دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم القرآن الكريم > مكتبة التفسير وعلوم القرآن الكريم > جامع علوم القرآن > جمال القراء وكمال الإقراء

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 30 ربيع الأول 1431هـ/15-03-2010م, 11:22 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي الكتاب السابع: الطود الراسخ في المنسوخ والناسخ

الكتاب السابع: الطود الراسخ في المنسوخ والناسخ
الناسخ: هو الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه.
والمنسوخ: هو الحكم الزائل بعد ثباته بخطاب متقدم، بخطاب واقع بعده، متراخ عنه، دال على ارتفاعه على وجه لولاه لكان ثابتا.
[1/245]
وأما النسخ: فإنه زوال شرع بشرع متأخر عنه.
والنسخ في العربية: النقل، تقول: نسخت الكتاب: إذا نقلته، والإزالة يقولون: نسخت الشمس الظل: أي أزالته وحلت محله. وتقول أيضا: نسخت الريح الأثر. فهذه إزالة لا إلى بدل. ونسخ القرآن بمعنى الإزالة.
وقولنا: ناسخ ومنسوخ أمر يختص بالتلاوة. وأما المتلو فلا يجوز ذلك فيه وكذلك المجاز: أمر يختص بالتلاوة. وكلام الله عز وجل قديم، لم يزل موجودا، وكان قبل إيجاد الخلق غير مكتوب ولا مقروء، ثم بالإنزال كان مقروءا ومكتوبا ومسموعا، ولم ينتقل بذلك من حال إلى حال. كما أن الباري عز وجل قبل خلق العباد لم يكن معبودا وإنما عبد بعد إيجاد العباد ولم يوجب ذلك له تغيرا سبحانه.
وحكمة النسخ: اللطف بالعباد وحملهم على ما فيه إصلاح لهم، ولم يزل الباري عز وجل عالما بالأمر الأول والثاني، وبمدة الأول وابتداء مدة الثاني قبل إيجاد خلقه وتكليفهم ذلك ونقلهم عنه إلى غيره، وما زال عز وجل مريدا للأول إلى زمن نسخه، مريدا لإزالة حكمه إلى بدل أو إلى غير بدل، وكلامه صفة له لا تغيير فيه ولا تبديل.
وحقيقة التخصيص والاستثناء تخالف حقيقة النسخ؛ لأن التخصيص أن يجيء اللفظ عاما والمراد بعض متناولاته، فإذا أتى ما دل على أن المراد غير ظاهر اللفظ ظهر التخصيص. وقالوا في حده: إخراج بعض ما يتناوله الخطاب. ولأن الاستثناء صيغة دالة على أن المستثنى غير داخل في الخطاب فالتخصيص قريب من معنى الاستثناء، إلا أن الاستثناء لا يكون إلا بحرف دال على إخراج المستثنى. لهذا قالوا في حده: صيغة دالة، ودلالة التخصيص إما بنص آخر، أو بإجماع، أو قرينة.
[1/246]
فالتخصيص نحو قوله: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} بعد قوله: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} ولو كان هذا نسخا لكانت آية البقرة المراد بها الكتابيات. وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: آية المائدة ناسخة لآية البقرة. وقال قائلون: لا يصح هذا إلا أن تكون آية البقرة في المشركات من أهل الكتاب. وأقول: إن هذا الذي قالوه غير مستقيم؛ فإن قولنا نسخ وتخصيص واستثناء اصطلاح وقع بعد ابن عباس، وكان ابن عباس يسمى ذلك نسخا، ولو وقع الاصطلاح على تسمية جميع ذلك نسخا، ويكون النسخ على ثلاثة اضرب لم يمتنع لاجتماع المعاني الثلاثة في الإزالة للحكم المتقدم.
والناسخ يكون مدنيا لا غير، فإما أن ينسخ مكيا، أو ينسخ مدنيا نزل قبله. وقد تقدم ذكر المدني والمكي، ونزيد هنا فنقول:
كل سورة فيها "كلا" فهي مكية. وكل سورة افتتحت بالحروف فهي مكية إلا البقرة وآل عمران، واختلف في الرعد. وكل سورة فيها قصة آدم عليه السلام، وإبليس لعنه الله فهي مكية إلا البقرة. وما فيه ذكر المنافقين فهو مدني. وقيل: ما كان من السور فيه القصص والأنباء عن القرون فهو مكي. وما فيه فريضة أو حد فهو مدني. وقيل: ما فيه {يا أيها الذين آمنوا} فهو مدني. وما فيه {يا أيها الناس} ولم يكن فيه {يا أيها الذين آمنوا} فهو مكي.
وأما نسخ المكي المكي فلم يتفق عليه.
[1/247]
وقال العلماء: أول ما نسخ الصلاة إلى بيت المقدس، وهذا يدل على أن المكي ليس فيه منسوخ؛ لأن البقرة مدنية.
والنسخ إنما يكون في الأحكام ولا نسخ في الأخبار؛ لأن خبر الله عز وجل حق لا يصح أن يكون على خلاف ما هو عليه.
وليس في الفاتحة ناسخ ولا منسوخ.
[1/248]

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 30 ربيع الأول 1431هـ/15-03-2010م, 11:23 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي

سورة البقرة
وقد عد قوم من المنسوخ آيات كثيرة ليس فيها أمر ولا نهي، وإنما هي أخبار، وذلك غلط، نحو قوله عز وجل: {ومما رزقناهم ينفقون} زعموا أنها منسوخة بإيجاب الزكاة، وعدوا أيضا من الأوامر والنواهي جملة، فقالوا: هي منسوخة نحو قوله عز وجل: {وقولوا للناس حسنا}. وقوله عز وجل: {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} وذلك لا يصح ومتى كان للخطاب طريق في الحكم بأنه محكم كان أولى من حمله على أنه منسوخ، نحو قوله عز وجل: {فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره} فحمل هذا على أنه محكم أولى.
فأما قول عطاء في قوله عز وجل: {لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا} إنه ناسخ لما كانوا عليه من قولهم في الجاهلية والإسلام: راعنا سمعك: أي فرغه لنا، لما وجد اليهود بهذه الكلمة سبيلا إلى السب، لأنها في كلامهم سب، فليس ذلك بصحيح، ولو كان ذلك ناسخا لكان جميع ما أمرهم به من مكارم الأخلاق ومما يستحسن في القول والفعل ناسخا لما كانوا عليه، ولهذه الآية نظائر كثيرة، فكل ما قيل في ذلك بأنه ناسخ لعادة جرت أو شريعة تقدمت فهذه سبيله، فاعلم ذلك.
قوله عز وجل: {فول وجهك شطر المسجد الحرام} الآية، قالوا: هي
[1/249]
ناسخة للصلاة إلى بيت المقدس، قالوا: والصلاة إلى بيت المقدس أول ما نسخ، وهذا ليس بناسخ لقرآن، لأن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن بقرآن أنزل عليه. وقال ابن عباس رضي الله عنه: أول ما نسخ من القرآن شأن القبلة، قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله} فصلى النبي صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس، ثم صرف إلى البيت العتيق، فعلى هذا تكون الآية ناسخة لقوله سبحانه: {فأينما تولوا فثم وجه الله} لأنه سبحانه أباح له صلى الله عليه وسلم استقبال ما شاء من الجهات ثم نسخه بما ذكرنا. وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: نزلت في صلاة التطوع، يصلي حيث ما توجهت به الراحلة. وقيل: نزلت في قوم عميت عليهم القبلة فصلوا باجتهادهم إلى جهات مختلفة، فأعلموا أن صلاتهم جائزة.
وروى عامر بن ربيعة عن أبيه: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فتغيمت السماء وأشكلت علينا القبلة، فصلينا وعلمنا، فلما طلعت الشمس إذا نحن قد صلينا إلى غير القبلة فنزلت: {فأينما تولوا فثم وجه الله}.
ومن هذا قول الحسن البصري في قوله عز وجل: {الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} أنها نزلت في نسخ التراجع الذي كانوا يفعلونه إذا قتل الرجل امرأة كان أولياؤها بالخيار بين قتله مع تأدية نصف ديته، وبين أخذ نصف دية الرجل وتركه، وإن كان قاتل الرجل امرأة كان أولياء المقتول بالخيار بين قتل المرأة وأخذ نصف دية الرجل، وإن شاءوا أخذوا الدية كاملة ولم يقتلوها. قال: فنسخت هذه الآية ما كانوا يفعلونه، فإن كانت هذه الآية نزلت في ذلك فهي محكمة، ولا يقال إنها ناسخة لفعلهم، لأن فعلهم ذلك لم يكن بقرآن ترك، ولا هو حكم من أحكام الله عز وجل، ولا يقال أيضا لذلك الفعل الذي كانوا يفعلونه منسوخ؛ لأنه لم يكن حكما ثابتا بخطاب سابق لهذا الخطاب.
[1/250]
وعن ابن عباس أن هذه الآية منسوخة بقوله عز وجل في "المائدة": {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} فهذه أوجبت قتل الرجل بالمرأة، والمرأة بالرجل، والحر بالعبد والعبد بالحر، وليس هذا مما أصححه عن ابن عباس رحمه الله؛ لأن هذه الآية إنما هي إخبار من الله عز وجل بما أنزل في التوراة.
فإن قيل: فقد قال بعد ذلك: {ومن لم يحكم بما أنزل الله}. قلت: أراد سبحانه أن اليهود إذا خالفوا التوراة ولم يحكموا بها، وقد قال بعد ذلك: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} فأعلمنا سبحانه أن لنا شرعة تخالف شرعتهم، ومنهاجا يخالف منهاجهم.
قال الشعبي وغيره: آية البقرة نزلت في قوم اقتتلوا، فقتل بينهم جماعة كثيرة، وكانت إحدى الطائفتين تعاظمت على الأخرى وأرادت أن تقتل بالعبد منها الحر من الأخرى، وبالأنثى الرجل، فنزلت. ثم هي لمن أراد مثل ما طلبوا. قال هؤلاء: فهي محكمة. وليس هذا بصحيح؛ فإن الرجل يقتل بالمرأة عند عامة الفقهاء إلا ما ذكر عن عمر بن عبد العزيز والحسن البصري وعطاء وعكرمة، إلا أن يريدوا قتل الرجل الحر بالأمة فيكون قول الله عز وجل: {والأنثى بالأنثى} أي الأنثى من الإماء بالأنثى منهن. أي: لا يقتل بالأمة الرجل الحر، إنما يقتل بها أنثى مثلها، أو عبد مثلها، وفيه بعد، لأن قوله عز وجل: {والأنثى بالأنثى} يقتضي ألا يقتل أنثى إلا بأنثى. وقيل: إنهم أرادوا قتل امرأتين بامرأة، وقتل رجلين برجل فعلى هذا يصح معنى الآية.
وقال السدي وغيره: اقتتل فريقان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم في ديات قتلاهم: ديات النساء بديات النساء، وديات الرجال بديات الرجال. قال هؤلاء: فهي في شيء بعينه، وهي على هذا الحكم باقية لمن أتى بعدهم، وهي محكمة، وعلى هذا الذي ذكره يصح تأويل الآية ومعناها أيضا.
[1/251]
وذهب سعيد بن المسيب، والثوري، والنخعي، والشعبي، وقتادة، وأبو حنيفة وأصحابه إلى أن آية البقرة منسوخة بقوله عز وجل: {أن النفس بالنفس} فأجروا القصاص بين الحر والعبد، والذكر والأنثى، وقد مر الكلام على أنها منسوخة، وأن آية المائدة لا تصلح أن تكون ناسخة.
ومما عدوه ناسخا وليس كما قالوا قوله عز وجل: {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف} قالوا: هو ناسخ لما كان عليه بنو إسرائيل، أباح الله به العفو عن القاتل وأخذ الدية، ولم يكن ذلك لهم. والكلام في ذلك كما تقدم في قوله عز وجل: {لا تقولوا راعنا}.
وقوله عز وجل: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين} الآية، يجوز أن تكون منسوخة بآية الميراث وأن تكون محكمة: قالوا: كانت الوصية للوالدين والأقربين ثم نسخ ذلك. وقيل: معناها أن يوصى للوالدين والأقربين بإمضاء ما فرض الله لهم، وسوغه من مال الميت، وألا يتعدى حكم الله فيه، فتكون على هذا محكمة. قالوا: ومما يؤيد أنها منسوخة أنها نزلت قبل أن ينزل ما في "النساء".
وقال طاووس والحسن وغيرهما: هي محكمة. وقيل: بعضها منسوخ وهو قوله تعالى: {للوالدين} وبعضها محكم وهو {الوصية للأقربين} وممن قال ذلك
[1/252]
الشعبي والنخعي، واختاره الطبري، ويروي ذلك عن الحسن وعن قتادة والضحاك، وقال الضحاك: من مات ولم يوص للأقربين فقد ختم عمله بمعصية. وقال الحسن وطاووس: إذا أوصى بثلث ماله لأجنبي فلقرابته من ذلك الثلثان وللأجنبي الثلث.
وقال قوم في قوله عز وجل: {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم} إن الآية منسوخة، وإن المسلمين كانوا يقتدون بفعل أهل الكتاب في صومهم، فكانوا إذا ناموا حرم بعد نومهم أن يأكلوا أو يشربوا أو يقربوا النساء، وكذلك بعد صلاة العشاء الآخرة وإن لم يناموا، وليس هذا القول بشيء، وإنما المعنى: فرض عليكم الصيام كما فرض على الذين من قبلكم. أي: أوجبه الله تعالى عليكم كما أوجبه على الذين من قبلكم.
قال علي رضي الله عنه: أولهم آدم وجميع الأمم مفروض عليهم الصوم. وقال قوم: أراد بقوله: {أياما معدودات} يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر، كتب على رسول الله صلى الله عليه وسلم صيامها حين هاجر، ثم نسخ بشهر رمضان، وهذا غير صحيح؛ لأنه بين الأيام المعدودات بقوله عز وجل: {شهر رمضان}. وأما قوله عز وجل: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين) قيل: إنها منسوخة، وكانوا: من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا عن كل يوم، ثم نسخ ذلك بقوله عز وجل: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}. وقد قيل إنها محكمة، وقوله: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} يريد: من أفطر
[1/253]
لمرض ثم صح فأطاق القضاء فلم يقض حتى أدركه فرض الصوم لعام آخر فإنه يصوم الذي أدركه فإذا فرغ منه قضى الذي فاته وأطعم عن كل يوم مدا، وأما من اتصل به المرض فلم يطق أن يقضي حتى جاء الصوم الآخر، فإنه يقضي. إذا أطاق بعد ذلك ولا إطعام عليه، وهذا القول قول زيد بن أسلم وابن شهاب ومالك رحمه الله في رواية ابن وهب عنه.
ويجوز – والله أعلم – أن تكون محكمة، ويكون معنى قوله: {وعلى الذين يطيقونه} أي الذين يتعمدون الفطر من غير عذر فإنهم يلزمهم إطعام ستين مسكينا، أو العتق، أو صوم شهرين. والسنة بينت الإطعام وزادت العتق والصيام.
وليس التأويل الأول: كانوا من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم – بمتفق عليه بين الصحابة – إنما ذلك قول معاذ بن جبل رحمه الله، وقد خالفه ابن عباس وأبو بكر الصديق رضي الله عنه، وقرأ: (وعلى الذين يطوقونه) بضم الياء وفتح الطاء وتشديد الواو. وقال ابن عباس رحمه الله: نزلت في الكبيرين اللذين لا يقدران على الصوم والمريض، وعلى هذه القراءة أيضا عائشة رضي الله عنها وعطاء وابن جبير وعكرمة. وعن مجاهد: (يطوقونه) بفتح الواو وتشديد الطاء والواو، أي يتكلفونه. ومعنى الأولى يكلفونه على جهد وعسر، ولو كانوا في صدر الإسلام على ما قيل من التأويل الأول لمنع شهرة ذلك من وقوع هذا الخلاف.
وأنا أذكر بعون الله الآيات التي قيل إنها منسوخة ولها وجه تحمل عليه فتكون محكمة.
[1/254]
من ذلك قوله عز وجل: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا} قيل: هي منسوخة نزلت في قتال من قاتل، ونسخها الأمر بقتال المشركين. وهي محكمة؛ على أن قوله سبحانه: {ولا تعتدوا} أي: لا تعتدوا فيقتل الصبيان والنسوان ومن لا قدرة له على القتال كالشيخ الفاني والراهب الذي لا يقاتل.
وقوله عز وجل: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه} قال قتادة: هي منسوخة بقوله عز وجل: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} أي شرك. وبقوله: {وقاتلوا المشركين كافة}. وقيل: إنها ناسخة لقوله عز وجل: {واقتلوهم حيث ثقفتموهم} ثم نسخت بقوله عز وجل: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم}، فصارت – أعني آية البقرة ناسخة لآية النساء منسوخة بآية التوبة، وهذا معدوم النظير. وقيل: ليست آية البقرة بناسخة ولا منسوخة، وإنما هي مخصوصة بالنهي عن القتال في الحرم، ولا يحل القتال فيه إلا لمن قاتل، قال ذلك مجاهد وطاووس. وأكثر العلماء على وجوب قتال المشركين أينما كانوا بآية التوبة، والتوبة نزلت بعد البقرة بمدة متطاولة.
[1/255]
قوله عز وجل: {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} قال مجاهد: هي محكمة، والمعنى: فمن اعتدى عليكم في الحرم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم. فأباح أن تقاتل في الحرم من قاتلك، ولا يحل أن تبدأه بالقتال فيه وهو حكم ثابت عنده إلى الأبد. وعن ابن عباس أنها منسوخة، وقد نسخ اعتداء من اعتدى عليه برد أمره إلى السلطان، فلا يقتص بيده، إنما يقتص له السلطان.
قالوا: قال ابن عباس: نسخها قوله عز وجل: {فقد جعلنا لوليه سلطانا} ولا يصح ذلك عن ابن عباس، لأن " سبحان" مكية باتفاق، والمكي لا ينسخ المدني.
قوله عز وجل: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله} قيل: هو منسوخ بقوله عز وجل بعد ذلك: {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه} قال كعب بن عجرة الأنصاري: لما نزلنا الحديبية مر بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أطبخ قدرا لي والقمل يتناثر على رأسي، فقال: يا كعب لعلك يؤذيك هوام رأسك، فقلت: نعم، فقال: احلق رأسك، ونزل: {فمن كان منكم مريضا..} الآية.
وقال قوم: الآية محكمة، ولم يكن قوله عز وجل: {ولا تحلقوا رءوسكم} متناولا للمريض ولمن به أذى من رأسه.
قوله عز وجل: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه} قال ابن عباس
[1/256]
وقتادة والضحاك وابن المسيب والأوزاعي: هي منسوخة بآية السيف، إذ أباحت قتالهم في كل مكان وزمان. وقال مجاهد وعطاء: هي محكمة، ولا يجوز القتال في الأشهر الحرم، والعلماء على خلاف ذلك.
فإن قيل: فقد قال الله عز وجل: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} فهذا يؤيد قول عطاء ومجاهد، وكيف تكون هذه الآية ناسخة لآية البقرة، وإنما أباحت قتل المشركين بعد انسلاخ الأشهر الحرم؟.
فالجواب: أن الأشهر الحرم في براءة ليست هي التي قال الله عز وجل فيها: {منها أربعة حرم}، إنما هي أربعة أشهر أخر، وهي أشهر السياحة، أمر المؤمنون بقتل المشركين بعد انسلاخها حيث وجدوهم، وفي أي زمان لقوهم، وكان أولها بعد يوم النحر من ذلك العام. وأما الأشهر الحرم التي حرم الله فيها القتال ثم نسخ فهي: محرم، ورجب، وذو القعدة، وذو الحجة بغير خلاف، وإنما الخلاف في أنها من سنة أو من عامين، فأهل المدينة يجعلونها في عامين، يقولون: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب، وقال أهل العراق: أولها محرم فتكون من عام واحد.
وقوله عز وجل: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما}. قال بعض مؤلفي الناسخ والمنسوخ:
[1/257]
أكثر العلماء على أنها ناسخة لما كان مباحا من شرب الخمر، قال: لأن الله تعالى أخبرنا أن في الخمر إثما، وأخبرنا أن الإثم محرم بقوله عز وجل: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم} قال فنص على أن الإثم محرم، وأخبر أن في شرب الخمر إثما فهي محرمة بالنص الظاهر الذي لا إشكال فيه. قال: وما حرم كثيره فقليله حرام كلحم الميتة والخنزير والدم، وسورة البقرة مدنية فلا يعترض على ما فيها بما في "الأنعام" المكية في قوله عز وجل: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه} لأن هذا التحريم نزل بمكة، والخمر نزل تحريمها بالمدينة، وزادنا الله في تأكيد تحريم الخمر بقوله: {فهل أنتم منتهون}، فهذا تهديد ووعيد يدلان على تأكيد تحريم الخمر، وزاد ذلك بيانا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((حرمت الخمر بعينها والمسكر من غيرها))، وأكد الله تعالى ذلك وحققه بقوله: {فاجتنبوه لعلكم تفلحون} ، و(لعل) من الله واجبة، فضمن الفلاح مع اجتنابها، فنظيره الخسران مع مواقعتها وكما أنه تعالى حرم أكل الخنزير، وقليله ككثيره بإجماع، كذلك يجب أن يكون الخمر والميسر من غيرها، فقلتهما ككثرتهما في التحريم، وزاد لذلك بيانا (ما أسكر كثيره فقليله حرام). قال وقال ابن جبير: لما نزل: {قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس} كره الخمر قوم للإثم، وشربها قوم للمنافع حتى نزل: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} فتركوها
[1/258]
عند الصلاة حتى نزل: {فاجتنبوه لعلكم تفلحون} فحرمت بهذا، فهذا يدل على أن آية البقرة منسوخة بآية المائدة، والمائدة نزلت بعد البقرة بلا شك. وهذا سياق قول مكي بن أبي طالب في كتابه المسمى بـ "الموضح في الناسخ والمنسوخ".
وأقول مستعينا بالله: قوله إنها ناسخة لما كان مباحا من شرب الخمر يلزم منه أن الله عز وجل أنزل إباحتها ثم نسخ ذلك، ومتى أحل الله عز وجل شرب الخمر!، وإنما كان مسكوتا عنهم في شربها، جارون في ذلك على عادتهم ثم نزل التحريم، كما سكت عنهم في غيرها من المحرمات إلى وقت التحريم. وهذه الآية وما ذكر من الآيات الكل في التحريم كما جاء تحريم الميتة في غير آية.
وقوله: إن الله عز وجل أخبرنا أن في الخمر إثما، وأخبرنا أن الإثم محرما إلى قوله: فهي محرمة بالنص الظاهر الذي لا إشكال فيه – كلام لا وجه له، لأن الإثم هو الذنب، وإذا كان الذنب كبيرا أو كثيرا في ارتكاب شيء لم يجز ارتكابه، فكيف يسمعون قول الله عز وجل: {قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} ثم يقدمون عليها مع التصريح بالخسران إذ كان الإثم أكبر من النفع، بل هذا كاف في التحريم.
وقوله: فأخبر أن في شرب الخمر إثما، ونص على أن الإثم محرم بقوله: {والإثم والبغي} لا حاصل له؛ لأنه إن أراد أن الخمر هي الإثم، فكيف يقول: فنص على أن الإثم محرم، وأخبر أن في شرب الخمر إثما، فكيف تكون هي الإثم المحرم على هذا، وإن أراد بالإثم الذنب لم يحتج إلى شيء آخر، وإنما معنى آية "الأعراف": إنما حرم ربي الفواحش وما فيه الإثم، وكلامه كله فاسد إلى آخره.
وقوله: (لعل) من الله عز وجل واجبة ليس بصحيح، فقد قال عز وجل: {فقولا له
[1/259]
قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى}، وقد ألانا له القول {فكذب وعصى * ثم أدبر يسعى * فحشر فنادى * فقال أنا ربكم الأعلى} وإنما معنى قوله تعالى: {لعلكم تفلحون} فاجتنبوه راجين الفلاح، أو: فاجتنبوه وانووا إرادة الفلاح.
وأما قول ابن جبير: كره الخمر قوم للإثم، وشربها قوم للمنفعة وأي منفعة تبقى مع أن الإثم أكبر منها، فكيف يقدم مقدم على الانتفاع بشيء فيه وبال أكثر وأكبر من الانتفاع به، وأطرف من هذا قوله: تركوها عند الصلاة.
فاعلم أن الآية محكمة، غير ناسخة ولا منسوخة، وهي مصرحة بتحريم الخمر. وأما قول الله عز وجل: {تتخذون منه سكرا} فإن قلنا: السكر: الطعم، كما قال:

