دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > العقيدة الواسطية

 
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #8  
قديم 19 ذو الحجة 1429هـ/17-12-2008م, 11:53 PM
فاطمة فاطمة غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 758
افتراضي التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد

( وقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم في رُقْيَةِ المريضِ: (( رَبَّنا اللهَ الَّذي في السَّماءِ، تَقَدَّسَ اسْمُكَ، أَمْرُكَ في السَّماءِ وَالأَرْضِ، كَمَا رَحْمَتُكَ في السَّماءِ اجْعَلْ رَحْمَتَكَ في الأرْضِ، اغْفِرْ لَنا حُوبَنَا وخَطَايَانا، أَنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ، أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ، وشِفَاءً مِنْ شِفَائِكَ عَلى هذا الوَجِعِ؛ [ فَيَبْرَأَ ] [ حديث حسن ]، رواه أبو داود [ وغيره.(120)
وَقَوْلُهُ: (( أَلاَ تَأْمَنُوني وَأَنَا أَمِيْنُ مَنْ فِي السَّمَاءِ )). [ حديثٌ صحيحٌ )).(121)
وَقَوْلُهُ: صلى الله عليه وسلم (( وَالعَرْشُ فَوْقَ [ المَاءِ ]، واللهُ فَوْقَ العَرْشِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ )). [حديثٌ حسنٌ، رواهُ أَبو دَاودَ وغَيْرُهُ ]. (122)
وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم للِجَارِيَةِ: (( أَيْنَ اللهُ )). قالَتْ: في السَّمَاءِ. قالَ: (( مَنْ أَنا؟. قالَتْ: أَنْتَ رَسولُ اللهِ. قالَ: (( أَعْتِقْهَا فَإِنَّها مُؤِمِنَةٌ )). رواهُ مسلمٌ ).(123)

(120) قَولُهُ: ((فِي رُقْيَةِ الْمَرِيضِ)): إلخ. هذا الحديثُ، رواه أبو داودَ مِن حديثِ أبي الدَّرْداءِ قال: سمعتُ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- يقولُ: ((مَنِ اشْتَكَى مِنْكُمْ شَيْئًا فَلْيَقُلْ رَبُّنَا اللهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ)) الحديثَ، وأخرجَه النَّسائيُّ أيضًا مِن حديثِ أبي الدَّرْداءِ أنَّه أتاهُ رجلٌ يذكُرُ أنَّ أبَاه احتبس بولُه وأصابَتْه حصاةٌ فعلَّمه هذا فرقَاهُ بِها فَبَرَأ، هذا لفظُ النَّسائيِّ وقد رواهُ البيهقيُّ والحاكمُ والطبرانيُّ.
قَولُهُ: ((فِي رُقْيَةِ الْمَرِيضِ)): أَي القراءةُ على المريضِ مَن رقاهُ برقيةٍ إذا قَرأ عليهِ، ففيهِ دليلٌ على إِباحَةِ الرُّقْيَةِ لهذا الحديثِ وغيرِه، كمَا روى مسلمٌ وأبو داودَ مِن حديثِ عوفِ بنِ مالكٍ أنَّ رسولَ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((لاَ بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ تَكُنْ شِرْكًا))، وقَولُهُ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- وقد سُئِلَ عن الرُّقَى: ((مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعَهُ)) رواه مسلمٌ وأحمدُ وابنُ ماجةَ مِن حديثِ جابرٍ، وأمَّا ما رواه مسلمٌ في صحيحهِ من حديثِ جابرٍ أنَّ رسولَ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- نَهَى عنِ الرُّقَى، فالمرادُ بها الرُّقَى الَّتي تتضمَّنُ الشركَ وتعظيمَ غيرِ اللهِ، كغالبِ رُقَى الجاهليةِ، فلا يعارِضُ ما تقدَّم مِن الأحاديثِ في إباحَةِ الرُّقى، وقال السُّيوطيُّ: قد أجمعَ العلماءُ على جوازِ الرُّقَى عند اجتماعِ ثلاثةِ شروطٍ:
(1) أنْ تكونَ بكلامِ اللهِ أوْ بأسمائِهِ وصفاتِه.
