قال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26)} (سورة: التكوير)
المعنى الإجمالي:
في هذه الآيات الكريمات يقسم الله عز وجل بأمور عظيمة على أن القرآن كلامه أوحاه إلى عبده ورسوله البشري محمد -صلى الله عليه وسلم- بواسطة الرسول الملكي جبريل.
وذكر في طيات هذا الخبر براهين عدة على صدق خبره.
المعنى التفصيلي:
قال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18)}
أقسم الله تعالى بالخنس وهي النجوم المختفية في النهار متوارية بضوئه عن البصر، فإذا طلعت و رآها الناس جرت في أفلاكها، حتى إذا حان موعد غروبها استترت في محالها كما تكنس الضباء في بيوتها، ومنه: تكَنَّسَت المرأةُ؛ إذا دَخَلَت فى هَوْدَجها، وأقسم سبحانه بالليل إذا أقبل وإذا أدبر معلنا طلوع الصباح، وأقسم بالصباح بهوائه ونسماته الباردة ، وفي إقسامه بالنجوم إشارة إلى أن هذا القرآن هداية للسالكين لربهم كما في النجوم هداية للسالكين في ظلمات الليل ، وفي إقسامه بالليل والصباح تنبيه على عظيم قدرته ومنته على خلقه، باعتبار أن الليل والنهار آيتين عظيمتين لا غناء للخلق عن أحدهما ، كما أن هذا القرآن أعظم منة من الله على عباده، وكما قال: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) } (سورة: القصص).
وفي إقسام الله بهذه الآيات الكونية تنبيه من الله للمكذبين بشأن القرآن ، وهذا من البراهين العقلية.
ثم بعد هذه الثلاثة الإقسامات ذكر سبحانه المقسم به فقال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُو عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25)}
فالمقسم عليه أمران متلازمان؛ أولهما ذكره سبحانه في قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)} أي: هذا القرآن هو قول رسول صفته أنه:
1-كريم، أي ذي خلق وهيئة حسنة، وفي هذا إيماء إلى انه ليس بقول شيطان؛ لأن الشياطين هيئاتها مفزعة بلغت الغاية في القبح كما هو معروف.
2-ذي قوة. وفي التنصيص على أنه قوي ، للتأكيد على شدة القوة التي أعطاها جبريل فوق قوة الملائكة المعروفة، وإيماءً لرد من قد يلتبس عليه الوصف فيظنه الرسول البشري.
وفي قوله تعالى: {عند ذي العرش} -وذو العرش: هو الله- إشارتين:
الأولى: أن هذا الرسول المذكور هو جبريل؛ لأنه هو من عند ربه في السماء أما محمد صلى الله عليه وسلم فهو في الأرض.
الثانية: أنه كريم على ربه؛ ذو قدر عالٍ ومكانة عظيمة. وفي هذا إيماء إلى عظيم قدر محمد صلى الله عليه وسلم لأن ربه اختص رسولا إليه بهذا القدر عنده، فعلى قدر أهمية الرسالة وعظيم شان المرسل إليه تختار الملوك رسلها.
3-مكين؛ أي: ذي جاه ومكانة في الملإ الأعلى عموما وعند ربه خصوصا. وفي هذا إيماء إلى عظيم قدر محمد صلى الله عليه وسلم لأن ربه اختص رسولا إليه بهذه المكانة.
4-مطاع ثَمَّ. وثم بمعنى: هناك، أي: في الملإ الأعلى؛ وفي هذه الصفة (مطاع) إشارة إلى أنه لا يتسلط عليه أحد سوى ربه، فهو من يملي على الملائكة أوامره فيطيعونه.
وبمفهوم الموافقة الأولوي؛ إن كانت الملائكة الكرام مطيعة لجبريل و لا تستطيع مخالفته أو مقاومته؛ فغيرهم من المخلوقات التي لا تداني الملائكة قوة -كالإنس والجان- من باب أولى.
وفي هذه الثلاث الصفات (ذي قوة، مطاع ، مكين) إشارة إلى أنه متمكن من حفظ الوحي فلا أحد يستطيع أن يقهره ويغير في الوحي بزيادة أو نقص أو تحريف.
5-أمين، تنصيص على أنه مؤتمن في شأن الوحي فهو قد بلغه لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما أوحاه إليه ربه دون تغيير منه متعمد.