جعلت عيب الأكرمين سكرا
فلا كلام، وإن قلنا: إن السكر الخمر، فليس فيه دليل على الإباحة، لأنه عز وجل امتن عليهم بما ذكره من ثمرات النخيل والأعناب، ثم قال: تتخذون من المذكور سكرا ورزقا حسنا فنبه بقوله عز وجل: {ورزقا حسنا} على أن السكر ليس كذلك، وأشار فيه إلى ذم الخمر إن كان المراد بالسكر الخمر، وإن كان المراد بالسكر: الطعم، فهو سكر ورزق حسن، أي: تتخذون منه طعما تأكلونه رطبا، ورزقا حسنا، يعني التمر والزبيب، وزعموا أن قوله عز وجل: {منافع للناس} منسوخ بنسخ إباحة الخمر، وهذا ما أدري ما يقال فيه.
[1/260]
وقالوا في قوله عز وجل: {قل العفو} هي منسوخة بفرض الزكاة، وحكوا ذلك عن ابن عباس. والعفو: القليل الذي لا يظهر من المال نقصه. وقال طاووس: هو اليسير من كل شيء. وقال الحسن وعطاء: العفو ما لا يكون إسرافا ولا إقتارا. وقال مجاهد: العفو: الصدقة عن ظهر غنى. وقال الربيع: العفو: ما طاب من المال، وكذلك قال قتادة، وقال: قوم كانوا قبل فرض الزكاة قد فرض عليهم: من كان له مال أن يمسك لنفسه منه ألف درهم أو قيمة ذلك من الذهب ويتصدق بالباقي، وإن كانوا من أهل الزراعة أمسكوا ما يقيمهم حولا وتصدقوا بما بقي، ومن لم يكن له إلا العمل بيده أمسك ما يقوته يومه وتصدق بما بقي، فشق ذلك عليهم، فأنزل الله عز وجل فرض الزكاة.
قلت: فلتكن آية الزكاة إذن ناسخة لا منسوخة، لأنها موافقة لقوله عز وجل: {قل العفو} لأنها نقيض ما كانوا فيه من الجهد واستفراغ الوسع، وهذه حقيقة العفو، كما قالوا: العفو: الأرض السهلة. والآية محكمة، فإن أريد بها الزكاة فذاك، وإن أريد التطوع فذاك.
قوله عز وجل: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} قيل: سبب نزولها أن مرثد بن أبي مرثد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليخرج ناسا من المسلمين، فقالت له عناق، وهي امرأة كان يخلو بها في الجاهلية: هل لك في الخلوة، فقال: حال بيننا الإسلام. قالت له: فتزوج بي، فقال: أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمره، فنزلت هذه الآية، فالآية على هذا محكمة، لأن نكاح الكفار غير أهل الكتاب محرم، وقيل: هي محكمة محرمة لنكاح المشركات والكتابيات اللواتي في دار
[1/261]
الحرب، ويروى ذلك عن ابن عباس. وقاله قتادة وابن جبير وأكثر العلماء، وعن ابن عمر أنها محكمة عامة في كل مشركة كتابية، حربية وغير حربية. وقيل: إنه إنما كره ذلك ولم يحرمه، لأن آية المائدة أباحت نكاح الكتابيات كلهن الحربيات والذميات، وقيل: هي عامة في الكتابيات كلهن، وهي منسوخة بآية المائدة، وكره بعض العلماء نكاح الحربيات ولم يحرمه، وروي مثل ذلك عن مالك، وحرمه جماعة منهم، وخصوا آية المائدة بالذميات. وآية المائدة عن أكثر العلماء عامة في كل كتابية، وعلى ذلك أكثر الصحابة والعلماء.
وأدخلوا في هذا الباب قوله تعالى: {ويسألونك عن المحيض} وقالوا: هي ناسخة لما كان عليه بنو إسرائيل من اجتناب الحائض على كل حال من مؤاكلة ومضاجعة وغير ذلك، فنسخ، فإنا لا نعتزلها إلا في الوطء خاصة، قالوا: وإنما أدخلنا ذلك في باب الناسخ والمنسوخ لقوله عز وجل: {فبهداهم اقتده} قالوا: فشريعتهم لازمة لنا حتى نؤمر بتركها. والصحيح أن مثل هذا لا يدخل في الناسخ والمنسوخ؛ لأنه لم ينسخ قرآنا، ولأن الحاجة إلى معرفة الناسخ والمنسوخ ألا نظن في منسوخ أنه محكم فنعمل به، وأما إذا لم تكن آية منسوخة تحتاج إلى بيان أنها منسوخة فلا وجه لذكر الناسخ لغير القرآن، ولا فائدة من ذكره، ولا يضرنا أن نجهل ما كان حرم على من كان قبلنا أو أحل لهم حتى يقال: نسخت هذه الاية ما كان عليه من قبلنا.
[1/262]
ومن ذلك قولهم: كان الرجل يؤلي من امرأته السنة وأكثر من ذلك، ولا تطلق عليه، فنسخ ذلك بقوله عز وجل: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر}.
ومن ذلك قولهم في قوله عز وجل: {الطلاق مرتان} وقالوا: هي ناسخة لشيء كانوا عليه في أول الإسلام: كان الرجل يطلق ثلاثا وهي حبلى، ويكون أحق بارتجاعها ما دامت في العدة، وقيل: هي ناسخة لما كانوا عليه في الجاهلية ثم في صدر الإسلام: كان أحدهم يطلق امرأته ما شاء مرة بعد مرة يطلقها، وإذا كادت تخرج من العدة ارتجعها بفعل ذلك ما شاء، فنسخ ذلك من فعلهم بهذه الآية، ولا تدخل هذه الآية في الناسخ لما ذكرته، وقيل: هي منسوخة بقوله عز وجل: {فطلقوهن لعدتهن} والآيتان محكمتان لم تنسخ واحدة منهما الأخرى: التي في البقرة لبيان عدة الطلاق، والتي في الطلاق فيها بيان وقت الطلاق.
وقوله عز وجل: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} قالوا: هي عامة في كل مطلقة، فنسخ منها غير المدخول بها والتي يئست من المحيض والحامل، قال ذلك قتادة، وليس كما ذكروا، وإنما أريد بالمطلقات المدخول بهن اللواتي يحضن، الخاليات عن الحمل، يدلك على ذلك قوله عز وجل: {ثلاثة قروء}.
[1/263]
ومن ذلك قوله عز وجل: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا} قال أبو عبيد: نسخ ذلك بقوله: {إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله} وهذا ظاهر الفساد، وهذا استثناء وليس بنسخ. وقال قوم: هو منسوخ بقوله عز وجل: {فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه} وليس كذلك، لأن آية البقرة في منع الزوج من ارتجاع ما أعطاه من غير رضى المرأة، والتي في النساء في إباحة ذلك إذا كان عن رضى فليس بينهما نسخ.
ومن ذلك قولهم في قوله عز وجل: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} إنه منسوخ بقوله عز وجل: {فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما} وليس كذلك؛ فإنه تعالى قال: {لمن أراد أن يتم الرضاعة}.
ومن ذلك قوله عز وجل: {وعلى الوارث مثل ذلك}، اختلف في الوارث: فقيل: هو من يرث والد الرضيع، إذا مات قام ورثته مقامه، وكان عليهم للصبي ما كان على أبيه. وقيل: الوارث من يرث الصبي إذا مات. قال ابن عباس: على وارث الصبي من أجر الرضاع ما كان على أبيه إن لم يكن للصبي مال. وقال زيد بن ثابت: يلزم من يرث الصبي من النفقة على رضاعه بقدر حصته من ميراثه منه.
وروى سعيد بن المسيب وسلمان بن يسار أن رجلا مات وترك ابنا مسترضعا ولم يترك مالا، فقضى عمر رضي الله عنه أن رضاعه على ورثته بالحصص. وقيل:
[1/264]
الوارث: من يرث الولاية على الرضيع، ينفق من مال الصبي عليه مثل ما كان ينفق أبوه. وقيل: الإشارة في قوله عز وجل: {مثل ذلك} إلى ترك المضاررة. وقيل: الوارث: الصبي، لأنه وارث الأب، فعليه النفقة من ماله، أي أن نفقة الرضاعة على الصبي في ماله، قال ذلك الضحاك، واختاره الطبري. وقال مكي: وهو قول حسن، وما أراه كما قال. وعن مالك رحمه الله أن الآية منسوخة، قال: ولا يجب على الرجل نفقة أخ ولا ذي قرابة.
وليست الآية بمنسوخة، ولم يذكر مالك رحمه الله لها ناسخا.
ومن ذلك قوله عز وجل: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} قالوا: نسخ منها الحوامل بقوله عز وجل: (وأولات الحمل أجلهن أن يضعن حملهن) وهذا ليس بنسخ، والآية ليست في الحوامل، يدل على ذلك قوله عز وجل: {فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف} أي في ابتغاء الأزواج، والحامل ليس لها ذلك.
[1/265]
ومن ذلك قوله عز وجل: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج} قال جماعة: هي منسوخة بالتي تقدمت، وهي قوله عز وجل {يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} قالوا: نسخت هذه الحول، ونسخت آية الميراث النفقة عليها إلى الحول. وقال الربيع: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها أقامت إن شاءت حولا ولها السكنى والنفقة، فنسخ ذلك آية الميراث. وقال عبد الملك بن حبيب: كانت الحرة المتوفى عنها زوجها تخير بين أن تقيم في بيته وينفق عليها من ماله سنة وبين أن تخرج فلا يكون لها شيء من ماله، فنسخ ذلك بآية الميراث.
وليست هذه الآية بمنسوخة بالتي قبلها، لأن الناسخ يتأخر نزوله عن المنسوخ، فكيف يكون نزولها متأخرا ثم توضع في التأليف قبل ما نزلت بعده، ناسخة له من غير فائدة في لفظ ولا معنى!، واحتجوا لذلك بأن المكي قد يؤخر عن المدني في السور، وليس هذا مثل ذلك، وليس في تقديم السورة وتأخيرها شيء من الإلباس بخلاف الآيات.
وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف نسخت الآية المتقدمة المتأخرة؟ قلت: قد تكون الآية متقدمة في التلاوة وهي متأخرة في التنزيل، كقوله تعالى: {سيقول السفهاء} مع قوله: {قد نرى تقلب وجهك في السماء}. والذي قال غير صحيح، بل التلاوة على ترتيب التنزيل، وقد تقدم أن قوله عز وجل: {فول وجهك شطر المسجد الحرام} نزل بعد قولهم: {ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها} أي دم على ذلك {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره}، وقد قيل إن
[1/266]
أول ما نزل في ذلك قوله عز وجل: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله}، قيل: أعلم الله نبيه ما هم قائلون، فقال: إذا قالوا ذلك فقل لهم: {ولله المشرق والمغرب}. وقد تقدم أيضا قوله: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} فهذا يدل على ما قلناه من أن قوله عز وجل: {فول وجهك شطر المسجد الحرام} أمر بالدوام على ما كان أمره به من اتخاذ المقام مصلى، ثم إن هذه الآيات كلها في قصة بخلاف الناسخ والمنسوخ، ولم يقل أحد من المفسرين إن قوله عز وجل: {سيقول السفهاء} أنزل بعد قوله تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فول وجهك} الآية، وإنما وهم الزمخشري فظن أن الإخبار بما يكون بعد الشيء قبل وقوعه هو الواقع بعده، وهذا غلط بين، وإنما مثال هذا أن يقول الملك لمن يريد أن يوليه ناحية: سيطعن السفهاء في ولايتك، ثم يقول له بعد ذلك: تول ناحية كذا كذلك. قال الله تعالى: {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها} الآية، إخبارا بما سيكون بعد التولية، ثم قال سبحانه بعد ذلك: {قد نرى تقلب وجهك في السماء} الآية، وهذا واضح جدا، وقد خفي عليه فصار إلى ما صار إليه من تقدم الآية في التلاوة وتأخرها في الإنزال، وليس بهين أن تجعل كلام الله عز وجل بهذه المثابة.
بل أقول: إن الآية غير منسوخة بالتي تقدمت، بل معناها إن المتوفى عنها زوجها كانت لها متعة كما أن للمطلقة متعة، وكانت متعة المتوفى عنها زوجها أن تخير بعد انقضاء العدة بين أن تقيم إلى تمام الحول ولها السكنى والنفقة، وبين أن تخرج، يدل على صحة ذلك قوله سبحانه وتعالى: {متاعا إلى الحول غير إخراج} أي: لا تخرج إذا لم ترد، ثم قال تعالى: {فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف}، وأباح لها أن تخرج، ولو كانت العدة حولا لم يبح لها ذلك، ولم تكن مخيرة فيه، ومن لم يفرق بين هذا وبين قوله عز وجل: {يتربصن
[1/267]
بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم}، ويميز بين المكث الواجب كيف جاء بهذا اللفظ، وبين المكث الراجع إلى الاختيار كيف جاء باللفظ الآخر، فقد سلب آلة التمييز، بل الآية المتأخرة دالة على تقدم الأولى بقوله عز وجل: {فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف} أي: فإن اخترن الخروج بعد بلوغ الأجل المذكور في الآية المتقدمة فلا حرج. وقد قال مجاهد: إن الآية محكمة، ولها السكنى والنفقة من مال زوجها إن شاءت. وإن قلنا إن ذلك قد كان ثم بطل بأنه لا وصية لوارث، فذاك موافق لما عليه الجمهور، وأما أن نقول إنها منسوخة بما تقدمها فلا. وهذا الموضع من أقبح ما ذكروه في كتاب الله عز وجل. ثم ذكر بعد هذه المتعة الطلاق، فقال عز وجل عقيب هذه: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين}.
ومن ذلك قول ابن زيد في قوله عز وجل: {إلا أن تقولوا قولا معروفا} إنه منسوخ بقوله عز وجل: {ولا تعزموا عقدة النكاح} وليس كما قال، بل هي محكمة، والمراد بذلك التعريض بالنكاح.
ومن ذلك قوله عز وجل: {ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين}. قال ابن المسيب: وجبت المتعة لغير المدخول بها بهذه الآية، وبقوله تعالى في الأحزاب: {فمتعوهن وسرحوهن} قال: ثم
[1/268]
نسخ ذلك بقوله عز وجل: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} وهذا ليس بنسخ لذلك؛ لأن الأولى في التي لم يفرض لها، والثانية في التي قد فرض لها. وقال ابن المسيب أيضا: كانت المتعة واجبة بقوله عز وجل في سورة الأحزاب: {فمتعوهن وسرحوهن} ثم نسخت بآية البقرة، وهو قوله عز وجل: {حقا على المحسنين}، قال: ولم يقل: حقا عليكم، وهذا أيضا ليس كذلك، لأن قوله عز وجل {حقا على المحسنين} و{حقا على المتقين} لا يعارض قوله عز وجل: {فمتعوهن} ولذلك قال علي رضي الله عنه: المتعة واجبة لكل مطلقة، وإليه ذهب الحسن البصري والضحاك وابن جبير، وقال شريح هي مندوب إليها، فمتع إن كنت تحب أن تكون من المحسنين، ألا تحب أن تكون من المتقين، وقال ابن عباس رحمه الله وغيره: هي واجبة للتي لم يفرض لها إذا طلقت قبل الدخول، على الموسر خادم، ويمتع المتوسط بالورق، ودون المتوسط بالكسوة والنفقة، وكذلك قال قتادة. وليس الغرض إيراد المذاهب وإنما الغرض أن الآية غير منسوخة ولا ناسخة.
ومن ذلك قوله عز وجل: {لا إكراه في الدين} قال قوم: هي منسوخة بقوله عز وجل: {جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} والجمهور على أنها محكمة. قال ابن عباس رحمه الله: نزلت في أهل الكتاب، لا يكرهون إذا أدوا الجزية.
[1/269]
ومن ذلك قوله عز وجل: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} قالوا: هي ناسخة لما كانوا عليه من بيع المعسر فيما عليه من الديون، وقد قدمت أن مثل هذا لا يجمل أن يذكر في الناسخ، لأنه نقل عن فعل كانوا عليه بغير قرآن نزل فيه، ولا أمر من الله عز وجل، ولو كان ذا ناسخا لكان القرآن كله ناسخا، لأنه نزل في تغيير ما كانوا عليه وإبطاله.
ومن ذلك قوله عز وجل: {إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} إلى قوله عز وجل: {..... ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله} فأمر بالكتابة والإشهاد، قالوا: ثم نسخ جميع ذلك بقوله سبحانه وتعالى: {فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذين أؤتمن أمانته} وليس هذا بنسخ، وفيه بيان كون الأمر بالكتابة والإشهاد ليس على الوجوب. وذهب ابن عمر وابن عباس وأبو موسى الأشعري وجابر بن زيد وابن سيرين والضحاك وأبو قلابة وعطاء والشعبي وداود إلى وجوب الكتابة والإشهاد، وأوجبوا على رب الدين أن يكتب وأن يشهد إذا قدر على ذلك. قالوا: وأما قوله عز وجل: {فإن أمن بعضكم بعضا} فإنما ذلك عند عدم القدرة على الكتابة والإشهاد، وإذا عفا عن الرهن أو لم يجده. وقال الشعبي وعطاء: أشهد إذا بعت أو اشتريت بدرهم أو بنصف درهم أو بثلث درهم، وبهذا يقول الطبري، وعلى الجملة فالآية محكمة على كل حال.
[1/270]
ومن ذلك قولهم في قوله عز وجل: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} إنه منسوخ بقوله عز وجل: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} وليس في هذين ناسخ ومنسوخ، والنسخ لا يدخل في الأخبار.
ففي هذه السورة ثلاثون موضعا أدخلت في الناسخ والمنسوخ لم يقع الاتفاق على شيء منها، بل فيها ما لا يشك في أنه ليس بناسخ ولا منسوخ، ومستند قولهم في ذلك الظن لا اليقين، ولا يثبت ناسخ القرآن ومنسوخه بالظن والاجتهاد.
[1/271]