(2) أنْ تكونَ باللِّسَانِ العربيِّ وما يُعْرَف معناهُ.
(3) أنْ يعتقدَ أنَّ الرُّقْيَةَ لا تؤثِّرُ بذاتها بل بتقديرِ اللهِ. انتهى.
قَولُهُ: ((رَبُّنَا اللهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ)): فيه إثباتُ العلوِّ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- على الخَلْقِ، وفسَّرَ قَولَهُ سُبْحَانَهُ: ((فِي السَّمَاءِ)) بتفسيرينِ:
الأوَّلِ: أنَّ في بمعنى على، فقَولُهُ في السَّمَاءِ، أي على السَّمَاءِ، كقَولِهِ -سُبْحَانَهُ- وتعالى: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا)، وقَولُهُ: (فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ) أي عليها.
الثَّاني: أنَّ المرادَ بالسَّمَاءِ: العلوُّ، فقَولُهُ: ((في السَّمَاءِ))، أي العلوُّ، والسَّمَاءُ كلُّ ما علاَكَ وأظلَّك، فهو -سُبْحَانَهُ- في جِهَةِ العلوِّ.
قَولُهُ: ((تَقَدَّسَ اسْمُكَ)): أي تنَزَّه مِن التَّقْدِيسِ، وهو التَّنـزيهُ عما لا يليقُ، فأسماؤه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- مُنَزَّهَةٌ عنِ العيوبِ والنقائِصِ، وعنْ تأويلِ المحرِّفين وتشبيهِ الممثِّلين.
قَولُهُ: ((أَمْرُكَ فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ)): أي أمْرُك الكونيُّ الْقَدَرِيُّ، وأمرُكَ الدينيُّ الشِّرعِيُّ، فأمرُه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- ينقسمُ إلى قِسمينِ:
الأوَّلِ: أمرٌ كونيٌّ قَدَرِيٌّ كقَولِهِ سُبْحَانَهُ: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ)، وقَولُهُ سُبْحَانَهُ: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) الآيةَ‍.
الثَّاني: الأمرُ الدِّينيُّ الشَّرعيُّ كقَولِهِ سُبْحَانَهُ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ) الآيةَ، فأمرُه -سُبْحَانَهُ- الكونيُّ نافِذٌ لا رادَّ له، في السَّمَاءِ والأرضِ فلا رادَّ لأمرِه ولا معقِّبَ لحُكْمِه.
قَولُهُ: ((كَمَا رَحْمَتُكَ فِي السَّمَاءِ)): فيه إثباتُ صفةِ الرَّحمةِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- كما يليقُ بجلالِه.
قَولُهُ: ((أَنْزِلْ رَحْمَةً مِن رَحْمَتِكَ)): فيه إثباتُ العلوِّ، وهذه الرَّحْمَةُ مخلوقَةٌ، فإنَّ الرَّحْمَةَ المضافةَ إليهِ تنقسِمُ إلى قسمين: الأوَّلِ: رحمةٌ تضافُ إليه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- مِن بابِ إضافَةِ الصِّفَةِ إلى الموصوفِ، كقَولِهِ: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)، وقَولِهُ في الحديثِ: ((بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ)). الثَّاني: رحمةٌ تضافُ إليهِ -سُبْحَانَهُ- مِن بابِ إضافَةِ المخلوقِ إلى خَالِقِه، كَمَا قال في هذَا الحديثِ: ((أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ)) وكما في حديثِ: ((خَلَقَ اللهُ مِائَةَ رَحْمَةٍ)) وقَولُهُ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((قَالَ -سُبْحَانَهُ- لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ)) وقد تقدَّمَ الكلامُ على هذا البحثِ في الكلامِ على الآياتِ.
