكون فيها الإيمان ثابتاً، فكذلك الكفر يزيد بالمزيد من التكذيب كما في القول الأول، ويزيد بالذنوب التي يقترفونها حال كفرهم، ويزداد ببقائهم على الكفر، فيكذب بكل آية تأتيه، فيزداد كفراً، والله أعلم.

وفي المسألة الثالثة أقوال لأهل العلم:
1. لن تقبل توبتهم عند الموت وحضوره، روي هذا القول عن الحسن، وقتادة، والسدي، وقد استبعد الطبري هذا القول قائلاً (ولا خلاف بين جميع الحجّة في أنّ كافرًا لو أسلم قبل خروج نفسه بطرفة عينٍ أنّ حكمه حكم المسلمين في الصّلاة عليه والموارثة، وسائر الأحكام غيرهما)، وقد قال سبحانه وتعالى في كتابة: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن) فإذا لم تقبل توبة العاصي فالأولى ألّا تقبل توبة المشرك، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) رواه الترمذي وغيره، وقال: حديث حسن غريب، والله أعلم.
2. لن تقبل توبتهم من ذنوبهم وهم مقيمون على الشرك والكفر، فهم تابوا من الفرع دون الأصل، روي هذا القول عن رفيع، وأبو العالية، وهو الذي رجحه الطبري.
3. لن تقبل توبتهم من كفرهم الأول قبل إيمانهم برسلهم، روي عن ابن جريج، وقال ابن جرير هذا قول لا معنى له، وذلك لأنهم لم يوصفوا بكفر ثم إيمان ثم كفر ثم زيادة في الكفر ليقال بأن المراد من التوبة هي توبتهم من كفرهم الأول، بل وصفوا بإيمان ثم كفر ثم زيادة في الكفر كما هو ظاهر من نص القرآن الصريح والذي لا يصار إلى معنى باطن خاص فيه إلا بقرينة وحجة، فيكون حينذاك المعنى الخاص هو الأولى.
ولعل الراجح هو القول الثاني، فإن في هذه الآية لم يأت ذكر الموت بخلاف الآية التالية التي جاء فيها ذكر الموت، فدلّ هذا على المغايرة، فسقط بذلك القول الأول عندي وإن كان صحيحاً في نفسه، والقول الثالث واضح الضعف كما بين الطبري رحمه الله.
[قول ابن جريج: لن يقبل إيمانهم الأول، قبل كفرهم، والمقصود أن الكفر أحبط ما كان من عمل[



3: قول سعيد بن جبير في الصاحب بالجنب قال: (الرفيق في السفر).
التخريج:

روى عبد الرزاق، وأبو حذيفة النهدي في تفسير سفيان الثوري [أبو حذيفة راوي الكتب، فتكون النسبة لصاحب التفسيري سفيان الثوري، أي نقول: رواه سفيان الثوري في تفسيره، ومخرج الأثر هو مرزوق أبو بكير] ، والطبري، وابن المنذر، وابن أبي حاتم الأثر من طريق سفيان الثوري عن أبي بكير مرزوق مولى الشعبي عن سعيد بن جبير أنه قال في قوله تعالى: (والصاحب بالجنب) الرفيق في السفر، ما عدا ما رواية ابن المنذر وابن أبي حاتم قال فيها: (الرفيق الصالح).

تحرير المسألة:
وفي المسألة ثلاثة أقوال لأهل العلم:
1. الرفيق في السفر، روي هذا القول عن: ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، وعكرمة، والسدي، والضحاك.
2. الزوجة، روي هذا القول عن: ابن مسعود، وعلي، وإبراهيم النخعي، وأبي الهيثم، وعبد الرحمن بن أبي ليلى.
3. الملازم لك رجاء نفعك، فهو يجالسك في الحضر، ويصاحبك في السفر، روي هذا القول عن: ابن عباس، وزيد بن أسلم، وابن زيد. [مع التفريق بين لفظ كل منهم]
والآية تحتمل جميع الأقوال، فإن الصاحب بالجنب في اللغة هو الذي بجنبك وبجوارك، فيدخل فيه كل من كان بجنبك سواء كان بجنبك بعض الوقت كالرفيق في السفر، أو أغلب الوقت كالزوجة، أو كل الوقت أو أغلب أغلبه كالملازم لك رجاء نفعك، فجميعهم لهم حق على من جانبوه، ولا يوجد في الآية ما يمنع حملها على المعاني جميعها، وقد روى عبد الله بن عمرو بن العاص عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنّ خير الأصحاب عند اللّه تبارك وتعالى خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند اللّه خيرهم لجاره)، وهذا في حق الأصحاب بشكل عام، فكيف بحق من كان بجنبك؟. [يحسن هنا تخريج هذا الحديث وذكر حكمه من حيث الصحة والضعف]