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 30 ربيع الأول 1431هـ/15-03-2010م, 11:24 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي

سورة آل عمران
ذكروا فيها أربعة عشر موضعا ليس منها موضع متفق على صحة النسخ فيه:
الأول: {فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله} قالوا: نسخها قوله عز وجل: {وجادلهم بالتي هي أحسن} وهذا ليس بنسخ، إذ يجوز أن يجمع بين الأمرين.
الثاني: {وإن تولوا فإنما عليك البلاغ} قالوا: نسختها آية السيف، والمعنى: فإنما عليك البلاغ وليس عليك الهداية، لأنه قال قبل ذلك: {فإن أسلموا فقد اهتدوا}.
الثالث: قوله عز وجل: {لا يتخذ المؤمنون...} قالوا: نسخ منها: {... إلا أن تتقوا منهم تقاة} بآية السيف، وليس كما قالوا. قال الحسن: إنما ذلك في الكفار إذا أكرهوا المؤمنين على الكفر فيتكلمون بذلك وقلوبهم كارهة. وقال قتادة: التقاة: أن تصل رحمك من الكفار من غير أن تواليهم على المسلمين. وقيل: نزلت في عمار بن ياسر رحمه الله لأنه خاف أن يقتله المشركون، فتكلم ببعض ما أحبوا، وفي حاطب بن أبي بلتعة حين كتب بأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كفار مكة ليرعوه في أهله وماله وقلبه مطمئن بالإيمان.
[1/272]
الرابع والخامس والسادس: من قوله عز وجل: {كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم..} إلى قوله: {.. ولا هم ينظرون}. قالوا نسخها قوله: {إلا الذين تابوا} وهذا ليس بناسخ ولا منسوخ.
السابع: قوله عز وجل: {آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا} قالوا: هو منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا صمت يوما إلى الليل)) وفساد هذا القول واضح.
الثامن: قوله عز وجل: {ولله على الناس حج البيت} قال السدي: منسوخ بقوله سبحانه: {من استطاع إليه سبيلا} وهذا أيضا باطل.
التاسع: قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته} قال قتادة: هي منسوخة بقوله عز وجل: {فاتقوا الله ما استطعتم}، وقال السدي وابن زيد والربيع بن أنس وجماعة من العلماء: ليس هذا بنسخ، والآيتان
[1/273]
معناهما واحد، والأمر بتقوى الله لا ينسخ، وقوله: {حق تقاته} أي ما أطقتم.
"قيل: يا رسول الله، ما حق تقاته؟ قال: ((أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر)). وقال ابن عباس: أن تجاهد في الله حق جهاده، ولا تأخذه فيه لومة لائم، وأن تقوم لله بالقسط ولو على نفسك أو أبيك، أو ابنك، وهذا كله لا ينسخ.
العاشر: قوله عز وجل: {لن يضروكم إلا أذى} قالوا: هي منسوخة بقوله عز وجل: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} وهذا أيضا فاسد.
الحادي عشر: قوله عز وجل: {ليس لك من الأمر شيء} قالوا: هو ناسخ للقنوت الذي كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم للدعاء على الكفار، وليس هذا شرط الناسخ؛ لأنه لم ينسخ قرآنا.
الثاني عشر: قوله عز وجل: {ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها} قالوا: هي منسوخة بقوله عز وجل: {عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد} وهذا ظاهر البطلان.
[1/274]
الثالث عشر: قوله عز وجل: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون* فرحين بما أتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون} قالوا: هذا ناسخ لقرآن كان يقرأ، نزل في الذين قتلوا يوم بئر معونة، لأنهم لما أدخلوا الجنة قالوا: يا ليت قومنا يعلمون بما أكرمنا ربنا، فقال تعالى: أنا أعلمهم عنكم، فأنزل: بلغوا عنا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه. روى مطرف عن مالك، عن ابن شهاب، عن أنس قال: فكان ذلك قرآنا قرأناه ثم نسخ بقوله: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا} وليس هذا من شرط الناسخ والمنسوخ؛ لأن ذلك لم يثبت قرآنا فينسخه هذا، ولو كان أيضا قرآنا يتلى لم يكن منسوخا ولم يكن هذا ناسخا له؛ لأن ذلك خبر.
الرابع عشر: قوله عز وجل: {وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} قالوا: نسختها آية السيف، وليس هذا مما ينسخ.
[1/275]

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 30 ربيع الأول 1431هـ/15-03-2010م, 11:25 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي

سورة النساء
الكلام فيها في ثلاثين موضعا:
الأول: قوله عز وجل: {فانكحوا ما طاب لكم...} إلى آخر الآية، قالوا: هي ناسخة لما كان في الجاهلية من نكاح ما شاءوا من النساء، وهذا لا يسمى ناسخا، وقد تقدم القول فيه.
الثاني: قوله عز وجل: {ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف} قالوا: هي منسوخة بقوله عز وجل {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما}، وقيل: نسخت بقوله: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} والجمهور على أنها محكمة واختلفوا في معناها: فقال سعيد بن المسيب وربيعة: المعنى: ومن كان فقيرا من اليتامى فليأكل بالمعروف لئلا يذهب ماله ويبقى فقيرا. وقال الحسن وقتادة والنخعي وعطاء وابن زيد: معنى {بالمعروف} أي: للوصي سد جوعته إذا احتاج وليس عليه رد ذلك، وقيل: أبيح أكل التمر واللبن لقيامه عليه، فكأنه أجره. وقال أبو العالية: معنى بالمعروف: أي من الغلة ولا يأكل من القاصر قرضا ولا غير قرض. وقيل: معنى قوله {بالمعروف} القرض إذا احتاج والرد إذا أيسر، ويدل على ذلك قوله عز وجل: {فإذا دفعتم إليهم أموالهم} أي: ما اقترضتموه {فأشهدوا عليهم} قال ذلك عمر رضي الله عنه وابن عباس والشعبي وابن جبير، فالآية على جميع هذه الأقوال محكمة، وإنما سقت هذه الأقوال لتعلم أن القول بالنسخ ظن لا يقين.
[1/276]
الثالث: قوله عز وجل: {وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا} قيل: هي منسوخة بآية الوصية والميراث، قاله ابن المسيب. وعن ابن عباس والضحاك والسدي وعكرمة: نسختها آية الميراث. وعن ابن عباس أيضا أنها محكمة، وكذلك قال ابن جبير ومجاهد وعطاء، والأمر على الندب لا على الإيجاب. وعن ابن عباس أيضا أن الخطاب للموصي، يقسم وصيته بيده، والأمر على الندب. وروي عن مجاهد أيضا والحسن والزهري أنها محكمة، فيما طابت به أنفس الورثة عند القسمة، على الندب.
الرابع: قالوا: إن الورثة المذكورين في هذه الآيات كالآباء والأبناء والأخوة والأزواج كان ذكرهم عاما، ثم نسخت السنة من خالف دينه دين الميت، ونسخ الإجماع من أكثر الأمة من كان فيه بقية رق، فإنه لا يرث، وليس هذا بنسخ.
الخامس: قوله عز وجل: {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا} قالوا: تضمنت هذه الآية إمضاء الوصية على ما أمر الموصي، ثم نسخت بقوله عز وجل: {فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه} أي: فلا حرج على الموصي إليه إذا خاف ذلك أن يأمر الموصي بالعدل، وهذا ليس بنسخ.
السادس: قوله عز وجل: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما}
[1/277]
قالوا: هو منسوخ، بقوله: {ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف} قالوا: والمعروف: القرض، فإن أيسر رد، وإن مات قبل أن يوسر فلا شيء عليه، وليس هذا – إن قيل – بنسخ، لأن هذا ليس بظلم.
السابع: قالوا: قال الله تعالى: {من بعد وصية} في أربعة مواضع، ولم نجد للموصي في ماله حدا، ثم نسخ هذا بقوله عليه السلام: ((الثلث والثلث كثير))، وهذا ليس بنسخ، إنما هو بيان، كما بين مقدار ما يجب فيه الزكاة، وعدد أركان الصلاة.
الثامن: قوله عز وجل: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم...} الآية والتي بعدها، هي منسوخه بالحدود، وهذه الآية في النساء المحصنات والأبكار، والتي بعدها في الرجال الثيب منهم والبكر، ونسخ الجميع بالحدود.
وقيل: إن الآية الأولى في المحصنين، والثانية في البكرين، وعليه جماعة، والأول هو الصحيح، وهو قول ابن عباس. وقيل: ليس هذا بنسخ، لأنه سبحانه وتعالى قال: {أو يجعل الله لهن سبيلا} لأنه قد كان الحكم منتظرا.
[1/278]
التاسع: قوله عز وجل: {ثم يتوبون من قريب} قالوا: هي منسوخة بالتي بعدها، وهي قوله عز وجل: {حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا على الذين يموتون وهم كفار} قالوا: فقد احتجز التوبة في هذه الآية على أهل المعصية، فقال عز وجل: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا إليما} قالوا: ثم نسخت في أهل الشرك، أي نسختها هذه الآية وبقيت محكمة في أهل الإيمان. وقال قوم: نسخت هذه الآية وهي قوله عز وجل: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات} بقوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فحرم الله تعالى مغفرته على من مات وهو مشرك، ورد أهل التوحيد إلى مشيئته، وهذا كله تخليط من قائله، ولا نسخ في هذه الآيات؛ لأنها أخبار جاءت يبين بعضها بعضا.
العاشر: قوله عز وجل: {لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها} قالوا: فقوله: {ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن} هو منسوخ، وكان الرجل إذا تزوج امرأة فأتت بفاحشة كان له ِأن يأخذ ما أعطاها. وقال الأكثر: هي محكمة، وأنها إذا أتت بفاحشة كان له أن يأخذ منها بالخلع. وقيل: إذا نشزت عنه جاز له أن يأخذ منها بالخلع. وقال قوم: الفاحشة: الزنا، وقيل: النشوز، وقيل: فاحشة اللسان، والصحيح أن لا نسخ. وقالوا في أول الآية في قوله عز وجل: {لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها} هو ناسخ لما كانوا عليه في الجاهلية، إذا توفي الرجل كان ابنه أولى بامرأته، يمنعها من التزويج حتى تموت
[1/279]
فيرثها. وقال ابن عباس: كان حميم الميت يلقي ثوبه على المرأة، فإذا شاء تزوجها بذلك، وإن شاء حبسها حتى تموت فيرثها. قال غيره: فنسخ ذلك بهذه الآية .
وقد بينا فيما تقدم أن هذا وشبهه ليس بنسخ.
الحادي عشر: قوله عز وجل: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف} قال قوم: هي منسوخة، والمعنى: ولا ما قد سلف فانزلوا عنه. وقال قوم: هي محكمة، والمعنى: إلا ما قد سلف فقد عفوت عنه. وأما من قال هي منسوخة، والمعنى: ولا ما قد سلف، فلا يخلو أن يريد: ولا ما قد سلف من نكاح حلائل الآباء فانزلوا عنه، فإن أراد هذا فكيف تكون منسوخة، بل أولى بأن تكون محكمة. وإن أراد بقوله: ولا ما قد سلف من الأنكحة الفاسدة التي كانت في الجاهلية فأقرهم الإسلام عليها إذا أسلموا، فاقتضت الآية نزولهم عن النساء ثم نسخت فليس كذلك، وليس في العربية إلا بمعنى "ولا" ، والآية محكمة والاستثناء منقطع، والمعنى: ولكن ما قد سلف فإنه مغفور. وقيل: ولكن ما قد سلف إنه كان فاحشة. وقال الطبري: المعنى: ولا تنكحوا من النساء نكاخ آبائكم، فـ {ما} بمعنى المصدر، والاستثناء منقطع كما سبق. وقال الزمخشري في هذا الاستثناء: هو مثل قوله:
.... غير أن سيوفهم ......................
حيث استثنى من قوله:
ولا عيب فيهم..... ............
قال: يعني إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه فلا يحل لكم غيره
[1/280]
وذلك غير ممكن، والغرض المبالغة في تحريمه وسد الطريق إلى إباحته، كما يعلق بالمحال في التأبيد في قولهم: حتى يبيض القار، و{حتى يلج الجمل في سم الخياط}، وقال في قوله عز وجل: {وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف} ولكن ما مضى مغفور بدليل قوله: {إن الله كان غفورا رحيما}.
الثاني عشر: قوله عز وجل: {وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف} قالوا: المعنى ولا ما قد سلف كما تقدم في التي قبلهما، والكلام على ما قالوه كما سبق.
الثالث عشر: قوله عز وجل: {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة} قالوا: هي في المتعة، وقد نسخت، واختلفوا في ناسخها: فقيل: هو قوله عز وجل: {ولهن الربع مما تركتم}، {فلهن الثمن مما تركتم} وعن الشافعي رضي الله عنه: موضع تحريم المتعة قوله عز وجل: {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم..} إلى قوله تعالى: {... فأولئك هم العادون} قال: وقد أجمعوا على أنها ليست زوجة ولا ملك اليمين، وكذلك قالت عائشة رضي الله عنها كما[1] الشافعي رضي الله عنه، قالت: كانت المتعة أن يتزوج الرجل المرأة إلى أجل معلوم ويشترط الإطلاق بينهما ولا ميراث ولا عدة، قالت: فحرمها الله تعالى بقوله: {والذين هم لفروجهم حافظون} وقال ابن المسيب: نسخت المتعة آية المواريث. والظاهر قول من قال من العلماء: ليس قوله: {فما استمتعتم به منهن} في المتعة وإنما ذلك في الزوجات، وفي إيتاء الصداق، فتكون الآية محكمة.
[1/281]
الرابع عشر: قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} قالوا: نسخها قوله عز وجل: {ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج} قالوا: لأنهم لما نزلت: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} اجتنبوا الأكل مع الأعمى لأنه لا يبصر فيختار لنفسه ما يريد، والأعرج لا يتمكن في جلوسه، والمريض يسبقه الصحيح في الأكل والابتلاع، فنسخت آية "النور" تحرجهم، قال ذلك الحسن وعكرمة. والجمهور على أنها محكمة، والمراد بالباطل الغصب والسرقة والبخس والربا والقمار ونحو ذلك، والقول بأنها منسوخة يؤدي إلى إباحة أكلها بالباطل مع الأعمى والأعرج والمريض، وإنما فعلوا ذلك تورعا، وليس هذا أكل بالباطل، ولا يقع مشاحة بين الناس في مثل هذا، كما لا يتشاحون في أخذ هذا لقمة كبيرة وهذا لقمة صغيرة. وقد قال الزهري: نزلت آية النور في الثلاثة، لأن الغزاة كانوا يخلفونهم في بيوتهم يحرسونها إلى أن يعودوا، فأبيح لهم أن يأكلوا منها. وقال ابن زيد: نزلت فيهم في رفع الحرج عنهم في الجهاد.
الخامس عشر: قوله عز وجل: (والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم) قيل: هي منسوخة، ومعنى المعاقدة عند من قال إنها منسوخة مختلف فيه، فقيل: كانوا يتوارثون بالأخوة التي آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: بين المهاجرين والأنصار، ثم نسخ ذلك بقوله عز وجل: {ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون} فهذه على قولهم آية نسخ أولها آخرها. وقيل: بل كانوا
[1/282]
يتعاقدون ويتحالفون أن من مات قبل صاحبه ورثه الآخر فنزلت هذه الآية تأمر بالوفاء بذلك، ثم نسخت بآية المواريث، وبقوله عز وجل في آخر الأنفال: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله}. وقيل: كان المهاجرون لما قدموا المدينة يورثون الأنصار دون ذوي أرحامهم لما بينهم من المودة، فأنزل الله تعالى تقرير ذلك بقوله عز وجل: {فآتوهم نصيبهم} ثم نسخ ذلك بآية المواريث وبآخر الأنفال، وهذه الأقوال كلها مروية عن ابن عباس، واختلاف الرواية عن شخص واحد دليل الضعف. وقيل: هي محكمة، وهو الصحيح إن شاء الله، والمعنى: وفوا لهم بما عاقدت أيمانكم من النصر والمعونة والرفد.
السادس عشر: قوله عز وجل: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} قالوا: مفهوم خطاب هذه الآية جواز السكر، وإنما حرم قربان الصلاة في تلك الحال، فنسخ ما فهم من جواز الشرب والسكر بتحريم الخمر. وروى أبو ميسرة عن عمر رضي الله عنه، أن منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت كان ينادي عند الإقامة: لا يقربن الصلاة سكران. وأعجب من هذا قول عكرمة {لا تقربوا الصلاة وأنت سكارى} منسوخ بقوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا..} الآية، أي أنه أبيح لهم أن يؤخروا الصلاة حتى يزول السكر، ثم نسخ ذلك فأمروا بالصلاة على كل حال، ثم نسخ شرب الخمر بقوله عز وجل: {فاجتنبوه} وبقوله سبحانه: {فهل أنتم منتهون} وليس في هذا كله نسخ، ولم ينزل الله تعالى هذه الآية في إباحة الخمر
[1/283]
فتكون منسوخة، ولا أباح بعد إنزالها مجامعة الصلاة مع السكر، والآية محكمة على هذا لا على قول من قال: أراد بالسكر سكر النوم، وهو قول الضحاك وابن زيد.
السابع عشر: قوله تعالى: {ومن لم يستطع منكم طولا...} الآية قيل: هي منسوخة بقوله عز وجل: {ذلك لمن خشي العنت منكم} فذلك نسخ بتلك الإباحة العامة، وهو ظاهر الفساد، وإنما الإباحة المتقدمة لمن لم يجد الطول وخشي العنت.
الثامن عشر: قوله عز وجل: {فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة} قال قوم: هذا ناسخ لقوله عز وجل: {فاجلدوا كل واحدة[2] منهما مائة جلدة} ولم يفرق بين الإماء وغيرهن، وليس كما ذكروا، ولم تكن الأمة داخلة في قوله عز وجل: {فاجلدوا كل واحدة[3] منهما مائة جلدة} وإنما ذلك في الحرة بإجماع، ولا كان حد الأمة قط أكثر من خمسين، محصنة أو غير محصنة.
التاسع عشر: قوله عز وجل: {فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا} قالوا: هذا تقديم وتأخير، وإنما المعنى: فعظهم وأعرض عنهم، ثم
[1/284]
نسخ الوعظ والإعراض بآية السيف، وليس كذلك؛ لأن آية السيف في قتال المشركين، وهذه الآية في أهل النفاق، وليس فيها تقديم ولا تأخير، ومعنى {فأعرض عنهم}: دعهم ولا تعاقبهم واقتصر على وعظهم. والقول البليغ هو التخويف.
الموضع الموفي عشرين: قوله عز وجل: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما} قالوا: نسخ بقوله عز وجل: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم..} الآية. وليس كذلك؛ فإن آية النساء في قصة مخصوصة: لو تابوا واستغفروا الله واستغفر لهم الرسول، وآية "براءة" في المنافقين الذي[4] استغفر لهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم مصرون على النفاق، ومعلوم أن المنافق والكافر إذا تاب واستغفر غفر له.
الحادي والعشرون: قوله عز وجل: {فانفروا ثبات أو انفروا جميعا} قالوا: هو منسوخ بقوله عز وجل: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة..} الآية.
وما أحسب هؤلاء فهموا كلام الله عز وجل: أما قوله عز وجل: {خذوا حذركم} فمعناه: احذروا عدوكم ولا تغفلوا عنه فيتمكن منكم، وانفروا إليه ثبات، أي جماعات: سرية بعد أخرى، أو انفروا عسكرا واحدا. وأما قوله عز وجل: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة..} الآية فاختلف فيه: فقيل نزل في قوم بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمون الناس الإسلام، فرجعوا إليه صلى الله عليه وسلم لما نزل قوله عز وجل: {وما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله} خشية أن يكونوا داخلين فيمن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل:
[1/285]
{وما كان المؤمنون لينفروا كافة} وهذا قول مجاهد: فهلا نفر من كل فرقة {طائفة} ليتفقهوا في الدين إذا رجع بعض المعلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي بعض، فإذا نفروا كلهم لم يبق من يعلم، فإذا رجع الذين تعلموا من أهل البوادي إلى قومهم أخبروهم بما تعلموا لعلهم يحذرون مخالفة أمر الله تعالى، فليس هذا بناسخ لقوله عز وجل: {فانفروا ثبات أو انفروا جميعا} لأن المعنى: إذا نفرتم إلى العدو فعلى إحدى الحالتين: إما مجتمعين وإما سرايا متفرقين، ولم يرد بقوله: {جميعا}، لا يبقى منكم أحد.
وقال ابن عباس وقتادة: المعنى: ما كان المؤمنون إذا غزوا وليس معهم النبي صلى الله عليه وسلم لينفروا كلهم ويتركوه لا يبقى منهم أحد عنده، فإذا بقي بعد النافرين قوم ونزل قرآن تعلموه، فإذا رجع النافرون أخبرهم القاعدون بما نزل، ثم ينفر القاعدون ويمكث الأولون عند النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا المعنى أيضا لا يعارض آية النساء، فتكون هذه الآية ناسخة لها. وروي عن ابن عباس أيضا أنها نزلت في غير هذا المعنى، وإنما أقبلت قبائل مضر إلى المدينة من أجل الجدب الذي أصابهم بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، تأتي {القبيلة} بأسرها، تزعم أن الإسلام أقدمها، وإنما أقدمها الضر، فأعلم الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم كاذبون، ولو كان ذلك غرضهم لاكتفوا بإرسال بعضهم إلى المدينة ليتفقهوا ولينذرهم إذا انقلبوا إليهم، واختلاف الرواية دليل الضعف، والمخبر عنه واحد والقصة واحدة، ومع ذلك فلا تعارض بين الآيتين ولا نسخ.
وقال عكرمة: إنما نزلت في تكذيب المنافقين، لأنهم لما نزل قوله عز وجل: {ما كان لأهل المدينة} الآية. قال المنافقون لمن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعذر من المؤمنين: هلكتم بتخلفكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة}. وهذا تأويل بعيد من سياق الآية، ومع ذلك فلا نسخ.
وقال الحسن البصري: هي في الجهاد، والمعنى: ليتفقه الطائفة النافرة بما تراه من نصرة، وتخبر إذا رجعت بما رأته من ذلك قومها المشركين وتحذرهم أخذ الله تعالى وبأسه.
[1/287]
وروي أنها نزلت في أعراب قدموا المدينة فأغلوا الأسعار وملأوا الطرق بالأقذار.
الثاني والعشرون: قوله عز وجل: {ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا} قالوا: نسخ بآية السيف، وهذا كقوله عز وجل: {فإنما عليك البلاغ} وقد تقدم القول فيه.
الثالث والعشرون: قوله عز وجل}: {فأعرض عنهم} قالوا: هو منسوخ بآية السيف، وإنما هو كالذي قبله ليس بمنسوخ وإنما نزل في المنافقين.
فإن قلت: أفلا يكون منسوخا بقوله عز وجل: {جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم}.
قلت: قال ابن عباس: أمر بجهاد المنافقين باللسان، والكفار بالسيف، وقال الضحاك: جاهد الكفار بالسيف واغلظ على المنافقين بالكلام. وقال الحسن وقتادة: والمنافقين بإقامة الحدود عليهم وقيل: بإقامة الحجة عليهم.
فإن قلت: فكيف يكون قوله عز وجل في النساء: {فأعرض عنهم} منسوخا بهذه الآية؟ قلت: آية النساء في قوم منهم بأعيانهم، وقد قيل في معنى قوله: {فأعرض عنهم} لا تخبر بأسمائهم.
[1/287]
الرابع والعشرون: قوله عز وجل: {فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين} قالوا: نسخ بآية السيف، وليس كما قالوا؛ لأن هذه الآية إنما أنزلت بعد الأمر بالقتال، ولكن لما تثبطوا عن القتال على ما ذكر في الآيات قبلها، وبيتوا غير ما قالوا من إظهار الطاعة، قال له الله عز وجل: فقاتل في سبيل الله ولا تعتمد على نصرهم، فإن تخلفوا عنك ولم يخرجوا معك فما كلفت غير نفسك وحدها، وحرض المؤمنين، أي: وما يلزمك في أمرهم إلا التحريض وفي هذا تحريك لهم وإلهاب. وقيل: دعاهم إلى الخروج في بدر الصغرى فكرهوا الخروج، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلو على أحد فلم يتبعه إلا سبعون، ولو لم يتبعه أحد لخرج وحده، وكان أبو سفيان واعده اللقاء، فكان الأمر كما قال الله عز وجل، فكف بأس الذين كفروا، ورجع أبو سفيان لأنه لم يكن مع أصحابه زاد إلا السويق، فقال لهم: هذا عام مجدب، ولم يقدم على لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الخامس والعشرون: قوله عز وجل: {إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق} قالوا: قال الله عز وجل: {فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم} ثم استثنى من ذلك أهل الميثاق ومن اتصل بهم وانحاز إلى جملتهم، ثم نسخ ذلك بقوله عز وجل في "براءة": {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} قال قتادة: نبذ إلى كل ذي عهد عهده، ثم أمر بالقتال والقتل حتى يقولوا لا إله إلا الله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عاهد كفار مكة عام الحديبية عهدا بقي من مدته عند نزول "براءة" أربعة أشهر، فأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يوفي عهدهم إلى مدتهم، وأن يؤخر قتال من لا عهد له إلى انسلاخ محرم، ثم يقاتل الجميع حتى يدخلوا في الإسلام، ولا يقبل منهم سوى ذلك، هذا كله قول قتادة. وقال السدي
[1/288]
كان آخر عهد الجميع تمام أربعة أشهر، وذلك لعشر خلون من ربيع الآخر، وهذا كله كان في موسم سنة تسع. وقال السدي: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإتمام أربعة أشهر لمن كان بينه وبينه عهد أربعة أشهر فما دون ذلك، وأما من كان عهده أكثر من أربعة أشهر فهو الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتم له عهده في قوله عز وجل: {فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم} فمن نقض منهم العهد دخل فيمن أخر إلى تمام أربعة أشهر، وهذا اختيار الطبري، وهو قول الضحاك، فعلى هذا لا يكون قوله: {إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق} منسوخا، لأنه قد جعل له حكم المعاهدين وأدخل في جملتهم، وقد أخر قتالهم إلى انقضاء مدتهم.
وروي أن عليا عليه السلام كان يقول في ندائه: "ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته" ويدل عليه قوله عز وجل: {إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم} فأمر الله لمن استقام على عهده ولم ينقضه بأن يتم له عهده، وأن يؤخر من نقض عهده وظاهر على النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أشهر. قال الله عز وجل: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} ففسح لمن كان له عهد ونقض قبل انتهائه، ومن له أربعة أشهر فما دون أن ينصرفوا في الأرض مقبلين ومدبرين، ثم لا أمان لهم بعد ذلك.
قال مجاهد: أولها من يوم النحر إلى عشرين من ربيع الآخر. وقال الزهري: أولها شوال وآخرها آخر محرم، وتسمى أشهر السماحة أيضا لأنه سمح لهم فيها بالتصرف.
وقال ابن عباس: من لم يكن له عهد إنما جعل أجله خمسين ليلة، عشرين من ذي الحجة والمحرم، يدل على ذلك قوله عز وجل: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين} وكان النداء بسورة براءة يوم عرفة، وبه تتم خمسون ليلة.
وقيل: يوم النحر، ونزلت براءة أول شوال، ومن ذلك اليوم أجل أربعة أشهر لأهل العهد.
[1/289]
وقال الزهري: من أول شوال هو أول الأربعة أشهر، وهو للجميع، فمن كان له عهد كان أجله أربعة أشهر من ذلك الوقت، ومن لم يكن له عهد انسلاخ الأشهر الحرم وذلك أربعة أشهر أيضا.
السادس والعشرون: قوله عز وجل: {أو جاءوكم حصرت صدورهم..} الآية. قيل: معناه: ولا الذين جاءوكم قد ضاقت صدورهم عن قتالكم وعن قتال قومهم. قال الحسن وعكرمة وابن زيد: هو منسوخ بالجهاد.
وأقول – والله أعلم – إن هؤلاء الذين حصرت صدورهم عن القتال هم الذين ذكروا في قوله عز وجل: {إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق} ذكر لهم حالتان: الاتصال بالمعاهدين، أو المجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم والتعذر، إلا الذين حصرت صدورهم فاتصلوا بقوم بينكم وبينهم ميثاق، أو جاءوكم، يدل على ذلك قراءة أبي (بينكم وبينهم ميثاق حصرت صدورهم) وليس في قراءته {أو جاءوكم} وقوله عز وجل: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين} إنما أراد كفار مكة ومن معهم، يدل على ذلك قوله عز وجل: {ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم} لأن النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية حين قاضى المشركين أدخل معه بني كعب بن خزاعة في القضية وأدخل المشركون معهم بني بكر بن كنانة في القضية، فنقض المشركون أيمانهم وأغاروا مع بني بكر بن كنانة على بني كعب بن خزاعة قبل انقضاء مدة العهد، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال لانتصرن لهم، فنصره الله عز وجل بفتح مكة وشفى صدور بني خزاعة، وأذهب غيظ قلوبهم وهم القوم المؤمنون وحلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. فتأمل هذا، فإنه لا يعارض ما في سورة النساء، إلا أن
[1/290]
يكون الذين حصرت صدورهم ممن نقض العهد ونكث اليمين وأعان على خزاعة.
والجرأة على الناسخ والمنسوخ خطر عظيم. ولا يعارض ما في سورة النساء أيضا، قوله عز وجل: {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة}.
السابع والعشرون: قوله عز وجل: {ستجدون آخرين..} الآية، نسخها آية السيف.
الثامن والعشرون: قوله عز وجل: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} ذهب قوم إلى أنها منسوخة بقوله عز وجل: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها..} [الآية] ورووا عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في قوله عز وجل في سورة "الفرقان": {ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما. يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا* إلا من تاب وآمن} أن هذا لأهل الشرك إذا أسلموا، ولا توبة للقاتل متعمدا. وروي أن رجلا سأل أبا هريرة وابن عمر وابن عباس عن قتل العمد، فكلهم قالوا: هل يستطيع أن يجيبه؟. والصحيح أن هذا ليس من الناسخ والمنسوخ في شيء، لأن هذا إخبار من الله عز وجل، وإخبار الله تعالى صدق لا يدخله نسخ، وآية الفرقان وآيات النساء محكمات، وقد قال الله عز وجل في سورة النساء: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} ثم قال عز وجل: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها} ثم قال بعد
[1/291]
ذلك أيضا: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فإن قيل: إن قلت إن هذه أخبار، والنسخ لا يدخل الأخبار، فما تقول في تعارضها؟ قلت: قوله عز وجل: {فجزاؤه جهنم خالدا فيها} قد روى ابن سيرين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الآية: ((هو جزاؤه إن جازاه)). وقال الطبري: جزاء القاتل جهنم حقا ولكن الله تعالى يغفر ويتفضل على من آمن بالله وبرسوله فلا يجازيهم بالخلود فيها، فإما أن يغفر فلا يدخلهم، وإما أن يدخلهم ثم يخرجهم بفضل رحمته، وهذا خبر عام ولا يجوز نسخه. وكذلك روي عن إبراهيم التيمي ومجاهد.
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كاف، وإنما أذكر هؤلاء لأن ذكرهم كالشهادة لصحة الحديث.
فإن قيل: فما تقول فيما تقدم ذكره عن ابن عباس؟ قلت: قد روى عاصم ابن أبي النجود عن ابن جبير عن ابن عباس رحمه الله أنه قال: هو جزاؤه إن جازاه.
وروي عن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله عز وجل: {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما} فلو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال لجاز أن يغفرها الله تعالى. قال ابن عباس: وقد دعا الله عز وجل إلى مغفرته من قال: {عزير ابن الله}، ومن زعم أن {الله فقير} ومن زعم أن {يد الله مغلولة} ومن زعم أن {الله ثالث ثلاثة}، فقال الله عز وجل: {أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم}.
قال ابن عباس: وقد دعا الله عز وجل إلى التوبة من هو أعظم جرما من هؤلاء: من قال: {أنا ربكم الأعلى} و{ما علمت لكم من إله غيري}.
وقال: ومن أيأس العباد من التوبة فقد جحد كتاب الله، ومن تاب إلى الله تاب الله
[1/292]
عليه. قال: وكما لا ينفع مع الشرك إحسان، كذلك نرجو أن يغفر الله ذنوب الموحدين. قال ابن عباس مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو وضعت لا إله إلا الله في كفة، ووضعت السموات والأرض وما بينهن وما فيهن في كفة لرجحت لا إله إلا الله)) وهذا هو الصحيح عن ابن عباس إن شاء الله، إذ أجمع المسلمون على صحة توبة قاتل العمد، وكيف لا تصح توبته وتصح توبة الكافر وتوبة من ارتد عن الإسلام ثم قتل المؤمنين متعمدا ثم رجع إلى الإسلام. قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: كنا – معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم – لا نشك في قاتل المؤمن، وآكل مال اليتيم، وشاهد الزور، وقاطع الرحم، يعني: لا نشك في الشهادة لهم بالنار حتى نزلت: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فأمسكنا عن الشهادة لهم.
فإن قيل: فما تقول في قولهم: هل تستطيع أن تجيبه؟ قلت: ذلك على وجه تعظيم أمر القتل والزجر، أو يكون ذلك قبل أن ينزل {إن الله لا يغفر أن يشرك به} على قول ابن عمر. ومن زعم أن القاتل عمدا لا توبة له جعل الغفران لما دون الشرك في آية الفرقان منسوخا. قالوا: ونزلت آية الفرقان فيما روى زيد بن ثابت قبل آية النساء بستة أشهر. وقد قدمت أن النسخ لا يدخل الأخبار، فلا نسخ في جميع هذه الآية، وكلها محكمة.
التاسع والعشرون: قوله عز وجل: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} زعم قوم أنها منسوخة بما جاءت به السنة من جواز قصر الصلاة في السفر من غير تقييد بالخوف، وهذا غير صحيح، وصلاة الخوف باقية لم تنسخ، والقصر في السفر غير صلاة الخوف.
[1/293]
الثلاثون: قوله عز وجل: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} زعموا أنه منسوخ بقوله عز وجل: {إلا الذين تابوا}، فما أدري أي الأمرين أعجب: إدخال النسخ في الأخبار، أو جعل الاستثناء نسخا!
فهذه ثلاثون موضعا لا ترى فيها ناسخا ومنسوخا متيقنا.
[1/294]

[1] لعله سقط هنا كلمة قال.