وفي صفات أمين الوحي جبريل برهان عقلي إلى أنه من كان هكذا شأنه فهو حقيق عليه ألَّا يبدل و ألَّا يغير في الرسالة التي حُمِّلها؛ لا متعمدا و لا مكرها، فسبحان الله ممن جحد هذه الحقيقة وتنكر لها ولم يعمل عقله كمشركي قريش ومن شابههم كالرافضة التي تدعي أن الله أرسل جبريل لعلي -رضي الله عنه- فخان الرسالة وأعطاها لمحمد صلى الله عليه وسلم!!.
وفي قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} وما بعدها من وصف جبريل؛ رد على إدعاء المشركين وغيرهم ممن ادعوا بأن القرآن قول بشر كما في قوله تعالى عنهم: {وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} (سورة: الدخان، آية: 14)، وفي قوله: { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) } (سورة: النحل).
وأما الأمر الثاني الذي أقسم الله عليه؛ فقد ذكره في قوله تعالى:{ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25)}
ففي هذه الآيات يبرهن الله عقليا على صدق نبوة محمد وبأنه رسوله الذي أوحى إليه وليس بمدع مفترىٍ للكلام، مستخدما أسلوب السبر والتقسيم:
:1- فقال تعالى: { وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22)}
هنا يذكر الله الاحتمال الأول وهو كونه مجنون -وحاشاه- منكرا لهذا الاحتمال بأداة النفي (ما) ومستغرقا للنفي بحرف (الباء) ، وزاد في ذلك بقوله (صاحبكم) وفي إضافة لفظة (صاحب) لـ (هم) تقريع وتبكيت لهم، وإشارة إلى كذبهم، لأنها من منطوقها تفيد أنه صاحبهم الذي صحبوه مدة عمره مذ ولادته حتى صار عمره أربعين عاما فأوحى إليه ربُّه، ومن مفهومها؛ أنهم يعرفون كمال عقله، وإيماءً؛ أنه ليس بكاذب فهو المشتهر بينهم بالصادق الأمين، فكيف يرتابون ويشككون في كلامه بعد كل هذا العمر والزمان بل ويكذبونه بافتراءات واضح بطلانها!.
2 - قال تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ}
اللام في قوله: {ولقد}: واقعة جواب قسم محذوف. والله لا يقسم إلا على عظيم، ففائدة القسم كما هي معروفة عند العرب تأكيد الكلام بمعظم، والرب سبحانه أقسم على صدق رؤية محمد صلى الله عليه وسلم لجبريل الذي أرسله له بالوحي، وبأنه رآه بالأفق المبين، والأفق: هو الفضاء الواسع بين السماء والأرض، والمبين صفة للأفق من الإبانة أي: الوضوح، وهذه الرؤية هي الروية الأولى التي رأى بها رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم جبريل على صورته الملائكية في كرسي بين السماء والأرض يسد الأفق كما جاء في الحديث الذي رواه جابر بن عبدالله الأنصاري، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت فقلت زملوني زملوني فأنزل الله تعالى {يا أيها المدثر . قم فأنذر - إلى قوله - والرجز فاهجر} فحمي الوحي وتتابع ". رواه البخاري (حديث رقم: 4).
ونلاحظ أن الله أكد كلامه في هذه الآية بثلاثة مؤكدات:
أ- القسم؛ أفادته اللام الموطئة للقسم في قوله: {ولقد}.
ب- حرف (قد) الذي يفيد التحقيق.
ت- وصف الأفق بأنه (مبين).
وفي هذا دليل على أنها رؤية واضحة لا لبس فيها و لا تخليط، فلم يكن ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم رئيا كما كان يزعم المبطلون، كما أنه لم يكن وهما أو تخييل توهمته عيناه؛ كمن يرى السراب فيظنه ماءً! بل هي رؤية حقيقية ببصر رأسه، وبمفهوم هذه الآية يخرج احتمال غلط النبي في الوحي عن غير قصد، وبدلالة الإيماء والتعليل تؤكد صدق ما أخبر عنه من أمر الوحي.