4: قول سعيد بن المسيّب في قول الله تعالى: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} قال: (إنما ذاك في الصلاة).
التخريج:

رواه ابن جرير الطبري عن ابن جريج أنه قال: وأخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد قال: صلّيت الصّبح مع سعيد بن المسيّب، فلمّا سلّم الإمام ابتدر النّاس القاصّ، فقال سعيدٌ: ما أسرعهم إلى هذا المجلس، قال مجاهدٌ: فقلت: يتأوّلون ما قال اللّه تعالى، قال: وما قال؟ قلت: {ولا تطرد الّذين يدعون ربّهم بالغداة والعشيّ}، قال: (وفي هذا ذا؟ إنّما ذاك في الصّلاة الّتي انصرفنا عنها الآن، إنّما ذاك في الصّلاة).
ومن هذا الأثر يتبين لنا أن بعض الناس كان يفهم الآية بغير المراد منها، فهم فهموا المراد بالذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، أنهم الذين يحضرون المجالس وحلق الذكر، ولعل سبب هذا الفهم أن هذه الآية كان سبب نزولها أن جماعة من أشراف قريش قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم أن يطرد الفقراء الضعفاء من حلقته فإن فعل وعدوه بسماع حديثه، وذلك لئلا تعيب عليهم العرب جلوسهم مع العبيد والسفهاء في نظرهم، كما في رواه مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا. قال وكنت أنا وابن مسعود، ورجل من هذيل، وبلال، ورجلان لست أسميهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع فحدث نفسه فأنزل الله عز وجل: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه "، فقال البعض بأن الذكر في الغداة والعشي هي المجالس التي كانوا يحضرونها، وهذا خطأ فإنه سبحانه وصفهم بصفة هي السبب في نهيه سبحانه النبي عليه الصلاة والسلام عن طردهم من جالسه، وذلك بأنهم يدعون ربهم بالغداة والعشي، وهي الصلاة على قول سعيد بن مسيب وغيره، وغيرها من الأقوال كما سأذكر لاحقاً. [لم يتضح لي وجه الخطأ، أهو تخطئة للقول بأن المراد بالدعاء في الآية الذكر؟ فهذه التخطئة لا تصح، أرجو التوضيح]
وقد قيل بأن سبب النزول هو أن جماعة من أشراف الناس قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم إذا آمنوا به عليه أن يؤخر الذين يصلوا معه من الفقراء فيصلوا خلفهم، كما قال ابن جرير الطبري: (حدّثني محمّد بن سعدٍ، حدّثني أبي قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {وكذلك فتنّا بعضهم ببعضٍ} الآية، فهم أناسٌ كانوا مع النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم- من الفقراء، فقال أناسٌ من أشراف النّاس: نؤمن لك، وإذا صلّينا فأخّر هؤلاء الّذين معك فليصلّوا خلفنا)، وهذا السند مسلسل بالضعفاء فلا يصح، والصحيح هو الأول.