[2] لعل الصواب {واحد منهما}.

[3] لعل الصواب {واحد منهما}.

[4] لعل الصواب الذين.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 30 ربيع الأول 1431هـ/15-03-2010م, 11:26 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي

سورة المائدة
هي من آخر ما نزل من القرآن، وهي في الإنزال بعد "براءة" عند أكثر العلماء.
وقال آخرون: "براءة" بعدها. وذهب جماعة إلى أن "المائدة" ليس فيها منسوخ لأنها متأخرة النزول. وقال آخرون: فيها من المنسوخ عشرة مواضع:
الأول: قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا} قال الشعبي وغيره: لم ينسخ من المائدة غير هذه الخمسة، نسخها الأمر بقتال المشركين.
وقال ابن زيد: هذا كله منسوخ بالأمر بقتالهم كافة. وقال ابن عباس وقتادة: {ولا آمين البيت الحرام} يعني منع المشركين من الحج، ثم نسخ ذلك بالقتل.
والشعائر جمع شعيرة، وشعيرة بمعنى مشعرة، أي معلمة. واختلف فيها فقيل: حدوده التي جعلها أعلاما لطاعته في الحج. وقال ابن عباس: هي مناسك الحج، نهاهم أن يحلوا ما منع المحرم من إصابته. وقال زيد بن أسلم: هي ست: الصفا، والمروة، والبدن، والجمار، والمشعر الحرام، وعرفة، والركن. قال: والحرمات خمس: البلد الحرام، والكعبة البيت الحرام، والشهر الحرام، والمسجد الحرام، والمحرم حتى يحل. قال الكلبي: كانت عامة العرب لا يعدون الصفا والمروة
[1/295]
من الشعائر، ولا يقفون إذا حجوا عليهما، وكانت الخمس لا يعدون عرفات من الشعائر ولا يقفون بها في الحج، فنهى الله تعالى المؤمنين عن ذلك. وقال السدي: وشعائر الله: حرمه. وقيل: هي العلامات. بين الحل والحرم، فهو أن يجاوزوها غير محرمين.
وقال عطاء: شعائر الله: حرماته، نهاهم عن ارتكاب سخطه وأمرهم باتباع طاعته، وقيل: الشعائر: الهدايا وقيل: الإشعار: أن تجلل وتقلد وتطعن في سنامها فيعلم بذلك أنها هدي.
والشهر الحرام: قيل هو القعدة. وقيل: هو رجب، كانت مضر تحرم فيه القتال، فأمروا بأن يحرموه ولا يقاتلوا فيه عدوهم. وقيل: كانوا يحلونه مرة ويحرمونه أخرى، فنهوا عن إحلاله.
والهدي: ما أهداه المسلمون إلى البيت من بعير أو بقرة أو شاة، حرم الله عز وجل أن يمنع أن يبلغ محله.
والقلائد: قيل: هي الهدايا المتقلدات، نهي عن الهدي غير المقلد وعن المقلد. وقيل: هي ما كان المشركون يتقلدون فيه، كان أحدهم إذا خرج من بيته يريد الحج تقلد من السمر فلا يعرض له أحد، وإذا انصرف تقلد من الشعر قلادة فلا يعرض له أيضا.
وقيل: إنما نهى الله عز وجل أن ينزع شجر الحرم فيتقلد به على عادة الجاهلية. وقيل: كان الرجل إذا خرج من أهله حاجا أو معتمرا وليس معه هدي جعل في عنقه قلادة من شعر أو وبر فأمن بها إلى مكة، وإذا قفل من مكة علق في عنقه لحاء شجر مكة فيأمن بها حتى يصل إلى أهله.
وقوله عز وجل: {ولا آمين البيت الحرام} قيل: نهوا أن يعرضوا لمن أم البيت الحرام من المشركين. واختلف في سبب نزولها:
فقيل: نزلت في الحطم البكري، قال ابن جريج: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
[1/296]
إني داعية قومي وسيدهم، فأعرض علي أمرك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أدعوك إلى الله، أن تعبده ولا تشرك به شيئا، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان وتحج البيت)). فقال الحطم: في أمرك غلظة، أرجع إلى قومي فأذكر لهم ما ذكرت، فإن قبلوا قبلت معهم، وإن أدبروا كنت معهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((ارجع)). فلما خرج قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبى غادر، وما الرجل بمسلم)) فمر على سرح للمسلمين فانطلق به، وطلب فلم يدرك، ثم إنه خرج إلى الحج بتجارة عظيمة، فأراد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرضوا له ويأخذوا ما معه، فأنزل الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله..} الآية ولما استاق السرح قال:
قد لفها الله بسواق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم
باتوا نياما وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم
خدلج الساقين خفاق القدم
وهذا القول يبطله قوله عز وجل: {يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا}.
وقال ابن زيد: جاء ناس من المشركين يوم الفتح يقصدون البيت، فقال المسلمون: نغير عليهم، فقال الله عز وجل في ذلك: {ولا آمين البيت الحرام}
[1/297]
قال قتادة: نسخ من المائدة: {ولا آمين البيت الحرام} نسخها آية القتل في "براءة" وقد تقدم أنها نزلت بعد "براءة" عند أكثر العلماء، وهذا مانع من أن تكون براءة ناسخة لها.
ومن قال: ليس فيها منسوخ، قال: أما الشعائر فحدود الله عز وجل. فأما الشهر الحرام فذو القعدة ولا يحله المحرم فيتعدى فيه إلى ما أمر باجتنابه. وأما الهدي فظاهر. وأما القلائد فالنهي عن نزع شجر الحرم ليتقلد به أو عن الهدي المقلد، والتقدير على حذف مضاف: أي ولا ذي القلائد .{ولا آمين البيت الحرام} قيل: إنها للمسلمين، لأن المشركين لا يبتغون رضوان الله فينهى المسلمون عنهم، لأجل ذلك لا يجوز أن يكون {آمين} حالا من المخاطبين، أي: لا تحلوا شعائر الله آمين البيت الحرام، أي لا تحلوها قاعدين عن الحج ولا آمين البيت الحرام.
وقوله {يبتغون فضلا} على الالتفات، كقوله عز وجل: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول}.
الثاني: قوله عز وجل: {ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا} قال ابن زيد: نسخ بالأمر بالقتل والجهاد. والأكثر على أنها محكمة، وإنما نزلت ناهية عن المطالبة بذحول الجاهلية لصدهم إياهم عام الحديبية.
وقد "لعن النبي صلى الله عليه وسلم من قتل بذحل في الجاهلية"، وهذا أولى وأحسن عند الأكثر.
الثالث: قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} قال قوم: هي منسوخة لأنها تقتضي إيجاب الوضوء على من قام إلى الصلاة وإن لم يكن
[1/298]
محدثا. وقال عكرمة وابن سيرين بإيجاب ذلك على كل قائم إلى الصلاة وإن لم يكن محدثا، وإنما معنى الآية: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين، يدل على ذلك قوله عز وجل: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} فالآية محكمة عند العلماء، ومعناها ما ذكرته.
الرابع: قوله عز وجل: {وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} قال قوم: هو منسوخ بوجوب غسل الرجلين. وقال الشعبي: نزل القرآن بمسح الرجلين، وجاءت السنة بالغسل، والصحيح أنها محكمة.
قال أبو زيد: المسح: خفيف الغسل، وأريد ترك الإسراف لأن غسل الرجلين مظنة ذلك، وقال أبو عبيد في قوله عز وجل: {فطفق مسحا} المسح هاهنا: الضرب، كذلك المسح هاهنا الغسل، وقيل: المسح: التطهير، يقال: تمسحت للصلاة كما يقال تطهرت لها، وقيل: قراءة الخفض معناها مسح الخفين، وقراءة النصب لغسل الرجلين. والصحيح أنها محكمة.
الخامس: قوله عز وجل: {فاعف عنهم واصفح} قال قتادة: نسخها قوله عز وجل: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} وقال ابن عباس: نسخها قوله عز وجل: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} وقيل: بقوله عز وجل: {وإما تخافن من قوم خيانة}، والصحيح أنها محكمة،
[1/299]
لا سيما على قول من قال: إن المائدة بعد براءة، وإنما نزلت في قوم من اليهود أرادوا الغدر بالنبي صلى الله عليه وسلم فحماه الله عز وجل وأمره بالعفو والصفح ما داموا في الذمة، والسياق يدل على ذلك.
السادس: قوله عز وجل: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله}.
قالوا: هو منسوخ بقوله: {إلا الذين تابوا} وهذا ظاهر الفساد، وقد تقدم له نظائر.
السابع: قوله عز وجل: {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم}.
قالوا: نسخ هذا التخيير بقوله: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} فأوجب عليهم الحكم بينهم، ونسخ التخيير. وقيل: هي محكمة وهو الصحيح.
أما المعنى: إن أردت الحكم فاحكم بينهم بما أنزل الله، وهو معطوف على قوله: {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط} وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وعطاء الخراساني وعمر بن عبد العزيز وعكرمة والزهري: ليس للإمام أن يردهم إلى أحكامهم إذا جاءوه، وهو أحد قولي الشافعي، وقال عطاء بن أبي رباح والحسن البصري ومالك والشعبي والنخعي وأبو ثور: الإمام مخير، وهو أحد قولي الشافعي.
[1/300]
الثامن: قوله عز وجل: {ما على الرسول إلا البلاغ} قيل: نسخ بالجهاد، وقد سبق القول على مثله.
التاسع: قوله عز وجل: {عليكم أنفسكم} قيل: هي منسوخة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأكثر على أنها محكمة، والمعنى: عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فلم يقبل منكم. وقال ابن عمر رحمه الله: هذه الآية لأقوام يأتون بعدنا، إن قالوا فلم بقبل منهم، وأما نحن فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليبلغ الشاهد الغائب)) وكنا نحن الشهود وأنتم الغيب. وقال جبير بن نفيل: قال لي جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية: عساك أن تدرك ذلك الزمان، فإذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت. وقال ابن مسعود: لم يجئ تأويل هذا بعد، إن القرآن أنزل حيث أنزل، فمنه، ومنه، ومنه، ومنه، أي: فمنه آيات قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن، ومنه آيات قد وقع تأويلهن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومنه آيات قد وقع تأويلهن بعد النبي صلى الله عليه وسلم بيسير، ومنه آيات يقع تأويلهن يوم الحساب، فما دامت قلوبكم واحدة، وأهواؤكم واحدة، ولم تلبسوا شيعا، ولم يذق بعضكم بأس بعض، فأمروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، فإذا اختلفت الأقوال والأهواء، ولبستم شيعا، وذاق بعضكم بأس بعض فامرؤ ونفسه، عند ذلك جاء تأويل هذه الآية. فهي على هذا كله محكمة.
العاشر: قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم} قال قوم: أجاز في هذه الآية شهادة غير أهل الملة بقوله عز وجل: {وأشهدوا ذوي عدل
[1/301]
منكم} والجمهور على أنها محكمة. قال الحسن وعكرمة: من غيركم: أي من غير قبيلتكم، أي من سائر المسلمين، ويروى ذلك عن الشافعي ومالك، ويدل على ذلك قوله عز وجل: {تبحسونهما من بعد الصلاة} وذا لا يقال لغير المسلمين، وعن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما وأبي موسى الأشعري وابن سيرين ومجاهد وابن جبير والشعبي وابن المسيب والنخعي والأوزاعي وشريح: أنها محكمة. ومعنى {من غيركم} أراد من أهل الكتاب، وشهادتهم جائزة في الوصية، خاصة في السفر عند فقد المسلمين للضرورة.
[1/302]

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 30 ربيع الأول 1431هـ/15-03-2010م, 11:27 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي

سورة الأنعام
فيها ستة عشر موضعا:
الأول: قوله عز وجل: {قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} قالوا: نسخ بقوله تعالى: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} وهذا غير صحيح، والخوف مشروط بالعصيان، وكيف لا يخاف الله من عصاه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((إني لأخوفكم لله)) هذا مع العصمة. وإنما معنى الآية: قل لهؤلاء الذين لا يخافون ما في معصية الله من العذاب العظيم.
الثاني: قوله عز وجل: {قل لست عليكم بوكيل} قالوا: نسخ بآية السيف. والصحيح أنها محكمة، وإنما أمر الله صلى الله عليه وسلم بأن يخبر عن نفسه بذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم داع ومبلغ وليس بوكيل على من أرسل إليه، ولا بحفيظ يحفظ أعماله.
الثالث: قوله عز وجل: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم..} إلى آخر الآية التي بعدها: {.. لعلهم يتقون}. قالوا: نسخ ذلك بقوله عز وجل: {فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره} وعند
[1/303]
أهل التحقيق لا نسخ في هذا؛ لأن قوله عز وجل: {وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء} خبر، أي: ليس على من اتقى المنكر من حساب من ارتكبه من شيء، إنما عليه أن ينهاه ولا يقعد معه راضيا بقوله.
الرابع: قوله عز وجل: {وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا} قالوا: نسخ بآية السيف، وهذا تهدد ووعيد، ومثل هذا لا ينسخ.
الخامس: قال الله تعالى: {ثم ذرهم في خوضهم يلعبون} قالوا: نسخ بآية السيف، والكلام فيه كالذي قبله.
السادس: قوله عز وجل: {وما أنا عليكم بحفيظ} وهو كالذي تقدم في ذكر النسخ فيه والجواب عنه.
السابع: قوله تعالى: {وأعرض عن المشركين} قالوا: نسخ بآية السيف، وقد تقدم القول في مثله.
[1/304]
الثامن: قوله عز وجل: {وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل} قالوا: نسخ بآية السيف وقد تقدم قولنا فيه وفي نظائره.
التاسع: قوله عز وجل: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم} قالوا: نسخت بآية السيف، قالوا: لأن الله تعالى أمرهم بقتلهم، والقتل أغلظ وأشنع من السب، فهو داخل في جنب القتل، وذلك أن المشركين قالوا: لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون ربكم، فأمر الله المسلمين ألا يسبوا آلهتهم لئلا يسبوا الله عز وجل، لأن المسلمين إذا علموا أنهم يسبون الله عز وجل إذا سبوا آلهتهم كانوا لسب آلهتهم متسببين في سب الله عز وجل، فليس هذا نهيا عن سب آلهتهم، إنما هو في الحقيقة نهى عن سب الله عز وجل وفعل ما هو سب له وذريعة إليه، وليست آية القتال من هذا في شيء، وهذا الحكم باق، ولا يجوز أن يسب ما يسب الله عز وجل بسببه.
العاشر: قوله عز وجل: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق} قال عكرمة وعطاء ومكحول: هي منسوخة بقوله عز وجل: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} وهم لا يسمون، ويروى عن أبي الدرداء وعبادة بن الصامت مثل ذلك، وأجاز أكل ذبائح أهل الكتاب وإن لم يذكر عليها اسم الله عز وجل.
وذهب جماعة إلى أن هذه الآية محكمة ولا يجوز أن نأكل من ذبائحهم إلا ما ذكر اسم الله عليه، وروي ذلك عن علي وعائشة وابن عمر رضي الله عنهم،
[1/305]
وكذلك لو ذبح المسلم ولم يذكر اسم الله لم يؤكل عندهم إذا تعمد ذلك. وقال بجواز الأكل جماعة من الأئمة، وتأولوا قوله عز وجل: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} بالميتة، {وما أهل لغير الله به} أي ما ذكر عليه اسم غير الله عز وجل، والآية على هذا أيضا محكمة. وذهب قوم إلى أن قوله عز وجل: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} يراد ما ذبح للأصنام. وآية المائدة في إباحة ذبائح أهل الكتاب، والآيتان محكمتان في حكمين مختلفين، ولا نسخ بينهما.
وكره مالك رحمه الله أكل ما ذبح الكتابيون ولم يذكروا اسم الله عز وجل وما ذبحوه لكنائسهم، وما ذكروا عليه اسم المسيح، ولم يحرم ذلك عملا بظاهر قوله عز وجل: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم}. وقد قال الله عز وجل: {وما أهل به لغير الله}، {وما أهل لغير الله به}. وقال عطاء ومكحول وربيعة وعبادة بن الصامت، ويروى عن أبي الدرداء: تؤكل وإن سموا عليها غير اسم الله عز وجل، ولو سمعته يقول باسم جرجس، لأن الله عز وجل قد علم ذلك منهم وأباح لنا ذبائحهم. والصحيح انتفاء النسخ في هذه الآية.
الحادي عشر: {قل يا قوم اعملوا على مكانتكم}.
الثاني عشر: {فذرهم وما يفترون}.
الثالث عشر: {قل انتظروا إنا منتظرون}. قالوا: نسخ جميع ذلك بآية السيف وهذا تهدد ووعيد وليس بمنسوخ بآية السيف.
[1/306]
الرابع عشر: قوله عز وجل: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما..} الآية. قال قوم: هي منسوخة بما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآية محكمة، وحكمها باق، وما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم مضموم إلى ما حرمته الآية.
وقال قوم: هي محكمة، وهي جواب قوم سألوا عما ذكر فيها، والذي حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مضموم إليها، وقال سعيد بن جبير والشعبي: هي محكمة، وأكل لحوم الحمر جائز، وإنما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت لعلة ولعذر. قالا: وذلك أنها تأكل القذر مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يحرمه وإنما كرهه.
وأقول – والله أعلم -: إن الآية محكمة، ومعنى قوله عز وجل: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما} أي لا أجد محرما مما حرمتموه مما ذكر قبلها إلا ما كان من ذلك ميتة أو دما مسفوحا.
الخامس عشر: قوله عز وجل: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} قالوا: هي منسوخة بقوله عز وجل: {وإن تخالطوهم فإخوانكم} وليست بمنسوخة، وإنما النهي أن يقرب مال اليتيم بغير الحسنى، والمخالطة داخلة في قوله عز وجل: {إلا بالتي هي أحسن}.
السادس عشر: قوله عز وجل: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كان يفعلون} قال السدي: نسختها آية السيف، وليست آية السيف والأمر بالقتال معارضا لما في هذه الآية ومعنى: {لست
[1/307]
منهم في شيء}: أي من السؤال عن تفرقتهم، ومعنى تفرقة الدين: اختلافهم فيه، وقيل: إنما أمرهم في المجازاة إلى الله عز وجل، فعلى هذا هي محكمة وقيل: إنما هو خبر من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم عمن يحدث في دينه من بعده من أمته ويكفر.
وقد جعلوا آية السيف ناسخة لمائة وأربع وعشرين آية، وليس ذلك عن يقين منهم، وإنما يظنون إذا سمعوا أمر الله سبحانه وتعالى لنبيه وللمؤمنين بالصبر وترك الاستعجال – ظنوا أن ذلك منسوخ بآية القتال، وإنما يكون منسوخا بآية القتال النهي عن القتال. وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يشكو إلى الله عز وجل ما يلاقيه من أذى المشركين فيأمره بالصبر، ويعده بالنصر، ويقص عليه أنباء الرسل وما صبروا عليه من الأذى في ذات الله عز وجل: {وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك} ، ولم ينسخ بآية السيف شيء من ذلك، ولا يحل أن يقال بالظن: هذا ناسخ لكذا، ولا هذا منسوخ بكذا. ولو كان هذا الناسخ والمنسوخ مقطوعا به لم يقع فيه اختلاف، كيف وهذا يقول في الآية منسوخة، ويقول الآخر بل هي محكمة.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن قادرا على القتال فكيف ينهى عنه، وكيف نقول للعاجز عن القيام: لا تقم، وإنما هذا كالفقير يؤمر بالصبر على الفقر فإذا استغنى وجبت عليه الزكاة، فوجوب الزكاة لم يعارض الصبر فيكون ناسخا له.
والنسخ إنما هو رفع حكم الخطاب الثابت بخطاب آت بعده لولاه لكان ثابتا، وهذا واضح.
فإن قيل: فما تصنع فيما يروى عن السلف رضي الله عنهم كابن عباس وغيره، فقد أطلقوا على ذلك النسخ؟ قلت: لم يريدوا بالنسخ ما حددناه به، إنما كانوا يسمون ما يغير الأحوال نسخا.
[1/308]