قَولُهُ: ((اغْفِرْ لَنَا حُوبَنَا)): هذا فعلُ دعاءٍ مِن الغَفْرِ، وهو السَّتْرُ ووقايةُ الأثَرِ، ومنه المغْفَرُ والجمعُ الغَفِيرُ.
قَولُهُ: ((حُوبَنَا)): الحُوبُ هو الإثمُ، ومنه قَولُهُ: (إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ).
قَولُهُ: ((وخطايانَا)): الخطايَا هي الذُّنوبُ والآثَامُ.
قَولُهُ: ((أَنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ)): جمْعُ طيِّبٍ، وخصَّهُمْ بالذِّكْرِ لما اتَّصفُوا بهِ مِن الطَّيبِ، ومعلومٌ أنَّه ربُّ كلِّ شيءٍ، ما يتَّصِفُ بالطِّيبِ والخُبْثِ وغيرِها، ولكنْ هذه ربوبيةٌ خاصَّةٌ بأنبيائِهِ وعبادِه الصَّالحينَ، لها اختصاصٌ على الرُّبُوبيَّةِ العامَّةِ للخلْقِ، فإنَّ مَن أعطاهُ اللهُ مِنَ الكَمَالِ أكثرَ مما أعطى غيرَه، فقد رَبَّهُ وربَّاه رُبُوبيَّةً وتربيةً أكملَ مِن غيرِه، فالرُّبوبيَّةُ تنقسم إلى قسمينِ:
الأوَّلِ: ربوبيةٌ عامَّةٌ، وهي لسائِرِ الخَلْقِ.
الثَّانِي: ربوبيةٌ خاصَّةٌ، وهي ربوبيةٌ لأنبيائِه وعبادِه الصَّالِحِين. وفي هذا الحديثِ إشارةٌ إلى التَّوَسُّلِ بربوبيَّتِه -سُبْحَانَهُ- للطَّيِّبينَ، وهذا التَّوسُّلُ الشرعيُّ، وهو التَّوسُّلُ بربوبيَّتِهِ -سُبْحَانَهُ- وأسمائِه وصفاتِه، وهذا التَّوسُّلُ مِن أعظمِ الوسائلِ للحصولِ على المقصودِ، ولاَ يكادُ يردُّ دعاءَ مَن توسَّلَ بها، فلهذا دعا اللهَ بعدَها بالشِّفاءِ الَّذي هو شفاءُ اللهِ الَّذي لا يدعُ مرضًا إلاَ أزَالَه، وفيه أنَّهُ ينبغي أن يأتيَ مِن صفاتِه في كلِّ مقامٍ بما يناسِبُه، كلفظِ الغفورِ عندَ طلبِ المغفرةِ، والرَّازِقِ عندَ طلَبِ الرِّزْقِ ونحوِ ذَلِكَ، والقرآنُ والأدعيةُ النبويَّةُ مملوءَةٌ بذلكَ.
قَولُهُ: ((عَلَى هَذَا الْوَجَعِ)): بكسرِ الجيمِ أي المصابُ بالمرضِ.

(121) قَولُهُ: ((أَلاَ تَأْمَنُونِي)): إلخ هذا الحديثُ أخرجَه في الصَّحِيحينِ عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ قال: بعثَ عَلِيٌّ مِن اليمنِ بِذُهيبةٍ في أديٍم مقروظٍ لم تحصلْ مِن ترابِها، فقسَّمَها رسولُ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- بين أربعةٍ: زيدِ الخيرِ، والأقرعِ بنِ حابسٍ، وعُيَيْنَةَ بنِ حِصْنٍ، وعلقمةَ بنِ علاثةَ أو عامِرِ بنِ الطُّفَيلِ (شكَّ عِمَارةُ) فوجَدَ مِن ذلكَ بعض الصَّحابةِ مِن الأنْصَارِ وغيرِهم، فقال رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((أَلاَ تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ، يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً)) أخرجَه البخاريُّ ومُسْلِمٌ.