تحرير المسألة:
وفي المراد بـــ(يدعون ربهم بالغداة والعشي) أقوال لأهل العلم:
القول الأول: الصلوات المكتوبة، روي هذا القول عن ابن عباس، وابن عمر، وسعيد بن مسيب، وإبراهيم، ومجاهد، والحسن وقد زاد مع المحافظة عليها في الجماعة، والضحاك، وعبد الرحمن بن أبي عمرة، وعامر، وعبد الرحمن بن أبي ليلى.
-ومنهم قال هي صلاة الصبح وصلاة العصر، روي عن مجاهد، وقتادة، وقيل: العشي هو العشاء كما ذكر عن عمرو بن شعيب، ولعل سبب هذا القول يعود إلى إن الصلاة في أول الأمر كانت ركعتين في الغداة وركعتين في العشي، ويشهد لذلك قول مجاهد: (الصّلاة المفروضة: الصّبح والعصر)، فلا يقال بأن الصلاة المفروضة هي الصبح والعصر فقط، ولا يقول بذلك أحد، فعلم أن المقصود هو أن الصلاة المفروضة في ذلك الوقت هما هاتين الصلاتين.
-ومنهم قال هي الصلوات الخمس الفرائض، روي عن إبراهيم، وإن كانت الآية نزلت خاصة بأولئك، فإن حكمها عام لجميع المسلمين من بعد، وقد فرضت الصلاة فيما بعد واستقرت على الخمس الصلوات المفروضة.
والقول بأنها الصلاة المفروضة يجمع هذين القولين، ففي مكة كانت الصلاة المفروضة ركعتين في الغدي وركعتين في العشي، وبعد رحلة الإسراء والمعراج أصبح الصلوات المفروضة الصلوات الخمس.
وقد فسر أهل هذا القول دعائهم بالصلاة لأن الصلاة في اللغة الدعاء، وقد ورد في القرآن ما يدل على أن الصلاة تطلق ويراد بها الدعاء في بعض المرات كما في قوله تعالى: (...وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) أي: أدع لهم.

القول الثاني: أهل الذكر، روي هذا القول عن إبراهيم ومنصور، فهم يذكرون الله في جميع أحوالهم بالغداة والعشي، والذكر دعاء في حقيقة أمره، فهذا القول أخذ الآية على وجهها، وفي إحدى الروايتين عن إبراهيم في هذا القول قال: (لا تطردهم عن الذكر)، ولعله لم يرد من هذا القول أن يفسر الدعاء في الغداة والعشي، بل أراد الإشارة إلى ما لا يجب طردهم منه، وهو مجالس الذكر كما في سبب نزول الآية، والله أعلم.
القول الثالث: العبادة، روي هذا القول عن الضحاك، قال: في قوله تعالى: (يدعون ربّهم بالغداة والعشيّ) قال: (يعني: يعبدون، ألا ترى أنّه قال: (لا جرم أنّما تدعونني إليه)، يعني: تعبدونه)، ولعلمي القاصر لم أفهم استدلاله بهذه الآية، ولعلي استدل بما اعلمه وأفهمه من قوله تعالى: (وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين)، فالدعاء عبادة.
القول الرابع: قراءة القرآن، وهذا القول روي عن أوب جعفر، وفي حقيقته ورد في قوله تعالى: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي)، والآيتان مختلفتان في سبب النزول مما يسبب اختلاف في المراد من الدعاء بالغداة والعشي، فقد روى ابن جرير الطبري عن أبي جعفر في قوله تعالى: (واصبر نفسك مع الّذين يدعون ربّهم بالغداة والعشيّ) قال: (كان يقرئهم القرآن النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم)، والله أعلم.

ومما سبق يتبين لنا أن الأقوال السابقة جميعها تنقسم إلى قسمين:
1. قسم يكون فعلهم مقيد بوقت الغدو والعشي فقط، وهو القول بأن المراد به صلاة الصبح وصلاة العصر أو صلاة العشاء، أي: صلاة أهل مكة قبل فرض الصلوات الخمس، فقد كانت صلاة في النهار وصلاة في الليل، فيكون المراد بالغدو العشي الوقت المحدد.
2. قسم يكون فعلهم فيه مستمر في جميع الأحوال غير مقيد بالغداة والعشي فقط، بل يراد به استمرار الفعل طوال الوقت، فهم يعمرون الغدو والغشي وما بينهما جميعاً، كما نقول الحمد لله بكراً وأصيلاً، أي: في جميع الأحوال والأوقات، وهذا القسم يدخل فيه جميع الأقوال الأخرى من الصلوات الخمس المتفرقة في جميع اليوم، والذكر والدعاء والعبادة وقراءة القرآن.