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 30 ربيع الأول 1431هـ/15-03-2010م, 11:27 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي

سورة الأعراف
قالوا: فيها موضعان:
الأول: قوله عز وجل: {وأملي لهم} قالوا: نسخ بآية السيف، وهذا خطأ.
والثاني: قوله عز وجل: {خذ العفو..} الآية. قالوا: هي من أعجب الآيات: أولها منسوخ وآخرها منسوخ وأوسطها محكم. قالوا: قوله تعالى: {خذ العفو} منسوخ بآية الزكاة. وقال ابن زيد: منسوخ بآية السيف بالأمر بالغلظة والقتال، والصحيح أنها محكمة. قال مجاهد: {خذ العفو} يعني به الزكاة لأنها قليل من كثير. وقال سالم والقاسم: هي محكمة، والمراد بالعفو غير الزكاة وهو ما كان عن ظهر غنى وذلك على الندب، وقال عروة بن الزبير وأخوه عبد الله: هي محكمة، والعفو من أخلاق الناس.
وقال ابن زيد: {وأعرض عن الجاهلين} منسوخ بآية السيف، وليس كما قال. قال العلماء: أعرض عن مودتهم والانبساط إليهم في المجالسة والمخالطة، وهذا لا ينسخ.
[1/309]

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 30 ربيع الأول 1431هـ/15-03-2010م, 11:27 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي

سورة الأنفال
فيها تسعة مواضع:
الأول: قوله عز وجل: {يسألونك عن الأنفال} نزلت في غنائم بدر.
روي أنهم سألوه عنها: لمن هي. وروي أنهم سألوها رسول الله صلى الله عليه وسلم. والأنفال جمع نفل، والنفل هاهنا: العطية، سميت العطية بذلك لأنها تفضل من الله عز وعطية لهذه الأمة لم يحلها لمن كان قبلهم. وقيل: أراد بالأنفال الزيادات التي يزيدها الإمام لمن شاء في مصلحة المسلمين. وقيل: الأنفال: ما شذ من العدو من عبد أو دابة للإمام أن يعطي ذلك لمن يشاء. وقال مجاهد: الأنفال: الخمس.
فذهب قوم ممن قال: الأنفال: الغنيمة إلى أنها منسوخة بقوله عز وجل: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه}. وذهب قوم منهم إلى أنها محكمة، والحكم في الغنيمة لله ولرسوله.
وقيل: إن أولي القوة غنموا يوم بدر أكثر من غيرهم، فرأوا أنهم أحق بما غنموه فنزلت.
وقيل: كانوا ثلاث فرق: فرقة اتبعت العدو، وفرقة حازت الغنائم، وفرقة لزمت النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت كل فرقة: نحن أحق بالغنيمة، فنزلت – أي الأنفال لله والرسول، أي الحكم فيها لله وللرسول لا لكم.
ومن قال الأنفال غير الغنيمة على ما سبق، قال: هي محكمة لا غير.
والقضاء بأنها محكمة ظاهر، وقول مجاهد: الأنفال: الخمس، جمع بين الآيتين، فيكون {واعلموا أنما غنمتم} مفسرة لقوله عز وجل: {قل الأنفال لله والرسول}.
الثاني: قوله عز وجل: {ومن يولهم يومئذ دبره..} الآية، قالوا:
[1/310]
نسخها قوله عز وجل: {يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال} الآيتين.
قالوا: فأطلق في هاتين الآيتين أن يفروا ممن هو أكثر من هذا العدد. وقال الحسن: ليس الفرار من الزحف من الكبائر، والآية في أهل بدر خاصة. وقال ابن عباس: هي محكمة وحكمها باق إلى يوم القيامة، والفرار من الزحف من الكبائر، وأكثر العلماء على ذلك، وأيضا فهي خبر والخبر لا ينسخ.
الثالث: قوله عز وجل: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}. قالوا: هي منسوخة بما بعدها: {وما لهم ألا يعذبهم الله} وليس كما قالوا، والسورة مدنية ذكر فيها ما فعلوه بمكة، فقيل: إنما منعهم من إنزال العذاب بهم في ذلك الوقت أنك كنت فيهم، وما عذب الله تعالى أمة من الأمم إلا بعد إخراج نبيهم من بينهم، فالعذاب لا ينزل مع حالين: إحداهما أن يكون النبي فيهم، أي بين القوم، أو يستغفرون ويتوبون، وهؤلاء ما استغفروا ولا تابوا ولا نبيهم بينهم فما لهم ألا يعذبهم الله، وعبر عن إخراج النبي صلى الله عليه وسلم وعن ترك التوبة والاستغفار بقوله: {وهم يصدون عن المسجد الحرام} وصدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام وتركهم الاستغفار مفهوم من قوله عز وجل: {وهم يصدون عن المسجد الحرام} لأنهم لو آمنوا واستغفروا لما صدوا عنه، وما صدوه عن المسجد الحرام إلا بعد خروجه من بينهم، فكأنه قيل: وما لهم ألا يعذبهم ولست بين ظهرانيهم، فليسوا بمستغفرين ولا تائبين.
الرابع: قوله عز وجل: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد
[1/311]
سلف}، قالوا: هو منسوخ بآية السيف، وليس كذلك، إنما أمره الله بدعوتهم إلى الإسلام، ووعدهم الغفران على ترك الكفر، والهلاك إن عادوا إلى قتاله، وأنه يفعل بهم ما فعل بالأولين، وهم الذين قتلوا يوم بدر.
الخامس: قوله عز وجل: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله} قيل: نزلت في اليهود، ثم نسخت بقوله عز وجل: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله...} إلى قوله عز وجل: {.. حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}، وليس هذا بنسخ؛ لأن إعطاء الجزية ميل إلى السلم. وقال قتادة: نسخها: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} ولا هذا أيضا، لأن هذا محمول على من لم يكن بيننا وبينهم صلح. وعن ابن عباس رحمه الله: نسخها: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون} وقيل في الجواب عنه: إنما أمره في سورة الأنفال بالصلح إن جنحوا إليه وابتدءوا بطلبه، وفي سورة القتال نهاه أن يكون هو المبتدئ بالصلح. فالآية محكمة، وليس ما في القتال بناسخ لها.
السادس: قوله عز وجل: {يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا} فأوجب الله عز وجل على الواحد أن يقف لعشرة من الكفار. قال ابن عباس: وكان هذا والعدد قليل فلما كثروا نسخ ذلك بقوله عز وجل: {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم..} إلى قوله: {... والله مع الصابرين}
[1/312]
ولا شك في أن هذه منسوخة بهذه. أما من قال: هذا ليس بنسخ، وإنما هو تخفيف ونقص من العدة، وحق الناسخ أن يرفع حكم المنسوخ كله ولم يرتفع، وهي باقية على حكمها لأن من وقف للعشرة فأكثر فهو مثاب مأجور ليس ذلك بمحرم عليه، فإنه عن المعرفة بمعزل، لأن الوقوف للعشرة كان واجبا فرضا على الواحد، وليس هو الآن بواجب، فقد ارتفع ذلك الحكم كله ونسخ.
السابع: قوله عز وجل: (ما كان لنبي أن تكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) روي عن ابن عباس رحمه الله أنها منسوخة بقوله عز وجل: {فإما منا بعد وإما فداء}، ومكان ابن عباس رحمه الله من العلم يجل عن هذا، وهل هذا إلا عتاب للنبي صلى الله عليه وسلم لما أسر أهل بدر ولم يقتلهم وقبل منهم الفداء، ولو كان هذا تحريما ومنعا لم يجز أن يأخذ الفداء ولقتلهم وقت نزول هذه الآية ولرجع عن قبوله وقد قال عز وجل: {فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا} قيل: أراد الفداء، لأنه من جملة الغنائم، على أن هذه الآية قد أباحت المن وقبول الفداء بعد الإثخان، وآية القتال نزلت بعد الإثخان، فهما في معنى واحد ولا نسخ.
الثامن: قوله عز وجل: {والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا} واختلف في تفسيرها فقيل: معناه ما لكم من ميراثهم من شيء حتى يهاجروا، أي أنهم لما لم يهاجروا لم يتوارثوا، فلا ميراث بين المسلم المهاجر والمسلم الذي لم يهاجر، ثم نسخ ذلك بقوله عز وجل: {وأولو الأرحام بعضهم أولى
[1/313]
ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين} أي: أولى بالميراث، وقيل: كان المسلمون المهاجرون والأنصار يتوارثون، يرث بعضهم بعضا. وقيل: لبث المسلمون زمانا يتوارثون بالهجرة ولا يرث المؤمن الذي لم يهاجر من قريبه المهاجر شيئا، فنسخ ذلك بقوله عز وجل: {وأولو الأرحام}. والظاهر أن قوله عز وجل: {وأولو الأرحام} ليس بناسخ لما ذكروه، وإنما المعنى أن أولي الأرحام المهاجرين بعضهم أولى ببعض، أي أن الموارثة بالرحم والقرابة بين المهاجرين أولى من التوارث بالهجرة، وإذا اجتمع القرابة والهجرة كان ذلك مقدما على مجرد الهجرة الذي كانوا يتوارثون به، وإنما نسخها آية المواريث. واختار الطبري أن تكون الولاية بمعنى النصرة، وليس كما قال؛ وإن كان الولي في اللغة: الناصر، لأن قوله عز وجل: {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر} يرد ذلك.
وعن ابن عباس رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم لما آخى بين أصحابه كانوا يتوارثون بذلك، ثم نسخ بالآية المذكورة. وقيل: {والذين آمنوا ولم يهاجروا} يراد به الأعراب الذين آمنوا ولم يهاجروا لا ميراث بينهم وبين أقاربهم ممن هاجر.
التاسع: قوله عز وجل: {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق} قالوا: كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أحياء من العرب موادعة، لا يقاتلهم ولا يقاتلونه وإن احتاج إليهم عاونوه، وإن احتاجوا إليه عاونهم، فصار ذلك منسوخا بآية السيف والصحيح أنها في المسلمين الذين لم يهاجروا، إما الذين بقوا بمكة، وإما الأعراب المسلمون الذين لم يهاجروا، والثاني قول ابن عباس، لأنهم – أعني الفريقين – من جملة المسلمين، لهم ما لهم من نصر المسلم المسلم، وعليهم ما على المسلمين من الوفاء بعهد المعاهدين وميثاقهم.
[1/314]

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 30 ربيع الأول 1431هـ/15-03-2010م, 11:28 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي

سورة التوبة
فيها ثمانية مواضع:
الأول: قوله عز وجل: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} قالوا: هو منسوخ بقوله عز وجل: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} وإنما قال عز وجل، ذلك بعد انسلاخ الأشهر الحرم، وهي مدة الذين نقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الذين لم ينقضوه شيئا ولم يظاهروا عليه أحدا فقد أمرنا بأن نتم عهدهم إلى مدتهم.
الثاني: قوله عز وجل: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم..} إلى قوله عز وجل: {... كل مرصد} قالوا: هذه الآية التي نسخت مائة وأربعا وعشرين آية نسخت بقوله عز وجل في آخرها: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} ولا يقول مثل هذا ذو علم؛ إنما هو خبط جاهل في كتاب الله، إنما قال عز وجل: {فاقتلوا المشركين} ما قال: اقتلوا المسلمين.
وقال الحسن والضحاك والسدي وعطاء: هي منسوخة من وجه آخر، وذلك أنها اقتضت قتل المشركين على كل حال، فنسخت بقوله عز وجل: {فإما منا بعد وإما فداء} فلا يحل قتل أسير صبرا. وقال قتادة ومجاهد: بل هي ناسخة لقوله تعالى: {فإما منا بعد وإما فداء} فلا يجوز في أسرى المشركين إلا القتل دون المن والفداء. وقال ابن زيد: الآيتان محكمتان، أما قوله عز وجل: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} فإنه قال بعد ذلك: {وخذوهم} أي للمن والفداء على حسب
[1/315]
ما يرى الإمام. وقد فعل جميع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل من الأسرى يوم بدر عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث، ومن على قوم، وقبل الفدية من قوم.
الثالث: قوله عز وجل: {إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم} قالوا: نسخ بآية السيف، وهذا مستثنى وليس بناسخ لما تقدم، وكيف يكون الاستثناء نسخا ولم يدخل في الأول من مراد المتكلم، ولو قال قائل: اضرب القوم إلا زيدا، لم يكن زيد داخلا في نية المتكلم، وقد انكشف ذلك للسامع أيضا.
الرابع: قوله عز وجل: {والذين يكنزون الذهب والفضة..} إلى قوله عز وجل: {.... فذوقوا ما كنتم تكنزون} قالوا: نسخ جميع ذلك بآية الزكاة. وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله: أراها منسوخة بقوله عز وجل: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} والصحيح أنها محكمة غير منسوخة. والكنز عند العلماء: كل مال وجبت فيه الزكاة ولم تؤد زكاته. قال ابن عمر رضي الله عنه: كل مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا، وكل مال لم تؤد زكاته فهو كنز يكوى به صاحبه وإن لم يكن مدفونا. وعن ابن عباس: هي فيمن لم يؤد زكاته من المسلمين، وهي في أهل الكتاب كلهم، لأنهم يكنزون ولا ينفقون في سبيل الله، وإنما ينفق في سبيل الله المؤمنون.
الخامس: قوله عز وجل: {إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما..} إلى قوله عز
[1/316]
وجل: {.. ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} قالوا: نسخ هذه الآيات قوله عز وجل: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} ورووا ذلك عن ابن عباس.
وقال الحسن وعكرمة وكثير من العلماء: هي محكمة، ومضى {إلا تنفروا يعذبكم} أي: إذا احتيج إليكم واستنفرتم ولم تنفروا.
السادس: قوله عز وجل: {عفا الله عنك لم أذنت لهم..} إلى قوله: {.. فهم في ريبهم يترددون} قالوا: نسخ هذه الآيات الثلاث قوله عز وجل: {فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم} قال ذلك الحسن وعكرمة، واختلف عن ابن عباس فقيل عنه مثل هذا، وقيل عنه إنه قال: الثلاث محكمات نزلت في المنافقين الذين استأذنوا في العقود، والتي في النور إنما هي في المؤمنين يستأذنون لبعض أمورهم ثم يعودون إليه صلى الله عليه وسلم، قيل: كان ذلك وهم يحفرون الخندق، وهذا هو الحق والصواب، والاستئذانان مختلفان ولا نسخ بينهما.
السابع: قوله عز وجل: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم..} الآية، قالوا: هي منسوخة بقوله عز وجل: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره} وهذا غير صحيح، بل هو مؤكد للأول، وإنما معنى
[1/317]
الأول أن استغفارك لهم غير نافع، ففعله وتركه سواء، ولم يرد بذلك الصلاة عليهم، ولا تخييره بين الاستغفار وتركه، وكيف يستغفر لهم أو يصلي عليهم وقال الله عز وجل له في الآية: {ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله}.
فإن قلت: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لأزيدن على السبعين)) فنزلت: {سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم} قلت: يرد هذه الرواية قوله عز وجل: {إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله} فكيف يقول صلى الله عليه وسلم: ((لأزيدن على السبعين))، وهو يعلم أن الزيادة على السبعين إلى ما لا نهاية له من العدد لا تنفع الكافر، هذا ما لا يصح.
فإن قيل: فكيف كفن ابن أبي في قميصه وهو رأس المنافقين؟ قلت: أرسل إليه عند موته يطلب قميصه فقال صلى الله عليه وسلم: ((إني أؤمل أن يدخل في الإسلام خلق كثير، وإن قميصي لن يغني عنه من الله شيئا)). فأسلم ألف من الخزرج لما رأوه طلب الاستشفاء بقميص النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل: ألم يقم على قبره ويصل عليه؟. قلت: قد روي أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل عليه، وإن كان قد صلى عليه فذلك لظنه أنه قد تاب حين بعث يطلب قميصه لينال بركته ويتقي به عذاب الله عز وجل، وهذا إيمان – إن كان صادرا عن صدر سليم.
فإن قلت: ألم يجذبه عمر رضي الله عنه حرصا على ترك الصلاة عليه وقال له: أليس قد نهاك الله عز وجل؟ فقال: ((إنما خيرني بين الاستغفار وتركه))، فصلى عليه. قلت: هذا بعيد أن يظن النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك تخيير، وقد أخبره بكفرهم، وهذا ظاهر لمن تأمله.
الثامن: قوله عز وجل: {الأعراب أشد كفرا ونفاقا..} إلى قوله:
[1/318]
{... والله سميع عليم} قالوا: نسخ ذلك بقوله عز وجل: {ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم} الآية. وهذا مما ينبغي أن يتصامم عنه ولا يسمع.
[1/319]

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 30 ربيع الأول 1431هـ/15-03-2010م, 11:29 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي

سورة يونس عليه السلام
فيها سبعة مواضع:
الأول: قوله عز وجل: {إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} قالوا: نسخت بقوله عز وجل: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} وما ذلك بصحيح، فإن خوفه على المعصية من عذاب الله لو قدر وقوعها منه – وحاشاه – لم يزل، ولا نسخ، وهو صلى الله عليه وسلم يقول لما قام حتى تورمت قدماه، وقيل له: أتفعل هذا بنفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر: ((والله إني لأخوفكم لله)) على أن هذه الآية نزلت في طلبهم منه تبديل كلام الله والإتيان بغيره، فقال الله عز وجل: {قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم}، أفهذا ينسخ بما ذكروه.
الثاني: قوله عز وجل: {لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين} قالوا: نسخت بآية السيف، وليس ذلك بصحيح، إنما أنزل ذلك في طلبهم الآيات المهلكة: {لولا تأتينا الساعة}، {أمطر علينا حجارة من السماء} فقيل له: {قل إني لا أعلم الغيب}
[1/320]
كما قال نوح عليه السلام لما قيل له: {قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين* قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين}، وكذلك أمر نبينا صلى الله عليه وسلم أن يقول: {إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين} وهذا تهديد ووعيد، أي: فانتظروا ما طلبتم إني منتظر معكم، وكما قال له: {قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم} ومثل هذا لا ينسخ بآية القتال.
الثالث: قوله عز وجل: {وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم} الآية. قالوا: نسخت بآية السيف.
الرابع: قوله عز وجل: {وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون}.
الخامس: قوله عز وجل: {أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}.
السادس: قوله عز وجل: {فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل}.
السابع: قوله عز وجل: {واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين}. قالوا: نسخ جميع ذلك بآية السيف، ولم ينسخ بآية السيف شيء من ذلك، ولا هي معارضة له.
[1/321]

رد مع اقتباس
  #11  
قديم 30 ربيع الأول 1431هـ/15-03-2010م, 11:29 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي

سورة هود عليه السلام
فيها ثلاثة مواضع:
الأول: قوله عز وجل: {إنما أنت نذير} قالوا: نسخت بآية السيف، والكلام في ذلك كما تقدم.
الثاني: قوله عز وجل: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها} الآية.
قالوا نسخت بقوله عز وجل: {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد} وذلك باطل، لأنه خبر، والخبر لا يدخله النسخ، ورووا ذلك عن ابن عباس، ومكانه في العلم والمعرفة يرد ذلك، وقيل في قوله تعالى: {لمن نريد} أي: لمن نريد إهلاكه.
الثالث: قوله عز وجل: {وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون* وانتظروا إنا منتظرون} إلى آخر السورة، زعموا أنه منسوخ بآية السيف، وليس كما زعموا، وقد تقدم القول في مثل ذلك.
[1/322]

رد مع اقتباس
  #12  
قديم 30 ربيع الأول 1431هـ/15-03-2010م, 11:29 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي

سورة يوسف عليه السلام
ليس فيها ناسخ ولا منسوخ، وزعم من لا معرفة له أن قوله عز وجل: {توفني مسلما وألحقني بالصالحين} منسوخ بقوله عليه السلام: ((لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به))، فهذا باطل ظاهر البطلان، لأن هذا خبر أخبر الله به عن يوسف عليه السلام، فكيف يصح نسخه، ولأن يوسف عليه السلام سأل الله الوفاة على الإسلام، ونحن نسأل الله عز وجل برحمته وكرمه أن يقبضنا على الإسلام. وليس قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور من هذا، إنما ذلك في من اشتد ألمه لضر نزل به فتمنى الخلاص منه بالموت ضجرا وكراهة لما ابتلي به.

