الحَديثُ السادِسُ والعِشْرُونَ بَعْدَ الثلَاثِمِائَةٍ
326- عن أَبِي ذَرٍّ رضي اللهُ عنه، أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: ((لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيرِ أَبِيهِ, وَهُوَ يَعْلَمُهُ, إِلَّا كَفَرَ، وَمَن ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَّا، وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِن النَّارِ، وَمَنْ دَعَا رَجُلاً بِالْكُفْرِ، أَوْ قَالَ: يَا عَدُوَّ اللهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلَّا حَارَ عَلَيْهِ)) .
كَذا عِنْدَ مُسْلِمٍ، وللبُخارِيِّ نَحْوَهُ(150)
_________________
(150) الغَريبُ:
ولْيَتَبَوَّأْ : أيْ: فَلْيَتَّخِذْ لهُ مَبَاءَةً ، وهِيَ المَنْزِلُ.
إلَّا حَارَ عليهِ : بالحاءِ المُهْمَلَةِ، أَيْ: رَجَعَ عليهِ، ومِنهُ قولُهُ تعالى : (إِنَّهُ ظَنَ أَنْ لَنْ يَحُورَ ) [الإنْشِقاقُ : 14] أَيْ: يَرْجِعَ.
المَعْنى الإجْمالِيُّ:
في هذا الحَديثِ وعِيدٌ شَديدٌ، وإنْذارٌ أَكِيدٌ، لِمَنْ ارْتَكَبَ عَمَلًا مِن هذه الثلَاثَةِ، فما بالُكَ بِمَن عَمِلَها كُلَّها؟
أَوَّلُها: أنْ يَكونَ عالِمًا أَباهُ، مُثْبَتًا نَسَبُهُ، فَيُنْكِرُهُ ويَتَجاهَلُهُ، مُدَّعِيًا النَّسَبَ إلى غَيْرِ أَبيهِ، أو إلى غَيْرِ قَبِيلَتِهِ.
وثانِيها : أنْ يدَّعِيَ - ((وهُوَ عالِمٌ ))- ما لَيْسَ لهُ مِن نَسَبٍ، أوْ مالٍ، أوْ حَقٍّ مِن الحُقوقِ، أو عَمَلٍ مِن الأعْمالِ، أو يَزْعُمَ صِفَةً فيه يَسْتَغِلُّها, ويَصْرِفُ بِها وجُوهَ الناسِ إليهِ،
ويدَّعيَ عِلْمًا مِن شَرْعٍ ، أوْ طِبٍّ، أو غَيْرِهِما؛ لِيَكْسِبَ مِن وَرَاءِ دَعْواهُ، فَيَكُونُ ضَرَرُهُ عَظِيمًا، وشَرُّهُ خَطيرًا.
أو يُخاصِمَ في أَمْوالِ الناسِ عِنْدَ الحُكَّّامِ، وهُوَ كاذِبٌ، فهذا عَذابُهُ عَظِيمٌ، إذْ تَبَرَّأَ مِنهُ النبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأَمَرَهُ أنْ يَخْتَارَ لهُ مَقَرًّا في النارِ؛ لِأَنَّهُ مِن أَهْلِها، فَكَيْفَ إذا أَيَّدَ دَعاوِيَهُ الباطِلَةَ بالأيْمانِ الكاذِبَةِ.
ثالِثُها : أنْ يَرْمِيَ بَريئًا بالكُفْرِ، أو اليَهُودِيَّةِ، أو النصْرَانِيَّةِ، أو بِأَنَّهُ مِن أعْدَاءِ اللهِ، فَمِثْلُ هذا يَرْجِعُ عَلَيْهِ ما قالَ؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بهذِهِ الصفَاتِ القَبِيحَةِ مِن المُسْلِمِ الغَافِلِ، عَن أَعْمَالِ السَّوءِ وأقْوَالِهِ.
ما يُسْتَفَادُ مِن الحَديثِ:
1- فيهِ دَليلٌ على تَحْرِيمِ الانْتِفاءِ مِن نَسَبِهِ المَعْرُوفِ، والانْتِسابِ إلى غَيْرِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ مِن أَبِيهِ القَرِيبِ، أَمْ مِن أَجْدَادِهِ؛ لِيَخْرُجَ مِن قَبِيلَتِهِ إلى قَبيلَةٍ أُخْرَى، لِما يَتَرَتَّبُ عليهِ مِن المَفاسِدِ العَظيمَةِ، مِن ضَياعِ الأنْسَابِ، واخْتِلاطِ المَحارِمِ بِغَيْرِهِمْ، وتَقَطُّعِ الأرْحامِ، وغَيْرِ ذَلكَ.