قَولُهُ: ((أَلاَ تَأْمَنُونِي)): ألاَ: أداةُ استفتاحٍ.
قَولُهُ: ((وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ)): أي أمينُ اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- الَّذي في السَّمَاءِ على تبليغِ شرعِه ودينِه، قيلَ إنَّ القائِلَ للنَّبِيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- هو ذو الخويصرةِ اليمَنِيُّ، فاستأذنَه بعضُ الصَّحابة في قتلِه، فقال النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((دَعْهُ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا، - أي مِن جنسِه – قَوْمٌ تُحَقِّرُونَ صَلاَتَكُمْ مَعَ صَلاَتِهِمْ، وَقِرَاءَتَكُمْ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ)) الحديثَ، فأوَّلُ بدعَةٍ وقعت في الإسلامِ فتنةُ الخوارِجِ، وكانَ مبدؤُهم بسببِ الدُّنْيَا حين قَسَّم النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- غنائمَ حُنينٍ، فكأنَّهم رأوا في عقَولِهِم الفاسدةِ أنَّه لم يعْدِلْ في القِسْمَةِ، ففاجَئوه بهذهِ المقالَةِ، ثمَّ كانَ ظهورُهُمْ فِي أيَّامِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ فقتلَهُم في النَّهْرَوانِ، ثمَّ تشعَّبَتْ منهمْ شعوبٌ وآراءٌ وأهواءٌ ومقالاتٌ ونِحَلٌ كثيرةٌ منتشرةٌ، ثم حدَثتْ بعدَهم بدعةُ القَدَرِيَّةِ، ثم المعتزلةِ، ثم الجهميَّةِ، وغيرِ ذلكَ مِن البِدَعِ التي أخبرَ عنها الصَّادقُ المصدوقُ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- في قَولِهِ: ((وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الأمَّةُ عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلاَ وَاحِدَةً)) قَالُوا: وَمَا هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي)) أخرجَهُ الحاكمُ في مستدرَكِهِ، أفادَ هذا الحديثُ فوائِدَ:
أوَّلاً: ما كان عليه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- مِنَ الصَّبرِ والتَّحَمُّلِ لأذى المُنافقين.
ثانيًا: تركُ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- هذا المنافِقَ وغيرَه استبقاءً لانقيادِهم وتأليفًا لقلوبِهم، فإنَّه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- لمَّا استأذنَه بعضُ الصَّحابةِ في قتلِ بعضِ المنافقينَ قال: ((مَعَاذَ اللهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ)).
ثالثًا: فيهِ دليلٌ لِمَنْ لم يُكَفِّرُ الخوارِجَ، قال النَّوويُّ: ومذهبُ الشَّافِعيِّ وجماهيرِ أصحابِه وجماهيرِ العلماءِ أنَّ الخوارِجَ لا يُكَفَّرون، وكذلِكَ الْقَدَرِيَّةُ والمعتزِلَةُ وسائِرِ أَهْلِ الأهْوَاءِ. انتهى.
رابعًا: فيه دليلٌ على علوِّ اللهِ على خَلْقِه، فقَولُهُ: ((فِي السَّمَاءِ)) فُسِّرت "في" بمعنى على، أو أنَّ المرادَ بالسَّماءِ العلوُّ، ولا تنافِيَ بين التفسيرين، وقد تقدَّمَ، فليس معنى قَولِهِ ((فِي السَّمَاءِ)) أنَّ السَّمَاءَ تُظِلُّه أو تُقلُّه أو تحيطُ به أو تَحويهِ، فإنَّ هذا ما لا تُوجِبُه اللُّغةُ، وخلافُ ما فَطَر اللهُ عليهِ الخَلْقَ.