رد مع اقتباس
  #13  
قديم 30 ربيع الأول 1431هـ/15-03-2010م, 11:30 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي

سورة الرعد
ليس فيها شيء من المنسوخ والناسخ، وزعم زاعمون أن قوله عز وجل: {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم} منسوخ بقوله عز وجل: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} وذلك ظاهر البطلان، وهذا خبر حق وقول صدق لا يدخله نسخ، وما زال ربنا عز وجل غافرا غير معاجل بالعقوبة {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة} فله الحمد على حلمه مع علمه،
[1/323]
وله الحمد على عفوه مع قدرته. وقالوا في قوله عز وجل: {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب} نسخ بآية السيف، وليس كما قالوا، وقد تقدم القول فيه.

رد مع اقتباس
  #14  
قديم 30 ربيع الأول 1431هـ/15-03-2010م, 11:30 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي

سورة إبراهيم عليه السلام
ليس فيها من المنسوخ والناسخ شيء، وأما قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إن فيها آية منسوخة، وهي قوله عز وجل: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار}، نسخها قوله عز وجل في "النحل": {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم} فمما لا يلتفت إليه ولا يعرج عليه ولا يستحق أن يكون جوابه إلا السكوت.

رد مع اقتباس
  #15  
قديم 30 ربيع الأول 1431هـ/15-03-2010م, 11:31 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي

سورة الحجر
ليس فيها منسوخ ولا ناسخ، وزعموا أن قوله عز وجل: {ذرهم يأكلوا...} الآية، منسوخ بآية السيف، وهذا وعيد وتهديد، وآية السيف لا تنسخ الموعظة والتهديد.
قوله عز وجل: {فاصفح الصفح الجميل} قالوا: نسخ بآية السيف،
[1/324]
وهو أمر من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر في حال لم يكن فيها مطيقا لقتالهم، فليس بمنسوخ بآية السيف.
وقوله عز وجل: {لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم} قالوا: نسخ بآية السيف، وإنما المعنى: إنا أعطيناك المثاني والقرآن العظيم، فالذي أعطيناك أفضل من كل عطية، فلا تمدن عينيك إلى دنياهم واستغن بما أعطيناك كما متعنا به صنوفا منهم.
وقالوا في قوله عز وجل: {وقل إني أنا النذير المبين} نسخ معناه بآية السيف دون لفظه، وليس كما قالوا: وذلك محكم لفظا ومعنى.
وقالوا في قوله عز وجل: {فاصدع بما تؤمر} هذه الآية نصفها محكم ونصفها منسوخ، وهو قوله عز وجل: {وأعرض عن المشركين} وهذا كأنه نوع من اللعب، وإنما المعنى: بلغ ما أمرت بتبليغه، واصدع به ولا تخش المشركين فإنا قد كفيناك المستهزئين. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخفي أمره مخافتهم، فأمره الله بإظهار أمره وإظهار القرآن الذي يوحى إليه، وقيل: لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم بمكة مستخفيا حتى نزلت فخرج هو وأصحابه. وعن ابن عباس: المستهزئون: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل السهمي، وعدي بن قيس، والأسود بن عبد يغوث الزهري، وهو ابن خال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو زمعة الأسود بن عبد المطلب كانوا يستهزءون برسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينما النبي صلى الله عليه وسلم ومعه جبريل عليه السلام، إذ مروا به واحدا بعد واحد، فإذا مر واحد منهم قال له جبريل: كيف تجد هذا؟ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((بئس عبد الله))، فيقول جبريل عليه السلام: كفيناك هو، فهلكوا في ليلة واحدة، أما الوليد
[1/325]
فتعلق بردائه سهم فقعد ليخلصه فقطع أكحله فنزف فمات. وأما الأسود بن عبد يغوث فأتى بغصن فيه شوك فضرب به وجهه فسالت حدقتاه على وجهه. وأما العاص بن وائل فوطيء شوكة فتساقط لحمه عن عظمه. وأما الأسود بن عبد المطلب وعدي بن قيس، فأحدهما لدغته حية فمات، والآخر شرب من جرة، فما زال يشرب حتى انشق بطنه. أي: إنا كفيناك الساخرين منك، الجاعلين مع الله إلها آخر، قال عكرمة: هم قوم من المشركين كانوا يقولون: سورة البقرة، سورة العنكبوت، يستهزئون بالقرآن وأسمائه.
[1/326]

رد مع اقتباس
  #16  
قديم 30 ربيع الأول 1431هـ/15-03-2010م, 11:31 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي

سورة النحل
فيها خمس مواضع:
الأول: قوله عز وجل: {تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا} قالوا: نسخت بقوله عز وجل في "المائدة": {فاجتنبوه} أو بقوله سبحانه: {فهل أنتم منتهون} وليس هذا بمنسوخ بهذا: لأن الله عز وجل أخبر عن حالهم في سورة "النحل" وعما كانوا يفعلون ولم يبح لهم بذلك الخمر ولا أمر باتخاذها.
قالوا: وهذا الخبر وشبهه جائز نسخه، لأن الخبر على ضربين: ضرب لا يجوز نسخه مثل أن يخبر الله عز وجل عن شيء أنه كان، أو أنه سيكون. وضرب يجوز نسخه مثل أن يخبرنا عز وجل عن قوم أنهم فعلوا شيئا واستباحوه أو تمتعوا به ولم يحرم ذلك عليهم، ثم أخبرنا أنه محرم علينا، فنسخ ما كان أخبرنا به أنه كان مباحا لمن كان قبلنا، فهذا نسخ المسكوت عنه من فهم الخطاب، لأنه قد فهم من قوله: {تتخذون منه سكرا} أي كان مباحا لهم، وسكت عن حكمنا فيه، فجاز أن يكون لنا مباحا أيضا ثم نسخ جواز إباحته بالتحريم في "المائدة". وهذا غير صحيح لأنا لم نفهم من قوله عز وجل: {تتخذون منه سكرا} أنه كان مباحا لهم، ولو فهمنا ذلك مثلا لم ندر ما حكمه فيه علينا، فكما يجوز أن يكون مباحاً لنا كذلك يجوز أن يكون محرما علينا. ثم إن القرآن إنما ينسخ القرآن وليس تجويزنا أن يكون مباحا لنا بقرآن فينسخ، على أن الله عز وجل قد أومأ إلى تحريمه وعرض بذمه بقوله عز وجل بعده: {ورزقا حسنا} فأشار بذلك إلى أن السكر رزق مذموم غير حسن.
وقال أبو عبيدة: السكر: الطعم، وقيل: السكر: ما سد الجوع. وفيما قدمته ما يغني عن هذين التأويلين.
[1/327]
الثاني: قوله عز وجل: {فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين} قالوا: نسخ بآية السيف، وقد تقدم مثل هذا والجواب عنه، وإنما المعنى: فإنما عليك البلاغ وليس عليك هداهم.
الثالث: قوله عز وجل: {من كفر بالله بعد إيمانه} قال قوم: نسخ هذا بقوله: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} وقد بينت أن الاستثناء ليس بنسخ. وقال قوم: الآية كلها منسوخة بقوله عز وجل: {ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا} يعني أنهم فتنوا عن دينهم، فأخبر عز وجل أنهم إذا هاجروا وجاهدوا وصبروا أنه غفور رحيم، وهذا غلط ظاهر، لأن هذا فيمن أسلم بعد أن أكره على الكفر فكفر، وذاك فيمن شرح بالكفر صدرا ودام عليه {ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين * أولئك الذين طبع الله على قلوبهم..} إلى قوله: {.. هم الخاسرون} وقد قرئ: (فتنوا) بفتح الفاء والتاء: أي فتنوا غيرهم عن دينهم ثم أسلموا وتابوا.
الرابع: قوله عز وجل: {وجادلهم بالتي هي أحسن} قالوا: هو منسوخ بآية السيف، وقيل: بل هي محكمة، والتي هي أحسن: اللين، غير فظ غليظ ولا جاف. وقيل: الانتهاء إلى ما أمر الله به ونهى عنه، وكل ذلك غير منسوخ، وما زال يدعو إلى الله عز وجل بالرفق واللين، وما قاتل قوما قط حتى
[1/328]
دعاهم إلى الإيمان وعرضه عليهم وبينه لهم، وأما المفاجأة بالقتال من غير أن يقدم القول والدعاء إلى الإسلام فلا، وأمره صلى الله عليه وسلم وحاله كما قيل:
أناة، فإن لم تغن أردف بعدها وعيدا، فإن لم يغن أغنت صوارمه
الخامس: قوله عز وجل: {واصبر وما صبرك إلا بالله} قالوا: نسخ الصبر بآية السيف، ولا يصح ما قالوه؛ لأنه قد قال عز وجل قبلها: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} فما نزلت إلا بعد الأمر بالقتال، وكان المسلمون قد عزموا على المثلة بالمشركين لما فعل المشركون يوم أحد بحمزة رحمه الله وغيره من المسلمين، وقالوا: لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب، فقال لهم الله عز وجل: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم} إما عن المثلة المماثلة لما فعل بكم، وإما عن تركها رأسا والاقتصار على القتل دونها، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {واصبر وما صبرك إلا بالله} لأنه صلى الله عليه وسلم لما وقف على حمزة رحمه الله فنظر إلى شيء لم ينظر قط إلى شيء كان أوجع لقلبه منه، ونظر إليه وقد مثل به فقال: ((رحمة الله عليك، فإنك كنت – ما علمتك – فعولا للخيرات، وصولا للرحم، ولولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أدعك حتى تحشر من أفواه شتى. أما والله مع ذلك لأمثلن بسبعين منهم)) فنزل جبريل عليه السلام والنبي صلى الله عليه وسلم واقف – بخواتيم سورة النحل: {وإن عاقبتم..} الآيات الثلاث، فصبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكفر عن يمينه ولم يمثل بأحد. فقوله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {واصبر} كما يقال لمن يعزي في مصيبة: اصبر واحتسب، وهذا حكم باق إلى يوم القيامة لم ينسخ، وكل من نزلت به نازلة فهو مأمور بالصبر، وهذه السورة مكية إلا الآيات الثلاث.
[1/329]

رد مع اقتباس
  #17  
قديم 30 ربيع الأول 1431هـ/15-03-2010م, 11:32 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي

سورة بني إسرائيل
{فيها ستة مواضع}:
الأول: قوله عز وجل: {وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا} قالوا: هو منسوخ بقوله عز وجل: {ما كان للنبي والذين آمنوا معه أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى} قالوا: وبقوله عز وجل: {فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه} وذا غير صحيح؛ لأن الآية خطابها للمؤمنين في الاستغفار لآبائهم المؤمنين إذا ماتوا،وقد علم أن الله لا يغفر لمن مات كافرا، فلا وجه لتناولها الآباء الكفار.
الثاني: قوله عز وجل: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن}.
قالوا: هو منسوخ بقوله عز وجل: {وإن تخالطوهم فإخوانكم} وقال آخرون: هو منسوخ بقوله عز وجل: {فليأكل بالمعروف} وليس ذلك بصحيح.
فإن الله عز وجل قال: {إلا بالتي هي أحسن} وقال في الأخرى: {والله يعلم المفسد من المصلح}.
[1/330]
الثالث: قوله عز وجل: {وما أرسلناك عليهم وكيلا} قالوا: نسخ بآية السيف، وقد تقدم الكلام على مثله، وإنما الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ وليس بوكيل، وليست الهداية إليه.
الرابع: قوله عز وجل: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها} زعموا أن ابن عباس رحمه الله قال: هي منسوخة بقوله عز وجل في "الأعراف": {واذكر ربك في نفسك..} الآية. أي أنه أمر في "سبحان" ألا يخافت بصلاته، وأمر في "الأعراف" بالمخافتة، وقد تقدم عن ابن عباس رضي الله عنه، يطلق النسخ على غير ما نطلقه نحن عليه، هذا إن صح ذلك عنه. وقد قال أبو موسى وأبو هريرة وعائشة رضي الله عنهم: المراد بالصلاة هاهنا الدعاء، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن رفع الصوت بالدعاء وقال: ((إنكم لا تنادون أصم))، وقيل: "يا رسول الله: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه" فأنزل الله عز وجل: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب} فالآية على هذا محكمة.
وقال الحسن: المعنى: {ولا تجهر بصلاتك} أي لا تراء بها في العلانية: {ولا تخافت بها} أي تهملها وتتركها في السر، ولكن هذا التأويل يبطله قوله عز وجل: {وابتغ بين ذلك سبيلا} إلا أن يريد أن الإخلاص والمحافظة سبيل بين الرياء والتهاون فتكون الآية على هذا محكمة.
[1/331]
الخامس: قوله عز وجل: {إن العهد كان مسئولا} قال السدي: هذا منسوخ بقوله عز وجل: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا} قال: فاقتضى قوله عز وجل: {إن العهد كان مسئولا} أن من يسأل عن العهد يجوز أن يدخل الجنة، ثم نسخ ذلك بقوله عز وجل: {أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} وليس الأمر كما قال؛ فإن قوله عز وجل: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم..} الآية، نزلت في اليهود، وعهد الله عز وجل ما في كتابهم من نعت النبي صلى الله عليه وسلم {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا}. وقيل: إن قوما من اليهود اشتدت عليهم معيشتهم فلجأوا إلى المدينة، فلما رجعوا سألهم رؤساؤهم عن النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هو الصادق ولا شك فيه، فقال رؤساؤهم: حرمتم أنفسكم برنا ونفعنا. فحكوا من كتبهم صفة النبي صلى الله عليه وسلم وأثبتوا صفة غيره، وقالوا لرؤسائهم: إن كنا لغالطين، وقالوا: إن الأمر فيه كما تقولون، وأخرجوا ما غيروه وبدلوه، فنفعوهم وبروهم.
وأما قوله عز وجل: {وأوفوا بالعهد} أي: إذا عاهدتم الناس على شيء فأوفوا به، فإن العهد مسئول، أي مطلوب أو مسئول عنه، وليس بين الآيتين تعارض.
السادس: قال السدي في قوله عز وجل: {وأوفوا الكيل إذا كلتم..}
[1/332]
الآية، نسخها قوله عز وجل: {ويل للمطففين} قال: فآية "سبحان" تقتضي أن من نقص الكيل والوزن كان مؤمنا ثم أوجب الله تعالى له الويل. والآية محكمة عند جميع العلماء، وإنما أخبر الله تعالى في "سبحان" أن إيفاء الكيل والوزن العدل خير لمن فعله، وأحسن عاقبة. والتأويل: العاقبة. ومثل هذا من الخبر لا ينسخ، وأخبر الله تعالى في "المطففين" بالويل لمن طفف، ولا تعارض بينهما ولا نسخ.

رد مع اقتباس
  #18  
قديم 30 ربيع الأول 1431هـ/15-03-2010م, 11:33 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي

سورة الكهف
وليس في سورة الكهف شيء، إلا أن السدي قال في قوله عز وجل: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} هو منسوخ بقوله عز وجل: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله} والذي قاله باطل، والمراد التهديد لا التخيير، ولو فرض ما قاله لم يكن قوله عز وجل: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله} معارضا له، ويلزم من القول بأن هذا على التخيير إباحة الكفر، ومن اعتقد أن الله عز وجل أباح الكفر فهو كافر.

رد مع اقتباس
  #19  
قديم 30 ربيع الأول 1431هـ/15-03-2010م, 11:34 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي

سورة مريم عليها السلام
ليس فيها من المنسوخ شيء، وقال قوم: قوله عز وجل: {وأنذرهم يوم الحسرة} نسخ بآية السيف، وهذا من أعجب الجهل، أيرى أنه لما نزلت آية السيف بطل إنذاره وتذكيره بيوم القيامة.
[1/333]
وقالوا في قوله عز وجل: {فسوف يلقون غيا} قالوا نسخ بقوله: {إلا من تاب} وقد تقدم ذكر هذا.
وكذلك قالوا في قوله عز وجل: {وإن منكم إلا واردها} هو منسوخ بقوله: {ثم ننجي الذين اتقوا} وهذا خبر، والخبر لا يصح نسخه من الله عز وجل، وأيضا فإن الذين اتقوا نجوا بعد الورود، فأين النسخ؟ وعن النبي صلى الله عليه وسلم: الورود: الدخول، ((لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها))، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما، وسأل جابر بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال بعضهم لبعض: أليس وعدنا ربنا أن نرد النار؟ فيقال لهم: قد وردتموها وهي خامدة". وقال ابن مسعود وقتادة والحسن: الورود: الجواز على الصراط. وقال بعضهم: يجوز أن يكون خطابا للكفار، أعني منكم، وعلى الجملة فهو غير منسوخ.
وقالوا في قوله عز وجل: {فليمدد له الرحمن مدا} نسخ معناه بآية
[1/334]
السيف، وهذا إخبار جاء على لفظ الأمر، إعلاما بأن ذلك كائن ولا بد، لأن أمر الله لنفسه بمعنى الخبر، وقيل: إنه دعاء، أي يمد الله في عمره. وعلى الجملة فليس بمنسوخ.
وقالوا في قوله عز وجل: {فلا تعجل عليهم} إنه منسوخ بآية السيف، وهذا تهديد ووعيد وليس بمنسوخ بآية السيف.