3- قال تعالى: {ومَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ}
والغيب: بإجماع هو الوحي (القرآن)، وجاء في ضنين قراءتان: قراءة العامة وهي بالضاد ومعناه بخيل ، وقراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائي بالظاء المشالة (بظنين) ومعناه بمتهم، ذكرهما الشوكاني، وباعتبارهما قراءتان فهما كالآيتين، فيكون في منطوق الآية الرد على احتمال كون النبي -صلى الله عليه وسلم- متهما باختلاق الوحي من نفسه، لأنه ليس بمتهم، وكذلك هو ليس بباخل للوحي رغم نفاسته لكنه يبذله ويعلمه دون مقابل يبتغيه منهم، وفي المعنى إيماء لمباعدته عن صفات الكهان الذين لا يتكلمون في أمور الغيب تخرصًا إلا بعد إعطائهم الحلوان.
ففي المعنى الأول على قراءة العامة (بضنين) فيها إشارة إلى أنه كريم، مؤدي لما ائتمنه ربه من أمر الوحي، لا يكتم منه شيئا، ومن لازم ذلك كونه صادق وأمين.
وعلى قراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائي (بظنين) فيها التصريح على أنه ليس بكاذب.
كما جاء أن معنى (ظنين) هو ضعيف من قول العرب للرجل الضعيف أو قليل الحيلة: هو ظنون ، قاله الفراء ، ذكره الأزهري، وفي هذا المعنى إشارة لكونه -صلى الله عليه وسلم- محتملا للوحي، مبلغا له دون تغيير من تحريف أو زيادة أو نقصان، فلا أحد يستطيع أن يقهره -صلى الله عليه وسلم-و يبدل فيما أوحاه إليه ربه شيئا.
ويُلاحظ أن هذه الآية ردت بالنفي الإنكاري بـ (ما) وأكدته بـ (الباء) على احتمالين قد يختلقهما المبطلون وهما:
أ- التبديل والتغير للوحي عن غير قصد من النبي صلى الله عليه وسلم، على معنى (ظنين): ضعيف.
ب- الافتراء-أي: الكذب تعمدا- للوحي، واختلاق الرسول صلى الله عليه وسلم له، على معنى (ظنين): متهم، ومن لازم القراءة بـ (بضنين) . كما قال تعالى: {أم يقولون افتراه}: و{َإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (24)} (سورة: النحل).
4- قال الله عز وجل: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25)} .
وهنا أعاد الله الكلام عن القرآن الذي أقسم عليه أولا، فاقسم مجددا بأن القرآن ليس بكلام شيطان يوحيه لنبينا صلوات الله وسلامه عليه وهذا منطوقها، وأما مفهومها المخالف فهو أن القرآن قول الرسول الملكي الموحى إليه من الله، وهو المذكور في قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)}.
وفي هذا القسم أنكر ربنا على المشركين بأداة النفي الإنكاري (ما) وأكده بحرف (الباء) وأوغل في الإبعاد بقوله (رجيم) وصفا للشيطان المطرود المبعد من رحمة الله، ولفظة شيطان فيها هذا المعنى أيضا لأنها على وزن (فَيْعَال) من شَطَن أي: بعد، فأفادت الآية إيماءً أن هذا الوحي الذي نزل رحمة للعالمين على الصادق الأمين -المعروف بحسن خَلقه وخُلقه لهؤلاء المشركين- والذي نزل به ملك كريم على ربه جميل الخلق والهيئة بعيد كل البعد عن هذيان السحرة والكهان ومن شابههم ممن يتعاملون مع الشياطين.
وأفادت الآية من لازمها إبطال إدعاء كل من اتهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شاعر أو ساحر أو كاهن، وذلك أن هذه الآية شبيهة بقوله تعالى: {وَمَا تَنزلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) .... هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنزلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنزلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) } (سورة: الشعراء).
قال البيضاوي في تفسيره لقوله تعالى: { والشعراء يتبعهم الغاوون }: وأتباع محمد صلى الله عليه و سلم ليسوا كذلك، وهو استئناف أبطل كونه عليه والصلاة والسلام شاعرا.
وقال ابن تيمية: ". فالكاهن مستمد من الشياطين، { والشعراء يتبعهم الغاوون } وكلاهما في لفظه وزن؛ هذا سجع وهذا نظم، وكلاهما له معان من وحي الشياطين . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم . من همزه ونفثه ونفخه } وقال : " همزه الموتة ونفثه الشعر ونفخه الكبر " إلى أن قال رحمه الله: "ثم ذكر علامة من تنزل عليه الشياطين : بأنه أفَّاك أثيم وأن الشعراء يتبعهم الغاوون . فظاهر القرآن : ليس فيه أن الشعراء تتنزل عليهم الشياطين إلا إذا كان أحدهم كذابا أثيما فالكذاب : في قوله وخبره . والأثيم : في فعله وأمره . وذاك والله أعلم : لأن الشعر يكون من الشيطان تارة ويكون من النفس أخرى". ا.هـ باختصار من مجموع الفتاوى.
فمما سبق يتضح بأن الشياطين تتنزل على كل أفاك أثيم من الشعراء، كما تتنزل على الكهنة، وأضرابهم من السحرة من باب أولى.
قال تعالى: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26)}.
وهذا تفريع بالفاء على كل البراهين السابقة، وفيه تبكيت وتوبيخ واستضلال لهؤلاء الذين عموا وصمّوا عن كل هذه الحجج والبراهين التي تثبت علو سند القرآن وصحته، كما تثبت صدق الرسول والمرسل إليه بما لا يتطرق إليه شك، فقد ذكر الله عز وجل بطريق السير والتقسيم كل الاحتمالات الواردة في شأن (الوحي)، وهي كالتالي على سبيل الاختصار:
الاحتمال الأول الرئيس: أن يكون الوحي كذبا، وهو ما ادعاه المبطلون في اتهامات واحتمالات كثيرة، بعضها تخص الرسول الملكي وبعضها تخص الرسول البشري (المرسل إليه)، ففندها القرآن كالتالي:
أ- أن يكون الرسول (جبريل) كاذبا عمدا ، أو محرفا بغير عمد ، وقد رد الأول بقوله: {أمين}، ورد الثاني بقوله: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ* مُطَاعٍ ثَمَّ}.
ب- أن يكون المرسل إليه (محمد صلى الله عليه وسلم):
1- مجنونا: ورد ذلك بقوله: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ}.
2- مخطئا أو واهما: ورد ذلك بقوله: { وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ}.
3- محرفا عن غير قصد: ورد ذلك بقوله: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِظَنِينٍ}، على معنى (ظنين): ضعيف.
4- كاذبا مختلقا للوحي، أو محرفا له بقصد: ورد ذلك تصريحا بقوله: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِظَنِينٍ}، وبطريق اللازم بقوله: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضنِينٍ}، وبطريق الإيماء والتعليل بقوله: {وَمَا صَاحِبُكُمْ}.
5- شاعرا: ورد ذلك بطريق اللازم بقوله: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ}، وبطريق الإيماء والتعليل بقوله: { وَمَا صَاحِبُكُمْ }.
6- كاهنا: ورد ذلك بطريق اللازم بقوله: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ}، وبطريق الإيماء والتعليل بقوله: { وَمَا صَاحِبُكُمْ }.
7- ساحرا: ورد ذلك بطريق اللازم بقوله: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ}، وبطريق الإيماء والتعليل بقوله: { وَمَا صَاحِبُكُمْ }.
الاحتمال الثاني الرئيس: أن يكون الوحي حقا وهو من عند الله، والقرآن كلامه.
وبعد تفنيد كل الاحتمالات وتبيين عوار ما اعتبرها المبطلون حجج ردوا بها الحق، ألزمهم الله بقبول الخيار الأخير وهو أن القرآن حق وهو وحيه لرسوله البشري محمد سيد ولد آدم الذي بلغه إياه عظيم الملائكة جبريل، لذا قال-موبخا لهم، ومبكتا، ومضللا لعقولهم، ومنكرا عليهم، ومعجِّزا -: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26)} ، أي: فبعد كل هذه الحجج إلى أين تعدلون عن هذا القرآن، وأي سبيل أهدى مما أرشدكم له محمد صلى الله عليه وسلم تسلكون؟!، وهذا كما قال تعالى: {فذلكم ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون}.
المصادر
تفسير الطبري
تفسير ابن كثير
تفسير ابن جزي
تفسير القرطبي
تفسير البغوي.
تفسير البيضاوي.
تهذيب اللغة للأزهري.
صحيح البخاري.
فتح القدير للشوكاني.
مجموع الفتاوى لابن تيمية.
التبيان في أقسام القرآن لابن القيم.
روح البيان للألوسي
نظم الدرر للبقاعي
التحرير والتنوير لابن عاشور
أضواء البيان للشنقيطي.
تفسير جزء عمّ للعثيمين.
التفسير الوسيط للطنطاوي.
التفسير اللغوي لمساعد الطيار