قالَ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ رحمه اللهُ في (الرِّسالَةِ الحمويَّةِ): ثم مَن توهَّم أنَّ كونَ اللهِ في السَّمَاءِ تحيطُ بِه وتحويهِ فهوَ كاذبٌ إنْ نقلَه عنْ غيرِه وضالٌّ إنِ اعتقَدَه في ربِّه، ومَا سمعنَا أحدًا يفهمُه مِن اللَّفْظِ، ولا رأيْنا أحدًا نَقَلَه عَن أحدٍ، ولو سُئِلَ سائرُ المسلمينَ هل يَفهمونَ مِن قولِ اللهِ ورسولِه أنَّ اللهَ في السَّمَاءِ أنَّ السَّمَاءَ تحويِه لبادَر كلُّ أحدٍ أنْ يقولَ هذا شيءٌ لعلَّه لم يخطُرْ ببالِنَا، وإذا كانَ الأمرُ هكذا فمِنَ التَّكلُّفِ أنْ يُجعل ظاهرُ اللَّفْظِ شيئا مُحَالاً لا يفهمُهُ النَّاسُ منه ثم يريدُ أنْ يتأوَّلَه، بلْ عندَ المسلمينَ أنَّ اللهَ في السَّمَاءِ وهو على العرْشِ شيءٌ واحدٌ، إذ السَّماءُ إنَّما يُراد بِه العلوُّ، فالمعنى أن اللهَ في العلوِّ لا في السُّفْلِ، وقد عَلِمَ المسلمونَ أنَّ كرسيَّه -سُبْحَانَهُ- وسِعَ السَّمَاواتِ والأرضَ، وأنَّ الكرسيَّ في العرشِ كحَلَقَةٍ ملقاةٍ في أرضٍ فلاةٍ، وأنَّ العرشَ خَلْقٌ مِن مخلوق اللهِ لا نسبةَ له إلى قُدْرَةِ اللهِ وعظمَتِه، فكيفَ يتوهَّمُ متوهِّمٌ بعدَ ذلِكَ أنَّ خلقًا يحصرُه أو يَحويِه، وقال اللهُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- عن فرعونَ: (لأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ)، وقال: (فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ) بمعنى على، ونحوِ ذلكَ، وهو كلامٌ عربيٌّ حقيقةً لا مجازًا. انتهى.

(122) قَولُهُ: ((وَالْعَرْشُ فَوْقَ ذَلِكَ)): إلخ: هذا الحديثُ رواهُ أبو داودَ وغيرُه مِن حديثِ العبَّاسِ بنِ عبدِ المطَّلِبِ، ولفظُ أبي داودَ عن العبَّاسِ بنِ عبدِ المطَّلِبِ قال: كنتُ في البطحاءِ في عصابَةٍ فيهم رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فمرَّت بهم سحابةٌ فنظرَ إليها فقال: ((مَا تُسَمُّونَ هَذِهِ؟)) قالوا: السَّحابَ، قال: ((وَالْمُزْنَ))، وقالوا: والمزنَ، قال: ((وَالْعَنَانَ))، قالوا: والعنانَ. قال أبو داودَ: لم أتقنْ جيِّدًا، قال: ((هَلْ تَدْرُون بُعْدَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ؟)) قالوا لا ندري، قال: ((إِنَّ بُعْدَ مَا بَيْنَهُمَا إِمَّا وَاحِدَةٌ أَوِ اثْنَتَانِ أَوْ ثَلاَثٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً ثُمَّ السَّمَاءُ فَوْقَهَا كَذَلِكَ، حَتَّى عَدَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ثُمَّ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ بَحْرٌ بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلاَهُ مِثْلُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، ثُمَّ فَوْقَ ذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أَوْعَالٍ بَيْنَ أَظْلاَفِهِمْ وَرُكَبِهِمْ مِثْلُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، ثُمَّ عَلَى ظُهُورِهِمُ الْعَرْشُ بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلاَهُ مِثْلُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ ثُمَّ اللهُ فَوْقَ ذَلِكَ)). ورواه أيضًا ابنُ ماجةَ والتِّرمذِيُّ وحسَّنَه، ورواهُ الحافِظُ ضياءُ الدِّينِ المقدسيُّ في المختارةِ.