رد مع اقتباس
  #20  
قديم 30 ربيع الأول 1431هـ/15-03-2010م, 11:34 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي

سورة طه
ليس فيها منسوخ، وأما قولهم في قوله عز وجل: {ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه} هو منسوخ بقوله عز وجل: {سنقرئك فلا تنسى} فهو ظاهر البطلان، فإن أمره بالتأني إلى أن يسمع من الملك حكم ثابت لم ينسخ.
وكذلك قوله عز وجل: {فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك} قالوا: إنه منسوخ بآية السيف، وبإنزال الفرائض، وليس كذلك؛ أما قوله عز وجل: {فاصبر على ما يقولون} فقد تقدم القول في مثله، وأما قوله عز وجل: {وسبح بحمد ربك} فقد قيل: أراد بقوله: {قبل طلوع الشمس} صلاة الفجر، {وقبل غروبها} الظهر والعصر، {ومن آناء الليل} العشاء الآخرة {وأطراف النهار}
[1/335]
المغرب والصبح، وكرر ذكرها كما قال عز وجل: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى}.
وكذلك قوله عز وجل: {قل كل متربص فتربصوا} قالوا: نسخ بآية السيف، وهذا وعيد ليس فيه نسخ.

رد مع اقتباس
  #21  
قديم 30 ربيع الأول 1431هـ/15-03-2010م, 11:35 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي

سورة الأنبياء عليهم السلام
ليس فيها شيء من المنسوخ، وقال قوم في قوله عز وجل: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} أنه منسوخ بقوله عز وجل: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون} فما أدري بم يرد هذا القول لكثرة الوجوه المبطلة له: أبكونه خبرا من الله عز وجل، وخبره لا ينسخ، أم بكونه خطابا لكفار قريش بقوله عز وجل: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} وما كانوا يعبدون المسيح، ولا الملائكة، أم بقوله: {وما تعبدون} و{ما} لما لا يعقل، أم بكونه قد تبين بقوله سبحانه: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} أنه لم يرد العموم بقوله: {وما تعبدون من دون الله}.
[1/336]

رد مع اقتباس
  #22  
قديم 30 ربيع الأول 1431هـ/15-03-2010م, 11:35 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي


سورة الحج
ليس فيها منسوخ، وقالوا في قوله تعالى: {وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون} نسخها آية السيف، وقد قلنا إن آية السيف لا يصح أن تكون ناسخة لشيء من هذا، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن قادرا على القتال، منهيا عنه، وإنما تنسخ آية السيف آية يكون فيها نهيه عن القتال، ولا نجد ذلك في القرآن؛ لأن العاجز عن القتال لا ينهى عنه، أفترى أنه بعد آية السيف لا يجوز أن يقول لهم: {الله أعلم بما تعملون} وما يروى عن السلف رحمه الله مثل ابن عباس وغيره من إطلاق النسخ في هذا إنما يريدون به الانتقال من حال إلى أخرى، فأطلقوا على ذلك النسخ، ونحن نريد بالنسخ رفع الحكم الثابت نصا بنص آخر لولاه لكان الأول ثابتا، وابن عباس وغيره لا يريدون بالنسخ هذا.
وقالوا في قوله عز وجل: {وجاهدوا في الله حق جهاده} هو منسوخ بقوله عز وجل: {فاتقوا الله ما استطعتم} وقد تقدم الكلام في هذا.
وأما ما ذكروه في قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي} من أنه منسوخ بقوله: {سنقرئك فلا تنسى} فهذيان لا يسمع ولا يلوى عليه.
[1/337]

رد مع اقتباس
  #23  
قديم 30 ربيع الأول 1431هـ/15-03-2010م, 11:35 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي

سورة المؤمنين
لا نسخ فيها، وأما قولهم في قوله عز وجل: {فذرهم في غمرتهم} وقوله تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن السيئة} إنهما منسوختان بآية السيف فغير صحيح، وقد تقدم الكلام في مثله.

رد مع اقتباس
  #24  
قديم 30 ربيع الأول 1431هـ/15-03-2010م, 11:36 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي

سورة النور
قوله عز وجل: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} في معنى هذه الآية أقوال: قال ابن المسيب، فيما رواه مالك عن يحيى بن سعيد عنه: إنها عامة، وإنها منسوخة بقوله عز وجل: {وأنكحوا الأيامى منكم} ولم يفرق بين زانية ولا عفيفة، فكل من زنى بامرأة أو زنى بها غيره جاز له أن يتزوجها. قال الشافعي رحمه الله: الآية منسوخة إن شاء الله كما قال ابن المسيب، وكذلك يقول ابن عمر: هي منسوخة بجواز نكاح الزانية، وسالم وجابر بن زيد وعطاء وطاووس ومالك وأبو حنيفة. والقول بأن الآية منسوخة يوجب أن الزاني كان محرما عليه أن ينكح عفيفة، ولا يجوز له أن ينكح إلا زانية أو مشركة، وأن الزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك، وادعاء ذلك ليس بالهين، ومتى أباح الله عز وجل نكاح المشركات غير الكتابيات لزناة المسلمين، ومتى أباح الله للزانية المسلمة أن تنكح المشرك، فهذا القول واه ظاهر السقوط. ثم إن قوله عز وجل: {وحرم ذلك على المؤمنين} يوجب على هذا القول أن يكون الزاني والزانية غير المشركين، أن يكونا غير مؤمنين. وقال مجاهد وقتادة والزهري:
[1/338]
هذه الآية نزلت في قوم من المؤمنين أرادوا نكاح مومسات معلوم منهم الزنا في الجاهلية. وقال ابن عمر رحمه الله: استأذن رجل من المؤمنين النبي صلى الله عليه وسلم في نكاح امرأة يقال لها أم مهزول اشترطت له أن تنفق عليه وكانت تسافح. والآية لا تطابق ما ذكروه، فكيف يكون سببا لنزولها، وكان ينبغي على ما ذكروه أن يكون أول الكلام "المؤمنون لا ينكحون الزواني" وفي ذلك أيضا ما ذكرته فيما سبق.
وعن ابن عباس رحمه الله: المراد بالنكاح الوطء، أي أن الزاني من أهل القبلة لا يزني إلا بزانية مثله من أهل القبلة أو بمشركة، والزانية من أهل القبلة لا تزني إلا بزان مثلها من أهل القبلة أو بمشرك {وحرم ذلك} أي: وحرم الزنا على المؤمنين، واختار هذا القول الطبري، وقال في قوله عز وجل: {وحرم ذلك على المؤمنين} أي وحرم على المؤمنين نكاح المشركات الوثنيات، وعلى المؤمنات نكاح المشركين، وليس هذا القول بمستقيم، وأي فائدة في الإخبار بأن الزاني لا ينكح إلا زانية، أي لا يطأ إلا زانية، وفي أن الزانية لا يطأها إلا زان. ورد قوم من العلماء القول بأن المراد بالنكاح الوطء بقوله عز وجل: {وحرم ذلك على المؤمنين} وقال: هو محرم على المؤمنين وغيرهم، وإنما المراد بالنكاح التزويج، أي: وحرم نكاح البغايا والزناة. وهذا الرد غير سديد، لأنه لا يلزم من قوله عز وجل: {وحرم ذلك على المؤمنين} أن يكون مباحا لغيرهم، وقد قال عز وجل: {حرمت عليكم الميتة} و{حرمت عليكم أمهاتكم} الآية، وإنما رده بما ذكرته.
وقال صاحب الكشاف في هذه الآية: الفاسق: الخبيث الذي من شأنه الزنا والتقحب، لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء واللائي على خلاف صفته، وإنما يرغب في فاسقة خبيثة من شكله، أو مشركة. والفاسقة الخبيثة المسافحة كذلك، لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال وينفرون عنها، وإنما يرغب فيها من هو من شكلها من الفسقة أو المشركين، ونكاح المؤمن الممدوح عند الله الزانية
[1/339]
ورغبته فيها وانخراطه بذلك في سلك الفسقة المتسمين بالزنا محرم عليه محظور لما فيه من التشبه بالفساق وحضور موقع التهمة، والتسبب لسوء القالة فيه والغيبة، وأنواع المفاسد، ومجالسة الخطائين كم فيها من التعرض لاقتراف الآثام، فكيف بمزاوجة الزواني والقحاب، وقد نبه تعالى على ذلك بقوله: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم}. وقد قال هذا وهو يحسب أنه قال شيئا، ومتى كان الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، بل الزاني المتوغل في الزنا أكثر غيرة من غيره، ألا ترى إلى قوله: "بقدر العفة تكون الغيرة" فهو لا يرضى لنفسه أن تكون قعيدة بيته إلا في أبلغ درجات التصون، وتراه يتخيل من أدنى شيء لما عرفه من أحوال الزناة، ولهذا أجاز مالك رحمه الله ولاية الفاسق في النكاح. ومتى أبيح للزاني نكاح المشركة الوثنية حتى لا يرغب إلا فيها، ومتى رأينا الزناة يطلبون المشركات لنكاحهن كتابيات أو غير كتابيات، ثم إن نكاح المشركات ليس فيه شيء مما ذكر، ولو كان فيه ذلك لما أباح الله عز وجل الكتابيات وأحله للمؤمنين، فكيف يكون مخالطتهم والكون معهم محرم على المسلمين.
فإن قيل: فما بقي للآية معنى تحمل عليه. قلت: معناها تنفيرهم عن الزنا وتقبيحه في نفوسهم، لأن الله عز وجل ذكر في الآية التي قبلها حد الزاني ونهى عن الرأفة بمن زنى، وذكر أنها لا تجامع الإيمان، ثم قال في هذه الآية كالمؤكد لذلك: إذا كان الزاني المشهور بالزنا غير مرضي لنكاح من وليتم أمره، بل هو مردود عن ذلك مصدود استنكافا له، فلا ينكح إلا زانية مثله، والزانية لا تجد ناكحا لهجنتها إلا زانيا أو مشركا إن كانت مشركة. فإذا كانت هذه حال الزنا عندكم فكيف ترضونه لأنفسكم، فقد حرمه عليكم لما فيه من رفع أقداركم وصرف السوء والفحشاء عنكم، والزاني في قوله عز وجل: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك} عام في كل زان مسلم أو مشرك، وفي كل زانية، فهذا الجنس لا ينكح إلا زانية إن كان مسلما أو مشركة إن كان مشركا، ونزه الله المؤمنين من ذلك فحرمه عليهم، والآية محكمة، والله أعلم.
[1/340]
وقوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها} ليس بمنسوخ بقوله تعالى: {ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم} كما ذكروا، لأن الأولى في البيوت المسكونة، يدل على ذلك قوله عز وجل: {وتسلموا على أهلها} والثانية في البيوت التي ينزلها المسافرون وبيوت الخانات والبيوت التي ليس لها أرباب ولا سكان.
وقوله عز وجل: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن} الآية، ليس ذلك بمنسوخ، بل هو محكم واجب على جميع النساء. وقال قوم: نسخ بعضها بقوله عز وجل: {والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثبابهن غير متبرجات بزينة} وليس هذا بناسخ لما تقدم لمن تأمل.
وقوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم..} الآية. روي عن ابن عباس رحمه الله أنها منسوخة وكذلك قال سعيد بن المسيب.
وهذا مما يوضح ما قلته من أنهم كانوا يطلقون النسخ على غير ما نطلقه نحن عليه، لأن ابن عباس رحمه الله سئل عن هذه الآية فقال: لا يعمل بها اليوم، قال: وذلك أن القوم لم يكن لهم ستور ولا حجال، فربما دخل الخادم والولد واليتيم على الرجل وهو يجامع، فأمر الله عز وجل بالاستئذان في هذه الساعات الثلاث، ثم جاء الله عز وجل باليسر وبسط الرزق، فاتخذ الناس الستور والحجاب، فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم عن الاستئذان. وقال ابن المسيب: هي منسوخة لا يعمل بها اليوم، وهذا من قوله دليل واضح على ما ذكرته فلا تغتر بقولهم: منسوخ، فإنهم لا يريدون به
[1/341]
ما تريد أنت بالنسخ، والدليل على هذا أن هذه الآية لم يرد لها ناسخ من القرآن ولا من السنة على قول من يجيز نسخه بالسنة، وأن حكمها باق فيمن يكون حاله كحال من أنزلت فيه بإجماع. قال الشعبي: ليست منسوخة، فقيل له: إن الناس لا يعملون بها اليوم، فقال: الله المستعان. وأكثر العلماء على أنها محكمة، وحكمها باق والاستئذان غير منسوخ.
وقوله عز وجل: {فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم} قالوا: نسخت بآية السيف، وهذا خبر، وخبر الله عز وجل لا ينسخ.

رد مع اقتباس
  #25  
قديم 30 ربيع الأول 1431هـ/15-03-2010م, 11:38 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي

سورة الفرقان
ليس فيها نسخ، وقالوا في قوله عز وجل: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} قال أبو العالية: قوله: {قالوا سلاما} منسوخ بآية السيف، وتكلم في ذلك سيبويه ولم يتكلم في شيء من الناسخ والمنسوخ إلا في هذه، قال: ولم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين، قال: ولكنه على قولك: لا خير بيننا ولا شر، يعني أن قوله: {قالوا سلاما} معناه: تسلما منكم ومتاركة لانجاهلكم، لا خير بيننا ولا شر، أي نتسلم عنكم تسلما، فأقيم السلام مقام التسلم، وهذا التأويل يحتاج فيه إلى إثبات أن الجاهلين هم المشركون، وأيضا فإن الله عز وجل وصف المؤمنين وأثنى عليهم بصفات منها الحلم عند جهل الجاهل، والمراد بالجاهلين السفهاء، وهذه صفة محمودة باقية إلى يوم القيامة، وما زال الإغضاء عن السفهاء والترفع عن مقابلة ما قالوه بمثله من أخلاق الفضلاء، وبذلك يقضي الورع والشرع والأدب والمروءة، ثم وأي حاجة إلى القول بأن ذلك منسوخ.
[1/342]
وقال زيد بن أسلم: التمست تفسير هذه الآية فلم أجده عند أحد، فأتيت في النوم، فقيل لي: هم الذين لا يريدون فسادا في الأرض. وقال ابن زيد: هم الذين لا يتكبرون في الأرض ولا يتجبرون ولا يفسدون، وهو قوله عز وجل: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا} وقال الحسن: يمشون حلماء علماء لا يجهلون، وإن جهل عليهم لم يجهلوا {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما}، أي: إذا خاطبهم الجاهلون بما يكرهون من القول أجابوهم بالمعروف والسداد من الخطاب: قالوا: تسلما منكم وبراءة بيننا وبينكم، ذلت- والله – منهم الأسماع والأبصار والجوارح، حتى يحسبهم الجاهل مرضى وما بالقوم من مرض، وإنهم لأصحاء القلوب ولكنهم دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم، ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة، فلما وصلوا إلى بغيتهم قالوا {الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن} والله ما حزنتهم الدنيا ولا تعاظم في أنفسهم ما طلبوا به الجنة، أبكاهم الخوف من النار، وإنه من لم يعتز بعز الله يقطع نفسه حسرات.
وكلام الحسن وما ذكرته من كلام غيره يدل على أن الآية محكمة.
وقول سيبويه الذي قاله فيه نظر؛ لأنه قال: لم يؤمر المسلمون إن يسلموا على المشركين، وهذا ليس بأمر، إنما هو شيء حكاه الله عز وجل، وأثنى عليهم به، فإن قيل: أراد سيبويه رحمه الله: لم يؤمروا أن يسلموا عليهم فكيف يسلمون عليهم؟.
قلت: لا يفتقرون في ذلك إلى أمر من الله عز وجل، فقد كانوا يسلمون عليهم: وإن كان "سلام عليكم" أصله الدعاء إلا أنه قد يقوله من لا يريد الدعاء إنما يريد الإحسان والإجمال في المخاطبة، فإن أراد سيبويه هذا فهو حسن، وإن أراد أنهم لم يأتوا بالتسليم مريدين به التبرؤ، فإن ذلك يبطل بقوله عز وجل في سورة القصص
[1/343‌]
حين أثنى على قوم من أهل الكتاب أسلموا: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} وهذه الآية أخت تلك، وقد عيب عليه قوله: لا خير بيننا ولا شر.
وقال مكي في هذه الآية: إن هذا وإن كان خبرا فهو من الخبر الذي يجوز نسخه، قال: لأنه ليس فيه خبر من الله عز وجل عن شيء يكون أو شيء كان فينسخ بآية لا يكون، أو بآية لم يكن، هذا الذي لا يجوز فيه النسخ، وإنما هذا خبر من الله عز وجل لنا أن هذا الأمر كان من فعل هؤلاء الذين هم عباد الرحمن قبل أن يؤمروا بالقتال، وأعلمنا في موضع آخر نزل بعد فعلهم ذلك أنه أمر بقتالهم وقتلهم، فنسخ ما كانوا عليه، قال: ولو أعلمنا في موضع آخر أنهم لم يكونوا يقولون للجاهلين سلاما لكان هذا نسخا للخبر الأول، وهذا لا يجوز، وهو نسخ الخبر بعينه، والله عز وجل يتعالى عن ذلك. قال: فإذا كان الخبر حكاية عن فعل قوم جاز نسخ ذلك الفعل الذي أخبرنا به عنهم بأن يأمر بألا تفعلوه، ولا يجوز نسخ ذلك الخبر والحكاية بعينها بأنها لم تكن أو كانت على خلاف ما أخبر به أولا فاعرف الفرق في ذلك. وقوله هذا لو فرضنا أن تأويل الآية أن الجاهليين هم المشركون لا يصح به نسخ الآية، لأن الله عز وجل إن كان نهاهم من بعده أو أمرهم ألا يفعلوه بآية السيف، فإن هذا الخلق الذي أخبر به عنهم، وهو قولهم سلاما، لم يكن بأمر من الله عز وجل، وإنما كان من عند أنفسهم حلما وتبرؤا من المشركين كما زعم من قال ذلك، فإذا نزلت آية السيف ناسخة لذلك كانت ناسخة عادة كانوا يفعلونها ولم تكن ناسخة قرآنا، وهذه الآية مخبرة بما كانوا يفعلونه فكيف تنسخها آية السيف، وهذا واضح.
وقالوا في قوله عز وجل: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر..} إلى قوله عز وجل: {..ويخلد فيه مهانا} ذلك منسوخ بالاستثناء، وهو قوله
[1/344]
عز وجل: {إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} وهذا ظاهر البطلان، وقد تقدم القول في مثله.

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
السابع, الكتاب

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 07:01 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir