372 - وَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلاةِ الْجُمُعَةِ سُورَةَ الْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِينَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
373 - وَلَهُ عَن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كانَ يَقْرَأُ فِي العِيدَيْنِ وَفِي الْجُمُعَةِ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}، وَ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} .
ــ
مُفْرَدَاتُ الْحَدِيثِ:
سَبِّحْ: فِعْلٌ أَمْرٌ مِنْ (التَّسْبِيحِ)، وَهُوَ تَنْزِيهُ اللَّهِ تَعَالَى عَن النقصِ والعيبِ، وَهُوَ تَنْزِيهٌ يُثْبِتُ ضِدَّهُ من الكمالِ والجلالِ.
اسْمَ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ زائدٌ؛ لأَنَّ الَّذِي يُسَبَّحُ هُوَ الرَّبُّ، وَالتَّقْدِيرُ: (سَبِّحْ رَبَّكَ) فَالتسبيحُ وَارِدٌ عَلَى المُسَمَّى.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الاسْمَ هُوَ المُسَمَّى، والراجحُ الأَوَّلُ، وَلَكِنْ زِيَادَاتُ الْقُرْآنِ تَكُونُ لفائدةٍ، وَمِنْهَا: التوكيدُ.
الأَعْلَى: مَجْرُورٌ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِـ (رَبِّ)، وَالكسرةُ لا تَظْهَرُ عَلَى آخِرِهِ، لِلتَّعَذُّرِ، وَهُوَ اسْمُ تَفْضِيلٍ مُحَلًّى بِـ (أل)؛ لِيُفِيدَ الْعُلُوَّ المُطْلَقَ لِلذَّاتِ وَالصفاتِ.
هَل: اسْتِفْهَامٌ يُرَادُ بِهِ التحقيقُ؛لأَنَّهَا مُتَضَمِّنَةٌ مَعْنَى التَّقْدِيرِ.
أَتَاكَ: الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا خُوطِبَ بِهِ فَهُوَ خِطَابٌ لأُمَّتِهِ.
حَدِيثُ: النَّبَأُ، وَحَدِيثُهَا:مَا جَاءَ فِي نَفْسِ السُّورَةِ منْ أخبارِ الْفَرِيقَيْنِ، وَمَا جَاءَ مِنْ وَصْفِ الجَزَاءَيْنِ.
الْغَاشِيَةِ: الغَشْيُ هُوَ: الإغماءُ، وَمَا يُصِيبُ مِنْ فُتُورِ الأَعْضَاءِ، وَتَعَطُّلٍ لِقُوَى الإرادةِ والحركةِ منْ أَثَرِ شِدَّةِ الصدمةِ، وَالْمُرَادُ هُنَا: (يَوْمُ الْقِيَامَةِ) الَّذِي يُصِيبُ النَّاسَ بِأَهْوَالِهِ، فَيَفْقِدُونَ وَعْيَهُمْ وَإِحْسَاسَهُمْ، فَتَرَاهُمْ سُكَارَى، وَمَا هُمْ بِسُكَارَى، وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ.
مَا يُؤْخَذُ مِنَ الحَدِيثَيْنِ:
1 - اسْتِحْبَابُ الجهرِ فِي صَلاةِ الْجُمُعَةِ، وَلَوْ كَانَتْ صَلاةً نَهَارِيَّةً، وَذَلِكَ لِجَمْعِهَا الْخَلْقَ الْكَثِيرَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْمَعُوا الْقُرْآنَ مِمَّنْ يُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ.
2 - اسْتِحْبَابُ قِرَاءَةِ سُورَة ِ (الْجُمُعَةِ) فِي الركعةِ الأُولَى، وسورةِ (المُنَافِقِينَ) فِي الركعةِ الثَّانِيَةِ، كُلُّ ذَلِكَ بَعْدَ الفاتحةِ.
3 - أَمَّا الْحَدِيثُ رقمُ (373) فَيَدُلُّ عَلَى الجهرِ فِي صَلاةِ الْجُمُعَةِ، وصلاةِ العيدِ.
4 - يَدُلُّ عَلَى استحبابِ قِرَاءَةِ سُورَةِ الأَعْلَى فِي الركعةِ الأُولَى من الْجُمُعَةِ والعيدَيْنِ، وسورةِ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} فِي الركعةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ الفاتحةِ فِيهِمَا.
5 - قَوْلُهُ: (كَانَ يَقْرَأُ الْجُمُعَةَ وَالْمُنَافِقِينَ)، وَقَوْلُهُ: (كَانَ يَقْرَأُ سَبِّحْ وَالْغَاشِيَةَ) ـ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ (كانَ) لا يُرَادُ بِهَا الدوامُ، وَإِلاَّ لَتَعَارَضَ الحَدِيثَانِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ أَكْثَرَ قِرَاءَتِهِ فِي هَذِهِ السُّوَرِ الأربعِ، تَارَةً هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ، وَتَارَةً السُّورَتَيْنِ الأَخِيرَتَيْنِ.
6 - مناسبةُ سُورَةِ الْجُمُعَةِ فِي صَلاةِ الْجُمُعَةِ ظَاهِرَةٌ، ففيها الحثُّ عَلَى هَذِهِ الشعيرةِ الكبيرةِ، وَالْحَضُّ عَلَى الإتيانِ إِلَيْهَا، وَإِلَى ذِكْرِ اللَّهِ فِيهَا، وَتَرْكِ مَا يَشْغَلُ عَنْهَا منْ أَعْمَالِ الدُّنْيَا وَلَهْوِهَا، وَلَوْ كَانَ مُبَاحاً نَافِعاً، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ مَا يَشْغَلُ ضَارًّا مُحَرَّماً؟! كَمَا أنَّ فِيهَا تَمْثِيلَ مَنْ عِنْدَهُ أسفارُ الْعِلْمِ النافعةُ، وَلا يَسْتَفِيدُ مِنْهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْحِمَارِ، الَّذِي يَحْمِلُ تِلْكَ الأسفارَ، وَلا يَنْتَفِعُ بِهَا، وَهُوَ مَثَلٌ يُضْرَبُ لِمَنْ يَأْتِي إِلَى الْجُمُعَةِ، وَلَكِنَّهُ يَشْتَغِلُ عَنْ سَمَاعِ الذِّكْرِ بالكلامِ، والانشغالِ بِمَا لا فَائِدَةَ فِيهِ.
7 - أَمَّا سُورَةُ الْمُنَافِقِينَ: فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ مُنَاسَبَتَهَا إِسْمَاعُهَا الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ لا يَحْضُرُونَ إِلاَّ لِهَذِهِ الصَّلاةِ فقطْ، وَلَكِنِّي أَرَى فِيهَا شَيْئاً منْ سُورَةِ الْجُمُعَةِ، حِينَمَا انْفَضَّ الْمُسْلِمُونَ: وَأَعْرَضُوا عَنْ سَمَاعِ الذِّكْرِ، حِينَمَا قَدِمَتِ الْعِيرُ، فَفِيهَا مَا يُنَبِّهُ عَلَى هَذِهِ الغَلْطَةِ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الْمُنَافِقُونَ: 9].
8 - فِي سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ أيضاً التحذيرُ منْ هَذَا الْخُلُقِ الذَّمِيمِ، وَهُوَ النِّفَاقُ، سَوَاءٌ كَانَ هَذَا النِّفَاقُ اعْتِقَادِيًّا، وَهُوَ النِّفَاقُ الأكبرُ المُخْرِجُ من المِلَّةِ، أَوْ كَانَ نِفَاقاً عَمَلِيًّا وَهُوَ النِّفَاقُ الأصغرُ، الَّذِي صَاحِبُهُ عَلَى خَطَرٍ كَبِيرٍ، إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِن المِلَّةِ.
9 - أَمَّا مناسبةُ سُورَة ِ (الأَعْلَى): فالأَعْلَى هُوَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ المُطْلَقِ فِي الذَّاتِ والصفاتِ، فَعُلُوُّ الذَّاتِ هُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَالٍ بِذَاتِهِ، فَوْقَ جَمِيعِ مخلوقاتِهِ، فَلَهُ الْعُلُوُّ المُطْلَقُ، فَلَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ، وَلا يُحِيطُ بِهِ شَيْءٌ، بَلْ هُوَ المحيطُ بِكُلِّ شَيْءٍ، العَالِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَلَوْ أَحَاطَ بِهِ شَيْءٌ، أَوْ كَانَ فَوْقَهُ أَوْ سَاوَاهُ شَيْءٌ، لانْتَفَى عَنْهُ الْعُلُوُّ المطلقُ، وَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعُلُوِّ، فَقَدْ نَقَصَهُ، وَرَضِيَ لَهُ بِأَدْنَى الأَمْكِنَةِ، وَعُلُوُّ اللَّهِ تَعَالَى شَهِدَ بِهِ الْقُرْآنُ الكريمُ، والسُّنَّةُ المُطَهَّرَةُ، وإجماعُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالْعَقْلُ الكاملُ، وَالفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ.
10 - كَمَا بَيَّنَتْ هَذِهِ السُّورَةُ أَحْوَالَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالْجَزَاءَ فِيهَا، وَعَدَمَ الاغترارِ بالحياةِ الدُّنْيَا، وَبَيَّنَتْهَا سُورَةُ الغاشيةِ، فَقَد احْتَوَتْ عَلَى حَالَيِ الآخِرَةِ بالنعيمِ والجحيمِ، فَهَذَا وَجْهٌ جَمَعَ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ فِي الْمَوَاضِعِ الْعَامَّةِ، لِمُنَاسَبَةِ مُخَاطَبَةِ الجمهورِ، وَتَذْكِيرِهِمْ بِسُرْعَةٍ وَإِيجَازٍ عَنْ مَعَادِهِمْ.