قَولُهُ ((وَالْعَرْشُ فَوْقَ ذَلِكَ)): تقدَّم الكلامُ على العرشِ، أفادَ هذا الحديثُ عدَّةَ فوائدَ.
الأوَّلَ: إثباتُ العرشِ، وقدْ تكاثَرتِ الأدلَّةُ مِنَ الكتابِ والسُّنَّةِ على إثباتِه، وفيها الرَّدُّ على مَن نَفَى العَرْشَ وزعَمَ أنَّ معنى عرْشِهِ مُلْكُه وقُدرَتُه، ولا شكَّ في بُطلانِ ذلك، وفيه دليلٌ على أنَّ الْعَرْشَ فوقَ المخلوقَاتِ، وأنَّه ليسَ فوقَهُ مِن المخلوقاتِ شيءٌ، وفيه دليلٌ على أنَّ اللهَ في السَّمَاءِ مستوٍ على العرشِ، فلو كانَ في كلِّ مكانٍ لم يكنْ لهذا التَّخْصِيصِ معنًى، ولا فيه فائدةٌ، وفيه تفسيرُ الاستواءِ بالعلوِّ، كما فسَّره الصَّحابةُ والتابعونَ والأئمَّةُ، خلافًا للمعطِّلَةِ مِن الجهميَّةِ والمعتزِلَةِ ومَنْ أخَذَ عنهم مِن الأشَاعِرَةِ وغيرِهم ممَّن ألحْدَ في أسماءِ اللهِ وصفاتِه، وصرفَها عن المعنى التي وُضِعتْ له، ودلَّت عليه مِن إثباتِ صفاتِ اللهِ التي دلَّت على كلامِه جلَّ وعلا، وفيها إثباتُ فوقيَّتِه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- وعلوِّه على خلْقِه، وهذا الحديثُ صريحٌ في فوقيَّةِ الذَّاتِ، ففيه الردُّ على مَن زعم أن الفوقيَّةَ فوقيَّةُ رتبةٍ وشرفٍ، فإنَّ حقيقةَ الفوقيَّةِ علوُّ ذاتِ الشَّيءِ على غيرِه، وقد تقدَّم ذِكْرُ أنواعِ الفوقيَّةِ، فله -سُبْحَانَهُ- الفوقيَّةُ التَّامَّةُ والعلوُّ الكامِلُ المطلَقُ، هذا مذهبُ أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ، وبدَّعُوا وضلَّلوا مَن خالَفَهُ مِن الجهميَّةِ والمعتَزِلَةِ، وفي هذا الحديثِ إثباتُ علمِه المحيطِ بكلِّ معلومٍ، فلا تَخفى عليه خافيةٌ، وفيه الجمْعُ بينَ الإيمانِ بعلوِّه على خَلْقِه واستوائِه على عرْشِه وبين الإيمانِ بإحاطَةِ عِلْمِه بالموجوداتِ كلِّها، وقد جمعَ بين الأمرين في عدَّةِ مواضِعَ.

(123) قَولُهُ للجارية ((أَيْنَ اللهُ)): إلخ هذا الحديثُ رواه مسلمٌ مِن حديثِ معاويةَ بنِ الحَكَمِ السُّلَمِيِّ، وأخرجَه أبو داودَ، والنَّسَائِيُّ، وروى سببَه بألفاظٍ متعدِّدةٍ، وفي بعضِ ألفاظِه عن الحكمِ بنِ معاوِيَةَ السُّلَمِيِّ قال: اطَّلَعْتُ على غُنيمةٍ ترعَاها جاريةٌ لي قبلَ أُحُدٍ والجوَّانِيَّةِ فوجدتُ الذِّئبَ قد أصابَ منها شاةً وأنا مِن بني آدمَ آسَفُ كما يأسفونَ فصككتُها صكَّةً ثم انصرفتُ إلى رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فأخبرتُه فعظَّم ذلكَ علَيَّ، قال: قلتُ يا رسولَ اللهِ: أفَلا أَعْتِقُهَا؟ قال: ((بَلَى جِئْنِي بِهَا)) قال: فجئتُ بها رسولَ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فقالَ لها: ((أَيْنَ اللهُ؟)) قالت: في السماءِ، قال: ((مَنْ أَنَا؟)) قالت: أنتَ رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، قال: ((اعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ)).