2- اشْتَرَطَ العِلْمَ؛ لِأَّنَ تَبَاعُدَ القُرونِ، وتَسَلْسُلَ الأجْدادِ، قدْ يُوقِعُ في الخَلَلِ والجَهْلِ، واللهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَها، ولا يُؤاخِذُ بالنِّسْيَانِ والخَطَأِ.
3- قولُهُ: [ومَن ادَّعى ما لَيْسَ لهُ]. يَدْخُلُ فيهِ كُلُّ دَعْوَى باطِلَةٍ، مِن نَسَبٍ، أوْ مالٍ ، أو عِلْمٍ، أو صَنْعَةٍ، أو غَيْرِ ذلكَ،
فَكُلُّ شَيْءٍ يَدَّعِيهِ, وهُوَ كاذِبٌ، فالنبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَرِئٌ مِنْهُ، وهُوَ مِن أَهْلِ النَّارِ، فَلْيَخْتَرْ مَقامَهُ فِيها,
كَيْفَ إذا أيَّدَ دَعاوِيَهُ الباطِلَةَ بالْأَيْمانِ الكَاذِبَةِ؛ لِيأَكُلَ بِها أَمْوَالَ الناسِ ؟! فهذا ضَرَرُهُ عَظِيمٌ، وأَمْرُهُ كَبِيرٌ.
4- الوَعيدُ الثالِثُ فِيمَنْ أَطْلَقَ الكُفْرَ، أو الفِسْقَ، أو نَفَى الإيمانَ، أو غَيْرَ ذلكَ على غَيْرِ مُسْتَحِقٍّ، فَهُوَ أَحَقُّ مِنْهُ بِهِ؛ لِأَنَّ هذا راجِعٌ عَلَيْهِ، فالجَزَاءُ مِن جِنْسِ العَمَلِ,
5- فَيُؤْخَذُ مِنهُ التنَبُّهُ على تَحْرِيمِ تَكْفِيرِ الناسِ بِغَيْرِ مُسَوِّغٍ شَرْعِيٍّ، وكُفْرٍ بَواحٍ ظَاهِرٍ، فَإِنَّ التكْفِيرَ والإخْرَاجَ مِن المِلَّةِ أَمْرٌ خَطيرٌ، لا يُقْدَمُ عليه إلَّا عنْ بَصيرَةٍ، وتَثَبُّتٍ، وعِلْمٍ.
اخْتِلافُ العُلَماءِ:
أجْمَعَ عُلَماءُ السُّنَّةِ على أنَّ المُسْلِمَ لَا يَكْفُرُ بالمَعاصِي كُفْرًا يُخْرِجُهُ مِن المِلَّةِ، والشَّارِعُ قدْ يُطْلِقُ على فاعِلِ المَعاصِي الْكُفْرَ، كَمَا في الحَديثِ الذي مَعَنا, فاخْتَلَفَ العُلَماءُ في ذلكَ:
فالجُمْهُورُ يَرَوْنَ أنَّ هذه أَحادِيثُ جَاءَتْ لِقَصْدِ الزَّجْرِ والرَّدْعِ، فَتَبْقَى على تَخْويفِها وتَهْوِيلِها، فَلَا تُؤَوَّلُ.
ومِن العُلَماءِ مَن أَوَّلَها فقالَ : يُرادُ[ بالكُفْرِ] كُفْرُ النِّعْمَةِ، أو بِمَعْنَى: أَنُّه قَارَبَ الكُفْرَ، أو أنَّ هذا الوَعِيدَ لِمَنْ يَسْتَحِلُّ ذَلكَ، فَيَكُونَ رَادًّا لِنُصُوصِ الشرِيعَةِ الصحِيحَةِ الصرِيحَةِ، فَيَكْفُرُ.
ومِثْلُ قولِهِ: (لَيْسَ مِنَّا). يَعْنِى: لَيْسَ على طَرِيقِنا التامَّةِ المُسْتَقِيمَةِ، وإنَّما نَقَصَ إِيمانُهُ ودِينُهُ.
والأْحْسَنُ مَسْلَكُ الجُمْهُورِ، وهُوَ أنْ تَبْقَى على إبْهامِها؛ لِيَبْقَى المَعْنَى المَقْصودُ مِنْها، فَتَكُونَ زاجِرَةً رادِعَةً عن مَحارِمِ اللهِ تعالى؛
فإنَّ النفُوسَ مَجْبولَةٌ على اتِّباعِ الهَوَى، فَعَسى أنْ يَكونَ لها رادِعٌ مِن مِثْلِ هذه النصُوصِ الشرِيفَةِ. واللهُ أَعلَمُ.