وعلى هذا يترجح لي بأن المراد من (يدعون ربهم بالغداة والعشي) أي يعبدونه ويمجدونه ويعظمونه في جميع أحوالهم، ويدخل في هذا عبادتهم له بالدعاء والذكر باللسان، وبالصلاة بالبدن، وغيرها من العبادات الخالصة لله وحده على تنوعها واختلافها التي تملئ اليوم والليلة، وهذا هو دعاء العبادة ودعاء المسألة معاً اللذان تحتملها الآية، ملا مانع من حملها عليهما جميعاً.



5: قول إبراهيم النخعي في تفسير المراد بسوء الحساب: (هو أن يحاسب الرجل بذنبه كله، لا يغفر له منه شيء).
التخريج:

رواه الطبري من طريق الحجاج بن أبي عثمان، عن فرقد، عن إبراهيم النخعي أنه سأل فرقد فقال: يا فرقد أتدري ما سوء الحساب؟ قلت: لا، قال: هو أن يحاسب الرّجل بذنبه كلّه، لا يغفر له منه شيءٌ.
ورواه ابن وهب المصري والطبري ايضاً من طريق حماد بن سلمة عن فرقد عن إبراهيم أنه قال: (أن يحاسب بذنبه، ثم لا يغفر له)، وفي رواية الطبري: (سوء الحساب أن يحاسب من لا يغفر له).
وفرقد قد قال عنه الأئمة النقاد أنه ضعيف الحديث، وقال بعضهم منكر الأحاديث أيضاً، فقد قال البخاري عنه: (في حديثه مناكير، منكر الحديث جدا، ليس بشيء)، وإن كان رجل صالح عابد في نفسه كما قال البعض.
وقد روى سعيد بن منصور أثراً عن إبراهيم في معنى سوء الحساب فقال: (حدّثنا سعيدٌ، قال: نا خلف بن خليفة، عن رجلٍ، عن إبراهيم، قال: {سوء الحساب}: أن يأخذ عبده بالحقّ)، وفي السند رجل مجهول، فضعف الأثر بذلك.
[مخرج الأثر هو فرقد، وانتُقد في ضبطه، وليس في عدالته]
تحرير المسألة:
وفي المسألة قولان:
1. أن يحاسب المرء على كل ما أقترفه من الذنوب لا يتجاوز عن شيء منها، وهو قول مروي عن إبراهيم النخعي كما تبين سابقاً، وشهر بن حوشب، وهو قول راويهما أيضاً فرقد السبخي، وروي كذلك عن ابن زيد، وأخرجه ابن المنذر وأبو الشيخ عن الحسن كما نقله السيوطي في الدر المنثور.
2. أن يناقش الحساب وبه يكون شديداً، ومن نوقش الحساب فقد عذب كما في الحديث، وهذا القول مروي عن أبي الجوزاء من طريق جعفر بن سليمان عن عمرو بن مالك عنه، ومروي عن سعيد بن جبير كذلك.

ولعل فهم معنى الحديث الذي روته عائشة يوضح القول الثاني ويقربه، فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نوقش الحساب عذب) قالت: قلت: (أليس يقول الله تعالى فسوف يحاسب حسابا يسيرا) قال: (ذلك العرض) رواه البخاري، ففي الحديث تفسيران لعذاب من نوقش الحساب:
الأول: أن المناقشة نفسها عذاب له، وبهذا لا يلزم أن يكون من يناقش العذاب من الكفار، فقد يناقش المسلمين المكثرين من الذنوب، فيكون مناقشتهم الحساب كعذاب لهم يكفر به سيئاتهم، فكما هو معلوم أن كل عذاب وألم وتعب في الدنيا يكفر السيئات، فإن بقيت سيئات عذب في القبر، فإن بقيت سيئات كانت عرصات يوم القيامة شديدة عليه تكفيراً لسيئاته، ومنها مناقشته الحساب التي تعتبر من العذاب كما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم: (من نوقش الحساب عذب) فيغفر بها للمؤمن ولا يغفر بها للكافر لإشراكه وكفره بالله الذي لا يغفره سبحانه وتعالى على هذا المعنى، فإن بقيت سيئات دخل النار بقدر معاصيه ثم يخرج منها، أو يتجاوز الله عنه فينجيه منها. [هذا الفهم يحتاج إلى دليل؛ فالحديث أسلوب شرط فيه أن فعل الشرط هو مناقشة الحساب، وجوابه العذاب، فإذا حصلت المناقشة ترتب على ذلك العذاب، وفي الحديث درجة أخرى وهي الحساب اليسير (العرض) وواضح من نص الحديث التفريق بين المناقشة والعرض]
الثاني: أن من نوقش الحساب فإن مصيره العذاب اللاحق في النار وأنه هالك، ويؤيد هذا المعنى الرواية الأخرى للحديث: (من نوقش الحساب يهلك)، ولا مانع من أن يعذب مرتين عند مناقشة الحساب وفي النار لاحقاً، ولا يغفر له بها لأنه كافر على هذا القول، وهذا يوافق القول الأول في المسألة بان لا يتجاوز عن شيء من ذنوبه.
وينبغي أن أنبه هنا إلى أن (سوء الحساب) وردت في موضعين في سورة الرعد الأول من باب الذكر مصير الكفار وعذابهم، والآخر من باب ذكر صفات المؤمنين أنه يخافون سوء الحساب في موضعين متتالين، قال تعالى: ﴿لِلَّذِينَ ٱسۡتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱلَّذِينَ لَمۡ يَسۡتَجِيبُواْ لَهُۥ لَوۡ أَنَّ لَهُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعاً وَمِثۡلَهُۥ مَعَهُۥ لَٱفۡتَدَوۡاْ بِهِۦٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ سُوٓءُ ٱلۡحِسَابِ وَمَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ ۞أَفَمَن يَعۡلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ كَمَنۡ هُوَ أَعۡمَىٰٓۚ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ ٱلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ ٱلۡمِيثَٰقَ وَٱلَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦٓ أَن يُوصَلَ وَيَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ وَيَخَافُونَ سُوٓءَ ٱلۡحِسَابِ﴾ [الرعد: 18-21]، ولعل القول الأول أنسب للكافر الذي لم يستجب لله بتاتاً، فلا يغفر له شيء من ذنوبه، بل يعذب بها جميعاً، فإن الكفر مانع لمغفرة الذنوب الأقل منه، أما القول الثاني فيناسب المسلمين العاصين، فهو سبحانه وتعالى يناقشهم سيئاتهم ولا يسترها ويتعداها دون مناقشة كما يفعل مع المؤمنين الأعلى مرتبة، وكذلك يناسب الكافرين على القول الآخر في معنى الحديث.
وبهذا يتبين ما ترجح لي من أن هناك نوعين من سوء الحساب، وأن سوء الحساب بالنسبة للكافرين مختلف عن سوء الحساب بالنسبة للمسلمين، وإن كان المسلمين المؤمنين يخافون الإثنين، فيخافون أن يتحولوا عن الإيمان إلى الكفر، ويخافون أن يناقشوا الحساب ولا يستر عليهم ويتجاوز عنهم، والله أعلم.

[أحسنتِ، الإشارة إلى ورود كلمة " سوء الحساب " في موضعين.
للزجاج قول لم تشيري إليه وهو أن سوء الحساب هو ألا تُقبل منهم حسناتهم، وألا تُغفر لهم سيئاتهم، وهذا يناسب حال المؤمنين الذين يؤتون ما آتوا من الخير وقلوبهم وجلة ألا يقبلوا، ولا مانع من الجمع بين الأقوال كما ذكرتِ]


بارك الله فيكِ ونفع بكِ.
لديكِ ملكة جيدة في التحرير وتوجيه الأقوال، فواصلي التدرب عليها والاستزادة من الاطلاع على كلام المفسرين والاستفادة من أساليبهم.
وواصلي التدرب على تعيين مخرج الأثر وتخريج الأقوال.
وأنصحكِ كذلك بدراسة متن في النحو لتجنب بعض الأخطاء اللغوية.
التقويم: ب+
زادكِ الله توفيقًا وسدادًا ونفع بكِ الإسلام والمسلمين.


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
مجلس, أداء

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 07:03 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir