القارئ :
قال المؤلف غفر الله له ولشيخنا:
28- حِفْظُ الرِّعايةِ :
ابْذُل الوُسْعَ في حِفْظِ العلْمِ ( حفْظَ رِعايةٍ ) بالعمَلِ والاتِّباعِ ؛ قالَ الْخَطيبُ البَغداديُّ رَحِمَه اللهُ تعالى : ( يَجِبُ على طالِبِ الحديثِ أن يُخْلِصَ نِيَّتَه في طَلَبِه ، ويكونَ قَصْدُه وَجْهَ اللهِ سبحانَه ، ولْيَحْذَرْ أن يَجْعَلَه سَبيلًا إلى نَيْلِ الأعراضِ ) ، وطريقًا إلى أَخْذِ الأعواضِ ؛ فقد جاءَ الوعيدُ لِمَن ابْتَغَى ذلك بعِلْمِه .
ولْيَتَّقِّ المفاخَرَةَ والْمُباهاةَ به ، وأن يكونَ قَصْدُه فيطَلَبِ الحديثِ نَيْلَ الرئاسةِ واتِّخاذَ الأتباعِ وعَقْدَ المجالِسِ ؛ فإنَّ الآفَةَ الداخلةَ على العُلماءِ أَكْثَرُها من هذا الوجْهِ .
ولْيَجْعَلْ حِفْظَه للحديثِ حِفْظَ رعايةٍ لا حِفْظَ روايةٍ ؛ فإنَّ رُواةَ العُلومِ كثيرٌ ، ورُعاتَها قَليلٌ ، ورُبَّ حاضرٍ كالغائبِ ، وعالِمٍ كالجاهِلِ ، وحاملٍ للحديثِ ليس معه منه شيءٌ إذ كان في اطِّرَاحِه لِحُكْمِهِ بِمَنْزِلَةِ الذاهبِ عن مَعرفتِه وعِلْمِه .
ويَنبغِي لطالِبِ الحديثِ أن يَتمَيَّزَ في عامَّةِ أمورِه عن طرائقِ العَوَامِّ باستعمالِ آثارِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أَمْكَنَه ، وتوظيفِ السُّنَنِ على نفسِه ؛ فإنَّ اللهَ تعالى يقولُ : {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} اهـ .
الشيخ:
الأدب الثامن والعشرون من آداب طالب العلم أن يحفظ الطالب العلم من خلال رعايته، ورعاية العلم على أنواع :
أولها: أن يرعاه بالعمل ، بحيث كلما علم مسألة عمل بها ، وهذا يكون به قد عمل بعلمه ، وترك العمل بالعلم من أسباب غضب الله تعالى كما في سورة الفاتحة ، وقد جاء في الحديث أنّ رجلا كان يأمر الناس بالمعروف فألقي في نار جهنم على أقتابه فقيل له في ذلك : ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، قال : كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه.
وكثير من أهل العلم قد حذّر من هذا ، وجاء في حديث في السنن أنّ من لم يعمل بعلمه يُعذّب قبل عابد الوثن.
الطريقة الثانية لرعاية العلم : أن يكون مقصد الإنسان وجه الله والدار الآخرة ، فإنك إذا قصدت ذلك ، بارك الله في علمك ، وجعلك تحفظه ويبقى في ذهنك.
أما من قصد الدنيا، فإن الدنيا زائلة ، وما عُمل لله يبقى ، وما كان لغيره يفنى.
الطريقة الثالثة : الدعوة إلى ما لديك من العلم ، فإنّ هذا يُبقي العلم عندك ، فمتى كنت تدعو الناس ، وتُدَرِّسُهم ، وتعلمهم ، بقي العلم لديك ، ومتى أهملت ما لديك من العلم فلم تُراعي فيه ذلك ، ولم تدع إليه ، فإنه مع مرور الزمن ستنساه ، ولن يبقى عندك.
الأمر الرابع مما تحصل به رعاية العلم وحفظه : حفظ العلم رعايةً له ، ترك المفاخرة به ، فإنّ من فاخر بالعلم عاقبه الله بزوال ذلك العلم منه.
وكثير من الناس فاخر بما لديه من العلم فكان ذلك سببا من أسباب زوال العلم عنه ، لأنّ الله جل وعلا جعل من سيمة العلماء التواضع ، فمن فاخر بالعلم وترفّع به وقال : علمي أحسن من علم غيري ، وضعه الله جل وعلا، وانظر لقصة موسى عليه السلام لما قيل له: هل على الأرض أحد أعلم منك؟ فقال : نعم ، قال الله عز وجل : بلى عبدي الخضر أعلم منك.
الطريقة الخامسة من طرق حفظ العلم من جانب الرعاية : عدم الاستهزاء بالجهّال والضحك على تصرفاتهم ، فإنّ الإنسان متى استهزأ بالآخرين بكونهم لا يعلمون ، عاقبه الله بسلب العلم منه.
وقد جاء في الحديث : "لا تُظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك" ، كما ورد ذلك في سنن الترمذي.
كذلك من طرائق حفظ العلم ورعايته : حفظ مكانة أهل العلم ، فإنك عندما تنتقص غيرك من العلماء فإن ذلك يكون سببا لعدم تمكينك من تحصيل العلم ، فإنّ الله جل وعلا جعل حملة العلم لهم مكانة وحرمة ، وجعل المعتدي لهم بالأذية يعاقب بالعقوبات الدنيوية والأخروية ، كما جاء في الحديث : "من عادى لي وليّا فقد آذنته بالحرب" ، ولذلك يحفظ الإنسان سلا لسانه من الكلام في علماء الشريعة.
قال المؤلف: (وليتق المفاخرة والمباهاة به) يعني وصف النفس بالعلو لكونها قد اتصفت بالعلم.
(وأن يكون قصده في طلب الحديث نيل الرئاسة) وإنما ينوي بطلبه للحديث ، رضا رب العالمين ودخول الجنة.
قال : (وليجعل حفظه للحديث حفظ رعاية) وهذه وسيلة أخرى من وسائل حفظ العلم بالرعاية ، ألا وهي : التأمل والتدبر والتفكر في العلم الذي تعلّمته ، لتستفيد منه وتستخرج منه الفوائد ، فإنّ من يحفظ العلوم كُثر ، لكن من يستفيد منها ويأخذ منها الفوائد قليل ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : "رب حامل فقه ليس بفقيه ، رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه".
قال : (ورب) يعني يمكن أن يوجد حاضر يكون كالغائب ، بل قد يكون الغائب أكثر فهما وحفظا ومعرفة وإدراكا من الحاضر.
وفي مرّات يكون هناك عالم يحفظ المرويّات وتكون منزلته بمنزلة الجاهل لا يستفيد من ذلك العلم ، بل قد تكون منزلته أدنى من منزلة الجاهل.
قال : (ورب حامل للحديث ليس معه منه شيء ، إذا كان في اطراحه لحكمه) يعني ترك حكم الحديث.
(بمنزلة الذاهب عن معرفته وعلمه) يكون كالجاهل.
ونقول الصواب أنّ حامل العلم الذي لا يعمل به ، أقل درجة من الشخص الذي لا يحمل ذلك العلم ، لأنه إذا كان عندك عينان تتمكن من الإبصار بهما ، ثم بعد ذلك تغلق عينيك وتكون ممن يضرب في الأعمدة والجدران ، حال من كان كذلك أقل من الأعمى الذي يضرب في الأعمدة والجدران لعجزه عن الرؤية.
قال: (وينبغي لطالب الحديث أن يتميّز في عامّة أموره عن طرائق العوام ، باستعمال آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أمكنه ، وتوظيف السنن على نفسه بالعمل ، فإنّ الله تعالى يقول : {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}) ، نعم.