قال الحافظُ الذَّهَبيُّ في كتابِ (العُلُوِّ): هذا حديثٌ صحيحٌ رواهُ جماعةٌ مِن الثِّقَاتِ، قالَ: وأخْرَجَه مسلمٌ، وأبو داودَ، والنَّسائيُّ، وغيرُ واحدٍ منَ الأئمةِ في تصانِيفهمْ، يَرُوونه كما جاءَ ولا يَتعرَّضونَ له بتأويلٍ ولا تحريفٍ، ثم بيَّنَ الذهبيُّ طُرَقهُ واختلافَ ألفاظِهِ.
هذا الحديثُ فيه فوائدُ:
أولاً: فيه جوازُ السُّؤالِ عن اللهِ بأينَ خلافًا للمبتدِعَةِ.
ثانيًا: فيه جوازُ الإشارةِ إلى العلوِّ، كما جاءَ صريحًا في حديثِ أبي هريرةَ الَّذي أخرجَه أبو داودَ في بابِ الأيمانِ والنُّذورِ فأشارتْ بأصبُعِهَا إلى السَّماءِ.
ثالثًا: فيه إثباتُ العلوِّ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالى، فإنَّ معنى قَولِهِ: ((فِي السَّمَاءِ)): أي على السَّماءِ، يعني على العرشِ، وقد تقدَّم الكلامُ.
رابعًا: فيه الدَّليلُ على أنَّ مَن شَهِدَ هذه الشهادةَ أنَّه مؤمنٌ.
خامسًا: فيه دليلٌ على أنَّه يُشترطُ في صحَّةِ العتقِ الإيمانُ.
سادسًا: فيه دليلٌ على أنَّ مَن شَهِدَ هذه الشَّهادةَ يُكتفَى في ذلكَ بإيمانِه ويُقبلُ منه ذلكَ، ولو لم يُذْكَرْ دليلٌ، فإنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قَبِلَ منها مجرَّدَ الشَّهادةِ بعلوِّ اللهِ ورسالَةِ رسولِه، خلافًا للمتكلِّمينَ الَّذين يقولونَ: لا بُدَّ مِن النَّظرِ والقصدِ إلى النَّظرِ أو الشَّكِّ، فإنَّ هذه أقوالٌ باطلةٌ، فإنَّ معرِفَة اللهِ -سُبْحَانَهُ- فِطريَّةٌ فَطَرَ اللهُ عليهَا عِبَادَه، كما في الحديثِ قال: ((كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ)). الحديثَ.
سابعًا: فيه دليلٌ عَلى أنَّ الاعترافَ بعلوِّ اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- وفوقيَّتِه مفطورٌ عليهِ الخَلْقُ مغروزٌ في نفوسِهمْ، وقدْ جرتْ عادَةُ المسلمينَ عامَّتِهم وخاصَّتِهم بأنْ يَدعوا ربَّهم عندَ الابتهالِ والرَّغبَةِ إليه، فيرفَعوا أيديَهُم إلى السَّماءِ وذلك لاستفاضَةِ العِلْمِ عندَهم بأنَّ ربَّهُم المدعوُّ في السَّماءِ، وقدْ تطابقَ أدلَّةُ العَقْلِ والنَّقلِ على إثباتِه.


 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الإيمان, بأن

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:42 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir